كلمة رجاء
"فآمنوا بي أيضًا، في بيت أبي منازل كثيرة..." (يو 14: 1- 6)
الخوري ميراب الحكيم
26/3/2022
الله معكم،
إنّ تأمَّلنا اليوم هو مِن خطاب يسوع الوداعي في إنجيل يوحنّا الإصحاح 14. في العشاء الأخير، دعا يسوع تلاميذه ويدعونا نحن أيضًا كي يكون الإيمان الّذي نسميّه "الإيمان بالله"، والّذي نصوِّره عادةً في عقلِنا أنّ الآب هو خالق كلّ شيءٍ، أن يكون هذا الإيمان نفسه هو بِيَسوع ابن الله الّذي تجسَّد من أجلنا، والّذي أصبح هو "الطريق والحقّ والحياة" الّذي يجعلنا نَعرف الله أكثر، فيكون أقرب إلى إنسانيّتنا ومحدوديّتِنا ومخيِّلتِنا. في هذا الخطاب الوداعيّ، يُحضِّر يسوع تلاميذه إلى ساعة فراقِه عنهم: هو الآن معهم في الجسد وقد تعلَّقَ به التلاميذ كثيرًا، إذ اعتادوا على وجوده؛ لكنّه غدًا لن يكون معهم في الجسد، لذلك في كلامه اليوم، يُطمئِنُهم، فيتذكَّروا كلامه بعد أنْ تتمّ كلّ الأحداث، ويَفهموا أنّه هو الله بنَفسه. لا، بل أكثر من ذلك، يقول الربّ يسوع لهم في كلامه اليوم معهم، إنّه ذاهبٌ إلى أبيه، ولكنّه سيَعود إليهم من جديد ليَأخُذَهم معه إلى بيت أبيه، كي يكونوا على الدَّوام معه، حيثُ يكون.
للوهلة الأولى، يُخيَّل إلينا أنّ المنازل الّتي يتكلَّم عنها الربّ هي بيوتٌ تُشبه بيوتَنا الأرضيّة، ولكنّها في الحقيقة، مَنازِل من نوعٍ آخر، إنّها مكانُ سُكنى الله أي أنّها في قَلب الله؛ ويسوع هو المفتاح للدُّخول إلى هذه المنازِل، إذ إنّه "الطريق والحقّ والحياة".
في مسيرتنا الأرضيّة، نحن معرَّضون على الدَّوام إلى خسارة أشخاص نُحبُّهم يَختَفون عن نظرنا، فنشتاق إليهم، تمامًا كما حدث مع التّلاميذ عندما مات يسوع فَخَسِروه. ولكن وصيّة الربِّ يسوع الأخيرة ووَعدَه لتلاميذه وللكنيسة واضحٌ، إذ يقول لهم: أنا سبَقتُكم، وفتَحتُ لكم أبواب منازل السّماء الّتي كانت مُقفَلة؛ لذا، مِن الآن فصاعدًا، كلُّ مَن ينتَقِل مِن هذه الحياة، وكان في حياته الأرضيّة مؤمِنًا بي، وكان يعيش معي على هذه الأرض، سآتي وآخذُه إلى هناك، أي إلى المنزِل الأبديّ ليكون معي ومع أبي إلى الأبد.
هنيئًا لنا بإلهٍ أحبَّنا إلى هذه الدَّرجة، فأمَّن علينا في حياتنا ومماتنا أن نكون متَّحدين به، ونبقى على الدَّوام أحياءً في الله. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
تتمة...تنشئة روحيّة 2021- 2022
تأمّل في "إنجيل مَثَل العذارى العَشر"
للأب شربل أوبا الباسيليّ الشويريّ
رئيس الكُلِيّة الشَّرقيّة الباسيليّة
"الحقَّ أقول لكنَّ: لا أعرفكنَّ، فاسهروا إذًا...." (متى 25: 1- 13)
24/1/2022
مساء الخير مايا، وشكرًا على هذه المقدّمة. وأُحَيي أيضًا في هذا المساء كلَّ شخصٍ موجودٍ معنا اليوم، أينما كان، إذ إنّنا في هذه الفترة نَستفيد مِن وسائل التَّواصل الإجتماعيّ والتَّطبيقات المتوافرة بين أيدينا، للتَّواصل مع بعضنا البعض والاستفادة من الوقت المتاح لنا لتَمجيد الربّ.
نَفتَتِح لقاءنا اليوم بصلاةِ استدعاءٍ الرّوح القدس، الّتي نُصلّيها في طَقسِنا البيزنطيّ، عند بداية كلّ صلاةٍ وقُدَّاس:
"بِاسم الآب والابن والرّوح القدس الإله الواحد، آمين.
أيّها الـمَلِك السَّماويّ الـمُعَزّي، روحُ الحقّ الحاضِرُ في كلِّ مكان والمالئُ الكُلّ، كَنزُ الصَّالحات وواهبُ الحياة. هَلُمَّ واسكنْ فينا، وطهِّرنا مِن كلّ دنسٍ، وخلِّص أيّها الصَّالحُ نفوسَنا.
المجد للآب والابن والرُّوح القدس، الآن وكلّ أوانٍ وإلى أبد الآبدين، آمين."
† مِن إنجيل ربِّنا يسوع المسيح للقدّيس متّى الّذي بَشَّر العالَم بالحياة (متى 25: 1- 13)
"عندئذٍ يكونُ مَثل ملكوتِ السّماوات كَمَثل عَشرِ عذارى أَخذنَ مصابيحَهنَّ وخَرجنَ للقاء العريسِ، خَمسٌ مِنهنَّ جاهلات، وخَمسٌ عاقلات. فأخذَتِ الجاهلاتُ مصابيحَهنَّ ولم يأخذْنَ مَعهنَّ زيتًا. وأمّا العاقلات، فأخذنَ مع مصابيحِهنَّ زيتًا في آنية. وأبطأ العريسُ، فنَعِسنَ جميعًا ونِـمنَ. وعند نِصف اللّيل، علا الصِّياح: "هوَذا العريسُ! فاخرُجنَ للقائه!" فقامَت أولئكَ العذارى جميعًا وهيَّأنَ مصابيحَهنَّ. فقالَتِ الجاهِلاتُ للعاقِلات: "أعطينَنا مِن زيتِكُنَّ، فإنَّ مصابيحَنا تَنطفِئ". فأجابَتِ العاقِلاتُ: "لعلَّه غيرُ كافٍ لنا ولَكُنَّ، فالأَولى أن تَذهَبْنَ إلى الباعة، وتَشتَريْنَ لَكُنَّ". وبينما هُنَّ ذاهباتٌ لِيَشتَريْنَ، وَصَل العريسُ، فدَخلَت معه الـمُستَعِدَّاتُ إلى رَدهَةِ العُرسِ وأُغلِقَ الباب. وجاءَت آخِرَ الأمرِ سائرُ العذارى فَقُلنَ: "يا ربُّ، يا ربُّ، افتَحْ لنا". فأجابَ: "الـحقَّ أقولُ لَكُنَّ: إنِّي لا أعرِفكُنَّ! فاسْهَروا إذًا لأنَّكم لا تَعلَمون اليومَ ولا السَّاعة". الـمجد لك يا ربّ!
إنّ حديثنا اليوم يتمحوّر حول مَثَل العذارى العَشر: خَمسٌ حكيمات، وخَمسٌ جاهلات. في لقائنا اليوم حول هذا النَّص، لن نتكلَّم عمّا هو صالحٌ القيام به وعمّا هو غير صالحٍ، كما أنّنا لن نتكلَّم على الّذي كان يَنقُص الجاهلات لتُصبحنَ كالحكيمات، إذ إنّ هذه الأمور واضحةٌ في هذا النَّص، ولا أعتقد أنّ هذا النَّص يحتاج إلى الكثير من الشَّرح في هذا الإطار. ولكن ما سنتكلَّم عليه في لقائنا حول هذا النَّص، وهو الأهمّ، هو القِسم الثّاني من عنوان لقائنا ألا وهو ملاقاة الربّ. إذًا، إنّ حديثنا اليوم سيَتناول موضوع كيفيّة الاستعداد للقاء الربّ، خصوصًا أنّ هذا النَّص الإنجيليّ يَنتهي بعبارة يقولها الربّ يسوع: "اسْهَروا إذًا لأنَّكم لا تَعلَمون اليومَ ولا السَّاعة"، وهو بالتّالي لا يوجِّه هذه العبارة إلى العذارى الحكيمات وحَسب، إنّما يوجِّهها إلى جميع النَّاس.
قَبْل الدُّخول في عمق النَّص، أرغب في القيام بِمُقدّمةٍ تُساعدنا على فَهمِ النَّص بشكلٍ أفضل، فَنُدرِك ما الّذي يريد الربّ أن يقوله لنا مِن خلاله.
أوّلاً: واجبُ الاستعداد الشَّخصيّ للقاء الربّ: على كلِّ واحدٍ مِنّا أن يستعدَّ للقاء الربّ، مهما كانت جنسيّته أو مِهنته أو وَضعه الإجتماعيّ: متزوجًا أو أعزبًا، راهبًا أو كاهنًا أم ربَّ أُسرَةٍ؛ أفريقيًّا، أوروبيًّا أو لبنانيًّا. إنَّ الربَّ يدعو جميع النَّاس مِن دون تمييز، دعوةً شاملةً وكاملةً، إلى الاستعداد للقائه والسَّهر لملاقاته عند مَجيئه الثاني.
إخوتي، كان الربُّ يسوع يُكلِّم الجموع عن الملكوت مِن خلال الأمثال. إنّ الأمثال الّتي كان يُعطيها الربُّ للجموع تَنقَسم إلى عدَّة أقسام: فبَعضها، كان يعطيها الربّ ليشرَحَ لهم حدثًا مُعَيَّنًا، في حين أنّ البعض الآخَر منها، والّـتي فيها تكمن الصُّعوبة، كان يُعطيها للجموع ليُكلِّمهم على الملكوت أو على مجيئه الثّاني. وفي إنجيل متّى، نَجِدُ أمثلةً كثيرةً عن الملكوت، فعلى سبيل المثال في الإصحاح 25 الّذي نحن في صدده، نلاحظ أنّه بَعد مَثل العذارى الّذي نعالجه اليوم، هناك مَثل الوزنات، ثمّ مَثل الدَّينونة العامَّة، كما نلاحظ في مكانٍ آخَر مِن الإنجيل، أنّ الربّ يُكلِّمنا على الملكوت مِن خلال مَثل الدِّرهم الضَّائع، ومَثل الخروف الضَّائع، وسِواها مِن الأمثلة.
في انتظارنا لمجيء الربّ، لا يكفي أن نُعلِن عن إيماننا بالربّ كلاميًا، أي أن نسعى إلى الحصول على سرّ المعموديّة ومحبّة الآخَرين كما طلَبَ إلينا الربّ في وصاياه لنا، بل علينا أن نسهر لملاقاته عند مجيئه. بمعنى آخَر، لا يكفي أن نسعى إلى العيش بِحَسَب مشيئة الله مِن خلال إظهار طاعتنا له بالقول أمام الجميع: "لتَكن مشيئَتُك يا ربّ"، ونحن داخليًا نعمل، لا بِحَسب مشيئة الربّ بل بِحَسبَ مشيئتنا، لذلك علينا أن نستعدَّ للقاء الربّ بالسَّهر. إنّ الربّ يقول لنا: "لَيسَ كُلُّ مَن يَقول لي: يا ربُّ، يا ربُّ! يَدخُل مَلَكوت السَّماواتِ. بل الَّذي يَفعل إرادة أبي الَّذي في السَّمَاوَاتِ" (متى 7: 21)، وبالتّالي، علينا السَّهر لملاقاة الربّ ليس فقط الإعلان عن إيماننا به. وفي هذا الإطار، يُضيف الربّ قائلاً لنا إنّ الشَياطين نفسَها تؤمن به، وتعترف بأنّه ابنُ الله، فهذا ما كانت تُعلِنه حين كان يُخرجها من الـمَمسوسين: "ما لَنا ولكَ يا يسوعُ ابنَ الله؟ أَجِئتَ إلى هُنا قَبْل الوَقتِ لِتُعَذِّبنا؟"(متى 8: 29). إذًا، الإعلان عن إيماننا بالربّ وحده لا يكفي لملاقاة الربّ والدُّخول إلى الملكوت السَّماويّ، وكذلك محبّة الآخَرين وحدها لا تكفي، إذ عليهما أن تتلازما مع السَّهر الدائم لملاقاة الربّ. في هذا الإطار، يقول لنا يوحنّا الرَّسول في رسالته الأولى: "إن قالَ أحدٌ: «إنِّي أُحِبُّ الله» وأبغَضَ أخاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأنّ مَن لا يُحِبُّ أخاهُ الَّذي يُبصِره،كَيف يَقدِر أن يُحِبَّ الله الَّذي لَم يُبصِرهُ؟" (1 يوحنا 4: 20). إنّ الكَذِب، في مفهوم الكتاب المقدَّس، هو النَّظر إلى أمرٍ ما على أنّه حقٌّ وهو في الحقيقة خطأ. ويُضيف مار بولس، إلى كلام الرَّسول يوحنّا، فيقول لنا إنّ الشَّيطان سيَظهر أمامنا في شكلِ ملاكٍ من نورٍ، وهو ما ليس عليه في الحقيقة.
قَبْل الكلام على موضوع السَّهر وملاقاة الربّ، سأقوم بشرح بعض الرُّموز لِفَهم هذا الـمَثل بشكلٍ أفضل:
- إنّ العدد "عَشَرة" في التَّقليد اليهوديّ، هو عددٌ من الضروريّ توافرَه لإقامة مَجمعٍ قانونيّ، للصَّلاة أو تَناول الفِصح أو إعطاء الشَّهادة في العُرس. وانطلاقًا من هذا التَّقليد، نحن نلجأ في كلِّ عرسٍ إلى وَضعِ أقلَّه إشبِينَين بشكلٍ إلزامي، كشهودٍ على هذا العرس، وفي حال عدم توافرهما، تقول الكنيسة إنّ جميع المدعوِّين إلى هذا العرس هُم شهودٌ على تَبادُل النَعَم بين العروسَين. كتَبَ متّى الرَّسول إنجيلَه إلى الشَّعب اليهوديّ، الّذي كان يؤمن بالله وينتظر حلول الملكوت على الأرض. وأيضًا، إنّ العدد "عَشرة" في التَّقليد اليهوديّ يرمز إلى الوصايا العَشر. كما يرمز أيضًا العدد "عشرة" إلى الكمال، فالإنسان الصّحيح يملك عشرة أصابِع في يدَيه وكذلك عشرة أصابِع في رِجليه.
- المصباح يرمز إلى كلمة الله: "كلمتُك مصباحٌ لخطايَ ونورٌ لسبيلي" (مز 119: 105). إخوتي، علينا التَّمييز ما بين الـمِصباح والسِّراج. في مكانٍ آخر مِن الإنجيل، يقول لنا الربّ يسوع: "لا يوقد سِراجٌ ويوضَع تحت المكيال، بل على المنارة ليُنير للّذِين هُم في البيت"(متى 5: 14- 15). إنّ المصباح هو كلمةُ الله، وقد أعطانا الربُّ يسوع عدَّة أمثلةٍ للدَّلالة على ذلك. إنّ السِّراج يختلف عن الـمِصباح في كَون الأوّل يحتاج إلى زيتٍ، وسنتطرَّق لاحقًا إلى دلالات الزَّيت. في هذا النَّص الإنجيليّ، نلاحظ أنّ العذارى العَشر كان معهنَّ مصابيحَ إضافةً إلى آنيةٍ للزَّيت. إنّ الـمِصباح يَحمِلُه الإنسان في أثناء تَنَقّلاته خارج المنزل، كي يُنير له الطريق، تمامًا كما تُنير كلمة الله طريقنا في هذه الحياة. أمّا السِّراج فيوضَع في مكانٍ مرتَفعٍ نسبيًّا ليُنير لجميع الجالِسين في مكانٍ واحد. هنا تَجدر الإشارة إلى أنّ السِّراج والـمِصباح يرمزان كلاهما إلى كلمة الله، غير أنّ الـمِصباح يُشير إلى مسيرةٍ يقوم بها الإنسان في هذه الحياة، أمّا السِّراج فهو يُضيء الطّريق لجميع النَّاس.
- في الكتاب المقدَّس، يشير اللَّيلُ إلى مَجيء المسيح. وفي هذا الإطار، نَجِد في الإنجيل، نصوصًا كثيرةً يأتي فيها الإنجيليّ على ذِكر اللَّيل، فعلى سبيل الـمِثال قول الربّ يسوع لنا: "اِسهَروا إذًا، لأنَّكم لا تَعلَمون متى يأتي رَبُّ البَيتِ، أَمَساءً، أم نِصفَ اللَّيلِ، أَم صِياحَ الدِّيك، أَم صَباحًا" (مر 13: 35). إنّ اللَّيل يُشير إجمالاً إلى الظلام، أي إلى الـمَجهول. ففي اللَّيل، يُصبح الإنسان غير قادرٍ على معرفة الطريق الّذي يَسير فيه، وبالتّالي هو بحاجةٍ إلى مِصباحٍ ليُضيء له الطّريق. هذا على المستوى الحياتيّ الأرضيّ. أمّا على المستوى الرّوحيّ، فالـمِصباح هو كلمةُ الله.
- لقاء العريس بالعروس: في تقاليدنا الشرقيّة وخصوصًا اللّبنانيّة، لا زالت قُرًى كثيرةٌ تحافظ على هذه العادات القديمة، الّتي يقوم بها العريس في نِصف اللَّيل، بالمجيء إلى بيت العروس مع كلّ الشَّباب العازبِين، لأخذِها إلى مكانِ احتفال العريس. وعندما يجتمع العريس مع العروس في مكانٍ واحدٍ، تبدأ الحفلة الكبيرة. إنّ أهل العريس يستعدّون للقاء العروس وأهلِها من خلال الإبقاء على بعض الطَّعام كي يتمكَّن جميع المدعوِّين من تناوله في أثناء الحفلة الكبيرة.
- العذارى: هنا نعود ونطرح السّؤال: لماذا اختار الإنجيليّ متى العذارى حَصرًا، مِن دون الشَّباب أو النِّساء المتزوِّجات أو أهل العريس، مع العِلم أنَّ النَّص يتكلَّم على عرسٍ؟ إنّ العذارى في الإنجيل يَرمزنَ إلى الكنيسة، الّتي عليها أن تستعدّ للقاء عريسها الأوحد، يسوع المسيح. في الطَّقس الكنسيّ الشّرقي، لا يستخدمون لفظة "عريس" للدلالة على المسيح، بل يستخدمون لفظة "عروس". والدَّليل هو ما نردّده في صلاة المدائح، الّتي نتوجَّه فيها إلى العذراء مريم قائلِين لها: "إفرَحي يا عروسةً لا عروسَ لها". واليوم سأختُم حديثي معكم بتلاوة طروباريّة الخَتَن الّتي نقول فيها: "ها هوذا الخَتَنُ يأتي" أي العريس، وهذه الطروباريّة منبثقةٌ مِن هذا النَّص الإنجيليّ تحديدًا.
- الرَّقم خمسة: إنَّ الرَّقم خمسة يرمز إلى الحوَّاس الخمسة عند الإنسان، والّتي مِن خلالها يتواصل هذا الأخير مع الكَون مِن حَوله. في زمن كورونا الّذي نعيشه اليوم، يفقد بعض الـمُصابِين به حاسَتي الشَّم والذّوق لمدَّةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ، فيَشعُر الإنسان عندها أنّ لا طَعم لأيِّ شيءٍ يتناوله، فكيف إذا أُضيفَ إلى فقدانه لِهاتَين الحاسَّتين، فقدانَه لِباقي الحوَّاس أي النَّظر والسَّمع واللَّمس؟! أقول لكم إذا فَقَدَ الإنسان هذه الحوّاس الخمسة مجتمعةً، فَقَدَ شعورَه بالعالَم مِن حوله، وبالتّالي أصبح مَنفِيًا، مُبعَدًا عن العالَم من حوله، وبالتّالي أصبح هذا الإنسان خارج مخطَّط الله. إنّ الرَّقم خمسة يشير أيضًا إلى الأصابع الخمس الموجودة في اليَد الواحدة عند الإنسان. إنّ الرَّقم خمسة يشير إلى أسفار موسى الخَمس، أي الكُتـُب الخمسة الأولى مِن الكتاب المقدَّس. هذا في العهد القديم. أمّا في العهد الجديد، فالرَّقم خَمسة يرمز إلى الخبزات الخَمس الّتي باركها الربّ يسوع إضافةً إلى السَّمكتَين الّتي أطعم مِن خلالها عددًا كبيرًا من النَّاس. كما يرمز الرَّقم خمسة في العهد الجديد إلى جراح المسيح الخمسة، الّتي خلَّص الربُّ العالَم مِن خلالها على الصَّليب.
- العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات: إنّ العذارى الجاهلات يَرمُزنَ إلى الأشخاص الّذين لم يكونوا على استعدادٍ للقاء الربّ، أي الّذين لم يكن لديهم النِّعمة، بمعنى آخَر هُنَّ يرمُزنَ إلى كُلّ الّذين لم يكونوا أرضًا طيّبةً صالحةً حاضرةً لاستقبال الربّ في حياتهم ليُغيِّرها. وبالتّالي، في البُعد الاسكاتولوجي لهذا النَّص، كلُّ مَن يستعدّ للقاء العريس عند مجيئه، سيَجلِس إلى مائدة العريس أي الحَمَل الفِصحيّ. وفي تطبيقنا لهذا النَّص في حياتنا الأرضيّة، نستطيع القول إنَّ هؤلاء العذارى الجاهلات لم يخطِّطنَ لمستقبلهنَّ مع العريس: لأنَّه بالطَّبع لم يكن هذا العرس الأوّل في قرية هؤلاء العذارى، وعلى الرُّغم من ذلك، لم يَكُنَّ مستعدَّات للقاء العريس. ونحن نَعلَم أنّه حين نُدعى إلى عُرسٍ، نبدأ بالاستعداد له، من خلال اختيار الزّي المناسب لهذ الاحتفال، مع كلّ ما يتبع ذلك من تحضيرات. وبالتّالي، فإنّ هؤلاء العذارى الجاهلات يَرمُزن إلى كلِّ إنسانٍ لم يفكّر في كيفيّة الاستعداد للعرس. إنّ خَير مِثالٍ عن الفرق بين العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات هو الـمَثل الّذي أعطاه الربّ يسوع عن رَجُلين أحدهما بنى بيته على الرّمل، فَلم يتمكَّن من الصَّمود أمام العواصف؛ والآخر بنى بيته على الصَّخر، فصَمد في وجه العواصف.
في هذا النَّص، يقول لنا الإنجيليّ متى: "وأبطأ العريس". في البُعد الإسكاتولوجي للنَّص، يشير هذا الإبطاء في وصول العريس إلى المدَّة الزَّمنيّة الفاصلة بين مجيء المسيح الأوّل ومجيء المسيح الثّاني. إنَّ هذا الإبطاء في مجيء العريس يُشكِّل محور هذا النَّص، إذ إنّه فَرَز العذارى ما بين حكيمات وجاهِلات. إنّ إبطاء العريس أعطى القيمة للحكيمات (أو العاقلات) بأن يَكنَّ مستعدّات لمجيء العريس، حتّى وإن تأخَّر في الوصول. في استعداد هؤلاء العذارى الحكيمات، نَجِد تطبيقًا فِعليَّا لكلام الربّ: "مَن يصبر إلى المنتهى، فذاكَ يَخلُص"(متى 24: 13). أحبّائي، إنّ مشكلتَنا اليوم، تكمن في أنّنا نريد كلَّ شيءٍ والآن": فمثلاً، البعض يريد الاغتناء السَّريع، والبَعض الآخَر يريد الحصول على أعلى الشَّهادات على الفور، من دون تَعب أو جهدٍ،... إخوتي، إنّ الوقت مقدَّسٌ في حياتنا المسيحيّة، فأنا لا أستطيع أن أُصبح قدِّيسًا لمجرَّد أنِّي دخلت إلى الكنيسة للصّلاة أو استمعتُ إلى محاضرةٍ روحيّةٍ، أو شاركتُ في القدَّاس وتَناولتُ القربان المقدَّس، فالقداسة تتطلَّب جُهدًا وهذا الأخير يتطلَّب وقتًا. إنّ القداسة لَيست عملاً سِحريًّا يقوم به الإنسان، فالقداسة مرتبطةٌ بعلاقة المؤمن بالربّ، الّتي تدوم إلى الأبد، أي أنّها لا تنتهي بموتِنا الأرضيّ. نحن نؤمن بالحياة الأبديّة ونؤمن بمجيء الربّ الثّاني، وهذا ما نُعلِنه جهارًا في قانون الإيمان الّذي نتلوه في القدَّاس، إذ نقول: "ونترجَّى قيامة الموتى والحياة الأبديّة"، كما نُعلِن أيضًا أنّه "سيأتي في مجدٍ عظيمٍ ليَدين الأحياء والأموات". إخوتي، إنّ عبارة "ننتظر مجيئه الثاني"، لا تعني أنّه بوصول الربّ ينتهي كلّ شيء، بل على العكس من ذلك، إذ إنّه مع وصولِه تبدأ الحياة الأبديّة الّتي لا نهاية لها.
فبَعد موتِنا الأرضيّ، تبدأ حياتنا الأبديّة مع الربّ، إذ يكون مجيئه الثّاني قد تحقَّق بالنِّسبة إلينا. في المجيء الأوّل للمسيح، تعرَّفنا على الربّ جسديًا، وهلَّلنا له قائلِين له: "مُبارَكٌ الآتي بِاسم الربّ"(متى 21: 9)؛ أمّا اليوم فنَحنُ ننتظر مجيئه الثّاني. إخوتي، في كلامنا عن مجيء الربّ الثاني، قد يتساءل الكثيرون عن كيفيّة حدوث ذلك المجيء، فيَطرحون السّؤال" هل سيتجسَّد الربُّ مرَّةً جديدة؟ بالطَّبع لا! فهو أتى مَرَّةً واحدةً في الجسد، وحقَّق كلّ ما جاء من أجله إذ تألَّم ومات وقام من بين الأموات مخلِّصًا بِصَلبه كلَّ البشريّة، أمّا مجيئه الثَّاني، فسَيَكون بذهابنا نحن إليه، مِن خلال انتقالنا من هذه الفانية بالموت الأرضيّ، ولقائنا به وجهًا لوجه في الملكوت. إخوتي، منذ يوم ولادتنا إلى يوم وفاتنا، نحن في حالة انتظارٍ دائمٍ لمجيء الربّ الثاني وملاقاته. إذًا، كي نتمكَّن من اللِّقاء بالربّ، علينا أن نتَّخذ من العذراء مريم مِثالاً لنا، فنقول له "نَعم"، "أنا أمَةُ الربّ، فَليَكُن لي بحسبِ قولِك" (لوقا 1: 38). إذًا، إنّ الوقتَ هو مِحنَةٌ للإيمان.
في أيّام الرّسل وما بعدها، عاش المؤمِنِون بالربّ الصِّراع الّذي نعيشه كلَّ يوم: فإذا نَظَرنا إلى الوباء الّذي كسَح عالَمَنا اليوم، نطرح السُّؤال: أين أنتَ يا الله، لماذا لا تتدَّخل وتُنهي أمرَ هذا الوباء؟ فيأتينا الجواب من البعض فيقولون إنّ هذا الوباء هو مؤامرةٌ، وآخَرون يقدِّمون لنا نظريّات وشائعات. إخوتي، إنّ سؤالنا الّذي نوجِّهه للربّ هو سؤالُ كلّ إنسانٍ مؤمنٍ وليس سؤال إنسانٍ لا يؤمن بالله. هنا، أودُّ أن أقول لكم أمرًا: هل مِن المعقول أن يترك الله "هذه المؤامرة" في العالَم تُحقِّق أهدافها من دون أن يتدخَّل لِنَجدة البشريّة؟ هل مِن المعقول أن يسمح الله للشَّر بأن يتحكَّم بالبشريّة ويُسَيطر عليها، وهو، أي الله، يقِف مكتوفَ الأيدي، لا يُحرِّك ساكنًا؟ بالطَّبع لا! أمام هذا الوباء الّذي نعيشه وانطلاقًا من هذا النَّص، نَطرح السُّؤال على ذواتنا: أين أنا مِن هؤلاء العذارى: هل أنا من الجاهِلات أم مِن الحكيمات؟ إخوتي، إنّ العريس لا محالة آتٍ، غير أنّنا لا نعلَم ساعة مجيئه. وفي هذا الإطار، يحذِّرنا الربّ من مَجيئه الثاني ويقول لنا: "اِسهَروا إذًا لأنَّكُم لا تَعلَمون في أيَّة ساعةٍ يأتي ربُّكُم. واعلَموا هذا: أنَّه لَو عَرَف ربُّ البَيتِ في أيِّ هَزيعٍ يأتي السّارقُ، لَسَهِرَ ولَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب. لِذَلِك، كونوا أنتُم أيضًا مُستَعِدِّين، لأنَّه في ساعةٍ لا تَظُنُّون يأتي ابْنُ الإنسان"(متى 24: 42- 44). إذًا، إنّ الربَّ يسوع يُشبِّه نفسَه بالسَّارق.
أمّا الآن، فأنطلق إلى القِسم الثاني من حديثي، وفيه سنَدخُل في التَّطبيق العَمليّ لهذا الإنجيل في حياتنا اليوميّة. إخوتي، علينا التوقّف عند ما يستفزُّنا في كلّ نصٍّ إنجيليّ والتأمُّل به. إنّنا نؤمِن أنّ الله هو الـمُحبّ والرَّحوم والسَّموح، والسَّامريّ الصالح، والغفور لجميع النَاس، وأنّه قد طَلب إلينا محبّة الأعداء والغفران لكلّ مَن يسيء إلينا، وإذ بنا نُفاجأ أنّه لم يُطبِّق في الإنجيل ما علَّمنا إيّاه، وهذا النَّص الإنجيليّ هو مَثالٌ على ذلك: فتَخيّلوا معي إخوتي، لو جاءكم أحدٌ في وقت الغذاء متأخِّرًا، وقرع بابكم طالبًا إليكم الدُّخول ومشاركتكم الطَّعام، ألا تقومون بإدخاله؟ بالطبَّع، بلى! ولكنّ الإنجيليّ متّى يُخبرنا في هذا النَّص أنّ الربّ لم يَفتَح لهؤلاء العذارى الجاهلات. إنّ الربّ قال لنا في مكانٍ آخَر من إنجيل متّى: "تعالَوا إليّ يا جميع المتعَبين والـثَّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم" (متى 11: 28)، وقال لنا في مكانٍ آخَر أيضًا: "اِحمِلوا نِيري علَيكُم وتَعلَّموا مِنِّي، لأنِّي وَديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فَتَجِدوا راحَةً لِنُفوسِكُمْ، لأنَّ نِيري هَيِّنٌ وَحِملي خَفِيفٌ" (متى 11: 29- 30)، كما قال لنا أيضًا: "أحِبّوا أعداءكم، بارِكوا لاعِنِيكُم. أحسِنوا إلى مُبغِضيكم، وصَلّوا لأجل الّذين يُسيئون إليكم ويَطردونكم" (متى 5: 44). فلماذا في هذا النَّص، نَجِد أنَّ الربَّ يسوع لم يفتَح لهؤلاء العذارى؟ في نصّ الدَّينونة العامَّة، نسمع الربّ يقول للّذِين عن شِماله: "اذهَبوا عَنِّي يا مَلاعِين إلى النَّار الأبديَّة الـمُعدَّة لإبليسَ ومَلائكَتِه، لأنِّي جُعتُ فَلَم تُطعِموني. عَطِشتُ فَلَم تَسقوني. كُنتُ غَريبًا فَلَم تأووني. عُريانًا فَلَم تَكسوني. مَريضًا ومَحبوسًا فَلَم تَزوروني" (متى 25: 41- 43). وفي مكانٍ آخَر، يُعلِّمنا الربّ قائلاً: "مَن ضَرَبكَ على خدِّكَ فاعْرِض له الآخَر أيضًا، ومَن أخذ رداءكَ فلا تَمنَعهُ ثَوبَكَ أيضًا." (لو 6: 29). أمام كلّ هذه التَّعاليم، نَجِد أنّ الربّ، عند مثوله أمام بيلاطس للمحاكمة، تعرَّض للَّطم من قِبَل أحد الجنود، وبَدَل أن يَعرِض
له خدَّه الآخَر كما علَّمنا، نراه يبادر هذا الخادم بالقول: "إن كُنتُ قد تَكلَّمتُ رَديئًا فاشهَد على الرَّديءِ، وإن حَسَنًا فَلِماذا تَضرِبُني؟" (يو 18: 23). في هذا الإطار، يمكنني أن أُعطيكم أمثلةً كثيرةً.
إنّ الجواب الّذي أُعطيكم إيّاه حول هذه المفارقة الموجودة بين كلام يسوع وتصرّفاته، يُقسَم إلى قِسمين: أوّلاً إنّ الإنجيل لا يُقرأ بحرفيّته. ثانيًا، بالطَّبع إنّ الربَّ رَحومٌ وغفورٌ ومُحِبّ للبشر، لكن علينا ألّا ننسى أنّه طلب إلينا في مكانٍ آخَر مِن الإنجيل: "كونوا حُكَماء كالحيَّات وبُسَطاءَ كالحمام" (متى 10: 16)، وهذا يعني أنّه لا يمكننا الاستعداد للقاء الربّ بمحبّة الآخَرين وحسب، إنّما أيضًا بالسَّهر والجهاد في طريق النِّعمة حتّى النِّهاية، فالإنسان معرَّضٌ في كلّ يومٍ للوقوع في الخطيئة. هذه هي حياة الإنسان، ابتداءً من القدِّيس بطرس وصولاً إلى أُسقف روما وانتهاءً بكلّ واحدٍ منّا.
إخوتي، إنّ القدِّيس بطرس هو خَيرُ مِثالٍ لنا: فكما أنّ القدِّيس بطرس تمكَّن من السَّير على الماء حين كان نَظَرُه مُثَبتًا على الربّ، وغَرِق عندما أمال نَظرَه عنه، كذلك نحن سنَغرق في الخطيئة كلَّما أمَلنا نظرنا عن الربّ، وسنَغرق كما غرِق بطرس، ولكن علينا أن نتشبَّه ببطرس أيضًا الّذي سارع إلى طلب النَّجدة من الربّ حين شَعر بأنّه يغرَق، فمدَّ يده للربّ متنظِرًا المساعدة منه، فَحَصل عليها.
إخوتي، لا يمكننا فقط طلب النَّجدة من الربّ قائلِين له: "يا ربّ، نجِّني!" (متى 14: 30) كما قال له بطرس، بل علينا أيضًا أن نَمُدَّ أيدينا للربّ كي يتمكَّن من مساعدتنا وانتشالنا مِن غَرَقِنا. إخوتي، إنّ الربّ لا يمكنه أن يخلِّصنا إن لم نَقُم بِخُطوةٍ تجاهه تُعبِّر عن رغبتِنا في الحصول على الخلاص منه. إنْ تَوقَفْنا في حياتنا المسيحيّة عند حرفيّة الإنجيل تُصبح المسيحيّة ديانةً تُبشِّر بالألم، مستندةً على كلام الربّ: "إحمِل صليبَك" (متى 16: 24)، وتدعو إلى الفَقِر:"اِذهَب، بِعْ كُلَّ ما لكَ وأعطِ الفُقراء، فَيَكون لكَ كَنزٌ في السَّماء"(مر 10: 21)، إن لم تقتَرِن بكلمة "اتبَعني". إنّ كلمة السّر للحصول على الملكوت والخلاص لا تكمن في بَيع الإنسان كلّ ما يملِك ولا في حَملِ صليبه، وتَحمُّل آلامه لِمَجد آلام الربّ يسوع، ولا في محبَّتِه لجميع النَّاس، إنّما في اتِّباع يسوع. والقدِّيس بولس الرَّسول يؤكِّد على هذا الأمر إذ يقول لنا:" إن كُنتُ أتَكلَّمُ بِألسِنَة النَّاس والملائكة ولكِنْ لَيسَ لي مَحبَّةٌ، فَقَدْ صِرتُ نُحاسًا يَطِنُّ أو صَنجًا يَرِنُّ. وإن كانَتْ لي نُبوَّةٌ، وأعلَمُ جميع الأسرار وكُلَّ عِلمٍ، وإن كان لي كُلُّ الإيمان حتَّى أنقُلَ الجِبال، ولكِن لَيس لي مَحبَّةٌ، فَلَستُ شَيئًا. وإنْ أطعَمتُ كُلَّ أموالي، وإن سَلَّمتُ جَسدي حتَّى أحتَرِق، ولكِنْ لَيسَ لي مَحبَّةٌ، فلا أنتَفِعُ شَيئًا" (1 كور 13: 1-3). في مكانٍ آخَر من الإنجيل، نقرأ أنّه لن يتمكَّن الإنسان من الدُّخول إلى الملكوت والجلوس إلى مائدة العرس، إنْ لم تكن محبّتَه للآخَرين مقرونةً باتِّباعه للمسيح.
لذلك، يدعونا الربّ إلى السَّهر، لأنّنا لا نَعلَم لا اليوم ولا السّاعة، فيَوم الربّ يأتي كالسّارق. إذًا، المشكلة في هذا النَّص تكمن في تأخُّر العريس، وفي هذا الحدث يكمن عنصر المفاجأة بالنّسبة إلى العذارى. إخوتي، ليس من شأنِي أنا المؤمن أن أعلم وقت مجيء الربّ، فكلّ ما عليّ القيام به هو الاستعداد للقاء الربّ حين يأتي. عندما يأتي الربّ ويقرع بابنا، علينا أن نكون مستعدِّين كي نَفتح له الباب من دون تَلكُؤ أو تردُّد، ريثما نحضِّر ذواتنا لاستقباله. هذا هو الفرق بين مريم ومرتا: إنّ مرتا سَعَتْ إلى الاهتمام بتحضير الطَّعام، أمّا مريم فَفَضّلَتْ الجلوس عند قدَميّ الربّ. إنّ مريم قد أدرَكت أنَّ يسوع هو النَّصيبُ الأفضل. غير أنّ الربّ لم يقلِّل من أهميّة عمل مرتا، القائم على تحضير الطَّعام بل شدَّد في كلامه معها أنّ المطلوب هو واحد، في حين أنّها تهتمّ بأمورٍ كثيرة. ولكن هذا لا يعني أنّه على مرتا التوقُّف عن تحضير الطَّعام. إخوتي، إنّ الربَّ يسوع يدعونا كي نكون في بعض الأحيان كمريم، وفي أحيانٍ أُخرى كمَرتا. ما يطلبه إلينا الربّ في نصّ مثَل العذارى هو أن نكون على مِثال العذارى الحكيمات غير أنّنا، للأسف، في الكثير من الأحيان، نتصرَّف كالعذارى الجاهلات. ما يطلبه إلينا الربّ هو أن نكون مستعدِّين لمجيئه في كلّ آنٍ وَأوان.
إنّ الربَّ يسوع يقول لنا في هذا النَّص: "اسهَروا وَصَلّوا"، ولكن في أماكن أخرى من الإنجيل، يدعونا إلى السَّهر والصّلاة لأنّ يوم مجيء الربّ سيأتي كالسّارق.
وهنا نطرح السُّؤال: ما هي مقوِّمات السَّهر كي نتمكّن من ملاقاة الربّ؟ في هذا الإطار، سأعرض عليكم بعض المعاني الأساسيّة لِما نقصده بكلمة "السَّهر":
- السَّهر بمعنى إعداد التَّدابير لمواجهة احتمال طويل الأمد: إنّ المؤمن لا يعرف متى يأتي يوم الربّ فهو يأتي كالسّارق. إذًا، كلّ ما علينا القيام به هو الاستعداد الدّائم لِفَتح الباب حين يَقرع الربُّ بابي.
- السَّهر بمعنى اليقظة: إنّ اليقظة لا تعني الاستيقاظ. إنّ الإنسان قد يكون مستيقظًا ولكنّه غير متيَّقظ لِما يدور حولَه. اليقظة تعني الانتباه لكلّ التَّفاصيل.
- السَّهر بمعنى سماع صوت الربّ بحكمةٍ: أنا أستطيع أن أكون متيَّقظًا، ولكنَّي غير منتبهٍ لكلَّ ما يدور مِن حولي. تمامًا كالّذي يجلس تحت مُكبِّر الصَّوت في أثناء حفلةٍ معيّنة، فهو لا يستطيع التَّفاعل مع أيّ حديثٍ يَدور من حوله لأنّه لا يستطيع سماع شيءٍ سِوى صوت الموسيقى الصّاخب. إنّ انتظار المؤمن لمجيء الربّ واستعداده له لا يتمّ إلّا في أثناء الصّلاة، أي في الصّمت، وبالتّالي على فِكر المؤمن أن يكون فارغًا من كلّ ضوضاء العالَم.
- السَّهر بمعنى القناعة: على المؤمِن أن يكون مقتنعًا بأنّ هذا الزَّيت الموجود بين يدَيه يجب المحافظة عليه إلى وقت مَجيء العريس، فلا يضطر إلى اقتراض الزَّيت من الآخَرين، كما حصل مع العذارى الجاهلات في هذا النَّص. إخوتي، على المؤمن، أن يُدرك ما هو الطريق الّذي اختاره في اتِّباعه للربّ، وبالتّالي عليه الاستعداد له، من خلال اليقظة وإعداد كلّ التدابير اللّازمة كي يتمكَّن من ملاقاة الربّ عندما يأتي. إذًا، على المؤمن الاقتناع بكلّ المواهب الّتي أعطاه إيّاها الربّ. إنّ كلّ إنسانٍ هو فريدٌ في العالَم، كذلك هي علاقتي بالربّ، هي فريدةٌ من نوعها، لا يوجد مَثيل لها في العالَم كلِّه. فتمامًا كما أنّ بصمة الإصبَع تختلف بين إنسانٍ وآخَر ولا يوجد لها مثيلٌ في العالَم، على الرُّغم من وجود سَبع مليارات بصمةٍ في العالَم بِعَدد سُكّان العالَم، وفي ذلك تَظهر جَلِيًّا حِكمَة الربّ؛ كذلك هي علاقتي بالربّ لا مَثيل لها في العالَم. على المؤمن أن يقتنع بمواهبه وبعلاقته الفريدة مع الربّ. ففي علاقته الفريدة مع الربّ، يستطيع كلّ إنسان أن يتقدَّس. على الرَّغم من وجود عددٍ كبير من القدِّيسين في العالَم، إلّا أن مسيرة قداسة كلّ واحدٍ منهم تختلف عن الآخَر، فالقدِّيسة رفقا تقدَّسَتْ بالألم، والأُمّ تريزيا في خدمتها للفقراء، والقدِّيس شربل في حياته النُّسكيّة، والبابا يوحنّا بولس الثّاني في التّعليم الّذي أعطاه للكنيسة الجامعة. إنّ غِنى الحياة المسيحيّة تكمن في أنَّ كلّ قدِّيسٍ سلك طريقًا للقداسة مختلفًا عن الآخَر. هذا هو غِنى الربّ يسوع، فطُرُقه لا تُحصى، إنّه الحياة، والحياة لا تُحصى.
- السّهر بمعنى الجهاد الرَّوحيّ: إنّ هذا النَّوع من الجهاد يتضمَّن الكثير من العَذَاب. إنّ انتظاري لمجيء الربّ، يتطلَّب مِنِّي جهادًا وحَربًا. في هذا الإطار، يقول لنا مار بولس إنَّه على المؤمن الجهاد في الحرب الرّوحيّة الّتي تواجهه في أثناء انتظاره لمجيء الربّ، والاستعداد لها، كما يستعدّ الجنديّ الرَّومانيّ للحرب، أي أنّه عليه الحصول على كلّ عِدَّة الحرب من خوذةٍ ودِرعٍ وما إلى هنالك من عِدَّةٍ. ويتابع مار بولس قولَه فيقول لنا إنّ هذه الحرب الرّوحيّة هي حربٌ مع قِوى الشَّر.
- السَّهر بمعنى الحراسة: في الحرب الرّوحيّة، على المؤمن أن يبقى متيّقظًا فلا تغفل عينُه ولو لِلَحظةٍ عن العدَّو كي لا يُباغته هذا الأخير ويَقضي على كلّ ما كان قد أنجزَه في هذه الحرب. على المؤمن أن يجتهد كي يحرس بيتَه مِن كلّ فِخاخ العدوّ.
- السَّهر بمعنى الرّسوخ في الإيمان: هذا أهمّ ما يُركِّز عليه مار بولس، في كلامه عن الجهاد الرُّوحيّ. كلُّ إنسانٍ يستطيع أن يؤمن بالربّ، ولكنَّ ملاقاة الربّ تتطلَّب من المؤمن السَّهر والاستعداد لذلك اليَوم. إنّ المؤمن يُدرِك أنّ الربَّ هو مخلِّصه الأوحد من كلّ الشَّرور، ولكنَّه للأسف، ينسى هذه الحقيقة عند أوّل صعوبة تواجهه في حياته، فيَبتعِد عن الربّ، ولكنْ عليه أن يتذكَّر دائمًا أنَّ لا خلاص له إلّا بعودَتِه إلى الربّ. وهنا يُطرَح السُّؤال: هل إيماني راسِخٌ في الربّ؟ إنّ الرّسوخ في الإيمان يَعني عدم السّماح لأيّ شيءٍ بزعزعةِ إيماني بالربّ، وهذا يتطلَّب سَهرًا وتَعبًا.
- السَّهر بمعنى التنبّه من الذِّئاب الخاطفة: إنّ الذئاب الخاطفة في هذا العالَم كثيرةٌ، وهي لا تُحصى. باختصار، إنّ الذئاب الخاطفة هي كلّ ما مِن شأنه أن يُبعِدني عن الربّ: على سبيل المِثال لا الحصر، الهاتِف قد يكون ذِئبًا خاطفًا، كذلك وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، والبَرد، إضافةً إلى كلّ شيء يستطيع أن يُبعدني عن الربّ حتّى وإن كانت أعمالاً صالحة، فالعَمل الصّالح قد يقودني إلى الوقوع في الكِبرياء. هذا ما حَدَث مع مار بطرس، فإنّه حين أمالَ عينَيه عن يسوع، وجَّه نَظَره إلى ذاته فَخُيِّل إليه أنّه أصبح إلهًا، إذ اعتقَد أنّه بقوَّته الخاصّة يستطيع أن يسير على المياه، كما سار الربّ يسوع، لذا غَرِق. إنّما مار بطرس، "عندما شكَّ، شَكَّ"، أي عندما شكَّ مار بطرس بِقُدرة الربّ، غَرِق في المياه.
- السَّهر بمعنى القيامة من بين الأموات: في هذا النَّص الإنجيليّ، نقرأ: "وعند نِصف اللّيل، علا الصِّياح: "هوَذا العريسُ! فاخرُجنَ للقائه!" فقامَت أولئكَ العذارى جميعًا وهيَّأنَ مصابيحَهنَّ". إنّ الإنجيليّ متّى استخدم عبارة "قامت" ولم يستخدم عبارة "نهضَت" أو "تأهَّبت" استعدادًا لاستقبال العريس. في كلّ الأعاجيب الّتي قام بها الربّ يسوع وشفى فيها مرضى، نلاحظ أنّه كان يقول لهم: "قُم" لا "قِف"، على سبيل الـمِثال، حين شفى الكسيح قال له: "قُم، احمِل سريرَك وامشِ".
- السَّهر الّذي سبقَ آلام يسوع في بستان الزيتون: في بستان الزَّيتون، كان الربّ يستعدّ لموته وقيامته من بين الأموات، وقد طلب إلى تلاميذه السَّهر معه، مُرتَجين القيامة. كذلك في العشاء الأخير، نقرأ في النَّص الإنجيليّ أنّ الربّ "قام" عن العشاء وغسَل أرجُلَ تلاميذه. كذلك، في كلّ الأعاجيب الّتي قام بها الرَّسولان بطرس وبولس، كانا يقولان للّذي يتمّ شِفاؤه: "قُم"، وعلى سبيل الـمِثال: "طابيثا قومي". إنّ كلمة "قُم" في اليونانيّة تعني القيامة، لا الوقوف والـمَشي. لذلك، كان يسوع يقول للّذي ينال الشِّفاء: "إيمانُكَ خلَّصَك"، وليس "إيمانُكَ شفاك". فإنّه لو كان يسوع يريد فقط أن يُعطي المريض شفاء الجسد، لكان قال للكسيح على سبيل الـمِثال: "قِف، واحمِل فراشَك وامشِ. إيمانُكَ شفاكَ". إنّ هدف يسوع من الشّفاء الجسديّ، هو خلاص النَّفس، أي خلاص الإنسان. لذا، كان يستخدم عبارة "قُم" ليقول له من خلالها إنّه يدعوه إلى القيامة. "إيمانُكَ خلَّصَك" تعني أنّه بإيمانَك أنتَ خَلُصْتَ، وليس فقط أنتَ شُفيتَ. إنّ الشِّفاء هو علامةٌ على حصول الأعجوبة أي علامةٌ على إيمان المريض. إنّ الإنجيل الّذي قرأناه الأحد الماضي في الكنيسة البيزنطيّة الكاثوليكيّة، تكلَّم على عَشِر بُرصٍ، وهذا النَّص الإنجيليّ يؤكِّد ما أقوله لكم: إنّ هؤلاء البُرص العَشِر، جاؤوا إلى يسوع طالبِين الشِّفاء. فأعطاهم الربّ ما يريدونه مِن دون أن يلمُسَهم طالبًا إليهم الذَّهاب إلى الكهنة ، وفيما هُم في الطريق نالوا الشِّفاء. غير أنّ واحدًا فقط مِن بينِهم قد عاد إلى الربّ ليَشكره على نِعمة الشِّفاء، فأجابه الربّ عندئذٍ: "إيمانُكَ خلَّصَكَ"، قائلاً له إنّه هو الطريق الّذي يقود إلى الخلاص.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
تنشئة روحيّة 2021-2022
"لأنِّي جُعتُ فأطعَمتُموني..." (متى 25: 31- 46)
تأمُّل للأب ميلاد أنطون المريميّ
10/1/2022
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
نُطلُب مِن الرّوح القدس الّذي حلَّ على الربّ في المعموديّة في نهر الأردنّ، أن يَحُلَّ على كلِّ واحدٍ منّا، وأن يفتح أذهانَنا وقلوبَنا حتّى نُصغيَ إلى كلمة الله الّتي ستُتلى الآن على مسامِعنا، فنتأمَّل فيها، مُنقادِين إلى توجيهات الرّوح القدس في هذا اللّقاء، الّذي هو بعنوان: "لأنِّي جُعتُ فأطعَمتُموني..." (متى 25: 31- 46).
† مِن إنجيلِ ربِّنا يسوع المسيح للقدّيس متَّى الّذي بَشَّر العالم بالحياة (25: 31- 46).
"وإذا جاء ابنُ الإنسانِ في مجدهِ، تُواكِبُه جميعُ الملائكة، يجلِسُ على عرشِ مجدهِ، وتُحشَرُ لدَيهِ جميعُ الأمَم، فيَفصِلُ بعضَهم عن بعضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخرافَ عن الجِداء، فيُقيمُ الخرافَ عن يمينِه والجِداءَ عن شِماله. ثُمَّ يقولُ الـمَلِكُ للّذِينَ عن يمينِه: "تعالَوا، يا مَن بارَكَهم أبي، فَرِثوا الـملكوتَ الـمُعَدَّ لكُم منذُ إنشاءِ العالَم: لأنَّي جُعتُ فأطعمتُموني، وعطِشتُ فَسَقيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فآويتُموني، وعُريانًا فكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجئتُم إليَّ". فيُجيبُه الأبرار: "يا ربّ، متى رأيناكَ جائعًا فأطعمناكَ أو عطشانَ فسَقيناكَ؟ ومتى رأيناكَ غَريبًا فآويناكَ أو عُريانًا فكسَوناكَ؟ ومتى رأيناكَ مريضًا أو سجينًا فجئنا إليكَ؟" فيُجيبُهم الـمَلك: "الحقَّ أقولُ لكم: كُلَّما صَنعتُم شيئًا مِن ذلكَ لواحِدٍ مِن إخوتي هؤلاء الصِّغار، فَلي قد صنَعتُموه". ثُمَّ يقولُ للّذِينَ عن الشِّمال: "إليكُم عنِّي، أيُّها الملاعين، إلى النَّارِ الأبديّة الـمُعَدّةِ لإبليسَ وملائكتِه: لأنّي جُعتُ فما أطعَمتُموني، وعطِشتُ فما سقَيتُموني، وكُنتُ غَريبًا فما آوَيتُموني، وعُريانًا فما كَسَوتُموني، ومَريضًا وسَجينًا فما زُرتُموني". فيُجيبُه هؤلاء أيضًا: "يا ربّ، متى رأيناكَ جائعًا أو عَطشانَ، غريبًا أو عُريانًا، مريضًا أو سجينًا، وما أسعَفناكَ؟" فيُجيبُهم: "الحَقَّ أقولُ لكُم: أيَّما مَرَّةٍ لم تصنَعوا ذلك لواحدٍ مِن هؤلاء الصِّغار فَلي لم تصنَعوه". فيَذهب هؤلاء إلى العذابِ الأبديِّ، والأبرارُ إلى الحياةِ الأبديّة".
المجد لك يا ربّ، المجدُ لك!
اليوم، سنعالج موضوع الدَّينونة كما وَرَد في هذا النَّص الإنجيليّ: "وإذا جاء ابنُ الإنسانِ في مجدِهِ، تُواكِبُه جميعُ الملائكة، يجلِسُ على عرشِ مجدِهِ، وتُحشَرُ لدَيهِ جميعُ الأمَم، فيَفصِلُ بعضَهم عن بعضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخرافَ عن الجِداء، فيُقيمُ الخرافَ عن يمينِه والجِداءَ عن شِماله". يقدِّم لنا هذا الإنجيل صورةً عن الدَّينونة قائمةً على مَجيء الربّ في مَجده. في كلّ يوم أحدٍ، عندما نُشارك في الذّبيحة الإلهيّة، نَتذكَّر عَملَ الربّ وتدبيره الخلاصيّ لأجلنا، فَنستعدُّ لـمَجيئه الثّاني، الّذي سيكون يومَ أحدٍ، فَهو، أي الربّ، سيأتي لِيَدين الأحياء والأموات. إنّ مَجيء الربّ سيسطَع كالشَّمس، وفي ذلك اليوم سنتمكَّن مِن رؤية يسوع المسيح وَجهًا لوجهٍ، مِن دون أقنعةٍ، كما يقول لنا بولس الرَّسول. في يوم مجيء الربّ، عندما سنَقِف في حضرَته، سنُدرِك حقيقته كما سنُدرِك حقيقتنا أيضًا. في يوم مجيئه، سنَكتشف كم أحبَّنا الله وما زال يُحبُّنا، وسنَكتَشف أنّ دعوته لنا كانت أن نكون قدِّيسِين عُظماء ولكنَّنا لم نتمكَّن من تحقيق مشروع الله في حياتنا بسبب خطيئتنا. في يوم مجيئه، سنَكتَشِف حُبَّ الله اللّامتناهي لنا مُقابِلَ حُبِّنا الضَّئيل له، لذلك سنَشعرُ بالخجل أمام الربّ، ولذا نَبتعِد عنه. تمامًا كما نخجل من إنسانٍ حَسبناه في الماضي يريد أذيَّتنا، وإذ بِنا نكتَشِف بعد مرور مُدَّةٍ من الزَّمن أنَّ كلَّ ما قام به كان لِخَيرنا، لذا نُقرِّر الابتِعاد عنه. هذا هو الخجل الّذي نَشعرُ به، نحن الخطأة، في يوم الدَّينونة، عندما نَقِف في حضرَة الرّب. في يوم الدَّينونة، لن يَحكم الربُّ علينا بل نحن مَن سنَحكم على ذواتنا؛ إذ إنّ الحُبَّ الموجود في داخِلنا هو الّذي سيَدينُنا على أعمالِنا وبالتّالي لن نُدان استنادًا إلى عدالة الربّ: هذا ما يقوله لنا آباءُ الكنيسة. إذًا، الدّينونة هي دينونة الحُبّ. إنّ الله هو الحبّ، فالمحبّة هي مِن جوهر الله لا مِن صفاته. إنَّ جوهر الله هو المحبّة، وبالتّالي دينونتُنا ستكون انطلاقًا مِن هذا الـحُبّ الّذي زرعه الله فينا، هذه النَّسمة الّتي وَضَعها الله فينا، فحين نكتشِف هذا الحُبّ سنشعُر بالخجل من الربّ بسبب ضُعفِنا. إذًا، إنّ موضوعنا اليوم يتمحور حول أهميّة الحُبّ في حياتنا وكيفيّة عيشِه. حين أتَكلَّمُ على الـحُبّ، أتكلَّمُ على الله ذاتِه، وحين أتكلَّم على حُبِّي تجاه الآخَرين، فإنِّي أتكلَّم على حضور الله فيّ.
إنَّ حُبَّ الله للبشر، قد تَجلَّى بطُرُقٍ كثيرة، خصوصًا مِن خلال الأسرار، وهنا ليس المقصود أسرار الكنيسة السَّبعة، الّتي نُشير إليها بعبارة "sacrement"، بل المقصود هنا هو"mystère" أي سِّر الخَلق وسرّ التجسُّد وسرّ الفداء. في سرِّ الخَلق، نحن نَعلَم أنّ الله خَلَقَ البشر وكلّ ما هو موجودٌ في هذا العالَم، مِن فيضِ حُبِّه تجاه يسوع المسيح. أمّا سِرّ التجسُّد، فهو تعبيرٌ واضحٌ عن حُبِّ الله للبشر، إذ أخلى الله ذاتَه وصار عبدًا، مِن خلال تَجسُّده بقوَّة الرُّوح القدُس مِن مريم العذراء، كَفِعلِ حُبٍّ تجاه البشريّة. كان باستطاعة الله أن يفتَدِينا بِكلمةٍ كما فَعلَ حين خلَقنا، إنّما أراد أن يفتَدينا الله بآلامِه وموته على الصَّليب ليُعبِّر لنا بذلك عن حبِّه تجاه كلِّ واحدٍ مِنّا.
في موضوعنا اليوم عن الدَّينونة، سنَتوقّف عند موضوع "الله- الحُبّ"، كما وَرَد في الكِتاب المقدَّس، وخصوصًا في هذا النَّص مِن إنجيل متّى، الّذي سَمِعناه اليوم. ففي هذا النَّص الإنجيليّ، نكتشِف عمقَ هذا الارتباط بين الله - الحُبّ، والإنسان المحبوب من الله: فالإنسان هو موضوع محبَّة الله، بدليل أنّ الله خلقَ الإنسان على "صورتِه ومثالِه"، أي أنّ الله وَضَع في الإنسان الحُبَّ، الّذي هو جوهر الله. إذًا، إنّ الله محبَّة، ولذلك نَجد أنّ الله هو ثالوثٌ: فالله الآب يُحبّ الله الابن، والرُّوح القدس هو تلك العلاقة الّتي تربط الله الآب بالله الابن. وهنا نستنتج إخوتي، بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يُحِبّ مِن دون وجود إنسانٍ آخَر، فالحُبُّ يجمع بين شَخصَين أو أكثر، لذا نقول إنّ الحُبّ هو علائقيٌّ. عندما يلتَقي الإنسان بالله، يكتشف أنّ الله يُحبُّه، فيَسعى الإنسان بِدَوره إلى مَحبَّة الله. إذًا، إنّ أولّ شخص يلتقي به الإنسان في حياته هو الله، ثمّ إخوتَه البشر، بَدءًا بأهلِه. إنّ هذا الإنجيل الّذي سمِعناه اليوم يُخبرنا بوضوحٍ أنّ موضوعَ حُبّي يجب أن يكون الإنسان الآخَر: فالآخَر ليس عبئًا ولا هو حاجزًا ولا هو مشكلةً، بل هو حاجةٌ ضروريّة لي كي أتمكَّن من عَيش الحُبّ؛ فمِن دون الآخَر، يُصبح الحُبُّ أنانيّةً لا انفتاحًا على الآخَر، خطيئةً لا طريقًا للقداسة. إذًا، انطلاقًا مِن هذا الإنجيل، علينا أن نُظهِر إستعدادَنا لتغيير نظرتِنا تجاه الآخَر، الجائع والعُريان والعَطشان والغريب والمريض والـمَسجون. فالآخَرُ، بالنِّسبة إليّ، يجب ألّا يكون فقط "مسيحٌ آخَر"، عليّ أن أخدمَه وأُطعِمَه وأكسوه وأزوره، إنّما هو مَنعٌ حيويٌّ، أي حاجةٌ ضروريّةٌ لي كي أُحقِّق ذاتي وأُقدِّسها، وبالتّالي أُقدِّس العالَم مِن حَولي.
في الكتاب المقدَّس، مِئاتُ الآيات الّتي تتكلَّم على موضوع حُبّ الله وحُبّ الآخَر، غير أنّي اختَرتُ بعضًا منها لنَتَوقَّف عندها.
- يُخبرنا القدّيس مرقس في إنجيله، عن مَجيء شابٍ غنيٍّ إلى يسوع ليسأله عن الشريعة والوصايا، فأجابه يسوع بهذه الوصيّة الرائعة، وصيّة العهد الجديد، ومِن خلاله يقول الربّ لِكلِّ واحدٍ منّا: "أحبِب الربَّ إلهَك مِن كلِّ قلبِكَ، ومِن كلِّ نفسِك، وكلِّ فكرِك، وكلِّ قوتِّك. وأَحبِب قريبَك كَنَفسِك"(مر 12: 30- 31). إنّ حُبَّ الله وحُبَّ القريب، هما وَجهان لعُملةٍ واحدةٍ، وجَهان لا ينفصل أحدهما عن الآخَر إذ إنّهما يُكمِّلان بعضهما البعض. فالإنسان لا يمكنه أن يُحبّ الله مِن دون أن يُحِبّ الآخَرين. في شَرحٍ سريعٍ لهذه الآية الكِتابيّة، نقول:
• أن تُحِبّ مِن كلِّ قلبِك، فهذا يعني أن تُحِبَّ بكلِّ عاطفتِك، بكلِّ جوارحِكَ.
• أن تُحِبّ مِن كلِّ نفسِك، فهذا يعني أن تُحِبّ الآخَر بكلِّ حواسِك، أي أن تستخدم حواسَك الخمس الّتي أعطاك إيّاها الله، كالنَّظر والسَّمع واللَّمس، في التَّعبير عن محبَّتك للآخَر، فحُبُّنا للآخَر لا يكون حبًّا مجرَّدًا بل حُبًّا ملموسًا.
• أن تُحِبَّ الآخر مِن كلِّ فِكرِك: فهذا يعني أن يكون كلُّ تفكيرك موجَّهًا نحو حُبّ الله وحُبّ القريب.
• أن تُحِبّ الآخَر مِن كلِّ قوتِّك: فهذا يعني أن تُحِبّ الآخَر بكلِّ قوتِّك الجسديّة، أي مِن خلال كلّ النِّعم الّتي أعطاك إيّاها الله فتَخدُم الآخَر بشكلٍ ملموسٍ، فتُطعِم الجائع، وتكسو العريان، وتزور السَّجين، وتواسي المريض...
إذًا، في هذه الآية الّتي هي خُلاصة الشَّريعة والأنبياء، نرى بشكلٍ واضحٍ، كيف أنّ حُبّ الربّ هو الوجه الآخَر لمحبّة القريب.
- في إنجيل متى، يقول لنا الربّ يسوع: "إذا قدَّمتَ قُربانِكَ إلى المذبح، وهناكَ تذكّرتَ أنَّ لأخيكَ شيئًا عليكَ، فاترُك قربانَك أمام الـمَذبح، واذهَب أوَّلاً وصالِح أخاك، ثُمَّ عُدْ وقرِّب قربانَك"(متى 5: 23-24). إنّ تقديم القربان إلى المذبح هو أقدسُ عملٍ يمكن للإنسان القيام به تجاه الربّ، وذلك في القدَّاس الإلهيّ. في هذه الآية، يؤكِّد لنا الربُّ يسوع مَرَّةً جديدةً أنّ أخانا الإنسان يأتي في المرتبة الأولى، أي قَبْل القدَّاس الإلهيّ، قَبْل الذبيحة، قَبْل القربان، قَبْل اللّيتورجيّة. في لبنان، مَثَلٌ شائعٌ يقول: "أخوك قبل أبيك"، والمقصود بهذا الكلام هو أبانا السَّماويّ، إذ إنّه مِن غير المستطاع أن نَصل إلى الله إلّا من خِلال أخينا الإنسان، وخصوصًا مِن خلال القيام بأعمال رحمةٍ تجاهه. إذًا، هذه الآية تؤكِّد لنا أيضًا أنَّ حُبَّ الإنسان لله مرتبطٌ بِحُبِّه للإنسان الآخَر.
- إنّ يوحنَّا الرَّسول الّذي عاش مع الربّ يسوع، واختبر القائم مِن بين الأموات، فترةً من الزَّمن قاربَتْ السِّتين سنةً، يقول لنا في رسالته الأولى: "إنْ قالَ أحدٌ إنِّي أُحبُّ الله وأبغضَ أخاه فهو كاذب، لأنَّ مَن لا يُحِبُّ أخاه الّذي يراه، كيفَ يقدر أن يُحِبَّ الله الّذي لا يراه؟"(1يو4: 20). هنا أيضًا، نجد تركيزًا على أنّ محبّة الله مرتبطةٌ بحُبِّي للآخر، وخصوصًا الجائع والعطشان والعريان والمريض، الّذي كلَّمنا عليهم الإنجيل الّذي سمعناه اليوم.
- بعد قيامة الربّ من الموت وبعد نكران مار بطرس له، يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنّ الربَّ يسوع قد ظَهر لبطرس، وسأله قائلاً: "يا سِمعان بن يونا، أتُحبَّني أكثر من هؤلاء؟"(يو 21: 15). وبالتّالي، أراد الإنجيليّ أن يُخبرنا أنّ الربّ يطلب إلينا، مِن خلال هذا الحدث، أن ننظر إلى الآخَر الـمُخطِئ تجاهنا، نظرةً جديدة، أي أنّ ما يطلبه إلينا الربّ هو أن ننظر إلى قلب أخينا الإنسان لنتمكَّن من رؤية الله في داخله. بَعد جواب بطرس: "نَعَم، يا ربّ، أنت تَعلم أنِّي أُحبُّك"(يو 21: 15) على سؤال الربّ يسوع له، قال له الربّ يسوع:"إرعَ خرافي"(يو 21: 15)، وهذا يعني أنّ الربَّ قد أوكلَ إليه مَهمَّة الاهتمام بإخوته تعبيرًا عن حبِّه للربّ. إذًا، هنا أيضًا يبدو لنا واضحًا هذا الارتباط الوثيق بين حُبّ الله وحُبّ القريب.
- عندما زار يسوع المسيح بيت متى العشَّار (سمعان الفريسيّ)، دخَلَتْ امرأةٌ خاطئةٌ فجلسَت تَغسِل رِجلَيّ الربّ. ونلاحظ في هذا النَّص أنّ سِمعان الفريسيّ قد اشتكى إلى يسوع عن تصرُّف هذه المرأة، فأجابه الربّ عندئذٍ قائلاً له: إنَّ هذه المرأة "قد غُفِرَت خطاياها الكثيرة لأنَّها أحبَّت كثيرًا" (لو7: 47). وهنا أيضًا، مرَّةً جديدة، نجد أنّ الحُبّ هو المقياس الوحيد الّذي علينا اعتماده في حياتنا، مع الآخَرين وعليه أن يكون ملموسًا كما أخبرنا الإنجيل، موضوع لقائنا.
إنّ إنجيل اليوم يُعطينا طريقةً عمليّة، نُتَرجِم مِن خلالها حُبَّنا للآخَر، فمِن خلال هذه الطريقة الّتي يُقدِّمها لنا هذا الإنجيل يُعلِّمنا الربّ كيفيّة عَيش الحُبّ. فَنحن نعيش الحُبّ حين نُطعم الجائع ونسقي العطشان، ونأوي الغريب ونكسو العريان، ومِن خلال كلّ عملِ رحمةٍ نقوم به تجاه الآخَر.
في الختام، أريد أن أقول لكم إنَّ الكِتاب المقدَّس، بِعَهديه، يحتوي على آياتٍ كثيرة تتناول موضوع عيش الحُبّ مع الله مِن خلال عيش الحُبّ مع الآخَر. ولكنّ الوقتَ المتاحَ لنا الآن لا يكفي كي نتطرّق لها جميعها. لذا، أودُّ التَّركيز بشكلٍ خاصّ على الوصيّة الأولى الّتي يدعونا فيها الربّ مِن خلالها إلى أن نُحِبَّه مِن كلِّ قلبِنا ومِن كلِّ فكرِنا، ومِن كلِّ قوَّتنا، وإلى أن نُحِبَّ الآخَر بالطريقة الّتي أخبرَنا عنها إنجيل اليوم، أي من خلال أعمال الرَّحمة الّتي علينا القيام بها تجاه الآخَر. كما أودُّ التَّركيز على ضرورة التحرُّر مِن هذا الوسواس الموجود في فِكرنا القائم على خوفنا مِن ارتكاب الخطيئة كالكَذب والزِّنى والسَّرقة. إخوتي، نحن مدعوون اليوم إلى أن نُحِبّ وأن نَفعل ما نشاء عندها، كما أنّنا اليوم مدعوون لمحبّة الله وتحقيق ذواتِنا من خلال السَّير في طريق القداسة.
هنا أريد أن أقول لكلّ أفراد جماعة "أذكرني في ملكوتك" إنّه إذ نَظرنا إلى دينونة الربّ، بالطريقة الّتي يَعرِضها علينا هذا النَّص الإنجيليّ، فإنّ ذلك مِن شأنه أن يُحفِّزنا كي نُحِبَّ الآخَر بشكلٍ أفضل، وخصوصًا في ظلّ هذه الظروف الّتي نَعيشها. فمِن خلال أعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها تجاه الآخَرين، نُخلِّص نفوسَنا ونُخلِّص نفوسَ الآخَرين، كما نستطيع أيضًا تخليص عددٍ كبيرٍ من الأنفُس المطهريّة. إنَّ عمل الرَّحمة والصَّلاة هما عَمَلان متوازيان، هُما جانحَا الطَّير، هما اليَدان اللّتَان مِن خلالهما نُحقِّق قداسة نفوسِنا فَنُخلِّص نفوسنا ونفوس الآخَرين. أدعو جميع الأعضاء في هذه الجماعة المبارَكَة، في هذا الزَّمن الّذي نعيشه، إلى التّركيز على عمل الرَّحمة، خصوصًا في زمن الصَّوم الّذي سَنَدخُل فيه قريبًا، فَنُساهم في تخليص نفوسٍ كثيرةً، ليس فقط مِن خلال الصَّلاة والذبيحة الإلهيّة، إنَّما أيضًا مِن خلال أعمال الرَّحمة الّتي دعانا الربّ مِن خلالها إلى عَيش الحُبّ.
ملاحظة: دوِّنت من قِبَلِنا بتصرُّف.
تتمة...تنشئة روحيّة 2021- 2022
تأمّل إنجيليّ
"إحياء ابن أرملة نائين"
للخوري لويس سعد
خادم رعيّة مار جرجس- غوايا، القبيات.
13/12/2021
فقال لها:"لا تبكي! ... يا فتى، أقول لكَ: قُم!" (لو 7: 11- 16)
† مِن إنجيلِ ربِّنا يسوع المسيح للقدّيس لوقا الّذي بَشَّر العالم بالحياة (لو 7: 11- 16)
"وذَهبَ بَعدئذٍ إلى مَدينةٍ يُقالُ لها نائين، وتَلاميذُه يَسيرون مَعهُ، وجَمعٌ كثير. فَلمَّا اقتَربَ مِن باب المدينةِ، إذا مَيْتٌ محمولٌ، وهو ابنٌ وَحيدٌ لأُمِّه وهي أرملة. وكان يَصحَبُها جَمعٌ كثيرٌ مِنَ الـمَدينة. فَلمَّا رآها الربُّ أَخذَتهُ الشَّفَقةُ عليها، فقال لها: "لا تبكي!" ثمَّ دنا مِنَ النَّعش، فلَمَسهُ فَوَقفَ حامِلوه. فقالَ: "يا فتى، أقولُ لكَ: قُم!" فجَلسَ الـمَيْتُ وأخذَ يتكلَّم، فسَلَّمه إلى أُمِّه. فاستَولى الخَوفُ عَلَيهم، فمَجَدّوا الله قائلِين:"قامَ فينا نبيٌّ عظيم، وافتَقدَ اللهُ شعبَه!" الـمجد لك يا ربّ!
الشُّكر لكم؛ والشُّكر لكلِّ مَن يبحث عن كلمة الله، عبرَ كافةِ وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، لأنّ في قلبه رغبةً في سَماع صوتِ الله كما يبحث عن إسماعِ الربِّ صوتَه.
بارِكْنا يا ربّ، وبارِكْ هذا اللِّقاء، بارِكْ كلَّ صرخاتِ الّذين يريدون أن يَلمُسوا وَجهك في ملكوتك. جُلَّ همِّنا يا ربّ، ألّا تنسانا. ولكن مَن يقترِب مِنكَ حقيقةً، يُدرك أنّنا نحن الّذين ننساكَ في حين أنَّك لا تنسى أحدًا منّا. أعطِنا في هذا المساء المبارَك، مع هذه الجماعة، ومع كلّ الحاضِرين الّذين يريدون سماعَ كلمتِكَ، أن تكون كلمَتُك مصدرَ حياةٍ لنا، طالبِين إليكَ ألّا تسمح لأيّة دمعةٍ أن تسقط مِن عيوننا إلّا وهي تُمطِر بركات. آمين.
إخوتي، في غالبيّة النُّصوص الإنجيليّة، نلاحظ أنّ المرضى الّذين يحتاجون إلى شفاء مِن الربّ يسوع يتواجدون عند "بابَ مدينة"، أو عند "قارعة الطَّريق"، أو عند "باب أريحا". وفي هذا النَّص الّذي نتأمَّل فيه اليوم، هناك شابٌ، كانت الحياة أمامه، تُودِّعه أمُّه الأرملة. كان هذا الشَّابُ، بالنِّسبة إلى أمِّه، كلَّ ما تَملِك في هذه الحياة، كان الرِّزق الّذي تَملِكه،كان ضمانتَها الوحيدة في هذه الحياة. في قلب الحُزن والألم، نَطرح على الربّ ألفَ سؤالٍ وسؤالٍ مِن دون أن نلقى منه أيَّ جوابٍ عن أسئلتنا. في ظلّ معاناتِنا، نلاحظ أنّ الربَّ يبقى صامتًا، فيُخيَّل إلينا أنّه صَنمٌ. غير أنّ الّذين اختبروا الألم في حياتهم، خصوصًا عند فقدانهم لِشخصٍ عزيزٍ بالموت أو عند مرافقتِهم لمريضٍ، اكتشفوا أنَّ صمتَ الربّ هو دعوةٌ لهم للتأمِّل في عَمَلِه، خصوصًا عندما يكون الإنسان عاجزًا عن القيام بأيّ شيء. إنّ حديثَنا اليوم سيتمحور حول الأرملة لا حول ابنِها قَبْلَ وفاته. هنا أدعوكم إخوتي، كي يَضع كلُّ واحدٍ منّا نفسَه مكان هذه الأرملة - فكلُّ واحدٍ منّا قد فقَدَ شخصًا أو شيئًا عزيزًا عليه في هذه الحياة- لنتمكَّن مِن رؤية إنسانيّة يسوع الّتي ظهرَت في هذا النَّص، بِحَسب قَولِ اللّاهوتيِين. عند رؤيته لموكب الجنازة، يخبرنا النَّص أنّ مشاعر الربِّ يسوع قد تحرَّكتْ، فدفعته إلى الاقتراب مِن النَّعش ولمسِه والتحدّث إلى الشّاب. إنّ هذه التصرُّفات تجعلُنا نُدرِك أنّ الربَّ ليس بِبَعيدٍ عنّا.
في بداية حديثنا اليوم، سأطرح عليكم سؤالَين، مِن شأنهما أن يساعدانا على وَضع أنفسِنا مكان هذه الأرملة.
السُّؤال الأوّل هو: لماذا أوقَف الربُّ بكاءَ هذه الأرملة؟
والسُّؤال الثاني هو: لماذا قام الربُّ بِلَمسِ النَّعش؟
كم أتمنَّى لو نتشارَك في كلّ كلمةٍ يَضَعها الربَّ في قلوبنا. إخوتي، إنّ الربَّ يطلب إلى كلِّ واحدٍ منّا ألّا يخاف وألا يخجل مِن التَّعبير عمّا يَضعه الله في قلبه، وأن يتجرّأ ويُخبرنا ماذا رأى أوّلاً في طلبِ الربّ إلى الأرملة التوقُّف عن البكاء، وثانيًا في لَمسِ الربّ نعشَ ابن الأرملة.
لقد رأيتُ في لمسة الربّ للنَّعش، لمسةَ رجاءٍ، تلك اللّمسة الّتي يمنحنا إيّاها الربّ في قلبِ حزننا.
إذا وَضَعْنا ذواتَنا مكان الأرملة، وشاهدنا الربَّ واضعًا يَده على ابنِنا، أي على أكثرِ شخصٍ نُحبّه في هذه الحياة، أو على أكثر شيءٍ في داخِلنا قد انجرح وخسرناه، ما هي المشاعر الّتي قد تختلج في قلوبنا؟ فلنتخيّل أنّ ربَّنا قد أتى إلينا اليوم ولمسَ هذا الوجع الّذي في داخلنا، أو هذه الخسارة الّتي تعرَّضْنا لها.
تشجَّعوا إخوتي، إنّنا نجِدُ سهولةً في التكلُّم على مصائب الآخَرين، ولكن طوبى لِمَن يسمح للرّوح القدُس أن يُخرِج وجعَه من داخله. وأنا أعتقد أنّ ما يجمعُنا بِجَماعة "أذكرني في ملكوتك"، هو أنّنا اجتَهدنا على إخراج أوجاعنا إلى العَلن، فتَحوَّل هذا الحزن الموجود في داخلنا إلى علامةِ فَرَحٍ ونِعمة وبَرَكة. في هذا النَّص، لا يُكلِّمنا الربُّ على أرملة نائين وحَسب، بل هو يُخبرنا عن كلِّ واحدٍ منّا، لذا رجاءً، إخوتي، فَلنَسمع صوتَ الربّ، ولا نُقَسِّي قلوبَنا. إخوتي، إنّ إخراج وَجعَنا مِن الدَّاخل إلى الخارج مِن شأنه أن يُشكِّل دَعمًا للآخَرين: ففي الكثير من الأوقات، يلمس الربُّ قلوبَنا في منتصَف "الطريق"، في منتصف مسيرتنا في هذه الحياة، ويطلب إلينا أن نتوقَّف عن القيام بأمرٍ ما، كما فعَلَ مع الأرملة في هذا النَّص.
مساء الخير، إخوتي، ما لَمسني في هذا النَّص، هو أنّ عَينَ الربّ تبقى ساهرةً علينا. ففي خِضَمّ تَعبِنا ووجَعِنا في هذه الحياة، لا نستطيع رؤية الربّ بالعَين المجرَّدة، لذا نعتقد أنّنا وَحدَنا في مواجهة هذه الأزمة أو تلك، فيُسَيطر علينا اليأس. ولكن في الحقيقة، اكتشفتُ مِن خلال اختباري أنّ الربَّ هو أبٌ لنا، وأنّه لا يترُكنا أبدًا، وأنّه يبقى إلى جانبِنا وهو يُشدِّدنا ويقوِّينا ويعزِّينا لنتخطّى صعوباتنا في هذه الحياة. عندما يَلمسُ الربُّ قلبَنا، فإنّه يمنحنا الفرح والسّلام لأنّه هو الفَرَح الحقيقيّ والسّلام الحقيقي. عندما يلمس الربُّ قلبَنا، ننسى الألم والحزن. عند دخوله إلى حياتنا، يشجِّعنا الربّ على بناء علاقةٍ قويّةٍ معه، تساعدنا على التعرّف إليه أكثر فأكثر، ممّا يمنح قلوبَنا التعزيّة الّتي نحتاج إليها. وشكرًا.
إنّ الإنسان ينظر إلى وَجعه بَعد أن يكون قد تخطّاه. ففي قلب الوجَع والحُزن، يشعر الإنسان أنّه وحدَه في هذه الحياة. وهذا ما عبَّر عنه هذا النَّص الإنجيليّ، حين استخدم عبارة "باب المدينة"، وقَصَدَ بها ذلك المكان الّذي لا حياةَ فيه، فالشَّاب والأرملة كانا ذاهِبَين إلى مكانٍ لا حياة فيه. في الكثير من الأحيان، حين نرى نعشَ أحدهم، نُسارِع إلى التأسّف على موت هذا الإنسان، ونَشكر الله ضِمنيًا على أنّ هذه المصيبة قد أصابَتْ غيرنا، ولم تُصِبنا. في هذا النَّص، يأتي الربَّ ليقول لنا إنّه يتكلَّم على وَجع كلِّ واحدٍ منّا، على مُصيبته الخاصّة. مِن خلال وجودنا في جماعة "أذكرني في ملكوتك"، يريد الربُّ أن يقول لنا "توقَّفوا، فأنا أريد أن ألمسَكم". وبالتّالي، إخوتي، إذا أردْنا أن نسمع صوتَ الربّ في قلوبنا، فهذا يعني أنّه على قلوبنا أن تكون مليئةً بالدِّفء والحرارة، كي نتمكَّن مِن الولادة مِن جديد مع الربّ، فإنّ هذه الولادة تَنبعُ من الدَّاخل. إنّ ولادَتنا الجديدة تَظهر إلى العَلن، عندما نسمَح لها بِذَلك، أي عندما نُعبِّر عمّا في قلوبنا.
في المشهد الأوّل مِن هذا النَّص، نلاحظ أنّ الأرملة بَقِيَت صامتةً طول الطريق، في حين أنّ الجموع المحيطة بها كانت تُشيد بمزايا تلك الأرملة. كانت الجموع تبكي على الأرملة، لا على ابنها، فهذه الأرملة، بوفاة ابنها، قد خَسِرَت كلّ ما تَملِك في هذه الحياة. هذه هي إحدى ثمار الحياة الـمُشتركة. حين تُلغى الحياة المشتركة، يُسارِع الإنسان إلى طَرح الأسئلة على ذاتِه لمعرفةِ سببَ حصولِ هذه المصيبة معه، فَيَعتقد بعد قيامِه بفحصِ ضميرٍ، أنّ ما أصابه هو عبارةٌ عن قصاصٍ حصلَ عليه نتيجةَ عملٍ خاطئٍ قام به في حياته. في ظلّ الحزن الّذي نتعرَّض له، يَضع الربُّ في طريق حياتنا أشخاصًا، هُم علاماتُ تعزيةٍ ورجاءٍ لنا، ولكنْ تَبقى للربّ كلمةً يقولها. إنّ الربَّ ينتظرنا، عند بابِ حياتنا الاجتماعيّة، للِّقاء بنا، فالربُّ لا يَقبل أن يكون الموت الّذي نعاني منه موتًا نهائيًا لنا، لأنّه يرغب في تحويل موتِنا هذا إلى علامةِ حياة. في داخل كلِّ إنسانٍ، موتٌ لا يَبكيه أحدٌ ولا حتّى الإنسان نفسَه، يكمن في عيشِ هذا الأخير بعيدًا عن نِعمة الله وهو لا يَعلم بِذَلك، فيكون هذا الإنسان مَيتًا مِن دون أن يُدرِك ذلك. اليوم، يريد الربُّ أن يدخل إلى "نائين"، أي أنّه يريد أن يدخل إلى قلب كلِّ واحدٍ منّا، ليقول كلمتَه.
والآن أريد أن أسمع صدى كلمة الربّ مِنكم، إخوتي. إنّ الرّوح يتمخَّض فينا، لأنّه يرغب في الخروج مِن داخلنا، على الرُّغم مِن محاولاتِنا المتعدِّدة لإبقائه مسجونًا في داخلنا. إنّه يتمخَّض فينا أكثر فأكثر، لأنّه يريد أن يتفجَّر إلى الخارج، لذا رجاءً إخوتي، لا تُوقِفوه فيكم بل ساعدوه كي يَخرجَ إلى العَلن. إنّ الوقت الآن متاحٌ لنا كي نتشاركَ خُبراتِنا الخاصّة، فكلُّ واحدٍ منّا قد عاش اختبار هذه الأرملة، فكلُّ واحدٍ منّا هو هذه الأرملة لأنَّه فقَدَ شيئًا في حياته أو خسِرَ إنسانًا عزيزًا على قلبه، مِن دون أن يعرف سببَ فقدانه له. إنّ الإنسان قد يخسَر شيئًا خارجًا عنه، كما قد يخسر شيئًا في داخله، وفي الحالَتين يشعر بأنّه متروكٌ من الربّ، وأنّه ضحيّةٌ بين أهله وأقاربه وبيئتِه وعَملِه، مِن دون أن يحصل على جوابٍ من الربّ يُفسِّر له سببَ تعرُّضه لهذه الخسارة. اليوم، إخوتي، يأتي هذا النّص، ليُخبرنا أنّ الربَّ جاء ليتدخَّل في حياتنا مِن جديد، ولذا هو يطلب إلينا أن نتكلَّم.
ما هو قَصدُ الربِّ يسوع من اقترابه مِن النَّعش ولَمَسِه، والقول للفتى "قُم"، مع العِلم أنّ هذه الأرملة لا تَعرِف يسوع، وبالتّالي، فالربّ لم يُقِم ابنَها نتيجةَ إيمانها به؛ على عكس النّازفة الّتي نالت الشِّفاء مِن مرضِها، بسبب إيمانها به. والسُّؤال هو: هل بالإيمان وبِغَير الإيمان يتمُّ الشّفاء مِن الربّ؟
هذا السُّؤال هو سؤالٌ مِحوريّ، ونحن بحاجةٍ كي تُعطينا أُمّنا الكنيسة الجواب الشّافي عنه. أوّلاً، إنّ الله ليسَ تاجرًا لديه مشاريع، ويَبحث عن شركاءَ له قادرين على تقديم الرِّبح الوفير له! إنّ الربّ يتشارك، لتَحقيق مشاريعه، مع أشخاصٍ يُسبِّبون له الخسارة في كلِّ عملٍ يقوم به. إنّ الإيمان ليس مِعيارًا يرتكز عليه الربّ كي يلمسَ قلوبَنا، فَحُبُّ الربِّ وحده هو كافٍ لِشفائِنا. للأسف، في الكثير من الأحيان، لا يجرؤ الكثيرون مِنّا على الإعلان عن حاجاتهم أمام الربّ، إذ يعتقدون أنّه من الطَّبيعي أن يتعرَّض الإنسانُ لظروفٍ صعبةٍ في حياته، ولا ينجح في الخروج منها جميعها. ولكن، هل نستطيع إنكار عناية الله الدّائمة بنا؟! في الكثير من الأوقات، يتكلّم الربّ إلينا مِن خلال كلمةٍ صَدَرت مِن عابرِ سبيل، كما يستطيع الربّ أن يكلِّمنا مِن خلال لقائنا بشخصٍ ما، أو مِن خلال رؤيتنا لِحُلمٍ، أو مِن خلال ظهورٍ. وبالتّالي، ليس مِن الضروريّ أن يكون الإنسان مؤمِنًا حتّى يُفيضَ الربّ عليه عطاياه. وخَيرُ مِثالٍ على ذلك هُم الأهل، الّذين لا يتردَّدون عن تقديم الطَّعام لأولادهم، والاعتناء بصحتّهم، أكان هؤلاء مُطيعِين لهم أم لا. إنّ الربَّ يمنحنا عطاياه، أكُنّا مستحقِّين لها أَم لا، لأنّنا أبناؤه. استنادًا إلى الشَّريعة اليهوديّة، لا يجوز لأحدٍ الاقتراب مِن النَّعش ولَمسِه إلّا أهل الفقيد، لئلّا يتنجَّس، وبالتّالي يُصبح محتَّمًا عليه، كما أهلُ الفقيد، اتِّباع إراشادات التَّطهير كما تقتضي الشريعة، الّتي تمتَّد إلى فترةِ أسبوع، قَبْل عودَتهم إلى مخالَطة الجماعة مِن جديد. في هذا النَّص، تخطّى يسوع الشَّريعة اليهوديّة، إذ لم يخَفْ مِن أن يتنجَّس جرّاء لمسِه النَّعش، بل تجرّأ على الاستجابة لصَرخاتِ الجموع الّتي كانت تُرافِق هذه الأرملة. إخوتي، هناك مَثلٌ شائع يقول: "إفعَل الخير وارمِه في البحر". في الحقيقة، لا شيءَ يُرمى في البَحر مع الربّ، فالربّ يَحفَظ كلَّ ما نقوم به مِن خيرٍ، ويُعيده إلينا في الوقت الّذي نحتاج إليه. بعد لَمسِه النَّعش، أمرَ الربُّ الشّابَ قائلاً له: "يا فتى، لكَ أقولُ قُم!" (لو 7: 14). إنّ الربَّ قد استخدم هذه العبارة أيضًا مع لعازر حين أقامه من الموت. إنّ استخدامَ لغةِ الأمر هو دليلٌ على الحضور الإلهيّ، الّذي لا ينتظر إذنًا مِنّا كي يُعطينا الحياة الّتي نريدها بِقُوّةٍ. عندما يكون جسدُنا غيرَ قادرٍ على إعطائنا الحياة، يأتي الربُّ ليُعطي الحياة مِن جديد لهذا الجسد المائت. بعد إقامته لِهذا الشَّاب، فتَح الربُّ حوارًا معه، إذ يقول لنا النَّص إنّ هذا الشّاب أخذ يتكلَّم، ثمَّ يُضيف قائلاً لنا إنّ الربَّ قد سلَّمه بعد ذلك إلى أمِّه. وهنا يُطرَح السُّؤال: إلى مَن كان هذا الشَّاب يتكلَّم بَعد إقامته من الموت وقَبْلَ تسليمه إلى أُمِّه؟ قَبْلَ موته، كان هذا الشَّاب يتكلَّم إلى الربّ، ولكنّ موتَه أوَقف هذا الحوار بينهما؛ فما كان مِن الربّ إلّا أن أعادَ لهذا الشّابِ الحياةَ ليُتابِع حوارَه مع الربّ، فالربُّ لا يقطع أيَّ حوارٍ بينه وبين الإنسان، حتّى بَعد الموت. إذًا، ليس السِّرُّ في هذا النَّص أنّ الشَّابَ عاد إلى الحياة، فهذا الشَّاب سيَموت بَعد مُدَّةٍ من الزَّمن، مهما قَصُرَت أو طالَت، كما يموت كلُّ إنسانٍ.
هنا أرغب في سماعِ أسئلتكم أو مشاركاتِكم لأنّ كلَّ كلمةٍ تَصدر مِنكم قادرةٌ أن تُشعِلنا مِن جديد، بكلمة الله.
إنَّ الربَّ يسمح بالألم، في فترة المرض، فيَكونُ هذا الألم بمثابة عمليّة تطهيرٍ للإنسان مِن خطاياه. ولكن، في بعض الأحيان، قد يموت الإنسانُ فجأةً، مِن دون أن يكون هذا الأخير قد استعدَّ للقاء الربّ وجهًا لوجه، مِن خلال سرّ التَّوبة. هنا نسأل: ما هو مصير هذا الإنسان الّذي لم يَحظَ بِفَترةٍ زمنيّة للتَّوبة أي للعودة إلى الله، قَبْل موته المفاجئ؟
أوّلاً، إنّ اللهَ لا يمنعُ الألم، وبالتّالي هو لا يسمح بالألم. في النِّظام الّذي وَضَعه الربّ، جميعُ المخلوقات معرَّضةٌ للموت والألم لأنّها مخلوقاتٌ ضعيفة، فهي ليسَت الله. إنّ كلَّ إنسانٍ يَحمِل في ذاتِه جيناتٍ وَرِثها عن أبَويه: مِنها ما تحمل أمراضًا، ومِنها ما تحمل احتياجاتٍ خاصّة، أي بمعنى آخَر، نحن نَرِث الضُّعف. كما أنّنا نتعرَّض لحوادثَ في حياتِنا، أكانت عامّةً أو خاصَّة. إنّ كلَّ ما خلقَه الله، سيَنتهي يومًا ما. لذلك، عندما خَلَق الربُّ هذه الحياة، لم يَضَع فيها أمورًا مسموحةً وأخرى ممنوعةً. غير أنَّ الإنسان قد يتعرَّض في حياته الأرضيّة إلى حادثةٍ معيّنة أو مَرضٍ معيّن، يدفعه إلى استعراضِ حياته سريعًا، فيَكتشف مِن خلال ما حدثَ معه أنّ الربَّ يُنبِّهُه إلى أمرٍ ما، فيتوب إليه. في حين أنّ آخرين قد يتعرَّضون لمرضٍ أو حادثة، فيموتون على إِثر ما تعرّضوا له سريعًا، وبالتّالي، لا يملكون الوقت للقيام بِفَحصِ ضميرٍ والعودة إلى الله في سرّ التَّوبة.
وهنا، سأتوقَّف عند القسم الأوّل مِن السَّؤال، وهو إذا تعرَّضَ الإنسان لحادثٍ وامتَلكَ الوقت لمراجعة حياته: نلاحظُ أنّ البعض يعتبرون نجاتهم ممّا تعرّضوا له، هو نتيجة حظِّهم الجيّد، فيعتبرون أنّ الّذين ماتوا قد كانوا سَيئي الحظّ. أمّا البَعض الآخَر من النَّاس، فيعتبرون أنّ كلَّ ما يحصل معهم هو علاماتٌ مِن الربّ لهم، هنا نتذكَّر قَول بولس الرَّسول:" فإذا كُنتُم تأكُلون أو تَشرَبون أو تَفعَلون شَيئًا، فافعَلوا كُلَّ شَيءٍ لِمَجدِ الله" (1كور10: 31)، وبالتّالي، فإنَّ كلَّ ما نَملِك هو من الربّ. في الكثير مِن الأحيان، حين نتعرَّض لألمٍ مُعَيّنٍ، نلاحظ أنّ الإنسان المتألِّم فقط يستطيع أن يفهم ما نشعر به ونقوله؛ كذلك الأمر عندما نجوع، إذ نلاحظ أنّ الجائع وحدَه يستطيع أن يفهَم ما نَشعر به. إنّ يسوع قد عاش قمّة الفَقر في حياته: مِن الميلاد في مِذود، والعيش غريبًا في قريته الأُّم، قرية مار يوسف، إلى الموت على الصَّليب عُريانًا. إنّ الربَّ يسوع قد اختبر الفَقر، خصوصًا أنّه قال للّذين يتبعونه إنّ ابنَ الإنسان لا يَملك ما يُسنِد إليه رأسه. وهنا نَطرح السُّؤال: أَلَم يتمكَّن الربُّ، هذا الإنسان الفقير، مِن أن يُغني الكثيرين؟ أقول لكم: بلى! فإنّنا لا نزال حتّى اليوم نغتني منه، والدَّليل هو أنّ لِكلِّ واحدٍ مِنّا قصَّةَ حبٍّ مع هذا الإله. عندما يكون الإنسانُ غيرَ ناضِجٍ روحيًّا، فإنّ القدِّيسِين يأتون إلى مساندته والتشفُّع له عند الربّ. وبالتّالي، جميع المؤمنين هم رابحون، لأنّه ما أُقصِّرُ به مِن حُبٍّ في هذه الحياة، يُكمِّله القدِّيسون شُفعاؤنا، أحبّاء الله. وهنا نتذكَّر قول الرَّسول لنا إنّنا نُكمِّل في جسدنا ما نَقُصَ من آلامٍ في جسدِ المسيح، أي أنّه علينا أن نحملَ نقائصَ بعضِنا البعض. طوبى إخوتي، للّذي يبقى ابنًا لله، ويعرِف البيت ويعلَم ما في البيت، في هذا الإطار، نتذكَّر قَول الربّ لتلاميذه: "لا أعودُ أُسَمِّيكُم عبيدًا، لأنّ العَبدَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه، لكنِّي قد سَمَّيتُكُم أحِبّاء لأنّي أعلَمتُكُم بِكُلِّ ما سَمِعتُه مِن أبي". (يو 15: 15). إذًا، إنّ دورَ المؤمِن يكمن في أن يَحمل غير المؤمِن، ودَور الإنسان النَّاضج روحيًّا يكمن في أن يحمل الإنسان غير النَّاضج روحيًا. هذه هي شَرِكة القدِّيسين، هذه هي الكنيسة.
هل كُلُّ الّذين حَصَلوا على الشِّفاء الجسديّ من الربّ، قد خِلُصوا فِعلاً ورَبِحوا الأبديّة؟
سنَعكسُ المعادلة، ونقول: ماذا يستفيد الإنسان الّذي شُفيَ جسديًّا، إنْ لم يَكن قد التَقى بالربّ؟ ماذا يستفيد الإنسان الّذي تمكَّن مِن تأمين مصروفِه اليوميّ، إنْ لم يتمكَّن مِن تَذوُّق طَعمَ اللَّحظة الحاضرة؟ وهنا نتذكَّر كلّ ما يَحدث مع غير المؤمِنين عند زيارتهم لضريح مار شربل، وحصولهم على الشِّفاء. بعد شفائهم، نطرَح عليهم بعض الأسئلة لِمعرفة ما إذا كان هذا الشِّفاء الّذي حصلوا عليه قد أدَّى إلى ولادةٍ جديدةٍ، وإلى لقائهم بالّذي سَكِر به القدِّيس شربل. فيأتي الجواب إيجابيًّا، إذ نجِدُهم يعتبرون القدِّيس شَربل، أحد أولياء الله. إذًا، تحوَّلَ مار شربل في حياة هؤلاء غير المؤمِنِين إلى نوعٍ مِن التَديُّن الطبيعيّ: فالإنسان غالبًا ما يلجأ إلى الله مُلتَمِسًا منه أعجوبةً لحياته. وبالتّالي، إذا كانت علاقتُنا بالربّ، نحن المؤمنِون، تقتصِر على أعجوبةٍ ما، فَهُنا يَصُحُّ فينا قَول مار بولس الرَّسول: "إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإنّنا أشقى جميع الناس" (1 كور 15: 19)، أي أنّه إذا كان كلُّ هدفي في هذه الحياة المحافظة على حياة هذا الجسد الّذي هو "مِن التُّراب وإلى التُّراب يَعود"، فأنا أشقى النَّاس على هذه الأرض. إخوتي، على المؤمِن أن يسعى إلى بناء علاقة صداقة مع الربّ. إنّ الأشخاص الّذين بَنوا علاقة مع الربّ، لم يطلبوا منه الشَّفاء عندما تعرَّضوا للأمراض والأوجاع. إنّ القدِّيس اغناطيوس دو لويولا، يدعونا إلى عدم التحيُّز في علاقتِنا مع الربّ، فكما نَقبَل منه الصِّحة، علينا أن نَقبَل أمراضنا. إخوتي، في الكثير من الأحيان، قد لا تكون الصَّحة الجسديّة لِخَلاص الإنسان وسببًا لتسبيحِ الله، بل المرض. في هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع: "لا تَخافوا مِن الّذِين يَقتُلون الجسَدَ ولكِنَّ النَّفسَ لا يَقدِرون أن يَقتُلوها، بل خافوا بالحَريِّ مِن الَّذي يَقدِر أن يُهلِكَ النَّفسَ والجَسَدَ كِلَيهما في جَهنَّم"(متى 10: 28).
كيف نستطيع أن نُعزِّي أُمًّا فقدَت وَلدها، وهي لا تَقبَل أيَّ كلمةِ تعزيةٍ مِن الآخَرين، وهي الآن تَفقد إيمانها؟
نحن لا نستطيع أن نقول لها أيَّ شيء، إذ ما مِن كلماتٍ تُقال في قلب هذا الحُزن العميق، ولكنّنا نستطيع أن نكون إلى جانبِها، كما فعلَ الربّ يسوع: نحن نستطيع أن نلمُسَها ونخبرها أنّنا إلى جانبها في حالِ احتاجَت إلى أيِّ شيءٍ. فإنّه ما مِن كلمةٍ تستطيع أن تُعطي هذه الأُمّ الحزينة، على فقدان ابنِها، جوابًا شافيًا عن سبب تعرُّضِها لِهذه الخسارة. عند تعرُّضنا للحزن، نجد أنّ الربَّ يبقى صامتًا إذ لا يُعطينا أيَّ جوابٍ شافٍ. إنّ الربّ يتركنا نعيش الصَّمت في هذه الأزمة الّتي نعيشها، ويُعطينا صَمته، فَمن نكون نحن حتّى نُعطي الآخَرين كلماتٍ قد لا تساعدهم على تخطِّي هذه المرحلة! علينا في هذه الحالات، أن نسعى إلى التشبُّه بالمسيح، فنَصمُت أمام حُزن الآخَرين. إخوتي، فَلنترُك هذا الإنسان المحزون المتألَّم يُعيد النَّظر في حياته، ليتمكَّن مِن تجديد نظرته إليها. إنّ الله لا يُعطي أيَّ إنسانٍ صليبًا فوق طاقته، وعندما يشعر الإنسانُ أنّ صليبه ثقيلٌ عليه، يكون الربُّ هو الّذي يَحمل هذا الصَّليب واضعًا الإنسان على كَتِفَيه. لذلك، إخوتي، لِنتَخِّذ موقفَ الربّ مع الحزانى مِن بَينِنا على فقدان أحبَّتهم، مِن خلال الوقوف إلى جانبهم كما فَعَل الربّ، تاركِين هؤلاء يقومون بمسيرتهم في حَملِ صُلبانِهم. إنّ الإنسان المتألِّم يحتاج إلى "سِمعان القيراونيّ" في حياته، كي يساعده على متابعة مسيرته في هذه الحياة. إنّ سِمعان القَيراونيّ لم يَنطقْ بكلمةٍ، ولكنَّه قام بما طُلِب إليه فأعان الربَّ يسوع على حَملِ الصَّليب. لقد كان إلى جانب الربّ في حَملِ الصَّليب، أي أنّه عمِل على مساندة الربّ.
ما الفرق بين المَخاض، والنِّزاع أو الألم الجسديّ؟ أيّهما أصعب؟
إنّ الـمَخاض هو أَلمُ المرأة الحُبلى، وهو نتيجةُ تَحرُّك الجنين في أحشائها، فهذا الجنين يريد أن يخرج إلى الحياة ويُولَد فيها. وهذا الألم يوضَع ضِمن خانة الألم الإيجابيّ.
أمّا النِّزاع فهو يوضع ضمن خانة الألم السَّلبيّ. إنّ الـمَخاض يُشير إلى اقتراب ولادةِ إنسان من إنسانٍ آخَر. إنّ النّزاع هو عبارةٌ عن صراعٍ في الإنسان بين رغبته في البقاء في هذه الحياة، عندما يكون الموت يُصارِع لانتزاع هذه الرَّغبة منه. إنّ الألم الجسديّ يحتاج إلى مُسَكنِّات لَيَرقُدَ الوَجع. إنّ التحدِّي يكمن في عيش الإنسان صراعًا ما بين رغبته في الحياة في حين أنَّ الموت يتآكله، وهذا ما يُسمَّى النِّزاع. إنّ بعض الأشخاص يَسعَون إلى التمسُّك بهذه الحياة، لأنّهم يَرفضون الموت؛ أمّا آخَرون فيَستَسلِمون للموت لأنّهم لا يريدون الحياة. وهناك قِسمٌ ثالث من النَّاس، وَهُم الّذين يتمسَّكون بالربّ، فيَستسلِمون له، أكان في الحياة أو في الموت. وبالتّالي، عند النِّزاع، سيَكون لكلِّ إنسانٍ خبرتَه، وفي هذه المرحلة عليه أن يختار بَين ما يريده وبَين ما يخاف أن يخسره. إنّ الّذين يتمسَّكون بِشِدَّةٍ بِهذه الحياة الأرضيّة، يُسارعون إلى تخليد أسمائهم، من خلال وَضعِ لوائح على كلِّ عملٍ قاموا به في هذه الحياة، عندما يَعلمون أنَّ ساعةَ مغادرتهم هذه الحياة قد اقتَرَبَت، كما نلاحظ استعدادِهم لِصَرف كلِّ أموالهم لإضافةِ يومٍ واحدٍ على حياتهم. هُنا يُطرَح السُّؤال: هل عَيشُ النِّزاع بهذه الطريقة، يقود الإنسان إلى القيامة؟ بالطَّبع لا! بل هو يدفعنا إلى التَّساؤل حول وجود القيامة. مِن ناحيةٍ أُخرى، هناك أشخاص يعيشون النِّزاع كما عاش مار بولس نِزَاعه: فَمار بولس كان يُفضِّل الحياة مع المسيح على البقاء في هذه الفانية، ولكنّه لا مانعَ لديه مِن البقاء في هذه الحياة إن كان وجوده فيها يُشكِّل خدمةً للجماعة المحيطة به. كانت رغبةُ بولس وبقاؤه في هذه الحياة تكمن في زرعِ شهوة العيش مع الربّ، عند جميع البشر. إخوتي، إنّ نزاعَ القدِّيس يختلف كثيرًا عن نزاعِ الإنسان الّذي لم يلتَقِ بِحُبّ الله.
المجد لله، دائمًا لله!
قَدَّسَك الله أبونا، وبَرَكة ربِّنا تكون معكم جميعًا إخوتي. في الحقيقة، إنّ هذا الإنجيل يَروي قصَّتي أنا. أنا أعتَبِرُ أنّ هذه المرأة هي الكنيسة، وعندما يَبتعد أحد المؤمنِين عنها، تَبكيه. والإخوة الّذين يُصلُّون في هذه الكنيسة، هم يُشكِّلون "دموع الكنيسة".
في حياتي، مَررتُ بِظُروفٍ صَعبةٍ، دفعَتني إلى التَّخلي عن الكنيسة، وعدم الذَّهاب إليها مُجددًا. ولكن في أحد الأيّام، أَظلَمَت الحياة في وَجهي وأصبحتُ لا أعرف ماذا عليَّ فِعله. فقرَّرتُ عندئذٍ الانطلاق بسيارتي، لارتكاب جريمةٍ مُتَذرِّعًا بسكينٍ كان في يدي. وحين كنتُ أقود سيارتي، فجأةً اكتشَفتُ أنِّي تُهتُ وأصبحت أمام باب الكنيسة، فدَخلتُ إليها، وإذا بي أُفاجأ بجماعةِ الرُّوح القدس "دموع الكنيسة" مجتمعةً للصَّلاة، وقد تعرَّفَتْ إليَّ إحدى الحاضِرات فاقتَربَت مني وسألتني عن أخباري، الّتي انقطعَتْ عنهم مُنذ زمنٍ طويل. فأخبرتُها إنّي ذاهب لأنفذَّ جريمةً، وألّا تحاول مَنعي من ذلك، عندها أخبرَتني أنّ الأسقف حاضرٌ معهم، وهو قد أنهى رياضةً روحيّة قام بها لِاثنَي عشر كاهنًا، على عدد رُسل المسيح، وشجَّعتني لأقترب من الأُسقف وأسلِّم عليه، فوافَقتُ. احتفل الأسقف بالقدَّاس الإلهيّ، وبعد القدَّاس اقترب منِّي ووَضَعَ يَدَه عليّ، فشَعرتُ حينها أنَّ رغبتي في ارتكاب جريمة قد تلاشَتْ. إخوتي، إنّ الربَّ يومَها قد أقامني مِن الموت، وقيامتي هذه قادَتني إلى أن أُصبح اليوم راهبًا، واكتشفتُ أنّ الربَّ أعطاني الحياة الأبديّة. أشكرُ ربِّي على هذه النِّعمة الّتي أعطاني إيّاها: بعد أن كُنتُ مَيْتًا، أحياني من جديد.
هل حَملُ سِمعان القيراونيّ للصَّليب مع الربّ، يُفسِّر لنا قَول بولس الرَّسول : "أُكَمِّلُ نَقائِص شَدائد المسيح في جسمي لأجل جَسَده، الَّذي هو الكَنيسة" (كولوسي 1: 24)؟
في الكتاب المقدَّس، يقول لنا القدِّيس يوحنّا إنّه كَتَب عن بعض ما قام به الربّ يسوع كي نؤمِن، وأنّه لو أراد كتابةَ اختبارات كلِّ الّذين التَقوا بِحُبّ الربّ، لما كان كلُّ قرطاس العالَم كافيًا لِذَلك. ما يُخبرنا به الكِتاب المقدَّس عن سِمعان القيرواني هو أنّه تَمَّ تسخيرِه لِمساندة الربّ في حَملِ الصَّليب. وهنا أودُّ أن أخبركم هذه القصَّة: يُخبرون عن إنسانٍ مُلحدٍ قرّر أن يجعل امرأةً مؤمنةً تقيّةً تُنكِر الله، فقال لِصديقه المؤمِن: أنظُر إلى تلك المرأة الفقيرة، فإنّها حتمًا ستُنكِر الله بعد ما سأفعله معها. عندها، قام هذا الرَّجل الـمُلحد بإرسال الطَّعام إليها بشكلٍ يوميّ مع خادمه، مِن دون إخبارها عن اسم صاحب هذه اليَد البيضاء الّتي تهتَّم بها. غير أنّها كانت تُصِرُّ على معرفةِ اسم صاحب هذا القلب المِعطاء، فانزعج منها الخادم وقال لها الشَّيطان. فما كان مِن المرأة إلّا أن شكرَتْ الربّ لأنّه سخَّر الشَّيطانَ نفسَه لِخدمتِها، وليُخبرِها أنّ الربَّ لن يتخلَّى عنها.
تمّ تسخير سِمعان القيراونيّ لِمساندة الربّ في حَملِ الصَّليب، وهو لا يعرف مَن يكون الربَّ. هنا أتذكَّر قول الربّ يسوع: "مَن يَقبَلُ نَبيًّا بِاسمِ نَبيٍّ فأجرَ نَبيٍّ يأخُذُ، ومَن يَقبَلُ بارًّا بِاسمِ بارّ فأجرَ بارّ يأخُذُ" (متى 10: 41). فإذا كانت خَشبةُ الصَّليب الّتي صُلِب عليها الربّ والّتي عليها دمُ يسوع، لم تتمكّن مِن دَفع سِمعان القيراوني للاستفادة مِنها، تكون الكنيسة قد حَملَت سِمعان القيراونيّ في صلاتها، وجعَلَته مِن خلال صلاتها يستفيد مِن صليب الربّ. غير أنّه مِن غير الممكن أن يلتقي الإنسان بالربّ، ولا يستفيد مِن لقائه به، حتّى لو كان ذلك اللِّقاء صامتًا، إذ كان الإنسان منفتِحًا على الربّ. وهذا ما أكدَّه لنا الأخ شربل منذ قليلٍ في شهادة حياته الّتي قدَّمها لنا: فإنّه لو لم يكن الأخ شربل منفتِحًا على الربّ لَما كان باستطاعة أحدٍ نزعَ السِّكين مِن يده ورَدعِه عمّا كان ينوي فِعله. إذًا، الربُّ يكلِّمنا بطريقةٍ شخصيّةٍ ويجذبُنا بطريقةٍ شخصيّة، ثمَّ يَضَع أمامنا "سِمعان القيراوني"، كما قد يَضع أمامَنا أشخاصًا مُلحِدين، كما حصل مع الأخ شربل من "جماعة الرّوح القدس". فلنسمَح إخوتي للربّ، بأن يقوم هو بالفِعل، لا نحن.
كلُّ إنسانٍ يعيشُ موتًا روحيًّا، هو بحاجةٍ إلى لمسةِ الربّ، كي يحيا وينطلق مِن جديد إلى قيامة الحياة.
إنّ كلّ إنسانٍ، يجد الموت الجسديّ موتًا سَهلاً، إذا ما قورِنَ بالموت الرُّوحيّ. إنّ الموت الروحيّ عند الإنسان، يبدأ عندما يتمسَّك بالأنانيّة في ما يحصل عليه، فيشعر بالاكتفاء حين يكون هذا الأخير في حالةٍ من الشَّبَع الماديّ للطَّعام، وفي حالةٍ صِحيّةٍ جيَّدة، إذ إنّ كلّ ما يَعنيه في هذه الحياة هو نفسُه فقط دون الآخَرين. إذا توقّفَ الإنسان في أنانيّته عند كلمة "أنا فقط"، فإنّه سيُصلِّي إلى الله ويقوم بأعمالٍ صالحةٍ، ويخدم الآخَرين مِن أجل أن يُعطيه الربّ كلَّ ما يسأله إيّاه. هذا هو الموت الرُّوحيّ الّذي على كلِّ إنسانٍ أن يَتجنَّب الوقوع فيه. في "مَثل لعازر والغنيّ"، أراد الغنيُّ تسخيرَ لعازر لِخدمته حتّى بعد الموت، إذ طَلَب الغنيُّ مِن ابراهيم أن يُرسِل لعازر إليه ليَبُلَّ طرَف لسانه بالماء، مع العِلم أنّ الغنيَّ حين كان في هذه الحياة، كان يلتقي بِلعازر كلّ يومٍ عند باب بيته، ويراه مطروحًا وكان لا يهتمّ لمساعدته. لا تسمح يا ربّ بأن نموت روحيًّا، بل فقط جسديًّا. ونحن نفضِّل أن نموت جسديًا بشكلٍ يوميّ على أن نتعرَّض للموت الرُّوحيّ.
في الآية 13، قال الربُّ للمرأة: "لا تبكي". إنّ كلمة "لا تبكي" للمرأة الحزينة على موت ابنها، لا تعكس جوَّ الحزن الّذي نحن في صددِه. أن يقول الربُّ للمرأة "لا تبكي"، تُشبه كمَن يُخبرنا فكاهةً وينتظر منّا أن نتجاوب معه ونضحك، ونحن في حالةِ حزنٍ نتيجة فقداننا لأحد الأحبّاء. إذًا، لو قال شخصٌ آخَر هذه الكلمة للأرملة، لَقُلنا فيه إنّه إنسانٌ غير طبيعيّ، ولكنَّ مَن قال هذه الكلمة هو الربّ. إنّ الربَّ قد خلقَ الطبيعة من أجلِنا وطَلَب إلينا أن نتخطَّى الطبيعة، لنتمكَّن مِن تَخطِّي صعوباتنا. نحن نعيش في هذه الطَّبيعة، ولكنّنا نُدرِك أنّنا في حالةٍ سَفرٍ، نَصِل عند نهايتها إلى مكانٍ لا بُكاء فيه ولا دموعَ ولا ألم، كما يُخبرنا سِفر الرُّؤيا. لذلك، عندما يقول الربُّ للمرأة الّتي تُودِّع ابنها الـمَيْت "لا تبكي"، فإنّه أراد أن يُخبرها أنّ كلّ مَن يؤمِن بالربّ، لا وجود للموت في حياته. إذا قرأنا الأفعال في هذا النَّص، نلاحظ أنّ الأفعال هي التَّالية: "ذهبَ، وَصَل، لقيَ، رآها، قال لها، دنا، لَمَس." إخوتي، إنّ الحياة الرُّوحيّة هي كُلُّها أفعال، ولكنَّها أفعالٌ مِن أجل الآخَرين لا مِن أجلي. تقول الأمّ تريزيا: "لم أشعر يومًا بالشِّبَع إلّا حين أطعَمتُ جائعًا؛ ولم أشعر يومًا بالدِّفء إلّا حين كَسَوتُ عريانًا". لذلك، أمام هذه الأرملة، نَجِد ذواتنا جميعًا "أرامِل" نبكي على أمورٍ كثيرةٍ خَسِرناها؛ ولكنَّ الربَّ جاء اليوم في هذا النَّص ليقول لنا: "توقَّفوا عن البكاء على ما خَسرتموه، واسمحوا لي أن ألـمُسَكم. توقَّفوا عن النَّدِب والتشكِّي، لأنّ هذا الموت الّذي تَبكونه ليس موتًا. وأنا جئتُ لأقول لكم أيُّ موتٍ يُعَدُّ حَقًّا موتًا". إنّ ابراهيم، أبا المؤمنِين، قد سُميَّ كذلك لأنّه لم يتردَّد بِتَلبية طلبِ الربِّ حين طلبَ الربُّ إليه أن يُقدِّم له ابنه اسحق، ضمانتَه الوحيدة في هذه الحياة. عندما تَجاوَب مع طَلبِ الربّ، دخلَ ابراهيم في مشروعِ الله العظيم، الّذي لا بدايةَ له ولا نهاية. وبعدما لبّى ابراهيم طلبَ الربّ، قال له الله إنّه سيَجعلُ نسلَه أكثر مِن النُّجوم ورَمل البحر، وأنَّ المسيح سيأتي من نَسلِه. نحن أيضًا، علينا أن نترك كلَّ الضَّمانات الّتي نتمسَّك بها على هذه الأرض، كي يكون اسمُنا مكتوبًا في ملكوت الله، ومَذكورًا مِن جيلٍ إلى جيلٍ. علينا أن نرمي كلَّ ضماناتِنا الأرضيّة على النَّعش، ونَسمح لها أن تموت، قَبْل أن ننظر إلى الربِّ ونَفتح معه حوارًا كما فَعل ابنُ الارملة بعد إقامته من الموت.
إنّ الربّ قال لنا: "مَن سخَّرك مِيلاً، إمشِ معه مِيلَين" (متى 5: 41). إنّ السّؤال هو: إلى أين يوصِلنا هذا المِيل الثّاني؟
مِن خلال هذه الآية، أراد الربُّ أن يقول لنا: أَوسِعوا للغَضَب طريقًا، أوسِعوا للشَّر طريقًا. حين يُسخَّر الإنسان ويُدافِع عن نفسه، يُصبح هو والمسخِّر، مِن الطبيعة نفسِها. إذًا، إنّ الربَّ يطلب إلينا ألّا نتماثل مع مسخِّرينا. إنّ التَّسخير هنا لا يعني الاستغلال، لأنّه إذا كان كذلك، فإنّ الربَّ يدعونا إلى إيقاف هذا الاستغلال والتصرُّف بطريقةٍ صحيحةٍ، وهذه نِعمةٌ يُعطينا إيّاها الربّ.
أنا مِثلُ الأخ شربل، وُلِدت مع الربّ حين كنتُ في الخامسة والعِشرين مِن عمري، وقد كُنتُ قَبْلَ ذلك، إنسانًا مَيْتًا، مِثل ابن الأرملة، لا بل أكثر. إنّ سببَ توبتي الأساسيّ هو مسبحةُ العذراء مريم: فأنا كُنتُ منذ صِغري متمسِّكًا بهذه المسبحة وأُصلِّيها. وقد رآني أحدهم أُصليِّها، وكلَّما رآني طَلَبَ المسبحة الّتي بين يديّ، وكنتُ بكلِّ طيبةِ خاطرٍ أقدِّمها له، لأنِّي كنتُ أقول في نفسي، إنِّي لا أريد أن أطمَعَ بشيءٍ بل أريد الذَّهاب إلى العمق مع هذا الشَّخص، ثمّ أذهب لأشتري مسبحةً أُخرى، وكان يُعيد الكَرَّة في كلَّ مرَّة عندما يراني مُمسِكًا بمسبحتي. وبعدما أخذ منِّي هذا الشَّخص ما يُقارب الأربع عشرة مسبحة، مِن دون أن أسأله إن كانت تُساعد الّذين يحصلون عليها في بناءِ علاقةٍ مع مريم. بَعد هذه الحادثة، وقَعتُ في صِراعٍ داخليّ، إذ صُرتُ أطرحُ السَّؤالَ على ذاتي: هل أُتابع إعطاء المسابح لهذا الإنسان، أم أتوقَّفُ عن فِعل ذلك؟ فقرَّرت ألّا أُعطيه بعد الآن مسبحتي، وأخبَرْتُه إنِّي لم أعُدْ أملِك إلّا هذه المسبحة الّتي بين يديّ. إنّ نِعمة الفِطنة هي الّتي تساعدنا على اكتِشاف ما إذا كان الآخَر يُسخِّرنا لأنّه بحاجةٍ إلى شيءٍ معيَّنٍ، يقوده إلى تصويبِ أمورِ حياته. في هذه الحالة، علينا أن نقبَل أن يُسخِّرنا الآخَر. ولكنْ إذا وجدنا أنَّ هذا التَّسخير هو مِن أجل الاستغلال، أي أنّ تسخيري لا يعود بالمنفعة على الآخَر، فَهُنا يجب أن أتوقَّف عن القيام بما يُطلَب إليَّ. وهنا نتذكّر قَول بولس الرَّسول: "صِرْتُ لليَهود كيَهوديٍّ لأربَحَ اليَهود. وللَّذِين تحت النَّاموس كأنّي تحت النَّاموس لأربَحَ الَّذِين تحت النَّاموس. وللَّذِين بلا ناموسٍ كأنِّي بلا ناموسٍ - مع أنِّي لَستُ بلا ناموسٍ لله، بل تحت ناموسٍ للمسيح - لأربَحَ الَّذِين بلا ناموسٍ. صِرتُ لِلضُّعفاءِ كضَعيفٍ لأربَحَ الضُّعفاء. صِرتُ للكُلِّ كلَّ شيءٍ، لأُخَلِّص على كُلِّ حال قَومًا" (1 كور 9: 19). وبالتّالي، إذا قَبِلتُ أن يُسخِّرني أحدٌ، فهذا التَّسخير يجب أن يكون كي أربَح الآخَر للمسيح، لا من أجل مساعدتِه كي يكون إنسانًا استغلاليًا.
الربُّ رحوم. فبقدَر ما يكون الحزنُ كبيرًا، والألمُ قاسيًا، بِقَدر ما تكون التَّعزية أكبر. إنّ الربَّ حاضرٌ لِلَمس المحزون.
هنا أطرح علامةَ استفهام: ما معنى "رحوم"؟ هل تعني أنّ الله رَحومٌ أي أنّه يُعزّي حُزننا، أم تعني أنّ المحزون قد نالَ قصاصًا مِن الله بِمَوت أحد أحبّائه؟ لذا، هنا نجد ضرورةً لتصحيح هذه الكلمة. إنّ الإنسان المحزون يحتاج إلى تعزيةٍ، أمّا الإنسان الخاطئ فيحتاج إلى الرَّحمة. إنّ الأُمّ تُقبِّل جُرحَ ابنها، وبالتَّالي إنْ كان المقصود بكلمة "الله رحوم"، حنانُ الله علينا ليُخفِّف آلامِنا، فهُنا يجوز استعمال كلمة "رحوم". ولكن إنْ كان المقصود بالرَّحمة شفقةُ الربِّ علينا أو مغفرته، سائلِين إيّاه أن يخفِّف مِن آلامنا كوننا ننظرُ إلى آلامِنا على أنّها قصاصٌ مِن الله نتيجةَ تقصيرنا في واجباتِنا، فهذه مشكلةٌ كبيرةٌ تحتاج إلى معالجةٍ.
في الحياة المسيحيّة، ما الفرق بين الذُّل والتذلُّل؟ أيّهما مقبولٌ وأيّهما مرفوض؟
إنّ كلَّ شيءٍ ناقصٌ ليس مِن الله؛ فالله هو علامةُ الكمال، وبالتّالي، لا الذُّل ولا التذلُّل هما مِن طبيعتِنا البشريّة. لكن، حين أتذَلَّل فهذا يعني أنِّي أقوم بِذَلك بكامل حرِّيتي. ولكن إذا كنتُ أعيش الذُّل نتيجةَ ظروفٍ معيَّنة فُرِضت عليَّ، فَهُنا يجب أن أتذكَّر أنّ الربَّ بالقُرب منّي وهو لن يَقبَل بأن أتعرَّض للأذى. إنّ الذَّلَ في هذه الحالة قد فُرِضَ عليّ ولم أطلبْه، بعكس التذلُّل. إذًا، إذا كان الذُّل مفروضًا عليّ، يجب أن أتذكَّر أنّه لديّ ربٌّ يرعاني ويعتني بي، وهو يُحَوّل كلّ شيءٍ لِخَيري، وهو يُحَوّل كلَّ ظروفِ حياتي إلى فَرحٍ. وأكبرُ دليلٍ على ما أقول، هو ما حدثَ مع موسى في العلَّيقة المشتعلة، إذ ظهر له الربّ قائلاً له: «إنّي قد رأيتُ مَذَلّة شعبي الّذي في مِصرَ وسَمِعتُ صُراخَهم مِن أجل مُسَخِّريهم. إنِّي علِمتُ أوجاعَهم." (خر 3: 7).
مساء الخير مِن جديد، ما لفَتَني هو إضاءتك على دور الجماعة في أن تكون إلى جانب المحزون وتُصغي إليه، وتَشعر بوجَعِه. هل مِن شيءٍ نستطيع القيام به مع المحزون كي نُفيدَه روحيًّا كأن نكون على مِثال الرِّجال الأربعة الّذين حَملوا المخلَّع إلى يسوع؟ هل علينا أن نكون أكثر سهرًا على حياتِنا الرّوحيّة، مِن خلال القيام بالمزيد مِن الإماتات والصَّوم والصَّلاة، فتَزدادُ ثقتَنا بأنَّ الله سيَستجيب لصلواتنا مِن أجل المحزون، أم أنّه يكفي أن نكون بالقرب منه؟
لقد تكلَّمتِ في سؤالِك عن أمرَين: أوَّلاً، حين يقع الإنسان في مُصاب، على الجماعة أن تَجتمع حوله للصَّلاة، والتَّعبير عن تضامنها مع المتألِّم، كلٌّ كما يشاء. إنّ الجماعة الّتي كانت بِرفقة المخلَّع، اجتَهدَتْ كي تُدلِّيه من السَّقف وتَضعه أمام الربّ، مِن دون أن تَنطق بأيّة كلمة. هذا ما يجب علينا القيام به مع كلّ محزونٍ، إذ يكفي أن نكون حاضِرين إلى جانبه، مِن دون أن نقول له أيَّ شيءٍ، فالمحزون لن يتقبَّل سماعَ أيَّ كلمةٍ روحيّة عندما يكون متألِّمًا، لأنّه في حالةِ مَلامة الله على ما أصابه. إنّ أقوى إنسان روحيًا يقول لله في وقت التّجربة: "أين أنتَ يا ربّ؟"، ويَحقُّ له بِذَلك، مِن باب التَحبُّب إلى الله، فالإنسان المؤمِن لا يَقبل بأن يشعر بأنّه وحيدٌ ومتروكٌ مِن الله، في وقت مصيبته، مع العِلم أنّ الله يكون إلى جانبه ولكنّه لا يَشعر به. إنّ كلّ كلمةٍ نقولها للإنسان المحزون، إيجابيّةً كانت أم سلبيّة، تُضاعِف فيه التمرُّد والعِتاب والـمَلامة للربّ. لذلك، إخوتي، علينا أن نكون مِثل هؤلاء الرِّجال الأربعة الّذين رافقوا المخلَّع، فنَقوم بكلّ ما يمكنه أن يضع المحزون في أحضان الربّ، فيتمكَّن الربُّ من لمسِه وإيقاف كلّ دمعةٍ تَنهمر من عينَيه، ومسحِها. إذاً، علينا أن نَضع الإنسان المحزون أمام الله، ونترك الباقي لله كي يتصرَّف. وهنا نسأل: ألا نثق بأنّ لمسةَ الربِّ قادرةٌ على شفاءِ كلِّ إنسان؟! فلنسمح إخوتي للربّ، بأن يكون هو الطبيب، ولنَكُن كالممرضة الّتي تَنتظر التَّعليمات مِن الطبيب لمساندة المريض في التَّخفيف مِن آلامه. هكذا نكون حقيقةً قد نجحنا في تقديم فائدةٍ روحيّةٍ للإنسان المحزون.
المجد لله! دائمًا لله! أبتِ، أودُّ أن أُعبِّر عن اختباري. كان ابني مهندسًا، في الثّاني والعشرين مِن عمره، حين انتقل إلى جوار الآب. لم أجد مَن يقرع بابي، ولم أرَ أحدًا بقُربي إلّا في أثناء تقديم واجب العزاء. إخوتي، إنَّ المحزون يكره اللَّيل كما أنّه يُحِبّ أن يشعر بِتَعاطف الآخَرين معه، وأن يقرع أحدهم بابه داعيًا إيّاه إلى مائدةِ رحمة، وأن يتمَّ التَّعبير له عن محبَّتهم له.
إنّ المحبّة مُهمَّة جدًّا، فهي الّتي توصِل المحزون إلى الله، إذ يشعر مِن خلال هذه المحبَّة أنّ الله موجودٌ في هذا العالَم. إخوتي، نحن نستطيع أن نعكس صورة الله للمحزون عندما نعبِّر عن محبَّتنا له. كان هذا اختباري، وأنا أحترم اختبارات جميع النَّاس. ولكنَّ المحبَّة هي أعظم شيءٍ نستطيع أن نُقدِّمه للمحزون. عندما يشعر المحزون بمحبَّتنا له، سيَندم على كلِّ لحظةٍ تَمرَّد فيها على الله، مهما كان عمر فقيده الغالي. إنّ الفقيد يبقى ابني، وأنا أشتاق إليه وأبكي فراقه، ولكنَّني أشكر الله لأنّ ابني انتقل، فهذه مشيئة الربّ. وشكرًا.
أشكر الله عليكِ، أختي، وأودُّ أن أقولَ لكِ: "المسيح قام، حقًّا قام"، فالمسيح قام، وهو أمينٌ على كلمته، لأنّه قد وَعَدنا، أنّنا وأمواتنا، لن نبقى في القبر بل سنَقوم معه. إنّ المحبّة الّتي تطلبينها هي مِن أروع ما يقدِّمه الإنسان لأخيه المحزون. يقول أحد المتصوِّفِين، إنّه حين كان يشعر بِبُرودةٍ روحيّةٍ، كان يطلب إلى الله أن يُحبَّه أكثر، أي كما تفعل الأمّ مع ابنِها. لقد أطلَقتِ اليوم هذه الصَّرخة، وكم هو رائعٌ أن تَجِدي جماعةً تَحضُنُك، وتحضن كلّ موجوع، كجماعة "أذكرني في ملكوتك". ولكن ما أردتُ أن أقوله لكم هو أنّه لا تتمّ المزايدة على المحزون بكلماتٍ روحيّة وشعاراتٍ وتصوُّفات بأمجادٍ سماويّة. إخوتي، أدعوكم كي تسمحوا للمحزون بأن يعيش حزنه، وتساعدوه كي يتخطَّى هذه الفترة الأليمة، فتتحوَّل إلى علامةٍ لحضور الله وعنايته به، ويخرج المحزون مِن هذه المرحلة بِثِمارٍ لحياته. إنّ الإنسان يَفرح حين يحصل على ثَمرِ تعبه. لذلك، عندما نتألَّم، على ألَمِنا أن يكون فرصةً لنا كي نكتشف محبّة الله لنا. إنّ ابنَنا أو فقيدَنا قد أصبح في الملكوت مع الربّ. وهنا نَطرحُ السُّؤال: إذا كُنّا نؤمِن بذلك، لماذا نحن لا نزال حزانى إذًا؟! علينا أن نتذكَّر على الدَّوام أنَّ الربَّ أمينٌ، وعلى الحزن أن يكون فرصةً لنا كي نَذوق طعمَ الفرحِ في قلوبنا. وهذا ما يعطينا إيّاه الربّ.
لولا وجود جماعة "أذكرني في ملكوتك" بقربي، لما كان هناك رجاءٌ، ولما كانت البشارة قد وصلَتْ إلى المحزون. وأنا لي كلُّ الفرح في لقائي بكم. إنّ جماعة "أذكرني في ملكوتك" هي الجماعة الوحيدة الّتي مِن المستحيل أن أتركها إلّا بانتقالي إلى السّماء، لأنّها جماعةٌ رائعة، فالأشخاص الّذين ينتمون إليها يُحِبّون بعضهم البعض، ويتأهَّبون لمساعدة بعضهم البعض حتى وإن كانوا لا يعرفون أسماء بعضهم البعض. فما أردتُ أن أقوله هو أن نُعطي المحزون المزيد مِن الاهتمام وأن نُخبِرَه أنّنا نُحبّه كما هو، في كلّ حالاته.
إختي، نحن جميعًا نُحبِّك، ولكنّ البعض لا يعرفون كيف يُظهرون محبَّتهم للآخَرين. وأنا أتقدَّم منكِ بالتعزية لفقدانِكِ ابنكِ.
أنا فقط أريد أن أشارك حول الإنجيل. وأريد أن أخبركم بشيءٍ لمسني فيه. في هذا الإنجيل، نقرأ: "دنا الربُّ مِن النَّعش ولمسه". إنّ الفعل الّذي تمَّ استخدامه هو "لَمس"، وهذا يشير إلى حاجة الإنسان إلى لمسةٍ من الربّ، كي يشعر بوجوده في حياته، فيتوقَّف عن البكاء، قَبْل أن ينطَلِق مِن جديد في حياته. في بعض الأوقات، يكون الإنسان في قلب الجماعة مَيْتًا، وبالتّالي هو يحتاج إلى الشّعور بقرب الله منه، لأنّه إن لم يشعر الإنسان بوجود الربّ الحسيّ في حياته، لن يتمكَّن من الانطلاق في حياته مِن جديد. في بعض الأوقات، قد يتأثَّر الإنسان بالمَيْت روحيًّا ويكون موتُ هذا الإنسان سببًا لانطلاقةٍ جديدةٍ للإنسان الّذي ينتمي إلى الجماعة، فيشعر بتَدخُّل الربّ الفِعليّ في حياته. في الكثير من الأحيان، قد يتساءل البعض: "أين هو الربّ؟". في بعض الأحيان، يتدخّل الربُّ يسوع بطريقةٍ مباشرةٍ في حياة الإنسان، كي يتمكّن هذا الأخير مِن اختبار وجود الربّ الدائم في حياته. إنّ يسوع موجودٌ دائمًا في حياتنا ولكن في بعض الأحيان نحن الّذين نبتعدُ عنه. وشكرًا.
في الآية 16، يقول لنا الإنجيليّ:" فاستَولى الخَوفُ عَلَيهم، فمَجَدّوا الله قائلِين:"قامَ فينا نبيٌّ عظيم، وافتَقدَ اللهُ شعبَه!". ما هو الخوف؟ إنّ الخوف هو علامةُ حضور الله. إخوتي، إنّ الله يَظهر فينا، أي أنّه بالقرب منّا. اليوم، في هذه السَّهرة الرّوحيّة الّتي تَعِبَت في التَّحضير لها جماعةُ "أذكرني في ملكوتك"، كما تَعِب فيها جميع المشاركين، لأنَّهم تَخلّوا لبعض الوقت عن أمورٍ مهمَّة في حياتهم للمشاركة في هذا اللِّقاء، أصبح كلُّ واحدٍ منّا نبيًّا، في محيطه، وقد تَحوَّل إلى سببٍ لتمجيد الله. وبالتّالي، ممنوعٌ أن يُقلِّل أحدٌ مِن شأنِ النبوءة الّتي وَضَعَها الله فيه. فلنسعَ إخوتي، كي نكون مِثل يوحنّا المعمدان، الّذي سَنَراه بعد احتفالنا بِعِيد الميلاد، صوتًا صارخًا على نهر الأردنّ، كي نكون أصواتًا صارخةً تنطق بكلمة الله، أي يسوع، لنُعزِّي بعضنا بعضًا.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلنا بتصرُّف.
تنشئة روحيّة 2021- 2022
تأمّل إنجيليّ "لعازر والغنيّ" (لو 19:16-31)
الأب جورج نخول
خادم رعيّة مار أفرام - كفرذبيان
22/11/2021
"فنَاداه وقال: يا أبتِ إبراهيم ارحَمني"
"كان رَجلٌ غنيٌ يَلبسُ الأُرجوان والكتَّانَ النَّاعِم، ويَتنَعَّم كُلَّ يومٍ تَنعُّمًا فاخِرًا. وكان رَجلٌ فقيرٌ اسمُه لعازر مُلقًى عند بابه قد غطَّتِ القروح جسمَه. وكان يَشتهي أن يَشبع مِن فُتات مائدة الغنيّ. غيرَ أنَّ الكلاب كانت تأتي فتَلحسُ قروحه. وماتَ الفقيرُ فَحمَلَته الـملائكة إلى حِضن إبراهيم. ثمَّ مات الغنيّ ودُفِن. فرَفع عَينَيه وهو في مَثوى الأموات يُقاسي العذاب، فرأى إبراهيم عن بُعدٍ ولعازر في أحضانِه. فنادى: يا أبتِ إبراهيم ارحَمني، فأرسِل لعازر لِيَبُلَّ طرَفَ إصبَعه في الـماء ويُبَرِّدَ لساني، فإنِّي مُعذَّبٌ في هذا اللَّهيب. فقال إبراهيم: يا بُنيَّ، تَذكَّر أنّكَ نِلتَ خيراتِكَ في حياتِكَ ونال لعازر البلايا. أمَّا اليوم فهو ههنا يُعزَّى وأنتَ تُعذَّب. ومع هذا كُلِّه، فبَينَنا وبَينكم أُقيمَت هُوَّةٌ عميقةٌ، لِكَيلا يستطيع الّذين يُريدون الاجتياز مِن هنا إليكم أن يفعلوا، ولِكَيلا يُعبَر مِن هناك إلينا. فقال: أسألكَ إذًا يا أبتِ أن تُرسِله إلى بيت أبي، فإنَّ لي خمسة إخوة. فَليُنذِرهُم لئلّا يصيروا هُم أيضًا إلى مكان العذاب هذا. فقال إبراهيم: عندَهُم موسى والأنبياء، فَليَستمِعوا إليهم. فقال: لا يا أبتِ إبراهيم، ولكن إذا مضى إليهم واحدٌ مِن الأموات يتوبون. فقال له: إنْ لم يَستمِعوا إلى موسى والأنبياء، لا يَقتنِعوا ولو قام واحدٌ من الأموات". (لوقا 16: 19-31)
بارككم الله إخوتي.
إنّه لَفَرحٌ كبيرٌ لي أن أكون موجودًا معكم اليوم، وأشكركم على هذه الدَّعوة الجميلة والمميِّزة.
اليوم، بِفَرحٍ كبيرٍ جدًّا نتشارك معًا في هذا النَّص من الإنجيل المقدَّس الّذي سمعناه، والّذي أصغَينا إليه بانتباهٍ شديد.
إنّ هذا النَّص هو مَثلٌ أعطانا إيّاه الربّ. وانطلاقًا من هذا الأمر، أودُّ أن أتشاركَ معكم في النُّقطة الأولى مِن حديثنا اليوم وهي:
لماذا تكلَّم الربّ بالأمثال؟
إنّ الأمثال هي طريقةٌ تعليميّةٌ، تربويّةٌ، تهدف إلى جذب المستَمِعين لإيصال مسائلَ مُهمَّة لهم وضروريّة. لذلك، اختار الربُّ هذا الأسلوب، إذ أراد جَذبَ المستَمِعين إليه لتوضيح مسائلَ إيمانيّةٍ وحقائقَ إلهيّةٍ ساميّةٍ ومقدَّسةٍ لهم. إنّ الـمَثل أحبّائي، هو وسيلةٌ فعَّالةٌ لتوضيح مسائلَ مُهمّةٍ، فهو يؤثِّر في الإنسان، أكثر من لجوئنا إلى الطريقة المباشرة في طرح السُّؤال والإجابة عنه. فَحَيثيّات الـمَثل تُدخِلنا في وجدانيّات الحياة وتدفعنا إلى طرح الكثير من التّساؤلات وعلامات الاستفهام على ذواتِنا. أعطانا الربَّ يسوع في الإنجيل ما بين 50 إلى 60 مَثلٍ، وهي تنقسم إلى عدَّة فئات: أمثالٌ عن طبيعة الرِّسالة، أمثالٌ عن نشر الرِّسالة، أمثال عن مفهوم الرّسالة أو ضَياعها، أمثالٌ عن الغفران والخطيئة والتّوبة، أمثالٌ عن الشَّركة مع الله، أمثالٌ عن الشَّهادة والتّلمذة، أمثالٌ عن المكافآت الصّالحة، وأمثالٌ عن المجيء الثّاني واليقظة والسَّهَر، وأمثالٌ عن الدَّينونة. إنّ الاصحاح 16 من إنجيل لوقا هو إصحاحٌ مليءٌ بالأمثلة الّتي أعطاها الربُّ يسوع، ومن بَينِها مَثل لعازر والغنيّ، الّذي نتأمَّل فيه اليوم. قَبْل نصّ مَثل لعازر، أعطى الربّ مَثلاً عن الوكيل الظّالم أو الوكيل الخائن، وفيه أخبرَنا الربُّ عن رَجلٍ غنيّ وَضع جميع ممتلكاته بين يَدَي وكيلٍ قام بِتَبديد أموال سيِّده، لأنّه لم يكن أمينًا. ويَختِمُ الربُّ هذا الـمَثل بالقول لنا: "مَن كان أمينًا على القليل، كان أمينًا على الكثير"(لو 16: 10)، وأنَّ "لا أحد يستطيع أن يَخدم سيِّدَين: الله والمال"(لوقا 16: 13). إذًا، المسألة الّتي كان الربّ يعالجها، قَبْل نصِّ مَثل لعازر والغنيّ، هي مسألة الغِنى والمال.
حيثيَّات هذا الـمَثل: إخوتي، إنّ هذا الـمَثل، مَثل لعازر والغنيّ، يعالج علاقةَ الإنسان بالله، من خلال سلوكه الإنسانيّ والاجتماعيّ مع أخيه الإنسان. في هذا الـمَثَل، يكلِّمنا الربّ يسوع لا على كميّة الصلوات الّتي نتلوها وماهِيّتها، ولا على كميّة الوقت الّتي نُمضيه في الصَّلاة، بل على الـمَسلَك الإنسانيّ والاجتماعيّ، خصوصًا بين الإنسان وأخيه الإنسان. في هذا الـمَثل، لا يُقدِّم لنا يسوع مَوقِفَ كُرهٍ مِن الإنسان الغنيّ بسبب غناه،كما أنّه لا يُقدِّم لنا موقِفَ مَدحٍ للإنسان الفقير بسبب فَقرِه، بل يُخبرنا الربّ في هذا الـمَثل عمَّا يُهدِّد الإنسان ويجعله في حالةِ خطرٍ، غنيًا كان أم فقيرًا. في هذا الـمَثل، يدعو الربّ المستَمِعين إليه إلى تدارك هذا الخطر من خلال حثِّهم على سماع كلمة الله والعمل بموجبها، حسب ما جاء في الآية الأخيرة من هذا النَّص: "إنْ لم يَستمِعوا إلى موسى والأنبياء، لا يَقتنِعوا ولو قام واحدٌ من الأموات"(لوقا 16: 31). لم تكن غاية الربّ مِن هذا الـمَثل التَّرويج لفِكرة أنَّ مصير الأغنياء هو الجحيم ومَصير الفقراء هو النَّعيم، غير أنّ الربَّ في هذا الـمَثل يربط مصير الإنسان في حياة الآخِرة بِحياته على الأرض. عندما كلَّمنا الربُّ في هذا الـمَثَل على الرَّجل الغنيّ لم يَقُل لنا إنّ خطيئته هي الغِنى، فالغِنى في العهد القديم كان يُعتَبر علامةَ رِضًى وبركةٍ من الربّ على الإنسان: فابراهيم كان غنيًا، وكذلك أيّوب الصِّديق وأيضًا لعازر صديق يسوع. وبالتّالي، خطيئة هذا الرَّجل الغنيّ الّذي تكلَّم عليه الربّ في هذا الـمَثل هي أنّه لم يَفهم الغاية من هذه الحياة الّتي أعطاه الربُّ إيّاها، فالغاية الحقيقيّة مِن هذه الحياة ليست الاكتفاء بلِبس الأرجوان والكتّان النَّاعم والتمظهُّر، والتباهي بشكليّات الحياة.
لِهذا النَّص، ثلاثُ غاياتٍ تستحقّ التأمّل بها:
الغاية الأولى من هذا الـمَثل: هي غاية الإنسان في العلاقة الحُسنى مع أخيه الإنسان، تَوصُّلاً إلى العلاقة المميّزة مع الله: ففي هذا الـمَثَل، ربَطَ الربّ يسوع الحياة الاجتماعيّة بالحياة الـمُفعَمة بالأُخوَّة والمحبّة والعطاء.
الغاية الثانية من هذا الـمَثل، ليست المساواة في البُعد الماديّ بين الغنيّ ولعازر، بل الغاية هي اكتشاف صورة الله من خلال العمل الرَّحوم تجاه أخي الإنسان أي تجاه "لعازر". وهذا بُعدٌ ثانٍ أساسيّ في هذا النَّص وفي غاية الأهميّة، وهو اكتشاف صورة الله الرّحوم من خلال رحمتي لأخي الإنسان.
الغاية الثالثة هي أيضًا أساسيّة ومهمَّة: وهي التواجد مع بعضنا البعض، للتّخفيف من الجراح وبَلسمتِها. وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا، خصوصًا أنّنا في زمن الميلاد المجيد، وبشكلٍ أخصّ في ظلّ هذه الظروف الصَّعبة الّتي نمرُّ بها جميعًا. وهنا نَطرَح السَّؤال: إلى أيّ حدٍ نحن نسعى إلى الوقوف إلى جانب بعضنا البعض كي نُبَلسم جراح بعضنا البعض؟ إنّ القساوة الّتي عاشها لعازر في هذا البُعد الاجتماعيّ، النّاتجة عن المآسي الّتي عاشها، تَحثُّنا على العمل على بلسمة جراح بعضنا البعض للتَّخفيف من الصَّعوبات الّتي نجتازها جميعًا.
إنّ اسم "لعازر" يعني "الله مَعونتي"، وهذا الاسم يناسب تمامًا الشَّخص الفقير الّذي كلَّمَنا عليه هذا النَّص. فالاسم في العهد القديم كان عنوانًا لحياة الإنسان ومختَصَرًا لها. وبالتّالي، فإنَّ اسم الشَّخص يدلّ على هويَّته وشَخصه. وعلى سبيل الـمِثال: اسم "زكريّا" يعني "الله تذكَّر"، واسم "أليصابات" يعني "الله أقسم"، واسم "يسوع" يعني "الله يُخلِّص". وفي هذا الـمَثل، اسم "لعازر" يعني أيضًا بكلامٍ آخَر "الاتِّكال على الله". إنّ الربّ يسوع لم يُعطِ اسمًا للغنيّ في هذا النَّص، بل وَصَفه بحالة الغِنى الّتي يعيشها، وذلك من أجل أن يُفهِمنا أنّ هذا الشَّخص قد فقَدَ هويّته لأنّه فقَدَ إنسانيّتَه. فحين يَفقدُ الإنسان إنسانيّته، يَفقد هويّته. هذه هي المعاناة الحقيقيّة الّتي عاشها الغنيّ أحبّائي، ولم يكن للأسف مُدرِكًا لها حين كان لا يزال على هذه الأرض، فَقَضى بهذه الطريقة على علاقته الشَّخصيّة وعلى حضوره الشَّخصانيّ في المجتمع وعلى تفاعله معه. إذا كان الشَّخص عند تواجده في المجتمع يتعرّض للتّعيير من الآخَرين قائلِين فيه: "اُنظُروا إلى هذا الغنيّ!"، فهذا يدلّ على أنّ هذا الإنسان قد فقَدَ دوره في المجتمع، أي فقَدَ وجوده الحقيقيّ، أي فَقَدَ كرامتَه. إنّ هذه الأمور كانت تُشكِّل نَقصًا كبيرًا في حياة هذا الرَّجل الغنيّ أحبّائي. فمَن يقضي على المحبّة، يقضي على تفاعله الأخويّ والبَّناء. فالغِنى جعلَ مِن هذا الرَّجل شخصًا مُستَغنًى عنه في المجتمع، إذ لم يعد المجتمع يُعطي قيمةً حقيقيّةً لوجوده فيه. إنّ قيمة الإنسان تكمن في تفاعله مع الإنسان الآخَر، وقيمة الإنسان تكمن في محبَّته للإنسان الآخَر. فهل هناك أجمل مِن أن يُطلَق على أحدهم اسمه، ثمّ نسمع الآخَرين يقولون عنه: كم نحن محظوظون بمعرفتنا بهذا الشَّخص، لأنّه يقوم بأعمال مَحبَّة، فَهو إنسانٌ مؤمِنٌ وتَقيّ ومُحبّ! من خلال هذا النَّصَّ، أراد الربُّ أن يقول لنا إنّ الغنيّ كان مُستَغنيًا عن علاقته مع الآخَر وتفاعله معه؛ لذلك هو لم يستطِع أن يرى هذا الآخَر في الرُّوح، أي من الدَّاخل. فإنّه مِن غير الكافي أن تَرى الإنسان الآخَر بِعَين الجسد، بل عليك أن تنظر إلى الآخَر بِعَين الرُّوح أيضًا. هذا التطلُّع هو التطلُّع الأفضل والسَّليم للحياة. إنّ أجمل ما في هذا النَّص، وأبشَع ما فيه في الوقت نفسه، هو: أنّ الكلاب كانت تلحسُ قروح لعازر حسبَما يُخبرنا هذا النَّص. والكلاب، في العهد القديم، كانت تُعتَبر قبيحةً ونَجِسةً، غير أنّها في هذا الـمَثل كانت أفضل من هذا الرَّجل الغنيّ.
ماذا حدث عند ساعة الموت؟ عند ساعة الموت، حدثَت تبدُّلات في غاية الأهميّة. في ساعة الموت، أحيانًا كثيرة، من دون أن ندري، نُعظِّم شأن الوُجهاء والأثرياء، أمّا مِيتة الفقراء والتّعساء، فلا نُولِيها شأنًا وأهميّةً كبرى. في هذا الـمَثَل، قَلَب المسيح كلَّ المقاييس وأعطى مقارنةً بسيطةً بين الغنيّ ولعازر من خلال التعابير الّتي استُعمِلَت. فالنَّصَّ يقول لنا أحبّائي، إنّه عند موت لعازر، "حمَلَتْه الملائكة"(لوقا 16: 22) أي أنّه ارتفع إلى المجد السّماويّ، وبالتّالي نالَت هذه النَّفس إكرامًا وتعظيمًا. لقد ذهَبَ لعازر تلقائيًّا بعد موته إلى الحياة الأبديّة. أمّا الغَنيّ، فيقول لنا النّص إنّه "مات ودُفِن"(لوقا 16: 22). إنّ هاتَين الكلمتين في الإنجيل اختَصَرتا حالة الإنسان البائسة، فأتى موته على شاكِلة حياته الّتي كان يعيشها. إنّ مِيتة الغنيّ تُشكِّل لنا فَحصَ ضميرٍ لكلّ واحدٍ منّا. إنّ موت الغنيّ كان مشابهًا لِحياته، فكان موته عبارةً عن حالةٍ انعزاليّة تَقوقُعيّةٍ على الذَّات، على الأنانيّة الذاتيّة. فهذا الغَنيّ، في حياته الأرضيّة، كان غير مُكترِثٍ بالآخَر، انزوائي، مُكتَفٍ بالأبعاد الماديّة الّتي كان يعيشها، لا يهتمّ لِمَن يجلس على عتبة باب بيته. هذا التَّقوقع والانعزالية، الّتي كان يعيشهما الغنيّ انتقلتا معه إلى الحياة الثَّانية ولم تتغيّرا. من خلال مِيتة الغنيّ، أراد الربّ أن يقول لنا إنّ اختيارنا في هذه الحياة الأرضيّة، سَيُرافِقُنا إلى الحياة الثّانية، إذ ستكون حياتنا الثّانية مشابهةً لاختيارنا في حياتنا على الأرض. لم يكن هدف الربّ من هذا الـمَثل اِطّلاعنا بِدِقّة على تفاصيل الحياة الأُخرويّة، وهنا أتكلَّم على حالتَي النَّعيم والجحيم، بل أراد أن يُخبرنا عن مصير الإنسان في الحياة الثّانية. إنّ مصير الإنسان، إخوتي الأحبّاء، لا يُبَّت "غدًا" أي بعد الموت، بل يُبَتّ "اليوم" أي قَبْل الموت. وهذه هي الأمثولة الأولى الّتي نَتعلَّمها في هذا الـمَثل الّذي أعطانا إيّاه الربّ. لا يبدأ الإنسان حياةً جديدةً بعد الموت، بل هو يُتابع حياتَه الّتي بدأها على هذه الأرض. وبالتّالي، في لحظة الموت، يكون "ما كُتِب قد كُتِب" في هذه الحياة ولا يمكن تغييره. إذًا، من خلال هذا النَّص، أراد الربّ أن يقول لنا إنّه بالموت الأرضيّ، تُصبح العودة إلى الوراء مستحيلةً، والدَّليل هو أنَّ الربَّ قال لنا في هذا الـمَثل إنّ بين النَّعيم والجحيم "هوَّةً عظيمةً"(لوقا 16: 26). إنّ هدف الربّ من هذا الكلام، لم يكن إرهابنا وتخويفَنا، كما أنّه لم يكن يهدف إلى تثبيت الطُّمأنينة في نفوسِنا، من خلال دَفعِنا إلى الاعتقاد بأنّه مهما قُمنا به على الأرض من أعمالٍ، لا داعي للخوف من الموت، لأنّ الربّ رحومٌ وسيَغفر لنا، بل كان الهدف من هذا الكلام إخبارنا أنَّ ملكوت الله موجودٌ في داخِلنا، في قلبنا، وفي ما بيننا، لذا علينا منذ الآن تَحمُّل مسؤوليّتنا تجاه هذا الملكوت الّذي أعطانا إيّاه الربّ. فحياتنا مدعوَّة كي تتحوَّل إلى حياةٍ أبديّة. هذه هي جماليّة الدَّعوة الّتي أعطانا إيّاها الربَّ على هذه الأرض! هذا هو حُبّ الله لنا إذ أكرَمَنا بنِعمةِ حياةٍ أبديّةٍ! فهل هناك أجمل مِن هذه النِّعمة، مِن هذه العطيّة الّتي أعطانا إيّاها الربّ! فحياتي تَفصِل مَصيري الأبديّ، وفِعل المحبّة لا يُعوَّض فيما بعد، أي بعد الموت. لذلك، مِن المهمّ جدًّا أن أعي أهميّة عمل المحبَّة، لأنّ عملَ المحبّة مرتبطٌ بِمَصيري الأبديّ أيضًا، وبالتّالي ما عليّ القيام به هو التخلُّص من الأقنعة المزَّيفة الّتي أرتديها في هذه الحياة والعمل على عَيش دعوتي المسيحيّة بكلّ صِدقٍ وجرأةٍ، والمكافحة في مواجهة الشَّر والخطيئة، من دون أن يغيبَ عن فِكري ولو لِلَحظةٍ واحدةٍ أن أفتَح قلبي على قلب الله كي أعيش المحبّة وأُبعِد عنِّي قساوة القلب وأُزيل عنّي كلّ تصرُّفٍ أنانيّ. إنّ اختياري هنا، على هذه الأرض، يُحدِّد هويتي ومصيري هناك، في الحياة الثّانية. فالغَنيّ قد فَهِم الوَرطة الّتي أوقَع نفسَه فيها على الأرض، عندما وصل إلى الحياة الثّانية، لذلك طَلب في هذا النَّص الإنجيليّ إنقاذَ إخوتِه الّذين لا يزالون على هذه الأرض، لكنَّ الربَّ أجابه من خلال إبراهيم، بما معناه، مَن لا يسمع كلام الله، لن يؤمِن بكلمة الله.
إنّ جواب الربّ على الغنيّ هو جوابه لنا أيضًا فهو يقول لنا: اسمَعوا وأَصغوا، وافتَحوا قلوبكم إلى كلمة الله، فَهذه هي بداية الإيمان. إخوتي، إنّ بداية الإيمان لا تكون بمشاهدة الخوارق والعجائب والظَّواهر الغريبة الّتي لا نفَهمها، بل تكون بالسَّماع لكلمة الله المقدَّسة. والدَّليل على ذلك، نستَقيه من الإنجيل: كم شاهد الفريسيِّون مِن العجائب الّتي تمَّت أمام أعيُنِهم، وعلى الرَّغم من ذلك استمرَّوا في عدم إيمانهم بالربّ. إنَّ هذه الفئة من المجتمع، الّتي كانت موجودة آنذاك في عهد الربّ يسوع المسيح، لم تكن تُريد أن تفتح قلبَها على نعمة الله وكلمته، تلك الكلمة الّتي تجسَّدت في يسوع المسيح، والّتي أعطانا إيّاها الآب بشخص الابن كلمةً أبديّةً ونهائيّةً، فالإيمان إذًا يبدأ من السَّماع. إنّ أساسَ التّوبة والعلاقة مع الله، هي الإيمانُ بِكَلمة الله أحبّائي. مَن مِنّا شاهد المسيح صاعدًا إلى السَّماء؟ لا أحد، وعلى الرُّغم من ذلك نحن نؤمن بالربّ، لأنّنا سَمِعنا كلمة الله في الإنجيل المقدَّس، وفَهِمنا مسيرة الكنيسة: مسيرة آباء الكنيسة وتعاليمهم، ومسيرة القدِّيسِين وتعاليمهم، وتعليم الكنيسة والرُّعاة والكهنة، وتعليم البابا والكرادلة، وتعليم المجامع الكنسيّة. كلُّ هذه التَّعاليم تَنصَّب في سبيل مساعدتي على معاينة الربّ يسوع من خلال كلمته المقدَّسة، لذلك أُصبِح قادرًا على الإيمان بالربّ يسوع وبكلِّ ما قام به على هذه الأرض.
نحن أبناء الكلمة المقدَّسة. في هذا الـمَثل، تكلَّم الربّ بلسان إبراهيم، مستَخدمًا لغة الأمر، حين قال للرَّجل الغنيّ: "عندَهُم موسى والأنبياء، فَليَستمِعوا إليهم". إخوتي الأحبّاء، هناك فرقٌ بين "الاستِماع إلى" و "السَّماع إلى". إنّ "الاستِماع إلى" تعني الإصغاء إلى؛ أمّا "السَّماع إلى" التّي تمَّ استخدامها في هذا النَّص، فهي لا تعني فقط الإصغاء، بل تعني أيضًا العمل وَقفًا للكلمة الّتي تمَّ الإصغاء إليها والّتي يُعلِنها الأنبياء، حسب النَّص. مِن خلال استعماله لغة الأمر في عبارة "استمِعوا إليهم"، أعطى الربُّ قوَّةً وفاعليّةً كبيرةً جدًّا لتعاليم الكنيسة.
وأنتم يا إخوتي الأحبّاء، ما تقومون به اليوم، هو أعظمُ بشارةٍ وأعظمُ عملٍ، مِن خلال رسالتِكم "أذكرني في ملكوتك"، ليس فقط تجاه أحبّائنا الّذين سبقونا إلى ديار الآب وحَسْب، بل أيضًا تجاه كلِّ إنسانٍ يسمع هذه الكلمة وهذه البشارة، لأنّ أعظمَ عملٍ تقومون به هو أنَّكم تَنقلون هذه البُشرى الـمُفرِحة إلى قلب كلّ إنسان.
في الذبيحة الإلهيّة، يتلو الشَّماس على مسامعنا هذه العبارة قائلاً:"كونوا في السُّكوت أيّها السَّامعون"، وهو بالتّالي يستخدم عبارة "أيُّها السَّامِعون" لا "أيّها المستَمِعون". وفي هذا السَّياق نفسه، يقول لنا مار يعقوب: "اقبَلوا بِوَداعةٍ، الكلمة الّتي غُرِسَت فيكم. وفي وِسعها أن تُخلِّص نفوسَكم". لذا إخوتي، لا نَذهبَّن للبحث عن الخلاص في مكانٍ بعيدٍ جدًّا، لأنَّ الخلاص هو في مُتَناولِ يدِ كلِّ واحدٍ منّا، فنحن نحصل على الخلاص بمجرَّد أن نفتَح قلبَنا على الكلمة المقدَّسة ونعمل بها. هذا هو الشرط الأساسيّ للخلاص: أن نسمَع الكلمة المقدَّسة ونَعمل بموجبها. فالّذي يسمع الكلمة الإلهيّة ولا يعمل بها، يُشبِه الإنسان الّذي ينظر إلى المرآة ليرى وجهه فقط. جميلٌ جدًّا هذا النّص أحبّائي، لأنّه يُحَوِّل نظرنا إلى الكلمة الّتي خَتم بها الربّ يسوع هذ الـمَثَل، وهي الإصغاء إلى كلمة الله، فَهي المفتاح الأساسيّ لعيشنا الخلاص. فَمِن هذا المنطلق هناك حقيقةٌ: لا منفعةَ للإنسان ولا معنى له دون كلمة الله في هذه الحياة. لذا، أنا الإنسان، عليّ أن أعرِفَ كيف أقضي وقتي في هذه الحياة الّتي أعطاني إيّاها الله، بِغَضِّ النَّظر عن طول زمن حياتي أو قُصرِه، مِن حيثُ عدد السِّنين. فما هو مُهمّ هو أن أعرِفَ كيف أتفاعل مع كلمة الله وأُفعِّلُها فيّ، فَتتمكَّن هذه الكلمة من أن تُعطي حُبًّا وإيمانًا ورجاءً لكلِّ إنسان ألتقي به على درب هذه الحياة.
في الختام، الشُّكر للربَّ على كلمته الّتي أعطانا إيّاها اليوم كي نستقي منها هذه العِبر، ونعرف كيف نُعظِّم الربّ في ساعة موتِنا، كما عظَّمَته مريم على هذه الأرض، ونعظِّم ذِكراه في حياة الأبد. إنّ مريم، الفائقة القداسة، ما زالت تُعظِّم عملَ ابنها يسوع المسيح الّذي ما زال مستمِّرًا على هذه الأرض، حتّى نهاية هذا الدَّهر والدَّهر الآتي.
الشُّكر لكَ يا ربّ على نِعَمَكَ الّتي حمَّلتَنا إيّاها، على هذه المسؤوليّة الّتي أعطيتنا إيّاها، حتّى تُغنِي مسيرتَنا بالاتِّكال على عَطيّتك ونِعمتِك المقدَّستَين، أكثر من اتِّكالنا على ذواتنا، فنَتكِّل على العلاقة الشَّخصيّة الّتي نَبنِيها معك، ومن خلالك مع الإنسان الآخَر، فتَكون هذه العلاقة مَصدرَ غِنىً ومَنبعًا لِحياةٍ مُفعَمًةٍ بالأعمال الصَّالحة والتَّقوى والتجرُّد، وعيش التواضع والمحبَّة، وعيش الحُبّ الإلهيّ، من الآن وإلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَتْ المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.
تتمة...تنشئة روحيّة 2021- 2022
تأمّل إنجيليّ "إحياء لعازر" (يو11: 17- 27)
للأب أنطوان فريج
خادم رعيّة مار الياس المارونيّة - حلب
8/11/2021
مِن إنجيلِ ربِّنا يسوع المسيح للقدّيس يوحنّا الّذي بشَّر العالم بالحياة (يو 17:11-27).
"فلمَّا وصلَ يسوع وجدَ أنَّهُ في القبرِ منذُ أربَعةِ أيَّام. وبَيتُ عنيَا قريبةٌ مِن أورشَليم، على نَحو خمسَ عشْرَةَ غَلوة، فكان كثيرٌ مِن اليهود قد جاؤوا إلى مرتا ومريم يُعَزُّونَهما عن أخيهما. فلمَّا سَمِعَت مرتا بِقدوم يسوع خرجَت لاستقباله، في حين أنَّ مريمَ ظلَّت جالِسةً في البيتِ. فقالَتْ مرتا ليسوع:"يا ربّ لو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أخي. ولكِنِّي ما زلتُ أعلمُ أنَّ كلَّ ما تسألُ اللهَ، فاللهُ يُعطيكَ إيّاه". فقالَ لها يسوع: "سَيَقومُ أخوكِ". فقالَتْ له مرتا: "أعلمُ أنَّهُ سيَقومُ في القيامةِ في اليوم الأخيرِ". فقال لها يسوع: "أنا القيامة والحياة، مَن آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيَحيا، وكلُّ مَن يحيَا ويُؤمِن بي لن يموتَ للأبد، أتؤمِنِين بهذا؟". قَالَتْ له: "نَعَمْ يا سَيِّدُ. أنا قد آمَنْتُ أنَّكَ أنتَ الـمسيحُ ابنُ اللهِ، الآتي إلى العالَم".
مساءُ الخير لكم جميعًا، وشُكرًا لدعوتكم لي كي أكونَ معكم في هذه اللَّيلة المباركة.
إنّ هذا النَّص الإنجيليّ مأخوذٌ من إنجيل يوحنا الإصحاح 11، أي أنّه موجودٌ في آخِر القِسم الأوّل من هذا الإنجيل. إنّ إنجيل يوحنّا يُقسَم إلى قِسمَين: القِسم الأوّل يُسمّى "كتاب الآيات"، أي كتاب المعجزات الّتي صَنعها يسوع ومِن خلالها أظهَرَ لاهوتَه؛ والقِسم الثّاني، يُسمَّى"كتاب المجد"، أي كتاب آلام يسوع الّتي أظهر الربُّ من خلالها مَجدَه، أي حقيقتَه بأنّه ابنُ الله. إنّ آيةَ "إحياء لعازر" هي الآيةُ الأخيرة من آيات يسوع وأعظمِها. نُسمِّي هذا النَّص بِنَصّ "إحياء لعازر"، الـمَعروف شعبيًّا بِنَصّ "قيامة لعازر". إخوتي، من المفضَّل تسمية هذا النَّص بِنَصّ "إحياء لعازر" لا "قيامة لعازر"، إذ إنَّ هناك فَرقًا كبيرًا بين القيامة والحياة، كما سَنَرى في مَتنِ هذا النَّص. نُسمِّي هذا النَّص "إحياء لعازر" لا "قيامة لعازر"، لأنّ الربَّ حين صنَع هذه المعجزة مع لعازر، قام بإعادته إلى هذه الحياة، أي إلى الحياة الزمنيّة؛ أمّا القيامة فهي تعني الدُّخول في الحياة الأبديّة، أي أنّها تُشير إلى تَغيُّر الإنسان مِن هذا العالم ليُصبح منتميًا إلى العالَم السّماويّ، الـمَجد السَّماويّ، تمامًا كما حدَثَ مع الربِّ يسوع بعد قيامته من بين الأموات، إذ فقَدَتْ أمور الحياة الطبيعيّة الدُّنيويّة كُلَّ سلطانٍ عليه. إنّ عودة لعازر إلى الحياة لا نُسميِّها قيامة، إنّما إحياء، إذ إنّ عودة لعازر إلى الحياة تُشبه عودة كثيرين إلى الحياة مِمَّن أقامهم يسوع من الموت: ابنة يائيروس وابن أرملة نائين. وبالتّالي، لعازر وكلّ الّذين أحياهم يسوع، عادوا إلى هذه الحياة ولكنّهم عادوا ومَرِضوا وتَعرَّضوا لصعوباتِ الحياة، الألم وما إلى هنالك من صعوبات، ثمّ عادوا وماتوا كما سيحدث معنا جميعًا، نحن الّذين ننتظر القيامة.
يبدأ هذا المقطع الإنجيليّ بإخبارنا أنّ لعازر في القبر منذ أربعة أيّام. وهنا أودُّ أن ألفُتَ النَّظر إلى بداية هذا الإصحاح من إنجيل يوحنّا، إذ يقول لنا الإنجيليّ: "ومَرِضَ رَجُلٌ اسْمُه لعازر"(11: 1). إنَّ خَبَرَ مرضِ لعازر الّذي يُفاجِئنا في بداية هذا الإصحاح، يَعكس عند يوحنّا الإنجيليّ، وَضعَ البشريّة بأسرِها، فَلِعازر يُمثِّل هذه البشريّة الّتي هي في حالة مَرَضٍ، حالةِ قُربٍ من الموت. ومع متابعة قراءتنا لهذا الإصحاح، نَجد أنّ هذا الرَّجل المريض الّذي يُدعى لعازر قد مات، وهو الآن في القبر. وبالتّالي، هذا النّص من إنجيل يوحنّا، لا يُخبرنا عن مَرض وموت شخصٍ مُعيَّن اسمه لعازر، إنّما يكلِّمنا على مرض البشريّة كلِّها الّتي تعاني مِن مَرض الخطيئة والّذي سيؤدِّي بها إلى الموت.
إنَّ المقطع الّذي نتأمّل فيه اليوم يقول لنا: "فلمَّا وصلَ يسوع، وجدَ (لعازر) أنَّهُ في القبرِ منذُ أربَعةِ أيَّام". لماذا التَّشديد على الرَّقم أربعة؟ في المعتقد اليهوديّ، عندما يموت الإنسان، تَحومُ رُوحُه حول جسدِه ثلاثة أيّام. حين تنبَّأ عن موته وقيامته، استند الربُّ يسوع على هذا المعتقد الـمَبنيّ على آيةٍ من العهد القديم من سِفر هوشع وهي الآية الوحيدة الّتي تتحدَّث عن القيامة من بين الأموات. إنّ هذه الآية مُهمِّة جدًّا، لأنّها بالنِّسبة إلينا الـمَرجَع الوحيد والأساسيّ إلى موضوع القيامة من بين الأموات في العهد القديم. فالله يقول لنا على لسان هوشع النبيّ: "تعالَوا نرجِعُ إلى الربّ، لأنّه يمزِّق ويشفي، يَجرَح ويُضمِّد، يُحيينا بعد يَومَين ويُقيمنا في اليوم الثالث فنَحيا" (6: 1-3). إنّ هذه الآية هي الوحيدة في العهد القديم الّتي تُخبرنا كيف يُحيي الربُّ الإنسان بعدَ موته، وبالتّالي، في نظرِ اليهود، على المؤمن انتظار خلاص الله من الموت حتّى اليوم الثالث، فإذا لم يُحيِ الربُّ هذا الإنسان المائت ويَرُدَّ له الحياة، فهذا يعني أنّ هذا الإنسان ذَهب إلى مثوى الأموات، وبالتَّالي حُكِمَ عليه بالألَم الأبدي. واستنادًا إلى هذا المعتقد اليهودي، أرسلَتْ مرتا ومريم إلى يسوع مَن يخبره بضرورة القدوم إلى بيت لعازر لِنَجدة صديقه المريض، خصوصًا أنّ أُختَي لعازر كانتا تُلاحِظان اقتراب أخيهما المريض من الموت. لقد أرسَلتا في طلب يسوع سريعًا، كي يمنع لعازر من الوقوع تحت قبضة الموت. لقد تأخَّر الربُّ يسوع في المجيء إليهما، وعندما وَصل إلى بيت عنيا، كان قد مرَّ على وجود لعازر في القبر أربعة أيّام، أي أنّ الربَّ قد قَدِم إلى بيت لعازر، بعدما فُقِد كُلُّ أملٍ في عودة هذا الأخير إلى الحياة. فبِحَسب المعتقد اليهوديّ، كان بإمكان لعازر العودة إلى الحياة في الأيّام الثلاثة الأولى بعد موته، ولكن في اليوم الرّابع يُفقَد كلُّ أملٍ في عودته إلى الحياة. وبالتّالي، عندما وَصَل يسوع إلى بَيت عنيا، القريبة من أورشليم، كان جمهور المعَزِّين بموت لعازر كبيرًا جدًّا. عندما سِمعت مرتا، الأُخت الكبرى مبدئيًا، بخبر قدوم الربّ، خرجَت لاستقباله، في حين بَقيَت مريم في البيت. عندما رأتْ مرتا يسوع، بادَرَته بالقول له: "يا ربّ لو كُنتَ ههنا، لَمَا ماتَ أخي". في الحقيقة، مَن يقرأ النّصَ بأكمله، يلاحظ أنّ هذا الكلام لم تَقُله مرتا فقط لِيَسوع، بل قالته أيضًا مريم للربّ؛ ولكن شَتّان بَين الـمَوقِفَين، عند الأُختَين. نحن اليوم نتأمّل في كلام مرتا، ولكن لا يمكننا مقارنته مع كلام مريم.
"يا ربّ لو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أخي": إنّ لهذه العبارة مَعنَيين مختلِفين: في المعنى الأوّل، هذه العبارة تعني الإيمان الشَّديد، بِمعنى أنّ مرتا كانت تؤمن أنّه لو جاء الربّ منذ أربعة أيّام لِنَجدة لعازر، لكان قد تمكَّن من القيام بشيء يَمنع موت لعازر. أمّا في المعنى الثاني لهذه العبارة، فهي تدلّ على عدم الإيمان وفقدان الرَّجاء، فمرتا أرادت أن تقول ليسوع من خلال هذه العبارة أنّه كان على الربّ القدوم قَبْل أربعة أيّام للقيام بشيءٍ ليَحول دونَ موت لعازر، أمّا الآن فقد تأخَّر كثيرًا إذ لم يعد باستطاعته القيام بِشَيء إذ إنّ أخاها قد أنتَن في القبر. إنّ هذه العبارة الّتي قالتها مرتا ليسوع تُعبِّر عن موقفِ كلِّ إنسان حين يتعرَّض للصّعوبات وخصوصًا في مِحنة الموت، إذ إنَّ الإنسان يُصلِّي إلى الله من أجلِ شخصٍ عزيزٍ على قلبه يتعرَّض لأزمةٍ خطيرة، يُصلِّي إلى الله طالبًا إليه أن يتدخَّل ويشفي ويُخلِّص هذا الإنسان العزيز على قلبه من الأزمة الّتي يتعرَّض لها. عندما يموت هذا الإنسان العزيز على قلبنا، نتوجَّه إلى الله بالقول له: "يا ربّ لو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أخي" أي لو كُنتَ هُنا ومعنا يا ربّ، لَكُنتَ قُمتَ بشيءٍ من أجل هذا الإنسان ومَنعتَ موته. بالنِّسبة إلى اليهود، إنّ وجود لعازر في القبر لليوم الرّابع، يعني أنّ أمر هذا الرَّجل قد انتهى وما عاد باستطاعته العودة إلى هذه الحياة. وبالتّالي، فإنّ مرتا أرادت أن تقول ليسوع ما معناه: ما جِئتَ يا ربّ لِتَفعل اليوم بعد مرور أربعة أيّام على وفاة أخي؟ فأخي قد انتهى أمرُه، وما عاد بإمكانه العودة إلى الحياة. إذًا، هذه العبارة الّتي قالتها مرتا قد تعكس إيمانًا كما قد تعكس عدم إيمانٍ وفقدانٍ للرَّجاء، فمرتا كانت تؤمن أنّه لو جاء الربّ في الأيّام الثلاثة الأولى لوفاة لعازر، لكان بإمكانه أن يغيِّر شيئًا، أمّا الآن، فما عاد شيءٌ ينفع. عندما طلب الربّ إلى الموجودين قائلًا لهم: "إرفَعوا الحجر"، سارعته مرتا تُجاوبه بالقول له: "لقد أنتَن"، أي أنّه انتهى الأمر وما عاد باستطاعتك القيام بشيء، وهذا دليلٌ على فقدانها للرَّجاء. إنّ الربَّ يقوم مع مرتا بمسيرة إحياءٍ لإيمانها، مسيرةِ إحياءٍ لرجائها، لذلك، نستطيعُ أن نرى في كلمة مرتا إنعكاسًا لعدم إيمانٍ. بينما إذا تابعنا قراءة النَّص، لَوَجدنا أنّ هذه الكلمة نفسها الّتي قالتها مريم أيضًا للربّ يسوع تُعبِّر عن إيمانٍ. ولكن، كيف نستطيع تمييز هذا الاختلاف في المعنَيَين للعبارة نفسها بين مرتا ومريم؟ إنّ النَّص يُخبرنا أنّ مريم قد "سجدت" للربّ عندما رأته. والسُّجود يُعبِّر عن فِعل إيمانٍ، إضافةً إلى أنَّ مريم قد عبَّرت بكلامِها عن الإيمان الموجود في قلبها؛ أمّا مرتا فيُخبرنا النَّص أنّها عندما رأت يسوع بادَرت إلى ما يُشبه القول له: "يا ربّ لو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أخي"، وكأنّها تَصرخُ في وجهه. وما قُلناه عن مريم ومرتا في هذا النَّص، نجد له أيضًا انعكاسًا في إنجيل لوقا (10: 38-42)، حين جاء يسوع لزيارتهما، إذ نرى أنَّ مريم همَّت بالجلوس عند قَدمي الربّ، أمّا مرتا فانهَمَكت في أمورٍ كثيرة، ثمّ ما لَبِثَت أن عبَّرت له عن انزعاجها من جلوس أختها عند قدمَي يسوع، بطريقة مليئة بالعنفوان، أي بأسلوبٍ قاسٍ جدًّا، تعاتبه لأنّه لم يطلب إلى أختها مساعدتها في أمور الضَّيافة بَدلَ الجلوس عند قَدَمَيه. وهنا أيضًا في هذا النَّصّ، نجد أنّ مرتا المنفعلة، تبادر إلى معاتبة يسوع على عدم قدومه قَبْل ذلك الحين، وكأنّها تقول له: ما نفع مجيئك إلينا اليوم؟ فأخي قد أنتَن في القبر، وانتهى أمرُه، في العبارة الّتي وجَّهتها له: "يا ربّ، لو كُنتَ ههنا، لَمَا ماتَ أخي". إنّ هذين الـمَوقِفَين، موقف مرتا وموقِف مريم، يتجاذَبان كلَّ إنسان: فَكُلُّ واحدٍ منّا هو مرتا في بعض الأحيان، وأحيانًا أُخرى هو مريم، وهنا أودُّ الإشارة إلى أنّ المرأة في الكتاب المقدَّس ترمز إلى النَّفس البشريّة. إذًا، في كلّ واحدٍ منّا "مريم ومرتا"، وهُما تتنازعان: فمِن ناحية، نحن مؤمنون أنّه لو جاء الربّ، لكان قد استطاع أن يقوم بشيء، ولكن الآن انتهى الأمر، إذ بِنَظِرِنا ما عاد باستطاعته القيام بشيء، فانتهى كلّ إيمانٍ لدينا وكُلّ رجاء، لأنّ ما عاد شيءٌ ينفَع.
إنّ يسوع يسير مع مرتا مسيرة الإيمان، كي يحاول أن يُحيي في قلبها الإيمان. نلاحظ عند يسوع وجودَ بُعدِ نَظَرٍ، فهو لم يأتِ فقط لإحياء لعازر الـمَيت، بل جاء أيضًا لإحياء ما هو مَيْتٌ داخل الكثيرين مِن الحاضِرين، وأوَّلهم مرتا. إنّ عَين الربّ على كلّ ما هو مائتٌ في داخل كلِّ إنسان، وهو يَعمل على إعادة الحياة إليه. وبالتّالي، فإنّ الربّ يسوع لا ينظر فقط إلى جسد لعازر الـمَيْت، بل ينظر أيضًا إلى روح لعازر، كما ينظر إلى روح مرتا وإلى روح مريم، وإلى روح هذا الشَّعب، هذا الرُّوح المريض، لا بل الرُّوح الـمَيت. وما يعكس حقيقة هذا الأمر، هو كلمة مرتا الّتي تُعبِّر عن فقدانِها للإيمان، إضافةً إلى وجود هذه الحشود الكبيرة لتقديم التعازي لمرتا ومريم بوفاة أخيهما، فوجودها في بيت لعازر يُعبّر عن فقدانها لكلِّ رجاءٍ وإيمانٍ بعودة لعازر إلى الحياة. إنَّ عَين الربّ على هذا الأمر، وسَنَرى فيما بعد، كيف سَمح الربّ أن يحصل هذا الأمر للعازر، لأنَّ الربّ كان يَعلَم ماذا سيَفعل في النِّهاية؛ أمّا بالنِّسبة إلى مرتا ومريم وإلى الجموع وأيضًا إلينا، فنَحْن لم نكن على عِلمٍ بما سيَفعل يسوع. أمام ألم الموت، يرتجّ إيماننا، ونَفقُد الأمل، لا بل نفقد الرَّجاء. وهنا نتساءل: ما الفرق بين الأمل والرَّجاء؟ إنّ الأمل هو النَّظَر بعيدًا إلى الأفق لرؤية ضوءٍ معيّن، أو خلاصٍ آتٍ من البَعيد. فمثلاً، عندما نعاني مِن ضِيقٍ مُعَيّنٍ، ونرى في الأفق خلاصًا لنا من هذا الضِّيق ولكنَّه يحتاج إلى وقتٍ للوصول إلينا، نُسمِّي ذلك أملاً، إذ نرى في هذا الأمر خلاصًا لنا للخروج ممّا نعاني منه. في حين أنّ الرَّجاء هو الثِّقة الموجودة في قلب الإنسان، أي الإيمان الموجود في داخله، رُغم عدم رؤيته لأيّ بصيصِ ضوءٍ يلوح في الأفق لخلاصه من الأزمة الّتي يعاني منها. وهذا ما يُخبرنا به الكِتاب حين يُحدِّثنا عن ابراهيم فيقول لنا: "آمَن ابراهيم بالله، فَحُسِبَ له ذلك برًّا "(غل 3: 6)، فابراهيم ترَّجى حيثُ لا رجاءَ، فرجاء ابراهيم كان ميتًا لأنّه كان يُدرِك أنّه قد طَعِن في السِّنّ وأنّ أحشاءَ امرأته قد ماتت، لكنّه على الرُّغم من ذلك آمَن بالله ووَضع فيه كلَّ رجائه. هذا ما تُعلِّمنا إيّاه الكنيسة إذ تؤكِّد لنا أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين الرَّجاء والأمل: فالأمل يَستَنِد إلى نَظرةٍ بشريّة، تؤكِّد له وجود بصيص أملٍ لِما يمرُّ به مِن ضيقاتٍ، إنّما الرَّجاء يستند على ثقة الإنسان بالله بأنّه سيُخلِّصه، رُغم عدم رؤيته لأيّة علامةٍ تُشير إلى خلاصه. عندما يكون للرَّجاء علامةٌ تدلُّ عليه، يَبطُل أن يكون رجاءً، تمامًا كما هي حالة الموت.
في هذا النَّص، نجد أنّ مرتا كانت فاقدةً للرَّجاء، بدليل قولِها للربّ: "يا ربّ لو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أخي"، وبالتّالي، هي تعتقد أنّ يسوع ما عاد باستطاعته القيام بشيء بعد مرور أربعةِ أيّام على موت أخيها. لذلك، نجد أنّ يسوع بدأ مع مرتا، ثمّ مع الشَّعب، وبالتّالي معنا، مسيرةَ إحياء لكلِّ رجاءٍ مَيتٍ فينا. إنّ جسد لعازر يُعبِّر عن كلّ رجاءٍ بشريّ مائتٍ. فكما أنّ جسد لعازر قد مات، كذلك كلُّ رجاء بشريّ هو في حالةِ موتٍ، عندما يتعرَّض لصعوبةٍ ما أو لأزمةٍ ما. ماذا يفعل يسوع في هذه الحالة؟ إنّه يأتي ليُحيي هذا الرَّجاء تمامًا كما فَعل مع مرتا، إذ قال لها: "سَيَقوم أخوك"، فأجابته مرتا: "أعلمُ أنَّهُ سيقومُ في القيامة في اليوم الأخيرِ". فقال لها يسوع: أنا لا أُكلِّمك عن اليوم الأخير بل أكلِّمك عن الآن، فَبِما أنِّي موجود، "أنا القيامة والحياة". إنّ الربّ يسوع يُعطي لِنَفسه هاتين الصِّفتَين: هو"الحياة" الّتي نَحياها، هو ربُّ الحياة، هو سيِّدُ الحياة، هو مَنبعُ الحياة؛ وهو أيضًا "القيامة"، هو سيِّدُ القيامة ومَنبعُ القيامة وهو القيامةُ بالذَّات. إذًا، الربُّ يسوع هو مَنبعُ الحياة الزَّمنيّة الّتي نعيشها، وهو أيضًا مَنبعُ القيامة الّتي سَنَدخُلُها بعد موتنا الأرضيّ. لذلك، نسمع الربَّ يسوع يقول لِمَرتا: "أنا هو القيامةُ والحياةُ"، فالكلمات جميلة جدًّا، خصوصًا عند يوحنّا الإنجيليّ، إذ يعطي الربُّ يسوع لِنَفسِه صِفات تُضاف إلى عبارة: "أنا هو"، ولا يقول لنا "أنا عِندي". في اللّغة العربيّة، هناك صعوبةٌ في التمييز بين هاتين العبارَتَين، في حين أنّ الفرقَ واضحٌ في اللُّغة الأجنبيّة بين Etre و Avoir. إنّ يسوع لم يَقُل لِمَرتا: "أنا أملُك القيامة والحياة"، بل قال لها: "أنا هو القيامة والحياة"، أي "أنا أكون القيامة والحياة". إنّ توضيح هذه الفِكرة تُبدِّل نظرتَنا إلى الله في علاقتنا معه. ففي الكثير من المرَّات، عندما نُقيم علاقةً مع ربِّنا، فنتكلّم معه ونطلب إليه شيئًا ما، نعتقد أنّ الربّ يملك هذا الأمر ويستطيع أن يُعطيه لنا، كما يملك الإنسان ممتلكات: أموال، بيوت،... ويُعطيها للآخَرين. انطلاقًا من هذا المنطِق البشريّ، اللهُ فقيرٌ جدًّا إذ إنّه لا يَملكُ شيئًا، فالله لا يملك إلّا ذاتَه، وذاتُ الله هي كلُّ شيءٍ، وبالتّالي مَن يريد أن يأخذ من الله شيئًا يَعود خائبًا؛ ولكن مَن يريد أن يأخذ اللهَ بالذَّات، يَعودُ غنيًا. إذًا، الله لا يملك القيامة، لا يملك الحياة، لا يملك النّور، لا يملك الرّجاء، لا يملك السّلام، لا يملك الحُبّ، لأنّ الله هو القيامة، هو الحياة، هو النُّور، هو الرَّجاء، هو السّلام، هو الحُبّ. وبالتّالي، نستطيع أن نرى ضُعفَ إيماننا وضُعفَ صلاتنا، عندما نذهبُ إلى الله لنَطلبَ عطاياه. إنّنا نطلب عطايا الله، نحن نطلب ما "في جَيبِ الله"، كما نطلب "ما في جَيبِ أهالينا" أو في جَيب الأشخاص الّذين يملكون ما نحتاج إليه، من دون أن يكون لدينا هدفٌ في أن نبني علاقة مع الشَخص بالذَّات. إنّ الفرقَ كبيرٌ بين أن يكون لنا علاقةٌ مع الله، وأن يكون لنا علاقةٌ مع ما يملك الله. كلُّنا نبحث عمّا يملك الله، في حين أنّ الله يقول لنا أنّه هو القيامة، فَحين نكون في علاقةٍ مع الله، نكون في القيامة، نكون في السَّلام، نكون في الحياة، لأنّه هو القيامة والسَّلام والحياة. أمّا إذا جئنا نَطلب إلى الله القيامةَ والسّلام والحياة، سنَعود خائبِين، لأنّ القيامة والسّلام والحياة هي الله نفسه وهو لا يملكها. عندما نأتي إلى الله ونحن لا نريده بل نريد منه أمورًا لا يَمِلكها الله، سنَعود ولا شكّ خائبِين. لذلك، نجد أنّ يسوع يرُكِّز كثيرًا، خصوصًا في إنجيل يوحنّا، على عبارة "أنا هو". وهنا، نتذكَّر العهد القديم الّذي أورَد لنا هذه العبارة، عندما عرَّف الله عن نفسه لموسى، قائلاً له: "أنا هو"، فنلاحظ أنّ الربَّ في العهد الجديد جاء ليشرح العبارة الّتي تُعبِّر عن اسم الله، قائلاً لنا: أنا هو القيامة، أنا هو الحياة، أنا هو الراعي الصّالح، فمِن خلال هذه العبارات وسِواها يكشف لنا الربُّ عن ذاته، كما كَشَف الربُّ عن ذاته لِمرتا. من خلال كَشفه عن حقيقته لمرتا قائلاً لها: "أنا هو القيامة والحياة"، أراد أن يُخبِرها أنّه إذا كانت تعتقد أنّها تستطيع أن تَطلبَ منه تقديم خدماتٍ لها، فهي مُخطئة، لأنّه جاء ليُقدِّم ذاتَه.
يتابع يسوع كلامه مع مرتا، فَيقول لها: "أنا القيامةُ والحياةُ، مَن آمنَ بي، وإنْ ماتَ فسيحيا". إنَّ الربَّ يسوع لم يَقُل: مَن آمَن بما عِندي، مَن آمَن بِقُدراتي، مَن طلب ما لديّ، بل قال: "مَن آمَن بي". في إيماننا المسيحيّ، الإيمان هو علاقةٌ شخصيّةٌ وحميمةٌ مع الله. من خلال هذه العبارة، "مَن آمَن بي وإن مات فسيحيا"، يريد الربُّ أن يقول لنا إنّ مَن له علاقةٌ شخصيّةٌ حميمةٌ معه لن يموت، وإنْ مات، فهو سيحيا. انطلاقًا من هذا المعنى، الإيمان والرَّجاء، يُعَبّران عن علاقةٍ وطيدةٍ بالربّ، عن علاقةِ ثقةٍ، علاقةِ محبّةٍ، علاقةٍ حميمة جدًّا مع الربّ يسوع، وهي، أي هذه العلاقة، تَجعلنا في كلِّ ظروف حياتنا الّتي نَتعرَّض لها، محافِظين على علاقتنا بالربّ حتّى وإنْ فُقِد كُلُّ أملٍ بَشريّ. فإذا كانت كلّ العلاقات البشريّة غير قادرة أن تُقدِّم لنا شيئًا، وتدفعنا إلى القول إنّنا انتَهينا، يبقى لي الإيمان، الّذي هو عبارة عن ثقةٍ عمياء بالربّ. إنّ رجائي بالربّ، هو أَملٌ أعمى، بمعنى أنّه إنْ لم يكن لنا في الأفقِ نورٌ يمنَحنا أملًا في اقتراب خلاصِنا، يبقى الإيمان والرّجاء الّلذين نؤمن بهما حَيَّين وثابتَين في الربِّ يسوع، لذلك و"إنْ سِرْتُ في ظلال الموت، لا أخافُ سوءًا لأنَّك معي"(مز 23: 4). وبالتّالي، وإنْ دَخلتُ في الموت، لن أخاف لأنِّي مرتبطٌ بالله ارتباطًا عضويًّا، ارتباطًا حميميًّا يجعلني أتغلَّب على الموت، ويَجعلُ الربَّ يُقيمُني من بين الأموات. وللأسف، مرتا لم تُرِد أن تَفهَم هذا الكلام، مع أنّها قالت ليَسوع، عندما سألها: "أتؤمِنِين بهذا؟"، "نَعَمْ يا سَيِّدُ. أنا قد آمَنْتُ أنَّكَ أنتَ الـمسيحُ ابنُ اللهِ، الآتي إلى العالم".
إنّ الاعتراف بالإيمان الّذي نَجِده عند متى ومرقس ولوقا يُعلَن على لسان بُطرس، نراه في إنجيل يوحنّا يُعلن على لسان مرتا، ولكن: هل مرتا تَعي فِعلاً ما تقول وإيمانها بالربّ يسوع هو فِعلاً إيمانٌ قويٌّ وحقيقيٌّ؟ إذا تابعنا قراءة النَّص، نجد للأسف، أنّه لم يكن إيمانها بالربّ كذلك، إذ نراها تُعارِض يسوع عندما طلب إلى الحاضرين أن يَرفَعوا الحجر عن قبر لعازر، لأنّ أخاها قد أنتَن فَهو في القبر منذ أربعة أيّام. لذلك، يعود يسوع ويقول لها: "أما قُلتُ لكِ إنْ آمَنتِ ترَين مَجد الله؟"(يو 11: 40). في تلك اللَّحظة، كان لا يزال إيمان مرتا مَيْتًا. إنّ مرتا قد أخذَتْ أُسس الإيمان، كما أخذناها نحن أيضًا. أي أنّه إذا قدَّمنا امتحانًا حول ديانتنا المسيحيّة، إذا جازَ التَّعبير، سنتفوَّق جميعنا؛ ولكن إذا وَقعنا في امتحانٍ حياتيّ لإيماننا المسيحيّ، أشكُّ في أنْ نتمكَّن جميعُنا من النَّجاح. إخوتي، هناك فرقٌ بين أن أعرف معلوماتٍ عن الله، وهذا لا يُسمَّى إيمانًا، فالمعلومات متوافرة عند جميع الأمم، وحتّى عند الشياطين، على حسب قول الربِّ يسوع، وعلى حسب قول مار بولس ومار يعقوب. هناك فرقٌ بين أن أعرف عن الله معلومات وبين أن أعرف الله بالذَّات. إنّ معرفةَ معلوماتٍ عن الله، قد نُسمِّيها عِلمًا، ولكن أن "أعرف" بحسب مفهوم الكتاب المقدَّس، يعني العلاقة الحميمة. وهذا نراه في مكانَين مُهمَّين في الكتاب المقدَّس: المكان الأوّل هو عندما يقول لنا الكِتاب: "عَرَف آدم امرأته، فَحبِلَت ووَلدت قايين" (تك 4: 1)، وهنا بالطَّبع ليس المقصود بكلمة معرفة المعلومات بل العلاقة الحميمة بين آدم وحوّاء. والمكان الثاني، هو في ما يختَّص بعلاقة مريم ويوسف، إذ يقول لنا الكِتاب، إنّ يوسف لم يعرِف مريم. إذًا، المعرفة، بحسب مفهوم الكتاب المقدَّس، لا تعني الحصول على معلوماتٍ، على الرُّغم من أهميّتها، بل تعني إنشاء علاقة، فالمعلومات لا تؤّدي بالضرورة إلى علاقة. أنا قد تكون لديّ معرفةً في أمور الكمبيوتر، والهاتف الخليوي، والسَّيارات، ولكن هذا لا يعني أنّي دَخلتُ في علاقةٍ حميمةٍ معها! في الكثير من المرَّات، للأسف، أتعامل مع الله بالمنطِق نفسه، أُعامِله كَما أتعامل مع الأشياء، "نُشَيْئن" الله، إذ أُحوِّل الله إلى مجرّد معلوماتٍ أمتلكها، معتقدًا أنّه بتلك الطريقة أُصبح مؤمِنًا، وهذا أمرٌ خاطئٌ جدًّا. هذا الأمر نراه عند مرتا، إذ اعترفَتْ بلسانِها أنّ الربَّ يسوع هو المسيح ابن الله الآتي، ولكنْ في قَلبِها، كما يقول لنا مار بولس: الإيمان هو أن " تعتَرف بلسانَك وتؤمِن بقلبك"(رو10: 9). مرتا اعترفَتْ بلسانها بالله معتبرةً أنّ الإيمان هو فقط معلومات. ولكن السؤال الّذي يُطرَح هو: هل مرتا، تؤمن حقًّا بالله في قلبها؟ هذا ما نراه أيضًا عند توما، الّذي طَلب أن يرى الربّ بعد قيامته من الموت. إنّ توما كان يعلم أنّ الربّ قد قام من الموت، لأنّ التلاميذ العَشْر الآخَرين أخبروه أنّهم رأوا الربّ. وبالتّالي، إنّ توما لم يشكّ في معلومةٍ قدّمها له التّلاميذ وهي: قيامة الربّ، بل هو يشكّ في معرفة القيامة أي أنّه يشكّ في العلاقة الّتي تربطه بيَسوع، ويتساءل: هل يسوع ما زال يريدني أن أكون في علاقة معه؟ إذا كان الربُّ يريد متابعة هذه العلاقة معي، لماذا لم يَظهر لي أنا أيضًا كما فعل مع بقيّة التّلاميذ؟ وبالتّالي، أعلَن توما أمام التّلاميذ أنّه لن يؤمِن بتلك القيامة، وأنّ الرّبّ يريد هذه العلاقة معه، إلّا إذا رأى الربّ ووضَع يَدَيه في جَنبِه. لذا، ظَهر له الربُّ يسوع وطلبَ إليه أن يَضع يَديه في جنبه قائلاً له: "هاتِ يدَك، وضَعْها في جنبي وكُن مؤمِنًا لا غيرَ مؤمِنٍ"(يو20: 27). هل ما يريده توما هو التأكُّد من معلومة القيامة؟ بالطَّبع لا! إنّه يؤمن بالقيامة ولكنّه أراد أن يعرف إذا كان الربّ لا يزال يريد هذه العلاقة معه، يريد أن يتأكَّد مِن أنّ الربَّ ما زال يُحبّه ويريد هذه العلاقة الحميمة معه، إنّه يريد أن يعرف يسوع بعد القيامة. إنّ مرتا لم تكن تعرف يسوع، أي أنّها لم تكن على علاقةٍ حميمةٍ معه، بل كانت تعرف عن الله معلوماتٍ فقط، وهو أي الربّ، أراد أن يُصحِّح لها مسيرتها معه. وهكذا نحن أيضًا، يجب ألّا نكتفي بحصولنا على معلوماتٍ عن الربّ، بل يجب أن نسعى إلى إقامة علاقةٍ حميمةٍ معه.
في ختام هذا اللِّقاء اليوم، أودُّ أن اقول لكم، قد نملك معلوماتٍ كثيرة عَمَّن هو يسوع: يسوع هو الربّ، هو المخلِّص، هو النّور، هو الحياة.... ولكن يَنقُصنا أن نَعبُر من المعلومة إلى المعرفة، من العقل إلى العلاقة. هذه هي القيامة! هذه هي الحياة الّتي جاء يسوع ليُعطيها بالطَّبع للعازر، ولكنّه جاء ليُعطي الحياة لمرتا، لمريم ولكلّ الجموع، ولنا أيضًا. أراد الربّ أن يَنقل هؤلاء من حالةِ الموت بالخطيئة، حالةِ الانفصال والبُعدِ عنه، مع أنّهم كانوا يعرِفون عنه معلوماتٍ كثيرة، إلى حالة الدّخول في العلاقة الشَّخصيّة معه، تلك العلاقة الّتي تُحيي. بعدما وَضعَ توما يدَيه في جروحات يسوع، اعترف توما بالربّ قائلاً: "ربِّي وإلهيّ"، لا "أنت الربّ والإله". عندما دَخلَتْ هذه الياء الخصوصيّة على اعتراف توما بالربّ، قام توما من الموت. وبالتّالي، نحن إنْ لم نَستَطِع أن نُحوِّل المعلومة إلى علاقة شخصيّة، أي أن نحوّل "يسوع القيامة، الربّ، السَّلام، الحياة، الفرح، الرَّجاء"، إلى "يسوع، قيامتي، ربِّي، سلامي، حياتي، فرحي، رجائي"، نكون للأسف، ما زِلْنا في حالة الموت، في حالةِ المعلومات عن الله. عندما تتحوَّل هذه المعلومة الّتي نحصل عليها في التعليم المسيحي في الكنيسة، الّذي حصلنا عليه عندما كُنّا أطفالاً، إلى حياة؛ وعندما تتحوَّل هذه المعلومة في الكتاب إلى حياةٍ أعيشها، عندما أُضيف إلى هذه المعلومة "الياء الخصوصيّة"، قائلاً: "ربِّي ويسوعي"، أكون فعلاً قد دَخلتُ في القيامة والحياة، وهذا ما جاء يفعله يسوع كي يُصبح إلهًا شخصيًّا لكلِّ منّا. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَتْ المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.
تنشئة روحيّة 2021- 2022
تأمّل في إنجيل "التطويبات"
الأب برنار باسط
خادم رعيّة مار الياس للرُّوم الكاثوليك - لافال، كندا
25/10/2021
مِن إنجيلِ ربِّنا يسوع المسيح للقدّيس متَّى الّذي بشَّر العالم بالحياة (5: 1 - 12).
"فلمّا رأى الجموعَ، صَعِدَ الجبل وجَلسَ، فدنا إليه تلاميذُه فشَرَعَ يُعلِّمُهُم قال: "طوبى لِفُقراء الرُّوح فإنَّ لهُم ملكوتَ السَّماوات. طوبى للودَعاء فإنَّهم يَرثونَ الأرض. طوبى للمَحزونِين فإنَّهم يُعَزَّون. طوبى للجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرِّ فإنَّهم يُشبَعون. طوبى للرُّحماء، فإنَّهم يُرحَمون. طوبى لأطهارِ القلوبِ فإنَّهم يُشاهدونَ الله. طوبى للسَّاعينَ إلى السَّلام فإنَّهم أبناءَ الله يُدعَون. طوبى للمُضطهَدِينَ على البِرِّ فإنَّ لهُم ملكوت السَّموات. طوبى لكُم، إذا شَتَموكم واضْطهَدُوكم وافْتَروا عليكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أجلي، اِفرَحوا وابْتَهجوا: إنَّ أَجرَكُم في السَّمواتِ عظيمٌ، فهكذا اضطَهدوا الأنبياءَ مِن قَبْلِكُم."
مساء الخير إخوتي،
إنّ هذه التطويبات قالها يسوع على الجبل. والجبل يرمز إلى الارتِفاع، إلى ما هو فوق، أي إلى السَّماويّات. كما أنّ عبارة "الجبل" تُذكِّرنا بموسى الّذي صَعِد إلى الجبل فَبَقيَ هناك أربعين يومًا قَبْل أن ينزل منه ويُعطينا شريعة ربِّنا، أي لَوحَي الوصايا. اليوم، يصعد يسوع إلى الجبل كي يُعطينا نِعَم الملكوت، الّذي على الإنسان أن يعيشها، لا بِحَسَب الشريعة إنّما بِحَسَب النِّعمة. إنّ هذه التطويبات مترابطةٌ بعضُها بِبَعض، وهي مطلوبةٌ مِن كلِّ واحدٍ منّا كي يتمكَّن من الدُّخول في سرّ الملكوت، أي في روحانيّة الملكوت، في شريعةِ الرّوح، في شريعةِ الحبّ الإلهي الّتي تَدخُل إلى قلوب النّاس، وتُقدِّس كيانَهم البشريّ، وتجعلهم أبناءً لها، أبناءً لله ووَرَثةَ ملكوتِ الله. لا يستطيع الإنسان أن يعيش كلّ هذه التطويبات مِن دون عيشِ النِّعمة مع يسوع المسيح، لا عَيشِ النَّاموس الّذي يؤدِّبُنا ويُحضِّرُنا لـمَجيء المسيح. إنّ الرَّوح القدس، روحَ يسوع، يُثبِّت حياة يسوع فينا، يسوع الوديع والمتواضع القلب، والّذي "قَصبةً مرضوضة لا يقصِف، وفَتيلةً مُدَّخنةً لا يُطفِئُ" (متى 12: 20)، "حتَّى يسير في الحقِّ إلى النَّصرِ". إنّ روحَ يسوع المسيح، أي الرّوح القدس، يُريد أن يَتَّحد بأرواحنا ويبارِك أعمالنا ويُقدِّس كيانَنا، وهو الّذي سيَقودنا إلى منطقِ الله.
إنّ التطويبة الأولى "طوبى لِفُقراء الرُّوح، فإنَّ لهُم ملكوتَ السَّماوات".
تدعونا إلى طرح السُّؤال: ما هو الفَقر الرُّوحيّ؟ إنّ الإنسان الفقيرَ روحيًّا هو ذاك الإنسانُ الّذي لديه شوقٌ دائمٌ إلى الله، وهو الإنسانُ الّذي يملك قلبًا يرى مِن ذاته أنَّه بحاجةٍ إلى النِّعمةِ الإلهيّةِ كي يعيشَ حياتَه في القداسة، ويرى في ذاتِه أنّه إنسانٌ محدود، بالرَّغم من أنَّه قد يكون غنيًّا ماديًّا. فَعندما ينظر الإنسان الفقير روحيًّا إلى وقائعِ الحياة والغنى الموجودِ في هذه الدُّنيا وفي هذا الكون، ويكتشف غِنى طبائع النَّاس وتَنوِّعها، يرى نفَسَه صغيرًا ومحدودًا وعاجزًا عن إدراكِ كلِّ أسرار الحياة وقُدسِيَّتِها. فالإنسانُ الفقيرُ روحيًّا يسعى دائمًا إلى الحصول على نِعمة الله، ورِضى الله الخالِق، وهو دائمًا في حاجةٍ داخليّةٍ إلى الله. لذلك نَجد أنَّ الإنسان الفقير روحيًّا هو إنسانٌ متواضِعٌ. والتّواضع لا يعني القبولَ بكلِّ ما يُقال لنا، أو مجاراةَ الآخَرين في كلِّ ما يقولونه، كما أنّه ليس عَملاً أخلاقيًا نقوم به في المجتمع انطلاقًا من التَّربيّة الّتي تلقيناها: كالسُّكوت عندما يتكلَّم الآخَرون. فالتَّواضع هو في الحقيقة شيءٌ داخليٌّ جوهريٌّ، يعيشه الإنسانُ انطلاقًا من قناعته وإدراكِه ووَعيه لحاجته إلى التّعلُّم من الحكمة الإلهيّة والامتلاء منها، وحاجتِه إلى التعلّم مِن الآخَرين مِن خلال الإصغاء إليهم. إنّ الإنسانَ المتواضع يجد نفسَه ضعيفًا وبحاجةٍ إلى الكثير من النِّعَم كي يَصِل إلى مِلء قامة المسيح. إذًا، التطويبة الأولى تُكلِّمنا على التواضع، والفقر الرُّوحي، والحاجة إلى النِّعمة الإلهيّة. إنّ هذا التَّواضع قد اختبره بطرس الرَّسول إثرَ الصَّيْد العجائبي، فَطلب إلى الربِّ يسوع قائلاً له:"اخرُج مِن سَفِينَتي يا ربّ، لأنّي رَجلٌ خاطئ" (لوقا 5: 8). لقد اكتَشف بطرس الرَّسول أنّه لا شيء أمامَ عظمة يسوعَ وقدرتِه الإلهيّة. والربُّ يسوع نفسُه أيضًا يقول لنا: "متى فَعلتُم كلَّ ما أُمِرتم به، فقولوا إنّنا عبيدٌ بطَّالون"(لو 17: 10). إنّ عبارة "عبيدٌ بطَّالون" تعني أنّه مهما تَقدَّمنا في هذه الحياة، وأنجَزنا أمورًا عظيمةً، علينا أن نتذكَّر دائمًا أنّنا لا نزالُ بحاجةٍ إلى نِعمةِ الربّ في حياتنا. إنّ الإنسان المتواضع والفقير الرّوح، يَفتَقِدُه الربُّ ويَنشُله ويُنَوِّره ويُلهِمه، تمامًا كما افتقَد اللهُ أمَّنا مريم، فعَبَّرت عن ذلك بالقول: "لأنّه نَظَر إلى تواضع أمَتِه. فها منذ الآن تُغبِّطني جميع الأجيال" (لو1: 48). إذا ذَهبنا إلى المطار، على سبيل الـمِثال، نرى أناسًا من كلّ الألوان والأنواع، أُناسًا يتكلَّمون لُغاتٍ مُختلِفة، وأصحابَ أفكارٍ وتوَّجهاتٍ مختلفة، وإنفعالاتٍ مختلفةٍ واختبارات مختلفة؛ وكذلك إذا سافَرنا من بلدٍ إلى آخَر نكتشف اختلافَ الطَّبيعة بين بلدٍ وآخَر، عندها يتساءل الإنسان المتواضِع، الفقير الرّوح، عن حقيقته قائلاً: "مَن أنا؟" إذ يَكتَشِف صِغَرِه ومحدوديّته أمام عظمة خَلقِ الربّ. ثمّ يجد الجواب عن ذلك السُّؤال، فيقول أنا إنسانٌ ضعيفٌ، وبحاجةٍ دائمة إلى نِعمة الله في حياتي. إنَّ شعور الإنسان بالضَّعف يخلق فيه شعورًا بالحزن، إذ يكتشِف أنَّه إنسانٌ خاطئ، وأنّه بحاجةٍ إلى تعزيةٍ وتقوية. وأن يكونَ الإنسانُ حزينًا لا يعني أنّ حُزنَ الإنسان سبَبُهُ فقدانُه لشيءٍ في حياته أو خسارتُه ثروةً، أو إصابتُه بِمَرضٍ مُعيَّن، فحُزن الإنسان هنا هو حزنٌ على خلاصِ نفسِه إذ اكتشفَ مجدَ الله وعظمته، إضافةً إلى اكتشافه عظمةَ ما قام به يسوع المسيح. إذًا، حُزنُ الإنسان هنا هو حزنٌ روحيّ، وهذا الحُزن يدفع الإنسان إلى اكتشاف حاجته إلى افتقاد الله له. إنّ الإنسان يحزن نتيجة خطاياه ونتيجةِ خطايا النَّاس، لأنَّه يكتشِف بُعدَهم عن الله. ولكنَّ في هذا الحزن، يفتَقِد الربُّ الإله هذه النَّفسَ المسكينةَ المتواضعة.
"طوبى للمَحزونِين فإنَّهم يُعَزَّون".
إنّ الله يقول لنا: "مَن يزرع بالدُّموع، يَحصُد بالابتهاج" (مز 126: 5). فالله يُنير بَصيرة الإنسان المسكين، فيُعرِّفه خطاياه، ويدفعه إلى عيشِ هذه الحالة مِن الحزن على خطاياه، ولكن ما يلبَث أن يعود الله إلى هذا الإنسان ويفتقده فيشعر هذا الأخير بالفرح. في الكِتاب المقدَّس، نرى يسوع حزينًا مرّاتٍ عديدة، ونادِرًا ما نراه مُبتَهِجًا. في أغلب الأحيان، يُخبرنا الكِتاب المقدَّس عن حُزن يسوع على آلام النَّاس، كحُزنِه على أرملةِ نائين الّتي فَقَدَت ابنها الوحيد، وعلى موت لِعازر صديقه، كما نراه حزينًا على الشَّعب الغليظ الرِّقاب، بسبب ابتِعادهم عن الله. ولكنّنا نراه في مشاهدَ إنجيليّة أُخرى متهلِّلاً بالرُّوح، إذ يقول: "أحمدك أيّها الآب، ربّ السَّماء والأرض، لأنَّك أَخفيتَ هذه عن الحكماء والفُهماء وأعلَنتها للأطفال" (لوقا 10: 21). إذًا، في ظلّ كلِّ حزنٍ يُعاني منه الإنسان، نلاحط وجودَ نِعمةٍ من الله تُقدِّسه، وتُطهِّره وتُنقِّيه وتعزِّيه وتُفرِحه. إذًا، هذه التطويبة مُوَّجهة إلى كلِّ إنسان يعيشُ التَّواضع الدَّاخليّ في حياتِه.
"طوبى للوُدَعاء فإنَّهم يَرثونَ الأرض".
عندما يُدرِك الإنسانُ محدوديّته وضُعفَه، يَختبر النِّعمة الإلهيّة في حياته، فَلا يَعود بعد ذلك إنسانًا عنيفًا، يَحكم على الآخَرين، قاسيًا في كلامه، إنسانًا رَفَضِيًّا في حياته، مؤذيًا في مواقِفَه، بل على العكس من ذلك، يُصبح إنسانًا يتلَّقى ضُعُفات الآخَرين بِوَداعةٍ، ويتلقَّى ردَّات فِعلهم بِطُولِ أناةٍ، لأنّه يُدرِك ضُعفَه، ويشعر مع ضُعف الآخَرين. إنّ الإنسان الوديع هو إنسانٌ يُصغي، إنسانٌ يشعر، ويتفهَّم الصَّدمات. وهنا نتذكّر القول المأثور: "عندما تعرِف السَّبب، يَبَطُل العَجَب". إنّ الإنسان الوديع لا يَعيش العَجَب ولا الانفعالات، إذ إنّه يُدرِك تمامًا حقيقةَ ذاتِه وحقيقةَ الآخَرين، يستوعِب الآخَرين، ويسعى إلى زرعِ السّلام والهدوء والطمأنينة أينما وُجِد. إنّ الإنسان الوديع هو الإنسانُ الحَليم، وهو الّذي يَرِث الأرض، لأنَّه يَكسَبُ قلوب النَّاس، إذ لا يَحكم عليهم بل يسارع إلى مساعدتهم والإصغاء إليهم، إنّه يأتي إليهم قائلاً:"رَحمتُك يا ربّ، عليّ وعلى الآخَرين". إنّ الإنسان الوديع هو إنسانٌ سلاميٌّ لا صِدامِيّ. إذًا، هذه التطويبات الثلاث الأولى مترابطةٌ جدًّا مع بعضها البعض إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش تطويبةً من دون الأُخرى. ولذلك، نجد أنّ يسوع يتكلَّم على هذه التطويبات بالتَّسلسُل. "إنْ ارتضَى الربُّ طُرُقَ إنسانٍ، جعلَ أعداءه أيضًا يُسالِمونه" (الأمثال 16: 7). إذًا، الإنسان الوديع يعيش بِهدوء، وبسلامٍ داخليّ، إذ تخلَّى عن طبيعته الشَّرسة المؤذية.
"طوبى للجِياعِ والعِطاشِ إلى البِرِّ فإنَّهم يُشبَعون".
إنّ كلَّ نَفْسٍ متواضعةٍ يَسكنُها الله تكون في حالةِ عطشٍ دائمٍ إلى روح المسيح، إلى طَلَب نِعمة المسيح. وتكون هذه النَّفسُ في حالةِ اشتياقٍ مستمرّ،ٍ لا تتوقّف عن العَطش والجوع إلى البرارة. وهذه النَّفس تُشبه إنسانًا أراد أن يتعلَّم في المدرسة ويُدرك أنّ هناكَ صفوفًا أعلى من صَفِّه بكثير، وهو بحاجةٍ إلى الكثير من الوقت كي يصل إليها. إنّ هذا العَطش للبرارة لا يتوقَّف عند هذه النَّفس المتواضِعة، لأنّها تحتاج إلى المسيح وَهِيَ تُقارِنُ نفسَها بالمسيح، فتُدِرك أنّها ما زالت بعيدةً جدًّا عمّا قام به المسيح على هذه الأرض، فتسعى إلى مشابهته، ولذلك تبقى هذه النَّفسُ في حالةٍ من الجوع والعطش الـمُستَمِرَّين للبرارة. هنا نتذكَّر أعجوبة الخمسَ خبزاتٍ والسَّمكَتين، حين كانت الجموع كلُّها تُصغي إلى يسوع وقلوبها متَّجهة نحو الربّ، تَتبَعُه من مكانٍ إلى آخَر، حتى وَجدَته في مكانٍ قَفرٍ، فأعلَن الربُّ يسوع لهم هذه التطويبات إذ رأى جوعَهم إلى النِّعمة. إنّ هذه الجموع الّتي كانت تتبَع يسوع لَم تأبَه لِجوعِها الأرضيّ على الرُّغم من أنَّ بينَهم أطفال وكِبار في السّن، لأنَّهم كانوا متلَّهِفين لسماع كلمة الله والاستفادة منها. لكنَّ الربَّ أيضًا أدرَك جوعَ هؤلاء، الّذين كانوا يتبعونه منذ الصَّباح الباكر إلى المساء، فأشفَقَ عليهم وأطعَمَهم. كانت هذه الجموع في حالةِ جوعٍ روحيّ أكثر من جوعها إلى الطَّعام الأرضيّ، كانت بحاجةٍ إلى الطَّعام الرُّوحيّ، إلى معرفة الله، والامتلاء من قداسَتِه. إنّ هذا الكلام يُذكِّرنا بما وَرَد في سِفر المزامير: "كما يشتاقُ الأيِّل إلى جداول المياه (مجاري المياه)، هكذا تشتاقُ نفسي إليكَ يا الله، (مزمور 42)، "فأرفَعُ يدَيَّ فتَشبَعُ يدايّ كَمِن شَحمٍ ودَسم" (مزمور 63). إذًا، هذا الإنسان سيمتَلئ من خيرات الله. وهنا أيضًا نتذكَّر ما يقوله لنا الكِتاب المقدَّس: "ذوقوا وانظروا ما أطيبَ الربّ"(مزمور 34). إذًا، هذا الإنسان الّذي يَملِكُ هذا الرُّوح، يُعطِيه الربُّ الطوبى. في واقع حياتنا المسيحيّة، علينا أن نشجِّع بعضنا البعض إلى سماع كلمة الله والمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، تلك المائدة الخلاصيّة لِنفوسِنا. للأسف، نلاحظ أنّ كثيرًا مِن المؤمِنِين يشعرون بأنّهم في حالةٍ من البَطر الرُّوحيّ إذ يعتَقِدون أنّهم تعلَّموا كلمة الله منذ الصِّغَر، وبالتّالي لا حاجة بهم إلى سماعها من جديد من خلال الـمَجيء إلى الكنيسة، ولذا يبحثون عن اكتفائهم الماديّ كامتلاك بيوت وعائلة وأموال. للأسف، نلاحظ أنّ البعض يشعرون وكأنّه لا حاجة بهم إلى قراءة القدِّيسِين والتمثُّل بهم، إذ يعتقِدون أنّ مِثل تلك القراءات هي للجِياع إلى كلمة الله، وهُم لا حاجةَ بهم إليها، لأنّهم يشعرون باكتفاءٍ روحيّ. إخوتي، نحن كمؤمِنِين بحاجةٍ إلى التعمُّق في معرفة الله، إذ لا يكفي أن نعلَم بما هو مكتوبٌ في الكِتاب، بل يجب أن نسعى إلى عيشِه في حياتنا. علينا أن نتعلَّم كيفيّة محبّة بعضنا البعض، وكيفيّة العيش بِنعمة يسوع المسيح، وكيفية تَخطِّي ضُعفاتِنا، وكيفيّة العيش حياةً أكثرَ عطاءً وأكثر بَذلاً للذّات، وكيفيّة العيش حياةً أكثرَ وداعةً. وهنا نَطرح السُّؤال على ذواتِنا: أين نحن من وداعة القلب في حين أنفر من كلمةٍ قالها أحدهم ولَم تُعجِبني؟ إنّ النفور من الآخَرين يدلّ على المستوى الرُّوحيّ عند الإنسان، ويُعبِّر عن عدم عيشه للوداعة، ورَفضه الاعتراف بجوعِه إلى الربّ. إخوتي، نلاحظ هذا الأمر في واقع حياة الكنيسة، خصوصًا عندما يكون هناك عملٌ تَطوُّعي.
"طوبى للرُّحماء، فإنَّهم يُرحمَون".
ما أجمل الإنسان الّذي يعرف أن يقول: "ما أجملَ رحمتَك يا ربّ عليّ وعلى الآخَرين". إنّ أمثال هذا الإنسان يكونون قد دَخلوا في روحانيّةٍ صحيحةٍ، لكنّهم لم يَصلوا بَعد إلى القداسة. إنّ أمثال هذا الإنسان يتوقّفون عن إطلاقِ الأحكام على الآخَرين لأنّهم يؤمنون بالله الّذي قال: "فابنُ الإنسان لم يأتِ ليَدين العالَم بل ليُخلِّص العالم" (لوقا 9: 59). إنّ الربّ أتى ليُخلِّصنا ويَفتَدينا، ويشفي المرضى الّذين يحتاجون إلى طبيب. وأنا كمسيحيّ، كابْنٍ لله، كابْنٍ لهذا الملكوت، كوَريثٍ للملكوت، عليّ أن أعيش روح المسيح، أي أنّه عليّ أن أعيش مِثله، فأعيش الرَّحمة على هذه الأرض، فلا أحكم على ضُعفِ الآخَرين من النَّاس، بل أسعى إلى مساعدتهم والعمل معهم على خلاصِ نفوسِهم، وإعطائهم المحبّة وما يحتاجون إليه. وفي الإطار نفسِه، يقول لنا الربّ، في مكانٍ آخَر مِنَ الكِتاب: "إنْ لَن تغفروا للنَّاس زلّاتهم، لن يغفر لكم أباكم السّماويّ زلّاتِكم" (متى 6: 15). إذًا، لا مساومة في موضوع رَحمة الآخَرين، لأنّ لا أحدَ من البشر كاملٌ، ولا شيءَ يستطيعُ إيصالَنا إلى الكمال غير الرَّحمة، الّتي علينا أن نعيشها على مِثال يسوع الّذي رَحَمنا على الصَّليب ولم يَدِنّا، إذ قال: "اغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون"(لوقا 23: 34). إذًا، على كلِّ مؤمنٍ أن يعمل الرَّحمة في حياته وأن يُضحِّي من أجل الآخَرين: فعندما يُخطِئ الآخَرون، علينا أن نسعى إلى سَترِ خطيئتهم والعمل على تصحيح ما أفسَده الآخَر بِخطيئتِه، كي نكون من أبناء الملكوت. إنَّ التطويبات هي شريعة الملكوت، شريعة يسوع المسيح، تمامًا كما كانت في القديم شريعةُ موسى مُلَخَّصةً بِعَشر وصايا. هذه الشريعة الّتي وَضعها يسوع هي شريعة الحُبّ الإلهيّ، الّتي سننالها بِنعمة الرُّوح القدس، والمؤمن لا يستطيع وحده أن يُحقِّقها من دون الرُّوح القدس. إنّ هذه الرَّحمة تشمل الفقراء والمحتاجين، كما تشمل الخَطأة.
"طوبى لأطهارِ القلوبِ فإنَّهم يُشاهدونَ الله".
إنّ القلب الطَّاهر هو القلب الّذي يَجب أن يتنقَّى من كلِّ الشَّوائب ومِن كلّ ما يُسمَّى "زوايا مُظلمةً" في حياته. إنَّ القلب الطاهر هو القلب الّذي يتمتَّع بالبساطة وبالنَّقاوة، أي أن يكون قلبًا لا يُجيد التصنُّع والتَزَلُّف.إنّ القلب الطَّاهر هو قلبٌ يعيش الشفافية مع الله أوّلاً، وثمَّ مع الآخَرين. إنّ الإنسان صاحِبَ القلب الطَّاهر هو ذاتُ قلبٍ صادقٍ في مقاصِده، لا زَغلَ في نواياه، نقيّ القلب، لا يسمح للخطيئة بأن تَدخُل إلى قلبِه. إنّ الإنسان النقيّ القلب، يعاين الله. فالقدِّيس دومينيك سافيو: كان يقول: "الموت ولا الخطيئة"؛ وكذلك القدِّيس الجديد كارلو أكوتيس، الّذي مات وهو في عمر الخامِسة عشرة، يُكرِّر كلمة القدِّيس سافيو نفسها، ويُضيف إليها قائلاً: "غايتي وهَدَفي هو أن أتَّحد بحبِّ الله". إذًا، إنَّ كلَّ "طوبى" من هذه التطويبات الّتي قالها يسوع على الجبل يجب أن تكون هدفَ حياةِ كلِّ مؤمنٍ. إنّ الله حاضرٌ في كياننا، ولكنَّ الخطيئة، أي الضُّعف البشريّ الموجود في داخلنا، تَخلق نوعًا من الغشاوة على عيوننا. إنَّ البَصيرة، أي العين الروحيّة، موجودةٌ في داخل كلِّ إنسان. عندما يبتعد الإنسان عن كلّ تَرهات هذه الحياة ويبتعد عن ملذَّاتها وينزع من نفسه كلَّ الشوائب، يُصبح إنسانًا يُعاين الله، إذ يشعر بحضوره في حياته بشكلٍ واضح. هنا نتذكَّر صاحب المزامير الّذي يقول لنا: "جعلتُ الربَّ أمامي في كلِّ حين، لأنّه عن يميني لكي لا أتزعزع" (مزمور 16: 8). إنّ شعور داود الـمَلِك بوجود الله إلى يمينه هو شعورٌ يختَبِره كلُّ مؤمنٍ نقيِّ القلب، حين يُعاين الله روحيًا. إنّ معاينة الله هي معاينةٌ حقيقيّة، والمؤمن يَصل إليها حين يتمتَّع بقلبٍ نقيّ، أي حين يرفض رفضًا قاطِعًا ارتكاب الخطيئة. ثمّ يُضيف داود الـمَلِك، فيقول: "قلبًا نَقيًّا أُخلُق فيّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّد في أحشائي"(مزمور 51: 10). إنّ الإنسان النقيّ القلب هو إنسانٌ لا يبحث في حياته إلّا عن لقاء الله، وهو إنسانٌ يُشِعُّ مِن كيانِه النُّور والسّلام، هو إنسانٌ ذات شخصيّةٍ هادئةٍ، وعيناه ثاقبَتان، إذ إنَّ القداسة تملأ كيانه. إنّ الإنسان المؤمِن يصل إلى ذروةِ العلاقة مع الربّ، حين يصل إلى نقاوة القلب.
"طوبى للسَّاعينَ إلى السَّلام فإنَّهم أبناءَ الله يُدعَون".
إنّ المؤمِن الّذي يعيش في حالة فقرٍ روحيّ مستمرّ، وفي حالة جوعٍ وعطشٍ مُستَمِرَّين إلى البرارة، وفي حالة سلامٍ مع الآخَرين نتيجة عيشِه الوداعة، وفي حالة رحمةٍ دائمةٍ واضحة في حياته من خلال سَعيِه إلى زرعها في قلوب الآخَرين، وفي حالةٍ من نقاوة القلب الممتلئ من روح الله، لا يمكن إلّا أن يكون إنسانًا ساعيًا إلى السَّلام ونُورًا في هذا العالم. إنَّ إنسانًا مِثلَ هذا، يبني الملكوت، ملكوت يسوع المسيح - مَلكِ السّلام، فَهو، أي هذا الإنسان، لا يمكنه إلّا أن يسعى كي يُحِلّ السّلام على هذه الأرض، من خلال عيشِ الحقّ والرّحمة والمحبّة والوداعة. هنا نتذكَّر الأمّ تريزيا دو كالكوتا الّتي زَرَعت السَّلام بوداعتها، وتَزرع السّلام اليوم أيضًا من خلال المراكز الاجتماعيّة التابعة لرهبانيّتها، الّتي تُشفق على البشر. يُخبِرون عن الأمّ تريزيا أنّها قصدت يومًا متموّلاً هنديًا، مُلحدًا، قاسيَ القلب، لتَطلب إليه مساعدةً لفقراء كالكوتا؛ فما كان منه إلّا أن بَصَق في يدها الممدودة لطلب المساعدة، فتلَّقفَتْ ردَّة فِعله هذه بوداعتها، إذ شكرته قائلةً له إنّها قَبلَت بَصقتَه الّتي قدَّمها لها، ولكنْ سألته عمّا سيُقدِّمه لفقراء كالكوتا. فأغدَق عليها بالعطاء لفقراء كالكوتا. لقد تمكَّنَتْ تلك القدِّيسة من أن تكسر قلبَ هذا الـمُلحد الهنديّ بوداعتها، عندما نَظَرت إليه فرأتْ فيه ابنًا لله، إنسانًا ضعيفًا، فقرّرَتْ أن تُضيء له شمعةَ بَصيرته، تلك البَصيرة الـمُغطّاة بالطِّين. من خلال هذا الـمَثل للأمّ تريزيا، نستطيع أن نفهَم كيف سيتمكَّن الودعاء من أن يرثوا الأرض، وكيف سيتمكَّن السَّاعون إلى السّلام من تحقيق السّلام على هذه الأرض. طوبى لأبناء الله، الّذين امتلأوا من سلام الربّ، لأنهم سيتمكَّنون من إحلال السّلام أينما وُجِدوا.
"طوبى للمُضطهَدِينَ على البِرِّ فإنَّ لهُم ملكوت السَّموات".
إنّ الإنسان الّذي يعيش في الخطيئة، يعيش في السّرقة والنَّهب، كما يحدث في بلادنا، وهو يرفض عيش حياة البرارة كما يرفض سماع كلمة الله. إنّ الّذين يعيشون في الخطيئة يُغطّون خطيئتَهم بالكَذِب وظُلمِ الآخَرين وتهديدِ كلِّ مَن يسير في الحقّ. إنَّ أمثال هؤلاء الّذين يعيشون في الخطيئة، هُم مُضطَهِدون للحقّ. إخوتي، في وطَننا شرٌّ، ولكنَّ قِسمًا من النَّاس براءٌ منه، كما أنّ هناك أُناسًا يطالبون بإعلان الحقيقة لهم، ولكنْ للأسف، بعض المسؤولين في وطنِنا يسعون إلى إضطهاد كلّ مَن يُطالِب بإعلان الحقيقة. إخوتي، لا بُدَّ لله مِن أن يفتقِدَ شعبه المؤمن في لبنان، الّذي يُعاني من اضطهاد المسؤولين له، فَهؤلاء يَسعَون إلى إرساء الفوضى للهروب من العِقاب على أفعالِهم السَّيئة، ومِن وجوب إعلان الحقيقة للشَّعب. إنّ الحقيقة تَضع حدودًا للإنسان، وفي هذا الإطار يقول لنا الربُّ يسوع: "تعرفون الحقَّ والحقُّ يُحرِّركم" (يوحنا 8: 32). إذًا، إنّ الإنسان الوصولي، أي الّذي لديه أهدافًا وغاياتٍ شخصيّة، هو إنسانٌ لا يمكنه أن يسمع الحقّ الّذي يُكلِّمه عليه الآخَرون، بل يُواجِه الّذي يُعلِن الحقّ بالاضطهاد والتَّعذيب والضَّرب وبالكلام النَّابي وبالأذيّة، تمامًا كما حدثَ مع يسوع، الّذي بَصَق عليه مُضطَهِدوه، وأهانوه وجلدوه، لأنّه أعلَن لهم الحقّ. إنّ الربَّ قد أعلَن الحقّ للكتَبَة والفريسيِّين، بوداعته وطِيبَة قلبه ومحبّته الإلهيّة الكاملة، فَقرَّروا قتلَه عندما سحَب السَّوط، وكسَّر طاولات الصَّيارفة والتُّجار الّذين كانوا في الهيكل. لو لم يتكلَّم الربّ يسوع بالحقّ، ولو لم يَقل لهم: "الويلُ لكم أيّها الفريسيِّيون والكتبة"(متى 23: 27)، لكان يسوع بالنِّسبة إليهم رجلاً عظيمًا. عندما وُضِع يسوع أمام بيلاطس، سأله هذا الأخير: "مَن أنتَ؟" قال له: "أتيتُ إلى هذا العالم لأشهد للحقّ" (يوحنا 18: 37). كلمةٌ واحدة قالها يسوع: "أتيتُ لأشهد للحقّ" أمّا هُم فقَدْ رَفَضوه ورفضوا أباه ورَفَضوا الحقّ على الرُّغم مِن أنّهم عَرفوا الحقّ. عندما واجَه يسوع قيافا، سأله قيافا: "هل أنت المسيح ابن الله الحيّ؟"(متى 26: 63) أجابه يسوع:"أنتَ قُلتَ"، أي أنّ قيافا كان يعرف أنّ الربَّ يسوع هو المسيح، وعلى الرُّغم من معرفته بهذه الحقيقة، رَفضَ القبول بتِلكَ الحقيقة. إنّ الربَّ يسوع ذهب مع الفِريسِّيِّين إلى حدِّ المواجهة القويّة. لقد واجهَهُم بإعلان الحقِّ لهم، فما كان مِنهم إلّا أن اضطَهدوه، فقابلَ اضطهادَهم له وقتلَهم له بالغفران لهم. إنّ غفران الربّ لهم هو أكبرُ من خطاياهم كلِّها. ليتَ الإنسان يعلم كيف يستفيد من رحمة يسوع!
"طوبى لكُم، إذا شَتَموكم واضْطهَدُوكم وافْتَروا عليكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أجلي، اِفرَحوا وابْتَهجوا: إنَّ أَجرَكُم في السَّمواتِ عظيمٌ، فهكذا اضطَهدوا الأنبياءَ مِن قَبْلِكُم".
لا يمكن للمؤمِن إلّا أن يقول الحقيقة، والحقيقة هي العودة إلى الربّ. إنّ الحقّ هو توبةُ الإنسان إلى الله ومحبّته. الحقّ هو ألّا يكون الإنسانُ كاذبًا ولا مُرائيًّا ولا شاهدَ زورٍ. إنّ الإنسان الّذي يعيش البرارة في حياته لا يمكنه إلّا أن يكون شاهدًا للحقّ، ولذلك سيُواجَه دائمًا بالاضطهاد، فطريق البرارة تُواجَه دائمًا مِن قِبَل الأشرار. إنّ الاضطهاد لا يعني فقط التعرُّض الجسديّ من دون أن يملِكَ الإنسان القُدرة للدِّفاع عن نفسِه. إنّ الاضطهاد يتمّ بالقوّة، أمّا إعلان الحقّ فيتمّ بهدوءٍ، كما يتحقَّق من خلال التَّوبة الداخليّة. إنّ المهمّ في كلِّ شجارٍ بين طَرَفين، هو أن يمتلكا القناعة في السَّير في الحقّ. هناك إلهٌ واحِدٌ، وحقيقةٌ واحدة، ومخلِّصٌ واحدٌ، وملكوتٌ واحد، وهناك شعبٌ واحدٌ مُخلَّصٌ، وعليه أن يكونَ مُلتَزِمًا بهذه الرّوحانيّة، روحانيّة التَّطويبات. إنّ الإنسان الّذي لا تكون حياتُه منسجمةً مع هذه التَّطويبات، لن يكون له مكانٌ في ملكوت الله. إنّ كُلّ ممالك الأرض ستَزول، ولن تبقى إلّا مملكة واحدة هي مملكةُ الله، مملكة الحقّ. ولذلك، اليوم نجد أنّ الاضطهاد قويٌّ جدًّا على كُلِّ مَن يريد إعلان الحقيقة. أليس تجويع النَّاس هو نوعٌ من أنواع الاضطهاد؟ ألَيسَ العملُ على إفقارهم أيضًا نوعًا من أنواع الاضطهاد؟ إنّ الأخلاقيّات الجديدة المخالِفة لشريعة الربّ، الّتي يُقدِّمونها للشَّعب ويَحثُّونه على اتِّباعها أليسَت نوعًا من أنواع الاضطهاد؟ ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح هو: كيف نواجِه هذا الاضطهاد الّذي نتعرَّض له اليوم؟ هل نواجِهُه بالاختباء منه للحفاظ على حياتنا الأرضيّة، أَمْ نواجِهُه بكلمة الحقّ الـمُرفَقة بالرَّحمة والوداعة والمحبّة؟ إنّ تَعرُّضي للاضطهاد، لا يُعطيني الحقّ بالسُّكوت عن الحقّ والتخاذل. للأسف، لِكَثرة ما نسعى كي نتحاشى التعرُّض للاضطهاد، أصبحنا غير قادرين على حثِّ أولادنا للمجيء إلى الكنيسة، للسَّير في طريق الحقّ، أي في طريق التوبة، في طريق حُبّ الله. لقد أصبحنا غير قادرين على دَفع أولادِنا للسَّير في طريق الحقّ، لأنّنا نحن لا نعيش الحقّ، ولا نتكلَّم عليه، وكأنّنا نستحي بإعلان الحقّ. للأسف، لقد أصبحنا نخجل من المجاهرة بمشاركتنا في الذبيحة الإلهيّة وبِتَقدُّمِنا مِن سرّ التوبة، خوفًا من التعرُّض للاضطهاد.
إخوتي، إنّ هذه التطويبات الّتي أعلنها يسوع على الجبل تُشكلّ موضوعَ تأمُّلٍ مستمرٍّ لنا، فَهي تدفعنا إلى طرح الأسئلة على ذواتنا: أين نحن من كلِّ "طوبى" من هذه التَّطويبات؟ إلى أيِّ حدٍّ نحن نعيش الفقر الرّوحيّ، الوداعة، الجوع والعطش إلى البرارة في حياتنا، نعيش الرَّحمة تجاه ذواتِنا وتِجاه الآخَرين؟ فعلى الإنسان أن يَرحم ذاتَه قَبْلَ أن يرحَم الآخَرين. إلى أيِّ حدٍّ نحن نسعى إلى عيش الطَّهارة والنقاوة في قلوبنا، فنكون صادقين وواضِحين مع ذواتِنا ومع الآخَرين؟ إلى أيّ حدٍّ نحن نسعى إلى عيش السّلام فنَكون عناصرَ سلامٍ في حياتنا، أبناءً حقيقيِّين لله؟ إلى أيّ حدٍّ نحن مستعدِّون للدِّفاع عن الحقّ واحتمال الاضطهاد في سبيل ذلك؟ إنّ كلّ هذه التطويبات قادرةٌ على دَفعِنا للقيام بفحصِ ضميرٍ كاملٍ لحياتنا، فنُدرِك أين أصبحنا في مسيرتنا نحو الحقّ. للأسف، إنّ البشر يتنافسون على الأمور الدُنيَويّة الزائلة كالجمال والغنى، وما هذا إلّا دليلاً على أنّهم بعيدون كلّ البُعد عن عيشِهم التَّطويبات الإنجيليّة. إنّ شريعة الملكوت هذه، أي شريعة التَّطويبات، تَطرَح علينا السُّؤال: أين نحن منها؟ إنّ عيشَ هذه الشريعة يتطلّب نِعمةً إلهيّة، أي التعبير عن افتقارِنا لهذه النِّعمة الإلهيّة.
أشكر إصغاءكم على أمَل أنْ أكون قد استطعتُ أن أقدِّم لكم فائدةً لِحياتكم الرّوحيّة! وليُبارك الربّ كلّ نواياكم الصّالحة الّتي دفعَتْكم للمجيء والاستماع إليَّ اليوم. فليبارك الربّ نواياكم ومساعِيكم للقداسة، ولِيبارك عائلاتكم ومجتمعكم. آمين.
ملاحظة: دوِّنت من قِبَلِنا بتصرّف.
تتمة...تنشئة روحيّة 2021 - 2022
تأمّل إنجيليّ: "إحياء ابنة يائيروس"
الخوري جوزف سويد
11/10/2021
"لماذا تَضِجّون وتبكون؟ لم تَمُت الصَّبيَّة، وإنّما هِيَ نائمة" (مر 5: 35- 43)
باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
في الحقيقة، أودّ أن أشكركم على هذه الاستضافة. وأتمنّى أن تكون هذه التنشئة الّتي تقومون بها تنشئةً مفيدةً لكلِّ الأشخاص الّذين سيلتَحِقون بها. وأعلم أنَّ الكثيرين جياعٌ إلى سماع كلمة الله، وهذا العطشُ يتزايد خصوصًا في ظلّ التَّداعيات الّتي نراها في لبنان وفي العالم أجمع. هناك أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَح اليوم، كما أنّ هناك وجعًا كبيرًا أيضًا، على كلّ واحدٍ منّا أن يسعى إلى الإجابة عنها. اليوم، سَنَقرأ معًا هذا النَّص من إنجيل القدِّيس مرقس (5: 35- 43)، الّذي ذَكرَه أيضًا القدِّيس لوقا في إنجيله، مع وجود بعض الاختلافات بين النَّصَّين. ولكن على الرُّغم من اختلافهما، يبقى المغزى منهما واحدًا. أمام هذه الكلمة الّتي سنقرأها على مسامِعكم، نستطيع التوقُّف عند مَعانٍ ورموزٍ كثيرة.
† مِن إنجيلِ ربِّنا يسوع المَسيح للقدّيس مرقس الّذي بَشَّر العالم بالحياة (مرقس 5: 35- 43):
"وبينما هو يتكلَّم، وَصلَ أُناسٌ من عند رئيسِ الـمَجمَعِ يقولون: "اِبنَتُكَ ماتَتْ فَلِمَ تُزعجُ الـمُعلِّم؟" فلَم يُبالِ يسوع بهذا الكلام، بل قالَ لرئيسِ الـمَجمَعِ: "لا تخفْ، آمِنْ فحسب". ولم يَدَعْ أحداً يَصحبُه إلّا بطرسَ ويعقوبَ ويوحنَّا أخا يعقوب. ولـمَّا وَصلوا إلى دار رئيسِ الـمَجمَعِ، شَهِدَ ضجيجًا وأُناسًا يَبكونَ ويُعْوِلون. فَدخلَ وقالَ لهم:"لـماذا تَضِجّون وتبكون؟ لم تَمُت الصَّبيَّة، وإنّما هِيَ نائمة"، فضحكوا مِنه. أمّا هو فأخرجَهم جميعاً وسارَ بِأبي الصَّبيَّةِ وأُمِّها والَّذين كانوا معَه ودخلَ إلى حيثُ كانتِ الصَّبيَّة. فأخذَ بِيَدِ الصَّبيَّةِ وقال لها: "طَليتا قومي!" أي: يا صَبيَّة أقولُ لكِ: قومي. فقامَتِ الصَّبيَّةُ لوقتِها وأخذَت تَمشي، وكانتِ ابنةَ اثنتَي عشرَةَ سنة. فَدَهِشوا أَشَّدَّ الدَّهَش، فأوصاهم مُشدِّداً عليهم ألاّ يَعلمَ أحدٌ بذلك، وأمرَهُم أن يُطعِموها". حقًّا والأمان لجميعكم.
إنّ هذا النَّص هو نصُّ إحياءِ ابنة يائيروس، وتَقرأه الكنيسة الـمارونيّة في زمن الصَّوم، مع نصّ النَّازفة. إنّ نصَّ النَّازفة وشفاءَ ابنة يائيروس متداخلان في إنجيل لوقا، أمّا في إنجيل مرقس فَنَصُّ إحياءِ ابنة يائيروس يأتي كَنَصٍّ منفصِلٍ.
كان الربُّ يسوع يتكلَّم إلى النَّاس ويتواصل معهم، حين جاء إليه رئيس المجمع طالبًا إليه أن يأتي إلى منزله لشفاء ابنته المريضة. وفيما كان رئيس المجمع يتكلَّم إلى الربِّ يسوع، إذ بمجموعةٍ من بَيتِه قد قَدِمَت إليه لتُخبره بألّا يُزعج المعلِّم لأنَّ ابنتَه قد ماتَتْ.
"لا تُزعج المعلِّم": أحيانًا نشعر أنَّنا نُزعج بعضَنا البعض ونُزعِج المعلِّم. نشعر بأنَّنا نُزعج المعلِّم، أي الربَّ يسوع، لِكَثرة ما نتكلَّم ونطلب إليه بِقَدر ما لدينا من وَجعٍ. في بعض الأحيان، قد نجد مَن يقول لنا: ما نَفعُ الكلام بَعد؟ لا نفعَ لصلواتِكم وطِلباتكم، إذ إنّها بِلا فائدة. في الحقيقة، إنَّ الربَّ يسوع يُحِبّ أن نُزعِجَه، يُحِبّ أن نطلبَ إليه ونسألَه. هَل نَسِيتُم أنّه هو الّذي طَلَبَ إلينا أن نَطلُبَ إليه؟ "إسألوا تُعطَوا، أُطلبوا تَجدوا، إقرَعوا يُفتَح لكم" (لوقا 11: 9)، "مَن يَسألْ يَنَل، ومَن يَطلب يَجد، ومن يَقرَعْ يُفتَح له"(لوقا 11: 10). فإذا كان الربُّ يُحِبّ أن نسأله، لماذا نخجلُ من أن نَسألَه، أو نخاف من ذلك أو بكلِّ بساطة ننسى فِعل ذلك؟ إنّ أغلَبَنا اليوم ينسى أنَّ لديه ربًّا، وأنَّ هذا الربَّ هو الباب الّذي نستطيع أن نَقرَعَه، وأنّه الإله الّذي يملك آذانًا تُصغي إلينا. إنّنا لا نَطلب إلى الله من أجلِنا وَحدنا، بل في الكثير من الأحيان، نَطلب أيضًا من أجل الآخَرين: السّلام والأمان وسواها من الأمور. وبالتّالي، إذا كان الإنسان في حالةٍ من السّلام، سينعكس هذا السّلام على الآخَرين مِن حَولِه؛ وإذا كان في حالة اضطرابٍ مع نفسه، سينعكسُ ذلك على الآخَرين أيضًا. وفي تأويلي لكلمة الله هذه: "لا تُزعِج الـمُعلِّم، ابنَتُكَ ماتت"، أي إذا أردتُ أن أعكسَ هذه الكلمة الإلهيّة على حالتِنا اليوم في لبنان، لَوَجدتُ أنّ أشخاصًا كثُرًا في لبنان يعيشون في حالة يأسٍ، وأنّ لبنان قد انتهى أمرُه في نَظَرِهم. منذ مدَّةٍ قصيرةٍ من الزّمن، كُنّا نسمَع بعض وسائل الإعلام تُعبِّر عن الوَضع في لبنان بالقَول: إنّ لبنان في العناية الفائقة، وقد ذهب البعض منها إلى القول بأنّ لبنان مات. كُلّ هذه التوصيفات لحالة الشَّرق المتألِّم، من لبنان إلى العراق والأردنّ وإيران وليبيا، تدفعنا إلى الشُّعور بحالة الموت، وخصوصًا عندما ننظر إلى محيطنا، أي في بيوتنا وشوارِعنا وقُرانا، حتّى إنّ اليأس قد دفع البعض إلى اعتبار ذواتهم مجرَّد "تُرابٌ يمشي". تُرى، هل وَصلنا فِعلاً إلى حَتفِنا، أي إلى النِّهاية؟ "لا تُزعج المعلِّم"، تعني أنّه ما مِن شيءٍ بعد الآن ينفَع، فالفتاة قد ماتت، والقصّة قد انتهَت؛ فَبِحسب الـمَنطِق البشريّ، دَخلت طليتا، ابنة الاثنتي عشرةَ سنة، في نفق الموت، الّذي هو نهاية كلّ شيء. عند مجيء مجموعةٍ من النَّاس من بَيت يائيروس ليُخبروه بألّا يُزعج المعلِّم لأنَّ ابنته ماتت، نجد الربَّ يسوع يشجِّع يائيروس، طالبًا إليه أن يتحلَّى بإيمانٍ قويّ لأنّ ابنته لم تَمُت بل هي نائمة. مِن الطَّبيعيّ أنَّ الّذي سَيسمَع الربَّ يسوع يقول هذا الكلام ليائيروس، سَيَسخرُ منه حتمًا، لأنّه يَعرف أنّ الفتاة ماتت، أي أنّ الرُّوح فارقتها، وبالتّالي لا أملَ لها بالعودة إلى الحياة. غير أنّ يسوع، الّذي هو سيِّدُ الحياة، يعلم جيِّدًا أنّه هو الّذي يُعطي الحياة وهو وحده الّذي يستطيع أن يستَرِدَّها، لذلك طَلبَ إلى رئيس الـمَجمع أن يؤمن.
أَخَذَ الربُّ معه إلى بيت يائيروس ثلاثةً من تلاميذه، هُم: يعقوب، يوحنّا وبطرس، وهؤلاء الثّلاثة رافقوه في عدَّة مشاهد إنجيليّة. عندما دخل الربُّ إلى حيثُ كانت الصَّبيَة، قال لها: "طليتا، قومي"، أي "يا صبيّة قومي". نعم، أشياءُ كثيرةٌ ماتت في داخلنا أو بالأحرى أمَتناها، وأمورٌ أُخرى ننظر إليها ونقول: "فالج، لا علاج منه". إلى متى سنبقى نتعاطى مع ذواتِنا والآخَرين والوَطن، كما نتعاطى مع الموت، أي نتعاطى معها كأنَّها أمورٌ لا أملَ في تحسُّنها؟ متى سنُغيِّر هذه "الأسطوانة"، فننَظُر إلى الأمور الّتي نعيشها لا على أنّها أمورٌ فَرِغَت منها الحياة، بل على أنّها أمورٌ قد تتحسَّن عندما نتمسَّك بالإيمان، كما فَعل الربُّ يسوع مع يائيروس عندما قال له: "آمن، فتَخلُص ابنَتُكَ"! نعم، القضيّة هي قضيّةُ إيمانٍ: هل لدينا إيمانٌ بهذه الأرض، الّتي تُسمّى لبنان؟ هل لدينا إيمانٌ بهذا الشَّرق؟ هل لدينا إيمانٌ بِذواتِنا؟ هل لدينا إيمانٌ بالـمُخلِّص؟ هل نحن حقًّا أُناسٌ، نُدرك أنّ أمورَنا هي بين يَدَيّ الربّ، لا بين أيدينا؟
أمام هذا النصّ، أسئلةٌ كثيرةٌ تُطرَح: عند سماعِنا أنّ طليتا ماتت، ماذا يَسعُنا القول أمام هذا الواقع المؤلم؟ إنّ الواقع هو موتُ صبيّةٍ؛ فَطَلِيتا، هذه الصَّبيّة الّتي عُمرُها مِن عُمر الورد، أصبَحت صفحةً من الماضي وقد طُوِيَت، بكلامٍ آخر، هذه الصبيّة قد انطفأت.كذلك، شَرقُنا ولبنان ينطفِئان كما انطفأت هذه الصَّبيّة. هل انتهى كلّ شيء؟ ومَتى أستطيع القول إنّه يَجِبُ العودة إلى الإيمان وقَرعَ بابِ مراحمِ الله، من خلال الطَّلب إليه أن يتدخّل لإحياء الأمور الميؤوس منها في حياتنا؟ "إسألوا تُعطَوا" (لوقا 11: 9). ماذا علينا أن نطلب إلى الله؟ ما هو الطَّلبُ الأَعَزّ إلى قلبنا كي نَطلبه إلى الله؟ وإذا لم يكن على قلبنا طلبٌ نَطلبُه، تُرى هل هذا يشير إلى أنّنا فقَدنا الأمل والرَّجاء؟ كم مِن أشخاصٍ "بُومِيِّين" نُصادِفهم في حياتنا، "أوراقَ نَعوةٍ" يُسارِعون إلى التَّعبير عن شعورهِم بِفُقدان الأمل والرَّجاء في عودة الأمور مِن حولِهم إلى الحياة. إنّ أمثالَ هؤلاء، وهُم كُثرٌ في وطَننا الآن، يَنعون الوَطن والسيَّاسِيين وغيرها من الأمور، فيَصحُّ فيهم القول إنّهم "أوراقُ نَعوَةٍ مُتَجوِّلة"، في حين أنّ المطلوب هو أن نكون "إذاعاتٍ بِشارَتِيِّةً متجولِّة". تُرى، هل دَعوتي في هذه الحياة أن أكون "بُوم"، أي أَنعي كثيرًا وأتذمَّر كثيرًا وأشكو كثيرًا وأن أكون إنسانًا بائسًا ويائسًا على الدَّوام، أم أنّ دعوتي في هذه الحياة أنُ تُشِّع عيوني رجاءً وحياةً؟ في صِغَري، كنتُ أنظُر إلى السَّمكة وأتساءل: لماذا السَّمكة تَخرجُ مِن المياه وعيناها مفتوحتان؟ نعم، ما هو مطلوبٌ إلينا هو أن نَسبح في بحر هذا العالم، مع بقاء عيوننا مفتوحةً على الحياة؛ وحين ينطفئ جسدُنا الأرضيّ وتُعلَن وفاتُنا، في تلك اللَّحظة عيونُنا ستُضيء في مملكة الآب. انطلاقًا من هذا الكلام، أُشبِّه المسيحيَّ الحقيقيّ بالسَّمكة الّتي تبقى عيناها مفتوحتَين، حتّى بعد أن تَخرج من مياه البحر الّذي تَسبح فيه! نعم، طليتا ماتت، لكنَّ يسوع لم يَرَ في موتِها إلّا نومًا. أنا أستطيعُ أن أرى في هذه الرقّدة الّتي عاشتها طليتا، وطنَنا وشرقَنا، اللّذين يعيشان في حالةِ رقادٍ، كما هي حالة العذراء، الّتي رَقَدَتْ بالربّ ولَم تَـمُت. إخوتي، إنّ المسيحيّ قد عَبَرَ الموت، ووَطِأه بمَوته كما معلِّمَه. على المسيحيّ أن يكون إنسانًا "عبوريًّا"، "فِصحيًّا"، وهذا يعني أن يتعاطى مع فِكرة الموت بِرَجاء، فَيَخرق حاجزَ الموت إذ إنّه يؤمن بأنّ بعد الموت هناك حياة، ويُدرِك أنَّ الموت ليس هو النّهاية، بل هو أوَّلُ خطوةٍ صَوب الحياة. على المسيحيّ أن يعرف قراءة علامات الحياة، وأنْ يختار الحياة.
نعم، في حياتنا، أشخاصٌ يتساءلون، كما تساءلت الجموع في بيت يائيروس عند مجيء يسوع، قائِلين في نفوسِهم: ألا يُدرِك الربُّ أنّ الصَّبيّة ماتت وليست نائمةً كما يقول؟ هل هو يسخر منّا؟ هناك أشخاصٌ إذا كلَّمتَهم على الأمل والرَّجاء والغَد الأفضل والـحُلم، أي على الأمور الّتي لا تريد أن تخسرها، يَسخرون منك قائِلِين: هل أنتَ فِعلاً تؤمن بأنَّ الغَد سيكون أفضل في لبنان وأنّ أوضاعه يمكن أن تتحسَّن؟ نعم، أنا ما زِلتُ أؤمن بأنَّ الأمور ستتحسَّن في لبنان وفي شرقِنا وفي العالم. أنا أُصدِّق لأنّي أؤمن بأنَّ القضيّة لم تكن يومًا بين أيدي أُناسٍ، بل هي في يديّ الربّ. إنَّ الربَّ يريد أن يأخذنا حتّى النِّهاية، وهنا علينا أن نعلم أنَّ مشيئة الربّ ليست أن نلعب مع "ذَنَبِ الأفعى"، فالنَّاس الّذين يُقدِّمهم لنا الإعلام على أنَّهم أبطال هذه المرحلة الَّتي نمرّ بها في أوطاننا، أي قادَتِنا وزعمائنا، هُم السَّبَبُ في ما وَصَلنا إليه. إنَّ هؤلاء الزَّعماء والقادة ليسوا الأبطال الحقيقيِّين لِـما نعيشه، فَهُم "دُمًى متحرَّكةٌ" يُحرِّكها الشَّيطان إضافةً إلى نزواتهم وأفكارهم البائسة وأموالهم ورِفاق السُّوء الّذين يعيشون في وَسَطهم. أُطالِبُكم إخوتي، أن تَدخلوا في منطِق يسوع، الّذي سَخِر من قيافا الّذي كان بِدَوره يسخر من الربّ عندما طالبَه بالنُّزول عن الصَّليب كي يؤمن به. إنّ منطقَ الربّ يسوع يقوم على السّخرية من بيلاطس الّذي حَكمَ عليه بالموت، معتقدًا أنّه بِتِلك الطريقة يَنتهي أمرُ يسوع. إنّ منطقَ يسوع يقوم على السّخرية من الصَّالبين والهازئين والمتربِّصِين بالربّ بُغيَة التخلُّص من مشروعه لأنّه كان يحتَلّ مكانهم. كان يسوع متَّجهًا نحو "وِكر الأفعى"، أي إلى مكان اختبائها للقضاء عليها. إخوتي، نحن نعلم أنَّ وَطننا يعيش في حالة موت على مِثال طَليتا، ولكنَّ هذا الموت ليسَ هو الموت النِّهائي. نعم، هذه الصَّبية اليوم تُدعى لبنان أو الشرق، أو أيّ شيء آخَر تريدونه؛ لا يَحقُّ لنا أن نحكم عليها بالموت، لأنَّ الله وَحده هو الذي يستطيع أن يفعلَ ذلك. نحن نعلم أنَّ هناك أشخاصًا تربَّصوا بهذه الصَّبيَة وأعلنوا وفاتها. وهنا أودُّ أن أقول لكم إنَّ الطبيبَ واحدٌ وهو يسوع الـمسيح، وهو سيأخذنا إلى حيثُ هو موجودٌ. وحين يستسلم جميع النَّاس الّذين يشعرون بأنَّ في أيديهم مُقدَّرات ومقوِّمات الحياة مُعلِنِين أنَّه ليس باستطاعتهم شيء، سيَكون الوقت قد حان لِيَتدخَّل الله الّذي لديه الكلمة الأخيرة في أيِّ وَضعٍ كان، فعِندَه وحده كلمة الحياة. عندما أُدرك أنَّ الله هو الحياة، عندها أُدرِك أنَّه هو يستطيع أن يقول كلمته الّتي توقِظ الأموات مِن رقادهم، قائلاً للمَيْت أو الرَّاقد: تفضَّل، أُدخل إلى الحياة؛ وللّذين مِن حوله: "أطعِموه"، أي ساعدوه على استعادة صحتَّه. إخوتي، إنَّ واقِعَنا كلّه يُشبه الواقع الّذي قرأناه في هذا النَّص، أي إنّه واقعٌ عبوريّ؛ فهذه الصَّبيَّة الّتي تَليقُ بها الحياة، الّتي ما زالت نَضِرة، أي أنّها تدفقُ حياةً وتعطيها، قد انطفأت وذَبُلَت كالزَّهرة. لو كانت الفتاة حقًّا نائمة، لَما كان هناك داعٍ لِدعوة يسوع لإيقاظها، غير أنّ الـمُحيطين بها كانوا يعلمون جيِّدًا أنّها ماتت. عند سَماعه كلامَ الجموع الّذين أعلنوا وفاة الصَّبيّة، أتى يسوع إلى هذا البيت، ليقول لهؤلاء: لقد قلتُم كلِمتكم البشريّة، فاسمَحوا لي بأنّ أقول كلمتي الإلهيّة، وقد قالها عندما أقام الفتاة من رُقادِها. إنّ الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، يُخبرنا عن عدَّة مشاهد، كانت فيها الكلمة الأخيرة للربّ: إحياء طليتا ابنة يائيروس، إحياء لِعازَر، إحياء ابن أرملة نائين. إنَّ كلمة الله هي كلمة حياة.
اليوم، نفوسُنا ميِّتة، وأحلامُنا في حالةِ رقادٍ وموت، إضافةً إلى أُمورٍ كثيرة في داخلِنا بدأت تَذبُل وهي الآن على شَفير الموت. اليوم، عندما أَنظر إلى العديد من الشَّباب والصَّبايا الّذين يَجب أن تضجَّ فيهم الحياة وتكون كلمتهم مُرعِدة، وأَراهُم في حالة إنطفاءٍ، فاقدين الرَّجاء، هذا يعني أنّ الوقت قد حان لِنُعلن ونعترف بأنّ الكلمةَ الآن هي لله وَحده. على كلمة الله أن تكون هي الأساس في حياتنا، لأنَّ كلمته هي الوحيدة الّتي تُعيد إحياء العِظام الرَّميمة، وتُشدِّدُ الإنسان. لا أدري اليوم إنْ كُنّا نَثِق فِعلاً بأنَّ كلمة الله قادرةٌ على أن تُغيِّر الإنسان وأن تُعطيه مَعنى لحياته، وأن تُحييه، وتُعيد له الرُّوح. عندما يموت إنسانٌ، نقول إنَّ روحَه فارقَتْه "طِلعِت روحو"، ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح: إلى أين ذهب هذا الرُّوح؟ فإنْ كان الرُّوح هو مُلكُ الله وهو لا يريد أن يسترِدَّه الآن، فمَن يستطيع أن يمنعه مِن ذلك؟ فإذا كان الّذي أعطانا هذا الرُّوح هو سيِّدُه، فهل يحقُّ لي أن أقول إنّ الأمور انتهَت؟ أقول لكم إخوتي، لم ينتهِ شيء، ولكنّ الأمور قد تكون متَّجهة إلى أبعد ممّا نراهُ اليوم. لَسنا نَحن مَن يَرسم نهايات الأمور، ولا مَن يكتُبُها. في نظر الشيطان، موتُ الربِّ يسوع على الصَّليب هو النَّهاية، هو الغلبة، هو الانتصار؛ بينما نرى أنَّ موت يسوع لم يكن النِّهاية، موتُ يسوع كانَ بدايةَ تحريرِ كلُّ مَن كان مربوطًا، أو مخنوقًا، أو موضوعًا في جحيمه للشَّيطان.
ورأينا في إنجيل متّى، كيف تفتَتَّت الصُّخور، واهتَّزت القبور وتَفتَّحت، وقام الرَّاقِدون وخَرجوا مِن قبورِهم، عندما قام الربُّ يسوع. إذًا، الأمر نفسُه تَكرَّر مع طليتا. إحياء طليتا هو استباقٌ لموت الربِّ يسوع وقيامته، ومن خلال إحيائها، أراد الربُّ أنّ يقول للمؤمِنِين به إنّ رغبته هو أن يُعطينا الحياة، وأنَّ حياة هذه الفتاة هي بَين يديه. إنَّ حُلم الفتاة وأهلِها يتجسّد في أن تبقى هذه الصَّبيّة على قيد الحياة وتعيش بينهم. إنّ هذا الحُلم لا أحد يستطيع أن يُحقِّقه لهذه العائلة غيرَه هو لأنّه سيِّدُ الحياة، وبالتّالي لن يسمح الربُّ لأحدٍ بسرقة هذا الحُلم من يديّ الربّ. إذا كُنّا نرغب في أن تكون أحلامُنا وأوطانُنا قابلة للحياة، والنّاس الّذين نُحبِّهم من أبناء الحياة، علينا أن نضعهم بين يديّ الربّ. وهنا نتذكَّر الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنّا، الّذي فيه نقرأ بِما معناه: مَن يستَطيع أن يختَطِف من يدي الله شيئًا؟ لا أحد.
إذًا، إنّ حياتي بين يديّ الربّ، وهذا يعني أنَّ الربّ هو الّذي يَهبها لنا وهو الّذي يُقرِّر مَتى يسترِدَّها منّا. إنّ الله هو الّذي أعطى الحياة لِطَليتا، وهو الّذي يستَرِدَّها منها ساعةَ يشاء هو، لا ساعة يشاء الآخَرون أي الـمُحيطون بها قائلِين للربّ: الفتاة ماتت، ونحن نستطيع أن نميِّز بين النَّوم والموت، ولسَنا بحاجة إليك كي نُعلِن وفاتها. إخوتي، نحن البشر قد نعَلم شيئًا ولكنَّ أشياءَ كثيرة عن الحياة لا نَعلَمها، لذلك يقول لنا الربُّ إنّه هو سيِّدُ الحياة. وإذا كُنتم تؤمنون حقًّا أنّي سيُّدُ الحياة، دَعوني أعمل فأُعطي الحياة مِن جديد، دَعوني أَضُخُّ الحياة فيكم وفي كلِّ شيءٍ حولَكم. إخوتي، إنّ تفكيرنا البشريّ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن تفكير الله، وقد عبَّر الله عن ذلك فقال لِبطرس: "اذهب عنِي يا شيطان" (متى 16: 23) إذ إنّ فِكرَكَ هو فِكرٌ بشريّ لا فِكر الله. نعم إخوتي، أحيانًا تكون أفكارُنا بشريّة، لا أفكارًا إلهيّة.
ماذا وإلى أين يأخذنا الربّ؟ حتّى ولو فَرَغنا من الحياة، حتّى ولو لم يتبقَّ لنا رصيدٌ من الدَّقات في قلوبنا تَدُقُّ للحياة، الربُّ تركَ فينا شيئًا من دَقاتِّه السَّماويّة لتَنبُض فينا الحياة من جديد، وكم يتمنَّى الربُّ أن يقول لنا: انتهى زمانُكم على هذه الفانية، تفضَّلوا تابعوا عمركم وحياتكم الحقيقيّة معي في الملكوت السَّماويّ. أنا شخصيًّا، لا أُحبُّ أن أتكلَّم على الحياة على الأرض، وعلى الحياة في السَّماء، إنَّما أُحبّ أن أتكلَّم على عُمرٍ نقضيه على هذه الأرض وعلى حياة أبديّة نقضيها في السَّماء. هذا ما أحببت أن أقوله لكم عن هذا النَّص.
في الخِتام، أودُّ أن أطرَح عليكم هذين السُّؤالين:
"إنّها لم تَـمُت إنّها نائمة": هل تعلمون أنَّ النِّيامَ كُثُرٌ اليوم، فماذا نقول لهم؟
النِّيامُ كُثُرٌ في عالَمنا اليوم، وأعلم أنَّ أشخاصًا كُثرًا ينامون على أموالهم، ينامون على أمجادٍ، ينامون على أملِ أن يكون الغَدُ أفضلَ. وقد يقول البعض إنّ الوقت الآن ليس مناسبًا لإظهار قُدراتهم؛ أمّا البعض الآخَر فقد يُفضِّلون السُّكوت عن بعض الأمور من أجل المحافظة على حياتهم عند تَغيُّر الأنظمة.
عادةً، عندما تجد الأمُّ أنّ ابنها قد استغرق في النَّوم طوال النَّهار، تُسارِع إلى إيقاظِه قائلةً له: هيّا يا بُنيّ، قُم من النَّوم، استيقظ، فإنَّك أَمضيتَ النَّهار بِطولِه نائمًا.
إنَّ أشياءَ كثيرةً نائمةٌ في داخِلنا: الماردُ الموجود فينا نائمٌ، البَطلُ الموجود في داخِلنا نائمٌ، أحلامُنا وقِصَصُنا الّتي نُحبُّ أن نَكتبها نائمةٌ فينا. في الكثير من الأوقات، نلاحظ وجود أشخاصٍ في هذا العالم، لا يليق بهم إلّا أن يكونوا "رجالات مقابر". أقول لأمثال هؤلاء: متى سَيَحين الوقت، بالنِّسبة إليكم، كي تضخُّوا الحياة في هذا العالم؟ إخوتي، إنّ بعض النَّاس يستلِّذون بالنَّوم، لِدرجةٍ أنّ النَّوم يَحتَلُّ حياتهم، فيشعرون برغبةٍ في النَّوم من جديد متى استفاقوا، مع أنّ الوقت قد حان للاستيقاظ. متى ينتهي هذا الرُّقاد؟ متى يحين وقت الصَّحوة؟ في النّهاية!
إذًا، هناك أشخاصٌ ينامون على أمجادٍ، كما أنَّ هناك أشخاصٌ ينامون على كنز معلوماتٍ مهمَّة جدًّا يحتاج إليها شعبُنا وحكّامنا، ولكنَّ هؤلاء يرفضون الإفصاح عنها. للأسف، في الشَّرق الأوسط وفي لبنان، هناك قُضاةٌ يُفضِّلون الإبقاء على بعض الملَفَّات المهمَّة والدَّسمة في أدراج مكاتبهم بدلَ الكَشف عنها. تخيّلوا معي هذا الفجور! أقول لكم إنّ أمَثال هؤلاء يحتاجون إلى مَن يوقِظهم من سُباتِهم العميق.
إنّ ليتورجيّة الموتِ جميلةٌ جدًّا في كنائسنا. فَلماذا لا نزال متمسِّكين بالعادات والتَّقاليد والأعراف للتَّعبير عن حزننا؟
غريبون هُم النّاس! فَعلى الرُّغم من تعبيرهم عن الإيمان والرَّجاء والرَّحمة والمحبّة، نَراهُم عند مواجهتهم لمأساةٍ معيّنة، سُرعان ما ينهارون كما تنهار حبّات العِنَب. أَتفهّمُ بكاءنا وحزنَنا، فَيَسوع نفسه قد بكى أمام قبرِ صديقه لعازر؛ لكنْ أنا لا أستطيع أن أفهم بعض الحركات الّتي يقوم بعض النّاس في أثناء الدَّفن، على سبيل المِثال، عندما يطرق البعض بأيديهم على التّابوت، وإطلاقهم صرخاتٍ لا تُعبِّر عن الرَّجاء، وترقيص التابوت. في بعص الأحيان، حين تجمَعنا المأساة حول الجثمان، نُقيم للأسف مَندَبة غيرَ طبيعيّةٍ. إنّ اللِّيتورجيّتنا في الكنائس الأرثوذكسيّة والبيزنطيّة والكاثوليكيّة والمارونيّة هي ليتورجيّات حياة. فعلى سبيل المِثال، في ليتورجيّتنا المارونيّة، نرتِّل قائلين:"مع يسوع الـمَيْتُ حيّ، فيه تمّ كُلُّ شيء. فالأموات في البيعة ردّوا الوديعة. خُذْ مِنهم ما سلَّمتَ، واجمعهم حيثُ أنتَ. في رؤياكَ الفردوسُ، أنتَ الملكوت. هَبْهم ذِكرى كالبَخور، في الدُّنيا واجعلهم نور. مِن نور الدَّهر الآتي، عندما تأتي، لولاكَ ضاعَ المعنى، لكنْ مُذْ أنتَ مَعنا، آمَنَّا أنَّ الموتى غابوا في الحضور". أين نحن مِن هذا الكلام الّذي نردِّده في ليتورجيتنا في أثناء الدَّفن؟ إخوتي، مِن الطَّبيعي أن نحزَنَ على فراق الأحبّة، لكنْ "لا تحزنوا كسائر النَّاس الّذين لا رجاءَ لهم"(1 تس 4: 13). فإذا كان لدينا إيمانٌ ورَجاءٌ ومَحبّةٌ وكلّ الفضائل المسيحيّة، لا يَنقُصنا بعد ذلك إلّا واحدة وهي الثّبات فيها. ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتَصرُّف.
كلمة رجاء
"فقال لها: لا تَبكي!... يا فتى، أقولُ لكَ: قُم!" (لو 7: 11-16)
الخوري يوحنّا داود
خادم رعيّة سيّدة العناية – البوشرية
2/11/2021
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي وأخواتي المحبوبِين من الربّ،
اليوم سنَتأمّل معًا بكلمةِ رجاءٍ، نَستَقيها مِن نصّ القدِّيس لوقا: "إحياء ابْنِ أرملة نائين".
هذا النّص الّذي يَصِفُ لنا هذا الواقع المرير المؤلِم الّذي نَعيشه نحن البشر خصوصًا أمام الموت، وخصوصًا عندما نَفقد أحدًا نحبُّه وهو عزيزٌ على قلبِنا. يَصِف لنا هذا النَّص هذه المرأة الّتي كانت تمشي في مَوكب الموت، مَوكب الحزن، أمام نَعش وحيدِها الذاهب إلى التُّراب، إلى الفناء، إلى النِّهاية. هذه المرأة السّائرة في هذا الموكب، ولا أحدَ يَستطيع أن يُعزِّيها. وفي قلب هذا الـمَوكب، وفي قلب هذا الواقع، تدخَّل الربّ ومعه مَوكبٌ آخر، مَوكب يضجُّ بالحياة، مَوكبٌ يحمل كلّ رجاءٍ وتعزية، يقف أمام هذه المرأة ويقول لها: "لا تبكي". كلمةُ تعزيةٍ يُتبِعها يسوع بكلمة الحياة: "لكَ أقول: قُم". أمام مَوكب هذا الموت، مَوكب الحياة! المنتصِر هو مَوكب الحياة. لا يمكن للموت أنْ تكون له الكلمة الأخيرة. لا يمكن لِلحزن، لِليأس، أن يكون لهما الكلمة النِّهائيّة. فالكلمة النِّهائيّة هي لِيَسوع، هي للحياة، هي للرَّجاء، هي للقيامة. وكما تدخَّل الربّ يسوع فوقفَ حامِلو النَّعش. وَوَقفوا، فتَسمَّر الموت أمام مَوكب الحياة، الّذي يقوده الربّ. لذلك نَعَم، هذا هو إيماننا اليوم، هو أنّ يسوع يقود مَوكب الحياة منتصِرًا على مَوكب الموت.
وهذا يُذكِّرنا إخوتي الأحبّة، بإنجيل القدِّيس يوحنّا عندما يقول الربُّ فيه: "أنا أَتيتُ كي تكون لهم الحياة" (يو 10: 10) واليوم، يسوع يُثبِت من خلال هذه الآية، أنّه سيّدُ الحياة ومُعطيها. كما نتذكَّر أيضًا من خلال هاتَين الكلمَتَين الـمُعَزِّيَتَين، اللّتَين قالهما لهذه الأرملة: "لا تبكي"، نتذكَّر في سِفر الرُّؤيا قَول الكتاب: "وسيمسَح الله كُلّ دمعةٍ من عيونهم" (رؤيا 21: 4)، "لأنّ ما لم تَرَهُ عينٌ ولم يخطر على بال بشر، ولم تسمع به أُذُن، ما أعدَّه الله للّذين يُحبُّونَه" (1 كور 2: 9).
هذا هو رَجاؤنا إخوتي الأحبّة، ويسوع هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد. فيَسوع الّذي زرع الرَّجاء والّذي جَعل الكلمة الأخيرة للحياة، وانتصَر على الموت، قادر اليوم أيضًا في عِزّ موتنا، وفي عِزّ واقعِنا المرير المؤلِم أنْ يتدخَّل، ويَبُثّ فينا روح الرَّجاء، بِكلمته الّتي تُعطي الحياة، لأنّ الله هو إله كلّ تعزيةٍ، له المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
تتمة...كلمة رجاء
"مَن سَمِع كلامي وآمَن بِمَن أرسَلني، فلَه الحياة الأبديّة" (يو 5: 24-29)
الأب إدوار حنّا
خادم رعيّة سيّدة الأرز – هيوستن، تكساس
16/10/2021
الله معكم إخوتي الأحبّاء، خصوصًا جماعة "أذكرني في ملكوتك"،
في الإصحاح الخامس من إنجيل القدِّيس يوحنّا، يقول الربّ يسوع: "مَن سَمِع كلامي، وآمَن بِمَن أرسَلني، لَهُ الحياة الأبديّة"(يو5: 24). إنّ هذا الكلام مطمئن، هذا الكلام قريبٌ إلى القلب، يدخل إلى أعماق كياننا، إلى أعماق وجودنا، إذ يقول لنا الربّ يسوع: إنّ الحياة الأبديّة هي لكم. لماذ؟ لأنّنا نسمع كلمة الله، ولأنّنا آمَنّا بالّذي أرسَل إلينا يسوعَ المسيح لِخلاصِنا. إذًا، سماع كلمة الله، والإيمان به، هما شرطان واضِحان من الربّ يسوع، كي ننال الحياة الأبديّة. لا بأعمال عظيمة نَعملُها، ولا بأعاجيبَ نقوم بها، بل بِسَماع كلمة الله والإيمان به، ننال الحياة الأبديّة. فالربّ يسوع قام بالعملِ العظيم، لأنّه فَدانا بحياته، عندما قدَّم دَمَه على الصَّليب كي يُخلِّصنا، ولم يطلب منّا شيئًا إلّا أن نسمع كلامه ونؤمن به، كي نرث الحياة الأبديّة.
إخوتي الأحبّاء، ونحن نصلِّي لموتانا، خصوصًا في جماعة "أذكرني في ملكوتك"، نَلتقي مرَّةً في الشَّهر كي نُصلِّي لأمواتنا، أهلنا وإخوتنا وأبناء لنا ورِفاق وأصدقاء ومعارف، على رجاء الحياة الأبديّة، لأنّنا نعلم أنّ هؤلاء الأشخاص قد سمعوا كلمة الله وآمنوا به. وصلاتنا لأمواتنا تُشكِّل كلمة رجاء لنا نحن أيضًا، وهي الاستمرار في سماع كلمة الله. وبالطَّبع، هذا السَّماع سيُولِّد فينا حماسةً كي نقوم بأعمال محبّة مع الآخَرين، وبهذه الطريقة أيضًا يُبنى الرَّجاء في الحياة الأبديّة. وهكذا تُولَد الفضائل الثَّلاث: الإيمان الّذي يُخلَق من السَّماع، ويَخلقُ فينا المحبّة من خلال أعمال المحبّة، وهاتان الفضيلَتان تَخلقان فينا الرَّجاء بأنّ الحياة الأبديّة ستكون لنا.
فطوبى، كُلّ الطوبى لكلِّ عائلة تجلس مع بعضها البعض لقراءة الإنجيل، محاولةً فَهمه.
طوبى لكلِّ شخص يسعى إلى النموُّ روحيًّا، خصوصًا من خلال التأمُّل بكلمة الله والجلوس معها، وأيضًا الجلوس فيها أي أن يسكن الإنسان في قلب كلمة الله، فهناك ينمو الإنسان روحيًّا ويتغذَّى، لأنّه سيسمع كلمة الله في همساتٍ عميقة، فَينمو فيه الإيمان ضدَّ كُلِّ التَّجارب الّتي تعترضه.
طوبى أيضًا لكلِّ إنسانٍ يشهد بإيمانه، بأعمال محبَّة، أكان في العمل أو في المدرسة أو مع الأصدقاء أو الأقارب. إنّه يشهد لكلمة الله لأنَّه سمعها وآمَن بالله، لذلك هو لا يحتفظ بهذه الكلمة له وحده، إنّما يُشارِكها مع الآخَرين.
طوبى لكلِّ جماعةٍ تعيش كلمة الله وترحَمُ بعضها البعض، فتكون هذه الجماعة هي اللقاء، فَينالُ الشَّخص الشِّفاء في قَلبِها؛ وتُصبح هذه الجماعة المسيحيّة "المستشفى الروحيّة" الّتي تشفي من الأوجاع الروحيّة. وتكون هذه الكلمة الّتي نسمعها من الله تتحقَّق من خلال كلمة شفاءٍ بين بعضنا البعض. وهكذا إيماننا لا يكون بالكلام بل بالأعمال. إذًا، ليست أعمالنا هي الّتي تُخلِّصنا إنّما إيماننا بيسوع هو الّـذي يُخلِّصنا، ولكن لا يستطيع الإيمان أن يبقى عقيمًا، إذ عليه أن يتحوَّل إلى محبَّة، فَيخلق فينا الرَّجاء بالحياة الأبديّة، فَنَرِثَ معًا الحياة الأبديّة.
فصلاتنا اليوم، صلاتنا لموتانا هي أن يجدوا الرَّاحة الأبديّة وأن يكونوا وجهًا لوجه مع الله. صلاتنا اليوم، عائلات وشبيبة وأشخاص عاملين وناجحين في حياتهم، هي أن نسمع أكثر كلمة الله، وأن ينمو إيماننا، وأن يتحقَّق رجاؤنا أكثر فأكثر بالحياة الأبديّة. آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.
تتمة...كلمة رجاء
"لماذا تضِّجون وتَبكون؟ لَم تَمُت الصَّبيّة وإنَّما هي نائمةٌ.
يا صبيّة، لَكِ أقول: قومي!" (مر 5: 35-43)
الخوري لويس سَعد
خادم رعيّة مار جرجس - غوايا، القبيات
28/6/2021
باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
يومٌ مباركٌ للجميع، هذا اليوم الّذي فيه نفهم القيامة على ضوء الرُّوح القدس، الّذي يُزلزل كُلّ ما يمكن أن يتزلزل فينا، كي يُثَّبِت فينا الّذي لا يتزلزل. وأكثرُ ما يُزلزَل فينا يتجلّى عند وصولنا إلى سرّ الموت، أو عند فقداننا أحد الأحبّة. عندما نفقد أحبّاءنا ويَغيبون عنّا، نتساءل قائلِين: أين هُم؟ هل انتهوا؟ هل هذه هي الحياة؟ إنّنا نَصِلُ إلى هذا الباب الّذي يُغلَق أمامنا، وعنده ينتهي كُلّ شيء. ولكن، إذا تأمَّلنا في إنجيل القدِّيس مرقس، في هذه الصّبيّة الّتي تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، والّتي ارتمى أباها على رِجلَيه أمام الربّ، قائلاً له إنّ ابنته قد أشرفت على الموت. عند سماعه لِطَلب هذا الرَّجل، نجد أنّ الربّ قَبِل بالسَّير معه في هذه الطريق، ومرافقته في هذا المشوار: كان الرَّجُل يَعدُّ كُلّ خطوةٍ من خطواته طوال الطريق. في مسيرتنا في طريق الألم، نعتقد أنّنا نسير وحدنا، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ الربَّ يسير معنا، تمامًا كما سار مِشوار الألم مع هذا الرَّجل.
في منتصف الطريق، وفي تجربةٍ قويّة تعرَّض لها هذا الرَّجل، نسمع بعض النَّاس يقولون له: "لا تُزعِجْ المعلِّم، فإنّ ابنتك قد ماتت". هنا تأتي كلمة الربّ لتَقول لنا: آمنوا وأكمِلوا الطريق، فَمَعي لا توجد نهاية. عندما وصلا إلى البيت، كانت المفاجأة قول الربِّ للحاضِرين في البيت: "لماذا تضِّجون وتَبكون؟ لَم تَمُت الصَّبيّة وإنَّما هي نائمةٌ" (مر 5: 39). إنّ كلمة "نائمة"، دفَعَتْ الجميعَ إلى الضَّحك، لأنّ النّوم يعني الرَّاحة، أمّا الموت فهو نهاية. إنّ الربَّ يدخلُ إلى بيوتنا وإلى حياتنا وإلى عائلاتِنا، ويَقلب المقاييس. عندما يقول الربّ عن موتِنا إنّه نومٌ، فهذا يعني أنّ قلبَ الإنسان هو بأمسِّ الحاجة إلى تحقيق كُلّ أحلامه، وإلى عَيشِ كلّ العُمر، والحصول على كُلّ الصِّحة وكلّ الفرح، وكلّ الحياة مع الجماعة. فإذا نَقُصَ شيءٌ من هذا العُمر، يأتي الربّ لِيُوقِطنا إلى العُمر الّذي لا ينتهي. انطلاقًا من هذا الكلام، قال الربُّ عن الصَّبيّة إنّها نائمة، فنَومُ الصَّبيّة يعني أنّها تَحلُم بأن تُكمل مسيرة حياتها. فَجاء الربّ إليها وأَيقَظها من نومِها، ودعاها لِتُكمِل مسيرة هذه الحياة مُستنِدةً إلى كلمته المقدَّسة. إنّ الربَّ يسوع دعا هذه الصَّبِيَة لإكمال مسيرة حياتها مستندةً إلى كلمته، وأيضًا إلى لمسته الشافية: وفي هذا الإطار، يقول لنا القدِّيس مرقس إنّ الربَّ قد لَمَسَ هذه الصَّبيّة، وهذا ما يَحتاج إليه الإنسان خصوصًا في قلب الحُزن. نحن بحاجةٍ إلى أن يَلمس قلبَنا شخصٌ نُحبُّه، فالشِّفاء يتمّ باللَّمس.
بعدما لَمسَ الربُّ هذه الصَّبيّة، قال لها: "يا صَبِيَّة قومي!". بالطَّبع هنا، نحن لا نتكلَّم على القيامة من النَّوم، إنّما على القيامة من الموت. لماذا هي قيامةٌ من الموت؟ لأنَّنا في الموت، نفقد معنى الحياة، متى اعتقدنا أنّ رجاءنا هو في هذه الحياة فقط، لأنَّه عندها يَصُحُّ فينا قول بولس الرَّسول: "نحن أشقى النَّاس". هنا تأتي كلمة الربّ: "قومي يا صبيّة"، فيُقيمها من نومها، ويُرسلِها ويَطلُب إطعامها. هنا نرى دور الجماعة الّتي عليها أن تُطعِم جميع المدعوِّين إليها، وهنا يتجلَّى دور الكنيسة الّتي تُطعم المؤمنِين بعضهم بعضًا من كلمة الحياة، ومن جسد الربِّ ودمه، الّذي هو زادنا في السَّفر.
لذلك، فلنجدِّد إيماننا ولنَسمَع صوتَ ربِّنا في منتصف طريق حياتنا وتجاربنا وضِيقنا، وفي ظلّ فقداننا أحبّائنا في منتصف العُمر، يقول لنا: إيّاكم ألّا تؤمنوا، وتابعوا الطريق، لأنِّي أنا القيامة والحياة. آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.
كلمة رجاء
"تعالَوا يا مبارَكي أبي، رِثوا الملكوت الـمُعَدّ لكم منذ تأسيس العالَم". (متى 25: 34)
الخوري جوزف سويد
خادم رعيّة مار شربل - عمان
الوكيل البطريركي للموارنة في الأردن
8/5/2021
باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
نسمَعُ كلام الربّ، الّذي يُذكِّرنا قائلاً لنا: "تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي، رِثوا الـمُلك الـمُعَدّ لكم مِن قَبل إنشاء العالم" (متى 25: 34). وهذا يعني بكلّ بساطة أنّ ربَّنا، الـمَلِك والرَّاعي الدَّيان، قد تماهى مع الجِياع والعِطاش والعُريانِين والغرباء، والمسجونِين والمرضى. هِيَ ستَّة أفعالٍ موجودة في نصّ الإنجيليّ متّى الإصحاح 25، وأمّا الفعل السَّابع فَهو الفِعل الّذي من المفترض أن نُركِّز عليه اليوم، ونَطرَحه على مائدَتِنا.
بدايةً، إنّ الربَّ يسوع لم يكن يَعني بالجوع جوعَ البطن، بل أراد القول ما هو أبعد من ذلك: أراد أن يقول لنا إنّ أخانا الإنسان اليوم هو مهجَّرٌ، مُنهارٌ، مهروسٌ، مجروحٌ، يعيشُ حالةَ موتٍ وحالة بؤس، وقد يكون هذا الإنسان "مُفَجَّم روحيًّا" لِكَثرة ما نال من صَفَعات من الحُكَّام، صَفَعاتٍ من الأيّام. اليوم، أخونا الإنسان سجينٌ في وَطَنِه، في أرضه وفي بيته. اليوم، أخونا الإنسان أَسيرٌ، مخطوفٌ، مقهورٌ، لديه جوعٌ للحريّة وللكرامة وللاستقلال، كما قد يكون لديه جوعٌ للبحث عن ذاته. اليوم، أخونا الإنسان جائعٌ، مريضٌ، مسلوبُ الكرامة، مُهانٌ، منهوبٌ، غارقٌ في الدّيون تتآكله الهُموم. وأنتم تعلمون كم أنّ هذه الأيّام صعبة! إنّ أخانا اليوم يعيش في حالةٍ من القلق والقَرَف، والضّياع: هل ييقى أو يهاجر؛ ولا يدري إنْ كان الوضع سَينفرِج أو سينفَجِر، هل ينحجر أو ينتحر؟ كلّ هذه التساؤلات تدفع أخانا الإنسان إلى العيش في حالةٍ من الضَّبابيّة. هذا ما تكلَّم عليه الإنجيليّ متّى في الإصحاح 25، وهذا ما سنُركِّز عليه اليوم: ماذا يفعل الإنسان اليوم وماذا سيَفعل غدًا؟ لا أحد يعلم.
ما أريد أن أَقوله لكم هو أنّه علينا أن نَطمئِنّ، فالربُّ قال لنا: "تَعالَوا إليّ" وسَمّاهم: "تعالَوا أنتم يا مَن باركهم أبي". وأريد أن أقول لكم: كم أتمَّنى أن يتكاثر "المار بولسِيِّين"، فَيَسمعون صوت الربِّ يقول لهم: تعالوا أيّها "المار بولسيِّين" الّذين كان همُّهم على هذه الأرض إشعال قلوب النَّاس. تعالوا "أيُّها اليوحنّاوييِّن" الّذين وضَعوا رؤوسهم على صَدر يسوع المسيح، كي يَسمعوا دقّات قلبه ويُصغوا إلى إلهاماته. تعالوا يا أصحاب القلوب الطَّيبة، الّذين لوَّنوا سواد الحياة، بمؤسَّساتٍ إنسانيّة ضَعيفة. تعالَوا يا مَن شمَّرتم عن زنودكم، ونزلتم إلى أرض الواقع، وقد ذَهَبتُم إلى ما وراء خطوط العَدّو، حَيثُ لا يَجرؤ الكثيرون إلى الذَّهاب صوبه؛ تعالَوا لأنّكم نزلتم إلى الشَّوارع وانَحنيتم على كلّ الأرصفة، وأَضَأتُم عيونَكم، وحَمَيتُم الضَّائعين، وأَطعمتم الّذين لم يبقَ لديهم رغيف كي يأكُلوا ويتقاسموه. تعالَوا، أنتم الّذين تذهبون إلى كُلّ الأماكن وتُحبُّون أعمال الرَّحمة، وتأتون بالأشخاص الّذين مَحَتهم ظروف الحياة.
أعلمُ أنّ المطلوب إليكم اليوم هو عملٌ استثنائي. أَعلمُ أنَّ الكثير من النَّاس قد أصبَحت وجوههم، مِثلُ لونِ الخريف، إذ بدأت سِماتُ التَّعب تبدو على وُجوههم. أعلمُ أنّ هناك الكثير مِن الـمَنسيِّين والـمَرمييِّن في العتمات، في البيوت. تعالَوا، يا كُّلّ الّذين يُطرَدون من الحَقّ، كُلّ الّذين يطالبون بأنْ يُعطَوا الحقّ، أي أنْ ينالوا العدالة. تعالَوا يا أيهّا النَّاس، إلى يسوع الّذي قال لكم: "تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي". تعالَوا أنتم الّذين باركهم أبي، أنتم الّذين أَمضَيتم ساعاتٍ تَسمَعون وتُصغون إلى الّذين سُرِقت منهم نعمة الحياة والفرحة والبسمة والمستقبل. أعرِف أنَّ خراف الربّ كثيرةٌ جدًّا، وهؤلاء يستطيعون أن يكونوا مِن الأشخاص الّذين يسمعون هذه الآية: "تعالَوا يا مَن باركهم أبي". تعالَوا أيها النِّعاج الّذين كافَحتُم، كي تكونوا علاماتٍ فارقة في هذا الزَّمن الرَّخيص. تعالَوا يا أيّها الِحملان الّذين كُنتُم بِصدِقٍ سُعاةَ خَيرٍ وأَيادي بيضاء، وقد كارَمْتُم بِصدِق الكرَّام والكرم، وقد تكون "الإكراميّة" الّتي تحصلون عليها ليست كافية؛ وعلى الرُّغم من ذلك تذهبون بِصِدقٍ لِتَدفئة القلوب الباردة. تعالَوا يا أَصدقاء يسوع، الّذي يقول لهم اليوم: تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي". تعالَوا أيُّها الأصدقاء، لِتُتابِعوا ورشةَ عملِ يسوع، لِتتابعوا مشروعه الخلاصيّ. تعالَوا يا أصدِقاء القُربان، تعالَوا يا أصدقاء العذراء، تعالَوا يا أصدقاء إخوتي الأبرار والصدِّيقين جميعًا، مار شربل والقدِّيسة رفقا والحرديني، وكلّ القدِّيسين الَّذين تُقيمون لهم التِّسعاويات، لأنّكم أنتم أيضًا في صلاتكم تُلهِمون الكثيرين؛ فأنتم كُنتم العاصفة في وَجه المرائين، كُنتُم فَعلةً في حِصاد يسوع الكبير، وما زال الربُّ يبحثُ عن فَعلةٍ لِحِصادِه. تعالَوا "أَيّها البُطرسِيِّين"، الّذين نَسِيتُم ذواتِكم على شواطئ الدُّنيا، فَكُنْتُم صيّادي بشر. تعالَوا أيّها الرُّعاة، الكهنة والأساقفة والمطارنة والبطاركة وكُلُّ الإكليروس، الّذين تَركتُم الموائد الممدودة في قصور القياصِرَة، وفرشتُم موائدكم للجِياع والعِطاش والعريانيين والغرباء والمرضى والمساجين. تعالَوا يا أيّها الكَهنة الِّذين ما زلتم محافِظين على طَعمِ القُدَّاس الأوَّل. أريد أن أقول لكم: نعم، نحن نستطيع أن نحافظ على طَعم يسوع المسيح!
وفي النِّهاية أريد أن أقول لكم: أعلم أنّه إنْ لَم نسمع من الربّ عبارة: "تعالَوا يا مَن بارَكهم أبي، رثوا الـمُلك المعَدَّ لكم مِن قَبْل إنشاء العالم"، فهذا يعني أنّ نصيبَنا قد يكون مِن نصيب الَّذين كلَّمنا عنهم يسوع أيضًا، في نصّ الإنجيليّ متَّى، في الإصحاح 25، حين قال: "إذهبوا عنِّي يا ملاعين، إلى النَّار الـمُعدَّة لإبليس وملائكته". إخوتي، هذه النَّار ليست مُعدَّة لكم، أنتم الّذين تسمعوننا اليوم؛ إنّما هي مُعدَّة لإبليس وملائكته. تعالَوا يا أَيّها التُّجار الّذين لم تقبلوا تسويق بِضَاعةٍ كاذبة وفاسدة كالّتي نسمع عنها اليوم، ولم تَقبلوا إّلا أن تكونوا تجَّارًا حقيقيِّين، تبيعون وتتاجرون بالوزنات الّتي أَعطاكم إيّاها الله، في حين أنَّه في الجهة المقابلة، هناك تُجّارٌ هم مُرتزقةُ الهيكل. إنّ لبنان ليس هيكلاً علينا سَرقتَه، وهنا نتذكَّر قول يسوع لِتُجَّار الهيكل: أنتم "جعلتم من بيت أبي مغارةً للُّصوص". معروفون هم تجَّار الهيكل نظيفو الكَفّ، ومَن هم تُجّار الهيكل ذات الكفِّ الوَسِخ.
أُحيِّيكم وأطلب إلى الربّ، أن يجمعكم في اليوم الأخير، من الرِّياح الأربعة ويضمُّكم إلى مملكته السَّماويةّ. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلنا بِتصرّف.
كلمة رجاء
"وأمّا ذلك اليوم أو تلك السّاعة فما من أحدٍ يَعلمها...
فاحذروا واسهروا، لأنَّكم لا تَعلمون متى يَحين الوقت" (مر 13: 32-37).
الأب عبّود عبّود الكرملي
17/4/2021
إخوتي وأخواتي في جماعة "أذكرني في ملكوتك"، والّذين يسمعوننا أينما كُنتم، في لبنان وفي بلاد الانتشار،
أُحيِّيكم بكلمة رجاء ومحبَّة.
سنتأمَّل معًا في كلمة الإنجيل الحقيقيّة:"اِسهَروا وصلُّوا لأنَّكم لا تَعلمون...."، ثمّ يتابع الربّ يسوع كلامه ويقول: "أمّا ذلك اليوم وتلك السَّاعة، فمَا مِن أحدٍ يعلَمها، لا الملائكة في السَّماء ولا الابن إلّا الآب"(مرقس 13: 32-37).
في هذه المراحل الّتي يمرُّ بها كُلُّ إنسان، عليه أن يكون متيَقِّظًا بالسَّهر والصّلاة، على أعماله، وعلى أعمال الخَير الّتي على كُلِّ واحدٍ منّا أن يقوم بها في أيّة لحظةٍ من حياته. لأنّ الإنسان لا يَعرِف، في أيّة مرحلةٍ تنتهي حياته الأرضيّة، أكانَ في سِنّ الطُّفولة أم في سِنّ المراهقة، أم في سِنّ النُّضوج، أم في سِنّ الشَّيخوخة، ليَنتَقل إلى أبيه السّماويّ كي يجلس عن يمينه مَع مَن سبقوه، مع الملائكة والقدِّيسِين.
إخوتي وأخواتي، نحن كمسيحيِّين، علينا ألّا نحزن كبقيّة النَّاس الّذين لا رَجاءَ لهم، لأنّنا في المسيح نِلنا الرَّجاء، وبالـمَعموديّة مُتنا عن إنسانِنا القديم، ولَبِسنا الإنسانَ الجديد أي المسيح القائم من الموت والـمُنتَصِر عليه. هذا الأمر يُعزِّينا في هذا الوقت الّذي نعيشه في وَطَنِنا، وفي العالم كُلِّه نتيجة وباء الكورونا، الّذي يُخيفنا ويدعونا إلى القلق ويُبعِدُنا عن بعضنا البعض وعن المشاركة في كنائسنا، أكانَ بالصَّلوات أم في القُدَّاس. ولكنَّ التزامَنا بحياتِنا المسيحيّة وبجماعة "أذكرني في ملكوتك" وبَقيّة الجماعات، وعَيْشَنا الصَّوم الّذي هو فرصة للتَّفكير في جوهر الحياة المسيحيّة، أي المحبَّة والتأمُّل بكلمة الربّ، يدلُّ على إيماننا الرَّاسخ في المسيح وبأُمِّه مريم العذراء ومار يوسف، في هذه السَّنة الّتي أعلنها البابا سَنة مار يوسف. وكَم مِن العِبر نـستطيع أن نأخذ من مار يوسف لِحياتنا إذ إنَّه الصُّورة الحيّة ليسوع المسيح في قَلْبِ عيالِنا ومجتمعِنا، حتّى نشهد للقيامة. آمين.
ملاحظة: دّوّن التأمّل من قِبَلنا بتصرُّف.
تتمة...كلمة رجاء
"طوبى لفقراء الرّوح، فإنَّ لهم ملكوت السَّماوات" (متى 5: 3)
الأباتي سمعان أبو عبدو
6/3/2021
أخواتي وإخوتي، جماعة "أذكرني في ملكوتك"، أينما كنتم في لبنان وفي بلاد الانتشار، أُحَيِّيكم بِكَلمةِ رجاءٍ:
سأنطلق وإيّاكم إلى نبع الكلمة الحقيقيّة، يسوع المسيح في الإنجيل:"طوبى لفقراء الرُّوح، فإنّ لهم ملكوت السَّماوات"(متى 5: 3).
في بداية حياته العَلنيّة، يدعونا يسوع إلى التَّوبة، ويُعلِن لنا الـمَلكوت: على الجَبل، يُعلن "الطوبى" الّتي تعني "هنيئًا، ما أسعَد"، بِعبارةٍ أخرى، يُعلِن لنا يسوع الفرح والسّعادة.
بحسب الكِتاب المقدَّس، إنَّ الرُّوح هو نَفَسُ الحياة الّذي وَهبَه الله لآدم: هو أعمق ما في ذواتنا، هو البُعد الرُّوحيّ الأعمق الّذي يجعلنا بَشَرًا، هو النَّواةُ العميقةُ لِوجودِنا.
"فقراء الرُّوح" هم الّذين يشعرون في أعماق وجودهم بأنّهم متسوِّلون؛ فهؤلاء هم الّذين وعَدَهم الله بملكوت السَّماوات. أنْ نكون "فقراء بالرُّوح" يعني أن نَضع ثقتنا لا بالثَّروات، بل بمحبّة الله وعنايته والاتِّكال عليه. كَمْ نحن بحاجة اليوم إلى سَندٍ ومعزٍّ أمام هذا القلق من وباء كورونا وأمام خوفِنا على صحَّتنا وصحَّة أهلِنا، وخوفِنا من فُقدان عَملِنا؛ نعيش مُتردِّدين وخائفين، وفي حالة اضطراب وارتباك وخوف. كلُّ هذه الأمور تَشُّلُنا وتدفعنا إلى الانغلاق على ذواتنا وتمنعُنا من الانفتاح على الله وعلى القريب.
اليوم، يُقدّم لنا يسوع فرصةً للتواضع، فرصةً للارتداد ولِطَلب المغفرة. إنَّ يسوع لا يَتعَب أبدًا مِن مَنحِنا المغفرة؛ ولكنّنا نَتعَب في بعض الأحيان مِن طلب المغفرة منه.
اليوم، يُدخِلُنا يسوع في منطقٍ جديد هو:أين تكمن الأولويّات والجوهر في حياتنا؟، لدينا الكثير من الممتلكات وَوسائل الرَّاحة، ولكنّها في الممات كلُّها تنتهي هنا على هذه الأرض، إذ إنّ الكَفَن لا جيوبَ لَه، وبالتّالي لا أحد يستطيع أن يأخُذ مَعه شيئًا، إذ تبقى الثَّروات كُلّها هنا على هذه الأرض.
إنَّ يسوع قد أعطانا حياته من أجلِنا، وهي القدرة الحقيقيّة. وهنا يُطرَح السُّؤال: مَن لديه القدرة على التواضع والخِدمة، والأُخُوَّة الإنسانيّة بحريّة؟. مِن خلال خدمة هذه الحريّة، يأتي الفقر الّذي امتدحه يسوع في التطويبات.
اليوم، هو يوم العودة إلى ترتيب أولويّاتنا، كي نَصِل إلى الجوهر ألا وهو علاقتنا مع أنفسِنا، مع الله ومع الآخَر، حتّـى نكون أحرارًا وقادِرين على أن نُحبّ، وأن نبحث دائمًا عن حريّة القلب، الّتي لها جذورٌ في الفَقر، فَقْرِ أنفسِنا: "يا بُنَيَّ، أعطِني قَلبَك".
إخوتي وإخواتي، لِنفُكِّر اليوم معًا: ما الّذي عليّ القيام به كي أكون فقيرًا بالرُّوح، فأرِث الملكوت؟ آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بِتَصَرّف.
تتمة..."فاستعدّوا إذًا لأنّكم لا تَعلمون
اليوم ولا السّاعة التي يأتي فيها ابنُ الإنسان" (مت 13:5).
تأمّل للخوري جوزف سلوم
20/2/2021
الله معكم إخوتي وأخواتي،
لا أحدَ منّا يَعرف ساعتَه، فالموت يدُقّ بابَنا فجأةً. وفي الوقت نفسِه، الموت يجعلنا نَشعر، عندما نفقد أحد أحبّائنا، بأنَّ جزءًا منّا قد مات.
في إنجيل مَثل العذارى الحكيمات والجاهلات، نلاحظ ارتفاع الصَّيْحة عند مَجيء العريس. ونحن أيضًا، في زوايا هذه الحياة، نسمع ارتفاعًا للصَّيحة عند موت أحدهم تعبيرًا عن أنَّنا على مَوعدِ رَحيل أحدهم عن هذه الأرض، أو سَفَرٍ لأحدِهم.
إنّ الموت يُفاجِئ جميع النَّاس، إلّا المؤمِن، فهو يكون دائمًا مستعدًّا لتلك السّاعة. الموت هو سارقٌ، الموت يَخطف، الموت هو عَدوُّ للإنسان. إنّ الموت يُظهر لنا أنَّ كلَّ شيءٍ على هذه الأرض زائلٌ، وأنّ كلَّ الضمانات لا تساوي شيئًا. يقول لنا القدِّيس بولس بما معناه: إنّنا جِئنا إلى هذا العالم، لا نَملِك شيئًا وسنَخرج منه مِن دون أن نأخُذ منه شيئًا.
في مَثل العذارى، يُشبِّه كاتب النَّص الموت بِعُرسٍ، بِفَرحٍ، بِعِيدٍ، بِلِقاءٍ مع العَريس:"هوذا العريس، إنّه آتٍ".
ليست جميلة تلك العبارات الّتـي نقولها، في تقليدنا الشَّعبي عن الموت:"خُلِص زَيته" للتعبير عن وفاة أحدهم؛ إنّه تعبيرٌ خاطئ، لأنَّ الزَّيتَ يرمز إلى أمرَين: الإيمان والأعمال الصَّالحة. وبالتّالي، عندما نقول إنَّ هذا الإنسان قد نَفَذَ زيتُه، فهذا يعني أنّ هذا الإنسان لا إيمانَ له ولا أعمالَ صالحة. وكذلك في موضوع الزَّيت، فإنّنا لا نستطيع أن نبيع أحدًا مِن زَيتِنا، إذ على كُلِّ واحدٍ منّا أن يُحضِّر "جِهازَه" كما كانوا يَفعلون في الأعراس قديمًا. إنّ كلَّ واحدٍ منّا مسؤولٌ عن ذاته؛ من هنا نلاحظ أهميّة الاستعداد: "دَخَلَت المستعدَات"، "إسهَروا"، "لا تعلمون لا اليوم ولا السّاعة".
كذلك في هذا الإنجيل، نرى أنَّ الباب قد أُغلقَ، أي أنّنا في لحظة الموت، سنترك كلَّ شيءٍ وراءنا، إلّا مفتاح باب الملكوت الّذي هو قلبُ الإنسان. إنَّ الربَّ ينتظرنا مع الملائكة والقدِّيسين ويُشرِّع لنا أبواب الملكوت، مع العِلم أنَّ هذا الباب ضيِّق؛ لذا، نردِّد مع صاحب المزامير: "فَرِحتُ بالقائلِين لي إلى بيت الربِّ ننطلِق".
لذلك إخوتي، وقَبْل أن يُغلَق الباب، أمورٌ ثلاثة علينا الاستناد عليها في مرافقة موتانا وهي: الصَّلاة، الافخارستِّيا أي القربان الّذي نُقدِّمه لأجلهم، وأعمال الرَّحمة.
كيف نستعدُّ للملكوت لِكي نكون من المستعدَّات؟ علينا الاستعداد لأنّنا لا نعرف لا السّاعة ولا اليوم، ونحن نستعدُّ لتلك السّاعة أوَّلاً من خلال الجهاد الرُّوحيّ، النِّعمة الأكبر، ضِدَّ كلّ التَّجارب؛ وثانيًا من خلال العمل على تمييز الخير من الشَّر، وثالثًا من خلال التَزيُّن بِالفضائل الإلهيّة، انطلاقًا من كلمة الله الحيّة.
أحبّائي، تبقى حقيقة قيامة الربِّ يسوع، الجواب لِكلِّ مُعضِلة الموت. الله معكم.
ملاحظة: دُوِّن التّأمّل من قِبَلنا بِتصرُّف.
الكآبة والحاجات الأساسيّة
الأب ابراهيم سعد
21/5/2019
في هذه الحياة، يتعرَّض الإنسان، في أحيانٍ كثيرة، إلى خيبات أمل مِن الآخَرين، فيُصاب نتيجتها بالإحباط، والكآبة واليأس. ويحاول الإنسان إخفاء ملامح هذه الكآبة الداخليّة عن الآخَرين، إلّا أنّه يفشل في ذلك، أحيانًا، إذ تظهر ملامحها على وَجهه. عندما يتعرَّض الإنسان إلى خيباتِ أملٍ، تتغيَّر نظرته إلى الحياة، فيقرِّر التوقّف عن مساعدة الآخَرين والقيام بأعمالِ خيرٍ تجاههم، إذ أصبح كلّ ذلك، بالنِّسبة له، لا فائدة منه. إنّ الإنسان لا يُصاب بخيبات الأمل في علاقته مع البشر وحسب، بل قد يُصاب بخيبات الأمل في علاقته مع الله، فيقرِّر التوقُّف عن الصّلاة والمشاركة في القُّداس، كما قد ينقطع عن حضور الاجتماعات والنَّشاطات الروحيّة، بحجّة أنّه لا يشعر بفائدتها عليه. عندما يُصاب الإنسان بالكآبة واليأس، فإنَّه يشعر بعدم إمكانيّته من تحسين الوَضع، ويفقد حينها كلّ قُدرةٍ له على مقاومة الصُّعوبات الّتي يواجهها من البشر. إنَّ كلَّ إنسان معرَّض للوقوع في هذه الحالة من الكآبة، رجلاً كان أم امرأة، مكرَّسًا أم علمانيًا، غنيًّا أم فقيرًا، مُسِنًّا أم فَتِيًّا.
إنَّ حالة الكآبة الّتي يتعرَّض لها الإنسان تُعبِّر عن معاناةٍ داخليّة مبنيّة على عدم وجود آخَر قادر على الإصغاء لهذا الـمُكتئب في العمق والعمَل على تلبية حاجاته الأساسيّة. حين يكون الإنسان في حالةٍ من الرّاحة الدّاخليّة، فإنّه يكون من المبادِرين إلى حثّ الآخَرين على الصّلاة والمجاهدة في هذه الحياة، والصَّبر على صعوباتها في سبيل النَّجاح لِتَخطِّيها. ولكن حين يواجه الإنسان الصُّعوبات، فإنّه يكون مِن أوّل الرّافضِين للصّلاة ولممارسات النَّشاطات الروحيّة، لأنّه لا يجد فيها نفعًا له. عند انتهاء زمن المناسبات الروحيّة واللِّقاءات الإنجيليّة، يُصبح المؤمِن أكثر عُرضةً للكآبة، بسبب غياب النَّشاطات الروحيّة، إذ يسمح للاسترخاء الروحيّ والكسل بالسيطرة عليه. بعد انتهاء العُطلة الصيفيّة، يجد المؤمِن صعوبةً في مزاولة النَّشاطات الروحيّة من جديد، لأنَّه قد اعتاد خلال فصل الصَّيف على أحكام "الإحباط وخيبات الأمل". إذًا، إنَّ الإحباط يصيب جميع النّاس على حدٍّ سواء، مكرَّسين وعلمانيِّين. ولكنّ الإحباط يكون أقوى عند العِلمانيّين منه عند المكرَّسين: إذ قد يتحوَّل واجبُ المكرَّس الدِّيني إلى دافعٍ له لمواجهة الاسترخاء الروحيّ الّذي يُعاني منه؛ أمّا العلمانيّ فإنّه يأتي إلى الكنيسة بدافع من حبِّه لله لا بدافع الواجب الدِّيني، لذا فَقد يجد سهولةً أكبر في الاستسلام للكسل الروحيّ الّذي يواجهه. وهنا نتذكَّر قول الرَّسول بولس: "الويل لي إنْ لم أبشِّر"، فالمؤمِن مدعوّ إلى التَّبشير بكلمة الله، مهما كانت حالته الروحيّة، مُحبطًا كان أم سعيدًا. وبالتّالي، من خلال كلام بولس الرُّسول، نكتشف أهميّة مجهودنا الروحيّ الّذي نقوم به، بمجيئنا إلى الكنيسة للصّلاة ومساعدتنا للآخَرين، عند معاناتنا من الإحباط.
على نظرة المؤمِن إلى الحياة أن تكون موضوعيّة لا ذاتيّة: فيركِّز على أعماله الصّالحة الّتي يقوم بها تجاه الآخَرين، أكثر من تركيزه على الإساءات الّتي يتعرَّض لها مِن قِبَلِهم. حين ينظر الإنسان إلى الحياة نظرةً موضوعيّة، فإنّه سيكتشِف أنّه يعيش في حالة من النِّعمة،كما سيكتشف أنّه نِعمةٌ للآخَرين المحيِطين به. على المؤمِن ألّا يُضخِّم الإساءات الّتي يتعرَّض لها، بل عليه أن يُعظِّم قيمة أعماله الصّالحة، حتّى وإن لم يُقدِّر الآخَرون ما قام به. إنَّ بعض المؤمِنِين يُقلِّلون من تقدير أعمالهم الصّالحة، نتيجة سوء فَهمهم لكلمة الله في الإنجيل. فالربّ لا يدعونا إلى التَكبُّر على الآخَرين بسبب أعمالنا الصّالحة، بل يدعونا إلى الفرح بما نقوم به مِن صلاحٍ تجاه الآخَرين. على المؤمِن أن يُعلِن أنَّ الدُّنيا لا زالت بألفِ خيرٍ على الرُّغم من الويلات الّـتي تواجهه، إذ ما زال بعض المؤمِنِين يُصغون إلى كلمة الله، ويسعون إلى مساعدة الآخَرين. يقصدني في بعض الأحيان أزواجٌ يعانون من المشاكل الزوجيّة، ويُعلنون أمامي عن رَغبتهم في تحقيق الطّلاق بينهما. عند سماعي لهذا الكلام، أبادر بِطرح السؤال على كلِّ طَرَفٍ منهما منفردًا: ما هي حسنات شريكك؟ فيَبدأ كلّ طرفٍ منهما بالتَّعبير عن حسنات الآخَر، فأُلقي الضّوء على هذه الحَسنات، علَّ ذلك يُساهم في محاولة حلّ المشاكل بينهما مركِّزًا على حسنات الآخَر، لا على سيِّئاته. في الحقيقة، ليست الخلافات الإنسانيّة مبنيّة على سيّئات أحد الطَّرفين، بل هي مبنيّة على عدم حصول أحد الطرفَين أو كِلَيهما على حاجاته الأساسيّة من الآخَر. إنَّ الإنسان مدعوٌّ إلى السّعي لتلبية لا رغبات الآخَر، بل إلى تلبية حاجاته الأساسيّة الإنسانيّة. إنَّ عدم حصول الإنسان على حاجته الأساسيّة من الآخر، يؤدِّي إلى دَفع الإنسان إلى القيام بما لا فائدة منه، والحُكم على الأمور من حَولِه بطريقة خاطئة. إنَّ ما يُعانيه الأهل مع أبنائهم الشَّباب هو خيرُ دليلٍ على ذلك: فالشّاب يحتاج إلى مَن يُصغي إليه ويقدِّر كلامه ومعاناته، فإنْ لم يجد في أهلِه ما يلبيّ له تلك الحاجة، فإنّه سيسعى إلى الانغلاق على ذاته، عِوضَ الانفتاح على أهِله، بحجّة أنَّ لا أحدَ منهم يستطيع فَهمَه، وهذا ما يدفعه إلى الشُّعور بالإحباط والكآبة.
للإنسان حاجاتٌ طبيعيّة كثيرة، يجب تلبيتها، كي لا يتعرَّض الإنسان للكآبة. غير أنَّه يستحيل على الإنسان إيجاد آخَرٍ قادرٍ على تلبية حاجاته كلِّها. إنَّ أهمَّ تلك الحاجات الإنسانيّة الطبيعيّة هي المؤاساة. على الإنسان أن يُصغي إلى معاناة الآخَر بكلّ اهتمام، فلا يُقلِّل من أهميّة ما يسمَعه من الآخَر، ولا يلقي عليه النظريّات في سبيل إيجاد حلٍّ للمشكلة. فمثلاً حين يفقد الإنسان أحد أحبّائه بالموت، نلاحظ أنَّ وفود المعزِّين ينهالون على المحزون بكلماتٍ لا فائدة منها، إذ إنّها لا تُلبيّ حاجته العميقة، فكلماتهم تكون كالمسامير الّتي تقع في قلب المحزون فتقتله أكثر من شعوره بالحزن لموت فقيده. إنَّ المحزون يحتاج لِمَن يواسيه، لا إلى مَن يُلقي عليه نظريّات حول الموت ومحاولة إيجاد حلول له، فالمحزون يُدرِك أنّه لا مَفرَّ من الموت. إنَّ بعض المؤمِنِين يقومون بأعمالٍ حسنة تجاه الآخَرين، من دون أن ينالوا التقدير منهم، ممّا يؤدِّي إلى شعور هؤلاء بعدم جدوى أعمالهم الحسنة، خاصّة أنَّهم بذَلوا مجهودًا كبيرًا للقيام بهذا العمل الصّالح أو ذاك. إنَّ هؤلاء المؤمِنِين الصّالحين لا يحتاجون إلى إصلاح بل إلى تلبية حاجتهم في التَّقدير والاحترام من الآخَرين، ولكنْ هذا لا يعني أبدًا الحصول على مديحٍ مبالغٍ فيه، إنّما يعني عدم تسخيف أي عمَلٍ صالحٍ يقوم به الآخر. فمثلاً، حين يقوم أحد أبنائك بمجهودٍ كبيرٍ لتحسين نتائجه المدرسيّة، فإنّه ينتظر منك سماع كلام التّقدير لمجهوده عند وصوله إلى هَدَفه، لا إلى كلماتٍ تُحبِطه، كأن تقول له إنّك كنُتَ تنتظِر منه ما هو أفضل من هذه النتائج. إنَّ الكلمات المحبطة تدفع بالإنسان إلى الشُّعور بالتَّقصير الدائم في عملِه، وإلى عدم تقدير ذاته. على الإنسان أن يسعى على الدّوام إلى تلبية حاجة الآخَر في أوانها. يعاني الإنسان نتيجة عدم تلبية الآخَرين لحاجاته الأساسيّة العميقة، كما قد يُعاني الآخرون من عدم شعورهم بأنَّ حاجتهم قد تمّ تلبيتها، بسبب عدم انتباه الآخَر لها. فمثلاً، حين يأتي إليك ابنك ليُخبرك بما يزعجه، عليك أن تُصغي إليه بانتباه، كي تتمكَّن من تلبية حاجته العميقة للتقدير والحبّ والإصغاء، فيتمكَّن عندها ابنك من مواجهة الصُّعوبات الّتي تواجهه في هذه الحياة. إنّ الإنسان الّذي لم يحصل على تلبية لحاجته مِن قبل الآخَرين، سيشعر بالإحباط حين يواجه الشرور من الآخَرين، في وقت الاسترخاء الروحيّ. لا يستطيع البشر معرفة حاجات بعضهم البعض، بصورة تلقائية، لذا عليهم الإصغاء لبعضهم البعض، ليتمكّنوا من معرفة حاجات الآخَر وتلبيتها. ما يهمُّ الإنسان هو حصوله على أُذُنٍ قادرة على الإصغاء إليه، لمعرفة حاجاته العميقة، كما هو يُعبِّر عنها، لا على أُذنٍ تسعى إلى إسماعه ما تعتقد أنّه بحاجة لسماعه.
إنَّ حاجاتنا الانسانيّة الطبيعيّة تتلَّخص في ستِّ نقاط، وتتفرَّع منها حاجاتٌ لا تُعَدّ ولا تُحصى. إنّ الربَّ يسوع يلبِّي لنا كلّ حاجةٍ لدينا، أكان للمؤاساة، أم للحبّ أو التقدير، من خلال كلمته المحيية في الإنجيل. وهنا يُطرَح السؤال: كيف يستطيع الإنسان التخلِّي عن هذا "النَّبع" الّذي يلبّي له كلّ حاجاته العميقة، حين يتعرَّض للإساءات من الآخَرين؟ إنَّ ابتعادنا عن الربّ بسبب ضُعف الآخَرين يؤدِّي إلى إصابتنا بالكسل والإحباط. وهذا ما نتعرّض له في كلّ عطلةٍ صيفيّة وخاصَّةً أنَّ ضجيج الصّيف، يضع غشاءً على عيوننا كي لا نتمكَّن من رؤية الأمور على حقيقتها. في فصل الصّيف، تكون حياة الإنسان مليئة بالضَّجيج والمناسبات الجميلة، ولكنْ عند انتهاء تلك المرحلة، يعود الإنسان إلى التذمُّر من جديد على الأمور السيِّئة الّتي حَدَثت معه. على المؤمن النَّظر إلى الأعمال الصّالحة الّتي قام بها، أو الّتي حَصَلت معه، والتكلُّم عنها لا التَّركيز فقط على الأمور السلبيّة الّتي تعرَّض لها. على الإنسان التركيز على الأمور الجميلة الّتي اختبرها كمساعدة الآخَر، وسَعيه إلى إدخال الفَرح إلى قلوب الآخَرين، والتكلُّم عن شعوره بوجود الآخرين في وَقت الشَّدائد الّتي تعرَّض لها. قد يتذمَر البعض قائلِين: إنْ سَعَيْنا فقط إلى تلبية حاجات الآخَرين، مَن يلبّي لنا حاجاتنا؟ على المؤمِن عدم استغلال الله، لحثّ المؤمِنِين على ممارسة تقويّات زائفة، طالبًا منهم على سبيل الـمِثال احتمال المزيد من الآلام والأوجاع مردِّدين عبارة: "مع آلامك يا يسوع". إنَّ البشر يحتاجون إلى مَن يواسيهم ويصغي إليهم ويسعى إلى تلبية حاجاتهم من التقدير والمحبّة والاحترام. فمثلاً، على المسؤول في العَمل أن يسعى إلى تلبية حاجات المساعِدين معه في التقدير والاحترام، على الرُّغم من حصول هؤلاء على مقابلٍ ماديّ لأتعابهم.
في فصل الصّيف، يعلو صوت ضجيج المرح على باقي الأصوات، لذا علينا السهر على يقظتنا الروحيّة حين نتعرَّض لخيبات الأمل والإحباط، فنتمكَّن من مواجهتها وتَخَطِّيها. إنَّ مشكلة النّاس تكمن في عدم إصغائهم لبعضهم البعض، لذا يجدون صعوبةً في تلبية الحاجات الأساسيّة بعضهم البعض، ولذا تحصل الإساءات والخلافات بينهم، إذ يسعى كلّ واحدٍ إلى تلبية حاجات الآخَر كما يراها هو، لا كما يطلبها الآخر. إنَّ بساطة التعاطي مع الآخَرين، والصِّدق في الرؤية، وعدم سوء الظَنِّ فيهم، وإيجاد آخَر قادر على الإصغاء لك وفَهمِك، يساهم في تلبية الحاجات الموجودة في داخلك.
إنَّ أكثر الحاجات الّتي تسبِّب آلامًا للإنسان هي، في غالبيّتها، حاجاتٌ قديمة لم يتمّ تلبيتها بشكلها الصَّحيح ولم يُعبَّر عنها، لذا نجد أنَّ أَلَمها يستمرُّ معه على الرُّغم من مرور الزَّمن عليها. لذا أدعوكم إلى التسلُّح بكلمة الله، "سيف الرُّوح" كما يقول عنها بولس الرُّسول، لأنّها الوحيدة القادرة على دَفعكم إلى الوَعي الدائم لحاجات الآخَرين وعدم الاستهزاء بها أكانت صالحة أم سيِّئة. لا تستهزئوا بالعمل الصّالح الّذي تقومون به، مهما كان صغيرًا، ولكن هذا لا يعني أن تسمحوا لمشاعر التكبُّر بدغدغتكم، بل أن تجعلوا من هذا العمل الصّالح وسيلةً تُذكِّركم بأنَّكم قادِرين على القيام بما هو أفضل. وهذا يخلق في الإنسان طاقة إيجابيّة على الاختيار بين أن يكون إيجابيًّا في نظرته إلى الحياة أم سلبيًّا، أمّا الحياد فيُعتبر موقفًا سلبيًّا لا إيجابيًّا. لذا أدعوكم في الختام كي تجعلوا من كلمة الله الّتي سَمِعتموها منّي، مَصدر قوَّةٍ لكم لمواجهة صعوبات الحياة الّتي ستواجهكم في العُطلة الصَّيفيّة، كما أدعوكم إلى التسلُّح باللُّطف والصّلاة وروح الخِدمة. إنَّ الله قد ظهر لإيليّا النبيّ في النَّسيم العليل لا بقوّة النّار، وبالتّالي أنتم تستطيعون الحصول على التعزية والفرح من إنسانٍ أو من حدث لا تتوقَّعون أن يُعطيكم تعزية. لذا كونوا متَيقِّظين لحضور الله في حياتكم.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف.
تتمة...أمام المصلوب
الأب ابراهيم سعد
2/4/2019
في إطار استعدادنا للأسبوع العظيم، يتمحوَر حديثنا اليوم حول الحدث الفِصحيّ، أي بَدءًا بِـخيانة التّلاميذ للربِّ يسوع مرورًا بعمليّة إلقاء القبض عليه في بستان الزّيتون، وصولاً إلى المحاكمة والموت على الصّليب. لذا سأتلو على مسامِعكم مناجاةً لأحد المؤمِنِين للمصلوب على الصّليب، علَّها تُساعدنا على فَهم عَمَلِ اللهِ الخلاصيّ، فالربّ يسوع أَعلَنَ حبَّه للبشر بموته على الصّليب، وقد وَصَفَ الأب سيرافيم الطرزي، هذا الحدث بالقول إنّه من أعلى الصليب، قد أُعلِنَت صَرخةُ حبِّ الله للبشر، وبذلك، شابه الله كلّ حبيب يُعلِن لِـحَبيبته للمرَّة الأولى حبَّه قائلاً لها:"أُحبُّكِ".
"يا يسوع، "يا عِشقِيَ الـمَصلوب"، أنتَ مُعلَّقٌ على خَطايانا قَبْل أن رَفعُوك على خشبة. قتَلَتْكَ خطايانا، في ما كنّا نَلهو بها. نُبصِرُك الآن، لا مَنظرَ لك ولا جمال، فنَشتهيك "مُدمّى، مطعونًا ولكن غير مكسور. مَوضِعُ محبّة الله. تَدينُ معاصيَنا بجسدك ولا تدينُنا لأنّ قلبك لا يحتمل أن يموت فيه إنسان. نحن مشرَّدون يا سيِّد. لقد مَدَدْتَ ذِراعَيك كي تضمَّنا فتُعيدَنا إلى أبيك، إنسانيّة واحدة مطهّرة كي لا يلفظ حُكمَه فينا يوم الدَّينونة. أنت تقول لهم: ما لهم وللموت. اغفر الزّلات للكاذِبين والسّارِقين والقتلة لأنّك تُحبُّهم كما تُحبّ الطاهِرين.
جميعُهم أبناؤكَ وجميعُهم إخوةٌ لي. أنتَ تحتَضِنُهم كلُّهم بالرَّحمة وما مِن أحدٍ يَخلُص إلّا بهذه الرَّحمة. أنتَ أَوحيتَ للتِّلميذ الحبيب: "الله محبّة". هذا فَهِمَ أنّ المحبّةَ هي أنتَ، ومَن أَحَبَّ تكون أنتَ ساكِنَه. ومَن كَفَرَ تكون أيضًا ساكِنَهُ. تطلبُ إليه فقط أن يُؤمِن بعفرانِكَ وإيمانه. هذا يُرجِعُه إليكَ. تغفرُ له لأنّك تشتاقُه في كلّ حين. إنَّك تشتاق إليه لِكَونِه وليدَ محبّتك الّتي لا تريد أن يُطرَدَ منها أحدٌ. فإذا نَسِيَها ماذا يبقى له في الذّاكرة؟ كِبارُنا قالوا إنّك أَوجَدتَنا كي لا يبقى حُبُّكَ أسيرَ كيانِك. يا أبتاه، أنتَ إلهٌ يَمتدّ، يَضُمّ، فيحيا ويعرف كلّ إنسانٍ أنَّه نَسيبُ الله ... أنتَ ما أصعَدتَ أحدًا إليكَ إلّا لـمّا أنزَلتَني إليهم.
إنّهم سيَصعدون معي بعد قليل ليَتِمّ فَرَحُهم فينا، فينكشف لهم ملكوتك. قُلْتَ لَهم إنّه فيهم، ثمّ تَرجَمْتَ لهم ذلك بموتي.
يا يسوع، خُذني إلى هذا الحبّ الّذي تُكفِّر به ذنوبي كلَّ يوم. لا تجعلني أرى غير وَجهك لأنّ كلَّ وجهٍ آخر يُلهي. أُحصرني في محبّتك حتّى لا تُدغدِغُني أهوائي، فيرى النّاسُ نُورَكَ مُرتَسِمًا على وَجهي. ولكنْ عرِّفْهُ أنّ هذا النُّور ليس مِنه ولكنّه مسكوبٌ عليه بحنانك. أنتَ اختَلَطتَ بنا لنَذوقَكَ والعلاقة بيننا وبينك بعد أن أتمَمْتَ العشاء الأخير أنّك أعْطَيتنا ذاتَك بشكلِ خبزٍ وكأس حتّى نجوع إليك دائمًا، ونعطش إليك حتّى تزول المسافة الّتي كانت بيننا وبين أبيكَ.
وإذا دَخَلتَ إلينا بهذه الصُّورة لا نَظَلُ حاسِبينَ أنّنا إخوةٌ باللَّحم والدَّم اللَّذين نحن بِهِما، فَبِتنا إخوةً برُوحِك. نحن لا نأخذُك إلينا فقط، أنت تَخطِفُنا إليكَ. أنتَ تُظهِر أنّ هذا الّذي نَتناولُه على مائدةِ الخلاص هو إيّاك الجالسُ عن يمين الآب.
نحن نرى هذا بأنَّ ذِراعَيكَ المَمدودَتَين على الخشبة تَضُمّانِنا إليك وإلى أبيك بقوّة روحك. نعود إلى ذِراعَيكَ حتّى لا نَتَشتَّت في دُنيانا وقد أصبَحتَ أنتَ دُنيانا حتّى لا نتلهّى بِسواها، فنضجر ونموت.
لقد قُلْتَ مرّةً:"مَن أرادَ أن يتبعني، فليَكفرْ بنفسه ويحملْ صليبَه ويتبعني". نعرِفُ أنّ هذا شاقٌّ على قوانا، ولكنّنا نؤمِن أنّك تَحمِلُ شقاءنا، فنَتعزّى بكلِّ كلمةٍ خَرَجت مِن فَمك. وكذلك أنْتَ قُلتَ: أَنتُم أنقياء بسبب من الكلام الّذي كلَّمتكم به". أن نسمع فقط إلى ما قلته ولا نستمع إلى سواه، هذا يجعلنا خلائقَ جديدةً. مِن بعد هذا ننبسط في ملكوتك. سُدَّ علينا يا يسوع لنَطمئِّنَ إلى أنَّ سلامَكَ فينا. هذا سلامٌ تُعطيه أنتَ مِن جراحِكَ فتُشفى به جِراحُنا، فلا نَرقُد رَقدةَ الموت.
الحياةُ الجديدة الّتي دَعَوتَنا بها صارت فينا، وتصير إذا حَفظْنا وَصاياك. إنْ هَربْنا من وَصاياكَ، سعيْنا إلى سرابٍ فَعَدَم ... انتشِلْنا دائمًا مِن هَوى السَّقطات الّتي تحوِّلنا عن رؤية صليبِك، فتَميلَ نفوسُنا إلى كلامِ الخديعة. والخديعة هي "شهوةُ العَين وشهوةُ الجسد وكبرياء الوجود". هذه كلّها مِيتاتٌ نعرِفُها تُعطِّلُ فاعليّة صليبِك فينا.
نريدك يا سيِّد، لا تُخْزِنا ولا تُجرِّبنا بِذَوقِ المعاصي. أنْتَ جعلْتَ القدِّيسينَ لا يُريدونها... حتّى لا تكونَ لنا مشيئةٌ غيرُ مشيئتِك... قوِّم أفكارَنا لكي لا نُخطئ فِكرَك، نقِّ نِيّاتِنا لنَتَقبَّل بفرحٍ ما تَنويهِ لنا، وهكذا نُصبح عُشراءَك حقًّا.... يا سيِّدي أبعِد عنّا كلّ شَبَحٍ يأتي إلينا مِن مملكة الموت، وأهِّلنا إذا ما اقتربَ أنْ يَلقانا الآبُ بقوَّة قيامَتِك.
اكشِف يا ربّ وجهَك لكي نَقبلَ حضنَ أبيكَ. كلُّ الّذين يَموتون يَدخُلونَ بِرَحمتِه. هذا ما قالَهُ كِبارُنا الّذين تَرَوَّضوا في الجِهاد.... بعد هذا، نَعْزِفُ مع الملائكةِ على قيثاراتِ الظّفرِ، وكلُّ لحظةٍ مِنَ السّماويّاتِ تكونُ فينا ترتيلةً جديدةً." (بقلم المطران جورج خضر)
إنّ الله الآب قد كَشَف عن حبِّه للبشر من خلال يسوع المسيح، الـمُعلَّق على الصّليب. إنّ الإنسان يدين أخاه الإنسان انطلاقًا من التَّشهير بأخطائه، ويُحاسِبُه على تقصيره في هذا العَمل أو ذاك. أمّا الله فلا يدين الإنسان هكذا، إذ يَدينُ الإنسانَ من خلال التَّعبير عن حبِّه اللامحدود له، الّذي قاده إلى الموت على الصّليب. إنّ الربّ يسوع قد مات على الصّليب فِداءً عن البشر، كي تتمكّن البشريّة من الوصول إلى يوم الدَّينونة مُطهَّرة مِن خطاياها. إنَّ الله يُحبِّ الخاطئ تمامًا كما يُحبُّ البارّ، وهذا ما يَعجز الإنسان عن إدراكه، فالأهل أَنفُسُهم يميِّزون في محبّتهم لأبنائهم استنادًا إلى أعمال هؤلاء الصّالحة أو الشِّريرة. إنَّ محبّة الله للقتلة والسّارِقين والكاذِبين كمحبَّتِه للأبرار، لا تعني أنّ هؤلاء الخطأة قد أصبحوا أطهارًا، بل تعني أنّهم سيَدفعون ثَمن خطاياهم وسيخضعون للدَّينونة لا استنادًا إلى خطاياهم بل انطلاقًا من محبّة الله لهم، الّتي دَفعته للموت من أجلهم على الصّليب. إذًا، إنَّ دينونة الله للخطأة، لا تُشبِه دَينونتَنا لهم: فالإنسان يبرِّر أخطاء أحبّائه، ويحكم دون رَحمة على الّذين لا يُحبُّهم؛ أمّا الله فهو يُحِبُّ الجميع، لذا يسعى إلى تبريرهم إذ إنَّه قد مات من أجلهم على الصّليب. لاخلاص للبشر خارج رَحمة الله. إنّ اللهَ محبّةٌ، ولذلك خلَق الله الإنسانَ ليُعبِّر له عن محبّته، فالله لم يحتفِظ بحبِّه لنَفسِه، بل أرادَ أن يُتَرجِمَه من خلال آخر، فكان الإنسان. إنّ الحبّ لا يُعاش من دون وجود آخر. بموته على الصّليب، أنهى الربّ يسوع المسافة الّتي سبّبتها الخطيئة بين الله والإنسان. إنّ الربّ يسوع الّذي يُقدَّم إلينا في كلّ ذبيحة تحت شكل الخبز والكأس، هو نفسه ذلك الجالسُ عن يمين الله الآب. إنّ الربَّ يسوعَ يمنحُنا سلامَه من خلال جراحاته على الصّليب.
إنّ هذه المناجاة هي عبارةٌ عن لقاء الإنسان المؤمِن بالمصلوب. من خلال تأمُّله بالمصلوب، يكتشف المؤمِن الفرصة الّـتي منحه إيّاها الربّ على الصّليب، ألا وهي الخلاص والحياة الأبديّة. كان باستطاعة الربّ أن يستعين بجنود الملائكة لحمايته من هذه الميتة كالـمُجرِمِين، ولكنّه قَبِل بتلك الميتة ولم يَرفُضْها لأنّ كلّ امتناعٍ عن الموت من أجل المحبوب يُعبِّر عن نقصٍ في الحبّ. إن الربَّ يسوع بقبوله الموت على الصّليب، عبّر عن عظمة حبِّه للبشر. إنَّ نزول الربّ عن صليبه كان مِن شأنه أن يَدفَع رؤساء اليهود إلى الإيمان به، واعترافهم به مَلِكًا أرضيًّا عليهم، ولكنّ ذلك كان لِيَمنَع الربّ من إظهار حبِّه الكامل للبشر. إنَّ الربَّ يسوع فضّل أن يُظهِر حبّه الكامل للبشر مِن أن يكون زعيمًا أرضيًّا على فئةٍ مُعيَّنة من البشر. إنَّ حبَّ الله للبشر هو الّذي دَفَعه إلى غفران الخطايا للّذين صَلبوه قائلاً لله: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون" (لو 23: 34). إنَّ رؤساء اليهود كانوا يَعلمون أنّهم يَصلبون ربَّ المجد، ولكنَّ الربّ يسوع، مِن شِدَّة حبِّه لهم، قد سعى إلى تبريرهم فغفر لهم خطيئتهم.
إنّ التأمّل في المصلوب، الـمُعرَّى من ثيابه، مِن شأنه أن يَدفع بالمؤمِن إلى التخلِّي عن كلّ قناعٍ يرتديه في حياته اليوميّة. إنّ الإنسان قد يشعر بالخجل من الكَشف عن وَجهه أمام الآخَرين الّذين يُسارِعون إلى إدانته، ولكنْ هل يجوز للمؤمِن أن يَخاف من الكَشف عن ذاته أمام الربّ الّذي بَذَل حياته مِن أجله، مُعطِيًا إيّاه الحياة الأبديّة على الرُّغم من خطاياه الكثيرة؟ إنّ الربّ يسوع قد كَشَف عن حبِّه لك على الصّليب، لذا تشجَّعْ واكشِفْ عن ذاتك أمامه، لأنّه الوحيد القادر على شِفائك من إنسانيّتك المجروحة بالخطيئة. إنَّ بولس الرَّسول الّذي بشَّر العالم بكلمة الله، تعرَّض في حياته الأرضيّة إلى الانتقاد، ولا يزال كلامه إلى يَومِنا هذا، عُرضَةً للانتقاد. كذلك الربُّ يسوع الّذي مَنَح البشريّة الخلاص، قد تعرَّض إلى الانتقاد مِن رؤساء اليهود في حياته الأرضيّة، ولا تزال أقواله وأفعاله إلى يومِنا هذا عُرضَةً للانتقاد: إذ نسمع البعض ينتقدون كلام الربّ، على سبيل المِثال، للمرأة الكنعانيّة، وهنا يُطرَح السؤال: هل نحن أرحَمُ من الربّ على خَليقته؟ إنَّ كلّ الانتقادات الّتي تعرَّض لها الربّ ورُسُله ما هي إلّا تعبيرٌ عَن رَفضِ المجتمع للكشفِ عن ذاته أمام الربّ. إنّ الدَّم والماء اللّذين سالا من جنب الربّ على الصّليب، ما هما إلّا تعبير عن عظمة محبّة الربِّ له. إنّ موت الربّ على الصّليب يدفَعُنا إلى الشُّعور بالفرح لا بالحزن، إذ إنَّنا بموته على الصّليب حَصَلنا على الملكوت أي الحياة الأبدية مع الربّ. ولكنَّ الإنسان للأسف، ينسى تلك النِّعمة الّتي وُهِبَت له، فيتلهَّى بخطاياه وبمراقبة خطايا الآخَرين، فيدفُنُ المسيح في قلبه، ولا ينتبه لقيامة المسيح في حياته، ولا يختبر فرَحَها. في عيد الفِصح، على المؤمِن أن ينظر إلى المصلوب، واضعًا كلّ الصّعوبات الّتي تواجِهه في هذه الحياة أمام المصلوب، فيتمكّن من النَّظر إليها بعد ذلك، على حقيقتها، من دون تعظيمٍ لها. إنّ ما تَحَمَّله الربّ على الصّليب من آلامٍ يفوقُ كلّ معاناتك في هذه الحياة، فما أنتَ تُعانيه في هذه الحياة هو نتيجة إهمالِك وضُعفِك وجهلِك، أمّا معاناة الربّ فهي ناتجة لا عن إهماله وضُعفه هو، إنّما هي ناتجة عن إهمالِك وضُعفِك وخطاياك أنتَ. إنّ الربّ قد اتَّخذ طبيعتنا البشريّة، ليُخلِّصها، لأنَّ "ما لَم يُتَّخذ لا يُخلَّص". إنَّ الربّ قد شارَكنا باللَّحم والدَّم، أي بِضُعفِنا البشريّ ما عدا الخطيئة، فالخطيئة ليست من الطبيعة البشريّة، بل هي دَخيلةٌ عليها، فالله قد خَلَق الإنسان على صُورَته ومِثاله. لم يتَّخذ الربُّ يسوع الخطيئة، ولكنّه اتَّخذ كلّ نتائجها، فعانى من الجوع والعطش، والآلام والموت، ليتمكَّن مِن تخليص الإنسان نفسًا وجسدًا.
بعد كَشفِ الربّ حبَّه العظيم للبشر على الصّليب، أيجوز لنا البكاء على المصلوب، في يوم الجُمعة العظيمة؟! للأسف، إنّ بعض المؤمِنين يرتدون الثياب السَّوداء حُزنًا على موت المسيح، في يوم الجُمعة العظيمة، وقد تجرّأت بعض الكنائس على تزنير أسوارِها بالسَّواد، حُزنًا على المصلوب. إخوتي، في يوم الجمعة العظيمة، على المؤمِن أن يرتدي الثياب البيضاء أو ثيابًا زاهيّة اللّون، للتَّعبير عن فَرحِه لحصوله على الملكوت، بموت المسيح. إنّ الربّ قد انتصر على الموت، ولذا لا داعي للبكاء، فالمسيح قد قام في اللَّحظة ذاتها الّتي أسلَم فيها الرُّوح. لم ينتصر الموت على الربِّ يسوع حين أسلم الربّ رُوحَه، ولكنّ الموت يستطيع الانتصار على المؤمِن حين يستسلم للخطيئة. لقد ألغى الربّ يسوع بموته كلّ سُلطانٍ للموت على البشر، ولذا على المؤمِن أنّ يُلغي كلّ صُوَر الموت في حياته. على المؤمن ألّا يحزن على موت المسيح، بل على موت المسيح أن يدفعه إلى طَرح السؤال على ذاته: ما هَدف الربّ مِن قبوله الموت؟ إنّ الربّ يسوع قد مات ليُعبِّر عن حبِّه العظيم لنا، وليمنَحنا الحياة الأبديّة، ولذا على الإنسان أن يَفرح بالخلاص الّذي ناله في يوم الجمعة العظيمة، لا أن يَحزن لموت المسيح. إنَّ اكتشاف المؤمِن لقيمة عمل الله الخلاصيّ على الصّليب، تدفعه إلى الفَرح وتساهم في انتقاله من مرحلة الموت إلى القيامة. إنَّ ما فَعله الربّ لأجلِنا على الصّليب، يدفعنا إلى تحقيق حالةٍ من السّلام مع الآخَرين، فلا نقبل بأن تدوم خصوماتنا مع الآخَرين لِفَتراتٍ طويلة، بل نسعى إلى إيجاد حلولٍ لها، لأنّ هذه الحياة لن تُمنَح لنا إلّا مرّة واحدة، لذا فلنسعَ إلى عيشِها بسلامٍ وبِفَرحٍ مع الآخَرين.
إنّ المسيح قد جاء ليَمنحنا الفرح لا الحزن، ولكنَّ علامات الفَرح والرَّجاء تبقى غير ظاهرة في حياة المسيحيّين، وهذا ما عبَّر عنه الفيلسوف الألمانيّ الّذي قال إنّ المسيح قد مات ولم يَقم، إذ لا تَظهر علامات فرح القيامة لا على وُجوه المسيحيّين ولا في أعمالهم اليوميّة. ولكن علامات الفرح والقيامة تظهر في حياة بعض المسيحيّين بدليل ما تعرَّض له المسيحيّون في نيجيريا في الأيّام الأخيرة، بسبب إيمانهم بالمسيح. إنّ إشعاعات الفرح والقيامة كانت ظاهرة لجميع القاطِنين في نيجيريا، لذا حاول البعض قَتل المسيح من خلال قَتلِهم لأتباعه، ولكن المؤمِنِين قَبلوا الموت بفرح رافِضين التَّخلي عن إيمانهم بالربّ، وفيهم تحقَّق قول بولس الرَّسول:"فَمَن يفصِلنا عن محبّة المسيح: أَشِدَّةٌ أم ضيقٌ أم اضطهادٌ أم جُوعٌ أم عُريٌ أم خَطرٌ أم سَيفٌ؟" (رو 8: 35). إنّ المسيحيّين في نيجيريا تعرَّضوا للقتل بوَحشيّة، مع العِلم أنّهم فُقراء، وبسطاء في اللّاهوت، ولكنّهم تمكّنوا مِن خلال حياتهم اليوميّة، من عيش فرح القيامة. إنّ المؤمِن الّذي ينظر إلى معاناة الآخَرين يتوقّف عن التَّشكي من الصّعوبات الحياتيّة الّتي يواجهها، لأنّه سيجد نَفسَه في النَّعيم، لدى رؤيته لعذابات الآخَرين. فمثلاً، إنّ الّذي يشتكي من عدم قُدرَته على شِراء حذاءٍ جديد، بدلاً من ذلك الممزَّق الّذي يمتلكه، بسبب وَضعه الماديّ الصّعب، سيَكُفُّ عن التَّشكي من وَضعه هذا، حين يرى إنسانًا مبتور الأطراف السُّفليّة، أي غير قادر على ارتداء حذاء. إنَّ اكتشافَنا للنِّعم الّتي منَحنا إيّاها الله في حياتنا، سيُساعدنا على اكتشاف عظمةَ حبِّه لنا. ولكنَّ الإنسان للأسف، لا يكُفُّ عن لوم الله على عدم تَدَخُّله لِتَحسين أوضاع إخوتنا المحتاجين، وكأنّه يُحبِّ إخوته أكثر من محبّة الله لهم. إنّ المحتاجين الموجودين في محيطنا، يُشكِّلون فرصةً لنا للتَّعبير عن محبّتنا للربّ من خلال مساعَدتنا لهم. على المسيحيّين عدم البكاء على إخوتهم الّذين قُتلوا في نيجيريا، لأنّ هؤلاء يجلسون على العرش في ملكوت الله، وهم يتشَفَّعون لنا للتّوبة عن خطايانا، والتقرُّب من الربّ. أن يعيش الإنسان حياته بفرحٍ، لا يعني أبدًا أن يتجاهل هذا الأخير صعوباته، باعتبارها غير موجودة، بل يعني أن يُحوِّل نظره من المصلوب، إلى القبر الفارغ الّذي يُعلِن قيامة الربّ. إنَّ تركيز الإنسان على همومه اليوميّة يدفعه إلى التَّفكير في هذه الأرض، لمحاولة حلِّها دون المسيح. على المؤمِن أن يضع همومه أَمام المصلوب، فيدفِنها مع المسيح في القبر. إنَّ المسيح لم يُطِقْ العيش في القبر لأنّه أراد أن يَمنحك الحياة، فَلِمَ أنت تضَع همومك في قبرِك، وتحاول الإبقاء عليها، والصّلاة لأجلها؟
في يوم الجمعة العظيمة، يكشف لنا الربّ عن حبِّه العظيم لنا وعن خلاصه، قائلاً لنا: "أُحبُّكم"، لذا نحن مدعوُّون أمام هذا المشهد الإلهيّ إلى أن نكشف عن أقنعتنا أمامه، وأن نُعبِّر له عن حبّنا من خلال تصرُّفنا مع الآخَرين، والسَّعي للعيش بفرحٍ وسلامٍ معهم، فنتذكّر على الدَّوام إعلان حبّ الله لنا، مِن أعلى صليبه قائلاً لنا: "أُحبُّكم"، كي لا ننسى محبّة الله الأولى لنا، الّتي أشار إليها كتاب الرُّؤيا:"ولكنَّ مأخذي عليك هو أنَّ حبَّك الأوّل قَد تَركتَه" (رؤيا 2: 4).
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف
علاجُ الكآبة: مُرَكَّب "ت".
الأب ابراهيم سعد
12/3/2019
إنَّ زمنَ الصّوم هو فرصةٌ لكلِّ مؤمِن،كي يعود إلى أعماقه، ويحاول استعادة حالة الصّفاء الدّاخليّ الّتي فقَدها نتيجة انشغالاته في هموم الحياة، فيُعيد قراءة الأمور الّتي يتعرَّض لها في حياته اليوميّة، بشكلٍ صحيح، ويُعطيَ كُلّاً منها حجمَه الحقيقيّ.
في هذا اللِّقاء، سنُناقش موضوع الكآبة: أسبابها، وطُرق معالجتها.
إنَّ أسباب الكآبة متعدِّدة، ومِنها: الوِحدة، المشاكل الحياتيّة اليوميّة، خَيْبات الأمل الّتي نتعرَّض لها من قِبَلِ الـمُحيطِين بنا، الفَقر الماديّ، والإحباط نتيجة عدم تَحَقُّق ما نأمل به.
يشهَدُ عالـمُنا اليوم تقَدُّمًا على صعيد العِلم والتِّكنولوجيا؛ غير أنّ هذا التَّطوُّر قد فَشِل في مَنحِ الإنسان السَّعادة، على الرُّغم من كلّ التَّسهيلات الحياتيّة الّتي قدَّمها له، ممّا أدّى إلى ازدياد الكآبة بين البشر. إنَّ الكآبة تَنبَعُ من أمورٍ خارجيّة، أمّا السّعادة فَتَنبع من داخل الإنسان، ولكنّ الإنسان للأسف، يبحَثُ عنها في أمورٍ خارجيّة فلا يجدها، فَيُصاب بخيبة الأمل الّتي توصِلُه إلى الكآبة. إنّ السّعادة هي حالةٌ داخليّة يعيشها الإنسان، تَظهَر إلى العَلن، فتُصبح كالعدوى، تَنتَقِل من إنسانٍ إلى آخر. لقد أثْبَتَتِ الإحصاءات العِلميّة أنَّ نِسْبَة السَّعادة عند سُكّان البلدان النَّامِية الفقيرة، تفوق بأضعاف نِسبَة السّعادة عند سُكّان البلدان المتطوِّرة الغنيّة. إنّ السّعادة هي مَسألةٌ نِسبيَّة: إذ إنّ بعض الأمور قد تكون تافهة للبعض، في حين أنّها تُشكِّل مَصَدرَ سعادةٍ للبعض الآخر. وهنا يُطرَح السؤال: كيف السبيل للتغلُّب على الكآبة، الّتي ترتكز في غالبيّتها على الأوهام؟ كان القدِّيس بولس الرَّسول مُبَشِّرًا نشيطًا بكلمة الله، وهذا ما أدّى إلى اضطهاده وسَجنِه، فَكَتَب من داخل سِجنه رسالةً إلى أهل فيلبيّ، قال فيها: "إفرحوا في الربِّ دائمًا، وأُكرِّر القول: إفرحوا" (فيلبيّ 4:4). إنَّ ما تعرَّض له بولس الرَّسول كان مِن شأنِه أن يزرع فيه الكآبة، غير أنَّ بولس لَم يُصَب بها، لأنَّ سعادته حقيقيّة لا وَهميّة، أي أنَّها تنبع من داخله، من إيمانه بالربّ، لا من أمورٍ خارجيّة فانية.
في إطار معالجتِنا لموضوع الكآبة، نعرِض عليكم، علاجًا روحيًّا جديدًا هو الـمُركَّب "ت". إنّ هذا الـمُركَّب مَبنيّ على ستّة عناصر أساسيّة، تبدأ جميعها بحرف التّاء، وهي: التَّوبة، التّواضع، التَّسليم، التَّهرُّب، التَّعب، والتَّسبيح. ويُمكننا إضافة أربعة عناصر أخرى إلى هذا الـمُركَّب، ليُصبِح أكثر فعاليّة لمحاربة الكآبة. أمّا الآن، فَنَبدأ بِشَرح العناصر السّتة الأساسيّة في هذا الـمُركَّب العلاجيّ.
أوَّلاً: التَّوبة. لا وجود للكآبة عند الإنسان التائب. إنَّ مفهوم التَّوبة عند المؤمِنِين، مرتبطٌ بشكلٍ أساسيّ بالخطيئة، إذ لا وجود للتَّوبة من دون وجود خطيئة نرغب في التخلُّص منها، والاعتراف بها أمام الكاهن للتّعبير عن ندامَتِنا عنها. إنَّ علاقة الإنسان بالله تَمرُّ بثلاث مراحل: في المرحلة الأولى، ينظر المؤمِن إلى الله، كما ينظر العبد إلى سيِّده، فيحاول المؤمِن إرضاء سيِّده، أي الله، عبر الاعتذار عن أخطائه، مخافةَ أن يتعرَّض للعقاب.كذلك في المرحلة الثَّانية، ينظر المؤمِن إلى الله، نظرةَ عبدٍ إلى ربِّ عَمَلِه، فيسعى إلى الاعتذار عن أخطائه، خوفًا من التعرُّض للعقاب أيضًا، فيقوم بتَقديم النُّذورات له، محاوِلاً بذلك إرضاءه. في هاتين المرحلتَين، لا وجود لتوبة حقيقيّة، لأنّ علاقة المؤمِن بالله مَبنِيَّة على الخوف. أمّا في المرحلة الثّالثة، فينظر المؤمِن إلى الله، نظرةَ الابن لأبيه، وتسود المحبّة تلك العلاقة، لذا يُمكننا التكلُّم عن توبةٍ حقيقيّة. نادِرون هم المؤمِنون الّذين تمكّنوا من الوصول إلى مرحلة البنوّة لله، والشُّعور بأبوّته، إذ إنَّ صلوات غالبيّة المؤمِنِين مَبنيّة على هَدَفٍ معيّن: إمّا لتقديم الطِّلبات لله، أو لتقديم الشُّكر له على عطاياه الّتي أرسلها لهم، وبالتّالي لا وجود لعلاقة مجانيّة عند هؤلاء مع الله. غير أنّه حين تكون علاقة المؤمِن مع الله مَبنيّة على المحبّة، فإنّ المؤمن يسعى إلى لقاء الله في الصّلاة، لأنّ وجوده في حضرة الله قادرٌ على مَنحِه السّعادة. وهنا يجب الانتباه إلى أنّ علاقَتَنا مع آبائنا الأرضيِّين لا تعكس بالضَّرورة علاقتنا بالله، خاصّةً إنْ كانت سيِّئة؛ بل إنّ علاقتَنا بالله هي الّتي تنعكس على علاقتِنا بآبائنا، فنُعامِلهم بالرَّحمة والمحبّة. إنَّ علاقتنا بالله، في المرحلَتَين الأولى والثّانية، هي مَصدرُ كآبتِنا. إذًا، إنّ هذا الـمُركَّب، أي التَّوبة، لا يمكنه أن يكون موجودًا إلّا حين تكون علاقة المؤمِن بالله علاقةَ ابنٍ بأبيه؛ أمّا الـمُركبّات الخَمسة الأخرى من هذا العلاج المضادّ للكآبة، فَهِي مُتوافرة في جميع مراحل علاقَتِنا بالله.
إنَّ التّوبة هي كلمة متعدِّدة الأصول: ففي اليونانيّة هي "مِيْتانُويا"، وتعني تغيير الذّهن، والذّهن هو أعلى مراتب التفكير الإنسانيّ. وقد تُرجمَت بالعربيّة إلى "مطّانيّة"، وهي عبارة عن سجود المؤمِن إلى الأرض حتّى تلامِس جبهته الأرض؛ وفي هذه الحركة، تغيير للمفاهيم المتعارف عليه إذ يُصبح الرأس الّذي هو أعلى الجسد، مُلامِسًا للأرض. إنَّ التّوبة هي تغيير الإنسان رؤيته للأمور مِن حَوله، وهذه الرؤية الجديدة غير مرتبطة بالحالة الروحيّة، أي أنّها غير مرتبطة لا بِبَراراة الإنسان ولا بِنَجاسته. إذًا، النَّدم على الخطيئة هو جزءٌ صغيرٌ مِن التَّوبة ولا يُعبِّر عن المفهوم الكامل الحقيقيّ لها. أمّا في العبريّة، فالتّوبة هي "شابا"، وتعني العودة. إذًا، التَّوبة لا تقتصر فقط على ندامة المؤمِن على الخطيئة الّتي ارتكبها، والّتي يرغب في التخلُّص منها؛ إنّما التَّوبة هي العودة إلى أحضان الآب السماويّ، بعد فُقدان المؤمِن الطريق الصَّحيح نتيجة الخطيئة الّتي شوَّهت رؤيته للأمور مِن حَولِه. إنَّ الخطيئة تُشوِّه رؤية المؤمِن لله، فتَدفعُه إلى النَّظر إلى الله على أنّه سيِّد أو ربّ عَملٍ، وهذا ما يؤدِّي إلى غَرَقِ المؤمِن في الكآبة.
ثانيًا: التواضع. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان المتواضع، لأنّ الإنسان المتواضع هو صاحب قناعة بأنَّ ممتلكاته الحاضرة كافيةٌ له، لذا فَهو لا يطمح إلى الحصول على ما لا يستطيع إنجازه، لذلك فَهو لا يتعرَّض لخيبات الأمل، وبالتّالي لا تعرف الكآبة له طريقًا. أمّا الإنسان الّذي يسعى إلى الحصول على المديح مِنَ الآخَرين نتيجة تَوقِه لِمَا لا يستطيع تحقيقه، فإنّه سيتعرَّض عاجلاً أم آجلاً لِـخيباتِ الأمل، وسيشعر بالكآبة لِظنِّه أنَّ الآخَرين لم يحترموه وأنَّهم جَرحُوه في كرامته. أنْ يكون الإنسانُ متواضِعًا، لا يعني أنْ يكون إنسانًا من دون كرامة؛ ولكنّ الفرق بين الإنسان المتكبِّر والإنسان المتواضع هو: أنَّ الأوّل يضع آماله وطموحاته في الآخَرين، فيُصاب بِخَيبات الأمل؛ أمّا الثّاني، فينظر إلى نفسه على أنّه شخصٌ مَنْسِيّ، لذا لا يُصاب بالكآبة إنْ لم يحصل على التقدير مِنَ الآخَرين. إنَّ الإنسان المتواضع هو إنسانٌ دائم الشُّكر للربّ على عطاياه الكثيرة له، ومواظِبٌ على طلب الرَّحمة مِنَ الربّ، لذا لا تُبارح العبارات التّالية شَفَتيه: "الشُّكر لله"، و"يا ربّ ارحم". إنَّ الإنسان الـمُتَكبِّر يَتَّبِع المثل القائل:"خالِفْ تُعرَف"، كي يُصبح مَعروفًا ويمدحه النّاس، وإلّا أُصيب بالكآبة. مَن يُفكِّر في أمور هذا العالم ومَشقّاته يكتئب، أمّا مَن يُفكِّر في أمور الله وفي خِدمة إخوته البشر يَعِشْ في حالةٍ من السّعادة الحقيقيّة، غير مرتبطةٍ بامتلاكه للأمور الدُّنيويّة. إنَّ الإنسان المتواضع لا يتمسَّك بممتلكاته الأرضية، لذا يجد سهولةً في التخلِّي عنها من دون أن يُصاب بالكآبة، لأنّ سعادته لا تأتي منها، بل مِن الله السّاكن فيه. إنّ الإنسان المتواضع يسعى إلى حلّ الخلافات والسيطرة على غضبه، لأنَّه يُدرِك تمامًا أنَّ الحياة زائلة، ولذا لا يرغب في عيشها في حالةٍ من الاكتئاب بل في حالةٍ من السَّعادة. إنَّ الإنسان المتواضع يُدرِك تمامًا أنَّه لا يعلم كلّ شيء، لذا يُظهر رغبة دائمة للتّعلم مِنَ الآخَرين، فهو تلميذٌ دائم في هذه الحياة، وهذا ما يخفِّف مِن إصابته بالكآبة. يُصاب الإنسان بالكآبة، لا بسبب الظروف المحيطة به وحسب، إنّما أيضًا بسبب غياب أو نُقصان أحد العناصر السِّتة في الـمُركَّب "ت"، الّذي نتكلَّم عنه.
ثالثًا: التَّسليم. لا وجود للكآبة عند الإنسان الّذي يُسلِّم أمرَه لله. يجد الإنسان الـمُثقّف صعوبةً في تسليم أمرِه لله على عكس الرَّجل البسيط، لأنَّ الإنسان الـمُثقّف يَنتَابُه الغرور لاعتقاده أنَّ معرفتَه ببعض الأمور قادرةٌ على مساعدته في تدبير أموره من دون حاجته لله. إنَّ الإنسان الـمُثقّف هو أكثر عُرضةً للإصابة بالكآبة من الإنسان البسيط. إنّ الربّ يدفعنا إلى تسليم أمرِنا له من خلال الآيات المزموريّة إذ يقول لنا: "سلِّم للربّ طريقك، واتَّكل عليه"، "ألقِ على الربِّ هَمَّك وهو يَعُولُكَ". لا يستطيع المؤمِن أن يعيش بسلامٍ، إلّا إذا قام بِرَمي كلِّ همومه أمام الربّ، تعبيرًا عن ثِقته بأنَّ الربّ قادرٌ على الاهتمام بها. إنَّ احتفاظ المؤمن بهمومه الحياتيّة، يؤدِّي إلى شعوره بالكآبة. على المؤمِن رَمي همومه أمام الربّ لا شكواه: فالشكوى تقوم على تبرير الإنسان ذاته أمام الله، ورَمي المسؤوليّة في ارتكاب الخطايا على الآخَرين، ممّا يؤدِّي إلى بقاء الـهَمّ في قلب الإنسان من دون زواله. "ألقِ على الربّ همَّك"، تعني أن يكون المؤمن بين يدَي الله، كالطِّفل بين يدَي أبيه. إنَّ الأطفال لا يهتمُّون إلّا لِمَا يؤمِّن لهم سعادتهم، لذا لا يهتمّون إلّا لألعابهم، من دون التَّفكير في كيفيّة تأمين الاحتياجات المنزليّة، لعِلمهم أنَّ والِديهم يهتمّون بهذا الأمر. ينهمك الإنسان في تدبير الأمور الحياتيّة اليوميّة لاعتقاده أنَّه قادر على ذلك وحده، غير أنّ ذلك غير صحيح بتاتًا، لذا يُذكِّرنا الربّ قائلاً لنا إنَّنا لا نستطيع شيئًا بِدُونِه. لذلك، فَلنَرْمِ أعباء حياتنا اليوميّة عليه، لأنّ في حِملِنا لها، مَصدرًا لكآبتنا. إذًا، التَّسليم لله، هو أن نكون أطفالاً بين يدَي الله الآب.
رابعًا: التهرُّب. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الّذي يتهرّب من "المشغوليّة". على المؤمِن التهرُّب لا من المسؤوليّة في تَحمُّل أخطائه، بل التهرَّب من الانشغال الدائم في التَّفكير في هموم هذه الحياة، ومن التَّفكير السلبيّ، خاصّةً سوء الظّن في الآخَرين. إنّ الكآبة هي ثَمرةُ الانشغال الزَّائد في التَّفكير بأمور هذه الحياة وهمومها، وهذا ما يؤدِّي إلى ولادة بعض المشاعر ومِنها الكآبة والـحُزن الـمُفرِط. إذًا، يبدأ علاج الكآبة بالابتعاد أوّلاً عن كلّ تفكيرٍ سلبيّ، وخاصّة في الآخرين أي سوء الظّن بهم. إنّ الإنسان قد أساء الظّن بالله، فوَقَعَ في الخطيئة، ممّا أدى إلى خسارته الفِردوس. حين تتحرَّر من ظَنِّك السيِّئ في الآخرين، تصل إلى القداسة، إذ ليست القداسة في الأعمال الباهرة، إنّما في الأعمال البسيطة المتواضعة الّتـي تعبِّر عن محبّة الإنسان لأخيه الإنسان. إنّ الظّن السيِّئ بالآخرين يقود الإنسان إلى تحليل أخطاء الآخَرين من دون القبول بتبريراتهم. يُطلق الآباء القدِّيسون على سوء الظّن اسم "الكَذِب بالفِكر". إنَّ الكَذِب بالفكر يؤدِّي إلى اقتراف الإنسان الخطايا بواسِطة لِسانه، الّذي لا عَظمَ له ولكنّه قادرٌ على تحطيم كلّ عِظام الإنسان. إذًا، على المؤمِن التهرُّب من الثرثرة والكلام الفارغ، لأنَّه حين يَتَفَوَّه الإنسان بالكلام الفارغ، تَدخُل تلك الكلمات السّيئة إلى ذاكرته، فتَخلُقُ فيه أفكارًا سيِّئة تؤدِّي إلى ولادة مشاعر سلبيّة فيه، فيُصاب الإنسان بالكآبة. على المؤمِن التهرُّب من كلّ أنواع الإدمان، لا من الإدمان على المخدّرات والمشروبات وحَسب، بل من الإدمان على الأهواء، الّتي تدفع به إلى الكآبة في حال عدم تلبيته لها، بسبب ظروفه الحياتيّة. إنّ الإدمان متعدِّد الأنواع: الإدمان على الثرثرة والإدمان على الرّشوة والإدمان على تشويه سُمعة الآخَرين، وسواها؛ ولكنّ أخطر أنواع الإدمان هو الإدمان على الكَسل، إذ إنّ الكسول بارعٌ في تأليف الحُجج لتبرير امتناعه عن العمل.
خامسًا التَّعب. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الّذي يسعى إلى إتِعاب جسده بالعمل. تشير الإحصاءات العِلميّة، إلى أنَّ الّذين يُمضون أوقاتهم بالعمل الذِّهنيّ هُم أكثر عُرضةً للكآبة مِن الّذين يُمضون أوقاتهم في العمل الجسديّ. وبالتّالي، فإنّ أكثر الأشخاص الـمُعرَّضين للكآبة هم القُضاة، أساتذة الجامعات أي الـمُحاضِرون، والكهنة، أمّا الأقلّ عُرضةً لها، فَهُم الفلّاحون والعُمّال، لأنَّ حياة القضاة والكهنة وأساتذة الجامعات مبنيّة على الكلام، أي على إعطاء الإرشادات والنصائح للآخَرين؛ أمّا حياة العُمال والفلّاحين فمَبنيّة على العمل الجسديّ الـمُضنيّ. وهنا نُضيف إلى أنّ الّذين يُعانون مِن مُشكلة حُبّ الاقتناء للأمور الأرضيّة هُم أكثر عُرضةً للاكتئاب مِنَ الّذين يَجِدون سهولةً في التخلِّي عنها. إنَّ العَمل من أجل الآخَرين يُقلِّل من خَطر إصابتك بالكآبة. عندما يُتعِب الإنسان جسده يكتسب حالةً من الصَّفاء الذهنيّ، بدليل أنَّ الفلّاحين والعُمال يعيشون حالة الصّفاء الداخليّ أكثر من الكهنة والقضاة وأساتذة الجامعات.
سادسًا التسبيح. لا وجود للكآبة في قلب الإنسان الـمُسبِّح لله. إنَّ التَّسبيح هو نوعٌ من أنواع الشُّكر المجانيّ لله: على المؤمِن أن يشكر الله، لا على نِعمةٍ نالها، إنّما على نِعمة وجود الله في حياته. فكما أنَّ الحبيبب لا يحتاج إلى سببٍ للقاء حبيبِه، كذلك على المؤمِن أن يسعى إلى لقاء الله لا من أجل طلبٍ أو شُكرٍ، إنَّما من أجل شعوره بفرحة اللّقاء مع الربّ. إنَّ التَّسبيح يقوم على شُكر المؤمِن لله على نِعمة وجوده في حياته، فوجود الله في حياة المؤمِن هو الّذي يُعطيها المعنى الإيجابيّ. إنَّ شُكر المؤمِن لله، يُخفِّف من كآبة الإنسان. إنَّ بولس الرَّسول يدعونا إلى شُكر الله على الدّوام قائلاً: "أُشكروا الله الآبَ كلَّ حينٍ على كلِّ شيءٍ باسم ربِّنا يسوع الـمَسيح" (أفسس5: 20). وكذلك صاحب المزامير يدعونا إلى تسبيح الله أيضًا، قائلاً: "أُحبُّك يا ربُّ يا قوَّتي، يا مخلِّصي، مِن العُنفِ خلَّصتني. الربُّ صخرتي وحِصني ومُنقِذي، إلهي الصَّخرُ به أعتصِمُ، تُرسي وقوّةُ خلاصي وملجئي. أدعو الربَّ سُبحانه، فأنجو مِن أعدائي"
(مز 18: 1-4). إذًا، الربُّ حِصني ومُخلِّصي، لذا على المؤمِن تسبيحه على الدَّوام. عندما تسعى إلى لقاء الربّ من دون هدفٍ معيَّن، أي لا من أجل طلبٍ أو شُكرٍ على نِعمةٍ حصلت عليها، تكون قد وَصلت إلى قمَّة علاقتك، إلى الله، فتتعامَل معه على أنَّه أبوك وأنت ابنُه، فلا تخاف منه بعد الآن.
إنّ الإنسان يُصاب بالكآبة، لا نتيجة عوامل خارجيّة وحسب، إنّما بسبب غياب أحد هذه العناصر السّتة الأساسيّة من الـمُركَّب "ت" في حياته اليوميّة. في مقابل هذا الـمُركَّب العلاجيّ للكآبة، المؤلَّف من ستّة عناصر تبدأ بحرف "ت"، مُركَّبٌ آخر يؤدِّي إلى إصابة الإنسان بمرض الكآبة، مؤلَّفٌ هو أيضًا من ستّة عناصر تبدأ بحرف "ت"، ومِنها التكبُّر. وهنا يكلِّمنا بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل غلاطية عن أعمال الجسد وثمار أعمال الرُّوح، قائلاً: "ولكن إذا كان الرُّوح يقودكم، فَلَستُم في حُكم الشريعة. وأمّا أعمال الجسد فإنَّها ظاهرة، وهي الزّنى والدّعارة والفُجور وعبادةُ الأوثان والسِّحر والعداوات والخِصام والـحَسدُ والسُّخط والـمُنازاعات والشِّقاقُ والتَّشيُّع والـحَسَد والسُّكر والقَصفُ وما أشبه. وأُنبِّهُكم، كما نبَّهتُكم مِن قَبلُ، على أنَّ الّذينَ يَعملون مِثلَ هذه الأعمال لا يَرثونَ مَلكوت الله. أمّا ثمر الرُّوح فَهو الـمَحبَّةُ والفرحُ والسّلام والصّبرُ واللُّطف وكرَمُ الأخلاقِ والإيمانُ والوداعة والعفاف. وهذه ما مِن شريعةٍ تتعرَّض لها."(غلاطية 5: 13-28). إنَّ ثِمار الرُوح هي حِصنُ الإنسان ضدَّ الكآبة. إنَّ الربَّ يسوع قد سمّى إبليس "سيِّد هذا العالم". على المؤمِن أن يُحاربَ كلَّ فِكرٍ عالميّ بِثِمار الرُّوح، لأنّ فِكر العالم هو مَصدَرٌ للكآبة. في زمن الصّوم، على المؤمِن التهرُّب من كلّ "مشغوليّة"، في تحضير الأكل الصّياميّ، لأنَّ الصّوم لا يقتصر على شكله الخارجيّ وحسب، إنّما على دخول الإنسان إلى أعماقه في محاولةٍ لاستعادة صفائه الدّاخليّ. إنَّ الصّوم يُسبِّب للبعض حالةً من الكآبة، لأنّهم ينظرون إلى الله على أنّه سيِّد أو ربُّ عملٍ، لا على أنّه أبٌ مُحبٌّ لهم. كذلك الأمر بالنسبة للصّلاة، فالبعض لا زالوا يُمارسونها عن خوف، لا عن رغبةٍ منهم في لقائهم بالحَبيب أي الله. الصّوم هو إشراك المؤمن جسده في الصّلاة، والصّلاة هي تصويم الإنسان نَفسَه عن كلّ ما لا يُرضي الله. إنَّ صومَنا وصلاتنا لا يمكنهما أن يظهرا للآخَرين إلّا من خلال محبّتنا للآخر، فالصّوم والصّلاة والآخر هي ثالوث المؤمِن. في النِّهاية أدعوكم إخوتي، إلى التخفيف من أحمالِكم للهموم الحياتيّة ورَميها على الله في الصّلاة، لأنّ ذلك يُخفِّف من نسبة إصابتكم بالكآبة. اسعوا في هذا الزّمن إلى البحث عن هذه العناصر السّتة في حياتكم والمحافظة عليها، إذ فيها علاجٌ أكيد لكآبتكم. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف
تتمة..."إيمان القدّيس توما الرسول"
الأب ابراهيم سعد
7/5/2019
أودّ أن أتأمّل معكم اليوم، في الحادثة الّتي جرَتْ مع الرَّسول توما. في ليلة الأحد،كان التّلاميذُ مجتمعِين في العليّة وكانت الأبواب مُوصَدة خوفًا من اليهود، فإذْ بِيَسوع يحضر في وَسَطِهم ويقول لهم: "السّلام لَكم"، غير أنَّ الرَّسول توما لم يكن حاضرًا معهم. ولكنْ حين ظهر الربُّ مرّة أخرى للتّلاميذ، كان توما حاضرًا. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا لم يكن توما مع التّلاميذ حين ظهر لهم الربّ للمرّة الأولى؟ ألَم يكن خائفًا كبَقيّة التّلاميذ مِن اليَهود؟ أكان في العَمل؟ فجميعهم لديهم أعمال. أكان مع عائلته؟ فالجميع لديهم عائلات. وبالتّالي، يُطرَح السؤال: لماذا لَـمْ يكن توما مع التّلاميذ؟ إنَّ هذا السؤال لا نجد له جوابًا إلّا من خلال إدراكِنا لِقصّة الرَّسول توما: فهذا الرَّجل، أي توما الرَّسول، لم يتمكّن من تصديق أنَّ يسوع قد انتهَت قِصتَّه بموته على الصّليب؛ لذا تفرّغ للبَحث عن ما يُبلسِم له حُزنه فيما يتعلَّق بيسوع، علَّه يجد نهاية أخرى له.
إنَّ الرَّسول يُدعى توما، أي "التَّوأم"، وهذه الكلمة تدلّ على وجود شَخصَيْن متشابِهَين جدًّا. إنَّ الرَّسول توما هو "تَوأمٌ" لكلّ مؤمِنٍ، إذ قد قام بما لم يتَجرّأ أيُّ مؤمِن على القيام به على الرُّغم من شكِّه بقيامة الربّ. إنّنا نتذكَّر شكَّ الرَّسول توما بقيامة المسيح، وننسى أنّ شكَّه هذا قاده إلى الإيمان بالربِّ يسوع القائم من الموت. إنّ الطابع السلبيّ لرسوليّة توما، الّذي هو الشَّك، هو الّذي يغلب في أذهاننا، على الطَّابع الإيجابيّ وهو الإيمان. كان الرَّسول توما رافضًا لحقيقة موت المسيح، لذا كان يبحث عن حقيقة أخرى للربّ يسوع، ألا وهي القيامة، وعندما تأكَّد من ذلك يوم ظهر له الربّ أثناء وجوده مع التّلاميذ، أعلَن إيمانه بالربّ. إنَّ الرَّسول توما أراد لَمس يسوع، ليؤكِّد ما هو مؤكَّدٌ بالنِّسبة له في ذِهنه، أراد تثبيت ما كان يُفكِّر به؛ لذا نقرأ في اللِّيتورجيا، قول الربّ لِتُوما: "إبحَث في رِجليَّ ويديَّ". إنَّ الربّ يسوع لم يَدْعُ توما إلى الإيمان به، بل إلى لَمْسِ ما كان يبحث عنه؛ لذا قال الرَّسول توما للربّ: "أنت الربُّ الّذي لي، أنت الله الّذي لي". إنَّ كلمة "الربّ" لا تُقال إلّا للربّ يسوع، وكلمة "الله" في الكتاب المقدَّس، لا تُقال إلّا لله الآب. وبالتّالي، إنّ اعتراف توما الرَّسول هو أوّل اعترافٍ إيمانيّ بالثّالوث الأقدس، وتحديدًا بمساواة الله الآب والابن. إنَّ اعتراف توما الرَّسول هو اعترافٌ لم يتجرَّأ أحدٌ من الرُّسل على قوله: فحين اعترَفَ بطرس الرّسول بالربّ قائلاً فيه: "أنت ابن الله الحيّ" (متّى 16: 16)، كان جواب الربِّ يسوع له إنّ هذا الكلام الّذي نَطَق به بطرس هو مُوحى له من الله الآب، لأنّه لا أحد من البشر يستطيع أن يقول هذا الكلام. وعلى إثرِ سماع الربّ هذا الكلام من بُطرُس قال له: "أنتَ صَخرٌ، وعلى هذه الصَّخرة سأبني كَنيستي" (متى 16: 18). لقد اعترف توما بالربّ لا إلهًا وربًّا فحسب، بل اعترف به إلهَه هو وربَّه هو، أي أنَّه اعترَف بالربِّ يسوع سيِّدًا علَيه ومُخلِّصه الخاصّ.
عند اكتشاف توما لقيامة الربّ، من خلال اختباره لعلامات الصّلب والموت، تَغيَّرت حياته، فانطلق للتَّبشير بقيامة الربّ في الهند. إنَّ الربّ قد أظهر قيامته لِتُوما الرَّسول من خلال علامات الصّلب لا من خلال علامات القيامة، إذ طلب الربُّ من توما لَمس يَديَه ورِجلَيه حيث آثار الصّلب والعذاب، لا التّركيز على كيفيّة دخول الربّ إلى العليّة والأبواب مُوصَدة. إنّ علامات الصّلب الّذي ترمز إلى العار والعبوديّة، قد تحوَّلت إلى علامات لقيامة الربّ يسوع، فأصبحت مَصدر افتخارٍ للمؤمِنِين. فمثلاً، حين يكون الإنسان عبدًا ويتلقّى العذابات مِن سيِّده، يسعى إلى إخفائها عن الآخَرين؛ ولكن حين ينال هذا العبد الحريّة، فإنّه يسعى إلى إظهار علامات العذابات الّتي نالها في عبوديّته ليُبرهِن للآخَرين أنّه كان عبدًا، ولكنّه أصبح اليوم حُرًّا. وهذا ما عبَّر عنه الرَّسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس إذ قال: "وإنّما شِئْتُ أنْ لا أعرف شيئًا، وأنا بينَكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح مَصلوبًا"(1كور 2: 2)، ولكن هذا لا يعني أنّه على المؤمِن الافتخار بآلام الربّ بحدِّ ذاتها، إنّما بقيامة الربّ الّتي تشكِّل تلك العذابات دليلاً واضِحًا على حُدُوثِها، إذ لا يمكننا الكلام عن قيامة الربّ بمَعزِلٍ عن آلامه الخلاصيّة. على المؤمن ألّا ينظر إلى آلامِه انطلاقًا من نظرته إلى آلام الربّ يسوع على أنّها مَصدَر موتٍ وعارٍ، قائِلاً: "مع آلامِك يا يسوع"، بل عليه أن ينظر إليها انطلاقًا مِن آلام يسوع الّتي تحوَّلت إلى مَصدر قيامة وافتخار، فيتحمَّل المؤمِن أوجاعه لا بِيَأسٍ وحزنٍ، بل بفرحٍ لأنّها ستقوده إلى القيامة. إذًا، علينا أن ننظر إلى الصّليب نظرة افتخارٍ لا نظرةَ عارٍ، إذ إنّه علامةٌ تؤكِّد القيامة الّتي اكتشفها توما الرَّسول حين ظهر له الربّ عندما كان مع التّلاميذ في العليّة. وهذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول أيضًا في رسالته إلى أهل رُومية، إذ قال: "وأنا على يَقين أنَّ لا الموتَ ولا الحياةَ، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قِوى الأرض ولا قِوى السَّماء، ولا شيءَ في الخليقة كلِّها قادرٌ أن يَفصِلَنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربِّنا" (رو 8: 38-39).
وهنا يُطرَح السؤال على المؤمِنِين الّذين احتفلوا بِعِيد الفِصح: ما الّذي تغيَّر في داخلكم بعد اكتشافِكم لقيامة المسيح؟ ليسَت قيامة الربّ حَدثًا تاريخيًّا تمّ في القديم مع الربّ يسوع وانتهى في حينه، بل هو حَدَثٌ يتكرَّر يوميًّا مع المؤمِنِين، وهو استباقيّ لليوم الأخير. إنّ قيامة الأموات ستتمّ في اليوم الأخير، أي في الآخِرة، وبالتّالي حين يُعلِن المؤمِن قيامة المسيح، فهذا يعني أنّه يُعلِن أنَّ الآخِرة قد أتتَ، ولذا على المؤمِن أن يتصرَّف في حياته الأرضيّة كأنّه في الملكوت، فيترك شهواته الأرضيّة ويسعى إلى العيش مع الربّ حياة جديدة أبديّة. حين يُعلِن المؤمِن للآخَرين أنّ المسيح قام، فهذا يعني أنّه يُعلِن لهم مجيء آخِرَته الأرضيّة وبداية حياته الأبديّة في السّماء مع الربّ، إذ قد تمَّت قيامة الأموات بقيامة الربّ يسوع؛ وبالتّالي على حياة الإنسان أن تشهد تغييراتٍ جذريّة تتناسَب مع ما يُعلِنه هذا الأخير من إيمانٍ بالربّ يسوع. فإنْ لم تتغيَّر حياة الإنسان الأرضيّة بعد إعلانه القيامة، فهذا يدلّ على أمرَيْن، هما: إمّا أنَّ المؤمِن لم يتمكَّن من اختبار القيامة وهو ما زال في إطار البَحث عنها، كما كان الرَّسول تُوما قبل أن يعلِن له الربّ القيامة، وإمّا أنَّ القيامة بالنِّسبة للمؤمِن هي حَدَثٌ تاريخيّ وقد انتهى. إنَّ قيامة الربّ يسوع قد تمّت، وقد أرادها الله الآب أن تكون استباقيّة لليوم الأخير كي يتمكَّن كلُّ مؤمِنٍ مِن رؤية آخِرته قبل أنْ يُحاسِب الربُّ المؤمِنِين على خَطاياهم. عندما جثا توما أمام الربّ واعترف بإيمانه بقيامة الربّ، أسقَط عنه كلّ ما هو عتيق فيه، فكانت نهاية كلّ قديمٍ فيه. إنَّ الرَّسول توما هو مَصدَر افتخارٍ للمؤمِنِين لا بسبب شكِّه بقيامة الربّ إنّما بسبب إيمانه بها، وهو مِثالٌ لكلِّ مؤمِنٍ يبحث عن الحقيقة، لذا نستطيع اعتباره "التَّوأم" لكلّ منّا. عند قيامة الربّ يسوع من الموت، تحقَّقت الآخِرة بالنِّسبة للرُّسل، لذا انطلقوا في إعلان قيامة الربّ لكلّ المسكونة.
إنَّ توما هو مِثال الإنسان المؤمِن بالربّ، المدعوّ إلى إحداث تَغييرات جذريّة في حياته، تعبيرًا عن إيمانه بقيامة الربِّ يسوع. وهذه التَّغييرات تتمّ على مستوياتٍ ثلاثة، هي: المستوى الذهنيّ أو الفِكري، المستوى اللَّفظي أو الكَلاميّ، وأخيراً المستوى السُّلوكي. إنّ تغيير الإنسان في سلوكه يُعبِّر عن قبوله بالقيامة، ولذا فَهو ضروريٌّ جدًّا ولو في أمور بسيطة جدًّا، كمسامحة الـمُسئين إليه، والتَخلِّي عن بعض الشَّهوات الأرضيّة الّتي هي مَصدر لخطايا المؤمِن. إنَّ عبارة "المسيح قام" الّتي نردِّدها في زمن الفِصح ليست مجرَّد تحيّة فِصحيّة، بل هي عبارة تدلّ على إعلاننا أنّ آخِرَتنا القديمة قد حلّت، بقيامة المسيح من الموت. حين يُعلِن المؤمِن للآخَرين القيامة قائِلاً: "المسيح قام"، فهذا يعني أنّه يعِلن للآخَرين أنَّ آخِرتَه وآخِرتَهم قد تمَّت، فإن كان الآخَرون مؤمِنِين بذلك الكلام، نسمع جوابهم التَّأكيديّ على ذلك من خلال قَولِهم "حقًّا قام"، الّتي تعني أنّ آخِرَة جميع النّاس قد تحقَّقت فِعلاً بقيامة المسيح. إنَّ تأكيد حَدَث القيامة لا يتمّ إلّا من خلال السّعي إلى إجراء تغييرات جذريّة في داخل المؤمِن الّتي لا يستطيع أحدٌ تأكيد حصولِها إلّا الإنسان نفسه. إنَّ المسيح بَقِيَ أربعين يومًا مع تلاميذه بعد القيامة، ليقول لنا، إنَّه على المؤمِن السَّعي للتَّغيير في داخله وأنّ الوقت لا زال مُتاحًا لذلك، طالما أنَّه لا يزال حيًّا في هذه الحياة، ولم تتحقَّق آخِرَته الفِعليّة بعد، من خلال انتقالِه من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة.
إنّ إعلان القيامة لم يتمّ من خلال ظهور الربّ لِتُوما وحسب، بل من خلال ظهورات الربّ لأشخاص عِدَّة، ومنها لمريم الّتي ذَهَبَتْ إلى القبر في صباح الأحد، لِتُحنِّط جسده. عندما ذهبَتْ مريم إلى القبر، لم تتمكَّن من التَّعرف إلى الربِّ يسوع الّذي ظَهر لها بهيئة بُستاني. لقد حاولَتْ مريم أن تَلمُسَه ولكنَّه منعها لأنّه لَم يصعد بعد إلى أبيه السَّماوي. لم يَقُل الربُّ لمريم: "لا تلمُسيني"، كما تظهر العبارة في بعض التَّرجمات الكتابيّة، بل قال لها: "كُفيّ عن التمسُّك بي"، استنادًا إلى التَّرجمة الحرفيّة للكلمة من اللُّغة اليونانيّة. إذًا، على المؤمِن عدم التمسُّك بالربّ القائم والتّعامل معه كما عَرَفه قبل القيامة، لأنَّ معرَفتنا الجسديّة للربّ مختلفة عن مَعرِفَتنا به بعد القيامة، إذ بعد القيامة، تمّت نهاية كلّ قديم، وبدأت حياة جديدة مع الربّ. لا يمكن لمريم الّذي ذَهبَتْ إلى القبر أن تتعامل مع الربّ القائم كما كانت تتعامل مع يسوع النّاصريّ الّذي عَرفَتْه مُعلِّمًا، قبل الصّلب والقيامة، فالربُّ الآن هو ذو جسدٍ ممجَّدٍ، وعمّا قريب سيصعد إلى أبيه الّذي في السّماوات. لذا لا يجوز للمؤمِن الحيّ في هذه الحياة الأرضيّة، أن يتعامل مع الربّ القائم الّذي انتقل إلى الحياة الأبديّة كما كان يتعامل معه قَبْل القيامة. لقد طَلب الربُّ من هذه المرأة أن تُخبر الرُّسل بقيامته من بين الأموات، فكانت أوّل رسولة ومبشِّرة بقيامة الربّ. إنَّ الرُّسل الّذين بشَّروا العالم كلَّه بقيامة المسيح، قد تلَقّوا بشارة القيامة من مريم الّتي ظهر لها الربّ يسوع بِهَيئة بستانيّ.
كذلك ظهر الربُّ لِتلميذَي عمّاوس، وأعلن لهم بشارة القيامة. لقد ظهر الربُّ لِتلميذَي عمّاوس كغريبٍ إذ سار معهما على الطَّريق من دون أن يتمكَّن التِّلميذَان من مَعرِفَته، لأنّهما نظرا إليه بعيونهما القديمة المبنيّة على الصّلب والموت، لا بعيون القيامة. قام هذا "الغريب" أي الربّ، بشرح كلّ ما يتعلَّق به في الكُتب المقدَّسة للتِّلميذَين، ولكنَّ عيونهما بَقيت مُغمَضة عن حقيقة هذا الغريب إلى حين كَسْرِ الخبز. لقد انفتحت أعينهما وعرفا الربّ عندما كَسَر الخبز معهما وناولهما ليأكُلا منه، وهذا يُشير إلى أنّ المؤمِن لا يمكنه أن يُدرِك حقيقة الربّ يسوع القائم من الموت، إلّا من خلال مشاركته الإخوة في الذبيحة الإلهيّة. نحن نعيش القيامة في كلِّ قدَّاسٍ إلهيّ، إذ في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة ندخل نحن التُّرابيّين إلى مملكة الآب، بجسدنا العتيق، ولكنّنا نخرج بعد انتهاء الذبيحة الإلهيّة، بأجسادٍ نُورانيِّة، أي بحُلَّةٍ جديدة. إنَّ المعمَّدين وَحدهم هُم الّذي يستطيعون إعلان قيامة الربّ يسوع، فحسب الإنجيليّ مَرقس، إنّ الربّ قد ظهر بعد القيامة للمؤمِنِين به، تحت هيئاتٍ مختلفة منها: هيئة الغريب لتِلميذَي عمّاوس، هيئة البستاني لمريم عند مجيئها لِتَحنيط جَسَدِه، وبهيئة شابٍ يافعٍ. إنَّ مرقس الإنجيليّ يُخبرنا أنَّ هذا الشّاب اليافع الّذي أعلن قيامة الربّ عند القبر، مرتديًا حُلَّةً بيضاء،كان حاضرًا عند اعتقال يسوع، وقد تعرَّى من ثيابه في بستان الزّيتون. إنّ العُري يرمز إلى العبوديّة، أمَّا الثَّياب البَيضاء فترمز إلى الحُلَة الّتي يرتديها المعمَّدون. إنّ الـمُعمَّد يتعرَّى من ثيابه تعبيرًا عن حالة العبوديّة الّتي وَقع فيها، ويُغطَّس في الماء ويَصعد منها دلالة على موته وقيامته مع المسيح، ثمّ يرتدي بعد ذلك حُلَةً بيضاء، دلالةً على تغيير في حالته الأولى إذ أصبح ابنًا لله.
لم يَظهَر الربّ لكلِّ إنسان آمَن به، أو شكَّك بحقيقة قيامته، بل أفسَح المجال للّذين عاينوا قيامته، أي الرُّسل، للتّبشير بما اختبروه في القيامة. وهنا نستطيع أن نفهم كلام الربِّ يسوع لِتُوما الرَّسول: "لأنّك رأيتني آمنت! طوبى للّذين أمنوا ولَم يَروا" (يو 20: 29). إنّ يوحنّا الإنجيليّ هو أحد الّذين آمَنوا مِن دون أن يَروا الربّ، إذ يُخبرنا النَّص الإنجيليّ إنّه عندما دَخل يوحنّا مع بطرس إلى القبر، لم يرَ الربّ يسوع، ولكنّه آمَن بقيامَته. إنَّ القَبر الفارغ، كان بالنِّسبة لهذَين الرَّسولَين علامةً على قيامة الربّ، إذ على الرُّغم من أنّهما لَم يَريا الربّ، آمَنا بالقيامة، ولم يَعتَبرا أنّ جثمان الربّ قد تعرَّض للسرقة، كما أشاع اليَهود. إذًا، لا يستطيع المؤمِن أن يُعلِن قيامة الربّ للآخَرين، إنْ لم يلمس وجود قَبرٍ فارِغٍ في حياته. في القبر، تُوضَع جثامين الموتى، وحين يكون القبر فارغًا، فهذا يشير إلى زوال الموت. وبالتّالي، بعد إعلانه قيامة الربّ من الموت، على المؤمِن التخلِّي عن كلّ صُوَر الموت الموجودة في داخله كالحِقد والكراهيّة وكلِّ صُوَر الخطيئة. إنّ قلبَ المؤمِن الفارغ من كلِّ صُوَر الموت هو دليلٌ قاطعٌ على حدوث تغييرات جذريّة في داخِلِه، وهذه التَغييرات تنعكس لا على علاقته بالله وحسب، إنّما أيضًا على علاقته بالآخَرين الـمُحيطِين به. ولذا يستطيع المؤمِن إعلان تحقيق الآخِرة، قائلاً "المسيح قام"، إذ تمكَّن من اختبار المسيح القائم من الموت ومعرِفته إذ ظَهر له بهيئاتٍ مختلفة: الإنسان المهمَّش والمتروك، أو الشّاب اليافع أو البستانيّ.
لم يتمكَّن الربّ من إعلان كلمة الله للشَّعب قبل بلوغه الثّلاثين من عُمِره، إذ قبل هذا السِّن ما كان لِيَجِد مَن يسمَع له ويُصغي إلى البشارة الّتي يُعلِنها بِجَدِّية. إنَّ الربّ لم يُعلن قيامته لِمَلِكٍ عظيم، أو زعيمٍ كبيرٍ، أو مفكِّر وفيلسوف، بل أعلنها لامرأةٍ على باب القبر الفارغ ولرُسُلِه، أي أنّ إعلان القيامة قد تمَّ من خلال أشخاصٍ مهمَّشين مِن قِبَل المجتَمع. لم يختَر الربُّ عظماء المجتمع لنَقل بشارة القيامة، بل اختار بسطاء الشّعب وأرسلهم للبشارة به، إذ لا يحتاج الربّ إلى أفكارٍ عبقريّة لنقل البشارة بل إلى لِسان البُسطاء. أمام خوف الرُّسل من انطلاقهم للبشارة بالقيامة، أرسلَ الربّ لهم الرُوح القدس، في اليوم الخَمسِين، على شكلِ ألسِنَةٍ من نار. للنّار وظِيفَتَان: التنوير والحرَق، فالنّار تُنوِّر طريق السائرِين في الظُّلمة،كما أنّها تحرقُ كلّ ما يعترِض طريقها. على المؤمِن أن يُعلِن بشرى قيامة الربّ للآخَرين: فإذا قَبِلُوها، تنوَّروا وصحَّحوا مسيرتهم، سائِرين في طريق الحقّ؛ وأمّا إنْ رَفضُوها، فإنّ كلمة الله ستُحرِقهم بنارِ الخسارة والحسرة، لأنّ الفُرصَة قد أُتيحَت لهم لقبول كلمة الله وهم قرَّروا رَفضَها. إنَّ الصّوم الّذي يرتكز على الانقطاع عن الطّعام وزيادة الصّلوات يُصبح سهل العَيْش والتَّحقيق، أمَام ما ينتظِر المؤمِن عند إعلانه القيامة، إذ عليه تغيير مسيرته الدَّاخليّة لكي تُصبح منسجمة مع إعلانه لإيمانه بقيامة الربّ وحلول الآخِرة. عند إعلانه قيامة الربّ، يُصبح المؤمِن مَدْعوًا لا إلى التّوبة عن خطاياه وحسب، بل إلى اتِّباع نهجٍ جديد، تماشيًا مع إيمانه بالقيامة. إنّ إعلان المؤمِن للقيامة، يتطلّب منه إجراء تغييراتٍ جذرية في داخله، تنعكس على المحيطِين به: من أهلٍ وأصدقاء، لا بُدَّ لهم من أن يتأثَّروا بها. هذا ما حَدَثَ مع الرُّسل: فبَعد العنصرة، ألقى بُطرس الرّسول خُطابًا على جموعٍ غفيرةٍ من النّاس (أعمال الرُسل2: 14-42)، ما يُقارب الخمسة آلافٍ رجل، فآمَن الكثيرون نتيجة إعلانه لبشارة المسيح، واعتَمد قِسمٌ كبيرٌ منهم بِاسم المسيح؛ وكذلك الأمر مع بولس الرَّسول الّذي بشَّر بقيامة الربّ في المسكونة كلِّها. غير أنَّ البعض لم يَقبلوا، فقرَّروا قَتْلَ كلِّ مَن يُعلِن تلك البشارة، فمات بطرس الرَّسول مصلوبًا رأساً على عَقب، ومات بولس الرَّسول بِقَطع الرأس. لم يتقبَّل مُحبُّو الباطل علامات القيامة، أي سرّ الصّليب، أو سرّ الحبّ.
إنَّ علامات الصّلب قد أصبحت علامات للقيامة، لذا قال الربُّ لرُسُلِه، حين ظَهر لهم: "جسّوني وانظروا، فإنَّ الرُّوح لا لَحم له ولا عَظمَ كما تَرَون لي" (لو 24: 39)، ثمّ تناولَ معهم الطَّعام وكان سَمَكاً. إنّ كلمة "سَمَكة" في اليونانيّة، هي كلمة مؤلَّفة من خمسة أحرف، يشكِّل كلّ حرفٍ منها بداية لِكَلمة تتعلَّق بالمسيح، إذ جُمعَت كلّها، شكَّلت موجزًا عن حقيقة المسيح يسوع وهو: "يسوع المسيح ابن الله المخلِّص". بعد القيامة، لم يُشارِك الربّ تلاميذَه إلّا بتَناوُل طعام السّمك. مِن العلامات الّتـي تدلّ على المسيحيّة: الصّليب، السَّمكة، والـمِرساة. إنَّ الـمِرساة هي الّتي يستعملها الصّيادون لكي يُثبِّتوا سُفُنَهم على الشاطئ، فَهيَ الّتي تجعلُ السُّفنَ قادرةً على مواجهة العواصِف من دون خَطَر. لقد أكلَ الربُّ مع تلاميذه بعد القيامة، ليُذكِّرهم بعشائه الأخير معهم، حين أعطاهم جسده ودَمه طعامًا لهم، قائلاً: "خذوا كُلوا، هذا هو جَسَدي. خُذُوا اشربوا، هذا هو دَمي" (مر 14: 22 و24). إنّ الجَسد يرمز إلى الحضور، والدَّم يرمز إلى الحياة، أي أنَّ الربَّ قد أعطى ذاته لتلاميذه، أعطاهم حضوره وحياته. إنَّ الربَّ لم يتناول السَّمكة كاملة مع تلاميذه، بل أكل نِصفَها تاركًا النِّصف الآخَر منها لآخَر محتاجٍ لها، ألا وهو غير اليهود، أي الأُمم. بعد قيامته من الموت، تغيّرت نظرتُنا إلى المسيح، إذ لم يعد بالنِّسبة لنا، ذلك الإنسان النّاصريّ والمعلِّم، بل أصبح المخلِّص. إنَّ اعتراف توما بالربّ يسوع إلهًا له، يدلّ على أنَّ الربَّ يسوع قد أصبح بالنِّسبة له كلّ شيء، إذ لم يَعُد باستطاعة الرَّسول أن ينظر إلى هذه الحياة الأرضيّة إلّا انطلاقًا مِن نظرة المسيح القائم من الموت. بعد قيامة الربّ يسوع المسيح من الموت، أدرَك الرُّسل معنى العهد القديم، انطلاقًا من نظرتهم للمسيح القائم من الموت. إنَّ الربَّ يسوع قد فسَّر لتِلميذَي عمّاوس الكُتب المقدَّسة، أي كلّ نبوءات العهد القديم المتعلِّقة به، ثمّ أعطاهما ذاته تحت شكل الخبز، فتمكَّنا حينها مِن معرِفته.
في احتفالنا بعيد الفِصح، نختبر قيامة الربِّ يسوع من خلال قراءتنا لاختبارات الأشخاص الّذين عاينوا القيامة، كحاملات الطِّيب، ومريم الّتي ذهَبَت إلى القبر لتُحنِّط جسد الربّ، وكذلك من خلال الرُّسل أمثال بطرس ويوحنّا. إنَّ حاملات الطِّيب قد قَصَدْنَ القبر صباح الأحد، فوجَدْنَه فارغًا؛ كذلك مريم الّتي تراءى لها الربّ في هيئة بستانيّ، وَجَدت القبرَ فارغًا؛ وهذا ما اكتشفه بطرس ويوحنّا حين ذهبا ليتأكَّدا مِن كلام مريم وبقيّة النِّسوة اللّواتي أَخبرنَهم بقيامة الربّ. بعد القيامة، لم يكن هناك هيئةٌ واحدةٌ، يعتمدها الربّ في ظهوره للمؤمِنِين به، بل كان يظهر في كلّ مرَّةٍ بهيئةٍ مختلفة. إنَّ المطران خُضُر، يَصِف المسيحيّين بالقياميّين، والمقصود بتلك العبارة أنّ بذور القيامة قد زُرِعَت فيهم، غير أنّنا نلاحظ تناقضًا كبيرًا في نمط عَيش بعض المسيحيّين إذ نجد أنَّ تصرّفاتهم لا تعكس إيمانهم بالقيامة التّي يُعلِنونها بأفواههم؛ فالمسيحيّون للأسف، يتصرّفون كَمَن لم يختبر القيامة بعد، إذ نجد أنَّ صُوَر الصّلب والموت ما زالت مَطبوعة في تصرّفاتهم. في هذا الإطار يقول لنا بولس الرَّسول إنَّه بعد قبول المؤمِن سرّ العِماد تعبيرًا عن قبوله بقيامة الربّ، عليه أن يسلك كإنسان قِياميّ، على مِثال المسيح القائم من الموت. إنَّ المسيحيّين يَمتنعون عن إعلان القيامة للآخَرين إمّا خَوفًا من تَعرُّضهم للاضطهاد، وإمَّا خَوفًا على مَصالِحهم الأرضيّة. إنَّ الإنسان الّذي يشعر بالأمان مع الآخَرين المحيطين وبتأمين معيشته، لا يتردَّد في إعلان البشارة لأنَّه لا يخاف على وجوده؛ ولكنْ حين يشعر الإنسان بالخوف على حياته أو على معيشته، فإنَّه يفضِّل السُّكوت وعدم إعلان بشارة القيامة في سبيل المحافظة على ما يؤمِّن بقاءه في هذه الحياة. حين يختبر الإنسان قيامة المسيح في حياته، يزول كلُّ خوفٍ موجودٌ في داخله، وهذا ما دَفع الرُّسل إلى الانطلاق في البشارة والكرازة بالقيامة في المسكونة كلِّها من دون خوفٍ من اليَهود أو مِن الصِّعاب الّتي ستواجههم.
إنَّ القيامة هي نهاية لحياة قديمة وبداية لحياة جديدة: عندما دَخل الربُّ إلى العليّة والأبواب مُوصَدة، نفخ في رُسُلِه. إنَّ النَفخ في الإنسان يُذكِّرنا في عمليّة خلقِ الله للإنسان، فَسِفر التَّكوين يقول لنا إنّ الحياة قد أُعطِيت للإنسان حين نَفَخ فيه الله من رُوحه. إنَّ الربَّ يسوع قد نفخ من رُوحِه في رُسُلِه، فأباد كلّ خوفهم، وأعاد لهم قيمتهم، ومنحهم الحياة الجديدة، تمامًا كما فَعل مع آدم إذ اعطاه قيمته الحقيقيّة حين خَلَقَه من العَدَم. في إعلانِه القيامة، يُعلِن المؤمِن، نهاية آخِرَته القديمة وبداية حياته الجديدة مع الربّ. لذا، نجد في الاحتفالات الفِصحيّة، أنَّ التّراتيل تتمحور حول جِدَّة الحياة، وانتصار الربّ على الموت بالموت. إنّ الموت الجسديّ ليس موتًا، على الرُّغم من أنّه يُسبِّب لنا حُزنًا إثر انتقال أحبّائنا من هذا العالم، وعدم قُدرَتنا بعد ذلك على رؤيتهم بعيون الجسد. إنَّ الموت الجسديّ هو نهاية لحياة أرضية وبداية لحياة جديدة في السّماء. نتيجة اعتراف توما بقيامة الرب وإعلان إيمانه به إلهًا ومخلِّصًا له، يتهلَّل المؤمِن ويفرَح لأنَّ قيامة الربّ قد أعلَنتْ نهاية الإنسان القديمة وبداية حياته الجديدة مع الربّ في الملكوت. كان القدِّيس سيرافيم سواروفسكي يتهلَّل عند رؤيته المؤمِن قادمًا إليه إمّا للاعتراف أو للاسترشاد، فكان يصرخ من فرَحِه قائلاً: "يا فرَحي، المسيح قام". إنَّ "المسيح قام" لا تُعبِّر عن ذِكرى بل عن حقيقة إيمانيّة تدفعنا إلى التَّفكير في الحياة الجديدة، وجَدِيَّة السّلوك.
بعد انتهاء الأعياد الفِصحيّة، يعود شيطان الاسترخاء ليُسيطر على المؤمِنِين، إذ تخلو الكنائس من الزائرين، فالعيد عند غالبيّة المسيحيّين مرتبطٌ بانتهاء الفُرصة أو بنفاذ كميّة حلويات العيد مِن البيوت. لم تكن القيامة كذلك عند الرُّسل، إذ إنّهم بعد اكتشافهم قيامة الربّ، تحوَّلوا إلى شعلات روحيّة، فانطلقوا للبشارة بالقيامة غير آبهِين لكلِّ ما سيتعرَّضون له من اضطهاداتٍ، فماتوا شهداء لقيامة الربّ يسوع، مُعلِنين "المسيح قام". آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف