ندوة روحيّة في جامعة سيّدة اللويزة
زوق مصبح
26/10/2007
1. كلمة الافتتاح
2. النظرة اللاهوتيّة لمعضلة الموت
3. رعوية الموت
4. شرح أيقونة القيامة
5. كلمة الاباتي سمعان ابو عبدو الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية
في هذا المغيب، ومن أجل كل من بيّضوا حللّهم بدّم الحمل، ننظر معاً الى خضرة أرزتنا ومن خلالها، الى والدة الإله باب السماء، والى رموزية خلود من عبروا، ووفاء لهم نقف معاً للوطن عشية استحقاقاته نشيدنا قولاً وفعلاً. وعبروا وكان جسرهم الصليب، وسراجهم مريم، وأمام كل منهم يدان مفتوحتان تتضرعان، يد سُكب عليها قلب يحب ويؤمن، وأخرى طافحة بزيت الأعمال الصالحة يلتمسون ولوج السماء والسكنى في قلب الثالوث. هؤلاء عندما يرحلون يعلو الصراخ وتصير الصيحة "هوذا العريس"، وتبدو علامات التعجب والمفاجأة والتساؤل : من أنت أيها الموت؟ يا فاهاً فُتِح ليبتلع الحياة، يا حصاداً يجمع غلاله التي نضجت، يا سراً لا يُدرك، يساوي البشر عند ترابات القبور، وحده يسوع الذي نهض من بين الأموات جعله بداية وليس نهاية، جعله باباً وحضوراً وانتقالاً ومعاينة لوجه الإله، الذي حقق الغلبة بقيامته.
وعت جماعتنا الناشئة، جماعة "أذكرني في ملكوتك"، حقيقة الحياة الجديدة، حقيقة الحياة بعد الموت، وقرأت ممارسة الناس يوم يأتي الموت كالسارق ويترك خلفه دموعاً وفراغاً ونسياناً ووثنية في الوداع الأخير. فتنادت لنجتمع ونصلي ونعمل من أجل مصالحة حقيقية بين أهل الإيمان والموت. وتندرج ندوتنا اليوم : "الموت:معضلة،رؤية،ممارسة" في سياق برامج التنشئة، المساهمة في تعزيز علامات الرجاء، ولنحسن الإستعداد ونشعل المصابيح منتظرين مجيئه الثاني في المجد.
ولا يسعنا في هذه الإطلالة، إلا أن نشكر حضوركم الكريم، ومداخلات المحاضرين والمشاركين في هذه الندوة، شاكرين معكم ادارة جامعة سيدة اللويزة التي تستضيفنا في رحابها طالما عرفناها علامة رجاء وذاكرة كلّ تجدّد وتطوّر وابداعية.
فبدون خوف اقتربوا ولنصغي ليضحي الموت عيداً وفرحاً وعرساً حقيقياً.
وأهلاً وسهلاً بك
الخوري جوزف سلوم
.................................
2. النظرة اللاهوتيّة لمعضلة الموت
كُلّفتُ أن أحدثكم في نظرة لاهوتية عن الموت بما هو معضلة. لا يهم العنوان المقترَح. يبقى أن الموت مسألة عند كل البشر بسبب من تمسّكهم بهذه الحياة الدنيا التي بها سيتمتّعون ولاسيما ان أكثرهم يقولون ان الموت حق ولعلّهم يريدون بذلك انه حق الله على الناس. ولكنه في بدء سر التكوين هو عقاب، هو كذلك بعد ان حرم الخالق على جدّينا الأوّلين ان يأكلا من شجرة المعرفة بقوله انكما ان أكلتما منها تموتان. وأكّد ذلك بولس بقوله: »أجرة الخطيئة هي الموت«، بحيث اننا لا نعرف الموت الا بعد الخطيئة وبسبب منها.
اعترانا الموت من معصية وكأن الخلود هو وحده الأصل ولا نعرف الموت الا بالسقوط. هناك طبعا لغة البيولوجية القائلة ان الموت هو حد الحياة اذ لا بد لهذا المختبر الكيميائي الا ان يتشابك فيه ما ينهي عمله ولو طال العمر ولو امتدّ الأجل أربعين او خمسين سنة بعد أن يسعى الى ذلك الأطباء في السنين العشرات المقبلة. ولكن لماذا يخشى الموت الا النادرون من المؤمنين؟ يقول الرسول: »ان آخر عدو يبطل هو الموت« بمعنى ان الله لا يحوله الى صديق. انت في المسيح تدوسه مثلما داسه المخلص وفق الأنشودة البيزنطية انه »وطئ الموت بالموت«. لم تقل كتبنا ان السيّد استطاب الموت ولكنها تقول انه غلبه، تخطاه في الظفر.
نحن إزاءه في خشية اذ نذكر الخلود الكامن في صورة الله التي فُطرنا عليها. هذه الصورة لم تتصالح وضدها اذ صورة الله فينا لا تزول وهي حاملة طاقة القيامة التي يغعّلها المخلص بالروح القدس ما دعا الرسول ان يقول: »اين شوكتك يا موت؟ اين غلبتُك ايتها الجحيم؟« توقعنا الموت يجعلنا في انتفاضة حتى نصير سماويين وعلى ما قاله بولس ايضًا: »على صورة الترابي يكون الترابيّون وعلى صورة السماوي يكون السماويّون« اي اولئك التائقون الى ملكوت لا يفنى. الموت مسألة لأننا متأرجحون بين ترابيّتنا وسماويّتنا حتى يفنى التراب فينا ونصير على الرجاء كائنات من ضياء حتى يفنى الرجاء في القيامة ويحل ملكوت المحبة. الموت يبقى مسألة او عقدة حتى يزول السؤال بتوقعات ايام وسنين نشهد فيها انهيار الجسد.
في هذا الوجود لنا ميتات كثيرة تشبه الموت الأخير. ولا نريد ان نواجهها الا بيولوجيا ولكن نتروحن ان كنا مؤمنين على انها لمسات إلهية او انعطاف الهي نسمّيه افتقادًا بمعنى ان النعمة تحل على هذا الوجود المكسور والمشوّه. والذائقون لله يلهمهم ربّهم رسالةً في آلامهم الجسدية منها والنفسية ويدنيهم منه بمعرفة مقاصده ان كانوا يستطيعون فهمها. ميتات وتعزيات تتوالى تكسر وتجبر حتى يوضع على أجسادهم ونفوسهم البلسم الأخير. الرجاء هو الى ما بعد رجوع التراب الى التراب وتحوّل كيانهم كلّه الى نور ولا يقرأ الله فيهم الا النور. وبعد ان يذوق الراقدون بالمسيح مرارة الموت يرتشفون كأس الحياة حسب قوله: »لن اشرب من نتاج الكرمة هذه الا ان أشربها معكم ثانية في ملكوت أبي«. وبعد ان تُتلى في نفوسهم الأنشودة الفصحية كاملة: »المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور«.
هذا يقودنا الى القول ان ليس هناك لاهوت الموت كما ليس هناك لاهوت الخطيئة. انت لا تكتب لاهوت النقصان او الفراغ او الضياع. هناك فقط لاهوت النعمة والقيامة من بين الأموات.
لم تهتم الكنيسة الشرقية بالحديث عما تصير النفوس اليه من بعد موت. قالت ان النفوس في الرحمة وقال القديسون النساك ان احدا لا يدخل بجهاده والرحمة وحدها تفتح أبواب الفردوس الى ان تنقلنا القيامة الى المجد لنعاين وجه الله. المهم اننا راقدون مع المسيح وحسب. وهذا خير متكأ. الإنسان يموت في هذه الطبيعة الساقطة ويتعهّده الله ويحتضنه ويبقى ممطِرا عليه رحماته حتى يتجلّى في اليوم الأخير مع المتجلّين. وهذا هو ايضا تجلي الكون بأسره حسبما يعلّم القديس مكسيموس المعترف اذ تلطخ الكون بنا وأخضعه الله للباطل كما يقول الرسول العظيم لكي ينسجم الباطل بالباطل ولا تتنافر الكائنات واذا حرّرنا الرب بنور القيامة يحرر الكون كله به لكي لا يبقى أثر للفساد اذ لا يكون الله كلًا في الكل بمعنى الكتلة البشريّة بل يصير كذلك في الكتلة الكونية. وتنكشف السماء الجديدة والأرض الجديدة كما نقرأ في سفر الرؤيا ونكوّن مع الكون كلّه اورشليم السماويّة الحرّة التي هي أمّنا جميعا.
غير أن هذا التجلّي لا يتم فقط في اليوم الآخر ولكنه يتحقق على الرجاء في كل لحظة نعيشها في الإيمان وذلك في ارتباطنا الشخصي بالمسيح يسوع. تذكرون حديث السيّد مع مرتا أخت لعازر قبيل بعثه عندما قالت للمخلّص: يا سيّد لو كنتَ ههنا لما مات أخي فأجابها: سيقوم أخوك. فردّت: انا أعلم أنه سيقوم يوم القيامة. قال لها: انا هو القيامة والحياة. فلو كان الرب مكتفيًا بحدوث القيامة الأخيرة لما أجاب بهذا الجواب وهو الذي تكلّم في موضع آخر وفي سياق آخر على القيامة العامة. انما أطلق في حواره مع مرتا مفهوما للقيامة جديدا وهو انه اليوم هو باعث المؤمنين به الى الحياة وهو يريدهم ان يعيشوا فيه او ان يكونوا قائمين لو كانوا فيه او صار فيهم. وهذا ما سيتحدّث عنه بولس كثيرا. عبارة »في المسيح« التي نحتها الرسول او العبارة المقابلة »المسيح فيكم« على اختلاف الصيغ تؤون القيامة فينا حياة جديدة حتى أمكننا القول بناء على النص الإلهي ان المسيح نفسه هو القيامة فيصح استعارتي لقول الحلاج:
انا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرتَه واذا أبصرتَه أبصرتنـا
وقال أبضًا:
رأيت ربي بعين قلبي فقلتُ من أنتَ؟ قال أنتَ
وفي اللغة المسيحيّة هذا يترجم ان كياني وكيان المخلّص باتا كيانا واحدا حيا. القيامة العامة اذًا مزروعة فيّ ليس فقط وعدا من الرب ولكن فعلا خلاصيا أعيشه كل يوم بالقداسة.
هذا مؤسَس في قوله: »من يأكل جسدي ويشرب دمي له حياة أبدية«. القيامة التي تحدّث عنها السيد الى مرتا مضافةً الى الإصحاح السادس من انجيل يوحنا تعني شيئين حسب تعليم اوريجانس العظيم. الاول: ان كلمة الإنجيل هي الخبز اذ بها أصير انا كلمة المسيح كما علّم القديس يوحنا الدمشقي والأمر الثاني هو الافخارستيا التي أصبح فيها جسد المسيح. واذا عرفنا ان الجسد عند العبرانيين هو الذات الظاهرة هذا يعني ان ذات المسيح باتحاد الحب وفي السر الذي لا يسوغ النطق به تصبح متحدة بذاتي بحيث لا استطيع ان أفرّق بين ما هو منّي وما هو منه. ثم اشربوا منه كلّكم هذا هو دمي يعني فيها الدم الحياة. هذا من العهد القديم والفلسفة العبريّة. حياته حياتي. هذا هو معنى الأكل والشرب في سر الشكر. ولكن يعطينا القديس نقولاوس كابازيلاس معنى مقابلا اذ يقول ان المسيح في المناولة الإلهية يأكلنا ويشربنا.
في هذا السياق أذهلني منذ وقت يسير ما أتت به الليتورجيا البيزنطيّة توّا بعد الاستحالة: »ليكون للمتناولين لنباهة النفس والجسد وكمال ملكوت السموات«. هذه عندي شطحة صوفية من يوحنا الذهبي الفم اذ الملكوت وحدة كمال الذبيحة وانتهاؤها ولكن الذهبي الفم لم يستطع ان يحس الا اننا في شركة هذا السر العظيم بتنا فوق.
بعد الذهبي الفم بقرون يأتي القديس سمعان اللاهوتي الحديث ليقول ان الافخارستيا هي النهار وفي السياق البيزنطي هذا يعني النهار الأخير المعروف باليوم الثامن. كل هذا ناتج عن تصوري ان آباءنا هؤلاء رأوا قياميّة الافخارستية وتاليا غلبتها للموت وعلّموا ان انبعاث أجسادنا انما هو ثمرة الافخارستيّة وهذا ما حفظته رتبة الجنازة عند الموارنة.
وعلى رغم نورانية التعليم عن القيامة علّمنا آباؤنا النساك ما سموه ذكر الموت ناظرين الى الجهاد الذي تلهمنا اياه حادثة الموت التي أمامنا فنصبح بهذا الذكر تائبين. والتوبة توبة الى وجه الآب الذي يقيمنا بمحبّته للابن في الروح القدس الذي يحيي عظامنا كما يقول الكتاب.
لعل اهم عنصر للموت فينا ان أجسادنا تصبح ممجّدة كما صار جسد المخلّص في اليوم الثالث بحيث يحفظ الله ما كان اساسيا في كياننا الأرض ويلبسه النور ونتنزّه عما كان في جسديّتنا ذا وظيفة ارضيّة كالطعام والزواج. كيف نكون نحن ايانا في المسيح نورنا من نوره بلا ذرة من تراب؟ يقول القديسون اننا لا نسير فقط وراء الله ولكن في الله. هذه حركة في السكون كما يقول مكسيموس المعترف ونحن في معيّة القديسين، هذه هي الكلمة الأخيرة التي تدل على انصرام الموت ونصبح كلمة الله المحقّقة ليس بمعنى كلام الخلق الاول ولكن بمعنى الخلق الثاني المتمَّم في المجد. »والموت لن يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع لأن الأمور الأولى قد مضت« (رؤيا ٢٠:٤).
أن تذوق هذه القيامة كل يوم هو ان تكشف أعماق سر الخلق وسر الخلاص وتزيل أثر الموت الى الأبد بقوة الآب والابن والروح القدس الذي لهم معا الإكرام والعزة والسجود الى الأبد.
المطران جورج خضر
جامعة سيدة اللويزة
الجمعة ٢٦ تشرين الأول ٢٠٠٧
...........................
3. رعوية الموت
لفتت انتباهي في جريدة السفير ليوم الثلثاء 9 تشرين الأول 2007 أقوال لجومانة حداد تحدد فيها الشاعرة موقفها من الموت فتقول بما معناه : إنك تواجه الموت بحلٍ من اثنين : إما ان تهرب وإما أن تدجّن موتك، وتضع الكاتبة في مصاف رعوية الهاربين من الموت عشاق المراثي وهواة الدمع والنواح والذين يبحثون عن عزاءٍ أو رجاء أو رأفة وكل الذين يرهبون فكرة الأشلاء وتنفرهم رائحة الدم الطازج... أما هي فتصنّف نفسها بين الذين يجيئون الموت من فوق فلا يشعرون بالدونية تجاهه، ولا يتوقون الى الرحمة وإذا أردت نصيحة منها فهي تشير عليك بأن تأتي الى الموت من المسايفة والتحدي والالتحام بعزرايل بأنك بذلك تقصف عجرفته وتحرمه من التلذذ بخوفك منه، فأنت بذلك تذله وتدعس على رأسه بشراسةٍ وهكذا تصبح ندّاً له فلا تنخدع مطلقاً.
ترى على أيٍّ من الموقفين : الهرب أم المواجهة يجب أن تركز رعوية الموت؟
أعتقد أن الكنيسة لا تجد ذاتها في أي من هذين الموقفين حتى وإن تفهمت عواطف المؤمنين الذين يشيّعون موتاهم بالنواح والمراثي، فصلواتها التي ترافق من خلالها موتاها بعيدة كلّ البعد عن البكاء وسكب العبرات... واذا كان لا بدّ من المواجهة فهي تذهب للقاء الموت متسلحة بصليب ختنها وبموته، تائقةً الى حبه وحنانه، متّحدةً به كمريم المنتصبة على أقدام الصليب وعيناها مشدودتان أبداً الى فجر القيامة.
إن رعوية الموت، على ما أفهم، هي في الأساس مساحةٌ للشهادة على إيماننا بالقيامة وبالحياة الأبدية، كما أنها بامتياز فسحةٌ تتيح للكنيسة البشارة والأنجلة.
أجل يجب أن يكون حدث الموت مناسبة لرعوية مميزة تقودها كلمة الله، فيصغي المؤمنون الى علامات الرب في مجرى حياتهم، محاولين تبني موقف المسيح بالذات أمام موته وعبوره نحو الآب.
من هنا نرى أن الغاية الأولى لرعوية الموت هي التهيئة لمسيرة إيمانية تنطلق من تقبّل الموت، وفترة الحداد التي ترافقه، من خلال إيماننا بالسيد المسيح الذي وحّد حياته بموتنا، وموتنا بحياته فأخذ ما لنا من ضعفٍ ورهبةٍ أمام الحدث ووهبَنا ما له من خلاص وفداء وسعادة أبدية بصحبة العذراء مريم وجمع الأبرار والصديقين.
إنطلاقاً من هذا الموقف الإيماني الأساس، في كل رعوية للموت، ومرافقة للمحزونين هناك معطيات انتروبولوجية وسوسيولوجية يجب أخذها بعين الإعتبار عندما نتحدث عن هذا الموضوع.
في الماضي القريب، كان حدث الموت، مناسبة لإحتفال كبير، يترأسه الميت بالذات. كان المشرف على الموت يستعدّ لهذه اللحظة الكبيرة من مصيره، وهو على فراشه، محاطاً بالأهل والأصدقاء، فينهي كتابة وصيّته، وإملاء إرادته الأخيرة، وبعدها يستقبل المسحة الأخيرة ويتناول القربان المقدس باحتفال مهيب، يشارك فيه الأبناء والبنات والأحفاد وحتى الجيران أو المارة الذين يرافقون الكاهن الذي كان يجيء الى المنزل وهو متوشح بلباس بيعي خاص بالمناسبة تسبقّه جرسةٌ تعلن قدومه، ويصحبه متطوعون يحملون أمامه الشموع. أما هو فيحمل بخشوع ومهابة القربان والصليب وزيت المسحة.
أما إذ طال النزاع الأخير فكان دائماً هناك من يرافق العائلة بالسهر والمؤاساة وإظهار روح التضامن، كل ذلك للتعبير عن الأهمية التي تعطى للموت وللميت معاً... لقد كان المشرف على الموت في كل هذه التقاليد والعادات في قلب الحدث، هو الذي يأمر ويُنهي ويوصي فيُطاع، وهو الذي يزار ويكرّم وكان همّ المترأس للصلاة الجنائزية إكرامه ورثاءه للدلالة على مكانته وأهميته. هذه الأهمية كانت تترجم أخيراً بموكب الجنازة الضخم العابق بالبخور وبصوت تراتيل الشماس عندما تسمح له بذلك النوبة المصحوبة بالرايات والأعلام. وقد كان سبق كل ذلك يوم طويل من الحداد والمراثي وإلقاء القصائد والخطابات والندب... كلّها تجتهد في تعداد شمائل الراحل وشيّمه الفريدة.
أما اليوم فقد انقلبت المفاهيم وتبدّلت، فحُرِِم الميت حتى من أبسط حقوقه. غالباً ما يجري التعاطي معه، كقاصرٍ، فلا يعرف بخطورة مرضه وباقتراب أجله، كما أن العائلة تحرمه غالباً من رؤية الكاهن وقبول أسرار القربان والمسحة والتوبة، لئلا يصاب بالهلع وهكذا يصبح مجيء الكاهن نحساً عليه، والمسحة تذكرة مرور سريعة الى القبر. أضف الى ذلك كلّه إن الإنسان غالباً ما يموت وحيداً إما في المستشفى، أو على أيدي الخادمة، وأحياناً كثيرة عليه أن ينتظر في البرّاد الساعات الطويلة، وإذا نُقل من هناك، فليس ليعود الى البيت الذي أحب، بل الى القاعة العامة الوحشة حيث يسجى والكلّ لاهٍ عنه.
وأحياناً كثيرة يحرّم من العودة الى مسقط رأسه فيُباع له" جارور" لمدّة معيّنة، حسب الدفع، ومن ثمّ تجمّع عظامه، في بئرٍ لا تصل اليها إلا رفوش الحفارين ومجارفهم التي تسارع لجمعها والتخلص منها. وللإزدياد في الغربة والتشرّد، بدأت عادات حرق الجثث تتسرب الى بلادنا وتستهوي العديدين... فهل من رعوية بعد هذا كله؟
نعم على رعوية الموت أن تأخذ كل هذه المتغيرات بالحسبان، فلا يخاف الكاهن مثلاً من التعاطي مباشرة مع العائلة، ومع المستشفى، وحتى مع القائمين على شركة دفن الموتى والحفارين والحارقين... سأتوقف، إذا شئتم، على بعض الأمور التي أراها ضرورية لتأتي رعوية الموت على حسب رغبة الكنيسة.
أولاً – عندما تحاول العائلة أن تجعل من الموت شيئاً خاصاً بها وحدها، فتصادر المشرف على الموت وتغيّب عنه المعرفة بخطورة مرضه ودنوِ أجله، على الراعي ان يأخذ المبادرة ويجتمع بالعائلة ويساعدها على تقبّل حدث الموت بروح ايمانية. من هنا تبدأ رعوية الموت في المستشفى، فيزار المريض ويُمكّن من لقاء الرب والاستعداد لموته، من خلال سماع كلمة الله والمشاركة في الأسرار.
ثانياً : بعد الموت مباشرةً، يستحسن أن ُُُتراَََََفق العائلة في جميع مراحل الإستعداد للجناز وللدفن. لقد تنبّه التجديد الليتورجي الماروني، ووضع الكثير من الصلوات والتراتيل والقراءات، لمرافقة الأهل والمعزّين، فيحرص الراعي على الإستفادة من هذا كلّه، عندما يسجّى الميت، فتعتاد الناس على سماع كلمة الله والمشاركة في الصلاة بدل تبادل الأحاديث على أنواعها.
ثالثاً – تحرص رعوية الموت على إظهار الحدث، للعائلة وللمشّيعين والمشاركين، كعبور الى البيت الأبوي، وليس مطلقاً كمصيبة، أو ضربة من الله، أو نهاية طبيعية للحياة، فيهتم القيّمون على مراسم الدفن بإظهار وجه الموت من الناحية الإيمانية، فلا تطغى على المناسبة التقاليد والعادات الإجتماعية البحتة.
رابعاً – بعد المستشفى والقاعة أو البيت، المكان التالي لرعوية الموت هو الكنيسة. هنا يحرص خادم الكنيسة على تهيئة المكان للإحتفال ويسهر على دعوة الجميع للمشاركة في الإحتفال ولا يبقى خارجاً من يثرثر أو يتندّر أو يتكلم بصوت عالٍ للتشويش بقصدٍ أو عن غير قصدٍ.
إن الوصول إلى الكنيسة والإحتفال بالصلاة هو المحطة الأهم في رعوية الموت.
في هذا المكان تحرص الكنيسة على اسماع انجيل الحياة للحاضرين واشراك الجميع في كلمة الخلاص والصلاة. أما المحتفل، فيحرص على أن تكون العظة، حاملةً بشرى المسيح للمناسبة فتجيء مفهومة من المؤمنين وغير المؤمنين الذين قد يشاركون في التشييع. هذه العظة تتضمن فيما تتضمن المعنى المسيحي لحدث الموت وكلمة الرب للعائلة، وقرب الجماعة المسيحية من المحزونين. إن الكنيسة في احتفالها الطقسي بالموت تبقى مؤتمنة على رسالة أكبر منها، كما أنها تبقى في كل أعمالها خادمة لكلمة، مؤتمنة عليها، وقريبة كل القرب، من الذين يتجرعون كأس الموت المرة.
خامساً : في بلادنا، غالباً ما تتغلب التقاليد والعادات الإجتماعية على المواقف الإيمانية. من هنا تحرص رعوية الموت، على جعل هذا الحدث، مناسبة للتقرب من عائلة الفقيد ولقائها، للإضاءة على معنى الحياة والموت من خلال كلمة الرجاء التي زوّدنا بها الرب. فيحرص الراعي على شخصنة الحدث وكل ما يرافقه دون أن يستسلم للتقاليد والعادات، ان كان اثناء التشييع او في فترة الحداد، حيث يبقى على اتصال بالمحزونين ليذكرهم بالتقاليد المسيحية العريقة وبضرورة اقامة الصلوات وقراءة الإنجيل، ومقاربة الحدث باستمرار من خلال ايماننا ومعتقداتنا.
إن الأمكنة (البيت، والكنيسة، والمقبرة) والأزمنة (قبل التشييع وبعده وخلال فترة الحداد) كلها مساحات ومجالات، للبشارة، والمرافقة والصلاة... يعرف أن تستفيد منها رعوية الموت لتلقي الضوء المسيحي على الحدث.
سادساً – أمام حدث الموت، كلّنا فقراء، وأكاد أقول، أننا بدون حيلٍ أو سلطة، من هنا يهم الكنيسة ان تظهر بمظهر العطف والحنان والقرب من جميع المحزونين. كما أنها تبدي لهم في فترة الحداد روح التضامن والصداقة والحُسنى. فهي تعرف قبل غيرها أن الميت الحقيقي ليس من يختفي عن الأنظار بل من يغيب ذكراه. وإن المحزون الحقيقي هو الذي تنساه الجماعة، لذلك تراها دائماً بالقرب من الجميع وحاضرة الى الجميع علّها بذلك تعوّض عن فقدان العزيز الغالي. هذا الحضور والرفض للنسيان، يعبّر عنه الطقس البيزنطي بعبقرية نادرة، إذ ينهي دائماً صلواته الجنائزية بصرخة ايمانية فريدة، ويردد على لسان الجماعة الحاضرة : فليكن ذكره مؤبداً، إنها صرخة الرجاء الكبرى أمام الحدث الأكبر، أمام الموت....
خاتمة :
يبقى أن نشير أخيراً أن مرافقة موتانا ومؤاساة عائلة الفقيد وكل ما ذكرناه عن رعوية الموت، كلّ ذلك لا ينتهي مطلقاً مع جناز الأربعين أو في ختام فترة الحداد. نحن نؤمن أن هناك، شركة القديسين، حيث الذكر المؤبد لموتانا.
ان شركة القديسين، والتي تتأصل في تعبير العهد الجديد، في كلمة "كونيونيا"، التي تفيد عن وحدة الإيمان في الإحتفال الإفخارستي، تعبّر أيضاً عن توحّد المسيحي بالمسيح، وعن توحّد المسيحيّين فيما بينهم.
إن القديسين الذين هم قبل كل شيء أعضاء شعب الله المقدس، يتوحدون في الروح القدس، في نعمة التبرير ، وفي المحبة كما وفي تتميم الأسرار، والإفخارستيا على رأسها. هؤلاء يصلّون بعضهم من أجل البعض، ورأس الصلاة، هو القداس الإلهي. وانسجاماً مع هذا كله، فإنّ شركة القديسين تضم أيضاً الوحدة مع من سبقنا بالموت. (راجع 2 مكابين 12/42-45).
لذلك تذّكر الكنيسة باستمرار بهذه الحقيقة، وهي في صلواتها وفي إفخارستيتها لا تنسى مطلقاً موتاها، حتى لو نسي ذلك الجميع أو تناسوا. والكنيسة التي تجتهد امام حدث الموت، بأن تظهر من خلال الكلمات والأعمال الليتورجية بأن دعوة الإنسان الأصلية إنما هي دعوة للحياة الجديدة المهيأة له ولكلّ البشرية بفضل فصح المسيح، تحرص دائماً أن تعيش في الرجاء.
والكنيسة العائشة.في الرجاء والشاهد على مواعيد الله التي لا ُتخيِِب ، لا تبرح تردّد من خلال صلواتها التي هي لبّ رعوية الموت وعلى الرغم من هول الموت ووحشته.
طاب جُرح الموتِ لما ربُ الموتِ ذاقَ الطعما ..... آمين
المطران شكرالله نبيل الحاج
ندوة في جامعة سيدة اللويزة
في 26/10/2007
..............................
4. شرح أيقونة القيامة
المسيح قام حقاً قام
عرَف يسوع عن نفسه انه سيد الحياة، ورأيناه يقيم موتى، ويشفي مرضى ومخلعين، أقام ليعازر من بين الأموات، كان مصدر قوة وتعزية لكثيرين. تجلى، كشف عن طبيعته الإلهية لبرهة وأفاض نوراً. دخل أورشليم كملك والجميع صرخوا اوصنا، الجميع طرحوا ثيابهم أمامه، ورمي الثياب يعني أنه الملك الآتي. دخل الرب أورشليم كملك، أما العرش فكان الصليب.، وأين؟ بين الأثمة والمجرمين. هناك، خارج اسوار المدينة حيث كانت تحرق ذبائح التطهير. وكل من يمسَها يتدنس الا أن ينضح بالزوفى فيطهر. أُنزل عن الصليب، ووضع في قبر، ولكن إذا توقفنا هنا، نكون أتعس التعساء، ونكون أناساً مطروحين لا رجاء لهم، وهذا ما حصل مع تلميذيّ عماوس، فقدا الرجاء ووقعا في الهروب واليأس.
فأتاهما السيد ليُقظهما قائلاً : أنسيتما القيامة، أنسيتما أن الموت انهزم والمسيح قام.
فأسرعوا يا سامعين، وبشّروا بالآتي، لقد انتصر المسيح على الموت، والفردوس فُتح لمن يشتهونه. انشقّ حجاب الهيكل فليعلم الجميع أن المسافات أُلغيت بالمسيح يسوع الذي هو قدس الأقداس، وبتنا جميعاً قائمين به، وليس من ميت إلاّ الذي لم يُولد المسيح في قلبه وبالتالي لم يقم بعد.
نعم هذا هو إلهنا، إله الأحياء به، إله الحياة الأبدية وليس إله الحياة الترابية. فأين غلبتك يا موت؟ وأين شوكتك يا جحيم؟
لقد قام المسيح وأقامنا معه، حمل بكلتا يديه البشرية الساقطة وأصعدها معه إلى السماوات، طبعاً للذين عندهم الإرادة الصالحة.
وها هو اليوم يصرخ في أعماق نفوسنا قائلاً : لا تقل فقط يا إنسان إنك من التراب وإلى التراب تعود، بل قل أيضاً إنك من الله وإلى الله تعود.
الأب أثناسيوس شهوان
جامعة سيدة اللويزة
26/10/2007
................................
5. كلمة الاباتي سمعان ابو عبدو الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية
الموتُ: "مُعضِلَةٌ، رؤْيَةٌ، مُمارسَة"
جامعةُ سيّدة اللويزة- 26 ت1 2007
لا شكَّ في أَنَّ للموتِ حَسْرةً بَشَرِيَّةً لا نَسْتَطيعُ حِيالَها أَنْ نَحْبِسَ الدموعَ في العيونِ. نحنُ نبكي، الكُلُّ يبكي حتّى إِنَّ المسيحَ بَكى وذَرَفَتْ عيناهُ دَمْعاً وحسرة. (لو19/41 ).
أَمَّا، علامَ نبكي؟ ولماذا نبكي كُلَّما حَصَلَ فِعْلُ مَوْتٍ؟ فهناك أكثَرُ من سَبَبٍ وجوابٍ: أحياناً نبكي تحسُّراً أو فُقداناً. وأحياناً نبكي ألَماً وضُعفاً، شوقاً وحُبّاً. لأنَّهُ بِفِعْلِ الموتِ وانفِصالِ النَّفسِ عنِ الجَسَدِ يَتِمُّ الفراقُ البشريُّ. أمّا السَّبَبُ الأكبرُ لبُكائِنا فَيَكْمُنُ في السّؤالِ الكبيرِ الذي غالِباً ما يَسْكُنُ أعماقَنا ولا نُجاهِرُ بِهِ: إلى أَيْنَ تَذْهَبُ هذهِ النَّفسُ. وَهُنا نبكي إمّا خوفاً على هذهِ النفسِ، التي نحبُّ صاحِبَها، من نارِ الجحيم، وإمّا لأَنَّنا نَجْهَلُ فِعْلاً مصيرَها، وهذا ما يَعْكِسُ قِلَّةَ إيمانِنا ورجائِنا وعدمَ قناعَتِنا بالخلودِ والقيامة.
عِندما كنتُ صغيراً، كنتُ أتساءَلُ، كما أَتساءَلُ اليومَ: لماذا نحنُ نُصلّي مِن أجلِ موتانا؟ ولماذا نطلبُ إلى اللهِ قائلينَ: "الراحةَ الدائِمةَ أَعْطِهِمْ يا ربُّ، ونورُكَ الأزليُّ فليضِىء لَهُمْ". لماذا ندعو لهم لكي يستريحوا بسلام؟
في عيدِ تذكارِ الموتى الذي نحتَفِلُ به كُلَّ عامٍ، تعودُ إلى أَذْهانِنا الحقائِقُ الأَساسيَّةُ المرتبِطَةُ بالحياةِ والموتِ، بالخلاصِ والهلاكِ في ضَوْءِ الإيمانِ. تُرى، هل هي مأساةٌ تقضُّ مضجَعَ الإنسانِ؟
إِنَّ الإنسانَ، في محنَتِهِ، يَجِدُ في قيامةِ المسيحِ نوراً جديداً يُساعِدُهُ على شَقِّ طريقٍ وَسَطَ الظّلامِ الكثيفِ، ظلامِ الشكِ والفَشلِ، الألمِ والمرضِ. وهنا نسأَلُ: هل هناكَ اسْتعدادٌ لملاقاةِ المَوتِ ومشاهَدَةِ وَجْهِ الربِّ؟
هلِ المُشْكِلَةُ هي في اِلتِزامِنا الإِنسانيِّ تجاهَ ذواتِنا وتجاهَ الآخرِ، حتّى لا نَسْمَعَ هذا التّأكيدَ الإنجيليَّ: "إِنْ كانوا لا يسمعونَ لموسى والأنبياءِ، ولا إِنْ قامَ أَحَدُ الموتى يصدِّقوه" (لو16/31).
وهنا يحضُرُنا سؤالٌ جديدٌ: تُرى ما هو هذا الشخصُ الإِنسانيُّ؟ ما سِرُّهُ؟ وما حكايتُه مَعَ الموتِ؟
إِنَّ الشخصَ الإِنسانيَّ ثُنائِيٌّ في مقوِّماتِهِ، هو امتدادٌ إلى أعماقِ الأرضِ بجذورهِ الماديَّةِ الكثيفَةِ، وهو امتدادٌ إلى فَضاءِ السَّماءِ بأغصانِهِ الروحيَّةِ رافِعَةً إيّاهُ إلى اللاّنهايةِ في الكمالِ والخلودِ.
إِنَّ عالَمَنا يعيشُ اليومَ صراعاً عَنيفاً قائماً بينَ تجسيدِ الرّوحِ وَرَوْحَنةِ الجسَدِ. وهُمْ كُثُرٌ أولئِكَ الذينَ لا يؤمنونَ إلاّ بالوجودِ المرئِيِّ، معَ أَنَّ اللاّمرئيَّ يُقَيِّمُ المرئِيَّ وَيُحييهِ، فيبقى في مرحلةٍ احتضاريَّةٍ يكتنِفُها الحيرَةُ والقلقُ والتشاؤمُ أحياناً، إلى أَنْ يحدِّدَ مصيرَهُ بِيَدِهِ بإِعطاءِ الأَولويَّةِ للرّوحِ.
جاءَ في العهدِ القديمِ، وفي سِفْرِ التكوينِ تحديداً: "وجبلَ الرَّبُّ الإلَهُ الإنسانَ تُراباً من الأرضِ وَنَفَخَ في أَنفِهِ نَسْمَةَ حَياةٍ" (تك 2/7).
أنَّ نسمةَ الحياةِ الوارِدَةَ في النّصِّ، هي ما نُسَمّيهِ مبدأََ حياةٍ أَو النَّفْسَ.
ونقرأُ في السِّفْرِ نَفْسِهِ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسانَ على صورتِهِ: "لِنَصنَعِ الانسانَ على صورَتِنا كمثَالِنا" (تك1/26-27). فإذا كانَ الإنسانُ على صورةِ اللهِ، فينبغي أَنْ يكونَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُما الروحَ، إِذْ إِنَّ الروحَ مَحْضٌ، فلا بُدَّ أن يكونَ الإنسانُ إذاً روحاً على صورةِ اللهِ. ولأنَّ روحَ اللهِ بسيطٌ، غيرُ مُرَكَّبٍ، قائمٌ بذاتِه، خالدٌ، لا يعتريه إعلالٌ ولا فناء، فَنَفَسُ الانسانِ إذاً على شاكلةِ روحِ اللهِ خالدةٌ.
وَيُذَكِّرُ سِفْرُ الجامعةِ الإنسانَ بواجِبِ الّتقوى في أَيَّامِ الشّبابِ قبلَ أََنْ يَدْهَمَهُ الموتُ، ثُمَّ يخلُصُ إلى القَوْلِ: "فيعودُ التّرابُ إلى الأرضِ حيثُ كانَ ويعودُ الروحُ إلى اللهِ الذي وهبَهُ" (جا 12/7). فَسِفْرُ الجامعةِ يؤكِّدُ إذنْ أَنَّ في الإنسانِ عُنْصُرَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ: عُنصراً مادّياً وعُنصراً روحيّاً أو لا مادِّياً. فبإِمكانِ الإنسانِ إِذَنْ أَنْ يُتابِعَ الحياةَ بعدَ الموتِ.
وفي العهدِ الجديدِ، يقولُ المسيحُ لتلاميذِهِ: "لا تخافوا ممَّنْ يَقْتُلُ الجسَدَ ولا يستطيعُ أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ، بلْ خافوا مِمَّنْ يَقدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفسَ والجَسَدَ في جَهَنَّمَ" (متى 10/28). فالسّيِّدُ المسيحُ يميِّزُ إذنْ وبصَراحَةٍ أنَّ في الإنسانِ، عُنْصُرَي الجَسدِ والرّوحِ.
وحينَ يتكلَّمُ لوقا على قيامةِ ابنةِ يائيرس يقولُ: "أَمْسَكَ يسوعُ بِيَدِها ونادى قائِلاً: "يا صبيَّةُ قومي، فَرَجِعَتْ روحُها وقامتْ في الحالِ، فأَمَرَ بأَنْ تُعطى طعاماً" (لو 8/55). فلوقا يُشيرُ إذَنْ إلى أَنَّ الرّوحَ- العُنْصُرَ الكِيانِيَّ المُتميِّزَ عن الجَسَدِ- عادَتْ إلى الصبيَّةِ، بأَمْرٍ من الرَّبِّ.
ونقرأُ في الإِنجيلِ أيضاً: "الحقَّ أقولُ لكَ إِنَّكَ اليومَ تكونُ معي في الفِرْدَوْسِ" (لو 23/43). إِنَّ جَسَدَ اللّصِّ يموتُ بعدَ قليلٍ من الزَّمَنِ، ومعَ ذلك فإنَّ يسوعَ يؤكِّدُ له بأنَّهُ سيحيا مَعَهُ في الفِرْدَوْسِ. فَنَفْسُ هذا اللّصِّ إذاً، وعلى الرَّغْمِ من انْحِلالِ جَسَدِها، بمقدورِها أَنْ تُتابِعَ الحياةَ وتعيشَ معَ المسيحِ.
وبولُسُ يَكْتُبُ لأَهْلِ كورنتُسَ: "ونحن نَعْلَمُ أَنَّهُ إذا هُدِمَ بيتُنا الأرضيُّ، وما هو الاَّ خيمة، فَلنا في السموات مسكِنٌ من صُنعِ الله، بيتٌ أبديٌ لم تَصْنَعْهُ الأيدي"(2كو5/1). هذا البناءُ الذي شيَّدَهُ اللهُ، والذي لم تَصْنَعْهُ الأيدي هو عُنْصُرٌ حياتيٌّ غيرُ الجَسَدِ-بيتِ المَسْكِنِ الأرضيِّ- الذي يُنْقَضُ ويعودُ إلى التُّرابِ.
وَبَعْدَ، فَإِنَّ الإنسانَ حُرٌّ، والحريَّةُ وحدَها تجعَلُ الإِنسانَ كائناً أدبيّاً مسؤولاً وجديراً بالتّقديرِ والثّناءِ في حالِ قيامِهِ بالواجِبِ والرّسالةِ والمتاجَرَةِ بالوَزْناتِ المُعْطاةِ لَهُ، أو مستحقّاً الخِزْيَ والعارَ في حالِ المخالفةِ والتمرُّدِ والبُعدِ عن اللهِ.
وردَ في سِفرِ تثنِيَةِ الاشتراعِ ما يلي: "إِنّي أَشْهَدْتُ عليكُمُ اليومَ السَّماءَ والأرضَ بأَنّي قد جَعَلْتُ بينَ أيْديكم الحياةََ والموتَ، البَرَكَةَ واللّعْنَةَ، فاخْتَرْ أَيُّها الإنسانُ الحياةَ لكي تَحْيا أََنْتَ وَذُرِّيَتُكَ" (3/1).
وفي العَهْدِ الجديدِ قالَ يسوعُ للشابِّ الغَنيِّ "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلُ الحياةَ فاحْفَظِ الوصايا" (متى 19/17). الإنسانُ مُقَدَّرٌ له الاختيارُ، واللهُ سَيُحاسِبُهُ بموجَبِ اختيارِهِ. وَكُلُّ شَيْءٍ سَيَتَغَيَّرُ وَيَنْقَلِبُ إِذا حَمَلَ الإنسانُ في قَلْبِهِ أَمَلَ الخُلودِ، والخلودُ هو للنَّفْسِ بعدَ الموتِ دوامُ الحياةِ لها. ولا يُعطى الجزاءُ الخالِدُ إلاّ لمَنْ كانَ خالِداً. وفي كُلِّ الأحوالِ، فإِنَّ الإنسانَ سَيُجزى بجزاءٍ خالِدٍ في النَّعيم أو في الجحيم.
وماأَكْثَرَ أقوالَ الإنجيلِ في هذا الإطارِ:
"من أْكَلَ جَسدي وَشَرِبَ دمي، فلهُ الحياةُ الأبديَّةُ" (يو 6/54). "لأنَّ الذي يُريدُ أن يُخَلِّصَ حَيَاتَهُ يَفقِدُها، وأمَّا الذي يَفقِدُ حَيَاتَهُ في سبيلي فإنَّه يَجِدُها" (لو16/25). "فَيَذْهَبُ الأشرارُ إلى العذابِ الأبديِّ، والأبرارُ إلى الحياةِ الأبديَّةِ" (متى 25/46).
إِنَّ اللهَ خلقَ كُلَّ شَيْءٍ لمجدِهِ وتمجيدِه، لكنَّ الإنسانَ العاقِلَ الحُرَّ هو الكائِنُ الوحيدُ الذي بمقدورِهِ في هذا العالَمِ أن يمجِّدَ اللهَ بمعرفَةٍ وحرّيَّةٍ، حيثُ نُدْرِكُ أَنَّ اللهَ لا يُفْني النّفْسَ البشرِيَّةَ، إِذ إِنَّ عَمَلاً كهذا يُعاكِسُ حِكْمتَهُ وصلاحَهُ وصدقَهُ وعدالَتَهُ.
ختاماً، وبناءً على ما تقدَّم، وعوداً على بدءِ، نَفْهَمُ أَنَّ مُعْضِلَةَ المَوْتِ تنكَشِفُ وَتَسْقُطُ إذا ما كانَت حياتُنا رؤيويَّةً بِحَيْثُ نرى آخِرَها وَنَحْنُ بَعْدُ في أَوَّلِها. ويصبِحُ الموتُ أمراً طبيعيّاً سَهْلاً تَقَبُّلُهُ إذا ما مارَسْناهُ ونحنُ أحياء، أيْ إِذا ما عِشْنا حَياتَنا وَمَوْتَنا في آنٍ مَعاً.
حَسْبُنا أن نكونَ مستعدِّينَ في حياتنا على الارضِ، وفي نورِ قيامةِ المسيح، لبلوغِ اللقاءِ والقيامةِ.
تتمة...