البحث في الموقع

كلمة الحياة

محاضرات تنشئة

5/3/2019 الهدوء والاحتمال الأب ابراهيم سعد
https://studio.youtube.com/video/_XouArjmFUw/edit

الهدوء والاحتمال
الأب ابراهيم سعد

5/3/2019

إنَّ زمن الصّوم، يشكِّل فرصةً لنا، نحن المؤمِنِين، لاختبار الفرح من خلال التأمُّل في كلمة الله، الّتي تمنحنا انتعاشًا روحيًّا ويقظةً روحيّة.
في ظلِّ مواجهتِنا لهموم الحياة، وصعوباتها اليوميّة، تظهر حاجة ملِحَّة إلى أمَرين: وهما أوَّلاً الهدوء، وثانيًا القُدرة على الاحتمال. إنَّ هدوء النَّفس يكون على مُستويَيَن: أوَّلاً، هدوء النَّفس مع النَّفس، وثانيًا هدوء النَّفس في مواجهتنا للآخَرين؛ وكذلك القُدرة على الاحتمال هي على مُستوَيين: أوّلاً القدرة على احتمال الآخَر، وثانيًا القُدرة على احتمال الحياة بِتَجاربِها وأزماتها. إنّ ما سنعرضه عليكم اليوم، ليس "وصفة طبيّة سحريّة" قادرة أن تمنح المؤمِن ضبط النّفس والسيطرة على غضبه، إنّما هو عبارة عن مفاتيح قادرة على فتح آفاقٍ أمام المؤمِن، فيُدرِك أنّ هذه الحياة لن تُمنَح له إلّا مرَّةً واحدة، وبالتّالي عليه عيشِها بفرحٍ وهدوء، لا في حالةٍ مِنَ الغضب والتَّوتر نتيجة همومها الّتي تعترضه يوميًّا. إذًا، على المؤمِن أن يُفكِّر في كيفيّة مواجهته لصعوبات هذه الحياة، من دون أن يُعطي الأمور حجمًا أكبر من حجمها الطبيعيّ، ففي أكثر الأحيان، تتعاظم صعوبات الحياة في مخيِّلَتنا في حين أنّها صغيرة وسهلة الحلّ في الواقع. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ السّاحر المشهور "هُودينيّ"، لم يتمكَّن من الخروج من سِجنٍ منزوع الأقفال، لأنّه نظر إليه على أنَّه من أصعب السُّجون في العالم. وبالتّالي، إنَّ التَّوتر والغضب، يمنعان الإنسان من رؤية الأمور على حقيقتها، وهذا ما يجعله غير قادر على إيجاد الحلول لمشاكِله؛ في حين أنَّ هُدوء النَّفس يدفعه إلى إيجاد الحلول بطريقةٍ سهلة وبسيطة .

إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ لنا للتمرَّس في العيش بهدوءٍ. إنَّ الربّ يسوع قد قصد الصَّحراء وعاش فيها بهدوء على الرُّغم من عدم توافر أبسط الأمور الحياتيّة فيها كالطَّعام والشُّرب. فالصّحراء في الكتاب المقدَّس ترمز إلى الموت. إنَّ محافظة يسوع على حالة الهدوء ساهمت في انتصاره على إبليس وتجاربه. إنَّ الهدوء لا يعني الّلامبالاة وقلّة الاهتمام، بل يعني السَّكينة الدَّاخليّة. إنَّ الإنسان القنوع بما لديه، يعيش في حالةِ هدوءٍ مع الذّات؛ أمّا الإنسان غير القنوع بما يملك، فيعيش في اضطرابٍ دائمٍ، إذ يسعى على الدَّوام إلى الحصول على ما هو أكثر، مهما كلَّفه الأمر. وهنا تُطرَح الأسئلة: هل ما يبحث عنه الإنسان هو في الحقيقة حاجةٌ ضروريّة له؟ وبالتّالي، وما الّذي سيحدث إن لم يَنل ما يريد؟ في الحقيقة، لن يحدث شيئًا في حال عدم حصوله على ما يطمح إليه، فالحياة ستُكمل مسيرتها في حال حصوله على ما يريده وفي عدم حصوله عليه؛ لذا، لا داعي للغضب والتَّوتر. ولكن هذا لا يعني ألّا يكون الإنسان طموحًا، بل يعني أن يُفكِّر الإنسان بهدوءٍ وبِرَوِيَّةٍ للحصول على ما يريده، فالاضطراب والتَّوتر سيمنعانه مِن ذلك.
إنَّ الغضب يولِّد سلسلةً من الخطايا، وعلى المستوى الفِكريّ واللَّفظي. إنّ الغضب هو مِن الأهواء والتَّجارب الـمُعيبة، الّتي يتعرَّض لها الإنسان فيَسقط على أثرِها في الخطيئة. إنَّ الغضب سيؤدِّي بالإنسان إلى إحدى هاتين الخِسارتَين: خسارة صديقٍ، أو خسارة علاقة. لذا يقول لنا الله في الكتاب المقدَّس:"إنْ غَضِبتم فَلا تُخطئوا"، وهذا لا يعني تشريع الغضب، فالغضب مرفوضٌ تمامًا؛ ولكن إنْ كان لا بُدَّ من الغضب، فعلى الإنسان الحَذَر من الوقوع في الخطيئة. إنَّ الغضب يدفع بالإنسان إلى قتل أخيه الإنسان بكافة الطُرق المتاحة: أوّلاً على صعيد الفِكر، فيُلغيه من الوجود في تفكيره، كما يستطيع أن يقتله بلسانه، فيشوِّه له سُمعته في مجتمعه، وأخيرًا يُمكنه أن يقتله جسديًّا. إنّ اللِّسان هو عضوٌ من أعضاء جسد الإنسان، لا عَظم فيه ولكنّه يستطيع تحطيم كلّ عِظام الإنسان. إنّ الغضب هو عدوّ الهدوء، والهدوء يُخفِّف مِن وطأة غضب الإنسان على الآخَر.

وهنا يُطرَح السؤال: ما السبيل للتَّخفيف من طاقة الغضب عند الإنسان؟
أوّلاً: وَعي الإنسان لعلاقته مع الربّ. على الإنسان أن يتعامل مع الآخَرين الّذين يُسيئون إليه، كما يتعامل الربّ معه، هو الإنسان الخاطئ. حين يُخطئ الإنسان إلى الله، فإنّه يُسارِع إلى تقديم الصّلوات إليه، ويسعى إلى تبرير ذاته أمامه، ويقوم بالإماتات والتقشُّفات في محاولةٍ منه لإرضائه، ودَفعِ الله إلى الغفران للخاطئ. إذًا، يسعى الإنسان إلى طلب الغفران من الله على خطاياه، طالبًا منه التَّركيز على النّوايا الكامنة وراء تلك الأفعال السّيئة فقط، لا على الأفعال بحدِّ ذاتها. إنّ الله يستجيب لطلب الإنسان ويغفر له خطاياه وينساها، فلا يعود يذكرها له من بَعد، مع العِلم أنّ الإنسان لا ينفكَّ عن يُقدِّم الوعود والعهود إلى الله بعد إعلان توبته، ولكنّه للأسف، يعود سريعًا إلى التفريط في تحقيق تلك الوعود، ويعود مِن جديد للإساءة إلى الربّ. أمَّا في علاقَتنا مع الآخَر، فإنّنا نجد صعوبةً كبيرةً في الغفران للآخَر الّذي قد يسيء إلينا مرّةً أو مرّاتٍ محدودة، فنرفض أن ننسى له إساءاته إلينا، بل نُذكِّره فيها عند كلّ لقاءٍ لنا به، لأنّنا نركِّز على أفعاله ونضمِّنها نوايا سيّئة، مخالفة لنواياه الحقيقيّة، مهما حاول الآخَر تبرير أخطائه تجاهنا. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا نتعامل مع الآخَرين خِلافًا للطريقة الّتي نرغب في أن يتعامل بها الربّ معنا؟ إخوتي، حين نتعامل مع الآخَرين كما نرغب أن يتعامل الربّ معنا، تُولَد الرأفة في قلوبنا، ونحصل على الهدوء الداخليّ.

ثانيًا: الصّلاة. إنَّ الصّلاة، بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من المؤمِنِين، مرتبطةٌ بالطِلبات والتشكُّرات لله: فغالبيّة المؤمِنِين يتوجَّهون في صلواتهم إلى الله، بسلسلةٍ من الطِلبات لله، طالِبِين من الله تحقيقها لهم؛ كما أنَّ البعض الآخَر يتوجَّهون إليه بسلسلةٍ من التَّشكرات على عطايا نالوها في الماضي، طالبِين منه المزيد من العطايا في المستقبل. إنّ بعض المؤمِنِين يشكرون الله على عطاياه لهم، مخافةَ ألّا يستجيب لهم لِطلباتهم في المستقبل. إنّ صلواتنا للأسف، لم تَصل عند غالبيّة المؤمِنِين إلى مستوى العلاقة مع الربّ، فَهي في غالبيّتها إمّا سلسلة من الطِلبات أو سلسلةٌ من التشكُّرات. حين تتحوّل الصّلاة إلى علاقةِ حُبٍّ مع الله، فإنّ المؤمِن سيسعى إلى إيجاد وقتٍ لمجالسة الله والتمتُّع بحضوره، لا من أجل الطّلب منه أو شُكره، إنّما فقط لمجرَّد اللِّقاء، فهذا اللِّقاء يزرع في قلب المؤمِن الفرح لوجوده في حضرة الله. إنَّ هذه العلاقة الـمَتينة مع الربّ، تخلق في الإنسان حالةً من الهدوء الداخليّ الّذي يدفعه إلى التروِّي في معالجة الأمور، وعدم التسرُّع في الغضب. إنّ التروِّي في معالجة الأمور، يجعل الإنسان بطيئًا في الغضب، وعندما يشعر بحاجته للغضب، إثر مواجهته لصعوبة ما، سيجد أنَّها لا تستأهل كلّ الغضب الّذي كان ينوي التَّعبير عنه. إنَّ الله قد أبدع في خَلقِه للإنسان، إذ خلق له أُذنَين وعَيْنَيْن، ولكنّه خلَقَ له لِسانًا واحدًا، كي لا يُسارِع الإنسان إلى التَّعبير الانفعاليّ عن غضبه، الذّي يؤدِّي إلى ارتكابه الخطايا، والتروِّي قبل النُّطق بأيّة كلمةٍ لا تُرضي الله. من خلال هذا الإبداع في الخلق، أراد الله أن ينظر الإنسان مرَّتين وأن يُصغي مرَّتين إلى الصّعوبات الّتي تواجهه قبل الحُكم عليها، والتَّعبير عن غضبه بسببها. إنَّ تَحلِّي الإنسان بالهدوء النفسيّ، يجعله إنسانًا ذا مواقف لا انفعاليّة. إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ قد أُعطيَت لنا لنتمرَّس على الهدوء، والتروّي بدلاً من الانفعال السريع. إنّ الآباء القدِّيسين يُجمِعون على أنَّ أفضل وسيلة لتخطِّي الغضب والسيطرة على الخطيئة، هي الصَدَقة، أي مُساعدة الآخَر. إنّ كلَّ غضبٍ وانفعالٍ يحتوي على نوعٍ من الأنانيّة غير الظاهِرَة للعَلن، ولذا فإنّ مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، تَضَع حدًّا لِتِلكَ الأنانيّة المتعاظِمة في داخل الإنسان. في الأنانيّة، يكون هدف الإنسان إظهار "الأنا"، أمّا حين يُساعد الإنسان أخاه الإنسان، فإنّه يهدِف إلى إظهار الآخر، أي "هو"، أو "نحن".
إنّ الصَدقة تجعل الإنسان في حالةٍ من الصَّفاء الدّاخليّ، الّذي لا بُدَّ له أن يُشِّع على وجهه، فيراه الآخرون متوَهِّجًا. إنّ الصَّفاء الدّاخليّ يتوهَّج على مُحيَّا الإنسان، حين يعيش هذا الأخير في حالة من السَّكينة الداخليّة والهدوء النفسيّ العميق. إنَّ الآخَر لن يستطيع رؤية الصّفاء المتوَهِّج في الآخَر، إلّا إذا كان في داخله جزءٌ من هذا الصَّفاء، وهذا ما نعبِّر عنه بالقول: "أرتاح في الكلام مع هذا الإنسان، أمّا ذاك فلا أشعر بالرّاحة لوجوده". إنّ التّعابير المستخدمة في حياتنا اليوميّة، تُعبِّر عن مدى تفاعل الآخَرين مع الصّفاء المتوَهِّج على وجوه إخوتهم البشر. في داخل كلّ إنسانٍ، مساحةٌ من الصّفاء، الّتي تعرَّضت للطَمر نتيجة هموم الدُّنيا ومشاغِلها، لذا نحن مدعوُّون في هذه الفترة، فترة الصّوم، إلى البحث من جديد عن هذا الصّفاء الدّاخليّ الموجود في داخلنا، والسَّعي إلى إظهاره للآخَرين، متوهِّجًا، من خلال السَّهر على علاقَتنا بالربّ. إنّ كلّ إنسانٍ مدعوّ إلى التوبة مهما كان خاطئًا، إذ لا يوجد إنسانٌ شريرٌ بالـمُطلق، فالإنسان يستطيع أن يتفاعل مع كلمة الله الّتي يسمعها في حياته، ويتوب عن أخطائه. أمّا الحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير في الكتاب المقدَّس، فهي حيوانٌ أصمُّ، لذا لا تستطيع التّوبة، لأنّها غير قادرة على سماع كلمة الله، وتغيير مسارها.

أمّا الآن، فننطلق إلى مناقشة فِكرة الاحتمال، والّتي تنسجم مع فِكرة الهدوء بمعالجتها في القسم الأوّل مِن حديثنا اليوم. ينقسم موضوع القدرة على الاحتمال إلى قِسمَين: أوَّلاً، احتمال الآخر الـمُتعِب؛ وثانيًا، احتمال الإنسان للضِّيقات والتَّجارب الّتي يتعرَّض لها في هذه الحياة.
تشتَقُّ كلمة "احتمال"، من كلمة "حِمل"، وبالتّالي حين نتكلَّم عن حِملٍ، فإنّنا لا نتكلَّم عن أمرٍ وهميّ، بل عن حقيقةٍ موجودة. إنَّ الحِمل ينتج عن لِقائنا ببعض الأشخاص الّذين نعتبِرُهم مُتعِبين بالنسبة إلينا، أو عن معاناتنا من ظروفٍ حياتيّة صعبةٍ. عندما نتكلَّم عن قُدرةٍ على الاحتمال، فهذا يُشير إلى تعرُّضنا إلى أمورٍ تَفوقُ طاقَتنا على التَحمُّل. إنَّ التقليل من أهميّة أثقال بعضنا البعض وتسخيفها، لا ينمّ عن محبّةٍ حقيقيّةٍ، بل عن محبّة وهميّة مَبنيّة على تقديم المواعظ للآخرين، فالمحبّة الحقيقيّة مَبنيّة على الانتباه للآخَر ومساعدته على تخطِّي صعوباته.
1-احتمال الآخَر الـمُتعِب. عندما تُعاني من تَعبٍ نتيجة وجودك مع الشَّخص الآخَر ولقائك به، فهذا يعني أنَّ الشَّخص الآخر هو فِعلاً مُتعِب، وأنَّ التَّعب الذي تُعاني منه ليس وَهمًا بل حقيقة. هناك عدَّة تمارين روحيّة يمكنك الاستعانة بها كي تتمكَّن من احتمال الآخَر الـمُتعِب.
نَّ الشَّخص الـمُتِعب هو كالمرض بالنسبة إليْك، لذا عليك أن تأخذ الدّواء المناسب لهذا المرض عند لقائك به، وهو الصّبر.
أوّلاً: إنَّ كلمة "الصّبر" هي كلمة يونانيّة، وتعني "تحت الشِّدة" أو "تحت الضَّغط". إنَّ الإنسان الّذي يعيش تحت شِدّة أو ضغط، يحتاج إلى الصّبر؛ أمّا الّذي يعيش في راحة وسلام، فلا حاجة به إليه. حين يرزح الإنسان تحت ضَغطٍ مُعيّن، فهو أمام خيارَين لا ثالِثَ لهما: إمَّا الاستسلام لهذا الضَّغط، وإمّا مواجهته بالصّبر، وتَخطِّيه. إنَّ الإنسان الّذي يتحلّى بالصّبر، يتحوّل إلى قاضٍ رحيمٍ للآخَر، لا ينفَكُّ عن إعطاء الفُرَص للإنسان الـمُتعِب لِتَحسين مسيرته وللتَّوبة عن أخطائه؛ في حين أنَّ غياب الصّبر، يجعل من الإنسان قاضيًا ظالـمًا وديّانًا لأخيه الإنسان. إنَّ دينونة الإنسان لأخيه الإنسان تُعبِّر عن أنانيّة غير ظاهرة عند الإنسان الدَّيان.
ثانيًا: تقديم الشُّكر لله. في نطاق تدريب الذات على احتمال الآخر الـمُتعِب، على المؤمِن أن يرفع صلاة الشُّكر لله على النِّعم الّتي نالها من الله، والتّي لا يملكها الآخَر الـمُتعِب، على سبيل الـمِثال: شُكر الله على التربية الّتي نالها الإنسان، والّتي تختلف كلّ الاختلاف عن تربية الشَّخص الـمُتعِب. إنَّ شُكر الله على نِعمَه لا يندرِج في إطار الغرور أو الكبرياء: فكما أنَّ على الإنسان أن يشكر الله على النِّعَم الّتي تَلَمَّسها في حياة الآخرين،كذلك عليه أن يشكره على النِّعم الّتي وَهَبَه إيّاها.
إنّ الشَّخص الـمُتعب لم يَنْعَم بحياةٍ هادئة، بل بحياة مليئة بالأزمات والـمُعاناة. وبالتّالي، حين أنظر إلى الشَّخص الـمُتعِب على أنّه شخصٌ عانى ويُعاني من أمورٍ لم أتعرَض أنا لها في حياتي الخاصّة، أشعر بِقُوّةٍ داخليّة تدفعني إلى احتماله والصّبر عليه. إنَّ الشَّخص الـمُتعِب هو شخصٌ يُعاني من نقصٍ لم تَتِمّ تلبيَته، وهو يحاول تلبيَة حاجاته بكلّ الطُرُق، ممّا قد يُسبِّب إزعاجًا للآخَرين وتَعبًا للآخَر في احتماله. عندما ننظر بهذه الطريقة إلى الشَّخص الـمُتعِب، فإنّنا سنبادِر إلى إعطائه المزيد مِنَ الفُرَص، لِتَحسين مسيرته في هذه الحياة مع الآخَرين.
ثالثًا: تقديم الشُّكر لله على تَحمُّلِه لي، أنا الإنسان الضَّعيف. مهما كان الإنسانُ الآخَر مُتعِبًا بالنسبة لي، فإنّه يبقى أفضل مِنِّي في إِتعابي الله: فمهما كُنْتُ رَجُلاً صالحًا، في نظرِ الآخَرين، غير أنَّي أعلم حقيقتي في العمق، وأعلم أنّني لا أَنْفَكُّ أَتراجع عن عهودي للربّ في كلّ يومٍ، حين أَقع في الخطيئة. حين يُثابر الإنسان على شُكر الله على تَحمُّلِه له، فإنّه في الوقت عينِه، يكتسِب قُدرةً على احتمال الآخَرين مهما كانوا مُتعِبين، لأنّه في الشُّكر تَدوم النِّعَم.
رابعًا: تثبيت نَظَرنا على المصلوب. حين نُثبِّت نظرنا على المصلوب، نُدرِك ما عاناه الربّ من أجلِنا، نحن البشر الـمُتعِبين وإلى أيّة درجة وَصَلَتْ شِّدة إتعابِنا للربّ يسوع. لقد وجد الربّ يسوع العلاج لمسألة إتْعابِنا له، لا بطَلَبِه منّا تغيير ذواتنا داخليًّا، إنّما من خلال تقديم جسده ذبيحة لأجلنا، فسَفَك دَمه على الصّليب حُبًّا بنا. إنّ الأحد الثّالث من زمن الصّوم في الكنيسة الشرقيّة هو أحد الصّليب؛ وقد وضَعته الكنيسة في منتصف الصّوم، لتُذكِّر المؤمِنِين الّذين بدأوا يشعرون بالتَّعب في مسيرة صَومِهم، أنَّ الربّ قد احتمل الصّليب لأجلنا، ممّا يدفع بالمؤمِنِين إلى متابعة مسيرة صَومِهم بِفرح. إنّ صورة المسيح المصلوب،كانت نُصبَ عَينيّ بولس الرَّسول، فهي الّتي دَفعَته إلى احتمال الاضطهادات من الإخوة الكَذَبة ومن الأعداء، في سبيل إيصال البشارة إلى المسكونة كلِّها. ولذا قال في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس (2:2):"فإنِّي لم أشأ أن أعرِف شيئًا وأنا بينَكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب".

خامسًا: تَذَكُّر قُدرة الله على النِّسيان. إنَّ طبيعة الله هي الحُبّ، لذا هو لا ينسى حاجات البشر وآلامِهم، ولكنّه ينسى القدرة على نِسيان الخطايا حين يطلبون منه الرَّحمة والغفران.

2- احتمال صعوبات الحياة ومشقّاتها. إنّ الإنسان مدعوّ إلى احتمال مشقّات هذه الحياة الّتي لا تنتج بالضرورة عن الشَّخص الـمُتعِب، إنّما عن الظروف الحياتيّة اليوميّة. فالربّ يسوع يقول لنا: "إنّ نِيري لطيفٌ وحِملي خَفيف" (متّى 11: 30). وفي هذا الكلام يؤكِّد لنا الربّ يسوع وجود الأثقال في هذا العالم، ولكنّه يدعونا إلى احتمالها كما احتملها هو. إنّ الربّ لا يدعونا إلى حَملِ الأثقال عنه لأنّه لم يعد قادِرًا على حَملِها، بل يدعونا إلى احتمال مشقّات هذه الحياة انطلاقًا من ذِهنيّة الحبّ الّتي اتَّبعها هو نفسه. إنَّ هذه الذِهنيّة تدفع بالإنسان إلى إعطاء الفُرَص في كلّ أوانٍ للشَّخص الـمُتعِب كي يحسِّن مسيرته في هذه الحياة.
إنّ الإنسان غير قادر على احتمال الأزمات والصّعوبات الّتي تعترِضه في هذه الحياة لولا الحبّ الموجود في داخله، فطاقة الحبّ تُخفِّف مِن وَطأة التّجارب عليه وتساعده في الصّبر عليها. فحين تشعر بالتَّعب نتيجة معاناتك مِن حِمل معيَّن في هذه الحياة، اِسعَ إلى مشاركة الآخَر الّذي يشعر بالتَّعب نفسه، في حَمل أثقاله، فتشعر بأنّ حِملِك قد أصبح خفيفًا. إليكم مِثالٌ على ذلك: حين تشعر بالجوع، اِسعَ إلى إطعام جائعٍ، عندها ستشعر بالشَّبع لأنّك ساهَمت في إشباع جائع. إنّ عطاءك هذا، سيزرع الفرح في قلبك لأنّك أدخلت الفرح إلى قلب آخَر محتاجٍ إلى ما أنتَ محتاجٌ إليه أيضًا. إنَّ مشاركتَك الآخَر في حَملِ أتعابه، تدفعك إلى الشُّعور بأنَّ حِملِك أصبح خفيفًا.
إنَّ احتمالَك لأثقالك يَدفعك إلى التَّفكير بالآخَر والتوقُّف عن التشكِّي من ثِقل أحمالِكَ. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ الإنسان الّذي يشعر بحاجته إلى شراء حِذاءٍ جديد، ولكنّه لا يملك القدرة على شِرائه ويتذمَّر من عدم قُدرتِه على شراء حِذاء، سيتوقَّف عن التشكِّي من ذلك حين يرى آخر مبتورَ الأطراف السُّفلية. وهنا يصُحُّ المثل القائل: "عندما ترى مصائب الآخَرين ستكتشِف أنَّ مصائبك سهلة الاحتمال". إنَّ عدم التشكِّي من الأثقال لا ينفي وجودها، ولا ينفي التَّعب الذي تُسبِّبه للإنسان. ولكنّ الإنسان مدعوّ إلى مشاركة الآخَرين أحمالهم، فيشعر بأنَّ أحمالَه أصبحت خفيفة، فيتضاءل غضبه نتيجة أحْماله، فيشعر بالهدوء، ويعود إلى صَفائه الدَّاخليّ. إنَّ الإنسان يكتسب طاقة على احتمال صعوبات الحياة، عندما يرمي أحماله أمام الربّ، أي أمام المذبح: فإنّه حين ترمي حِملِك أمام الربّ، ستكتشِف ما عاناه هو في احتماله لك، وبالتَّالي، لن تشتكي بعد ذلك من أحْمالك، مهما تعاظمت، وستشعر بأنَّ أحمالك خفيفة. إنَّ الربّ يدعونا إلى رَمي أحْمالِنا عنده، ففي الكتاب المقدَّس نقرأ: "ألقِ على الربِّ هَمَّك وهو يَعولُك".
إنَّ أفضل أنواع الشَّكاوى الّتي يمارِسها الإنسان هي شكواه لا على الآخَرين، إنّما على ذاته. يجد الإنسان صعوبةً في الاشتكاء على ذاته، لأنّ الإنسان يميل إلى الظُّهور أمام الآخَرين بأفصل طريقة. إن اشتكاء الإنسان على ذاته يُساعده في اكتشاف نواقصه والعمل على تحسينها.
إنَّ الإنسان يكتسب طاقةً على احتمال صعوبات حياته، حين يُقدِّم الشُّكر لله عليها، فيقول مثلاً: "أشكرك يا ربّ على الصّعوبات الّـتي تعترِضُني في حياتي، لأنَّها لم تكون أكثر قوَّةً ممّا هي عليه الآن". إنَّ رؤيتنا لمصائب الآخَرين تمنحنا القوّة والطّاقة على احتمال صعوباتنا.
إنَّ بعض الصّعوبات الّتي نواجِهها في حياتنا، تخلق فينا الاضطراب الدّاخليّ، فَتُحوِّلنا إلى أشخاصٍ مختلفين عمّا نحن عليه في الحقيقة. كما أنَّ بعض هموم الحياة وصعوباتها، تساهم في إشعاع الوَهج الإلهيّ على وجوه البعض، على الرُّغم من الظروف الصّعبة الّتي يعانون منها. فمثلاً: عندما تذهب لتعزِيَة إحدى العائلات المحزونة لفقدان عزيز، تنالُ تعزيةً منهم عِوَض أن تُقدِّم لهم أنتَ العَزاء، من خلال عيشِهم لرجائِهم بالربّ.كما قد تنال تعزيةً أيضًا جرّاء زيارتك لمريضٍ على فراش الموت، نتيجة رؤيتك لصلابة إيمانه من خلال احْتماله لآلامه.

إنَّ زمن الصّوم هو فرصةٌ لنا للعودة إلى الذّات، والتفكير في كيفيّة مواجهتِنا للأزمات الحياتيّة الّتي نتعرَّض لها في كلّ يومٍ. إنّ الصّوم يدفعنا إلى السّعي لتغيير ذهنيّتنا الداخليّة وطريقة رؤيتنا لبعض الأمور الّتي تُواجِهُنا: فإنْ الْتَزَمْنا بهدف الصّوم، كان الصّوم فرصةً لنا للتقدُّم في مسيرتِنا الروحيّة؛ وإنْ لم نلتزم به،كان الصّوم بالنسبة إلينا، مجرَّد صُدفةٍ وثِقلٍ ينتهي بِتناوُلِنا مأكولات العيد.
إنّ وُجودنا في هذه الحياة ليس صُدفةً بل هو فرصة للآخَر، والآخَر هو فُرصةٌ لنا؛ لذا على الإنسان ألّا يَستهين بنفسه، في ما يقدِّمه من خَيرٍ للآخَرين. على الإنسان ألّا يُلغي أحدًا من حياته مهما كان هذا الآخَر مُتعِبًا بالنسبة إليه، لأنَّ هذا الآخَر الـمُتعِب هو فرصةُ الله لك كي تتوب إليه وتتقدَّم في مسيرتك الأرضيّة نحوه. إنّ الآخَر قد يكون فرصة لك كي تُحقِّق ذاتك، أو كي تتعلَّم الصّبر واحْتِمال مشقّات هذه الحياة. في كلّ مرَّةٍ يُخطِئ إليك أخوك الإنسان، يُعَيِّنُك الله في اللَّحظة نفسها طبيبًا عليه. ولا بدَّ لكلّ طبيب أن يملك بعض العلاجات الشافية لأمراضٍ معيّنة، لذا مهما كانت حالتك، خاطئًا أم بارًّا، فإنّه لا بُدَّ مِن وجود بعض المهارات والطاقات فيك، الّـتي تُفيد الآخَر وتساعده على التقدُّم نحو الربّ.
إنَّ الصّوم لا يقتصر على الشَّكل الخارجيّ، أي بالانقطاع عن الطَّعام، بل يتضمَّن عَيْش الإنسان لجوهر الصَّوم. إنَّ الكتاب المقدَّس قد تطرَّق لموضوع الصّوم: ففي سِفر التكوين، نجد أنّ الله قد وَضَع لآدم وحوّاء نظامَ صَومٍ، حين سمح لهما بتناول ثِمار جميع الأشجار إلّا واحدة، ثمرة شجرة معرفة الخير والشَّر. مِن خلال هذا النِّظام الصِّياميّ القاضي بمنع آدم وحوّاء عن تناول تلك الثَّمرة، أراد الله تجنيب آدم وحوّاء الموت، نتيجة قيامهما بعلاقةٍ بين الخير والشَّر في آنٍ. إنّ ذِهنيّة الصّوم الّتي وَضَعها الله لآدم وحوّاء، ومن خلالهما لكافة البشر، مختلفة تمامًا عن ذِهنيّة البشر في ممارستهم الصّوم الخارجيّ. ويُخبرنا العهد الجديد عن تشكِّي رؤساء اليهود للربّ يسوع عن تلاميذه الّذين لا يُمارِسون الصَّوم كما يفعل تلاميذ يوحنّا المعمدان؛ فكان جواب الربِّ لهم، أنَّ تلاميذه لا يصومون ما دام العريس معهم، ولكنَّهم سيصومون مَتى رُفِع العريس مِن وسَطهم. إنّ الربّ يسوع قد رُفِع عنّا حين مات على الصّليب، متمِّمًا بذلك عمله الخلاصيّ للبشر. إذًا، على الصّوم المسيحيّ أن يبدأ بعد قيامة الربّ يسوع، لا قَبْلَها كما هو الصّوم اليهوديّ، فَهُم يصومون استعدادًا للفِصح. إنَّ صَوم المؤمِن لا يكون مقبولاً إلّا إذا كان منسجمًا مع الصَّوم الَّذي يطلبه الربّ من المؤمِنِين به، وقد أخبرنا أشعيا النبيّ بالصّوم المقبول عند الربّ: "ما بالُنا صُمنا وأنتَ لم تَرَ، وعذَّبنا أنفُسَنا وأنتَ لم تَعلَم؟ في يومِ صِومِكم تِجِدون مَرامَكم، وتُعامِلون بقسوةٍ جميع عُمّالِكم. إنّكم للخصومةِ والمشاجرة تصومون، ولِتَضربوا بِلَكمةِ الشَّرِ. لا تصوموا كاليوم، لتُسمِعوا أصواتكم في العلاء. أهكذا يكون الصّوم الّذي فَضَّلتُه، اليوم الّذي فيه يُعذِّبُ الإنسانُ نفسه. أإذا حَنى رأسه كالقَصب، وافتَرَشَ الـمِسحَ والرَّماد، تُسمّي ذلك صَومًا مَرضيًّا للربّ؟ أليسَ الصّومُ الّذي فضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قيودِ الشَّرِ وفَكُّ رُبُطِ النِّيرِ، وإطلاقُ الـمَسحوقينَ أحرارًا وتحطيمُ كلِ نير؟ أليسَ أن تَكسِر للجائعِ خُبزَكَ، وأن تُدخِل البائسينَ المطرودين بَيتَكَ، وإذا رأيتَ العُريانَ تَكسوه، وأن لا تتوارى عن لَحمِك؟" (إشعيا 58: 3-7). إنّ الصّوم الّذي يرتضيه الربّ لا يقوم على إذلال الإنسان نفسه، عبر قيامِه بالإماتات، بل يقوم على محبّة الآخَر ومساعدته على حَملِ أثقاله في هذه الحياة. إنّ الصّوم هو فرصةٌ للإنسان كي يمارس الهدوء ويتمرَّس في الصّبر واحْتِمال الآخَرين ومشَّقات الحياة. إنّ الصّوم الّذي يريده الربّ ليس صومًا يدفعنا إلى الغضب وإنشاء الخلافات مع الآخَرين، بل إنّ الصّوم الذي يرتضيه الربّ هو صَومٌ يُحرِّر الإنسان من كلّ شرّ، ويدفعه إلى التَّوبة. حين يُرفَع العريسُ السماويّ، أي الربّ، من بيننا، عليا أن نرى في الآخَر المحتاج، عريسَنا السماويّ، فنسعى إلى خِدمته وتلبية احتياجاته. إنّ الحبَّ لا يُعاش من دون آخَر نحبِّه ونُعبِّر له عن محبّتنا. إنّ الله خلَق البشر من فيضِ حبّه: إنَّ الله هو المحبّة الكاملة، وأراد التَّعبير عن تلك المحبّة، فخلقَ الإنسانَ وأحبّه. إذًا، لم يخلق الله البشر ليُقاصِصهم وليُعذِّبهم، كما أوهمت الحيّة آدم حوّاء، بل ليُحبَّهم.
إنَّ الإنسان مدعوّ في زمن الصّوم هذا، إلى استعادة هذا الصّفاء الدّاخليّ الموجود في داخله، والسَّعي من أجل توهُّجه فيه، فيظهرُ للآخَرين. إنّ المؤمِن مدعوّ في زمن الصّوم هذا، إلى الانقطاع عن الطّعام من أجل إطعام آخَر محتاجٍ لهذا الطَّعام، وعندها سيتوهَّجُ الصّفاء الدّاخليّ فينا ويشِعُّ للآخَرين. هذا ما نحن مدعوِّون إلى التَّفكير به في هذا الزّمن، علَّنا نصل إلى المصلوب، كما وصل الضابط الرومانيّ عند أقدام الصّليب، قائلاً في المسيح يسوع: "كان هذا حقًّا ابن الله". آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف.

تتمة...
20/10/2018 "فليكن فيكم هذا الفكر الّذي في المسيح يسوع أيضًا" (في 2: 5) الأب ابراهيم سعد

"فليكن فيكم هذا الفكر الّذي في المسيح يسوع أيضًا" (في 2: 5)
الأب ابراهيم سعد
في الاجتماع السنويّ لمسؤولي الجماعة في الرعايا وأعضاء اللِّجان
مؤسَّسة مار مخائيل الاجتماعيّة- سهيلة

20/10/2018

"إنْ كان وَعْظٌ ما في المسيح. إنْ كانَتْ تَسْلِيَةٌ ما للمَحَبَّة. إنْ كانَتْ شَرِكَةٌ ما في الرّوح. إنْ كانَتْ أحشاءٌ وَرَأفَةٌ، فَتَمِّمُوا فرَحِي حتّى تَفْتَكِروا فِكرًا واحدًا، وَلَكُم مَحَبَّةٌ واحدةٌ بِنَفْسٍ واحدةٍ، مُفتَكِرينَ شَيْئًا واحدًا، لا شيئًا بِتَحَزُّبٍ أو بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَواضُعٍ، حاسِبِينَ بَعضُكم البَعضَ أَفضَلَ مِن أَنفُسِهم. لا تَنْظُروا كُلُّ واحدٍ إلى ما هو لنَفْسِه، بل كُلُّ واحدٍ إلى ما هو لِآخَرين أيضًا. فَلْيَكُن فِيكُم هذا الفِكرُ الّذي في الـمَسِيحِ يَسُوعَ أيضًا: الّذي إذْ كانَ في صُورَةِ الله، لَم يَحسَبْ خُلسَةً، أنْ يَكون مُعادِلاً لله. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورةَ عَبْدٍ، صَائِرًا في شِبْهِ النّاسِ. وإذا وُجِدَ في الـهَيئَةِ كإنسانٍ، وَضَعَ نفسه وأطاع حتّى الموتَ، مَوتَ الصّليبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أيضًا، وأَعْطاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ." (في 2: 1-9)

في هذا النَّص من رسالة فيلبيّ، يُخبرنا القدِّيس بولس أنَّ الربَّ يسوع لم يَسْعَ يومًا إلى إظهار ذاته، بل كان همُّه الوحيد إظهار مجد الله الآب من خلال كلِّ عملٍ أرضيّ يقوم به، ولذلك رفَّعه الله فوق كلّ بَشرٍ. إنّ الإنسان يسعى إلى إظهار ذاته متفوِّقًا على الآخرين، فيُعطي قيمةً أو "ثِقلاً" لنَفسِه أكبر من حجمه الواقعيّ. إنَّ كلمة "ثِقلٍ" هي كلمةٌ عبريّة الأصل، وتعني المجد، وبالتّالي عندما نقول "ثِقْلُ الله"، نقصد بذلك مجد الله، أي حضوره في وَسَطِنا. إنَّ الله لا يحتاج إلى صلاتِنا كي يُظهِر مجده، ولكن حين نتلو صلاة الأبانا، قائلِين: "ليتمجَّد اسمك"، فهذا يدلّ على إدراكنا لمجد الله في حياتنا الشخصيّة، إذ أمام مَجدِه الإلهيّ يزول كلُّ مجدٍ أرضيّ.
هذا هو فِكر المسيح، الّذي تكلَّم عنه بولس الرَّسول في هذه الرِّسالة، والّذي دعانا إلى التَّحلي به. كان المسيح يسوع على اقتناعٍ تامّ أنَّه حقًّا ابنُ الله، ولذا لم يكن هَدَفُه من أعماله العظيمة مع البشر إثبات تلك الحقيقة، إنّما إظهار مجد الله الآب. أمام قناعة يسوع بحقيقته هذه، نَطرَح السؤال على ذواتنا: هل نملك، نحن المؤمِنِين، تلك القناعة الرّاسخة بأنّنا حقًّا أبناء الله؟ إنّ الجواب السلبيّ على هذا السؤال، هو دليلٌ قاطع على وجود إشكاليّة في إيمان الإنسان، وهذه المشكلة لا حلَّ لها إلّا مِن خلال اكتساب هذا الأخير القناعة بأنّه فِعلاً ابنُ الله. في هذا النَّص، نقرأ العبارة القائلة إنّ يسوع " لَم يَحسَبْ خُلسَةً، أنْ يَكون مُعادِلاً لله"، أي أنّه لم يَعُدَّ مساواته لله غنيمة. إنّ الغَنِيمة هي ما يسرقُه المقاتل أثناء وجوده في الحرب، ويحتفِظ به إلى حين عودَتِه منتصرًا إلى دِياره. من خلال هذا النَّص، يدعونا بولس الرَّسول، إلى الاقتناع بِبُنُوَّتِنا لله، وبالتّالي إلى عدم السَّعي لاختلاسِ شيء، إذ إنّنا نملك كلّ شيء. إنّ السّارق هو إنسانٌ يفتقد إلى القناعة الكافية بأنَّه يملك كلّ ما يحتاج إليه للاستمرار في هذه الحياة، لذا يقوم باختلاس بعض ممتلكات الآخرين. إنّنا أبناء الله، أي أنّنا نملك كلّ شيء، وبالتّالي لا حاجة لنا لاختلاس أي شيءٍ، ولكنّنا للأسف، على الرُّغم من ذلك نقوم باختلاس كلّ شيءٍ لأنّنا لا نملك القناعة الراسخة بأنّنا في الحقيقة أبناء الله. إنَّ بولس يُخبر أهل فيلبيّ أنّهم سبب فَرَحِه وافتخاره أمام عرش الربّ، إذ إنّ ثباتهم في الإيمان الّذي قَبِلوه منه، سيكون الدَّليل الواضح على نجاحه في مهمَّتِه التبشيريّة. ونحن مدعوِّون اليوم إلى متابعة رسالة بولس التبشيريّة من خلال نَقلِ البشارة للآخرين، كي ينال هؤلاء الخلاص بالربّ يسوع. إنّ المسيحيّين في عالمنا اليوم، يفتقرون إلى فِكر المسيح إذ إنّ تصرُّفاتهم مع الآخرين لا تعكس حقيقة إيمانهم بالمسيح الّذي مات وقام من الموت، بل تُظهر الحاجة الـماسَّة إلى دَحرجة الحجر عن باب القبر فتتحقَّق القيامة في حياتهم.
إنّ الفِكر هو كلّ ما هو موجود داخل رأس الإنسان، ويدفعه إلى الحركة، بعبارةٍ أخرى، إنّ الفِكر هو الذهنيّة الّتي يعتمدها الإنسان في مسيرة حياته الأرضيّة. إذًا، إنّ تصرّفات الإنسان الصّالحة في هذه الحياة، تعكس انسجامه مع الذهنيّة الّتي يعتمدها نهجًا لمسيرته الأرضيّة. غير أنّ الأمر ليس كذلك على الصَّعيد الروحيّ، إذ ينطق الإنسان بِمبادئ الإنجيل وقِيَمِه، ولكنّه يتصرّف بعكسها تمامًا، فيكون سلوكه في الحياة مُخالفًا لِـمَا يؤمِن به، وهذا ما يسمّى "انفصامًا روحيًّا". هذا ما اختبره الشَّعب اليهوديّ تمامًا إذ كانت حياتهم خارج الهيكل لا تعكس إيمانهم بالله: فحياتهم خارج الهيكل تخضع لأهوائهم ونزواتهم؛ أمّا في الهيكل، فكانوا يُحاوِلون استرضاء الله من خلال تقديمهم الذبائح التكفيريّة عن خطاياهم. إنّ هذا الفِكر اليهوديّ لا ينسجم أبدًا مع فِكر المسيح: فَكُلَّما تعاظم إحساسُنا بحواسِنا، كلّما كان فِكرنا أقرب إلى الفِكر اليهوديّ؛ وكُلَّما تضاءل هذا الإحساس بحواسِنا، كُلَّما كان فِكرنا أقرب إلى فِكر المسيح، وبالتّالي كان ذلك علامةً على سُلوكِنا في الطريق المستقيم، طريق الربّ. على المؤمِن عدم الانجراف وراء حواسه، فيتفاخر بها أمام الآخرين، مُعطِيًا إيّاها قيمةً أكبر من حقيقتها. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنّ الّذي يعتمد فِكر المسيح في حياته هو إنسانٌ يفكِّر في الآخرين أكثر من تَفكيره في ذاته. وإليكم مِثالاً توضيحيًّا على ذلك: حين يتسلَّم المؤمِن مسؤوليّةً في جماعةٍ كنسيّةٍ معيَّنة، يوظِّف هذا الأخير كلّ إمكانيّاته وطاقاته من أجل إنجاح كلّ عملٍ روحيّ في هذه الجماعة، إذ يعتبر المؤمِن أنَّ نجاح هذا العمل يعكس نجاحه في مسؤوليّته، وبالتّالي هو يبحث عن مجده الخاصّ لا عن مجد الله في ما يقوم به، وهذا هو الفِكر اليهوديّ تمامًا. أمّا حين يتسلَّم آخرٌ تلك المسؤوليّة في الجماعة عينها، فإنّ المسؤول الجديد يواجه عدم مبالاةٍ وعدم مسؤوليّة من المسؤول السَّابق، إذ إنَّ العمل الروحيّ يُظهر نجاح المسؤول الجديد، لا تَفوُّق المسؤول السَّابق الّذي يشارِك في العَمل. وبالتّالي طالما أنّ العَمل الروحيّ الجديد لا يُظهِر تفوُّق المسؤول السّابق في الجماعة، لا يشعر هذا الأخير بمسؤوليّته في إنجاح هذا العَمل الروحيّ. إنّ المسيح لم يَسعَ يومًا إلى إظهار مجده الخاص بل إلى إظهار مجد الله، وبالتّالي على المؤمِن التيَقُّظ والانتباه فلا يكون هَدَفه الأوّل من مشاركته في أيّ عملٍ روحيّ إظهار مجده الخاصّ بل مجد الله، حتّى ولو كلَّفه ذلك الموت على الصّليب، تلك الميتة الّتي ترمز إلى العار، إذ إنّها ميتة العبيد.

أن يكون للإنسان فِكر المسيح، فهذا يعني أن يُخضع الإنسانُ جسدَه لإرادة الله، لا لأهواء هذا العالم. كُثُرٌ هم المؤمِنون الّذين يجدون صعوبةً في ذلك، فيتراجعون عن مسيرتهم الروحيّة عِوَض التخلِّي عن أهواء هذا العالم. وهنا يُطرَح السؤال: ما هو الأهمّ في حياتي: إرادة الله أم أهواء هذا العالم، مَجدُ الله أم مجدي الخاصّ؟ فإذا كان همُّك الأوّل مجد الله، فإنّك ستشعر بمسؤوليّتك في إنجاح أيّ عملٍ روحيّ تُشارِك فيه حتّى وإن لم تكن أنتَ المسؤول الأوّل عن تحضيره. أمّا إذا كنتَ فضَّلت مجدك الشَّخصيّ على مجد الله، فإنّك ستُلقي مسؤوليّة وجود أي تقصيرٍ في هذا العمل، على الآخرين، متخلِّيًا عن مسؤوليّتك في إنجاح هذا العمل. مَن يملك فِكر المسيح، لن ينظر إلى العمل الّذي يقوم به على أنّه وظيفة، فتكون مسؤوليّته عن هذا العمل محدودة ضمن ساعات العمل وحسب، بل يشعر بأنّه مَعنيّ في إنجاح هذا العمل، فيبذل كلّ جُهدِه لإنجاح هذا العمل، حتّى ولو لم يكن ذلك من مسؤوليّته المباشرة. هذا هو المقياس الّذي يمكننا الاعتماد عليه للتمييز ما إن كان فِكرنا يخضع لأهواء هذا العالم، أم لإرادة الله. إذًا، على المؤمِن قَول كلمة الحقّ، كلمة الله للآخرين، حتّى وإن لم تَنل تلك الكلمة استلطاف السَّامِعين إذ لا تنسجم مع أهوائهم الأرضيّة، ولكنْ بطريقة لطيفة وبنّاءة للآخرين، لا بطريقة جارحة وهدّامة لنفوسِهم. فهل رأيتم يومًا حبًّا لا يُسبِّب جروحًا للمحبوب؟ إنّ أكبر دليل على الجروحات الّتي يُسبِّبها الحبّ هو حبّ المسيح للبشر الّذي قاده إلى قبول الموت على الصّليب، ليُعبِّر بذلك عن محبّته لهم.
إنّ محبّتنا للآخرين يجب أن تكون على مِثال محبّة الله لنا: فإنْ لم تكن كذلك، فهذا يدلّ على أنّنا لا نزال في يهوديّتنا وبالتّالي هناك ضرورة إلى الاعتماد مجدّدًا، لا معموديّة جسديّة كالّتي نِلناه في صِغرنا، إنّما إلى معموديّة الفِكر من خلال قراءة كلمة الله والتأمُّل بها. إنّ معموديّتنا في الصِّغَر، هي معموديّة الماء إذ يرشّ الماء على جسد الإنسان الخارجيّ، أمّا معموديّة الرُّوح بكلمة الله، فتدخل إلى أعماق الإنسان وتغيِّره من الدَّاخل. إنّ معموديّة الماء ينالها الإنسان مرّة واحدة في حياته إذ إنَّ وَسْمَها لا يُمحى، أمّا معموديّة الرُّوح فهي معموديّة يوميّة بكلمة الله. يكتشف الإنسان حاجته إلى معموديّة الرُّوح، من خلال فَحصِ ضميره يوميًّا، فيقوم بمراجعة أحداث يومِه، فيُدرِك تقصيره في محبّته للآخرين، فيسعى إلى تنميَتها من خلال تأمُّله بكلمة الله، الّـتي تطَهِّره من كلّ نواقصه وتشفيه من كلّ داءٍ روحيّ، فيتَّخِذ القرار بتحسين مسيرته في اليوم التّالي. هذا هو فِكر المسيح الحقيقيّ. ليس الإنجيل كِتابًا يشرِّع لنا أهواءنا الأرضيّة، بل هو كتابٌ يهدِف إلى تصحيح الفكر الإنسانيّ الممزوج بأفكار هذا العالم. على المؤمِن أن يكون وسيلةً يُحقِّق الله من خلالها مشيئته للبشريّة كلِّها. عندما تتَّخِذ جماعةٌ معيّنة تدابير إداريّة جديدة، فإنّها تتَّخذها بُغيَة تحسين مسيرتها الإيمانيّة، وبالتّالي على المؤمِن القبول بها إنطلاقًا من بَحثه عن مجد الله لا عن مجده الشَّخصيّ فيها. إنّ اتِّخاذ المواقف السلبيّة من الآخرين نتيجة إعلانهم كلمة الله الّتي لا تنسجم مع أهوائنا وآرائنا، هو عملٌ شيطانيّ بامتياز، إذ لا يُعبِّر عن فِكر المسيح، فالمسيح يدعونا إلى التأمّل في كلمة الله والتّفاعل معها، فنكون شهودًا حقيقيّين لها. حين يتحلّى المؤمِنون بفِكر المسيح، يتحوّلون إلى أناجيل متحرِّكة في عالم اليوم. على المؤمِن عدم إضاعة الوقت الـمُعطى له في هذه الحياة، في البكاء على خطاياه، فتتحوّل إلى حاجزٍ تمنعه من البشارة بكلمة الله. إنّ مَهمَّة المؤمِن تكمن في التبشير بكلمة الله، فيتمكّن مجد الله من الظَّهور للآخرين، فيؤمِنون بكلمة الله وينالون الخلاص.

إنّ المؤمِن يُظهر مجد الله للآخرين، حين يُعلِن أنّ الله قد أحبّه على الرُّغم من خطاياه الكثيرة، ولم يتردَّد في ضمِّه إلى قلبه على الرُّغم من خياناته المتعدِّدة. إنَّ الله يغسِل الإنسان من خطاياه ويطهِّره منها بواسطة كلمة الله، فيستعيد الإنسان حالته الأولى، حالة النَّقاء الّتي كان فيها قبل ارتكابه الخطايا. على المؤمِن عدم الاستقالة من دَورِه في الجماعة، إذ إنّ هذا الفِكر لا يعكس فِكر المسيح بل فِكرًا يهوديًّا باليًا. إنّ الفرق شاسِعٌ بين وظيفة الإنسان في جماعةٍ معيّنة، ودَورِه في هذه الجماعة نفسها: إذ يمكنه الاستقالة من وظيفتِه حين يأتي آخر لاستلامها، أمّا دَوره فلا يمكنه الاستقالة منه، لأنّ لا أحد يستطيع أن ينوب عنه، فمسؤوليّة الجميع تكمن في إظهار مجد الله، مهما كانت وظيفته. على المؤمِن اقتبال معموديّة الرُّوح، فيتحلّى بفِكر المسيح، ويكون مستعدِّا لمحبّة الآخرين، حتّى ولو قاده ذلك إلى معانقة الصّليب. فكلّما ازداد حبّك للآخرين ازداد عطاؤك لهم، وحين يصل حبُّك لهم إلى الكمال، تكون على استعدادٍ كاملٍ لتقديم ذاتك فِداءً عنهم،كما فعل الربّ يسوع على الصّليب تعبيرًا عن حبِّه للبشر. إنّ الشيطان ينجح للأسف، في الكثير من الأحيان، في بثّ شُعور التقصير عند المؤمِنِين ممّا يؤدِّي إلى شعورهم بالإحباط، والتراجع عن مسيرتهم التبشيريّة بكلمة الله. إنَّ شعور الإنسان بالإحباط، يجعله غير قادر على رؤية الحجر مُدحرجًا عن باب القبر، أي أنّ الإحباط يدفع الإنسان إلى البقاء في حالة الموت التّي يُعاني منها، دون تمكُّنه من الوصول إلى القيامة. إنّ بعض المؤمِنِين قد يشعرون بالإحباط نتيجة عدم حصولهم على المجد الأرضيّ من الآخرين فيقرِّرون الاستقالة من مسؤوليّاتهم في الجماعة، أقول لكم إنّ هذا الإحباط هو مزيَّف إذ ينطوي على كبرياءٍ غير ظاهرٍ للعلن، وهذا يتنافى مع فِكر المسيح. إنّ الكتاب المقدَّس يقدِّم لنا أمثلةً كثيرةٍ عن أنبياء قرّروا التّراجع عن مسؤوليّتهم في البشارة بسبب خطاياهم أو شعورهم بالتَّقصير ولكنَّ الربّ تدخَّلَ في حياتهم وحثَّهم على الانطلاق في مسيرة التبشير. إنّ الربّ قد اختار أشعيا لإرساله في مهمَّة إعلان كلمة الله للشَّعبن ولكنّه تردّد بسبب خطاياه، فقام الربّ بتطهيره منها من خلال الجمرة الّتي أرسلَها له من المذبح مع الملاك، فانطلق عندئذٍ أشعيا في البشارة دون خوفٍ. كذلك الأمر مع إرميا، الّذي قرّر التراجع عن مسؤوليّة في إيصال البشارة للآخرين بسبب حداثة سنِّه، ولكنَّ الربّ شجَّعه حين أخبره أنّه قد اختاره لهذه الرِّسالة منذ أنْ كان في حشا أمِّه. إنَّ بولس الرَّسول قد شجّع تلميذه تيموثاوس على الانطلاق في البشارة بكلِمة الله ليكون قدوةً للآخرين فيشهد للمسيح، طالبًا منه عدم الاستهانة بحداثة سنِّه. إذًا، لا فائدة من إضاعة الوقت في انغماسكم الزائد في أحاسيسكم، ولننطلق إلى البشارة بالمسيح، كي لا يموت أيّ إنسانٍ في هذا العالم بسبب نقص محبّتنا له.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
26/2/2019 الصوم هو الموت لأجل الآخر الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/vZDSopUADUI

"الصّوم هو الموت لأجل الآخر"
الأب ابراهيم سعد

26/2/2019

إنّ هذا الأحد، هو أحد "المرفع" عند المسيحيّين الّذين يتَّبعون التقويم الغربيّ، وفيه يُعلِنون بداية صومِهم الأربعينيّ. أمّا المسيحيِّون الّذين يتَّبعون التقويم الشرقيّ، فإنّهم يتحضَّرون لمسيرة الصّوم على مرحَلَتين: تبدأ المرحلة الأولى في أحد "مرفع اللَّحم"،- الّذي يُصادف هذا الأحد- وتنتهي في أحد "مرفع البياض"، أي الأحد المقبل، الّذي فيه يُعلِنون بداية الصّوم الكبير.

لقد سُميَّ الأحد الّذي يسبق الصّوم، "أحد المرفع"، لأنّه يشير إلى رَفْعِ المسيحيّين الطَّعام عن موائدِهم، قبل بداية الصّوم. غير أنّ هذا المفهوم قد تعرَّض للتشويه، إذ إنَّ المسيحيّين في "أحد المرفع"، يقيمون حفلاتِ توديعٍ للمأكولات الّتي سيمتنعون عنها في فترة الصّوم، فيَضَعونها بكميّاتٍ كبيرةٍ جدًّا على موائدهم في هذا النَّهار. إنَّ هذا المفهوم الخاطئ للصّوم قد انتشر في بلدانٍ عديدةٍ، ومنها البرازيل، الّذي يقيم فيه المسيحيّون "الكرنفال"، وهو عبارة عن سلسلةِ حفلاتٍ يتمّ فيها توديع بهجة هذا العالم وشهواته، فيرتكب المؤمِنون في هذا النَّهار كلَّ أنواع الخطايا الجسديّة الّتي تُعطيهم الفرح الزائل. إنّ الكنيسة الشرقيّة تُحضِّر المؤمِنِين للصّوم وتُدرِّبهم على ذلك، إذ تطلب منهم في أحد "مرفع اللَّحم"، الامتناع عن تناول كلّ المأكولات الّتي تحتوي على شتَّى أنواع اللُّحوم؛ وفي الأحد الّذي يليه، تطلب منهم في أحد "مرفع البياض"، الامتناع عن تناول كلّ المأكولات الّتي تتضمَّن منتوجاتٍ حيوانيّة، فيُصبح المؤمِنون على استعدادٍ للبدء بمسيرة الصّوم الكبير. إنَّ الكنيسة الشرقيّة تُحضِّر المؤمِنِين للصّوم، لا فقط من خلال دَفعِهم إلى الامتناع عن تناول بعض المأكولات، إنَّما أيضًا من خلال تلاوة بعض النُّصوص إنجيليّة الّتي تساعدهم على الدُّخول في ذهنيّة الصّوم المسيحيّ، فتقرأ على مسامِعهم في أحد "مرفع اللَّحم"، المعروف ليتورجيًّا، بأحد الدَّينونة، إنجيل الدَّينونة (متى25: 31-48) الّذي يدَفعنا يسوع من خلاله إلى مساعدة المحتاجين، لأنّ كلّ ما نقوم به تجاههم، فإنّنا إليه نفعله. وفي أحد "مرفع البياض"، تقرأ الكنيسة الشرقيّة على مسامِع الـمُنتَمِينَ إليها، نصًّا إنجيليّا، يدعو فيه الربُّ يسوعُ المؤمِنِين به إلى الصَّفح والغفران لبعضهم البعض. إذًا، تَدفَعُ الكنيسة الشرقيّة المؤمِنِين إلى تهيئة نفوسهم للصّوم من خلال أوّلاً مساعدة المحتاجين، وثمّ من خلال الغفران لبعضهم البعض، كي يكونوا أهلاً لغفران الله لهم. إنّ الصّوم مَبنيٌّ على رغبة الإنسان في العودة إلى حالة الفِردوس الّتي كان عليها قبل وقوعه في الخطيئة. في الفِردوس، كان الإنسان يعيش في سلامٍ مع ذاته ومع الآخَرين، لذا يمتنع الإنسان في فترة الصّوم عن قتْلِ الحيوانات وتَناولِ لحومِها، رغبةً منه في إنشاء حالةٍ من السَّلام معها. إنَّ الإنسان الّذي يعيش في حالة خصومةٍ مع الآخَرين وفي حالة عداوةٍ مع الطبيعة والحيوانات مِن حوله، لا يستطيع الدُّخول في ذهنيّة الصّوم الحقيقيّة؛ فالخصومة مع الله، ومع ذاته، ومع الحيوانات، كانت السّبب الأساسيّ لخروجه من الفِردوس.
كُثُرٌ هم الّذين تكلَّموا عن الصّوم وتِقَنيّاته، ولكنّ مشكلة الصّوم الأساسيّة تبقى في تطبيقه في حياتنا اليوميّة بذهنيّة إنجيليّة. في الصّوم، يسعى الإنسان إلى التحرُّر من كلّ ما يكبِّله، ولذلك يسعى إلى التحلِّي بالجُرأة والحبّ. إنَّ الإنسان الحقود هو إنسانٌ لا يزال في حالة العبوديّة لِكراهيّته، أمَّا الإنسان الحُرّ فهو إنسانٌ مُـحِبٌّ للآخَرين. إنّ الإنسان الشُّجاع والجَريء هو إنسان حُرٌّ، أمّا الإنسان الخائف فهو إنسانٌ في حالة العبوديّة. في الإنجيل، نقرأ عن شِفاء يسوع لإنسانٍ أبكمٍ أَصَّم، لم يتمكَّن التّلاميذ من شِفائه؛ وعندما سأل التّلاميذُ الربَّ عن سبب فشلِهم في شِفائه، أجابهم إنَّ هذا الجِنس لا يخرج إلّا بالصّوم والصّلاة. وبالتّالي، لا يمكن للإنسان أن يتحرَّر من عبوديّته إلّا من خلال الصّوم والصّلاة، أي بعبارة أخرى، من خلال الشَّجاعة والحبّ. إنَّ الشَّجاعة تفترِض إعلان الحقيقة بكلّ جُرأةٍ، من دون خوفٍ مِنَ العواقب. وهنا نتذكَّر قولَ الرَّسول بولس في إحدى رسائله: إنّ الخوف يطرد الحبَّ خارجًا، والحبّ يطرد الخوف خارجًا. على المؤمِن، أن يعيش صَومه انطلاقًا من ذهنيّة الإنجيل، لا استنادًا إلى ذهنيّة الشريعة اليهوديّة القديمة، لأنَّ "الحَرْفَ يقتُل، أمّا الرُّوح فيُحيي"، فلا يكون صَومه مستندًا إلى الطُّقوس الخارجيّة وحسب، إنّما يكون كذلك مستندًا إلى روح الإنجيل الّذي يدعونا إلى عيش الصَّوم، من خلال ممارسة الغفران مع الآخَرين ومحبّة القريب. إذًا، ليس الصّوم إنقطاعًا عن الطَّعام، بل هو إلتزامٌ طوعيّ مُستنِدٌ على الحبّ، وكلُّ التزامٍ يتطلَّبُ جرأةً في عيشِه. إنَّ الأهل يلتزِمون بأولادهم، فيُعبِّرون عن التزامِهم هذا من خلال خِدمَةِ أبنائهم والسّعي لتأمين كلّ احتياجاتهم الأساسيّة. فكلَّما ازدادتْ قُوَّةُ الحبّ تجاه الآخَرين، كلّما ازدادتْ قوّة خِدمَتنا لهم. إنَّ الحبّ يُدخِل الإنسان في عبوديّةٍ طوعيّة تجاه المحبوب، إذ نجد أنَّ مَن يُحبّ، يسعى إلى خِدمة الآخَر والتَّفاني من أجله، في سبيل تأمين السَّعادة والرّاحة له. إنَّ الإنسان الّذي يمارس الصّوم بذهنيّة مختلفة عن هذه الذهنيّة، ذهنيّة المحبّة والخِدمة، هو في الحقيقة عبدٌ خاضعٌ لإرهاب عقليّ يُدعى "الصّوم"، فيُمضي وقتَه في مراقبة النّاس وإدانتهم، وتصنيفهم بين صائِمِين وغير صائمِين. إنَّ الصّوم ليس مجرَّد انقطاعٍ عن الطَّعام وحسب، بل هو ممارسة المحبّة والغفران تجاه الآخَرين. وبالتّالي، فَعَدم التزام المؤمِن بالصّوم بِتِقنيّاته الخارجيّة لا يشكِّل خطيئة، لأنَّ الخطيئة في مفهومها الكنسيّ، هو كلُّ عملٍ يقوم به المؤمِن ويؤدِّي إلى إلحاق الضَّرر بالمؤمِن نفسه وبالآخَرين. وبما أنَّ انقطاع الإنسان عن الطَعام أو عدمه لا يؤذي أي كائنٍ بشريّ، فهو بالتّالي لا يُعتَبر خطيئة. على المؤمِن الّذي يريد الإنقطاع عن الطَّعام أو عدمه، أن يُدرِك الاسباب الّتي بَنى عليها قراره الحُرّ.

إنَّ الصّوم في الكنيسة، هو فرصةٌ تُعطى للمؤمِن كي يُعبِّر عن اكتشافه لعظمة حبّ المسيح له، من خلال أعمال المحبّة الّتي يقوم بها تجاه الآخَرين. وبالتّالي، لا يعود الصّومُ نِيرًا ثقيلاً لا يُطيق المؤمِنِون احتماله، بل يتحوّل إلى مَصدر فرحٍ وحبّ ومشاركة مع الآخَرين. إنَّ الفرح بقيامة المسيح ليس حِكرًا على الصائمين فقط؛ فالجميع، صائمون كانوا أم غير صائمين، سيختبرون فرح قيامة الربّ، على حدٍّ سواء. هذا ما أوضحه لنا القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ، في عظته حول الصّوم، حين قال لنا، إنَّ مائدة الربّ ممدودةٌ لنا جميعًا، لنتشارِك معه وليمته السماويّة. هذا الكلام يَدفَعنا إلى طرح السؤال حول جَدوى التزام الصّوم وممارسة الجُهد للتحرُّر من كلّ شهواتِنا الأرضيّة، ما دام الجميع سيتشاركون فرح القيامة. في إطار الإجابة عن هذا السؤال، نقول إنّه في المسيحيّة لا يمكننا الكلام عن عدالةٍ بين المؤمِنِين، إنّما عن محبّة تَجمَعُهم. فمثلاً، تقوم العدالة على إعطاء جميع المؤمِنِين المشاركِين في مائدة طَعامٍ معيّنة، الحصّة الغذائية نفسها؛ أمّا المحبّة، فتقوم على إعطاء كلّ فردٍ منهم الحصّة الغذائيّة الضروريّة له، ليتمكَّنَ مِن متابعة حياته، دون الاكتراث للكميّة الـمُعطاة لهذا أو لِذاك. إنَّ المؤمِن الّذي يكتشف عظمة محبَّة الله له، يسعى إلى التَّعبير عن فَرحَه بهذا الاكتشاف من خلال خِدمة الآخَرين ومحبّتهم، لا من خلال هدر الوقت في إدانتهم. ليس هدف الصّوم أن يحوِّل الصائمَ إلى قدِّيسٍ، أو أن يُعطيه إمتيازًا حصريًّا في الشُّعور بفرحَةِ عيد الفِصح، بل إنَّ الهدف من الصَّوم أن يتحلّى المؤمِن بالحريّة الدّاخليّة، إذ يتحرّر هذا الأخير من خلال الصّوم مِن كل ما يستعْبِدُه.

إنَّ الصّوم مسيرةٌ تبدأ بالفِصح وتنتهي بالفِصح: فالصّوم يبدأ يوم الاثنين، أي بعد إنقضاء يوم الأحد الّذي فيه نحتفل بقيامة المسيح، وينتهي بقيامة المسيح من بين الأموات. إنَّ الصّوم يبدأ بتذكير المؤمِنِين بحبّ الله الخلاصيّ لهم، وينتهي بتحقيق هذا الحبّ بموت الربّ يسوع على الصّليب والقيامة. يشكِّل الصّوم فرصةً تدريبيّة للإنسان على نمطٍ حياتيّ جديدٍ يساعده على التخلُّص من كلّ ما يكبِّله، ولكن هذا لا يعني أبدًا أنّ الهدف الأساسيّ من الصّوم حثُّ المؤمِن على إماتة شهواته؛ لأنّه إنْ كانت تلك الشّهوات الأرضيّة لا تُرضي الله، فإنّه يتوجَّب على المؤمِن التخلِّي عنها، لا في فترةِ الصّوم وحسب، بل طُولَ أيّام حياته. إنّ الصّوم الّذي لا ينطلق من ذهنيّة أنَّه مرحلةٌ انتقاليّة ما بين فِصح وفِصح، هو مسيرة جهادٍ وعذابٍ قائمةٌ على الامتناع عن الطّعام، لا ينتهي إلّا عند حلول عيد الفِصح بِتَناوُل طعام العيد، لا بِفَرح قيامة المسيح. إنَّ صَومَنا غير مرتبطٍ بانقطاعِنا عن بعض الأطعمة أو بِتَناوُلِنا لها في ساعاتٍ محدّدة من النَّهار. وفي هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنّه من الأفضل لنا الامتناع عن تَناوُل بعض الأطعمة لا في فترةٍ محدَّدة من السّنة، إنّما طوال الأيام، إنْ كانَ في تَناوُلِنا لها سببَ عثَرَةٍ للآخَرين؛ وبالتّالي، ما يُشدِّد عليه بولس الرَّسول هو محبّة القريب، لا الامتناع عن الطَّعام في زمن الصّوم. إنّ الكنيسة الشرقيّة تستعدِّ للصّوم من خلال إنجيل الدينونة، لأنّ دينونة الإنسان الحقيقيّة تستند على مدى محبّته لأخيه الإنسان، من خلال سَعيِه إلى سدِّ حاجاته، ولا تستند على محبّة الإنسان لربِّه، لأنّه إنْ كان الإنسان غير قادر على محبّة قريبه الّذي يراه، فكيف يستطيع أن يُحبّ الله الّذي لا يراه؟ إنّ كلمة "الصّوم"، في اليونانيّة، تعني "التَّدريب"، وقد تُرجِمَت في العربيّة إلى "النُّسك". إنّ هَدَفَ الصّوم تحريرُ الإنسان من كلّ عبوديّة، من خلال حثّه على تدريب ذاته على الانقطاع عن كلّ ما يُكبِّله، من خلال انقطاعه عن الطّعام لفتراتٍ محدَّدة من الزَّمن. ولكنَّ المؤمن للأسف، أصرّ على البقاء في عبوديّته للطَّعام، إذ دَفعه حرمانه من بعض الأطعمة في زمن الصّوم، إلى ابتكار مأكولاتٍ صياميّة مشابهة جدًّا لتلك الّتي مَنع ذاته عنها في الصّوم؛ وبذلك، حوّل المؤمِن "الصّوم" إلى صَنَمٍ جديدٍ، إلهٍ جديدٍ له، ليَعبُدَهُ. في كافة الأديان الموجودة في هذه الأرض، الصّوم هو فريضةٌ دينيّة على المؤمِن الالتزام بها وممارستها وِفق طقوس دِيانَتِه. أمّا في المسيحيّة، فَلَيْسَ الأمرُ كذلك، لأنَّ الصّوم بالنسبة لنا، هو "مَوسَمٌ" يُعاش وهو مَصدَرٌ للفرح، لا واجِبٌ دينيٌّ مفروضٌ عَلينا، بدليل أنّ الكنيسة تترك للمؤمِنِين بالمسيح، مِلء الحريّة للالتزام بالصّوم أو عَدَمِه. فالالتزام بالصّوم هو قرارٌ شخصيّ يتخِّذه المؤمِن استنادًا إلى نضوجه الإيمانيّ، وَوَعيه لمفهوم الصّوم.
إنَّ الصّوم مبنيٌّ على عيد الفِصح. وعيد الفِصح المسيحيّ مبنيٌّ على موت المسيح على الصّليب وقيامته. وبالتّالي في الفِصح، عَبَرَ الربُّ من حالة الموت إلى حالة القيامة. ونحن أيضًا مدعوِّون في زمن الصّوم إلى العبور من مرحلة العبوديّة إلى مرحلة الحريّة كأبناءٍ لله. إنَّ الأحد الثاّلث من زمن الصّوم الكبير في الكنيسة الشرقيّة هو "أحد الصّليب"، وقد وَضَعَته الكنيسة في منتصف هذا الزَّمن لتَحُثَّ المؤمِنِين على إكمال المسيرة نحو القيامة، دافعةً إيّاهم إلى بَذْلِ ذواتهم أكثر فأكثر على مِثال الله الّذي جاد بابنه الوحيد، من أجل خلاصِنا، تعبيرًا عن محبَّته للبشر. إنّ الربّ قد مات على الصّليب من أجلِنا، وبالتّالي فَعَلينا نحن أيضًا أن نعيش الصَّوم، على مثال المسيح، فنَبذُل ذواتنا من أجل الآخَرين، من خلال السَّعي إلى تلبية حاجاتهم. إذًا، هَدَفُ الصّوم، هو الاهتمام بالآخَر وبِحاجاته، لذا تتكاثر أعمال الرَّحمة في هذا الزَّمن، فتَنشأ حملات التبرُّع بالأموال من أجل مساعدة الأكثر حاجة بين المؤمِنِين. إنَّ مساعدة الآخَر هو تعبيرٌ عن إيمان الإنسان بالله، وبالتّالي لا يجب أن يكون محصورًا في زمن الصّوم، بل عليه أن يتحوَّل إلى نهجِ حياةٍ يتَّبِعه المؤمِن في كلّ حياته. إنَّ العطاء، هو مَصدَرُ فرحٍ للمؤمِن، ولذا فإنّ ممارسته في زمن الصّوم تُشكِّل مَصدَر فرحٍ لا للإنسان المِعطاء وحسب، إنَّما أيضًا للإنسان المحتاج. إنَّ فرحَ العطاء هو أكبر من فَرح الأَخِذ: فالمحتاج الّذي ينال العطيّة من الآخَر، يفرح لأنّ حاجته قد تمَّت تلبيَتُها؛ أمَّا الإنسان المِعطاء فإنّه يَفرح مرَّتين: فَهو يَفرح أوَّلاً لأنَّه شارك الآخَر بإحدى العطايا الّتي يملكها، ثمّ يَفرحُ ثانيًا عند رؤيته الفرح على وَجه الآخَر المحتاج الّذي نال حاجته من خلال تلك العطيّة، وهنا نتذكَّر قول الرَّسول بولس:"إنَّ العطاء مَغبوطٌ أكثر مِنَ الأخِذ". إنَّ زَمن الصّوم يشكِّل دَعوةً للمؤمِن لا إلى الانقطاع عن الطَّعام من أجل الطَّعام بحدِّ ذاته، إنّما هو دعوةٌ للانقطاع عن الطَّعام من أجل إطعام الآخَر المحتاج؛ فكما أنَّ المسيح قد أحيانا بقيامته من الموت، ووَهبنا الحياة الأبديّة، كذلك، نحن نُحيي الآخَر عندما نقدِّم له حاجته. لا يقوم المؤمِن بالإماتات والتَّقشفات من أجل إظهار جِهاده الشَّخصيّ، منتظرًا المكافأة على ذلك من الربّ، بل يقوم بها من أجل إحياء الآخَر ساعيًا إلى تلبية حاجاته.

عاش الربُّ يسوعُ في الصَّحراء أربعين يومًا، لم يتمكَّن خلالها من تَناوُل أيّ طعامٍ، لا رغبةً منه في سَنِّ قوانين الصّوم، إنّما لأنّه لم يكن هناك في الصَّحراء ما يُؤكَل. إنَّ الصَّحراء في الكتاب المقدَّس ترمز إلى الموت، إذ تنعدم فيها كلّ أساسيّات الحياة. في الصَّحراء، حاول إبليس إقناع الربّ بالعيش بعيدًا عن الله، ولكنَّ الربّ قد رَفضَ كلّ حياةٍ تُمنَح له، إنْ لم يكن الله الآب مَصدَرها. وهنا يُطرَح السؤال علينا، نحن المؤمِنِين: هل نقبل بحياةٍ أخرى تأتينا مِن مصدرٍ آخر غير الله، أم نفضِّل الموت على العيش في حياةٍ بعيدةٍ عن الله؟ إنَّ الصّوم يدعونا إلى الاختيار ما بين الموت مع الربّ أو العيش بِدُونِه: وبالتّالي في الصّوم، علينا الامتناع عن كلّ ما يُبعِدنا عن الله، كي تكون لنا الحياة في الربّ. في الصّوم، لا يمتنع المؤمِن عن أمورٍ سيِّئة، إنّما عن أمور صالحة: فالطَّعام هو أمرٌ مفيدٌ وضروريّ للإنسان، ولكنَّ الإنسان يُقرِّر الانقطاع عن بعض أنواعه في سبيل إحياء أخيه الإنسان المحتاج، وبذلك يحقِّق الإنسان جوهر عيد الفِصح. إنَّ المؤمِن يعيش جوهَر عيد الفِصح حين يموت عن ذاته وشهواته من أجل إحياء الآخَر. إنَّ الطَّعام يرمز إلى الحياة، والانقطاع عنه يرمز إلى الموت، وبالتّالي حين ينقطع المؤمِن عن تَناوُل الطَّعام فإنّه يُعبِّر بذلك عن موته في هذا الزَّمن، من أجل إحياء الآخَر. إنَّ الصّوم هو نوعٌ من "الرُّوداج" للمؤمِن الّذي يرغب في الإقلاع عن بعض العادات السيِّئة الّتي يُعاني منها في حياته. ولكنْ هذا لا يعني أنَّ على المؤمِن العودة إليها بعد انتهاء الصّوم، إنَّما عليه أن يتَّخذ من الصّوم فرصةً له للانقطاع عن هذه العادات السِّيئة، والاستمرار في ذلك طُولَ أيّام السَّنة، فلا يعود إليها أبدًا.

إذًا، إنَّ الصّوم مرتبطٌ بمدى اهتمامِنا بالآخر لا بانقطاعِنا عن الطَّعام، وهذا ما تدعونا إليه الكنيسة الشرقيّة، من خلال دَعوتنا إلى مساعدة الآخَرين ومحبّة القريب، في أحد مرفع اللَّحم وأحد مرفع البياض. إنَّ الربّ يسوع يشدِّد على ذلك قائلاً لنا:"فإذا كُنتَ تُقرِّبُ قربانَك إلى المذبح، وذَكَرْتَ هُناك أنَّ لأَخيكَ عليكَ شيئًا، فَدَعْ قُربانَكَ هناك عند الـمَذبَح، واذهب أوَّلاً وصالِح أخاكَ، ثمَّ عُدْ فَقَرِّب قُربانَك" (متى5: 23-24). إذًا، بالنسبة إلى الربِّ يسوع، الآخَرُ هو أهمُّ من المشاركة في الذبيحة الإلهيّة. قد يتساءل البعض:"ما فائدةُ الصّوم، إذًا؟". إنَّ الصّوم مرتبطٌ برؤيتنا للأمور من حَولِنا، فإنْ أدركَنا أهميّة الآخَر في حياتنا، سَعَينا إلى مساعدة الآخَر ومحبّته، وتحوَّل الصّوم إلى مَصدر فرحٍ وسعادةٍ لنا، لا إلى نِيرٍ ثقيل يصعُب احتمالِه. في الصّوم، نحن ننطلِق من فِصحٍ لِنَصل إلى فِصح آخر، وما الصّوم إلّا تلك المرحلة الزمنيّة الفاصِلة بين هَذَين الفِصحَين. في الصّوم، تزداد الصّلوات في الكنائس، فالصّلاة هي صِلة الإنسان مع الله، أمّا الصّوم فَهو صِلة الإنسان مع الآخر المحتاج. إنّ علاقة الإنسان مع الله، أي الصّلاة، يُعبَّر عنها من خلال علاقة هذا الإنسان مع أخيه الإنسان المحتاج. إنَّ دَينُونَتنا في اليوم الأخير، مَبنيّة على علاقَتنا بالآخر: فإنْ سامَحنا الآخَر وأعطيناه حاجته، نِلنا الحياة الأبديّة، وإنْ لم نَفعل خَسرناها. هذا ما قام به الربُّ يسوع، فكانت له القيامة: لقد أعطى الربّ بموته على الصّليب، الحياة الأبديّة لنا جميعًا، كما أنّه غفر لنا جميع خطايانا، قائلاً: "يا أبتِ اغفِر لهم، لأنّهم لا يَعلَمون ما يَفعلون"(لو23: 34). إنَّ الربّ قد غفر لنا خطايانا، لأنَّه اعتبر أنّنا كُنّا غير مُدرِكين، للأخطاء الّتي نرتَكِبُها، ولذلك فَهو ينساها، ولا يُحاسِبُنا عليها كلّما أردنا اللِّقاء به، في سرّ التَّوبة. أمّا نحن، فعلى الرُّغم من إعلاننا المغفرة للآخَرين، غير أنّنا لا ننسى لهم خطاياهم إذ نعتبر في داخِلنا أنّهم ارتكبوا تلك الإساءات عن قصدٍ، لذا نسعى إلى محاسَبَتِهم عليها، كلّما التَقَينا بهم.

إذًا، إنَّ الصّوم هو فرصةٌ تُمنَح لنا لِنُعبِّر فيها عن حُبِّنا لله من خلال محبّتنا للآخر المحتاج. في العصور الأولى للمسيحيّة، لم يكن الصّوم بالشَّكل الّذي نَعرِفه اليوم، وقد خضع للكثير من التَّطورات عبر العصور قبل وُصوله إلى شكلِه الحاليّ. في البدء، كان الصّوم يقتصر على ثلاثة أيّام تَسبِق عيد الفِصح، ثمّ امتَّد فيما بَعد ليَشمُل أسبوع الآلام بأكمَلِه، فأصبح زمنُ الصّوم مؤلَّفًا من سبعة أيّام. ثمّ امتَّد أكثر فأكثر مع الوقت ليُصبِح أربعين يومًا لِمَ يَحمِله الرّقم أربعون من رمزيّة في الكتاب المقدَّس. وأخيرًا تمَّ إضافة أسبوع الآلام، على ذلك الصّوم الأربعينيّ، ليتَّخذ الصّوم أخيرًا الشَّكل المتعارَف عليه في أيامِنا. إذًا، صَومُنا الكنسي، يتألَّف من سبعة أسابيع، والرَّقم سبعة في الكتاب المقدَّس يرمز إلى الكمال. وبالتّالي، فَنَحن نصوم هذا الصوم الأربعينيّ إضافةً إلى الأسبوع العظيم، لأنّنا نرغب في الوصول إلى الكَمال في نهاية الصّوم.

إنَّ الصّوم، حسب مفهوم آباء الكنيسة، يهدِف إلى تحرُّر الإنسان من كلّ عبوديّة. غير أنَّ الإنسان قد تمسَّك بالشَّكل الخارجيّ للصّوم، فتَحوَّل الصّوم إلى سيِّدٍ وتحوَّل المؤمِن إلى عبدٍ له، وهذا ما يبرِّر تَعبَ الكثيرين من الصّوم، لأنَّهم يمارِسونه بعيدًا عن مضمونه الحقيقيّ. لقد سَعت الكنيسة الشرقيّة من خلال الأحد الثّالث من الصّوم، أحد الصّليب، إلى تَذَكُّر عَمل المسيح الخلاصيّ لأجلِنا، وإلى اتِّخاذ الربّ مِثالاً لنا في احتمال مشّقات الصّوم، فمُعاناتنا في الصّوم لا تساوي شيئًا أمام معاناة الرب الخلاصيّة لأجلِنا. على الصّائم أن يتحلّى بذهنيّة المسيح على الصّليب، الّذي احتمل آلام الصّلب، من أجل خَلاصِنا ومَنحِنا الحياة الأبديّة، وبالتّالي فَعَلينا أن نجاهِد في الصّوم في تحمُّل مشقَّاتنا من أجل الآخَر المحتاج. حين يتذكَّر المؤمِن كلّ ما فَعَله الربُّ لأجله، فإنَّه لا بُدَّ له من أن يُثابر في مسيرة الصّوم والصّلاة الّتي قرّر الالتزام بها، من خلال الاهتمام بالآخر، فيتمّكن من إكمال مسيرة صَومِه بِعَزمٍ وفرح، ويتمكَّن من عيش الفرح عند حلول عيد الفِصح. في الختام، أتمنّى لكم صومًا مُحَرَّرًا من العبوديّة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف.

تتمة...
20/10/2018 " بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي" (يو 13: 35) الخوري جوزف سلوم

" بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي" (يو 13: 35)
مع الخوري جوزف سلوم
في الاجتماع السنويّ لمسؤولي الجماعة في الرعايا وأعضاء اللِّجان
مؤسَّسة مار مخائيل الاجتماعيّة- سهيلة

20/10/2018

في العهد القديم، أوصى الله شعبه بمحبّته أوّلاً، فنقرأ في سِفر تثنية الاشتراع: "إِسمَعْ يا اسرائيل: إنَّ الربَّ إِلَهَنا هو ربٌّ واحد. فأحْبِب الربَّ إِلَهَكَ بكلِّ قلبِكَ وكلِّ نفسِك وكلّ قوَّتِكَ" (تثنية 6: 4-5)، ويضيف الله قائلاً، في سِفر الأحبار: "ولا تنتَقِم ولا تَحقِد على أبناءِ شعبِكَ، وأَحْبِب قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أنا الربّ" (أحبار 18: 19). إذًا، إنَّ وصيّة المحبّة في العهد القديم، مؤلَّفة من قِسمَين: محبّة الله أوّلاً وثمّ محبّة القريب، ولكنَّ الربَّ يسوع في العهد الجديد قد جمع هاتَين الوصيّتين في وصيّةٍ واحدة وهي محبّة القريب على مِثال محبّة الله لنا. في رسالته الأولى، يقول لنا يوحنّا الرَّسول: "الله محبّة: فَمَن ثَبَتَ في المحبّة، ثَبتَ في الله وثَبَتَ الله فيه"(1 يو4: 16)، ويضيف الرَّسول قائلاً: "فإنَّ الله أحبَّ العالم حتّى إنّه جادَ بابنِه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمِن به، بل تكون له الحياة الأبديّة"(يو 3: 16).
ليست المحبّة مجرَّدَ وَصيّةٍ على المؤمِن تطبيقها بحرفيّتها، بل هي جوابُ هذا الأخير على عطايا الله الكثيرة له. إنّ الله قد ترك سماءه وجاء لملاقاتِنا، فعلَّمنا الحبّ من خلال تقديم ابنه، ربّنا يسوع المسيح، ذبيحةً عنّا على الصّليب. إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من الحقد والكبرياء والحسد، وسِواها من الرذائل، الّتي تعكِسُ موت المحبّة في قلوب البشر. لقد فقَدَتِ المحبّة كلّ معانيها في مجتمعاتِنا، إذ أصبحنا نستخدمها للتعبير عن محبّتنا للأشياء وللبشر على حدٍّ سواء، فنقول على سبيل الـمِثال: أحبُّ وطني، أحبُّ المال، أحبُّ هذا العَمل، أحبّ هذا الطّعام، وأحبُّ هذا الحيوان الأليف أو ذاك، وأحبُّ أصدقائي. وما هذا الخلط في استعمال كلمة "أُحبّ" إلّا دليل على اضطراب العلاقات الإنسانيّة بين البَشر، إذ تُعاني هذه الأخيرة مِن مَرَض البَرَص، إذ أصبحنا نخاف من الاقتراب من الآخَرين ومخالَطَتِهم، ونفضِّل الانعزال عنهم، ومقاطعتهم في وسيلةٍ لإقصائهم عن حياتنا. إنّ علاقاتنا الإنسانيّة مريضة: إذ يسارع الأخ إلى مخاصمة أخيه لأبسط الأسباب، كما يسارع المؤمِن إلى ترك الجماعة الّتي قرّر الانتماء إليها لِعَدم تسليمه مسؤوليّة فيها، رافضًا سماع كلام التوبيخ أو التَّعليم من الأكثر خِبرةً منه. إذًا، لنَعترِف إخوتي، أنَّ علاقاتنا البشريّة مريضة، وما الاعتراف بالمرض إلّا خطوةٌ نحو العلاج، الّذي لا يستطيع مَنحه للإنسان إلّا يسوع المسيح، لأنّه هو الحبّ القادر على شِفائنا من كلِّ أمراضِنا، بلمسةٍ منه.

إنَّ تاريخنا البشريّ يشهد على توتُّر العلاقات بين الإخوة، والكتاب المقدَّس يقدِّم لنا نماذج متعدِّدة، ولكنّنا سنتوقّف عند خمسة نماذج فقط: ثلاثةٍ من العهد القديم واثنين من العهد الجديد. النّموذج الأوّل هو من العهد القديم، وهو علاقة قايين بأخيه هابيل (تك4).كان قايين فلّاحًا في الأرض، أمّا هابيل فكان راعيًا. واتّفق أنّه في أحد الأيّام، قدَّم الأخوان ذبيحتَيهما للربّ من نِتاج أعمالهما، فقدَّم هابيل من أبكار مواشيه في حين قدَّم قايين من منتوجات أرضِه. ولكنّ الربّ نظر إلى ذبيحة هابيل دون ذبيحة قايين، ممّا أدّى إلى غضب قايين، فقرّر قَتل أخيه. بعد ارتكابه الجريمة، سأل الربّ قايين عن أخيه، فكان جوابه أنّه ليس مسؤولاً عن أخيه. إنَّ هذه العلاقة بين هابيل وقايين تشكِّل مِثالاً صارخًا عن العلاقات بين بعض الإخوة، إذ فَقَد مجتمعنا فَهمَه لسِرِّ الأخُوَّة، فتحوّلت علاقات المحبّة بين أفراد العائلة الواحدة إلى علاقات عداوة، مبنيّة على الحَسَد والخصام بسبب الممتلكات الأرضيّة وأمورٍ زائلة، واستُبدِلت كلمات المحبّة بكلمات جارحة قاتلة وهدَّامة للنُّفوس. إنّ الربّ يدعونا من خلال هذا الـمَثل كي نكون حُرّاسًا بعضًا لبعض، فنَنْتَبِه لمشاعر بعضنا البعض، فلا نفرح عند سماعنا بتَعرُّضهم للشّرور فنتناقل خطاياهم وننشرها، بل نفرح لعودتهم عن طريقهم الخاطئة، وإعلان توبتهم.

ويقدِّم لنا الكتاب المقدَّس مِثالاً آخر على الأُخوّة المجروحة من خلال علاقة عيسو بأخيه يعقوب (تك22). كان إسحَق ابن ابراهيم، متزوجًا مِن رِفقا، وكان لهما ابنان، هما: عيسو ويعقوب. وكان عيسو مختلفًا من حيث المظهر والتصرّف، عن أخيه يعقوب: إذ كان عيسو، الابن البِكر لإسحَق، رجلاً كثيرُ الشَّعر، وبارعًا في الصَّيد؛ في حين أن أخاه الأصغر، يعقوب، كان رجلاً قليلَ الشَّعر، ويسكن في الخيام ويهوى الطَّبخ. لقد بدأ الصّراع بينهما منذ يوم ولادَتهما، إذ كانا توأمَيْن، وقد تنافسا على مسألة البكوريّة، فكان فوز عيسو على يعقوب إذ نجح عيسو في الخروج أوّلاً من حشا والدتهما. للابن البِكر امتيازاتٌ عديدة، منها حصوله على البَركة الابراهيميّة، وحصوله أيضًا على ميراث أبيه. لم يَفهم عيسو أهميّة هذه الامتيازات، فباع بُكوريّته لأخيه يعقوب مقابل صَحنِ عَدَسٍ. ولكنّه نَدِم على ذلك إذ استشاط غيظًا عندما أدرَك أنّ أخاه يعقوب قد تمكّن من الحصول على البركة الابراهيميّة من خلال خِداعه لوالِده الّذي كان يُعاني من شِحٍّ في نظره نتيجة تقدُّمِه في السِّن، فقرّر عيسو قَتل أخيه يعقوب. عندما أدرَكت رَفقا نوايا عيسو، طلبت من ابنها يعقوب الهروب، ففعل. وقد شعر يعقوب بالعَظمة والقوّة عندما نَجح في سَرِقة البَركة الابراهيميّة من أبيه، وتمكّن من الإفلات من أخيه، ولكنّ الله أراد إعطاءه دَرسًا هو أنَّ قوّة الله تفوق كلّ قوة بشريّة فتصارع يعقوب مع الله وانهزم في هذا الصِّراع، وترك له الله علامةً على هذه الخسارة فكانت إصابته في وَرِكه. بعد انتهاء معركته مع الله، سجد يعقوب للربّ سَبع مرّات، وعندما انتهى من السُّجود، رأى أخاه عيسو مُقبلًا إليه، فتعانق الأخوان وتصالحا، فقال يعقوب لأخيه إنّه رأى وجه الله في وَجه أخيه. إنّ الله لا يشجِّع على الخلافات بين البشر، بل يدعونا إلى المصالحة وإلى رؤية الله في وجوه إخوتِنا.
وإليكم مِثالٌ أخير على صراع الإخوة، من العهد القديم، وهو صراع يوسف مع إخوته. كان ليعقوب اثنا عشر ابنًا، وكان يوسف أصغرهم. وقد خصّ يعقوب ابنه يوسف بمحبّة مميّزة، فحاكَ له قميصًا مميَّزًا، وكان يوسف يرعى الغنم مع إخوته، وقد اشتهر برؤيته للأحلام الّتي تُظهِر تفوُّقه في العظمة على إخوته. إنَّ محبّة يعقوب ليوسف، إضافةً إلى أحلام يوسف، أدّتا إلى إشعال الغَيرة والحَسد في قلوب إخوته، فقرّر إخوته التخلُّص منه، فباعوه للإسماعيليِّين. فذبح أبناء يعقوب الأحد عشر وحشًا بريًّا ولطّخوا قميص أخيهم يوسف بدَم هذه الذبيحة، وأخبروا أباهم أنّ وحشًا بريًّا قد هجم على أخيهم يوسف، وافترسه. بعدما حلّت المجاعة في أرض يعقوب، جاء إخوة يوسف إلى مِصر طالبِين الطّعام، ولكنَّ يوسف لم يعامل إخوته معاملةً سيئة على مِثال معاملتِهم له في الماضي، بل عاملهم بالحُسنى مُعطيًا إيّاهم مُرادهم من الطّعام. إنّ عالمنا اليوم يفتقر إلى عيش شريعة المحبّة إذ إنَّ الشريعة السائدة فيه هي شريعة "العَين بالعَين، والسِّن بالسِّن". إنّ الربّ يدعونا من خلال هذا الـمَثل لكي نكون أبطالاً في عَيْشنا لسرِّ الأُخُوَّة، فنعامل بعضنا البعض معاملةً حَسَنَةً على الرُّغم من الأذيّة الّتي نتعرَّض لها من قِبَلِهم.

أمّا الآن، فننتقل إلى العهد الجديد، لنتوقّف عند مشهَدين للأُخوّة المجروحة: المشهد الأوّل هو مَثل الابن الضّال
(لو 15). لقد أعطى يسوع هذا الـمَثل، جوابًا للفرِّيسيِّين عند اعتراضهم على مسألة دخول المسيح إلى بيوت الخطأة ومجالستهم. في هذا الـمَثل يُخبرنا يسوع عن فَرحة الأب بعودة ابنه الأصغر إلى المنزل، بعد طُول غيابٍ، كما يُظهر لنا أهميةّ الحريّة والاستقلاليّة اللّتين يُعطيهما هذا الأب لاِبْنَيه. في هذا النّص، نلاحظ أنَّ الأب قد خرَج لملاقاة ابنه الاصغر العائد من السَّفر، كما نلاحِظ خروج أبيه لملاقاة ابنه العائد من العمل في الحقل. إنّ عبارة "بلدٍ بعيدٍ" الّتي استعملها الإنجيليّ لوقا في وَصفه لمكان تواجد الابن الأصغر، لا تدلّ على مكانٍ جغرافيّ، بل على الخطيئة الّتي تجعل الإنسان في مكانٍ بعيدٍ جدًّا عن الله. إنّ النَّصّ يقول لنا إنّ الأب قد رأى ابنه الأصغر عائدًا من بعيد، وذلك للإشارة على أنّ الله يبقى قادرًا على رؤيتنا مهما ابتعدنا عنه بسبب الخطيئة، فالخطيئة عاجزةٌ عن إبعادِنا عن نَظَر الله. عندما خَرَج الأب لملاقاة ابنه الأكبر، خَلع الابن الأكبر صِفة الأخوّة عن أخيه الأصغر، قائلاً لأبيه: "إنّ ابنَك هذا". هذا ما نختبره نحن أيضًا في الكثير من علاقاتِنا مع إخوتِنا البشر، إذ نتنكَّر لأُخوّتنا لهم، رافضين مشاركتهم لنا، عازِلين إيّاهم من جماعاتنا. إنَّ الإنجيل لا يُخبرنا عن الموقف النِّهائي للابن الأكبر، لأنّ هذا الابن يرمز إلى كلِّ مؤمنٍ منّا، الّذي يتوجَّب عليه اتِّخاذ القرار إمّا البقاء خارج البيت أي بعيدًا عن الله، وإمّا الدُّخول إلى البيت ومشاركة الله وليمته السماويّة. إخوتي، علينا السَّعي الدائم للعودة إلى بيت الله الآب، وكذلك السَّعي لإرجاع إخوتنا البَعيدين عن الله، فنتشارك جميعًا في الوليمة السماويّة، مع الله الآب، فنكون جماعةً على حسب رِضى الله.
إنَّ الخلافات بين البشر لا تحصل فقط بين الرِّجال، بل تحدث أيضًا في الجماعات النِّسائية، وإليكم مِثالاً حيًّا عن ذلك من العهد الجديد، وهو علاقة مريم ومرتا (لو 10: 38-42). إنّ مرتا ومريم هما أُختا لِعازَر، الّذي أقامه يسوع من الموت. عندما عَلِمَت الأختان بمرور يسوع في قريتهما، اجتهدتا على تهيئة المكان لاستضافة يسوع والجموع الّتي كانت ترافقه. إنّنا مدعوّون جميعًا كي نجعل من بيوتنا بيوت ضيافة، حاضرةً لاستقبال الربِّ فيها. عند وُصول يسوع إلى منزلهما، استقبلته كلّ مِن الأختين على طريقتها، فانهمكت مرتا في الخدمة من خلال الاهتمام بالضيوف، في حين أنَّ مريم اختارت الجلوس على قدميّ يسوع والاستماع له. لكلِّ مؤمِنٍ طريقته الخاصّة في استقبال يسوع، وهذا ما نختبره في الجماعات الكنسيّة فنجد أنَّ في الجماعة الواحدة، هناك مَن يشعر بالفَرح حين يقوم بالخدمة على مِثال مرتا، بينما آخرون يجدون فرَحهم في الاستماع إلى يسوع والتكلُّم معه، أي من خلال الصلاة، على مِثال مريم.كانت مريم جالسةً عند أقدام يسوع في حركة تتلمُذٍ وإصغاء وتوبة. لا تستطيع أيّة جماعةٍ كنسيّة إكمال مسيرتها نحو الربّ إن لم يتوفّر فيها هَذان الوجهان: وجه الصّلاة ووجه الخدمة، فهذان الوجهان يُكمِّلان بعضهما البعض.

مع انطلاقة الكنيسة، لم تختفِ تلك الخلافات بين البشر بل استمَّرت، فالكتاب المقدَّس يُخبرنا عن خلاف ابنَي زبدى على سبيل الـمِثال مع بقيّة الرُّسل حول أحقيّة الجلوس عن يمين الله وعن يسارِه في الملكوت. كما اختلف الرُّسل أيَضًا حول موضوع: مَن هو الأكبر في الملكوت. وبعد قيامة الرُّسل، ذهب بطرس ويوحنّا لمعاينة القبر الفارغ، وقد تسابَقا على ذلك، فدَخل يوحنّا أوّلاً.
كي نتمكّن من عيش المحبّة الّتي يريدها يسوع في جماعاتنا، علينا الالتزام بالشروط التّالية:
أوّلاً، إنّ محبّتنا للآخرين تفترض منّا القيام بمبادراتٍ تِجاههم.
ثانيًا، على محبّتنا أن تكون منسجمة مع نشيد بولس (1كور 13)، فتتحمّل كلّ شيء، وتصبر على كلِّ شيء، وتفرح بالحقّ.
ثالثًا: إنَّ المحبّة تتطلّب منّا مسامحة الآخَرين على أخطائهم، واختبار الغفران مع بعضنا البعض.
رابعًا: المحبّة تُصدِّق كلّ شيء. إذًا، المحبّة مبنيّة على الثِّقة بكلام الآخر.

إنّ المحبّة الّتي تُعاش وِفق هذه الشُّروط، لا بُدَّ لها أن تكون محبّة متَّقدة، فتتشوّق للقاء محبّة وسلام يجمع بين أعضائها، إذ يشعر أعضاؤها بأنّهم عائلةٌ واحدة.
"ما مِن حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه"(يو 15: 13)، هذا هو جوهر المحبّة، وهذا ما يدعونا إليه ربّنا يسوع المسيح. ويضيف الربّ قائلاً لنا: "بهذا يعرف العالم أنَّكم تلاميذي، إذ أحبَّ بعضكم بعضًا" (يو 13: 35). إنَّ المحبّة هي العلامة المسيحيّة، الّتي ترمز إلى الحياة السماويّة، ففي السّماء لا يوجد إلّا الحبّ أي يسوع المسيح، وجميع سكّان السّماء يتعامَلون مع بعضهم البعض بمحبّةٍ. وبالتّالي، عندما تسود المحبّة على هذه الأرض، تتحوّل أرضنا إلى سماءٍ جديدة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
13/2/2018 هل يمكن للصّلاة أن تُغيّر الواقع؟ الأب ابراهيم سعد
https://studio.youtube.com/video/9Mtz1Ys1I_c/edit

هل يمكن للصّلاة أن تُغيّر الواقع؟
الأب ابراهيم سعد

13/2/2018

إنّنا، كمؤمنين، نصلّي قبل اتِّخاذ القرارات في حياتنا، طالبين مِنَ الربّ أن يدلّنا على الاختيار السليم. ولكنّ السؤال هو: كيف لنا أن نُدرِك إن كانت اختياراتنا، وبخاصّة تلك الّـتي نتَّخذها في حياتنا اليوميّة، تتوافق مع مشيئة الله أم لا؟
إنّ البعض يقولون لنا، عندما نُعاني من الشَّدائد: هذا هو واقع الحياة وعلينا تقبُّلَه كما هو، ويشكِّكون في قدرة الصّلاة على تغيير الواقع. وهنا السؤال، يُطرَح من جديد: هل تستطيع الصّلاة حقًّا أن تُغيِّر الواقع الّذي نعيش فيه؟

إنّ الإنسان هو كائنٌ حرٌّ، أي أنّه يتمتّع بالحريّة الكاملة لاتِّخاذ القرارات الّتي يراها مناسبة لحياته الخاصّة. ولأنّ الإنسان حرٌّ، فهو مسؤول إذًا، عن نتائج قراراته، أسلبيّة كانت أم إيجابيّة. إنّ تَحمُّل الإنسان مسؤوليّة قراراته لا يجب أن يدفعه إلى عدم اتِّخاذ القرارات في حياته، إذ "إنَّ الدّنيا لا تستطيع أن تُعلِّم الإنسان إلّا إذا علَّمت فيه"، أي أنّ الإنسان لا يَنضُج إلّا مِن خلال قراراته الخاطئة، وتَحَمُّله لنتائجها الّـتي تعلِّمه دروسًا لمدى الحياة.
إنّ الإنسان لا يتَّخذ قراراته بطريقةٍ اعتباطيّة بل بطريقةٍ واعية مُستَندًا على الـمُعطيات المتوفِّرة لديه، ومستندًا على فَهمِه لرضى الله عليه. لذا على الإنسان التحلّي بالشَّجاعة واتِّخاذ القرارات حتّى ولو كانت تقديراته خاطئة، لأنّه من الأفضل له اتِّخاذ قراراتٍ خاطئة على البقاء في مكانه وعدم اتِّخاده لأيّ قرارٍ في حياته. فمثلاً، حين صَنَع الإنسان طيّارةً، تَوَقَّع حدوث أعطالٍ فيها واضطراره إلى اصلاحها، وإلى معاكسة الرِّياح لمسار الطائرة في الجوّ. ولكن يجدر بنا الإشارة إلى أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن تَحَطُّم الطائرة النَّاتج عن هبوب الرِّياح بشكلٍ مفاجئ، وكذلك لا يمكننا أن ننسبَ ذلك إلى الله، فَمِثل تلك الكوارث قد تحدث في أيّ مكان وأيِّ زمان، مهما تنوعَّت الصناعات ومهما اختلفت قرارات الإنسان.
إنّ اتِّخاذ الإنسان بعض القرارات اليوميّة في حياته قد يبدو أسهل من اتِّخاذه قراراتٍ مصيريّة كاختيار شريك لمدى الحياة، أو اتِّخاذه قرارًا بتغيير وظيفةٍ وسواها من القرارات. إنّ الله لا يتدخّل في قرارات الإنسان، فالله قد وَهَب الإنسان عقلاً كي يُفكِّر في الأمور الحياتيّة ويتَّخذ القرار الأَمْثَل بالنسبة له. على الإنسان أن يُشبِّع عقلَه مِن كلمة الله الّتي تمنحه القوّة وبُعد الرؤية، وبالتّالي تساعده على اتِّخاذ القرار الأكثر توافُقًا مع مشيئة الله. لا يمكننا أن نُنكِر وجود ظروفٍ خارجةٍ عن إرادة الإنسان، تُعاكسه وتعرقل مسيرته في هذه الحياة. فمثلاً، قد يتَّخذ الإنسان قراراً بتوسيع نطاق عمله، ولكنّه يُفاجَأ بأوضاع البلاد الطارئة على المستوى الأمنيّ والاقتصاديّ، فيتراجع عن قراره الّذي اتَّخذه، فيشعر إثرَ ذلك بالفشل. في هذه الحالة إخوتي، علينا الاعتراف بأنّ فَشلَ الإنسان في مِثل هكذا قراراتٍ، لا يعود لا إلى الله ولا إلى الإنسان بحدِّ ذاته، بل يعود إلى الظّروف الّتي عاكست الإنسان وحالَت دون نجاحه في تنفيذ ما يصبو إليه.

عندما يواجه الإنسان في حياته صعوباتٍ لا حلَّ لها، يَنصَحُه البعض بِتَقبُّل الواقع لأنّه لا قدرة له على تَغييره؛ غير أنّ الإنسان يرفض تقبُّل ذلك الواقع الجديد، فيلجأ إلى الصّلاة مُعتقدًا أنّها ستُخلِّصه من هذا الواقع الأليم. إنّ الصّلاة إخوتي، ليست عملاً سحريًّا، فهي غير قادرة على تحويل الواقع إلى ما يتلاءم مع رغبات المؤمنين، ولا هي قادرة على تغيير سلوك البشر وتحويلهم فجأة من أشرار إلى صالحين. إنّ الصّلاة تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه، ليُصبح أكثر توافقًا مع مشيئة الله، كما أنّها تنوِّر عقله فتُعطيه نظرة شموليّة للأمور المحيطة به، وتُلهِمه على اتِّخاذ القرارات الصائبة.
إنّ الربّ يسوع يُوبِّخ المؤمنين به لأنّهم يهتمّون بالأمور الزائلة الأرضيّة أكثر من اهتمامهم بالأمور الروحيّة الباقية، قائلاً لهم: "أُطلبوا أوَّلاً ملكوته وبرَّه، وكلّ شيءٍ يُزادُ لكم" (متّى6: 33)، ويدعوهم إلى التشبُّه بزنابق الحقل وطيور السّماء، الّتي يرزقها الله حاجتها من دون قيامها بأيّ مجهودٍ. إنّ انشغال الإنسان بالأمور الحياتيّة يخلق فيه شعورًا بالكآبة والإحباط، ويجعله إنسانًا جامدًا غير قادر على اتِّخاذ القرارات، بمعنى آخر، إنسانًا ميِّتًا في حين أنّه لا يزال حيًّا، وهنا تكمن الخطورة. إنّ الإنسان يستطيع أن يجابه ذلك الجمود من خلال توطيد علاقته بالربّ، إذ تزرع فيه روح الحياة، وتجعله إنسانًا قادرًا على تحدّي كلّ الصّعوبات ومواجهتها، وإحداث التغييرات في حياته. إنّ الصّلاة لا تستطيع أن تُغيِّر الإنسان، ولكنّها تمنحه قوّةً على التغيير، وتزرع فيه روحًا إيجابيّةً فينظر إلى الأمور المحيطة به بطريقة إيجابيّة. إنّ أخطر تجارب الشِّرير تكمن في زرع هذا الأخير روح السلبيّة في عقل الإنسان، فينظر إلى الأمور المحيطة به بطريقة سلبيّة. عندما يقع الإنسان في هذه التجربة، فإنّه عند أوّل صعوبةٍ تعترضه، يسعى إلى معرفة قيمته في نظر ذاته لا في نظر الله، فيطرح السؤال: ما قيمتي؟ ما نفع وجودي في هذه الحياة؟ إنَّ الإنسان يُصاب بالكآبة والإحباط، حين يُدرِك صورته في نظر ذاته، أمّا حين يُدرِك صورته الحقيقيّة في عينيّ الله، فإنّه سيتخطّى فشله ويسعى إلى الأمام. إنّ الإنسان يُنمّي في داخله الرّوح الإيجابيّة من خلال الصّلاة، وقراءته لكلمة الله والتأمّل فيها، ومطالعته الكُتُب الروحيّة، إذ تَحثُّه على مواجهة صعوباته الحياتيّة والعمل على تغيير الواقع قدر المستطاع. إنّ الصّلاة تساعد الإنسان على تقبُّل واقعه وعدم الوقوع في اليأس، إن لم يتغيّر الواقع المحيط به.

على الإنسان السَّعي إلى تغيير واقعه الّذي لا يرغب فيه، ولكن في حال فَشَلِه في ذلك، عليه ألّا يسمح لتلك الأوضاع بأن تؤثِّر عليه فتُغيِّره من الدّاخل، وتنقله من حالة الرّجاء إلى حالة اليأس والإحباط. لكلِّ مشكلةٍ حلٌّ، ولكن الحلّ لا يكمن بالضرورة بزوال المشكلة، إنّما بمحاولة الإنسان تجاوُزها؛ وبالتّالي على الإنسان ألّا يسمح للمشاكل الّـتي تعترضه في حياته بأن تُعرقِل مسيرته صوب الله. وإليكم مثلاً من حياتي الخاصّة: جرّاء الصّعوبات الّتي أتعرَّض لها في حياتي الكهنوتيّة، قرّرت اعتزال إحياء السَّهرات الإنجيليّة. غير أنّ حضور أحد الشباب إلى إحدى السَّهرات الإنجيليّة وَتَذَمُّره من الأوضاع التّي يعيشها في حياته اليوميّة، جعلني أُعيد النَّظر في قراري والتّراجع عنه، لأنّني شعرت في تلك اللّحظة بقيمة العمل الّذي أقوم به، إذ لَـمَستُ حاجة ذلك الشاب إلى سماع كلمة الله الـمُحيية، فقرّرت الاستمرار في إعلان كلمة الله للآخرين. إنّ كلمة الله قادرةٌ على إحداث تغييرٍ في حياة الإنسان الّذي يسمعها ويتفاعل معها، إذ تدفعه إلى رؤية الأمور المحيطة به بروح إيجابيّة، وتقتل فيه كلَّ مَيْلٍ لليأس.
مِنَ الطبيعيّ أن يضطرب المؤمن ويقلق، أمام الصُّعوبات الّتي تواجهه، ولكن مِن غير الطبيعيّ، استسلامه لتلك الصُّعوبات متجاهلاً إمكانيّته على تغيير الأوضاع الّـتي يعيشها، من خلال الصّلاة ومعاشرته لكلمة الله. إنّ يسوع هو خير مثالٍ لنا في حياتنا، فهو لم يستسلم لليأس ولشعوره بالفشل حين وجد نفسه وحيدًا يوم حُكِمَ عليه بالموت، بل تسلَّح بكلمة الله، وكان يردِّدها باستمرارٍ مِن أعلى صليبه، فدخل الملكوت مُنتصرًا بقيامته من بين الأموات. لم يستسلم الربّ يسوع لمطالب اليهود حين طلبوا منه النُّزول عن الصَّليب، بل أكمل مسيرته الخلاصيّة للبشر إذ إنَّ هدفه هو خلاص البشر لا البحث عن مملكة أرضيّة له. إنّ الإنسان الّذي يستسلم لليأس يُصبح ألعوبةً في يدِ الشِّرير. إنّ الإنسان يعيش في صراعٍ يوميّ وشبه دائم، يقوم على مواجهته لصعوبات الحياة بالتفاؤل والرّجاء، حين يُدرِك قيمته في نظر الله، بدلاً من الاستسلام لليأس والإحباط، حين يرى قيمة نفسه في نظره وفي نظر البشر. إنّ نظرة الإنسان إلى ذاته، أمام الفشل، تدفعه إلى الاستسلام لليأس والإحباط، إذ يشعر أنّ لا قيمة له، ولا أمل لديه في تغيير الأوضاع الّتي يُعاني منها؛ كما أنّ نظرة النّاس إليه تدفعه إلى الانغماس أكثر فأكثر في تلك الحالة، إذ يلقون الضوء على إخفاقاته. فمثلاً لو تراجعتُ عن إعلان كلمة الله، لما شكّل ذلك مشكلةً للبعض، إذ يُدركون أنّ البشارة لا تتوقّف على شخصٍ معيَّن، فالربّ قادرٌ أن يصنع مِنَ الحجارة أبناءً لإبراهيم؛ غير أنّ غيرتي الرسوليّة مَنَعَتْني مِنَ التوقّف عن إعلان كلمة الله للمؤمنين لأنّي أشعر بمسؤوليّتي في المساهمة في زرع الإيمان في النّفوس. من هنا، نلاحظ أهميّة علاقة المؤمن بالله، فهي تجعله يُدرِك قيمته في نظر الله لا في نظر البشر، فيعرِف أهميّة العمل الّذي يقوم به. إنّ علاقة المؤمن بالله، لا تتوقّف عند تمتمة الصّلوات، بل تقودنا إلى التعمُّق أكثر فأكثر في معنى الكلمات الّـتي نُردِّدها في الصّلوات. هذا ما نكتشفه بعد كلّ محاضرة روحيّة، إذ نلمس تغييرًا في ذهنيّات الحاضرين نتيجة تعمُّقهم بكلمة الله، وهذا ما عبّر عنه أيضًا النبيّ حزقيال في سِفره، حين قال إنّ كلمة الله قادرة على إحياء العظام الميِّتة.

في ظلّ الأزمات، على المؤمن عدم الاستسلام، بل عليه تجنيد كلّ طاقاته لحلّ الوضع غير المرغوب به، فيقوم بكلّ المبادرات الممكنة، متسلِّحًا بالرّجاء أنّ هناك أملاً للتغيير. إنَّ فتور الهِمّة عند المؤمن، تؤكِّد تَخلِّيه عن روح الإيجابيّة الّتي تنبع من معاشرته لكلمة الله، وتنعكس سلبًا على المحيطين به، إذ ينقل إليهم روح اليأس والإحباط لا روح الرّجاء والفرح. هذا ما يُسمّى بِتَبادل الطاقات، إذ إنّ كلّ إنسان يتمتّع بطاقةٍ إيجابيّة وأخرى سلبيّة: فإن تغلّبت الطاقة الإيجابيّة فيه على الطاقة السلبيّة، أصبح إنسانًا إيجابيًّا ينقل إلى الآخرين روح الأمل والرّجاء والفرح؛ أمّا إذا تغلّبت عليه الطاقة السلبيّة، أصبح إنسانًا ينقل إلى الآخرين روح اليأس والفشل والإحباط. يستطيع الإنسان طلب المعونة من الآخرين، لمساعدته في حلِّ مشكلته إن لم يتمكّن من حلِّها بمفرده، بعد استنفاذ كلّ طاقاته. قد يكتشف الإنسان صِغَر مشكلته حين يتكلّم فيها مع آخرٍ، كما قد يُدرك عظمتها، فيتساعد مع أخيه الإنسان لإيجاد حلٍّ لها.

على الإنسان ألا يتمادى في عيش حالة الحزن الناتجة عن خيبةِ أملٍ في الماضي، أو عن خوفٍ من المستقبل، لأنّ الماضي قد مضى، ولم يعد موجودًا، والمستقبل لم يحِن وقته بعد، ونحن نعيش في الحاضر الّذي يمرّ كالبرق، الّذي ما إن نعيشه حتّى يُصبح من الماضي. إخوتي، إنّ الإنسان لا يعيش في الحاضر، بل هو يعيش اللّحظة الحاضرة فقط، الّتي ما إن يعيشها حتّى تُصبح من الماضي القريب، فالحياة هي عبارة عن "حاضرٍ متوالٍ" لا ماضٍ متراكم، ومستقبلٍ قادمٍ إلينا بمفاجآته منها محزنة وأُخرى مُفرِحة. إنّ الحاضر هو هديّة من الربّ فلنحاول الاستفادة من لحظاته، ولنعِشها بفرح، فتمنحنا الحيويّة والقوّة اللازمتان لمواجهة الصُّعوبات القادمة، فالمستقبل قد يحوي على صعوباتٍ وتحدّيات أكبر وأقوى. لذا، فلنتحلّى بروح الإيجابيّة، ولنزرعها في نفوس الآخرين، فيشعر الآخرين من خلالنا بنفحاتِ الرّوح المسكوبة فينا نتيجة معاشرتِنا لكلمة الله.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
13/2/2018 لِمَ وجود جماعة روحيّة تصلّي من أجل الراقدين؟ الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/_RoOfyRz86U

لِمَ وجود جماعة روحيّة تصلّي من أجل الراقدين؟
محاضرة للأب ابراهيم سعد

13/2/2018

إنَّ الكنيسة تُصلّي على نيّة الرّاقدين في ليتورجيّتها، فلا يخلو قدّاسٌ من ذِكر الراقدين، إضافةً إلى وجود تذكارات كنسيّة خاصّة بالموتى. وهنا السؤال يُطرَح: ما أهميّة وجودِ جماعةٍ تُصلّي للراقدين كجماعة "أذكرني في ملكوتك"، إن كانت الكنيسة تَذكُرهم في ليتورجيّتها؟ بكلام آخر، ما هي فعاليّة رسالة الصّلاة من أجل الراقدين، في نفوس المؤمنين الأحياء؟ أي رسالة جماعة "أذكرني في ملكوتك".

إنّ الإنسان، هو كائنٌ إجتماعيٌّ، أي أنّه لا يستطيع العيش وحيدًا، إنّما مع آخرين. إنّ كلمة "مُجتمع" تدلّ على وجود أكثر من إنسانٍ واحد معًا. وهنا يُطرَح السؤال: ما هي الأُسُس الّتي تُبنى عليها الجماعة الموحدّة والمترابطة، والّتي تجعل من هؤلاء البشر الّذين يعيشون مع بعضهم البعض جماعةً واحدة؟ إنّ كلَّ جماعةٍ تُبنى على أساسَين مُهمَّين، هما: الذِّكرى والذِّكر. إنّ كلّ جماعة تتمتّع بتاريخٍ خاصٍّ بها، مِن صناعتها، وهي، أي الجماعة، تتذكَّره باستمرار فَتَذْكُرُه كلّما اجتمعت لتُذكِّر أعضاءها به. إنّ المجتمع اللّبنانيّ، يتذكّر تاريخه في يوم الاستقلال، إذ تمتلئ كلّ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ بالأغاني الوطنيّة وبشعاراتٍ تُعبّر عن فرحة هذا المجتمع بحصوله على الاستقلال. إنّ ذاكرة الجماعة تدعم استمراريّتها، إذ إنّه حين ينتمي الإنسان إلى جماعةٍ معيّنة، فإنّه يتبنّى تاريخها، ويُصبح جزءًا منه، لذا يتوجّب عليه أن ينقل هذا التاريخ لأبنائه لضمان استمراريّة ذاكرة تلك الجماعة.
إنّ كلمة "ليتورجيّا"، هي كلمة يونانيّة مؤلّفة مِن كلمتين: "litos" وتعني شعب، و"ergon" تعني عمل، وبالتّالي تكون "اللّيتورجيا"، عمل الشَّعب. لم تظهر كلمة "ليتورجيّا" مع نشأة الكنيسة، بل كانت موجودة منذ القديم، أي منذ أيّام الامبراطوريّة الرومانيّة. تُشير كلمة "ليتورجيا"، إلى اجتماع مجلس الشُّيوخ، ممثِّل الشَّعب، مع القيصر لاتِّخاذ قراراتٍ حاسمة، تخصّ كلّ أبناء هذه الامبراطوريّة، ويبدأ هذا الاجتماع بعد ذِكر أحد الحاضرين لتاريخ الامبراطوريّة، فيتذكّر المجتمعون أنّهم جماعةٌ واحدة، وأنّ عليهم اتِّخاذ القرارات المناسبة لتعاظم الامبراطوريّة وبُنيانها واستمرارها. وهذا ما يحدث تمامًا خلال الاحتفال اللّيتورجيّ الكنسيّ، إذ يحضر المؤمِنون مِن كلِّ صوبٍ، ويجتمعون في الكنيسة، فيتذكّرون في القسم الأوّل مِن احتفالهم عملَ الله في تاريخهم البشريّ منذ بداية البشريّة أي مع آدم وحوّاء، وصولاً إلى الأنبياء وأخيرًا إلى الربّ يسوع الّذي جاء إلى أرضِنا ومات وصُلب من أجل خلاصِنا، ويُعلِنون أنّهم جماعةٌ واحدة تنتمي إلى شعب الله من خلال تلاوتهم دستور الإيمان، فيتمكّنون في القسم الثاني من طلب حلول الرّوح القدس على القرابين ليُحوِّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. إذًا، إنّ جماعة المؤمِنين الحاضرة في الكنيسة تتذكّر في كلّ احتفال ليتورجيّ تاريخ الخلاص وتَذْكُره، مُعلنةً محبّتها لبعضها البعض وإيمانها بالله. في القدّاس، لا يطلب كلُّ مؤمنٍ ما يريده من إلهه الخاصّ، إله تصوّراته؛ بل يطلب المؤمِن احتياجاته من الله، إله جميع الحاضرين، والربّ يُحقِّق له ما يمكنه تحقيقه.
إنّ تاريخ الكنيسة عبر الدُّهور، يُشهد عليها أنّها كانت تذكر الراقدين في صلاتها، وبالتّالي على الجماعة المؤمنة المحافظة على ذلك. ولكنّ السؤال الّذي يُطرَح هنا، هو: ما نفع صلاة الكنيسة من أجل الّذين ماتوا؟ إنَّ الكنيسة تَذكُر في صلاتها الراقدين لأنّها تؤمن بقول المسيح إنّ الّذين يموتون في الربّ هم أحياءٌ في ملكوته السماويّ. فالمسيح قد غلب الموت، وبالتّالي لم يعد الموت قادرًا على فصل الراقدين عن حضن الكنيسة، كنيسة المسيح. لذلك، أدخلت الكنيسة في ليتورجيّتها ذِكر الموتى، لتؤكِّد على وِحدَتها مع المنتقلين من بينها، وشراكتِها في الإيمان الواحد معهم، أي اشتراكها معهم في الذاكرة الواحدة. إنّ الراقدين يحضرون في كلّ احتفالٍ ليتورجيّ، ويشاركون الأحياء صلاتهم إلى الله، فهم يُشكِّلون مع الأحياء عائلةَ الآب الواحدة.

في عائلة الآب، المؤمن مسؤولٌ عن الجماعة، والجماعة مسؤولةٌ عن المؤمن، ولذا يُصلّي المؤمِن في هذه الأرض من أجل إخوته الراقدين، كما يُصلّي الراقدون من أجل إخوتهم في الأرض. ولكن عندما يتقاعس المؤمنون عن الصّلاة من أجل الراقدين، تظهر الحاجة إلى وجود مجموعة صغيرة من المؤمنين لتُذكّر إخوتها بعدم نسيان ذاكرة الكنيسة الّتي تعتمد الصّلاة من أجل الراقدين. إنّ تغاضِي المؤمنين عن الصّلاة لأمواتهم يشكِّل تشويهًا لصورة عائلة الآب الحقيقيّة، الّتي رسمها الآب لكنيسته. فكما أنّه، حين ينسى البعض عمل الرّحمة تجاه الفقراء، يبادر مؤمنٌ أو مجموعة صغيرة من المؤمنين، إلى مساعدة المحتاجين، فيشكِّل عملهم سبب يقظةٍ لباقي المؤمنين؛ كذلك حين ينسى المؤمنون الصّلاة من أجل الراقدين، يبادِرُ مؤمنٌ أو مجموعة من المؤمنين، إلى تذكير الآخرين بأهميّة ذلك، من خلال عملٍ روحيّ يقومون به، فيتذكّر المؤمنون ضرورة الصّلاة لإخوتهم المنتقلين من بينهم. هذه هي مواهب الرّوح القدس العاملة في الكنيسة، فبولس الرّسول يتكلّم عن هذه المواهب قائلاً إنّ الله خصّ كلّ مؤمنٍ بموهبة مختلفة عن أخيه الإنسان، ولذا على كلّ مؤمن أن يضع مواهبه في خدمة الجماعة. هذا ما تقوم به جماعة "أذكرني في ملكوتك"، إذ تضع موهبتها وهي الصّلاة من أجل الراقدين، في خدمة أبناء الكنيسة جمعاء.

إذًا، لا تُشكِّل الصَّلاة من أجل الراقدين ترفًا روحيًّا، بل هي مسؤوليّة وضعها الله على عاتق بعض المؤمنين، ليحملوا همَّ خلاص النّفوس على أكتافهم. فحين يُصلّي المؤمِن للّذين انتقلوا من هذه الأرض، فإنّه يقوم بإرجاع تلك النّفوس إلى صُلب اهتمامه، أي أنّه يعيد التواصل بين أبناء عائلة الآب الواحدة. إنّ الصلّاة من أجل الراقدين هي تعبيرُ حبٍّ من قِبَل الأحياء تجاه إخوتهم الراقدين، وهذا التعبير يجب أن يُصبح لا همَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك" وحسب، بل همَّ المؤمنين أجمعين. وحين تُصبح "أذكرني في ملكوتك"، أي الصّلاة من أجل الراقدين، همًّا عند المؤمنين أجمعين، لا مانع وقتها من زوال تلك الجماعة، لأنّها جسرٌ اختاره الله، ليكون صِلَة الوصل بين أهل الأرض وأهل السّماء، وهذه الجماعة تُردِّد الآية المزموريّة القائلة:" لا لنا، لا لنا، يا ربّ لكنّ لاسمك نُعطي المجد". إذًا، من الضروريّ أن يُصبح همّ "أذكرني في ملكوتك"، هَمَّ جميع المؤمنين، لكن ليس بالضرورة أن يُصبح جميع المؤمنين مُنتَمين لهذه الجماعة وأعضاءً فيها.

"أذكرني في ملكوتك" عبارةٌ تَلَّفَظَ بها إنسانٌ حيٌّ لا ميِّتٌ: فحين كان لصّ اليمين مُعلَّقًا على الصَّليب بالقرب من الربّ، سأله أن يذكُره في ملكوته، فاستجاب له الربّ. إنّ رغبة قلب هذا اللِّص هي عودته إلى الربّ قبل عودته إلى التُّراب. إنَّ عبارة "أذكرني في ملكوتك"، هي صلاة الأحياء قبل أن تكون صلاةً للأموات، إذ تشكِّل تعزيّةً روحيّة لكلّ مؤمن يريد العودة إلى الله قبل العودة إلى التُّراب. وفي هذا الصَّدد يقول الذهبيّ الفمّ، إن الصّلاة للراقدين تعود بالفائدة على الأحياء قبل الراقدين. إنّ أعضاء هذه الجماعة هم مؤمنون قد اختبروا محبّة الله، ولذا هم يشجِّعون إخوتهم الأحياء على اختبار محبّة الله من خلال حَثِّهم على الصّلاة للأموات.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
18/2/2018 أحد شفاء الأبرص الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/xQ91Z0zsi24

تأمّل في "أحد شفاء الأبرص"
للأب ميشال عبّود الكرمليّ

18/2/2018

في أحدِ شفاء الأبرص، يُخبرنا النّص الإنجيليّ أنَّ يسوع قد ذهب إلى مكانٍ قفرٍ ليُصلّي. نحن بحاجةٍ إلى الصّلاة، فإنْ لم تستطِع الصّلاةُ تغيير حياتنا، فهذا يعني أنّه علينا أن نغيِّر صلاتنا. إنّ الصّلاة الّتي لا تنبع من القلب، والّتي لا تشكِّل حديثًا بين المؤمِن وربّه، لا تُسمّى في الحقيقة صلاةً، لأنّ الصّلاة هي حوار الإنسان مع الإله الحقيقيّ الّذي يسكن في أعماقه.

إنّ صلاةَ الأبرص إلى الربّ كانت صلاةَ توَسُّلٍ، إذ طلب الأبرص مِنَ الربّ قائلاً: "إنْ شِئتَ فأنتَ قادرٌ أن تُطهِّرني". إنَّ لمسة الربّ لهذا الأبرص كانت كافية لشفائه. نعم إخوتي، إنّ الربّ يملك تلك القدرة على شفاء النّفوس من أمراضها النفسيّة، وشفاء الأرواح من أمراضها الروحيّة، والأجساد من أمراضها الجسديّة. إنّ الربّ بشفائه لنا من أمراضنا يعطينا نعمةَ الإدراك للألم فنعيشه بطريقة توصِلُنا إلى الحياة الأبديّة.

كان الأبرص مطرودًا من الجماعة بسبب مرضه، ولكن الربّ أعاده إليها بلمسةٍ شافية. إنّ الجماعة ترمز إلى الكنيسة الّتي على كلّ مؤمِن العودة إليها لينال فيها سرّ الشفاء ألا وهو التوبة. إنّ سرّ التوبة يجعلنا نكتشف ذواتنا، ونكتشف الإله الحقيقيّ الحيّ السّاكن في قلوبنا. إنّ اكتشافنا لله، يدعونا إلى النّظر إلى الصّليب لنستمدّ منه القوّة في أوقات الألم والشدائد الّتي تعترضنا، فنطلب من الربّ: "أذكرنا يا ربّ في ملكوتك"، وننال منه الجواب المنشود:"اليوم تكونون معي في الفردوس". إنّ الفردوس هو علامةٌ على حضور الله الدائم في حياتنا، وهذا الحضور لله هو الّذي يقودنا إلى اللقاء الأبديّ به في السّماء. له المجد إلى الأبد. آمين.

ملاحظة: دُوِّنَ التأمّل مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.

تتمة...
19/12/2017 تأمّل في عيد الغطاس الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/pWzaHxhNWnY

تأمّل في "عيد الظهور الإلهيّ"
للأب ابراهيم سعد

19/12/2017

لا تنتهي مفاعيل عيد الميلاد بحلول العيد بل تستمرّ إلى ما بعد ذلك، وإحدى مفاعيله وثماره هو عيد الظّهور الإلهيّ، الّذي يُسمّى بِعيد الغطاس.
هناك اعتقادٌ خاطئ عند المؤمِنين أنّ هذا العيد هو الاحتفال بذكرى معموديّة يسوع على يد يوحنّا المعمدان في نهر الأردنّ، وهنا تكمن المشكلة.كانت معموديّة يوحنّا من أجل التوبة، توبة النّاس عن خطاياهم والعودة إلى الله. وبالتّالي فإنّ يسوع المسيح، لم يكن بحاجة إلى تلك المعموديّة لأنّه بارّ. إنّ هدف يسوع من قبولِه معموديّة يوحنّا هو تتميم برّ الله، إذ قال ليوحنّا على نهر الأردنّ: "دعنا الآن نُتمّم كلّ برّ". في معموديّة يسوع، نرى بوضوح ظهور برّ الله: في صوت الآب، وحلول الرّوح القدس بشكل حمامة، ووجود الابن في نهر الأردنّ. في المعموديّة على نهر الأردنّ، أظهر الله نفسه للبشر، معبّرًا عن حبّه لهم بهذه الطريقة. إنّ عيد الظّهور الإلهيّ ليس عيد تغطيس المسيح في نهر الأردنّ، إنّما عيد تغطيس المؤمن في جُرن معموديّة الآب، تلك النّعمة الّتي حصل عليها في صِغر سِنّه وهو الآن لم يعد يذكر مفاعيلها في حياته. إنّ هذا العيد يدعو كلّ مؤمن كي يتذكّر معموديّته ويُعلِن عن مفاعيلها في مواقفه الحياتيّة مع الآخرين.

في عيد الظّهور الإلهيّ، يتقدَّس الكون بأسره. لقد تمّ هذا الحدث مرّةً واحدة في التاريخ، ولكن السؤال الّذي يُطرَح هو: كيف يتجلّى هذا العيد يوميًّا في حياتنا؟ في معموديّة المؤمن، يتمّ الظّهور الإلهيّ، إذ يُعلن له الله الآب أبوتّه فيُصبح المؤمن ابنًا لله، ويسكن الرّوح القدس فيه، إذ على حسب قول الربّ يسوع لنا: "لا أدعوكم عبيدًا بعد اليوم، إنّما أحبّاء". إذًا، يُحرِّك الرّوح القدس المؤمِنَ ويُلهمه، وحين يتجاوب هذا الأخير مع تلك الإلهامات، يُصبح قادرًا على نزع الإنسان القديم في داخله، لأنّه يريد أن "يتُمِّم كلّ برّ" من خلال إنسانه الجديد، فيتحقّق فيه ما أراد المسيح بولادته أن يُحقّقه في المؤمنين. إنّ المؤمن يُصبح مولودًا جديدًا في المعموديّة، إذ ظهر فيه الثّالوث الأقدس، وبالتّالي هو مدعوّ للسير على رجاء إيمانه أنّه قائمٌ من بين الأموات. في المعموديّة، يموت الإنسان مع المسيح، ومن ثمّ يقوم معه من بين الأموات.

إذًا، على المسيحيّين أن يشهدوا في حياتهم، للربّ الّذي أحبّنا إلى الغاية، وقد أدّت شهادته تلك إلى استشهاده في سبيل حبّه لنا. نَمَتْ الكنيسة عبر التّاريخ بفضل دماء المؤمنين الشُّهداء الّذين سخوا بدمائهم دفاعًا عن إيمانهم بالربّ يسوع. إنّ الشّهادة نوعان: الشَّهادة الحمراء والشَّهادة البيضاء. إنّ الشَّهادة الحمراء تقوم على استشهاد المؤمِن من أجل إيمانه بالمسيح، أمّا الشَّهادة البيضاء فتقوم على إخلاص المؤمِن للمسيح والشَّهادة له في كلّ ظروف حياته. إنّ الشَّهادة اليوميّة للمسيح تتطلّب تعبًا وجُهدًا مِنَ المؤمن للثبات في إيمانه، كما أنّها قد تُكلِّفه اضطهادات وآلام وأوجاع، لذا على المؤمن أن يتمسّك بالمسيح فيتعلّم منه الصبّر في الشّدائد، ومحبّة الآخرين وبخاصّة الّذين لا يُقدِّرون ما يقوم به لأجلهم، كي يتمكّن من الثبات في شهادته للربّ يسوع. آمين.
ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
19/12/2017 تأمّل في "عيد رأس السّنة" الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/f7VQPY2cBPM

تأمّل في "عيد رأس السّنة"
للأب ابراهيم سعد

19/12/2017

بعد الانتهاء مِن فرحة عيد الميلاد، يبدأ المؤمنون بالتّحضير لعيد رأس السنة. إنّ حركة النّاس في هذه الفترة من السّنة، تدفعنا إلى التساؤل حول سبب إعطاء كلّ تلك الأهميّة لهذا العيد. إنّ المؤمنين يدمجون بين هذين العِيدَين حتّى يُخيَّل إليهم أنّهما عيدٌ واحدٌ بقِسمَين: القسم الأوّل يأتي في بداية الأسبوع، وهو عيد الميلاد، يتمّ فيه التحضير لاحتفالٍ يجمع أفراد العائلة الواحدة؛ أمّا القسم الثاني فيأتي في نهاية الأسبوع، وهو عيد رأس السّنة، يتمّ فيه التحضير لاحتفالٍ يُحرِّر الفَرد من كلّ رابط عائليّ.
لقد أصبح عيد رأس السّنة، عند المؤمن مرتبطًا بالاحتفال، عِوَضَ أن يُشكِّل هذا العيد مناسبة ليَقَظَتِه ووَعْيِهِ. على المؤمن في هذا العيد، أن يقوم بإعادة قراءة زمنه الماضي، فيضع انطلاقًا من تلك القراءة خارطةً لطريقه الّتي سيسلكها في السّنة التّالية، إذا وَهبَه الله المزيد من السِّنين في هذه الحياة. على المؤمن أن ينطلق في وَضعِه لتلك الخارطة من نظرة جديدة للآخرين، ومن ذهنيّة جديدة مبنيّة على قلبٍ متجدِّد وحوّاس جديدة. يبدأ المؤمِن سَنَتَه الجديدة، بفرحٍ متجدّدٍ من حيث الشَّكل، لكنّ هذا الفرح في الحقيقة، هو فرحٌ آنيّ لا يدوم، بسب تمسُّكه بذهنيّته القديمة، ممّا يدفع بالإنسان إلى عيش حالةٍ من التناقض مع ذاته، وهنا تكمن المشكلة. إنّ حالة التناقض هذه الّتي يعيشها الإنسان، تدفعه إلى السَّعي لحماية ذاته وقراراته، وجِدّيته، الّتي تُعبّر عن عدم مسؤوليّة الإنسان في الحقيقة. إنّ فوضى هذا العيد، تُلهِي الإنسان عن نفسه، فيبقى كما هو دُون أيّ تغيير.

إخوتي، إنّ هذا العيد يُدعى "رأس السّنة"، لا "نهاية السّنة"، فكما أنّ رأس الإنسان هو الّذي يُحرِّك كلّ جسده، كذلك على يوم "رأس السّنة"، أن يكون هو المحرِّك لكلّ السّنة المقبلة. في هذا العيد، على المؤمِن أن يُحدّد الذهنيّة الّـتي يريد اعتمادها في هذه السّنة القادمة، فتكون منطلقًا لكلّ أعماله. إنّ بقاء الإنسان على حاله مِن سَنة إلى أخرى، تُعبّر عن عدم رغبته في التطوّر والنموّ. لا يُقصَد بكلامي هذا، تخلّي الإنسان عن الفرح العالميّ الّذي يجمعه بإخوته البشر في هذا العيد، إنّما أن يُعيد الإنسان النّظر في ما يُحيط به، فيغيّر نظرته إليها بما يتوافق مع تعاليم الكتاب المقدّس. آمين.

ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
19/12/2017 ضجيج العالم والنّجم الحقيقيّ الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/wfKcpaSQmfg

"ضجيج العالم والنّجم الحقيقيّ"
تأمّل في عيد الميلاد
للأب ابراهيم سعد

19/12/2017

إنّ ضجيج الدّنيا الّذي يُرافِق عيد ميلاد الربّ يسوع في أيّامنا هذه، يعكس عدم إدراك النّاس لمعنى ولادة المسيح: فالمسيح وُلِدَ في السّكون والهدوء، في مكانٍ قلّما يقصده النّاس: في مذود، في مغارة، في بيت متواضعٍ.
لقد وُلِد الربّ يسوع في السّكون، أي في العُزلَة. أمّا المؤمنون اليوم، فَيحتفلون بعيد ميلاد الربّ وسط ضَجيج الدّنيا، في ظلّ فوضى العالم ومباهجها. هذا الأمر يدفعنا إلى الاستغراب، إذ يبدو أنّ مسيحيّي اليوم يسلكون طريقًا مختلفًا في هذا العيد، عن الطريق الّذي سلكه الربّ في ولادته في بيت لحم، كما يبدو أيضًا أنّ النّجم الّذي يتبعه مسيحيّو اليوم مختلفٌ تمامًا عن النّجم الّذي رآه المجوس وتبعوه في مسيرتهم لرؤية المولود الملك.

هناك نجم واحد يدلّ المؤمنين إلى مكان ولادة المسيح. ولكنّ السؤال الذي يُطرَح هو: لماذا يذهب المسيحيّون في طريق مختلف عن الطريق الّذي يدلّهم عليه النّجم؟ لا تستطيع ملذّات هذه الدّنيا ومغرياتها في هذا العيد، أن تمنح الإنسان الفرح الحقيقيّ بل مرح العيد الّذي يزول مع زوال تلك الملذّات، إذ إنَّ فرح العيد يكمن في ولادة المسيح في قلوب المؤمنين. نسأل الله في هذا العيد، أن يمنحنا الوعي واليقظة فنرى النّجم الحقيقيّ الموجود في السّماء يدلّنا على المولود الإلهيّ فنتبعه، تاركين ذلك النّجم المزَّيف الّذي تقوده شهواتنا الأرضيّة. يعاني مسيحيّو اليوم من أزمة هي: عدم القدرة على التمييز ما بين النّور الحقيقيّ وبين أضواء هذا العالم الّتي تُبهِرهم بنورها المزَّيف. إنّ رؤية النّور الحقيقيّ، لا يعني أبدًا أنّه على المؤمن اللّجوء إلى الإماتات والأفعال القهريّة للذّات، بل على العكس من ذلك تمامًا إذ على المؤمن أن يعيش فرح هذا العيد، وأن ينقله للآخرين فيقدِّم لهم الهدايا، كما يتلقَّى الهدايا بدورِه. إنّ تصرّفات المؤمن مع الآخرين تُشير إلى الطريق الّتي يسلكها في هذا العيد. إنّ الخوف على المسيحيّين في هذا العيد هو في إخطائهم الهدف، إذ قد يذهبون إلى هيرودس الملك اليهوديّ، لا إلى المسيح، الطفل المولود.

إخوتي، يُشكِّل هذا العيد دعوةً لنا كي نسعى إلى رؤية النّجم الحقيقيّ واتِّباعه فنتمكّن من الوصول إلى المسيح، دون أن نُخطئ في الطريق أو في الهدف. آمين.

ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
12/12/2017 أي هديّة نقدّم إلى المولود الإلهي؟ الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/sPk7ivanyEQ

"أي هديّة نقدّم إلى المولود الإلهي؟"
تأمّل للأب ابراهيم سعد

12/12/2017

في هذا الزّمن، نقف أمام المولود الإلهيّ، ونطرح السؤال على ذواتنا: أيّة هديّة نُقدِّم إليه، لنُعبّر عن فرحِنا بولادته في أرضنا؟ ففي عاداتنا البشريّة، يقدّم الأقارب والأصدقاء، هديّة لكلّ مولودٍ جديدٍ يَخُصّهم تعبيرًا عن فرحهم بمجيئه إلى عالمنا، فكم بالحريّ حين يكون هذا المولود إلهيًّا، وهو الربّ يسوع المسيح.

أمام حدث ولادة الربّ الإله، قدّمت الطبيعة كما قدّم له البشر، الهدايا ترحيبًا بمجيئه إلى أرضنا، وتعبيرًا عن فرحهم بولادته. لقد قدّمت السّماء لهذا المولود الإلهيّ نجمًا أضاء فيها ليُعلِن ولادته؛ أمّا الأرض فقدَّمت له مذودًا في مغارة، أي بيتًا بشريًّا له. قدّم له الملائكة التسابح، فرنَّموا فَرَحًا ترنيمة:"المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة". قدّم له الرّعاة ذواتهم إذ ذهبوا لرؤيته في اللّيل. إنّ المجوس، الّذين هم من الوثنيين أي مِن الّذين لا يعرفون الله ولا سَمِعوا به، جاؤوا إلى الربّ من أقاصي الأرض ليسجدوا له في المغارة وقدّموا له هدايا ثلاث، هي: الّذهب الّذي لا يُقدَّم إلّا للملوك، والبخور الّذي يُقدَّم للآلهة، والـمُرّ للإشارة إلى أنّ هذا المولود سيكون شهيدًا في المستقبل. لم يُقدِّم المجوس ذواتهم للمولود ولكنّهم قدّموا له هدايا أعلنوا من خلالها، الهويّة الحقيقيّة لهذا المولود، وقدّمت الإنسانيّة جمعاء لهذا المولود أشرف ما عندها وهو: عذراء لتكون له أمًّا.
لقد قدَّم الجميع، طبيعةً وبشرًا، هدايا للمولود الإلهيّ. والسؤال الّذي يُطرَح الآن: ما هي هديّتك لهذا المولود في يوم ميلاده؟ أستكون هديّتك له من فانيات هذه الدُّنيا وأباطيلها، أم أنّ هديّتك ستعكس عمله الخلاصيّ فيك؟ ما الّذي ستُقدِّمه لهذا المولود هذه السّنة؟ يمكنك أخي المؤمِن، في هذا العيد، أن تُقدِّم للمولود الجديد، كلّ ذاتك، وأن تجعلها بين يديه، كما يمكنك أن تُقدِّم له تعهُّدًا جديدًا في هذا العيد، أو استبدال ذهنيّتك القديمة بأُخرى جديدة تتلاءم مع هذه الولادة الجديدة في حياتك. إنّ كلّ هذه الهدايا مِن شأنها أَن تُدخِلَك في المعنى الحقيقيّ للعيد، وبالتّالي لا يعود هذا العيد عليك كما أتى في السّابق، بل يحمل إليك نفحة جديدة تدفعك إلى التغيير الدّاخليّ، فلا يعود هذا العيد بالنسبة إليك مُجرَّد ذكرى إنّما يُصبح العيد حالة واقعيّة، تتمّ اليوم في حياتك. لذا، نجد، في اللّيتورجيّات الكنسيّة، تأوينًا لهذه الولادة إذ نقول:"اليوم وُلِد، أو اليوم يُولَد"، وبالتّالي فإنّ الكنيسة، لا تُدخِل هذا الحدث الميلاديّ، في إطار الذِّكرى، إنّما تُدخله في إطار الذِّكر، أي أنّها تُعلِن ولادة المسيح من خلال شهادة المؤمنين لهذه الولادة في حياتهم اليوميّة. فإنّه إن لم ينظر المؤمِن إلى هذا العيد انطلاقًا من هذه الذهنيّة الجديدة، فهو سيعيش العيد هذه السّنة كما مرّ عليه العيد في السّنة الماضيّة، ولذا هو يقول: "ينعاد عليك" كعبارة لمعايدة الآخرين، أي أنّه يشعر بأنّ هذا العيد يُعيد نفسه دون أي تغيير يُذكَر.
في هذه السّنة، على المؤمِن أن يعيش هذا العيد بطريقة مختلفة، فيتوقّف عن معايدة الآخرين مستخدمًا العبارة الشَّهيرة: "ينعاد عليكم"، ويُفاجِئ اللهَ بوجود مولودٍ آخر غير مولود الآب، وهو ولادة المؤمِن الجديدة في هذا العيد. لن يأتي إليك، أنتَ المولود الجديد، لا الرّعاة ولا المجوس، بل إنّ الربّ نفسه سيأتي إليك ليسجد أمام ولادته الجديدة فيك. آمين.

ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرّف.

تتمة...
12/12/2017 ميلاد الربّ يسوع، أم عيد الميلاد؟ الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/o8ZXR0G0QrY

ميلاد الربّ يسوع، أم عيد الميلاد؟
تأمّل في عيد ميلاد الربّ يسوع
للأب ابراهيم سعد

12/12/2017

في زمن الميلاد، يتَّجه المؤمنون في مسيرتهم الإيمانيّة صوب الاحتفال بِعِيد ميلاد الربّ يسوع، لا صوب عيد الميلاد بالـمُطلق، دون أيّ تحديدٍ لهويّة المولود. في زمن الميلاد، يستعدّ المؤمنون لاستقبال هذا الفرح الآتي في ملء الزّمان، فالله لم يعد باستطاعته الانتظار أكثر من أجل أن يمنح خلاصه للبشر، فمِلءُ الزّمن قد حان. هذا ما يُعبِّر عنه بولس الرّسول في قوله، إنّه لـمّا تمّ الزّمان، أرسل الله ابنه الوحيد، مولودًا من امرأةٍ، مولودًا تحت النّاموس، ليفتديَ الّذين هم تحت النّاموس، ويمنحَهم نعمة التبنيّ.

إنّنا لا نفرح في هذا الزّمن، بسبب ولادة الإله المخلِّص، بل نفرح لأنّنا وُلِدنا من جديد، وحصَلنا على نعمة التبنيّ من الله، بفضل هذا المولود الإلهيّ. فالهدف من ولادة الربّ هو ولادتُنا، نحن المؤمنين به، من جديد. في هذه الولادة الإلهيّة، يعترف الله بنا، نحن البشر، أبناءً له بالتبنيّ، وبالتّالي يُعلِن أبوَّته المجانيّة لنا، الّتي لا فضل لأحدٍ منّا فيها. فكما أنّ الطّفل يأتي من أحشاء أمّه، من دون أن يُسأَل عن رأيه في ذلك، فهو يُولَد من العدم إلى الحياة، كذلك يَلِدُنا الله الآب، أبناءً له، من خلال ولادة الربّ يسوع المسيح الأرضيّة، دون أيّ استحقاقٍ منّا.
إذًا، في هذا الزّمن نحن لا نستعدّ لولادة المسيح المخلِّص في الجسد، إنّما نستعدّ لولادتنا، لنكون أبناءً لله. على هذا العيد الّذي نحتفل به هذه السنّة، أن يُدخِل بعض الجِدَّةِ على حياتنا، لأنّه في حال لم يُغيّر ميلاد الربّ فينا أيّ شيءٍ، فهذا يُشير إلى أنّ هذا العيد تحوَّل إلى مناسبةٍ مُفرِحة نحتفل بها ونستذكر فيها عيد ميلاد الربّ،كما نفعل في مناسبة أعياد البشر. وبالتّالي لا يعود هذا العيد، عيد ميلاد الربّ يسوع إنّما عيد الميلاد، أي مُجرَّد ذكرى.

ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
5/12/2017 الميلاد بحسب إنجيلَي متى ولوقا الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/Qo-KsZvazo8

الميلاد بحسب إنجيلَي متى ولوقا
الأب ابراهيم سعد

5/12/2017

في زمن العيد، نتأمّل في حدَث الميلاد الخلاصيّ كما رواه لنا الإنجيليَّان متّى ولوقا. إنّ مرقس الإنجيليّ لم يكتب لنا عن ميلاد الربّ يسوع وطفولته، في حين أنَّ القدِّيس يوحنّا قد روى لنا الميلاد بطريقة لاهوتيّة، متكلِّمًا لا عن ميلاد يسوع بالجسد، إنّما عن ولادته الأزليّة من الآب. أمّا متّى ولوقا الإنجيليَّان فقد كتبا لنا عن ميلاد الربّ يسوع بالجسد من مريم العذراء. في هذا الزّمن، لا بُدَّ لنا أن نطرح السؤال على ذواتنا: هل يدخل العيد على أيّامنا فيُصبح "يومًا من يوميّاتنا"، مِن دون وجود أيّ فرقٍ بينه وبين بقيّة أيّام الروزنامة؛ أم ندخل نحن إلى العيد فنتحوّل إلى عنصر من عناصره الفعّالة؟ بمعنى آخر، هل أصبح شعورنا بالفرح في هذا العيد مرتبطًا بالأمور الخارجيّة كالزينة والأضواء، وبالتّالي مع انتهاء تلك المباهج، يختفي فرحُنا؛ أم أنّ شعورنا بفرح العيد نابعٌ من الدّاخل وبالتّالي لا يتأثّر فرحُنا بالمباهج الدنيويّة إنّما بولادة المخلِّص فينا؟ إنّ العيد يدخل إلينا حين يرتبط فرحُنا برؤيتنا للأضواء والزينة الميلاديّة وينتهي مع زوالها؛ ولكنّنا حين ندخل إلى العيد نُصبح في صُلب العيد، ويتحوّل فرحنا من الأمور الخارجيّة إلى الأمور الداخليّة، بولادة المسيح فينا. حين يُولد الإنسان في الحياة، لا يعود بإمكانه التصرّف وكأنّه في العدم، أي كأنَّه غير مولود، لأنّ الحياة قد وُهِبَتْ له، وقد أصبحت واقعه الّذي لا يستطيع الهروب منه. إنّ الولادة لا تدلّ أبدًا على النّهاية إنّما على البداية، إذ مع ولادة الإنسان يبدأ تاريخه الخاصّ. وبالتّالي في يوم الاحتفال بعيد ميلاد الربّ يسوع، لا ينتهي العيد إنّما يبدأ من خلال ولادته في داخلنا.

إنّ المؤمنين في عالمنا اليوم، يُعانون من أزمةٍ كبيرة هي سُرعة نسيانهم للعيد، لذا نشكر الله على الكنيسة الّتي تُحدِّد لنا في كلّ سنة يومًا للاحتفال بعيد الميلاد، فنتذكّر تلك الولادة باستمرار. للنِّسيان وجهان، الأوّل سلبيّ والثاني إيجابيّ: إنَّ الإنسان سريعُ النِّسيان لحسنات الآخرين في حين أنّه لا يستطيع نِسيانَ سيئاتِهم تجاهه، ونلاحظ أنّه سريعُ النِّسيان لسيئاته مع الآخرين في حين لا يمكنه أن ينسى إحساناته إليهم بل يتفاخر فيها. إنّ المؤمِن لا يستطيع أن يتناسى حضور الربّ في حياته، وخاصّة عندما يكون قد أعلن التزامه بالربّ بكلّ حريّة. لا يمكن للمؤمِن أن يرصد حضور الربّ في حياته كمَن يرصد حدثًا معيّنًا بآلة تصويريّة، فحضور الله غير مرئي للعين المجردة، ولكنّ الإنسان يستطيع لمس حضور الله ومجده في حياته اليوميّة. وبالتّالي، فإنّ السؤال الّذي يُطرَح هو: هل يشعر الإنسان بذلك الحضور الإلهيّ، أم أنّ الهموم الحياتيّة والدّنيويّة الّتي تواجهه في كلّ يوم، تقتل فيه كلّ إحساسٍ بحضور الله في حياته؟ في هذه الفترة من السّنة، تنقلب كلّ المقاييس، إذ يتحوّل الإنسان إلى دميةٍ في يد الزّمن، عِوَضَ أن يكون الزّمن ألعوبةً في يد الإنسان. ففي زمن العيد هذا، نلاحظ أنّ المؤمنين يُصبحون عناصر مُنفعلة لا فاعلة، إذ نراهم مُسمرِّين أمام شاشات التلفزة للإصغاء إلى توقّعات عالِمي الفلك. في عالمنا اليوم، يصعب التمييز بين مؤمِنٍ وغير مؤمنٍ: إذ إنّ تصرّفات المؤمِن وتفكيره ورؤيته إلى الحياة أصبحت مشابهة لرؤية غير المؤمِن إلى الحياة وتصرّفاته وتفكيره. وهنا نطرح السؤال: هل ما زلنا حقًّا نشعر بحضور الله في حياتنا؟ لم يعد الإنسانُ يتذكّرُ اللهَ في حياته إلّا كي يلومه على عدم تدخُّله المباشر في تغيير مسار الأحداث العالميّة، رافضًا تدَخُّل الله في حياته الخاصّة. إنّ الربّ يتدخّل في تغيير مسار العالم بشكلٍ غير مباشر حين يزرع في الإنسان الرغبة للمبادرة في مساعدة الاخرين. إنَّ الربّ يتمنّى أن يسير العالم وِفق مشيئته، لأنّ في ذلك سعادة البشر وفرحهم، غير أنّهم للأسف، فقدوا كلّ إحساسٍ بحضور الله في حياتهم، لذا هم يُعانون من الإحباط واليأس. ولكن لا يمكننا تجاهُلَ شعورَ بعض المؤمنين بوجود الله في هذا العالم ورؤيتهم لحضوره الفعّال فيه. إنّ الإنسان الّذي لا يشعر بحضور الله في حياته يعيش براحة أكبر من الإنسان الّذي يعي حضوره، لأنّ هذا الأخير يتخبّط في صراعٍ داخليّ بين تحقيقه لمشيئته وتحقيقه لمشيئة الله، فالعالم ينظر إلى الّذين يُطبِّقون مشيئة الله على أنّهم يعيشون خارج هذا الزّمن، لذا يتعرَّض هؤلاء للاضطهادات عند إعلانهم كلمة الحقّ.

"وكان في تلك النّاحية رعاةٌ يبيتون في البريّة، يتناوبون السَّهرَ في اللّيل على رعيّتهم. فحضرهم ملاكُ الربِّ وأشرقَ مجدُ الربِّ حولهم، فخافوا خوفًا شديدًا. فقال لهم الملاك: "لا تخافوا، ها إنّي أُبشِّركم بفرحٍ عظيمٍ يكون فرحُ الشَّعب كلِّه: وُلِد لكم اليوم مُخلِّصٌ في مدينة داود، وهو المسيح الربّ. وإليكم هذه العلامة: ستَجِدون طِفلاً مُقمَّطًا مُضجعًا في مذود." وانضمّ إلى الملاكِ بغتةً جمهورُ الجُندِ السّماويّين يُسبِّحون الله فيقولون: "المجدُ لله في العلى! والسَّلام في الأرضِ للنّاس فإنّهم أهل رضاه!" فلـمّا انصرف الملائكة عنهم إلى السّماء، قال الرُّعاة بعضهم لبعض: "هَلُمَّ بنا إلى بيت لحمَ، فنرى ما حدثَ، ذلك الّذي أخبَرَنا به الربَّ." وجاؤوا مُسرعين، فوَجدوا مريم ويوسفَ والطِّفل مُضجعًا في المذود. ولـمّا رأوا ذلك، جعلوا يُخبرون بما قيلَ لهم في ذلك الطِّفل. فجميع الّذين سَمِعوا الرُّعاة تعجّبوا مـمّا قالوا لهم. وكانت مريم تحفظُ جميعَ هذه الأمور، وتتأملّها في قلبها. ورجع الرُّعاة وهم يمجِّدون الله ويُسبِّحونه على كلِّ ما سَمِعوا ورأوا كما قيلَ لهم." (لوقا 1: 8-20).

كان الرّعاة يعيشون في البريّة ولم يكن مؤَّمنًا لهم لا المأكل ولا المنامة، وقد كانوا يتناوبون السَّهر على رعيّتهم. إنّ البريّة تُشير إلى الوَحدة والمتروكيّة: فالرّعاة كانوا يتعرَّضون للمخاطر فيها من دون وجود إمكانيّة لحصولهم على المساعدة، كما أنَّ البعض منهم ماتوا مِن دون أن يدري بهم أحد إلّا بعد مرور فترةٍ طويلة من الزَّمن.كان الرّعاة يسهرون على رعيّتهم في اللّيل وفي النّهار كي لا تُصاب الرعيّة بأيّ أذى، وبالتّالي نتعلّم منهم أهميّة السَّهر في اللّيل والنّهار كي لا يُفاجئنا مجيء الربّ. في كلّ ظهورٍ له، يطلب ملاك الربّ من الإنسان عدم الخوف. إنّ ملاك الربّ لا يأتي إلى الإنسان إلاّ حين يكون هذا الأخير في حالةٍ من الشِّدة والخوف والاضطراب. فمثلاً، حين انتاب يوسف الشكّ في أمر مريم، ظهر له الملاك قائلاً له: لا تخف يا يوسف بأن تأخذ امرأتك إلى بيتك، وقد أحدثَ هذا الظّهور تحوّلاً جذريًّا في حياة يوسف. كذلك، على المؤمن عدم الخوف من أيِّ تغيير في حياته ناتجٍ عن ظهور الربّ له، لأنّ هذا التغيير آتٍ من لَدُنِ الله، وسيكون سببًا لسلامه الداخليّ. لقد بشَّر الملاك الرّعاة "بفرحٍ عظيم"، وهذا الفرح هو نتيجة ولادة المخلِّص المنتظر، وبالتّالي هو فرحٌ لجميع النّاس من دون استثناء. إنّ "اليوم" هو زمن الله، فالله لا يتكلّم عن عمله الخلاصيّ الّذي تمّ في الماضي أو الّذي سيتمّ في المستقبل، فعمل الله الخلاصيّ للبشر يتمّ اليوم وفي كلّ يوم.

إنَّ العلامة الّتي أعطاها الملاك للرّعاة:"طفلاً مُضجعًا مقمَّطًا في مذود"، هي علامةٌ بسيطة، لا تُعبِّر عن مجد الله وعظمته بالنسبة للبشر الّذي يبحثون عن الخوارق لرؤية عظمةِ الله. يعتقد الإنسان أنَّ ظهور الربّ له يجب أن يترافقَ مع أعمالٍ خارقة كزلازل وأعاصير وما شابه من الخوارق، غير أنَّ الله في الحقيقةِ قد أثبتَ للإنسان عكس ذلك حين ظهر له طفلاً مُضجعًا مقمَّطًا في مِذود، فالله يظهر للمؤمِن من خلال المهمَّش والمتروك، وفي أماكن لا يتوقّع الإنسان ظهور الله فيها. إنّ الربّ قد وُلِد في مذود، لأنّه لم يكن له مكان بين البشر، ولكنَّ هذا الكلام لا يعني أبدًا أنّ الله يطلب شفقة الإنسان عليه، لأنَّ مَن يحتاج حقيقةً إلى الشفقة هو الإنسان لا الله المولود في مِذود. وُلِد الطّفل الإلهيّ، في مذودٍ في بيت لحمَ، أي في بيت الخبز، وبالتّالي إن لم يتمكّن المؤمِن مِن كسر خبزه مع الّذين يحتاجونه، فإنّ الربّ لن يتمكّن مِن الولادة فيه، لأنّ الربّ يُولَد في عالمنا من خلال كلّ مهمَّش ومتروك. إنّ الطفل المقمَّط في مِذود، يرمز إلى المسيح المائت، الّذي لُفَّ بالأقمطة، وأُضجِع في قبر يوسف الرّامي الجديد. إذًا، إنّ العلامة نفسها نراها في ميلاد الربّ وموته: "مقمَّطًا مُضجعًا في مذود". وُلد المسيح في مِذود، كي يُميتَ حياة الإنسان القديمة، ليُدخِلَه في حياته الأبديّة الّتي لا موت فيها. إنّ الإنسان لن ينجح في الموت عن الذّات إلّا حين يعطي الحياة لإنسان قد يموت في أيّة لحظة من الجوع، إن لم يحصل على المساعدة من الآخرين.

يذكر الكتاب المقدَّس حضور "جمهورُ الجُند السماويّين" لتسبيح الله، أي وجود عدّة ملائكة لا ملاكٍ واحد. ينقل لنا القدِّيس لوقا مشهدًا مَلكُوتيًّا، من خلال هذا النّص الإنجيليّ، إذ يُخبرنا عن اليوم الأخير بكلامه عن المِذود: فكما أنّ الملائكة تسبِّح الله، الطِّفل الإلهيّ المولود في المذود، ليلاً نهارًا، كذلك تُسبِّح الملائكةُ الله، السّاكن في السماوات والجالس على العرش، في اليوم الأخير. في زمن العيد، يدفعنا الطِّفل المولود إلى تغيير ذهنيّتنا وأفكارنا، فالعالم يسعى إلى طمر المولود فينا وقتله، كما حاولوا طمره حين تجسَّد في أرض البشر. إنَّ العالم لن ينجح في طمر المولود، لأنّه سيظهر في أماكنَ لم يفتكر فيها الإنسان يومًا.
في حدث الولادة الإلهيّة، سبَّحت الملائكة الله قائلةً: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة". يعتقد المؤمنون أنّ هذا النشيد مؤلّفٌ مِن ثلاثة أقسام منفصلة: المجد لله في السّماء، والسّلام في الأرض، والمسرّة في النّاس. إنّ ما رتّله الملائكة ونقله إلينا الإنجيليّ لوقا هو مختلف تمامًا عمّا فَهِمَه البشر من هذا النَّشيد: فالملائكة أخبروا البشر أنّ مجد الله السماويّ قد حلّ بيننا بولادة المسيح المخلِّص، وهو سينعكس سلامًا في الأرض، وفرحًا في النّاس الّذين يُرضُون الله ويقبلون به. إنّ الله الآب قد أَعلن يوم عماد يسوع على نهر الأردنّ، أنّ يسوع المسيح هو سبب مسرّته، قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الّذي به سررت". إذًا، إنّ مسرّة الله الآب هي في الربّ يسوع، وبالتّالي في كلّ الأشخاص الّذين قبلوا الابن ويحاولون التشبّه به. إنّ الربّ يسوع، بولادته على أرضنا، منحنا السّلام الإلهيّ، أي السّلام الآتي مِن لَدُنِ الله.
يخبرنا العهد القديم عن داود الملك الّذي كان راعيًا، وقد اختاره الله من بين إخوته، وجعله مَلِكًا على شعبه، ليُحقِّق مشروعه الخلاصيّ للبشر. غير أنَّ داود قد فشل في تحقيق مشروع الله، إذ نَفَّذَ مشروعه الخاصّ، حين بنى لله هيكلاً صغيرًا في قصرِه معتقدًا أنّه بتلك الطريقة سينال رضى الله. إنَّ "القصر" في اللّغة العبريّة يُسمّى "هيكَل"، والكنيسة الصغيرة أي الكابيلا هي أيضًا في اللّغة العِبريّة تُسمّى "هيكَل". إنّ داود جعل من الهيكل قِسمًا من أقسام قَصرِه الكبير، غير أنّ الله لا يقبل بأن يُصبح قسمًا من أقسام القصر، فهو يرغب في أن يسود على البشر ويملأ حياتهم كلّها من حضوره. إنّ عادة بناء الهياكل في قصور الملوك والمتمولّين هي عادة وثنيّة، استمرّت عبر التّاريخ فَوَصَلَتْ إلى الكنيسة وتغلغلت فيها. إنّ اليهود قد أنشأوا هياكِلَ صغيرةً داخل قصور ملوكهم. وتوارثت المسيحيّة من اليهود تلك العادة، فأصبحت مراكز العبادة، أي الكابيلات، موجودة في القصور المسيحيّة قديمًا، وأصبحت اليوم موجودة في كلّ مراكز البطريركيّات. إنّ المشكلة لا تكمن في بناء الملوك والبطاركة والأساقفة تلك الكابيلات في مراكز إقامتهم، إنّما المشكلة تكمن في ذهنيّة هؤلاء عند بنائهم تلك الهياكل. وهنا السؤال يُطرَح حول هدف هذا الإنسان المتموِّل من بناء الهيكل في مكان إقامته؟ على الإنسان المتموِّل ألّا يبني هذا الهيكل داخل قصره بذهنيّة أنّه من خلال هذا المذبح الصّغير الّذي يُقيمه في بيته، يستطيع إرضاء الله، وبالتّالي الحصول على حمايةٍ منه لكلّ ممتلكاته الأرضيّة. على القصور أن تتحوّل إلى هياكلَ لله لا أن يصبح الهيكل جزءًا صغيرًا من أجزاء القصر. إنّ بناء الهياكل الصغيرة داخل القصور، يُلقي الضوء على إحدى مشاكل الإنسان وهي أنّه يسعى إلى جعل الله شبيهًا به، لا أن يُصبح هو شبيهًا بالله. ينظر المؤمِن إلى المولود الإلهيّ فيرى فيه طفلاً صغيرًا فقيرًا، فيُشفِق عليه، ويتحوّل المؤمِن عندها إلى كتلةٍ من الحنان والعطف تجاه هذا المولود "الضَّعيف" بالنسبة له. إخوتي، إنّ الله قد وُلِد في مذودٍ، مُحاطًا بالبهائم، لا من أجل حصوله على شفقة البشر، بل من أجل ردّ الإنسانيّة المفقودة إلى البشر الّذين يتصرّفون مع بعضهم البعض بطريقة حيوانيّة.

إنّ الرّعاة الّذين تكلّم عنهم الإنجيليّ لوقا، لا ينتمون إلى فئة الرّعاة الّذين تكلّم عنهم العهد القديم على لسان أنبيائه إرميا وحزقيال، قائلاً فيهم: "ويلٌ للرّعاة الّذين يَرعَون أنفسَهم ولا يَرعَون غنمي، يقول الربّ". إنّ الرّعاة الّذين جاؤوا لرؤية المولود الإلهيّ، هم رعاةٌ كانوا يتناوبون السَّهر على رعيّتهم، بحسب قول الإنجيل. بعد سماعهم لبشارة الولادة من الملاك، جاؤوا مُسرعين لرؤية الطِّفل. إنّ عبارة "مُسرِعين" تُشير إلى عدم قدرة هؤلاء الرّعاة على الانتظار أكثر. إنّ هذه العبارة تجعلنا نتذكّر حادثة زكّا العشار، الّذي نزلَ سريعًا استجابةً لطلب يسوع منه، كما يتوارد إلى ذهننا أيضًا مشهد النِّسوة عند القبر اللّواتي اكتشفْنَ قيامة المسيح من القبر الفارغ، فأسرعن لإخبار التّلاميذ بالأمر. عندما يتلّقى الإنسان البشارة الإلهيّة، لا يعود بإمكانه البقاء في مكانه، بل يُصبح مندفعًا إلى نقل تلك البشارة، وبالتّالي يُصبح زمنه زمنًا مُسرعًا ومتحرِّكًا على الدّوام. إنّ أوّلَ إنجيلٍ تمَّ تناقُلُه عبر التّاريخ هو إنجيلُ الرّعاة الّذين أخبروا كلّ الّذين التقوا بهم، بشارة الملاك لهم، وقد اعترت الدهشة كلّ الّذين سَمعوا تلك البشارة مِن الرّعاة.

"وكانت مريم تحفظ جميع تلك الأمور وتتأمّلها في قلبها". إنّ حِفظ الأمور لا يعني أبدًا حِفظها عن ظهر قلب، أي غيبًا، إنّما يعني جعلَ الإنجيل، تلك البشارة السّارة، بعيدةً عن التشويه والفساد. لقد كانت مريم، ذلك الإناء الّذي حمَلَ في داخله بشرى الله الخلاصيّة، وقد حافظَت مريم على تلك البشرى من خلال إخلاصِها لكلمة الله. لقد وصلَت كلمة الله إلينا نتيجة وجود مؤمِنين مُخلِصين حَفِظوا تلك الكلمة مِن الفساد والتشويه، فنقلوها إلينا بكلِّ أمانة. إنّ مريم هي صورة المؤمِن، حافظ الإنجيل. أمّا اليوم، فنجد أنّ المؤمِنين يُدخِلون التعديلات على رواية ميلاد الربّ مدّعين أنّها قصّة الميلاد الحقيقيّة. لقد درجَتْ العادة في عيد الميلاد، أن تجتمع العائلة كلّها، غير أنّ هذا الاجتماع أصبح مناسبةً لظهور الخلافات العائليّة. إنّ وجود الخلافات بين أفراد العائلة الواحدة، يدفعنا إلى طرح السؤال على ذواتنا: أين نحن مِن هذا العيد؟ إنّ الشُّعور بفرح العيد، يُقاس في أيّامنا هذه، من خلال كميّات الشوكولا والحلويات المستهلكة في هذا العيد، كما أصبحت رسائل المعايدة النصيّة عبر كلّ وسائل التواصل الإجتماعيّ، إحدى المقاييس المعتمدة للشُّعور بالعيد، مُتَناسِين أهميّة مشاركتِنا للآخرين في العيد من خلال زيارتنا لهم ومعايدتنا لهم في هذه المناسبة السّارة.

إنَّ الرّعاة سبّحوا الربّ ومجَّدوه كما فعل الجند السماويّون، وذلك من خلال إعلانهم بشارة ولادة الـمُخلِّص للآخرين. إنّ البشارة بولادة الربّ تمّت على لسان الرّعاة الّذين بشَّروا الآخرين بها، وإعلان قيامة الربّ يسوع تمَّ من خلال البستانيّ الّذي ظهر لمريم المجدليّة حين جاءت صباح الأحد لتُحنِّط جسد الربّ، وتَمجَّد الربّ في القيامة حين ظهر لتلميذَي عماوس من خلال ذلك الغريب الّذي رافقهما طوال مسيرة عودتهما إلى قريتهما. لقد لجأ الإنجيليّ لوقا إلى كلّ تلك الصُّوَر ليقول لنا إنّ الربّ يتجلّى للمؤمنين به من خلال الأشخاص الّذين لا يهتمّ بهم أحد ولا ينالون حظوةً في عيون إخوتهم البشر في الكثير من الأحيان. إذًا، كي يتمكّن المؤمِن من رؤية المسيح، مولودًا، قائمًا أو ممجَّدًا في حياته اليوميّة، عليه أن يهتمّ بالأشخاص المولودين في هذه الحياة والّذين يعيشون فيها كأنّهم أمواتًا، غير مولودين، إذ لا أحد يهتمّ باحتياجاتهم البشريّة. إنّ المؤمِن سيشعر بفرح ولادة المسيح فيه، حين ينجح في إسعاد أحد المحتاجين الّذين ما عادوا يعرفون طعم الفرح، وقد غابت الابتسامة عن وجوههم بسبب عَوَزِهم.

إنّ رواية الميلاد عند الإنجيليّ متّى تتضمّن طَرافةً، أي مشهدًا مسرحيًّا يحتوي انتقادًا ساخرًا. وهذه الطرافة نجدها في تصرّف المجوس مع الملك هيرودس إذ جاء هؤلاء سائلين ملك اليهوديّة، هيرودس، عن ملك اليهود المولود حديثًا. إنّ السؤال الّذي طرحه المجوس على هيرودس يعبّر عن اعترافهم بالمولود الإلهيّ ملكًا لليهود بدلاً من هيرودس، ولذا قرّر هيرودس قتل المولود في بيت لحم، لأنّه يشكّل خطرًا على عرشه، فيبقى هو الحاكم الوحيد في مملكته. إنّ القوانين في الممالك، تقضي بوجود ملك واحدٍ في كلّ مملكة، يجلس على العرش ويحكم مملكته. وبالتّالي، فإنّ وجود مَلِكين في مملكةٍ واحدة يُنبئ بانقسام المملكة وخرابها، وهذا ما يبرِّر اضطراب الملك هيرودس وكلّ رؤساء اليهوديّة، عند سماعهم تلك البشارة. إنّ اضطراب هيرودس ومعه سائر رؤساء اليهود، يذكِّرنا بحدث الصّلب، حين اضطرب قيافا ومعه كلّ رؤساء اليهود، ورفعوا قضيّتهم في شأن يسوع إلى الامبراطور الرومانيّ طالبين منه قتله وصلبه.

إنّ المجوس الغرباء نقلوا لليهود خبرَ ولادة ملكهم؛ أمّا في الصّلب، فقد اعترف اليهود بشخص رؤسائهم أنَّ ملكَهم هو القيصر لا يسوع. في الميلاد، اعترف المجوس بالملك الإلهيّ وسجدوا له، رافضين الخضوع لملكٍ بشريّ؛ أمّا في الصّلب، فقد اعترف اليهود بالقيصر، الملك الوثنيّ، ملِكًا عليهم بدلاً من يسوع، الملك الإلهيّ. إنّه لغريبٌ أن يسجد المجوس للمخلِّص، هم الّذين لم يكونوا بانتظاره، في حين رفض اليهود، الّذين كانوا في انتظار مجيئه، السُّجودَ له. إنّ هذا الأمر، يفسِّر لنا ما ورد في الكتاب بأنّ الآخِرين يُصبحون أوَّلِين، والأَوَّلون يُصبحون آخِرِين، معتمدين يسوع المسيح معيارًا لنا. إنّ سجود المجوس للطِّفل المولود، يُعبّر عن خضوعهم له. لقد استجوب هيرودس المجوس حول مكان ولادة الطِّفل الإلهيّ، لا ليسجد له كما ادعّى أمامهم، إنّما كي يقتله، فيقتل في الوقت نفسه، وعد الله لشعبه الّذي تحقّق من خلال ولادة هذا الطِّفل، وبالتّالي فإنّه يقتل الوعد الّذي كان الأساس في اختياره ملكًا على الشَّعب اليهوديّ.

إنّ تصرُّفَ هيرودس مع المجوس كان تصرُّفًا شيطانيًا لأنّه مُستنِدٌ على الغشّ والخداع: إذ قد استدعى هيرودس المجوس، سرًّا وفي اللّيل، طالبًا منهم البحث عن الطِّفل ومن ثمّ العودة لإخباره بمكانه. إنّ أورشليم، الّتي يحكمها هيرودس، هي صغيرة المساحة بالنسبة إلى باقي الممالك، وبالتّالي كان على هيرودس، أن يطلب من الجيوش العسكريّة في المملكة البحث عن هذا الطِّفل، لا أن يُكلِّف الغرباء بتلك الـمَهمَّة. إنّ المجوس جاؤوا من المشرق ليبحثوا عن هذا الطِّفل ويسجدوا له، لذا كان مؤكَّدًا أنّهم لن يعودوا إلى بلادهم قبل أن يجدوه، لذلك طلب منهم هيرودس العودة إليه لإخباره بمكان المولود. إنّه لمستحيل على هيرودس الملك أن يجد الطِّفل في أثناء بحثه عنه، لأنّه لا يبحث عنه بِغَرَض السُّجود له، إنّما بهدف قتله، فتفكير هيرودس هو تفكيرٌ شيطانيّ لا إلهيّ. إنّ الأُمَم الوثنيّة قادرةٌ على إرشاد المؤمنين إلى الإله الحقيقيّ وعلى مكان ولادته في وَسَطِهم أكثر من رؤساء المؤمنين وملوكهم.

إنّ الإنجيليّ متّى يذكر لنا ظُهورَين للملاك على يوسف: في الأوّل، وكان ذلك قبل ولادة الطِّفل، طالبًا منه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيته؛ وفي الثّاني، وكان بعد ولادة يسوع، ظهر له الملاك طالبًا منه أن يأخذ الصَّبي وأمّه ويهرب بهما إلى مِصر. وبالتّالي يمكننا الاستنتاج من هذا الكلام، أنّ مريم قبل الولادة،كانت مرتبطة بيوسف إذ قال له الملاك عنها "امرأتك"؛ أمّا بعد الولادة، فقد أصبحت مريم بالنسبة للملاك "أمّ الصّبي"، أي أنّها أصبحت مرتبطة بالطِّفل يسوع لا بزوجها يوسف.

حين وجد المجوس الطِّفل، قدّموا له الهدايا الّتي تُعبر عن اعترافهم به إلهًا ومَلِكًا عليهم. قدّم المجوس للطِّفل الذهبَ الّذي يرمز للمَلَكيّة، والبخور للألوهة، والمرَّ للشهادة. من خلال هداياهم، يَظهرُ لنا أنّ المجوس قد أدركوا هويّة يسوع ورسالته أكثر من الشَّعب اليهوديّ الّذي ينتمي إليه يسوع. إنّ المجوس فعلوا كما أمرهم الملاك في الحلم، فعادوا إلى بلادهم في طريق أخرى، من دون العودة إلى هيرودس الملك.
بالنسبة لمتّى الإنجيليّ، تُشكِّل ولادة المسيح عمليّة خلقٍ جديدة للبشريّة، ومشروع خلاص جديد لهم. إنّ فكرة خلاص الله لشعبه، في العهد القديم، ظهرت أوّلاً في تحرير الشَّعب من عبوديّته في مِصر، وخروجه منها إلى أرض الوعد. أمّا في إنجيل متّى، فنقرأ أنّ يوسف هرب بالصبيّ وأمّه إلى مِصر، استجابةً لطلب الملاك، لأنّ اليهود أرادوا التخلُّص من يسوع بقتله. لقد أراد اليهود، قتل المولود الإلهيّ، ومعه كلّ الّذين يُشبهونه. وهذا ما يختبره في عالم اليوم، كلّ حاملٍ للواء الحقّ، كلمة الله، إذ يتعرَّض للقتل من قِبَل أبناء هذا العالم الرافض للحقّ، فالعالم لا يرغب بسماع أصوات الحقّ الّتي تُدينه على أعماله الشريرة. ولكن لم ينجح العالم في قتل الحقّ، لذا سعى إلى قتل كلّ الّذين ينادون به، وهذا ما حصل مع أطفال بيت لحم، الّذين قُتلوا على يد جنود الملك. إنّ الباطل لا يستطيع أبدًا أن يُعرقل مشروع الله، وهذا ما نراه في هروب يوسف مع الطِّفل وأمّه إلى مِصر. فالطِّفل يسوع قد نجا من الموت على يد هؤلاء الجنود، بذهابه إلى مِصر، وثمّ عاد، بعد زوال الخطر عنه، وبهذا نرى خروجًا جديدًا للشَّعب اليهوديّ من مِصر، يفتَتِحه يسوع المسيح.
عاد الطِّفل وأمّه ويوسف من مِصر، لكي يتمّ ما قيل بالأنبياء "إنّه يُدعى ناصريًّا". في الكتاب المقدّس، العهد القديم، لا نجد سفرًا يُطلق عليه اسم "الأنبياء"، إذ لكلّ نبيٍّ سِفره الخاصّ، على سبيل المثال سِفر إرميا، سِفر أشعيا، سِفر حزقيال. عادةً، يقول النبيّ نبوءةً تتحقّق في المستقبل، وحين تتحقَّق يُقال إنّ النبوءة الّتي أطلقها النبيّ فُلان قد تحقّقت. إنّ هذه النبوءة: "إنّه يُدعى ناصريًّا"، غير موجودة في كلّ الكتاب المقدَّس. وهنا نطرح السؤال، أين يكمن الخطأ في هذه النبوءة: أَنقل إلينا الإنجيليّ أمرًا من تأليفه أي غير صحيح تاريخيًّا، أم أنّ السَّبب يكمن في الطباعة أو في الترجمة؟ إنّ كلمة "جِذِع"، أو "قضيب" في العبريّة تُتَرجم "نِتْسِر". إنّ النبيّ إشعيا تنبَّأ قائلاً إنّ قضيبًا سيخرج من جِذع يسّى وسيكون الرّاعي الحقيقيّ والوحيد للشَّعب. هذا هو اعتراف المؤمنين بيسوع، إنّه "نِتسِر"، أي القضيب الّذي خرج من جِذع يسّى، وهو الّذي سيكون حقًّا راعي شعب الله الوحيد.

في هذا العيد، على المؤمِن أن يستعدّ لا للقاء الطِّفل المولود في مِذود بيت لحم، فيُشفِق على حالته، إنّما للقاء الرّاعي والإله والمخلِّص، ومُعطيه الحياة، والنّور لحياته الأرضيّة. إنّ الإنسان سيشعر بالفرح الّذي لا وصف له، والّذي لا يستطيع أحدٌ أن ينتزعه منه، حين يلتقي هذا المولود. إذًا، على المؤمِن أن يختار: إمّا أن يكون يوم الميلاد، يوم لقائه بالمخلِّص، فيحصل على الفرح الّذي لا يزول، وإمّا أن يكون يوم الميلاد، يوم لقائه بالطِّفل الّذي يحتاج إلى الشفقة، فينتهي العيد حينها عند انتهاء نهار العيد وبداية نهار آخر. إنّ القرار بِيَدِك أيّها المؤمِن، فماذا تختار؟ أيُّ لقاءٍ وأيُّ فرحٍ؟ آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
4/12/2017 عيد الشهيدة القدّيسة بربارة والقدّيس نيقولاوس العجائبي الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/uYsstVOF0vU

"أن تموت لأجل الشهادة ولأجل الفقير"

تأمّل في عيد الشهيدة القدّيسة بربارة (4 ك1)
والقدِّيس نيقولاوس العجائبي (6 ك1)
للأب ابراهيم سعد

4/12/2017

في خِضمِّ التحضير لعيد ميلاد الربّ وقَبْلَ حلوله، نجتاز مراحل عديدة تَضعها لنا الكنيسة، من أجل مساعدتِنا على إدراك المعنى الحقيقيّ لهذا العيد. وبعد حلول العيد، نلتمس ثماره ونتائجه في حياتنا اليوميّة.

يبدأ شهر عيد الميلاد، أي شهر كانون الأوّل، بمناسبتين مُهِمّتين هما: أوّلاً عيد القدِّيسة بربارة، وثانيًا عيد القدِّيس نيقولاوس.
في مسيرة حياة القدِّيسة بربارة، تُركّز الكنيسة على أنّ تلك القدِّيسة قد أحبَّت المسيح بإخلاص، وقد قادها حبّها له إلى الاستشهاد. لقد أَخلَصَت تلك الفتاة للمسيح، أي لكلمة الحقّ، وعزَمَتْ على الشَّهادة لإيمانها به حتّى لو كلّفها ذلك حياتها. إذًا، إنّ حياة القدِّيسة بربارة تُظهر لنا الوجه الأوّل لعلاقة المؤمن بالله، وهو الإخلاص الكامل لله والعطاء الكامل له: عطاء الذّات، عطاء الحياة. إنّ حياة المؤمن على هذه الأرض لا تُساوي شيئًا أمام الحياة الّـتي يَعِدُه بها الربّ، في قدومه إليه في هذا العيد.

أمّا حياة القدِّيس نيقولاوس، فتُظهِر لنا الوجه الآخر لعلاقة المؤمن بالله: إذ إنّ القدِّيس نيقولاوس قد رأى الله ومسيحه في وجه الآخر المحتاج، فعبّر من خلال مساعدته للآخر عن حبّه للربّ وإخلاصه له. لقد اكتشف القدِّيس نيقولاوس حبّ الله له لا من خلال مذبحٍ حجريّ، إنّما من خلال مذبح متحرِّك هو الإنسان المحتاج. لقد اتَّخذ سجود القدِّيس نيقولاوس لله أشكالاً مختلفة: أوّلاً سجود أمام الربّ الآتي، وثانيًا سجود أمام الآخر. إنّ هذين النوعين من السّجود هما في الحقيقة وَجهان مختلفَان لسجودٍ واحد هو سجود القدِّيس أمام الله الحقّ، لأنّ الله يسكن في كلّ إنسانٍ وبخاصّة في الإنسان الآخر الفقير. وبالتّالي، يعكس لنا الإنسان الفقير صورة المسيح السّاكن فيه، ولذا نسجد له وننحني لمساعدته، فالفقير هو المسيح الآتي إلينا في كلّ يوم.

في بداية هذه المرحلة التحضيريّة لعيد ميلاد الربّ، تُشكّل حياة القدِّيسة بربارة وحياة القدِّيس نيقولاوس الشَّهادة الواضحة لانتظار المولود الملك المخلّص: إذ إنّ كلَّ واحدٍ منهما يُعبّر عن إخلاصه للربّ بطريقة مختلفة عن الآخر، وبالتّالي يُقدِّمان من خلال حياتهما نموذَجين يستطيع المؤمن تطبيقه في حياته اليوميّة: الإخلاص للربّ حتّى الموت، والإخلاص للربّ من خلال مساعدة الآخر الفقير المعرَّض للموت في كلّ حين. لقد اختفى القدِّيس نيقولاوس في انحنائه أمام الفقير كي يتمكّن من أن يرى الفقير حبّ الله له. كان القدِّيس نيقولاوس يذهب في اللّيل، أي في الخفاء، لمساعدة الفقراء والاهتمام بهم، إضافةً إلى إعلانه كلمة الله ومُجاهرته بها، وحقّق بهذه الأعمال معنى اسمه. إنّ معنى اسم القدِّيس"نيقولاوس"، هو الشَّعب المنتصر الظّافر. إنّ معركة القدِّيس نيقولاوس كانت في مساعدة الفقراء وقد انتصر فيها، إذ تمكّن من إعلان حبّ الله لهم من خلال مساعدته لهم.

في هذه المرحلة التحضيريّة لعيد ميلاد الربّ، تُقدِّم لنا الكنيسة نموذَجَيْن للشَّهادة: فإمّا الموت عن طريق الاستشهاد، دفاعًا عن إيمانك بالربّ، وإمّا الموت عن الذّات من أجل الفقير.

ملاحظة: دُوِّن هذا التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرّف.

تتمة...
21/11/2017 في زمن الاستعداد لميلاد الربّ يسوع الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/4DG8_i3PBFQ

تأمّل في في زمن الاستعداد لميلاد الربّ يسوع
للأب ابراهيم سعد

21/11/2017

في زمن الاستعداد لعيد ميلاد الربّ، نلاحظ أنّ بعض المسيحيّين يتصرّفون مع بعضهم البعض كمُلحِدين لا كمؤمنين بالله.
إنّ الـمُلحِد هو إنسان يرفض الاعتراف بالله والإيمان به، ولكنّه يتعامل بمحبّة وباحترام مع الآخرين. إنّ بعض المؤمنين يعترفون بحضور الله في أماكن العبادة فقط، ويتصرّفون خارج الكنيسة بطريقة لا تعكس إيمانهم، ولكنّ تعاملهم مع الآخرين مبنيّ على الاحترام والمحبّة. إنّ هذا الأمر يدفعنا إلى طرح السؤال: ما الفرق بين الـُملحد والمؤمِن، إن كان هذا الأخير يعترف بوجود الله في مكان العبادة فقط، ويتعامل مع الآخرين بكلّ احترام ومحبّة، تمامًا كما يفعل الـمُلحد؟ إنّ الـمُلحد هو إنسان لم يلمس أي تدخّل مِن قِبَل الله، لحلّ الأزمات الّـتي تُعاني منها البشريّة، كالفقر والحرب وسواها من الأمور، على الرغم من تضرّعاته في السّابق لله، وفي هذا تكمن مشكلته مع فكرة وجود الله. إنّ عدم تدخّل الله في مآسي البشر، يدفع الـمُلحد إلى طرح السؤال: إن كان الله موجودًا حقًّا، لماذا لا يتدخّل ويُوقف كلّ تلك المآسي؟ إنَّ عدم استجابة الله لتضرّعات البشر، يدفع البعض إلى تصديق فكرة عدم وجوده. في قلب الإنسان الـمُلحد، رغبةٌ عميقةٌ لإصلاح الأمور المعوجَّة في هذه الدّنيا، لأنّه يرفض الظّلم، لذا يطلب المساعدة من الربّ ولكن ما مِن مُجيب له. إنّ عدم تدخّل الله في الإزمات الكبيرة، تُشكِّل صعوبةً أساسيّة أمام المؤمِنين في إقناع الآخرين بحقيقة وجود الله، ممّا يدفع المؤمِنين إلى طرح السؤال حول الطريقة الّـتي يجب اعتمادها لإقناع الآخرين بوجود الله. لا يستطيع المؤمِن اللّجوء إلى الأفكار الفلسفيّة والعقائدية اللاهوتيّة، لإقناع الـمُلحد بحقيقة وجود الله، لأنّ الله هو أساسًا غير موجود في نظر الـمُلحِد، لذا لا نستطيع إقناعه بقولِنا له إنّ الله خلق العالم وهو موجود في السّماء. كما لا يستطيع المؤمِن أن يُثْبِتَ للمُلحد وجود الله من خلال الطبيعة، لأنّها بدَورها أثبتَتْ له عدم وجود الله. إنّ الـمُلحِد يؤمِن بأنّ الكون قد خُلِق نتيجة الانفجار الكونيّ، كما يؤمِن بنظريّة التطوّر الإنسانيّ، وبالتّالي لا وجود لله في حياته.

إنّ الـمُلحِد هو إنسانٌ مثّقفٌ جدًّا، إذ يلجأ إلى العلم لفَهمِ كلّ ما يدور حوله، والمؤمِن الّذي يُلحِد هو إنسان قد تعرَّض لأزمةٍ كبيرةٍ لم يتمكّن مِن لمس حضور الله فيها. قد يبدو الإنسان الـمُلحِد مرتاحًا ظاهريًّا، لكنّه يتعذّب ويتألّم داخليًا: فالـمُلحد يتألّم كثيرًا لأنّه طلب من الله كثيرًا أن يتدخّل ليُلغي الظّلم من العالم ولم يجد جوابًا على طِلباته، لذا أعلن إلحاده واستراح مِن كلّ الواجبات الدّينيّة الّتي يُلزِم المؤمِن نفسه بها تجاه الله، إذ لا جدوى من الصّلاة إلى إلهٍ لا يستجيب إلى صراخ شعبه. إنّ الـمُلحد هو إنسانٌ جائعٌ إلى الله ومتعطِّش إليه، غير أنّ هذا الظمأ لم يُروَ في قلب الإنسان الـمُلحِد.
إنّ مشكلة الإنسان مع فكرة وجود الله، هي مشكلة داخليّة خاصّة بالإنسان. إنّ الإنسان الـمُلحِد يشعر أنّ الله قد تركه وما عاد يهتمّ لأمره. لذا، كي يتمكّن المؤمِن من إقناع الـمُلحِد بوجود الله، عليه أن يُظهر له أنّه ليس متروكًا من إخوته البشر على الرّغم من كلّ نقائصهم. إنّ مَهمَّة المؤمِن تقوم على محاولة ملءِ الفراغ الموجود عند الـمُلحد بسبب رفضِه لله وعدم إيمانه به. إنّ المحبّة الّتي يُظهرها المؤمِن للـمُلحِد، من شأنها أن تطرح سؤالاً مُحيّرًا على الـمُلحدِ، تدفعه للبحث عن سبب كلّ تلك المحبّة الّتي يُظهرها له المؤمِن. يكفي أن يَطرح الـمُلحد هذا السؤال على نفسه، كي يكتشف الحبّ المجانيّ. إنّ الحلّ إذًا، لا يكون بإقناع الـمُلحِدين بوجود الله من خلال العقائد اللاهوتيّة الفلسفيّة، إنّما من خلال التصرّفات الّتي تعبّر عن محبّة المؤمنين لهم. أمام خيبة الأمل الّتي تعرَّض لها الـمُلحد والّتي لا يزال يُعاني من آثارها في حياته، على المؤمِن أن يسعى إلى خلقِ صدمةٍ إيجابيّة في نفس ذلك الإنسان، تدفعه إلى مراجعة الاستنتاجات السلبيّة الّتي كان قد تَوَصَّلَ إليها في السّابق. إنّ الاستنتاجات الخاطئة عند الـمُلحد حول الله، تتحوّل إلى صنمٍ، وبالتّالي كي يقتنع الـمُلحِد بوجود الله، على المؤمِن أن يسعى إلى تكسير تلك الأصنام عند الـمُلحِد أوّلاً من خلال إظهاره الحبّ المجانيّ لذلك الإنسان الرافض فكرة وجود الله. إنّ حبَّ المؤمِن للمُلحد وتعاطفَه معه هو الجسر الّذي يصل نفس هذا الإنسان بالله. يقول البابا فرنسيس: كي يتمكّن المؤمِن من الدّخول إلى ملكوت الله، عليه أوّلاً أن يحصل على المفتاح، الّذي هو تلبية حاجة الآخر المحتاج والفقير.

إنّ الـمُلحد يتمسَّك بقناعةٍ يرفض التخلّي عنها وهي أنّ لا وجود لله. لذا حين ينجح المؤمِن في كسر تلك القناعة، ذلك الصّنم عند الـمُلحد، من خلال المحبّة الّتي يُظهرها له، عندها سيقوم الـمُلحِد بالبحث عن قناعةٍ جديدةٍ صالحة كي تكون إلهًا له، إذ لا يستطيع الإنسان العيش من دون إله. إنّ الـمُلحد يهرب من الإله الحقيقيّ لأنّه لم يختبر حضوره، وقناعته الّـتي كانت تُشكِّل له إلهًا قد تكسَّرت أمام محبّة المؤمنين الّـتي اختبرها. لذا يجعل الـمُلحد من ذلك المؤمِن الّذي أَظهر له المحبّة المجانيّة، ملجأه الوحيد، فيكتشف من خلاله الإله الحقيقيّ، المنسيّ مِن قِبَل الـمُلحِد، فيؤمن به. إنَّ أعظم أعجوبة يقوم بها المؤمن حين ينقل الله من العرش السماويّ إلى قلب إنسانٍ رافضٍ له من خلال إظهار المحبّة المجانيّة. هذا ما اختبره كثيرون من الـمُلحِدين ومن غير المؤمنين، فاندفعوا إلى إعلان إيمانهم بالله الّذي اكتشفوه من خلال لطف الآخر ومحبّته لهم، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ قرّروا التعرّف إليه استنادًا إلى الدّروس اللاهوتيّة والعقائديّة. إنّ الفرق كبير بين تلبية رغبة الآخر فتتحوّل إلى إلهٍ لهذا الأخير، وبين تلبية حاجة الآخر فيتمكّن هذا الأخير من رؤية الله في أعمالك تجاهه فيعبد الله. إنَّ المطلوب من المؤمِن هو سَعْيِه لتلبية حاجات الآخرين الضروريّة والـمُلِحَّة، لا تلبية رغباتهم. إنّ بعض القدِّيسن كانوا مُلحِدين لا يعرفون الله، ولكنّهم اختبروا الله وتعرّفوا إليه من خلال أعمال محبّة عبّر بها بعض المؤمنين عن محبّتهم لهؤلاء، فآمنوا بالله، وأحبّوه حتّى النِّهاية، أي حتّى الموت شهداء حبًّا بالربّ يسوع. إنَّ مُعظم القدِّيسين، على سبيل المثال القدِّيسان نيقولاوس وباسيليوس، لم يُعلّموا الله للمؤمنين من خلال الدّروس اللاهوتيّة والعقائديّة في الجامعات والمدارس، إنّما علّموه للمؤمنين من خلال تصرّفاتهم اللّطيفة والوديعة معهم. إنّ القدِّيس الروسيّ سيرافيم سواروفسكي كان يقول عند رؤية أخيه الإنسان: "يا فرَحي، المسيح قام"، إذ كان يجد في الآخر المسيح حيًّا قائمًا من الموت.

تحتاج الكنيسة، في عالمنا اليوم، إلى تبسيط الإيمان للمؤمنين ليُدركوا حقيقة الإله الّذي يؤمنون به، فيكُّفوا عن التصرّف كـ"باقي الأُمم". إنّ الوسائل الانفعاليّة الّتي يلجأ إليها بعض المؤمنين في تصرّفاتهم مع الآخرين هي وسائل وثنيّة لا مسيحيّة. إنّ الـمُلحِدين، على سبيل المثال، لا يتردّدون في الاعتذار عن تصرّفاتهم الخاطئة، حين تُعلَن لهم كلمة الحقّ، بل وَيَسْعُون إلى تصحيح أخطائهم، وتصرّفهم هذا يُعبّر عن تواضعهم الفكريّ. إنّ المسيح يظهر للآخرين من خلال كلّ مؤمن متواضعٍ في عيشه وفي تصرّفه مع الآخرين الّذين يُحيطون به. إنّ الإنجيل يقول: إنّ الحجر الّذي رذله البناؤون صار حجرًا للزاوية. إنّ الإنسان لا يمكنه التغاضي عن كلمة الحقّ، يسوع المسيح، حجر الزاوية: لأنّه إمّا أن يقع الحجر عليه فيُقتَل، وإمّا أن يقف عاجزًا عن متابعة مسيرته بسبب هذا الحجر، وبالتّالي لا يوجد حلٌّ آخر أمامه سوى مواجهته. إنّ المؤمِن المتواضع هو إنسانٌ قد واجه كلمة الله وقَبِلَ بها في حياته، ولم يسمح لها بأن تسحقه، أو أن تعرقل له مسيرته. إنّ المؤمِن المتواضع في تصرّفاته يعكس للآخرين تواضع المسيح وحبّه ولطفه وخدمته للبشر، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان الّذي يُشاهد مثلَ هذا التواضع إلّا وأن يعترف بالله ويؤمن به، فإنّنا نؤمِن بفعل الرّوح القدس في قلوب البشر. يخبرون عن فتاة، لم تتجاوز التسع سنوات من عمرها، أتت مع والدتها لحضور محاضرة يلقيها أحد الآباء المشهود لهم بتجذّرهم الإيمانيّ. عند انتهاء تلك المحاضرة، سألت الفتاة والدتها إن كان كلام هذا الكاهن قد تمكّن من إقناع أحد الـمُلحِدين ورَدِّه إلى الإيمان والتعرّف على حبّ الله، فكان جواب الوالدة إيجابيًا. عندها استنتجت الفتاة أنَّ هذا الكاهن يحظى برضى الله لأنّه نجح في مساعدة الآخرين على حبّ الله من خلال كلامه، وقرّرَتْ التشبّه به كي تُرضي الله على مثاله. إذًا، لا يتمّ تعريف الآخرين إلى الله من خلال دروس لاهوتيّة عقائدية صعبة الفهم، إنمّا من خلال أمور بسيطة يقوم بها المؤمِن مع الآخرين تُعبّر عن حبّ الله لهم ولطفه. ويُخبرنا الإنجيل أنّ يسوع قد لبّى حاجة أعمى للنّظر، وحين فتح هذا الأخير عينيه تمكّن من رؤية المسيح. إذًا، لا يستطيع الإنسان أن يرى المسيح إلّا من خلال تلبية المؤمِن لحاجات الآخرين.

على الكنيسة أن تعيش بساطة الإنجيل، وأن تعيد شرح الإنجيل للمؤمِنين ببساطة، فيتمكّنوا من عيش إيمانهم ببساطة ومن دون تزلّف. وبالتّالي، لا يجب التكلّم عن القدِّيسين وكأنّهم أشخاص خارقون للطبيعة، بل على الكلام أن يعكس واقع القدِّيسين الحقيقيّ: فالقدِّيسون هم بشر ضُعفاء نجحوا في التغلّب على ذلك الضُعف البشريّ بفضل حبّهم ليسوع. إنَّ مشكلة المؤمِن تكمن في أنّه يضع هالة عظيمة على رأس القدِّيس، كأنّ القدِّيس هو مخلوق خارقٌ للطبيعة لا كسائر البشر. نعم إخوتي، تحتفل الكنيسة بأعياد قدِّيسين غير معروفين مِن قِبَل المؤمنين لأنّهم لم يقوموا بأعمال خارقة. إنّ المؤمنين يُحبّون الخوارق، لذا يلجؤون إلى القدِّيسين الّذين ارتبطت قداستهم بالأعاجيب، غير أنّ قدِّيسين آخرين غير معروفين، عاشوا حياة متواضعة خفيّة، جاعلين من الفقراء أسيادًا لهم، فانهمكوا في خدمتهم وتلبية احتياجاتهم. إنّ الفكرة السائدة عند المؤمنين عن الله هو أنّه إله جبّارٌ، وبالتّالي كلّ حاشيته من ملائكة وقدِّيسين هم أيضًا جبابرة. إنّ الله يرفض هذه الفكرة المغلوطة عنه عند المؤمِنين، لذا قرّر أن يُرسِل ابنه ليتجسّد بين البشر ويصبح إنسانًا مثلهم، ولكنّ البشر رفضوا القبول بالله إلهًا متجسدًا ضعيفًا، لذا أعادوه إلى سمائه ليتمكّنوا من الاستمرار بالتمسُّك بفكرة أن الله جبارٌ وبعيدٌ عن البشر، أي أنّه لا يمكن لله أن يكون مثل البشر، وكذلك لا يستطيع المؤمِنون أن يكونوا مثل الله.

في رعايتها للمؤمِنين، على الكنيسة أن تُصغيَ إلى معاناة شعبها وتسعى إلى تحمّل مسؤوليّتها تجاه أبنائها فتساعدهم على تخطّي صعوباتهم المعيشيّة، كما عليها أن تنقل إلى المؤمِنين سِيَر حياة القدِّيسين الّذين تألّموا، لا من ذهنيّة أنَّ الله هو سبب أوجاعهم، بل من ذهنيّة أنّه مهما أصابهم من الآلام عليهم أن يتحمَّلوها بفرح كما تحمَّل المسيح آلامه، فتتحوّل تلك الآلام إلى سبب لِقداستهم. إنّ المؤمنين المتألِّمين يلجؤون إلى الصّلاة والتضرّع إلى الله من أجل شفائهم، وحين لا ينالون الشِّفاء يبتعدون عن الله.

المسيح لم يتجسّد من أجل شعبٍ دون آخر، بل تجسَّد من أجل كلّ البشر من دون استثناء، وبالتّالي فإنّ الجميع مشمولون بخلاص الربّ للبشر. إخوتي، إنّ خلاص المؤمِنين لا يكون بانتمائهم إلى الكنيسة، إنّما يكون بقبولهم يسوع المسيح، ربّ الكنيسة. في نصّ تجارب يسوع في البريّة، نجد أنَّ يسوع لم يقبل بتحويل الحجارة إلى خبز، مع العلم أنّه لو فعل ذلك لكان قَبِل به اليهود، لأنّهم كانوا ينتظرون مسيحًا جبّارًا يقوم بالأعاجيب. إنّ اليهود لم يقبلوا بالمسيح، لأنّه وجدوا في بقائه على الصّليب، علامة ضُعفٍ إذ كانوا ينتظرون منه أن يُخلِّص نفسه من الصّليب وينزل إليهم، ليقبلوه في وسطهم زعيمًا أرضيًّا ومَلِكًا عليهم. إنّ المسيح لم يتجسَّد على هذه الأرض، كي يكون على مثال البشر، خاطئًا، بل تجسَّد ليجعل من البشر على مثاله، آلهةً. إنّ الإنجيل يقول لنا: إنّ اليهود يطلبون الآيات، واليونانيين يطلبون حكمةً، أمّا المؤمنون فإنّهم يجدون في الصّليب قوّة الله وعظمته.

لنُصلِّ إخوتي، كي نتمكّن من رؤية المسيح في كلّ محتاجٍ، ونتأهّب لمساعدته. إنّ المحتاج هو المسيح المولود في يومنا هذا، وهو يحتاج إلى تلبية حاجاته. إنّ المسيح يسوع قد وُلِد مرّةً في التّاريخ، ولذا إن ذهبنا اليوم إلى الأراضي المقدَّسة، فلن نجد أي مولود إلهيّ، لنقدِّم له السّجود والهدايا. إنّ المولود الإلهيّ، يسوع المسيح في أيّامنا هذه، لم يعد موجودًا في بيت لحم وحسب، إنّما هو موجود في كلّ بقاع الأرض. إنّ "بيت لحم" هي كلمة عبريّة، تعني بيت الخبز. إذًا، كي نتمكّن من رؤية المولود الإلهيّ، علينا أن نذهب إلى كلّ مَن يحتاج إلى الخبز الأرضيّ، ونُعطيه من خبزنا، فيُولَد المسيح في قلوبنا، ونتمكّن من رؤيته في بيت لحم. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
23/5/2017 عيد العنصرة الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/OmJujgwsHGA

عيد العنصرة
الأب ابراهيم سعد

23/5/2017

يحظى عيد العنصرة في الكنيسة بأهميّة كبرى، كسائر الأعياد الكنسيّة، إذ إنّه يدخل ضمن سلسلة الأحداث الخلاصيّة. إنَّ عمل الله الخلاصيّ الّذي لم ينتهِ بموت المسيح وقيامته، بل استمرّ حتّى العنصرة. أمّا شعبيًّا، فقد أصبح هذا العيد في طيّ النِّسيان تقريبًا إذ إنّه لا يترافق مع احتفالات يُعبَّر فيها عن معنى العيد الروحيّ بمباهج أرضيّة، كتحضير المأكولات الخاصّة أو زِينَة معيّنة. كاد هذا العيد أن يَغيب عن ذاكرة المؤمنين لو لم يُصادف وقوعه يومَ أحدٍ.

ينبثق عيد العنصرة مِن قولِ الربّ لِرُسُلِه يوم صعوده إلى السّماء، إنّه سيُرسِل إليهم الرّوح القدس ليُذكِّرهم بكلّ ما قاله لهم وعلّمهم إيّاه، ولِيُرشِدهم إلى الحقّ كلّه. بعد عيد الفِصح، يعيش المؤمنون مرحلةً مِنَ الاسترخاء الروحيّ، لذا يأتي هذا العيد، ليُذكِّرنا باستمرارِ عملِ الله الخلاصيّ مِن خلال حلول الروح القدس على الرّسل: فالرّوح القدس مَنَحَ الرّسل القوّة والاندفاع لإعلان البشرى السّارة للخلق أجمع، وبَعَثَ في نفوسهم الحياة إذ إنّه الرُّوح الـمُحيي. بعد حلول الرّوح القدس على الرّسل في العليّة، نال بطرس الجرأة، فألقى خُطْبَتَه الأولى أمام الشَّعب، فارتدَّ مِنهم الكثيرون إلى المسيحيّة. بعد حلول الرّوح القدس، فَهِم بطرس أنّ اسمه يعني "الصّخر"، وأدرَك أنّه يستطيع القيام بأعمال أعظم مِن تِلك الّتي قام بها يسوع، متى تَجَاوبَ مع عملِ الرّوح. في العنصرة، تحرّر بطرس مِن خوفه مِنَ الصّليب، تحرّر مِن الخوف الّذي شعر به يوم الجمعة العظيمة، حين أنكر معلِّمَه أمام جارية. إنّ ما حدث مع بطرس مِن إنكارٍ للمسيح، وحصوله بعد ذلك على الجرأة لإعلان إيمانه، إثر حلول الرّوح القدس عليه في العنصرة، يُشكِّل أمثولةً لنا نتعلّم منها ونُدرِك مِن خلالها نتائج ومفاعيل الرّوح القدس في حياتنا. إنَّ الرّوح ينزع كلّ خوفٍ مِن قلب الإنسان، فلا يعود بعد الآن أيَّ وجود للخوف مِن إنسان، أو مِن موتٍ أو مِن عُزلةٍ. على المؤمِن السّعي إلى إظهار المسيح في تبشيره، لا إلى إظهار نفسه مِن خلال التبشير بكلمة الله، إذ كما يقول يوحنّا الرّسول: على المسيح أن ينموَ وعلى المؤمن أن يَصغُر. إنّ الإنسان، بطبيعته، يسعى إلى الظّهور، ولذا سيكون من الصَّعب عليه أن يسعى إلى إظهار المسيح فقط في عمله الرّسولي، غير أنَّ ذلك لن يكون مستحيلاً إن قَبِل الإنسان الرّوح القدس، وأصبح بالتّالي سُكنى الرّوح. إنّ الله يستريح في القدِّيسين وهو يجد فيهم راحته، أمّا المؤمنون الّذين لا يجتهدون للوصول إلى القداسة، فإنّ الربّ الّذي يسكن فيهم أيضًا، سيكون في قلقٍ لا على ذاته، إنّما على مصير تلك النّفوس الّتي لا تسعى للقداسة.

بعد حلول الرّوح القدس على الرّسل في العنصرة، أصبح كلام الرّسل التبشيريّ مفهومًا مِن كلّ الأمم على رغم وجود تعدّدٍ في اللّغات المحكيّة. إنّ التكلّم بالأَلْسُنِ الّذي يُشير إليه الكتاب المقدَّس حين يروي حدث العنصرة، لا يعني بالضّرورة أنّ الرّسل قد تكلّموا لغاتٍ متعدِّدة، كالعبريّة أو اليونانيّة وغيرها مِن اللّغات، إنّما يعني أنّ عِظة بطرس الّتي ألقاها بعد حلول الرّوح القدس عليه، قد وصَلَتْ إلى كافة أقطار المسكونة. أعطى الرّوحُ القدس بطرسَ قوّةً جعلَتْه يُلغي مِن حياته كلّ "الكلمات الشيطانيّة"، أي كلّ تلك الكلمات المبنيّة على الخوف. إنّ الرّوح القدس يزرع في النّفوس الحماس، فيُشجِّعُ الإنسانَ على القيام بثورةٍ على الأمور الّتي لا يرضاها لله. إنّ الثورة الّتي يزرعها الرّوح في الإنسان تتميَّز بالحكمة، فالثورة هي مشروعٌ ونَهجٌ يلتزم بهما الإنسان، وهي تعتمد على شجاعة الإنسان وتَحَرُّرِه مِن أي مَصلحةٍ. إنّ الإنسان الشُّجاع الثَّائر يدفَع ثمنَ الثّورة الّتي أطلَقها، أمّا الآخرون فينالون نتائج تلك الثّورة. هذا ما حدث تمامًا مع الرّسل: لقد مات جميع الرّسل إمّا شهداء، وإمّا تعرَّضوا للنّفي بسبب إعلانهم لكلمة الله، ولكنَّ عذاباتِهم أفاضت نِعَمًا على البشر، إذ قَبِل الكثيرون كلمةَ الله، فاعتمدوا وأصبحوا أبناءً لله.

إذًا، يقوم مفهوم العنصرة على "نَفْضِ الإنسان الغُبار عن ذاته"، كي يتمكّن هذا الأخير مِن قول كلمة الحقّ بكلّ محبّة وجرأة، قاتلاً الشيطان في حياته، الّذي يرتدي صُورًا عديدة كالكسَل والاسترخاء. إنّ قولَ الحقّ يُعرِّض صاحبه إلى الوحدة والعُزلة، فيتقلَّص عدد أصدقائه بسبب تمسُّك الكثيرين مِنهم بالباطل. على المؤمِن أن ينقل إلى الآخرين كلمةَ الحقّ بكلّ محبّةٍ وبتواضع كي يتمكّن الآخرون مِنَ القبول بها. لا يستطيع البشر قبول كلمة الحقّ إذا وَصَلتْ إليهم ممزوجة بالكبرياء والتعجرف. إنّ التواضع هو الّذي يبني الجسور مع الآخرين، أمّا الكبرياء فيهدِمها. إذًا، إنّ إيصال كلمة الحقّ إلى الآخرين متعلِّقٌ بالطريقة الّـتي يعتمدها المؤمِن في تبشيره.

عرَّف الربّ يسوع تلاميذَه بالرّوح القدس قائلاً فيه إنّه الرّوح الـمُعزّي. إنّ الإنسان الّذي ينطق بكلمة الحقّ، يتعرَّض للاضطهاد وللعزلة، ولذا هو يحتاج إلى الرّوح القدس كي يُعزِّيه كي لا يُحبَط أو ييأس. إنّ التّعزية البشريّة لا تُفيد الإنسان إلّا إذا صَدَرت مِن إنسانٍ مؤمِنٍ، حاملٍ أيضًا لواء كلمة الحقّ ويبشِّر بها. إنّ "حاملي كلمة الحقّ" يسندون بعضهم البعض إذ يتشاركون في الاضطهادات والانتقادات الّتي يُعانون منها. إنّ الفرق شاسعٌ بين الّذي ينال أجرًا ليتكلّم وينتقد الآخرين، وبين الّذي يدفع ثمن قولِه كلمة الحقّ. إنّ الرّوح القدس يدفع بالإنسان إلى قولِ كلمة الحقّ، غير أن قولَ الحقّ سيُعرِّض الإنسان للاضطهاد مِنَ الآخرين ولذا على المؤمِن ألّا ييأس أو يُحبَط، متى رأى أنّه سيكون مُحاربًا مِن أقرب المقرَّبين ومن آخرين لم يكن يتوّقع رَفْضَهم لكلمة الله، والرّسل هم خير دليل على ذلك. إنّ الرّسل قد تعرَّضوا للمحاربة أوّلاً من أبناء بيئتهم أي مِنَ اليهود قَبل أن تتمّ محاربتُهم مِنَ الرّومان والوثنيّين. إنّ بولس، أيضًا قد تعرَّض للمحاربة مِن الإخوة نتيجة قولِه لكلمة الحقّ، غير أنّ بولس لم يتراجع نتيجة ذلك بل ازداد شجاعةً في إعلان البشارة فقال في إحدى رسائله، إنّ التبشير هو فَرْضٌ عليه، وأنّ لا خيار له سوى التبشير بكلمة الله على الرّغم مِن كلّ شيء. لقد تحوّلَ خوفُ الرّسل في العليّة بعد موت المسيح، إلى شجاعة بعد حلول الرّوح القدس عليهم وما خُطاب بطرس أمام الجموع، سوى دليل على قدرة الرّوح الفاعلة في الرّسل. إنّ كلمة الله لا تصل إلى البشر بفعلِ ظهورٍ إلهيّ، أو وحيٍ سماويّ، إنّما تصل إليهم عبر كلمات إنسانٍ خاطئ. إنّ الرّسولَيْن بطرس وبولس لا يتميَّزان مِن سائر البشر بشيء إلّا في كَونِهما قد تحرّرا مِن كلّ خوفٍ يعتريهما، بفضل يسوع الّذي قَبلا به سيِّدًا على حياتهما، فمنحهما الشجاعة والقوّة لإعلان كلمته.

إنّ العالم لم يتغيّر ولن يتغيّر ما بين الأمس واليوم: فهو أي العالم سيبقى في حربٍ ضدّ كلِّ مَن يُعلِن كلمة الحقّ وينشرها بين البشر، لأنّه فَضَّل الباطل على الحقّ. وما حَدَثَ مع المسيح هو خيرُ دليلٍ على ذلك: فالمسيح قد قُتِل صَلبًا لأنّه بشَّر بكلمة الحقّ، وبالتّالي فإنّ مصير تلاميذ يسوع المسيح في عالمنا اليوم، سيكون مُشابهًا لمصير معلِّمهم في القديم. على المؤمِن الّذي ينقل كلمة الحقّ للآخرين أن يكون كـ"الجثّة الهامِدة"، فلا يتأثّر لا بالمدح ولا بالذَّم. إنّ الذَّم الّذي يناله حاملُ الكلمة يؤدي به إلى الإحباط أمّا المدح فإلى الغرور، وفي الحالتيْن لن تتمكّن كلمة الحقّ مِن متابعة مسيرتها صوب الآخرين، وهذا ما يُريده الشِّرير. إنّ المسؤوليّة متساوية ما بين الّذي يسمع كلمة الله، وبين الّذي يُعلِّمها، إذ على الاثنين أن ينقلا كلمة الحقّ كلٌّ بحسب الموهبة الّتي أعطاه إيّاها الله: التّعليم، الابتسامة، الخدمة، محبّة الآخرين، ضبط اللِّسان وصفاء النّظرة إلى الآخرين. إنّ الرّوح يُحرِّر المؤمِن مِن شُعورِه بالدُونيّة، حين يعتقد أنّ مسؤوليّة نَقلِ الكلمة تقع فقط على عاتق الكهنة والإكليروس، دُونَه. إنّ المسيح هو الأوّل، ونحن جميعًا متساوون في الواجبات والحقوق، وبالتّالي فالجميع مسؤولٌ عن سماع الكلمة وعن نَقلِها للآخرين. إنّ الله لا يطلب مِنَ المؤمنين سوى أن يكونوا شهودًا له في هذا العالم، فيعترفوا بالمسيح الّذي صُلِب على الصّليب مِن أجلهم، مسيحًا وربًّا.

إنّ الفرق بسيطٌ جدًّا ما بين الوقاحة والجرأة، فالجرأة تبقى جرأةً متى اقترنت بالتواضع، ولكنّ الجُرأة تتحوَّل إلى وقاحة متى اقترنت بالكبرياء، وبالتّالي فإنّ الإنسان هو الّذي يُقرِّر إن كان يريد التحلّي بالجرأة أم بالوقاحة. إنّ المؤمِن الّذي يتسلَّح بالكبرياء في إعلان كلام الحقّ، فإنّما هو يساوم على كلمة الحقّ ويحوِّلها إلى كلامٍ باطل، أمّا متى تجرَّأ على قول الحقّ بكلّ تواضعٍ، فإنّه بهذا الفعل، يكون قد نجح في إيصال كلمة الله إلى الآخرين. إنّ المؤمِن هو المسؤول الأوَّل عن إبادة كلمة الحقّ، فبقدر ما يكون إناءً حاضرًا لاستقبال كلمة الحقّ تنمو كلمة الله فيه وتُثمر في الآخرين؛ وبقدر ما يكون المؤمِن وعاءً رافضًا لكلمة الحقّ بكبريائه تموت كلمة الله فيه مِن دون أن تُعطي ثمارًا. إذًا، على المؤمِن الّذي يريد أن ينقل كلمة الحقّ إلى الآخرين، أن ينقلها بكلّ تواضعٍ مِن دُونِ أن يُعطيَ لنفسه صلاحيّة إدانة الآخرين على تصرّفاتهم، إذ لمجرّد إدانته الآخرين، ماتت كلمة الله في قلوبهم مِن دونِ أن تصل إلى هدفها، وَمِن دُونَ أن تُثمِر فيهم. إذًا، قد تكون تصرّفات المؤمِن إحدى الأسباب الّتي تمنع كلمة الله، كلمة الحقّ، مِنَ الوصول إلى الآخرين، ولذا نَصح بولس ابنه في الإيمان "طيموتاوس" بالمحافظة على التّعليم الّذي ناله مِنَ الأقدَمين، بتصرّفاته الحسنة. إنّ العنصرة لا تُشير إلى انتهاء مواسم الأعياد، بل إنّها تُشير إلى أنَّ الله يُعلِن الانتهاء من عَمَله، مُسَلِّمًا أمانة إيصال الكلمة إلى الآخرين، إلى كلِّ المؤمنين به. وبالتّالي، فإنّ العنصرة تُعلِن عن بدءِ جهاد الإنسان في صحراء هذه الحياة، ولذا تُعلِن الكنيسة الشرقيّة عن سلسلة مِنَ الأصوام في هذا الزّمن، وأوَّلها هو صوم الرّسل، الّذي يبدأ مباشرةً بعد العنصرة، وينتهي في التَّاسع والعشرين مِن حزيران، أي يوم موت الرّسولَيْن بطرس وبولس. وبالتّالي، تريد الكنيسة الشرقيّة أن تُذكِّر المؤمنين بأنَّ جهادهم على هذه الأرض لا ينتهي إلّا بموتهم. إذًا، إنّ حياة المؤمِن على هذه الأرض تبدأ بإيمانه بقيامة المسيح، وبحلول الرّوح القدس عليه، ولا تنتهي مسيرته الإيمانيّة تلك إلاّ بموته في هذه الأرض، لينال الحياة الأبديّة، فَمَن كان أمينًا على القليل في هذه الأرض، نال الكثير في الملكوت.

إنّ معنى عيد العنصرة يقوم على إدراك المؤمنين لحقيقة حضور الله فيما بينهم. إنّ إدراك المؤمنين لحقيقة هذا العيد تدفعهم إلى التغيير في ذهنيّاتهم القديمة، والسّلوك وِفق إلهامات الرّوح كما يقول بولس الرسول. إنّ فعل "اسلكوا" في اليونانيّة، هو "اسْتِيخِيُوا"، ويعني السير الانضباطي العسكريّ. فكما أنّ الجنود في الجيش يسيرون بانضباط وِفقًا لأوامر القائد، كذلك على المؤمنين أن يسيروا في حياتهم بانضباط وِفقًا لإلهامات الرّوح القدس. إنّ السّلوك بحسب إلهامات الرّوح القدس، لا يعني أبدًا أنّ على المؤمن الاسترخاء مِن دُونِ أن يعمل، في انتطار عمل الرّوح. إنّ الرّوح لا يعمل منفردًا بل في تعاونٍ مع الإنسان. إنّه ليس مِن باب الصِّدفة أن الرّوح في اللّغة العِبريّة تعني "الرّوح" كما تعني أيضًا "الرّيح". فكما أنَّ الرّيح تهبّ حيث تشاء ولا يستطيع الإنسان رؤيتها، كذلك لا يستطيع المؤمن رؤية الرّوح، لكنّه يستطيع أن يرى عمله في الآخرين. إنَّ الإنسان يُدرِك إيمانيًا أنّه عليه السير وِفقَ إلهامات الرّوح، غير أنّه في حياته اليوميّة لا يعكس هذا الإيمان أبدًا، إذ يسعى بمجهوده الشخصيّ مِن دون الاتّكال على الله لتدبير كلّ ما له علاقة بحياته ومستقبله.

لقد ضاع المعنى الحقيقيّ لعيد العنصرة في عالمنا اليوم، لذا على المؤمِنين أن يتذكَّروا مِن جديد عمل الرّوح القدس، فيُدرِكوا أنَّ الرّوح القدس هو الرّوح الـمُعزّي. إنّ عمل الرّوح القدس ليس عملاً سحريًّا، بل إنّه عمل لا يستطيع المؤمن رؤيته إلّا مِن خلال ثماره في الآخرين، وثمار الرّوح تكمن في تصرّفات الإنسان مع الآخرين، وفي كلامه مع إخوته البشر.

إذًا، على المؤمِنين أن يجتهدوا فيتثَبتوا في إيمانهم بالمسيح، وأن يتجاوبوا مع الرّوح القدس الـمُعزِّي في حياتهم ويعزّوا الآخرين المحتاجين إلى كلمة الحقّ. إنّ الله يحلم منذ بدء الخلق بأن يتحقّق مشروعه في الإنسان، غير أنّه لم يتمكّن إلى الآن مِن رؤية الإنسان كما أراده، أي خليقة جديدة بالربّ. لذا على المؤمن الاهتمام بِمَن هم حوله، فيخدمهم ويحبّهم، ويرأف بهم. لا تخافوا على مصير المسيحيّين في هذه الأرض، فإنّ الله قادر أن يجعل من الحجارة أبناءً لإبراهيم. إنّ الله صادقٌ في كلامه حين قال إنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة، فأبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة لا بفضل المؤمنين إنّما بفضل قرار الله بذلك. إنّ الكنيسة ليست مجموعة المؤمنين في هذا الزّمن، بل إنّها مجموعة المؤمنين الّذين سيُشير عليهم الربّ في اليوم الأخير. إنّ الشيطان في عالمنا يسكن على العرش أي في الهيكل أي في الكنيسة، ففي داخل كلّ مؤمن شيطانٌ يسيطر عليه، وكم هي متعدِّدة أنواع تلك الشياطين: شيطان المال، شيطان السُّلطة، شيطان الملذَّات، شيطان الكراهيّة والحسد، شيطان الاسترخاء والكسل، شيطان التملُّق، شيطان التزلُّم والانقسامات.

إنّ عيد العنصرة اليوم يدفعنا إلى الانتباه إلى حضور الرّوح فينا، لأنّ الربّ أَرسله إلينا كي يذكِّرنا بكلّ تعاليم المسيح. فلنطلب من الله، أن يساعدنا على تخطيّ كلّ تلك الصّعوبات الحياتيّة الّتي نعيشها، ونشهد له ولحضوره في وَسطِنا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بِتَصَرُّف.

تتمة...
2/5/2017 المسيح قام من بين الأموات..." الأب ابراهيم سعد

"المسيح قام من بين الأموات..."
الأب ابراهيم سعد

2/5/2017

إنّ ترتيلة "المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور"، تختصر إيماننا المسيحيّ، لذا هي تستّحق أن نتوقَّف عندها، فكلماتها ستكون محور حديثنا اليوم.
إنّ المسيح قد قام من الموت، ووَهب الحياة للّذين في القبور، فما الّذي ينتظره الإنسان بعد؟ كانت قيامة المسيح الحلَّ الوحيد لمشكلة الإنسان الّتي هي خوفه مِن الموت. إنّ كلَّ ما يقوم به الإنسان هو نتيجة خوفه من الموت: فَهُوَ يأكل ويشرب خوفًا من الموت، ويُخطئ خوفًا من الموت، إذ إنّ الإنسان ينظر إلى الحياة انطلاقًا من كَونِه إنسانًا مائتًا. غير أنّ قيامة المسيح، دفَعَت بالإنسان المؤمِن إلى تغيير نظرته إلى الحياة: فصار ينظر إليها انطلاقًا مِن كَونه إنسانًا قياميًّا لا إنسانًا مائتًا. إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا، هو: ما التغيير الّذي طرأ على حياتنا نتيجة قيامة المسيح؟ أي هل أنَّ حياتنا قد تأثّرت بقيامة المسيح أم ما زالت على ما كانت عليه قبل القيامة؟ إنّ الموت هو نفسه، قبل القيامة وبَعدَها، لم يتغيَّر. قبل قيامة المسيح، كان الموت نهايةَ كلِّ شيءٍ في نَظَر النّاس، على الرّغم مِن كلّ آمالهم وإيمانهم القديم، فالموت كان يُشكِّل أزمةً وجوديّة كيانيّة إنسانيّة. أمّا اليوم، فهناك مؤمنون يُجاهرون بعدم خوفهم من الموت، على الرّغم مِن عدم تمكنُّهم من إخفاء خوفهم الشديد من الـمَرض، وأمورٍ أخرى تؤدي بهم إلى الموت. إنّ هؤلاء المؤمنين يُعبِّرون عن تناقضٍ يَصعب فَهمُه، إذ إنّ الإنسان الّذي لا يخاف الموت، لا يخاف مِن أيِّ أمرٍ آخر يؤدي به إلى الموت.
منذ بداية التّاريخ البشريّ، ظهرت أزمة الموت عند الإنسان، وكان آدم وحوّاء أوّل الأشخاص الّذين اختبروا تلك الأزمة. خوفًا من الموت، خالف آدم وحوّاء كلام الله، وأطاعا كلام الحيّة، فالإنسان بطبيعته يحاول الهرب من الموت، ويسعى إلى الاستمرار في الحياة. إنّ آدم وحوّاء واجها الموت، ولكنّهما لم يتمكّنا من فَهمِه بشكله الصّحيح، فاعتبراه عقابًا من الله لهما على ما ارتكباه مِن مخالفةٍ لأوامِره. إنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا إذ لا شأنَ لله في الموت، فالله يريد حياة الإنسان لا موته، فالموت هو نتيجة التصرّف الخاطئ الّذي ارتكبه الإنسان. إذًا، لقد أصبحت مشكلة الإنسان مشكلةً مُضاعفة، إذ أصبح يُعاني أوّلاً من أزمة الموت، الّذي يُشكِّل نهايةً لكلّ شيء في نظره، كما صار يُعاني من أزمة أخرى هي خوفه مِن الموت، الّذي يدفعه إلى ارتكاب الخطايا. عند قيامته من الموت، ظهر يسوع المسيح، أوّلاً لمريم الّتي جِاءت تُحنِّط جسده في القبر، أي أنّ "آدم الجديد"، قد ظهر أوّلاً لـ "حوّاءَ جديدةٍ" عند قيامته من الموت، وفي ذلك، نقرأ تصحيحًا كتابيًّا للمشهد الأوّل في القديم مع آدم الأوّل وحوّاء الأُولى. إنّ آدم الأوّل قد جرح علاقة الحبّ الّتي تجمعُه بالله؛ أمّا "آدم الجديد"، يسوع المسيح، فقد أعاد لتلك العلاقة كمالها. إنّ حوّاء الأولى قد ساهمت مع آدم الأوّل في تدّهور علاقة الإنسان بالله، أمّا حوّاء الجديدة فقد اشتركت في تصحيح تلك العلاقة ونموِّها، إذ شاهدت القائم من الموت وآمنت به. لقد طلب يسوع المسيح مِن "حوّاء الجديدة" عدم الإمساك به لأنّه صاعدٌ إلى أبيه وأبي البشريّة بأسرها، فهو يرغب من خلال قيامته من الموت، بأن يُعيد الإنسان إلى المكان الأوّل الّذي كان فيه منذ البدء، وهو الملكوت. إنّ الله لم يخلق آدم وحوّاء ليكونا في الفردوس إنّما في الملكوت، أمّا بداية الملكوت فَهِي الفردوس. إذًا، منذ بداية الخلق، نشأت أزمة الموت عند الإنسان ولم يتمكّن هذا الأخير من التخلّص منها وحده.

إنّ السبب الظّاهر لأزمة الموت الّتي يُعاني منها الإنسان هو الخطيئة، غير أنّ السبب الحقيقيّ لها هو قلّة الحبّ: فكلّما قَلَّ الحبّ عند الإنسان، كُلَّما تفاقمت تلك الأزمة في داخله وازدادت قوَّةً. في علاقات الحبّ الإنسانيّة، نجد أنّه كلّما ازداد الحبّ بين الحبيبَين، ازداد اهتمام الواحد منهما بالآخر، ولكن كلّما تضاءل هذا الحبّ وجَفَّ بين الطرفين، تحوَّل الاهتمام إلى تجريحٍ بالآخر وإلى أذيّته، فالأذيّة هي إحدى صُوَر الموت. إنّ السبب الجوهريّ للموت هو قلَّة الحبّ وانعدامه، أمّا سبب الحياة فهو وجود الحبّ ووِفرَتِه. لقد أحبّ الله العالم محبّة عظيمة أدّت به إلى أن يبذل ابنه الوحيد فداءً عن البشر، فمحبّة الله للبشر قادَتْهُ إلى خَلقِ العالم مِن جديد بابنه الوحيد، "آدم الجديد"، يسوع المسيح، بدلاً من الخلق القديم الّذي تمّ مِن خلال "آدم الأوَّل". إنّ ظهور المسيح القائم من الموت لمريم عند القبر يهدف إلى دَفْعِ الإنسان إلى الادراك أن اعتقاده حول سلطان الموت وقوّته هو اعتقاد خاطئ، إذ لم يعد للموت مِن سلطان على البشر، فالمسيح قد غلب الموت وانتصر عليه بقيامته. قديمًا، كان الموت ذا سُلطانٍ على الإنسان، إذ إنّ الإنسان قد عَجِز عن الإفلات منه على الرّغم من إيمانه اليهوديّ، لذا استمَّر الإنسان في عبوديّته للموت، إلّا أنّ قيامة المسيح قد بدّلت هذا الواقع المؤلم، فأباد المسيح سلطانَ الموت بقيامته مِن بين الأموات، وحرّر الإنسان مِن خوفه وعبوديّته. إنّ قيامة لعازر مختلفة عن قيامة المسيح: إذ في قيامة لعازر، حافظ الموت على سلطانه على الإنسان، وهذا ما يُبرِّر موتَ لعازر مُجدَدًا؛ أمّا في قيامة المسيح، فقد غلب المسيح الموت نهائيًا، لذا لم يتمكّن الموت من الإمساك بالمسيح مُجدَّدًا كما فعل مع لعازر، وبالتّالي فإنّ قيامة المسيح هي أبديّة ونهائية. إذًا، بقيامة المسيح، لم يعد للموت سلطان على الإنسان: فقيامة المسيح كانت الحلّ الحقيقيّ والوحيد لخوف الإنسان مِنَ الموت، إذ دفعت بالإنسان إلى تغيير نظرته إلى الحياة كما إلى الموت، وحرّرته من خوفه. إنّ حدث الموت لم يتغيّر من حيث الشكلّ، قبل قيامة المسيح وبَعدِها، غير أنّ ما تغيَّر هو ذهنيّة المؤمن في رؤيته للموت، إذ أدرك هذا الأخير أنّ سلطان الموت عليه محدود الـمُدّة، مهما طالت، لذا لا داعي للخوف منه مِن جديد.

إنّ قيامة المسيح نَزَعَتْ كلّ سلطان الموت عن الإنسان، غير أنّ الموت ما زال يُسبِّب آلامًا للبشر، وفي هذا تكمن قوّته، إذ يُسبِّب للإنسان ألـمًا نتيجة فراق الأحبّاء. إنّ الفراق حالة طبيعيّة يعيشها الإنسان: فمثلاً، عند هجرة أحد أفراد العائلة، يشعر الإنسان بألم الفراق، إذ لم يعد بالإمكان رؤية الشخص المهاجر في كلّ أوانٍ كما كانت الحال سابقًا. إنّ قوّة ألم الفراق تتعلّق بمُدّة السّفر: فكلّما كانت مُدَّة الرِّحلة أطول، كلّما كان ألم الفراق أقوى. إذًا، لم يعد للموت مِن قوّة على الإنسان إلاّ في ألم الفراق الّذي يُسبِّبه للأحياء. إنّ قيامة المسيح قد أزالت خوف الإنسان مِن الموت، غير أنّ الموت قد تحوَّل إلى عدُّوٍ للإنسان، لأنّه يُسبِّب له آلامًا نتيجة فراق الأحبّاء. هذا ما عبَّر عنه بولس الرّسول في إحدى رسائله إذ قال: إنّ آخر عدوٍّ يُبطَل هو الموت، وبالتّالي، إنّ الموت سيبقى عدُوًّا للإنسان مِن دون أن يكون له أي سُلطان عليه، لأنّ المسيح قد أَبطَل سلطان الموت بقيامته، وهذا ما يُشكِّل جوهر إيماننا ورجائنا. إنّ الفعل "وَطِئ" الوارد في الترتيلة الّتي نشرح كلماتها، يشير إلى سَحْقِ المسيح لسلطان الموت، إذ جعلَه تحت قدميه، أي أنّ المسيح قد أنهى سيطرة الموت على الإنسان بقيامته من بين الأموات. إنّ المسيح لم يجد وسيلة أفضل ليغلب الموت، سوى مواجهته وتدميره، لذا قَبِل المسيح الموت، ولكنّه غلب الموت بقيامته، فأباد كلّ سلطانه، ومَنَح كلّ الموتى الّذين في القبور، والّذين سيدخلونها بالموت، الحياةَ الأبديّة.
بعد قيامة المسيح، لا يجوز للمؤمن أن يحزن كَمَن لا رجاء له. إنّ الحزن هو حقٌّ مشروع للإنسان فهو مِن ضمن الطبيعة البشريّة، لكن لا يجب أن يسمح الإنسان للحزن أن يدفع به إلى طرح أسئلة تتعلّق بإيمانه حول حقيقة قيامة المسيح من الموت، وبالتّالي حول قيامة الأموات. إنّ حدث الموت، الّذي يعيشه الإنسان هو حدثٌ يجعله يتأكَّد مِن صحّة كلام المسيح عن القيامة واستمراريّة فعاليّتها إلى يومنا هذا، بدليل الاختبار الشخصيّ للإنسان في حدث الموت. إنّ الكلام الّذي نسمعه في التَّعازي بأنّه لا يجب الحزن على مَن فَقَدْناهم لأنّهم أصبحوا بجوار المسيح، هو كلامٌ غير مقبول، لأنّ الحزن هو أمرٌ مشروع للإنسان، وبالتّالي فَمَن لا يحزن على فقدان عزيزٍ له، هو إنسان عديم الإحساس، أو أقَلَّه لم يتمكّن مِن محبّة الفقيد. إذًا، إنّ الحزن هو أمرٌ مشروع عندما يتعرَّض الإنسان إلى حدث موت أحد الأعزّاء، فالحزن يُشعر الإنسان بألم الفراق، ولكن على هذا الحزن أن يكون محدودًا لأنّه على الإنسان النّظر صوب قيامة المسيح، فيرى من خلالها قيامة أمواته. إنّ الزّمن غير كفيلٍ بالتَّخفيف مِن وطاة حدث الموت وألـَمِه على الإنسان، غير أنّ الإنسان يستطيع أن يستفيد مِن هذا الحدث فيُحوِّله إلى فرصةٍ تدفعه إلى تعميق إيمانه بالربّ القائم من الموت، فيُثَّبِت إيمانه به. لذا لا يجب أن نطرح على ذواتنا أسئلةً تتمحوّر حول مكان وجود أعزّائنا الّذين فقدناهم، ففي الترتيلة الّتي نعالجها نجِدُ الجواب، إذ تقول لنا: إنّ الحياة قد وُهِبَت للّذين في القبور. إنّ حالتنا نحن المؤمنين، تُشبِه إنسانًا فقيرًا محتاجًا قَد تَصَدَّق عليه أحد المارّة الرأسمالييّن بثروته كلِّها، غير أنّه عِوَض أن يَقبَل بها شاكِرًا، حاول تحليلها وتفسيرها، وبالتّالي أفقد تلك الهديّة معناها.
لا يجب أن تتحوَّل عبارة "المسيح قام، حقًّا قام" إلى تحيّة صباحيّة يوميّة في زمن القيامة فارغة مِن معناها، بل على قائلها أن يُدرِك أهميّتها ومفعولها في حياته. إنّ العهد الجديد ينقل إلينا ترائيات المسيح القائم لتلاميذه، وكما هو معلوم أنّ اللّغة اليونانيّة هي اللّغة الأصليّة للعهد الجديد. إذًا، استنادًا إلى اللّغة اليونانيّة، نجد أنّ الفعل "تراءى" تمّ استخدامه في صيغة المجهول لا المعلوم، للدلالة على أنّ الله هو المبادر، فهو الّذي يكشف عن ذاته لتلاميذه ويتراءى لهم قائمًا من بين الأموات، وهذا ما يُبرِّر عدم معرفتهم به عند ظهوره لهم، وهذا ما نجده واضحًا في نصّ تلميذي عمّاوس. في أثناء مسيرة عودتهما إلى قريتهما، إذ لم يتمكّن تلميذا عمّاوس مِن معرفة المسيح حين سار معهما، لأنّهما كانا ينظران إليه كما نظر إليه اليهود، أي كمخلِّصٍ أرضيٍّ بشريّ. إنّنا لن نتمكّن من معرفة المسيح أبدًا إن كُنّا لا نستطيع أن نرى فيه إلّا مُخلِّصًا بشريًّا. لقد تمكّن تلميذا عمّاوس مِن معرفة المسيح القائم عند كَسْرِ الخبز، ويقول لنا الكتاب إنَّ ذهنَيْهما حينئذٍ قد انفتحا حين فسَّر لهما الكُتُب فتمكنّا مِن معرفته عند كسر الخبز. إذًا، إنّ المسيح هو مفسِّر الكُتُب، وهو الّذي جعلهما يعرفانه، فالمسيح هو المبادر، وما على المؤمن إلّا قبول مبادرة الله واعتبارها هديّة له، فيفرح فيها ويحاول عيشها في حياته، فيعكس حدث القيامة للآخرين. إنّ عبارة "المسيح قام..."، هي إعلانٌ للبشرى السّارة بأكملِها. عندما يردِّد المؤمن عبارة "المسيح قام"، فإنّه يُعلن في الوقت نفسه قبوله للمسؤوليّة الّتي أعطاها الربّ القائم لتلاميذه، حين ظهر لهم، قائلاً: اذهبوا وبشِّروا كلّ الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، مُطمْئِنًا الرّسل أنّه باقٍ معهم إلى انقضاء الدّهر. إذًا، إنّ عبارة "المسيح قام، حقًّا قام"، الّـتي نُردِّدها دون أن نعي مضمونها، تُحمِّلنا مسؤوليّة كبرى، يُعطينا إيّاها الربّ. في التقليد الشرقيّ الّذي مِنه انبثقت هذه العبارة، تحوّلت هذه التحيّة القياميّة إلى عادة، من دون وَعي المؤمنين للمسؤوليّة الملقاة على عاتقهم على أَثَر هذا الإعلان. أمّا في التقليد الغربيّ، فقد أضافوا إلى تلك العبارة، عبارة أخرى، وهي: "ونحن شهودٌ على ذلك"، وهذه أيضًا تُحمِّل قائلها مسؤوليّة كُبرى تكمن في الشهادة للمسيح القائم في حياته اليوميّة. إنّ الإنسان لن يتمكّن من الشهادة للمسيح إن كانت كلّ تعابير الموت باديَة على وجهه: الخوف، الحقد، الكراهيّة، وعدم القناعة. على صُوَر القيامة أنْ تُشِّع مِن وجه المؤمن: الحبّ، المسامحة، العطاء، الخدمة، الابتسامة، فيرى الآخرون فيه شاهدًا حقيقيًّا لقيامة المسيح. إنّ المؤمن يعكس في حياته حضارة الموت عندما يتكلّم عن الأوضاع المعيشيّة السيئة والظروف الاقتصاديّة والأمنيّة السيئة، وكلّ ما مِن شأنه أن يبعث في النّفوس اليأس والإحباط.
إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا اليوم، هو: لماذا الحنين إلى القبر في حين أنّ المسيح قد قام مِن القبر وكسَّر كلّ قيود الموت؟ إنّ عبارة "المسيح قام حقًّا قام، ونحن شهود على ذلك"، يجب أن تنعكس إيجابيًا على نظرتِنا للحياة. إذًا، على الإنسان أن يعيش حياته في هذه الأرض، بطريقةٍ تعكس إيمانه بالقيامة لا إيمانه بالموت، إذ عليه ألّا ينسى أنّه إنسانٌ قياميّ لا مائتٌ. عندما ينظر الإنسان إلى الأمور انطلاقًا مِن كَونِه إنسانًا قياميًّا، فإنّ الخلافات بين البشر ستُعالَج بطريقة مختلفة: فالإنسان القياميّ يسعى إلى إيجاد حلّ لكلّ خلافٍ قد يحصُل لأنّه يعلم أنّه لن يموت، وبالتّالي يسعى إلى إيجاد حلٍّ للمشكلة أساس الخلاف. أمّا الإنسان الّذي ينظر إلى الحياة انطلاقًا مِن كونه إنسانًا مائتًا، فإنّه لن يحاول إيجاد حلّ للمشكلة أساس الخلاف، وخلافه مع الآخر سيتفاقم أكثر بسبب الانفعالات وردّات الفعل، والحوار الّذي ينشأ بين طَرفَي النِّزاع لحلّ الخلاف، سيكون على مستوى القلب لا العقل كما هي الحالة مع الإنسان القياميّ. إنّ الإنسان القياميّ يسعى إلى حلّ الخلاف استنادًا إلى العقل، أمّا الإنسان المائت فيسعى إلى حَلِّه انطلاقًا من القلب. إنّ الإنسان القياميّ لا يجد صعوبة في الاعتذار حين يكتشف تقصيره وخَطَأه، لأنّه يعلم أنّه إنسانٌ حيّ لا إنسانٌ زائل. أمّا الإنسان المائت فيرفض الاعتذار ويُلقي بمسؤوليّة التقصير على الآخرين، لأنّه يجد في اعترافه بالخطأ دافعًا يُعرِّضه للعزلة من قِبَل الآخرين، والعزلة هي إحدى وجوه الموت، وخوفًا من العزلة، يقوم الإنسان بارتكاب الخطيئة كالكَذب، والحِقد، والانفعال غير المبَرَّر، وأذيّة الآخرين. إنّ قيامة المسيح تجعلنا إناسًا قياميّين، وبالتّالي علينا أن ننظر إلى الحياة ونؤمن أنّنا قائمون مع المسيح القائم من الموت. إنّ هذه النظرة القياميّة إلى الحياة، تجعلنا نعيش الفِصح مُدرِكين معناه الحقيقيّ، والفرح يملأ قلوبنا. إنّ ذهنيّة الخليقة الجديدة تدفع بالإنسان إلى النظر إلى الحياة بطريقة مختلفة، فيواجه الأمراض مِن دون خوفٍ من الموت، لأنّه يعلم أنّ الحياة الأبديّة تنتظره مهما طال ألم المرض. إنّ تلك الذهنيّة لا تلغي وجود الأمراض والآلام، غير أنّها تُعطي دفعًا للإنسان لمواجهة تلك الصّعوبات، إذ تُذكِّره أنّ لا شيء يدوم سوى الله.
إنّ كنا نؤمن أنّ لا شيء يدوم سوى الله، فَلِمَ نحزن ونيأس من الحياة عندما ينتقل أحدٌ مِن بيننا؟ إنّ كلامنا يجب أن ينطبق مع إيماننا وكما يقول الرّسول بولس:"آمنت ولذلك تكلّمت"، وبالتّالي على تصرّفاتِنا في حدث الموت، أن تعكس إيماننا أنّ كلّ شيء زائل عدا الله. إذًا، إنّ العبارات الّتي نُردِّدها في القيامة: "المسيح قام"، و"نحن شهود على ذلك" تُحمِّلِنا مسؤوليّة كبيرة جدًّا، إذ تتحوَّل إلى دينونة لنا في مسألة شهادتنا للمسيح القائم، لأنّ مَن يقول إنّ المسيح قام، على حياته أن تعكس قيامة المسيح. في عصرنا هذا، يرتكز إيماننا نحن المسيحيّين على المسيح صانع العجائب، غير أنّ إيماننا في الحقيقة يرتكز على المسيح القائم، لذا يجب تبشير المسيحيّين من جديد فيتذكَّروا أنّ المسيح قد غلب الموت بقيامته. إنّ صورة المسيح صانع العجائب قد أذهلت اليهود في القديم، وها نحن اليوم نتوقَّف عندها. إنّ اليهود يطلبون العجائب، واليونانيّن يبحثون عن حكمة، أمّا نحن المخلَّصين، فإنّنا لا نعرف منطقًا آخر سوى منطق الصليب. إنّ منطق الصليب يرتكز على كثرة الحبّ: إذ كلّما قلَّ الحبّ، ظهر الموت؛ وكلّما ازداد الحبّ، ظهرت الحياة وأثمرت. إنّ القرار يعود إلى المؤمن، فهو مَن عليه أن يختار بين الموت والحياة، وقراره سينعكس في حياته اليوميّة من خلال تصرّفاته مع الآخرين. إنّ الإنسان الّذي يختار الموت، يسعى إلى الخلاف، وإلى الكراهيّة، والحقد، والانفعال السريع تجاه الآخرين، أمّا الإنسان الّذي يختار الحياة، فيعكس السلام، ويسعى إلى المصالحة، والاعتذار إن وجَد نفسه مُخطِئًا. غير أنّ ما يحصل في أثناء الخلافات بين البشر، هو أنّ الإنسان يتهمّ بالآخرين بكلّ تقصير مستخدمًا ضمير المخاطب "أنت"، وينسب إلى نفسه الإنجازات والفضائل، مستخدمًا ضمير المتكلّم "أنا". إنّ نظرتنا إلى الحياة انطلاقًا مِن كَوننا قياميّين، ستتغيّر، إذ سننظر إلى الموت لا على أنّه نهاية، إنّما على أنّه بوابة العبور الّتي توصِلنا إلى المكان الّذي نحلم به، حيث لا تَنَهُّد، ولا وجع، ولا بكاء، بل حياةٌ لا تفنى. إنّ الشخص الّذي نفقده بالموت قد ذهب إلى مكانٍ لا وجع فيه ولا ألم ولا بكاء، لذا علينا نحن المحزونين، ألّا نعاني مِن الحزن الشديد والألم الكبير، إثر فقدان شخصٍ عزيز علينا، فنطمر أنفسنا في هذه الحياة الفانية ونحن على قيد الحياة. إنّ مثل تلك التصّرفات لا تليق بالإنسان المؤمن بقيامة المسيح.
إنّ الأزمة الّتي يُعاني منها المؤمنون اليوم، هي سوء قراءتهم وفَهمِهم للكتاب المقدَّس بعَهديه، إذ يجب قراءة الكتاب المقدَّس في ضوء نور قيامة المسيح. إنّ ما يحدث في عالمنا اليوم خطيرٌ جدًّا، إذ تحوَّل المؤمنون بالمسيح إلى "أبناء للكنيسة" لا إلى "أبناءٍ للقيامة"، أي أنّ الكنيسة قد تحوّلت إلى مؤسَّسة. إنّ المؤمنين أبناء الكنيسة – المؤسَّسة، قد رفضوا الآخرين وهمِّشوا كلّ شخصٍ مختلفٍ عنهم. أمّا المؤمنون أبناء القيامة، فقد توجَّهوا صوب الآخرين المختلفين عنهم، ودعوهم إلى الإيمان بيسوع المسيح القائم، إذ إنّ هدفهم هو نقلُ فرح القيامة الّذي اختبروه إلى الآخرين. لقد كانت الكنيسة في البدء منغلقة على ذاتها، أمّا بعد القيامة، فقد أصبحت كنيسة منفتحة على الآخرين. إنّ الكنيسة لا يمكنها أن تفتح أبوابها للآخرين إن أغلق المؤمنون قلوبَهم على الآخرين بحجّة دفاعهم عن الله. إنّ التّاريخ يُخبرنا أنّ كلّ الّذين دافعوا عن الله، قد قتلوه في الحقيقة في قلوب الآخرين، إذ كانوا سببًا في عدم وصول مشروع الله الخلاصيّ لهم. إنّ بطرس الّذي حاول الدّفاع عن يسوع، حين قَطَع أُذُنَ الجنديّ يوم أُلقِيَ القبض على المسيح في بستان الزّيتون، قد قتل المسيح في ذلك بطريقة أفظع من الصليب. إنّ تصرّف بطرس آنذاك قد كان ليؤدي إلى قتل المسيح بطريقة لا قيامة فيها في قلب ذلك الجنديّ. لقد طلب يسوع من بطرس إعادة سيفه إلى جنبه، وأن يسمح للجنود باعتقاله، وسَوقِه إلى الموت، إذ إنّ بعد تلك الميتة على الصليب، سيتمكّن المسيح من القيامة والانتصار على الموت. إنّ المسيح مات بسبب الحبّ، لذا عاد وقام من الموت، أمّا لو مات المسيح بسبب قتل بطرس لذلك الجنديّ، لما كان المسيح ليتمكّن من القيامة من جديد.
إنّنا نؤمن بالمسيح الّذي مات وقام من أجلنا، غير أنّ عقلنا البشريّ يبقى عاجزًا عن إدراك كلّ ما قام به المسيح لأجلنا. إنّ إيماننا هو غير مُدرَك وغير معقول بحسب تفكيرنا البشريّ لكنّه مقبول. إذًا، إنّ قرار قبول هذا العمل الخلاصيّ متعلِّقٌ بالإنسان الّذي عليه إمّا قبولُه أو رفضُه. إنّ الإنسان الّذي يقبل بعمل الله الخلاصيّ، عليه أن يتحمَّل مسؤوليّاته تجاه هذا القرار، فيُكمِل مسيرته في هذه الحياة، ويواجه صعوباتها مستندًا إلى تعاليم المعلِّم الإلهيّ. على المؤمن ألّا يجعل خطيئته أقوى من المسيح وعمله الخلاصيّ لأجله، أي أنّه عليه عدم التَذرُّع بطبيعته البشريّة الضعيفة، وبخطاياه الكثيرة للهروب من مسؤوليّة الشهادة الـمُلقاة على عاتقه. إنّ الخطيئة غير قادرة على أن تقف حجر عثرةٍ أمام قيامة المسيح، إلّا إذ سمح لها الإنسان بذلك، وسماح الإنسان ما هو إلّا دليل على عدم إدراكه لعمل الله الخلاصيّ، إذ يعتقد أنّ الخلاص تمّ بِفَضلِه. إنّ الإنسان الّذي يختبر قيامة المسيح، لا يستطيع إلّا أن يُعلِن خبر القيامة للمسكونة بأسرها، فالشهادة للمسيح ليست فعل إرادة يقوم به الإنسان، إذ إنّ إرادة الإنسان هي عُرضة للوقوع في المزاجيّة. إنّ الشهادة للمسيح تُصبح عملاً ضروريًّا للعيش كما هي عمليّة التنّفس، فكما أنّ الإنسان لا يستطيع التوقّف عن التنّفس كذلك الإنسان الّذي اختبر قيامة المسيح لا يستطيع إلّا أن يشهد بذلك، وهذا ما يُعبِّر عنه بولس الرّسول، إذ يقول في إحدى رسائله: ويلٌ لي إن لم أُبشِّر. إذًا البشارة بالقيامة هي عملٌ ضروريّ، لا عملٌ إراديّ متعلِّقٌ بمزاج الإنسان.
ليس السؤال إذًا، عن مصير أعزائنا بعد انتقالهم مِن هذه الحياة الفانية، إنّما السؤال الّذي يجب أن يُطرح علينا، هو: ما هو مصيرنا نحن الأحياء الّذين لا نزال في هذه الحياة؟ إنّ أمواتنا قد وصلوا إلى الملكوت، بعبورهم من هذه الدّنيا، وها هم يُعاينون الله، ويعيشون حياة أبديّة يعمّها الفرح الّذي لا نهاية له. فلنسعَ كي نلقى المصير نفسه الّذي لَقِيَه أمواتنا، ولنسعَ إلى عيش الفرح الّذي يعيشونه بعد انتقالهم. إنّنا في الموت، ننقل الحزن لأمواتنا في حين أنّهم يدعوننا إلى الفرح. إنّ إيمان الإنسان هو الّذي يجعل عدوى الفرح تتغلّب على عدوى الحزن.
المسيح قام.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
28/3/2017 "إقامة لعازر وقيامة المسيح" الأب ابراهيم سعد

"إقامة لعازر وقيامة المسيح"
الأسبوع العظيم

الأب ابراهيم سعد

28/3/2017

إنّ الأسبوع العظيم، الّذي يسبق عيد الفِصح، يبدأ بسبت لعازر لا باثنين الآلام. إنّ هذا الأسبوع هو عظيم لأنّه يبدأ بإقامة لعازر وينتهي بقيامة المسيح يسوع مِن بين الأموات. وأَوجُه الاختلاف عديدة بين إقامة لعازر وقيامة المسيح: ففي إقامة لعازر يَظهَرُ مجد الربّ وسلطانه على الموت. إنّ التّلاميذ الّذي اختبروا ورأوا عظمة المسيح وقدرته على إقامة الموتى في حادثة لعازر، لم يتمكّنوا مِنَ التغلّب على خوفهم مِنَ الموت، وكأنّهم لم يختبروا قوّة الله على الموت، لذا عانوا من الخيانة والشكّ والهروب عند اعتقال المسيح وموته على الصليب. إنّ إقامة لعازر من الموت تتَّسِمُ بنفحةٍ خاصّة إذ إنّ المسيح أقام لعازر في اليوم الرابع، أي بعد أن فَقَدَ أهلُه الأمل في عودته إلى الحياة إذ إنَّ جسد الميّت يبدأ بالتحلُّل في اليوم الرابع لوفاته. إنّ إقامة لعازر من الموت، تُشبه إلى حدّ كبير قيامة المسيح من الموت: فَفي إقامة لعازر، طلب المسيح مِن الحاضرين إزاحة الحجر عن باب القبر، ومِن ثمّ صرخ بالميّت طالبًا منه الخروج من القبر، وقد كان الميّت ملفوفًا بالأقمطة؛ أمّا في قيامة المسيح، فقد كان الحجر مُدحرجًا عن باب القبر، وقد وُضِعت الأقمطة جانبًا مرّتبة، حيث كان يرقد المسيح. في إقامة لعازر من الموت، نجد تأكيدًا لقول المسيح لتلاميذه: إنّ الّذين يسمعون صوت الربّ يحيَون، فلمّا سمع لعازر صوت المسيح يدعوه قائلاً: "يا لعازر هلّم خارجًا"، قام من القبر وخرج ملفوفًا بالأقمطة. من خلال هذه الحادثة، أراد الربّ أن يشرح لتلاميذه ما الّذي سيحدث في موته وقيامته، غير أنّ التّلاميذ لم يفهموا شيئًا لأنّ الخوف قد اعتراهم عند رؤيتهم لعازر قائمًا من رقاده.

في أحد الشعانين، دخل المسيح أورشليم، كما يدخل الملك المنتصر في الحرب إلى مدينته، فالأطفال والكبار استقبلوه حاملين أغصان النّخيل هاتفين له: هوشعنا، أي "يهوه هو مخلِّصنا". إنّ الربّ قد منح الخلاص لشعبه بدخوله أورشليم، غير أنّ الخلاص في الفِكر اليهوديّ فهو خروج الشَّعب من أرض مِصر، أرض العبوديّة، وخلاصهم مِن يد فرعون وظلمه لهم، أمّا الخلاص الّذي يمنحه الربّ فهو نتيجة ظلم الشَّعب للمسيح حين دخل إلى أورشليم، فالمسيح قد مات نتيجة ظُلمِ أهل بيته له، ولكنّه بموته منحهم الخلاص. في دخول المسيح إلى أورشليم، تمّ الخروج الحقيقيّ، فالخروج الحقيقيّ لا يكون بانتقال المؤمن من مكانٍ إلى آخر، إنّما بانتقاله من حالةٍ إلى أخرى: من حالة الموت إلى حالة القيامة. في حادثة إقامة لعازر من الموت، أظهر المسيح قوَّتَه على الموت، غير أنّ لعازر عاد ومات في الجسد، وانتظر القيامة الأخيرة، أمّا قيامة المسيح من الموت فكانت القيامة الأخيرة: إنّها القيامة العامّة الّـتي تمّت قبل أوانها بشخص المسيح يسوع، كي يتمكّن المؤمنون مِن إدراك حقيقة مصيرهم بعد الموت، هم الّذين "أَمَّنوا وآمنوا، وكانوا أُمناء لكلمة الله"، فلا يعود الموت يُخيفهم، إذ إنّه لا يُشكِّل النّهاية. إنّ موت المؤمن لا يُشكِّل نهايته، إلّا إذا كان متمسِّكًا بقديمه، فالحياة الجديدة لا يمكن أن تبدأ مع المحافظة على القديم، وبالتّالي يجب أن يكون هناك نهاية لكلّ شيء قديم، كي تكون هناك بداية لحياة جديدة. إنّ حياة المؤمِن الجديدة تبدأ أوّلاً بإيمانه بالربّ يسوع، إذ عليه أن يترك عباداته القديمة، الّتي تؤدي به إلى الهلاك، وأن يقبل بالمسيح مُخلِّصًا وحيدًا له، فيقوم بمسيرة إيمانيّة معه، لا تنتهي إلاّ بالموت الجسديّ. إنّ نهاية الإنسان الجسديّة هي بداية لحياته الجديدة في الملكوت، مع الربّ يسوع القائم من الموت. إنّ قيامة المسيح مِن بين الأموات هي البرهان الأكيد على قيامة الأموات، إذ على حدّ قول الرّسول بولس، لو لم يقم المسيح، لما كان هناك من قيامة للأموات، ولكانت كرازتنا باطلة، فارغة من معناها. إذًا، في استعداده للأسبوع العظيم، يطرح المؤمِن على ذاته أسئلةً حول انتظاراته في هذا الأسبوع، واختباراته الّـتي يودّ عيشها.

في هذا الأسبوع، يقترب المؤمِن من آخِرته، أي من انتهاء زمنه الأرضيّ. فإن كانت قيامة المسيح هي الآخرة أي القيامة العامّة، فهذا يعني أنّ المؤمِن في هذا الأسبوع، يتذوّق طعم الآخرة وهو لا يزال في هذه الحياة الفانية. ولكن لا يمكن للمؤمِن اختبار الآخرة في العيد، ومِن ثمّ العودة إلى عاداته القديمة بعد انتهاء العيد، إذ يجب أن يحمل هذا العيد تغييرًا جذريًّا للمؤمِن، وهذا التغيير الجذريّ يكون على مستوى الفهم لعمل الله الخلاصيّ للبشر بحدّه الأدنى، وتغييرًا جذريًّا على السلوك بحدّه الأقصى. لقد قال أحد الفلاسفة، إنّ يسوع المسيح النّاصريّ هو آخر مسيحيّ على هذه الأرض، إذ لم يتمكّن هذا الفيلسوف مِن أن يجد مسيحيّين يُدِركون حقًّا رسالة المسيح ويحاولون عيشها ونقلَها بفرح إلى الآخرين. ويوافقه الرأي الفيلسوف الإلمانيّ "نيتشِه" الّذي عبّر عن الأمر نفسه قائلاً إنّ إله المسيحيّين مات ولم يقم، بدليل وجوه المسيحيّين العابسة الّتي لا تُعبِّر عن فرحهم بقيامة إلههم. في الآونة الأخيرة، نشهد أزمةً كبيرة يعاني منها المسيحيّيون إذ يجدون في إيمانهم مصدر تعبٍ لا مصدر فرح، فهم يشعرون أنّ الإنجيل يفرض عليهم متّطلبات حياتيّة يصعب عليهم عيشها، إذ يستطيع غير المؤمنين القيام بما يمنتع المؤمِن عن القيام به بسبب إيمانه، عندها يتحوَّل الإيمان المسيحيّ إلى عبءٍ ثقيل يُرمى على عاتق المؤمنين. إنّ المؤمن الّذي يقوم بما يجب الامتناع عنه حسب إيمانه، يشعر بضعفه البشريّ وبنقصِه، فيختبر عدم كماله، ممّا يدفعه إلى الشعور بالكآبة، الّتي تؤدي إلى الشكّ والقلق، وبالتّالي يتحوَّل إيمانه لا إلى مصدر فرح، بل على العكس مِن ذلك إلى مصدر لحزنه وكآبته، ويفقد المؤمِن أمانه الّذي يمنحه إيّاه إيمانه، ليتحوَّل إلى قلقٍ وخوفٍ من مصيره الأبديّ. إخوتي، إنّ المسيح قد قام، لذا لا داعي لكلّ هذا الخوف، والقلق.
إنّ الذبائح الّتي كانت تفرضها الشريعة على المؤمنين لم تكن كفيلة بأن تُطهِّر الإنسان وتجعله منَزَّهًا عن الوقوع في الخطيئة من جديد، لذا كان من الضروريّ أن يتجسَّد المسيح، لِيمنح المؤمنين به الخلاص الّذي وعد به الله البشر في العهد القديم. "ولـمّا تمّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه"، تعني أنّ الله قد أرسَل ابنه إلى البشريّة حين وَجَدَتْ تلك الأخيرة أنّ لا فائدة لها من كلّ العبادات القديمة الّـتي تمسَّكت بها، إذ إنّها عاجزة عن منحها الخلاص. إذًا، تَجسَّدَ المسيح حين وصلت البشريّة إلى قمّة اليأس من قديمها، فمنحها الخلاص، الّذي كانت تنتظره. إنّ كلّ انتصارٍ أرضيّ قام به البشر، كان سببًا في توَهُّمهم أنّ فيه خلاصهم، غير أنّ الربّ أراد أن يقول لهم إنّ هذا الانتصار ما هو إلاّ بداية لعبوديّة جديدة لهم. إنّ أعمال الله لا يستطيع الإنسان أن يتوَقَّعها، إذ إنّ كلمة الله تحصر الإنسان فتضع له قوانينَ لا يجب أن يتخطّاها لأنّ في ذلك أذيّة له وللآخرين، ولكنّها لا تحصر الإنسان، لأنّ الله حرٌّ حتّى مِن كلمته. إنّ حريّة الله كاملة، لذا ارتضى بالعبوديّة الكاملة حبًّا بالإنسان فَتَجسَّد آخذًا صورة العبد. عندما رأى الإنسانُ اللهَ في صورة العبد الضعيف، سكب فيه كلّ ظلم خطيئته، فكان الصّلبُ عقابَ الله على خطايا البشر، ورَضيَ بهذا العقاب كي يعلّمنا الحبّ على الطريقة الإلهيّة. إنّ الله قد قَبِل عبوديّة الحبّ، فأوصَله حبّه إلى تحمُّلِ بُغضِ البشر له. لقد اعتقد الإنسان أنّ الشيطان قادرٌ على أن يغلب المسيح يسوع بالموت، غير أنّه كان مُخطئًا في ذلك: لقد استفاد الشيطان مِن ظلم الإنسان لربّه، فأدرك الموت يسوع، لكنّ الشيطان لم يتمكّن من قهر الله، إذ إنّ الله أَعلن القيامة العامّة قبْلَ أوانها بقيامة المسيح مِن بين الأموات. إنّ قيامة يسوع مِن بين الأموات هي دلالة على أنّ الفساد لا يمكنه أن يُدرِك عدم الفساد، ولا يستطيع البلاء أن يدرك ذاك الّذي لا يستطيع أن يطاله البلاء. إنّ قيامة المسيح مِن بين الأموات هي من أجل أن يُدرِك الإنسان أنّ الله هو المنتصر، وبِه وحده يكون الخلاص إذ لا يستطيع الفساد والموت أن يُدركاه، وبالتّالي نستطيع القول: أين غلبَتُك يا جحيم؟ وأين نصرُكَ يا موت؟ إنّ المسيح قد قام حقًّا.
إنّ الحياة ليست مرحلة يعيشها الإنسان بعد ولادته منتظرًا الموت، كما يعتقد البعض فيقولون هلُّموا نفرح في هذه الحياة، إذ إنّنا إلى الزوال صائرون حين يُدرِكنا الموت، ولنستفِد مِن ملاهي هذه الحياة، لأنّ في الآخرة لا وجود لهذه الملاهي. إن كنّا نعيش هذه الحياة ونحن ننتظر الموت، فإننّا سنعيش في حالةٍ رفضٍ للموت، ترافقها حالة من التّعلق المرضيّ بهذه الحياة الفانية، لذلك يصبح الإنسان أنانيًّا وطمّاعًا... إنّ أزمة الإنسان الّتي يُعاني منها نتيجة خوفه من الموت، انتهت بإقامة لعازر من الموت، وبإعلان المسيح القيامة العامّة بقيامته من الموت، فلا داعي بعد الآن للخوف من الموت، لأنّ المسيح قد انتصر على الموت ومنحنا بانتصاره الحياة الأبديّة في السّماء. إنّ المسيح بقيامته من بين الأموات جعل الآخرة حاضرة في عيون البشر منذ هذا الزّمان. إنّ ولادة المؤمن بالمسيح، أي بالمعموديّة، تجعله إنسانًا جديدًا ينتظر الموت الجسديّ في هذه الحياة لأنّه يترّجى القيامة والحياة الأبديّة في الملكوت مع الربّ. إذًا، لم تعد الحياة تنتهي بالموت الأرضيّ بل تتعدّاه لتشمل الحياة الأبديّة مِن خلال القيامة، وبالتّالي فقد أصبح المؤمن ينتظر موته في هذه الفانية بفرح، لا بحالة استسلام لها، وذلك لأنّ القيامة من الموت ستكون مِن نصيبه. إنّ حياة المؤمن تتغيَّر حين يُدرِك القيامة، إذ لا يعود يزْدَري هذه الحياة لأنّه إنسانٌ مائت، بل يزدريها لأنّها قد تُشكِّل له عائقًا يمنعه من رؤية قيامة المسيح. إنّ الصّوم هو مرحلةٌ يتذكَّر فيها الإنسان أنّه لا يجب أن يخاف من الموت، لأنّ المسيح قد انتصر عليه، ومنحنا القيامة. إنّ الصوّم هو فترة تساعد الإنسان على التآلف مع فكرة الموت إذ إنّ الصّوم يُشكِّل دعوة للإنسان كي يموت بطريقة يوميّة عن الأمور الدّنيويّة الزائلة. يبدأ المؤمِن، هذا الأسبوع العظيم، بعد أن كان شاهدًا لقدرة الله العظيمة على الموت من خلال إقامة لعازر، لذا يفرح المؤمِن ويُهلِّل للمسيح المنتصر على الموت، فيهتف قائلاً: "هوشعنا في الأعالي". في العهد القديم، كانت الأعلام والبيارق تُرفَع عند عودة الملك من الحرب، لتُعلِن عن انتصاره في الحرب، كذلك رُفعِت أغضان النّخيل والزّيتون في أورشليم، حين دخلها المسيح، وبالتّالي فإنّ الشَّعب قد أَعلَن انتصار يسوع على الموت. في يوم الشعانين، لم يَعُدْ المسيح منتصرًا على الموت، بل إنّه في دخوله إلى أورشليم، دخل الحرب مع الموت، ففي دخوله إلى أورشليم بدأت مسيرة الآلام تمهيدًا لموته مصلوبًا. إنّ المؤمِن يحبّ دائمًا علامات الانتصار لذا رفع أغصان النّخيل يوم دخول المسيح إلى أورشليم، فعلامات النّصر هي رمز للحياة، وعلامات الانكسار هي رمز للموت. إنّ يوم الشعانين يبدأ بفرح الشعانين، وينتهي بإعلان بدء أسبوع الآلام.
إنّ أسبوع الآلام في الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، يبدأ مساء أحد الشعانين، بصلاة الخَتَن: "ها هوذا الخَتَن يأتي في نصف اللّيل، فطوبى للعبد الّذي يجده مستيقِظًا، وأمّا الّذي يجده متغافلاً فهو غير مستحقّ، فانظري يا نفسي ألاّ تستغرقي في النّوم، فيُغلَق عليكِ خارج الملكوت، بل كوني منتبهة صارخة: قدّوس قدّوس قدّوس." إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تبدأ هذا الأسبوع بقراءة إنجيل التينة الّتي لا تُعطي ثمرًا، لتُذكِّر المؤمن بعدم الوقوع في الإحباط واليأس إن وجد نفسه لا فائدة منه مثل هذه التينة، لأنّ الربّ يدعوه في بداية هذا الأسبوع ليُشاركه في مسيرة آلامه.
وتقرأ الكنيسة في اليوم الثاني من أسبوع الآلام إنجيل العذارى العشر، هؤلاء العذارى الّلواتي كانت خمس منهنّ حكيمات، والخمس الأُخريات كُنَّ جاهلات. وفي قراءتها لهذا الإنجيل تدعونا الكنيسة الشرقيّة إلى الاستعداد لملاقاة الربّ إذ ما من أحدٍ منّا يستحقّ لقاء الربّ.
وفي اليوم الثالث من أسبوع الآلام، تقرأ الكنيسة الأرثوذكسيّة على مسامعنا نصّ خيانة يهوذا، الّذي باع سيّده بثلاثين من الفِضَّة، وسلّمه إلى الجنود بقبلة: "أبقبلة يا يهوذا، تُسلِّم ابن الإنسان؟"، ومن ثمّ ندِم على فِعلته هذه، فذهب وقتل نفسه شنقًا. إنّ يهوذا لم يفهم تعليم المسيح له، من خلال شهادته على إقامة يسوع للعازر، لذا عاقب نفسه على فعلته المشينة بقتل نفسه شنقًا. إنّ الكنيسة من خلال هذا النّص تريد أن تُخبِرنا أنّ شهادتنا على إقامة لعازر من الموت، ومشاركتنا في يوم الشعانين، غير كافيَيْن كي نشعر بأنّنا نمتاز عن الآخرين، فالمسيح يطلب منّا الانحناء وخدمة الآخرين، وغسل أرجلهم كي نستحقّ أن نكون الأكبر في ملكوت الله.
في اليوم الرابع من أسبوع الآلام، يدعونا المسيح إلى الانحناء وخدمة الآخرين وغسل أَرجُلِهم، كما فعل هو، ومن ثمّ يدعونا إلى مشاركته الوليمة. لقد أعطى المسيح جسده ودمه في يوم خميس الأسرار، ودعاهم إلى تكرير هذا الأمر في كلّ مرّة يجتمعون للصّلاة. إنّ الجسد هو دليل على الحضور، والدّم يرمز إلى الحياة، وبالتّالي فإنّ المسيح أعطى تلاميذه حضوره فيما بينهم، وأعطاهم كلّ حياته، لذا لا داعي للخوف متى شاهدوا الموتَ يضرِبُه. إخوتي، ما الّذي ينتظره التّلاميذ بعد من يسوع؟ لقد أقام لعازر، ودخل أورشليم منتصرًا على الموت، وغسل أرجل تلاميذه، وتناول الطّعام معهم، وأعطاهم حضوره وحياته، وعلى الرّغم من كلّ ذلك، لم يفهموا مغزى كلّ تلك الأعمال العظيمة الّـتي قام بها يسوع. إنّ بطرس بقيَ عديم الفهم لِمـا صنعَ يسوع في العشاء، فاعترض على المسيح عندما أراد غسل رِجليه، ولكنّه عاد وانصاع لرغبة المسيح، الّذي غسل له رِجلَيه كباقي الرّسل. إنّ الإنجيل يُخبرنا عن حماس بطرس، حين قال للمسيح إنّه لن يتركه أبدًا حتّى وإن تركه الآخرين، لكنّ المسيح هدّأ مِن حماسه حين أخبره أنّه سينكره ثلاث مرّات. وبالتّالي فإنّ المسيح يدعونا من خلال الكنيسة إلى عدم اليأس من ذواتنا، وعدم الشّعور بالإحباط إن وقعنا في التّجربة كما حدث مع بطرس الرّسول، فإنّنا جميعنا غير مستحقِّين لما فعله الربّ من أجلنا، غير أنّه يتوجّب علينا الاستعداد وقبول عمل الله الخلاصيّ لأجلنا. إنّ عظمة قيامة المسيح تكمن في أنّه منحنا الحياة الأبديّة على الرّغم من عدم استحقاقنا لها، إذ لا يستحقّ أحد من البشر أن يشارك الله وليمته في الملكوت، ولا أحدَ منّا يستحقّ موت المسيح لأجله. إذًا، لا يجب أن تقف خطايانا حاجزًا بيننا وبين المسيح فبطرس ويهوذا لم يكونا أفضل منّا حالاً، ولكنّ المسيح قام ومنحنا القيامة، على الرّغم من كلّ ذلك. إنّ بطرس قد أنكر المسيح خوفًا من الموت، ولكنّ المسيح منحه القيامة العامّة. إخوتي، إنّ ارتكاب خطيئة واحدة كفيلة بأن تدفعنا إلى ارتكاب المزيد، كما فعل بطرس، إذ إنّه أنكر المسيح ثلاث مرّات وعاد وحلف أنّه لا يعرف المسيح على الرّغم من إدراكه أنّ الحِلفان أمرٌ غير جائزٍ بحسب الوصايا.
إنّ يوحنّا الحبيب هو الشخص الوحيد بين الرّسل الّذي رافق المسيح إلى الصّليب. لم يذكر الإنجيليّ يوحنّا في سرده لقصّة الصلب اسمه بل قال عن نفسه إنّه التّلميذ الّذي أحبّه يسوع. وبالتّالي، فإنَّ مَن يبقى ويستمّر مع المسيح إلى النّهاية هو الحبيب، كائنًا مَن يكون. ولكنّ السؤال الّذي يُطرح هو: مَن بقي مع مَن: هل بقي يوحنّا الحبيب مع يسوع المصلوب، المتألِّم على الصّليب؛ أم أنّ يسوع هو الّذي بقي مع يوحنّا الوحيد؟ إنّ الإجابتين جائزتان. إذًا، الّذي بقي قرب المصلوب هو ذاك التّلميذ الّذي ألقى رأسه على صدر المسيح. ويقول القدِّيس أوريجانوس، ذلك المفكِّر واللّاهوتيّ الكبير إنّ يوحنّا قد أخذ كلّ لاهوته مِن هذا الإتّكاء على صدر المسيح، أي أنّه اخذ كلّ اللّاهوت مِن قلب المسيح، إذ إنّ الإنجيليّ يوحنّا قد اشتهر بلاهوته الّذي دوَّنه في إنجيله. فلا يجوز، إذًا، للمؤمن أن يُشارك في هذا الأسبوع العظيم وهو يتلهّى بخطاياه وخطايا الآخرين، أو برؤيته المضطربة إلى الدّنيا، لأنّ المسيح غير الـمُدرَك قد جعل الخلاص والقيامة حقًّا للمؤمن على الرّغم من كلّ خطاياه الفظيعة. لقد رافق سمعان القيرواني يسوع إلى الجلجلة، عِوَضًا عن سمعان بطرس الّذي أنكره. إنّ سمعان القيرواني هو مِن مدينة قيروان، أي أنّه من غير اليهود، أو من يهود الشَّتات. بعد حذف أحرف العلّة من كلمة "قيروان" في اللّغة اليونانيّة، يبقى لنا كلمة تعني الجمجمة ومعناها الجلجلثة، وبالتّالي فإنّ سمعان القيرواني هو الّذي وصل مع المسيح إلى درب الجلجلثة، حيث تمّ الصَلب. إنّ سمعان بطرس، تلميذ يسوع، قد هرب من الجلجلة ومِن حمل الصّليب؛ وسمعان القيرواني، ذاك الغريب عن أورشليم والشَّعب اليهوديّ، قد رافق المسيح إلى الجلجثة، وبالتّالي لا يستطيع أحد الوصول إلى الجلجثة إلّا إذا نظر إلى النّهاية وقَبِل بها.
إنّ "سمعان" هو الاسم اليهوديّ للقدِّيس بطرس، غير أنّ يسوع أعطاه إسمًا آخر وهو "الصّخرة" أي بطرس. وكذلك الأمر مع شاوول، إذ أعطاه الله اسم بولس. إنّ الاسم يعني الحياة، لذا عند معموديّة الإنسان، يُعطى طالب العماد اسمًا جديدًا للدلالة على ولادته الجديدة مع المسيح. إنّ الإنجيل يُعيد لبطرس اسمه القديم "سمعان"، بعد نكرانه للمسيح، ولكنّه أعاد له اسم "بطرس" بعد أن بكى بكاءً مرًّا مُعلنًا توبته، وبعد أن أعلن عن حبّه للمسيح حين ظهر له القائم من الموت، الّذي عاد وكلّفه من جديد بـمَهمّة رعاية القطيع. إذًا، إنّ الإنجيل يدعونا إلى عدم اليأس وعدم الشعور بالإحباط لأنّ توبتنا عن خطيئتنا كفيلة أن تعيد لنا المهمّة الّتـي أَوْكَلَنا الله بها، والّتـي نُزِعت منّا بسبب خطايانا. إنّ بطرس لم يتمكّن من الوصول إلى الجلجلة وأخذ مكانه شخصٌ آخر هو سمعان القيروانيّ، كما قد يكون يوحنّا الحبيب هو الّذي أخذ مكان بطرس الرّسول قرب الصّليب.
وفي يوم سبت النّور، على المؤمن أن يختبر الصمّت والسّكون، فيختار الشخصيّة الّـتي تمثِّله في مشهد الصَّلب، وذلك قبل أن تُعلَن قيامة المسيح من بين الأموات، لأنّه حين يتَّخذ قراره سيشعر إمّا بالفرح لدى تلقيّه خبر قيامة المسيح، أو بالحزن، وذلك مرتبطٌ بقيامته. كانت الكنيسة الأولى تمنح الموعوظين، أي طالبي المعموديّة، ذلك السّر في يوم سبت النّور أي قبل إعلان قيامة المسيح، وذلك كي يتمكّن هؤلاء من المشاركة في فرح الفِصح، وبالتّالي، فإنّ كلّ الّذين يشتركون في سرّ المعموديّة، يشتركون أيضًا في فرح القيامة، فرح الفِصح. فعلى المؤمِن، إذًا، أن يدخل الفِصح باستنارة جديدة كي يتمكّن من المشاركة في فرح الفِصح حين تُعلَن قيامة الربّ.
إنّ الرّسل قد تضعضعت نفوسهم واضطربت حين تمّ الإعلان عن القيامة، إذ إنّ قيامة الأموات تعني القيامة العامّة، وبالتّالي انتهاء الدّينونة ومجيء الملكوت. لقد اضطربت نفوسهم لخبر القيامة لأنّهم كانوا غير مُدرِكين لِما يجب القيام به. إنّ الرّوح القدس قد أعطى الرّسل ما يتكلّمون به كي يتمكّنوا من إعلان قيامة المسيح من بين الأموات، فالربّ قد أرسل إلى تلاميذه الرّوح القدس، كي يُرشِدهم ويُعلِّمهم ما عليهم أن يتكلّموا به. وبعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ في العليّة بشكلِ ألسنةٍ من نار، انطلق بطرس في مخاطبة الجموع مُعلنًا أنّ ذاك الّذي قام اليهود بصلبِه هو حقًا المسيح الربّ.
إخوتي، علينا التحلّي بذهنيّة الفِصح كي نتمكّن من المشاركة في عيد الفِصح، عيد القيامة، أي أنّه علينا أن نتذكَّر أنّ المسيح قد قام، وبالتّالي علينا عدم التوقّف عند الأذية الّتي نوجِّهها صوب الآخرين، أو التوقّف عند الأخطاء الّتي ترتكب من الآخرين بحقّنا. فلنسعَ في هذا الفِصح إلى الصَّفحِ عن الآخرين ومصافحتهم، لأنّ اليوم هو يوم القيامة، والقيامة العامّة قد تمّت أي أنّه لا وجود ليوم آخر غير ذلك اليوم، إذ إنّ كلّ الأيّام الّتي تلي يوم القيامة هي مشابهة له، ولذا يُطلق على اثنين القيامة اسم "اثنين الباعوث"، فهو يوم مشابه ليوم القيامة. في الروزنامة الّتي نستخدمها، هناك سبعة أيّام، لا ثمانية، غير أنّ يوم القيامة هو اليوم الثامن إذ لا وجود لأيّام أخرى بعده، فالقيامة العامّة قد تمّت، بقيامة المسيح من بين الأموات. في الإنجيل نقرأ عبارة "في اليوم الثامن"، أو عبارة "بعد ثمانية أيّام"، في الكلام عن ظهور المسيح لتلاميذه في العليّة حين كانت الأبواب موصدة. إنّ اليوم الثامن هي عبارة تُستَعمل للدلالة على أنّ هناك زمنًا جديدًا قد بدأ، وهو زمن القيامة. إذًا، نحن نُشارك في أسبوع الآلام، بعد أن نكون قد اختبرنا في إقامة لعازر، قدرة المسيح على الموت، وتذّوقنا طعم القيامة الّتي سنحصل عليها عند قيامة المسيح من بين الأموات. إنّ مؤمنين كُثُر يعتقدون أن العيد ينتهي بإنتهاء فرصة العيد، غير أنّه في الحقيقة على المؤمِن ألّا يعود إلى حالته القديمة بعد انتهاء العيد، إذ عليه أن يُعلن انتصار المسيح على الموت.
عسى أن تُشكِّل "إقامة لعازر وقيامة المسيح"، عنوانًا لصليبنا في هذه الحياة، وأن لا يتحوَّل ذلك العنوان إلى تهمةً كالكتابة الّـتي وُضِعت فوق صليب المسيح. على شعارنا في الحياة، أن يكون "إقامة لعازر وقيامة المسيح"، كي نتمكّن مِن أن نقطع الطريق على كلّ شِدّة وضيقة نعاني منها، ولا تدعها تبعدنا عن محبّة المسيح، فنردّد مع بولس الرّسول: إنّ لا شيء يفصلنا عن محبّة المسيح، لا شدّة، ولا ضيق، ولا أيّة محنة في هذا العالم.
المسيح قام!
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بِتَصَرُّف.

تتمة...
8/3/2017 الجمود الروحي الأب ابراهيم سعد

الجمود الروحيّ
مع الأب ابراهيم سعد

8/3/2017

إنّ موضوعَنا اليوم، يتمحوَر حول الجمود الرّوحي، أي حول الإنسان الّذي يعيش حالةً مِنَ الجمود على صعيد العمل والعاطفة والتّطور. إنّ الجمود الروحيّ لا يعني الفتور الروحيّ، غير أنّه يؤدي إلى فتورٍ روحيّ. إنّ الجمود الروحيّ في حياة الإنسان يدفعه إلى الشعور بالضَّجر والـمَلل وفُقْدانِ الفرح والرّجاء في غدٍ أفضل، لذا تُصبح جميع أيّامه متشابهة دون أن يكون لها أيُّ رونق، فيَتَمنّى الموت معتقدًا أنّه بهذه الطريقة يضع حدًّا لتلك المرحلة. إنّ البشريّة مُعرَّضة للوقوع في هذه الحالة، غير أنّها قد تطول عند البعض، أو تَقصُر عند البعض الآخر، استنادًا إلى نظرة الإنسان إلى تلك المرحلة. كما أنّنا نتفاجأ حين نجد أن البعض يتمنّون عيش تلك الحالة وإطالة مدّتها، بينما الكثيرون يرغبون بتقصير فترتها. إنّ عيش تلك الحالة تختلف بين إنسانٍ وآخر إذ إنّ الأمر يتعلّق بِنَفسِيَّة الإنسان الداخليّة.

إنّ الإنسان موجود في داخل العالم، والعَالَم موجودٌ في داخله: إنّ عالَمنا اليوم هو بمثابةِ غرفةٍ مغلقة لا باب لها، تضمّ كلّ البشريّة. إنّ المؤمن الّذي يتمتّع بعلاقة متينة وقويّة مع الربّ، لا يستسلم لِوَضْعِه بل يسعى إلى إيجاد حلٍّ للخروج مِن تلك الغرفة، مِن خلال علاقته بالربّ، فالسّماء هي الحلّ الوحيد لخروجه مِن تلك الغرفة. إنَّ المؤمن ينجح في مواجهة تلك الصعوبات والحواجز وتَخَطِّيها لأنّه يُدرِك من خلال علاقته بالربّ، مفهوم الحبّ الحقيقيّ، ولذا هو يتمتّع بالرّضى النفسيّ، والقناعة أنّ الله هو الدّاء لكلّ صعوبة في هذا العالم. إنّ المؤمن الحقيقيّ يستطيع أن يرى كلّ الإشعاعات الفكريّة والروحيّة الّتي يمدّه الربّ بها لمواجهة حالة الجمود فيتخطّى كلّ الحواجز الّتي تعيق طريقه صوب السّماء، أمله الوحيد في الخلاص مِن تلك الحالة. أمّا الإنسان الّذي لا يسعى لبناء علاقة مع الربّ، فإنّه لن يجد أيّ حلٍّ أو مخرجٍ له مِن تلك الغرفة، لذلك سَتَزدادُ حالتُه كآبةً، كما تزداد نظرته إلى الحياة سوداويّةً، لذا تطول مرحلة الجمود الّتي يُعاني منها. إنّ الإنسان لن يتمكّن مِنَ التغلُّب على حالة الجمود الّتي يعيشها إلّا مِن خلال وَضعِه الروحيّ والنفسيّ، لا مِن خلال انتظاره لِتَغيُّر الأوضاع الخارجيّة. إنَّ انتظار الإنسان تَحَسُّنَ الأوضاع الخارجيّة، سيزيده إكتئابًا وحُزنًا، أمّا إنْ سعى إلى تَخَطي تلك المرحلة مستندًا إلى وَضعِه الروحيّ المبنيّ على قناعته بأنّ الله لن يتركه، وأنّه سيمنحه السّماء، فإنّه سيجتاز تلك المرحلة سريعًا.
إنَّ حالة الجمود تترافق مع فتورٍ روحيّ، إذ تتحوّل صلاة الإنسان إلى تمتمة كلمات كما يفقد كلّ حبٍّ للحياة وكلّ رغبةٍ لمواجهة صعوباتها. إنّ هذا الجمود يُعدي الآخرين، إذ إنّ الكآبة الّتي يعيشها الإنسان تنتقل إلى الآخرين مِن خلال تصرّفاته، وكلماته الّتي تخلو مِن حبّه للحياة. إنّ اليائس يرفض سماع أيّ حديث عن الإيمان والرّجاء والتفاؤل، ويجعل مِن وَضعِه البائس محور الحياة بأسرها، طالبًا مِنَ الجميع مساعدته للخروج مِن هذا الوَضع دون أن يقوم بأيّ مجهود يُذكَر لمواجهة تلك الأزمة. إنّ هذا الإنسان اليائس ينظر إلى كلّ حديث عن الإيمان والفرح الدّاخليّ، على أنّه مجرّد نظريّات لا يَسَعُها مساعدتَه على النّهوض مِن حالة الجمود الّتي يعيشها. لا يمكن للإنسان أن يبني بناءً جديدًا على بناءٍ قديم، لذا عليه أن يهدِمَ كلّ بناءٍ قديم ليتمكّن مِن أن يُشيِّد بناءً جديدًا صالحًا. وبالتّالي لا يمكن للإنسان النّهوض مِن أزمة الجمود الّتي يُعاني منها، والانتقال إلى حالةٍ أخرى دون تحطيم كلّ المفاهيم القديمة، واعتماد مفاهيم أخرى جديدة. إنّ بعض البشر يُحوِّلون هذه الحالة مِنَ الجمود إلى هوايةٍ، فيزرعون الكآبة واليأس في النّفوس، وهذا ما يصعب إزالته منها. إنّ الأدوية الّتي يلجأ إليها الأطبّاء للتَّخفيف مِن حدّة الكآبة عند النُّفوس لن تكون نافعة إلّا عند النّفوس الّتي تُعاني مِن كآبةٍ خارجيّة أي تلك الناتجة عن صدمة خارجيّة معيّنة. إنّ الأدويَة المضادّة للكآبة غير قادرة على تحويل نظرة الإنسان السَّوداويّة في الحياة إلى نظرة إيجابيّة تفاؤليّة، ولذا فإنّ الّذين يُعانون من كآبةٍ داخليّة يحتاجون إلى طبيب نَفسِيّ. ولكن استنادًا إلى خبرتي في هذه الحياة، فإنّي أجد أنَّ كلمة الله أي الإنجيل هي الدّواء الشَّافي لكلّ كآبةٍ داخليّة، فيسوع المسيح هو الطبيب القادر على شفاء كلّ البشر مِن كلّ مرضٍ نَفسِيّ وروحيّ. على الإنسان ألّا ينظر فقط إلى وَضعِه الاقتصاديّ ويَتَذمّر منه، بل عليه أن ينظر أيضًا إلى الآخرين وأوضاعِهم الاقتصاديّة، فيجد أنّ الضِّيقة الاقتصاديّة الّتي يعاني منها تُصيب أيضًا كلّ مَن حوله، ولذا لا ضرورة للتَّذمُر لأنّه لن يُجدي نفعًا. ليس المقصود استسلام الإنسان لوضعِه واليأس منه، إنّما المقصود هو محاولة تَقَبُّل هذا الوضع، والسَّعي للنّهوض مِنه كما يفعل الآخرون. لا ضررَ مِن أن يتعلّم الإنسان الّذي لا يتمكّن وحده من مواجهة حالة الجمود الّـتي يُعاني منها، مِنَ الآخرين كيفيّة مواجهة تلك المرحلة بِصَبرٍ. على الإنسان أن يتذكَّر دومًا أنّه مهما طالت الأزمات الاقتصاديّة والصّعوبات الحياتيّة، فهي ستزول يومًا ما، إذ لا شيء دائمٌ وخالِدٌ سوى الله.

إنّ الشيوعيّة الماركسيّة تَعتبر أنَّ الدِّينَ هو أفيونٌ للشعوب، على حدّ قول فلاسفتها، فالدِّين بِنَظرِهم يُخرِج وهميًّا الإنسان مِن واقع هذه الحياة ومشاكلِها، دافعًا إيّاه للتفكير في الحياة الثانية. إنّ هذه النظريّة لا تُعبِّر عن حقيقة المسيحيّة، فالإنجيل لا ينقل الإنسان وهميًّا إلى عالمٍ آخر ريثما تنتهي الأزمات الحياتيّة الّـتي يُعاني منها ثمّ تُعيدُه إلى الحياة الأرضيّة، كما وأنَّ الإنجيل لا يملك حلولاً سحريّة فوريّة لكلّ مشاكل الإنسان. ولذا لا يمكن للإنسان أن يمنح المحزون على فقدان أحد الأحبّة تعزيةً إنسانيّة بإعلانه أنّ الحلّ لمشكلته هو التفكير في الحياة الأبديّة، فالمحزون لا يستطيع أن يرى هذا الحلّ لمشكلته طالما أنّه في عمقِ الأزمة. كذلك الأمر بالنسبة إلى العاطل عن العامل، إذ لا يمكن تعزِيَته عبر الطلب مِنه أن يُصلّي عِوضَ أن يبحث ويُضاعف جهوده في البحث عن وظيفة. إنّ الله لا يستطيع أن يجد حلّاً لمشاكل الإنسان إنْ لم يُرِد هذا الأخير ذلك، أو لم يقبل بِتَدَخُّل الله في حياته.
"إنّ الله قادرٌ على كلّ شيء" مقولةٌ تطرح صعوبةً في فَهم المؤمن لها، فالإشكاليّة لا تكمن في فَهمِ المؤمن لكلمة "قادر"، إنّما في فَهمِه لكلمة "كلّ شيء". قد يتفاجأ البعض إن قُلتُ إنّ الله ليس قادرًا على كلّ شيء، إذ إنّ هذه المقولة تتطلّب شرحًا لمفهوم "كلّ شيء" في نظر الإنسان، كي نستطيع الجَزِم إن كان الله قادرًا على كلّ شيء أم لا. إنّ بعض المؤمِنِين يتذّرعون بهذه المقولة للتكاسل والاستقالة مِن مسؤوليّاتهم، قائلِين إنّ الله قادر على كلّ شيء، إنّهم قَدَريِّون يَنْسِبُون مسؤوليّة الأخطاء الناتجة عن إهمالهم إلى الله. وإليكم مَثلاً مِن واقع الحياة يُوضِح لكم تلك المسألة: إنْ لم يتمكّن أحد العاطلين عن العمل من إيجادِ وظيفةٍ، فإنّه يَنسِبُ ذلك إلى الله قائلاً إنّ الله لم يُوَفِّقه، غير أنّ الحقيقة هي أنّ هذا الإنسان لم يبحث بما فيه الكفاية كي يجد وظيفةً له، أي أنّ لا علاقة لله في ذلك. إنَّ هذا الإنسان، العاطل عن العمل، قد استسلم لِوَضعه. إنّ عدم إيجاد هذا الإنسان لوظيفةٍ لا يعني بالضرورة عدم وجود وظائف شاغرة، أي أنّ الأمر الّذي لم يتمكّن الإنسان من إيجاده، لا يعني بالضّرورة عدم وجوده، إنّما يعني أنّ هذا الأخير لم يبحث بما فيه الكفاية. لا يجوز للإنسان أن يُعمِّم خبرته الخاصّة على البشريّة، كأَنْ يقول في هذه الحالة، أنّ لا وظائف شاغرة، بل عليه أن يقول إنّه لم يتمكّن بعد مِن إيجاد وظيفة له.

إنّ الإنسان الّذي يُعاني مِن جمودٍ روحيّ، يسعى إلى أن يجعل مِن وَهْمِه حقيقةً، لذا هو يُعمِّم خبرته الشخصيّة، كأنْ يقول إنّه لا وفاء عند البشر، أو أن يقول إنّه لا وجود للحبّ. فمثلاً قد يُعمِّم أحدهم خبرته الخاصّة فيقول إنّه لا نفع مِن الإحسان إلى أحد في هذا العالم، إذ لم يُقدِّر أحدٌ عملَ الخير الّذي قام به. إنّ مِثل هذا القول هو نتيجة خبرة هذا الإنسان الخاصّة، وبالتّالي لا يجب تعميمها لأنّ في ذلك تَعميَةٌ للآخرين عن رؤية الحقيقة. إنّ مِثل تلك الخبرات الخاصّة السلبيّة تنبع مِن داخل الإنسان ولا تُعبّر عن الحقيقة، لذا لا يستطيع الإنسان تقديم البراهين عنها وإقناع الآخرين بها على أنّها حقيقة عامّة. إنّ كلمة الله قد انسكبت في قلوب جميع البشر، غير أنّ الإنسان الّذي ينجح في النّظر إلى مشاكله بإيجابيّة هو إنسانٌ قد تفاعل مع كلمة الله المزروعة في داخله، أمّا الّذي لم يتمكّن مِن رؤية الأمور الّتي يُعاني منها بإيجابيّة، هو إنسانٌ لم يتفاعل مع كلمة الله في داخله، بل سَمِعَها وحوَّلها إلى صَنَمٍ، غير قادرة على النّمو وإعطاء ثمارٍ في حياته. إنّ المؤمِن هو كسائر البشر يتعرَّض للحزن والألم والوجع والضِّيق والوِحدة، ويسوع المسيح هو أعظم دليل على ذلك. إنّ يسوع المسيح قد اختبر الوحدة حين كان مُعلَّقًا على الصليب، إذ لم يجد قربه سوى يوحنّا الحبيب مِن بين رُسُلِه الاثني عشر. إنّ بولس الرّسول قد عانى هو أيضًا مِنَ الوحدة، إذ لم يتبَقَّ له سوى تلميذه طيموتاوس. قلائل هم الّذين يستمرُّون برفقة الآخرين حين يُعاني هؤلاء من الأزمات والضِّيقات. إنّ أكثر الأشخاص الذين يُعانون مِن الوِحدة هم الزّعماء، الـمُحاطون بجماهير غفيرة. إنّ الزّعماء يُدرِكون تمامًا أنَّ تلك الجماهير تُحاوطهم مِن أجل مصلحة شخصيّة خاصّة لا حبًّا بهم، لذا عندما تنتهي المصلحة، يتوارى جميعهم عن نظر الزّعماء، فيعيش الزّعماء حالة مِنَ الوحدة القاتلة.

لا ترتبط سعادة الإنسان بالأوضاع الخارجيّة إنّما في نظرته إلى السعادة والتعاسة وللحياة. إنّ السّعادة لا ترتبط بنظرة الإنسان الإيجابيّة إلى الحياة: فأن يكون الإنسان إيجابيًّا لا يعني بالضَّرورة زوال الأمور الصّعبة في الحياة، إنّما يعني أن يتحلّى الإنسان بالطاقة الّتي تجعله يسعى لإيجاد حلولٍ لمشاكله. إنّ الإنسان هو المسؤول عن مشاكله، ولذا عليه أن يحاول أن يجد لها حلّاً، فالحلول لن تأتيه من السّماء نتيجة ظهوراتٍ إلهيّة، لأنّ الله لا يملك حلولاً سحريّة. إنّ الله لا علاقة له بفشل الإنسان بمشاريعه، ولذا هو لا يملك حلولاً لها. إنّ الله لا علاقة له بالموت، فهو ليس المسؤول عن موت البشر، إذ إنّ إلهنا هو إله الحياة لا إله الموت. غالبًا ما ينسب المؤمن كلّ نجاحٍ يختبره إلى الله، وبذلك يُعبِّر عن إيمانه بالربّ وشكره ومحبّته لله، غير أنّ الله لا يتدخّل مباشرةً في الحَدَث إنّما يتدخّل في قلب الإنسان وعقله، فيُنير له عقله وقلبه بواسطة كلمته الإلهيّة، فيتمكّن المؤمن مِن إيجاد الحلول الفاعلة لمشاكله. إنّ الله ليس مسؤولاً عن تفاصيل حياة الإنسان الصّغيرة، إذ إنّ الله قد أعطى الإنسان حريّة التصرّف، غير أنّه يهتّم بالإنسان ويتدخّل حين يطلب الإنسان ذلك مِن خلال الرّوح القدس. لا يجب أن نسمح للّذين يُعانون من الكآبة نتيجة الأوضاع الاقتصاديّة الّتي تعصف في البلاد من نَقْلِ الكآبة إلينا، لذا علينا أن نقول لهم عندما يبدأون بالتشكّي من تلك الأوضاع أمامنا إنّنا جميعنا نُعاني من تلك الأزمة الاقتصاديّة، والطلب منهم التوقّف عن التشكّي لأنّ كلّ إنسان لديه ما يكفي مِن الهموم. في ظلّ تلك الأزمة، نرى أنَّ الفرح والسلام والتفاؤل قد فُقِد مِن قلوب البشر.
إنّ كلّ الأزمات الّتي يُعاني منها الإنسان في هذا العصر، عانت منها الأجيال السّابقة أيضًا، غير أنّ حاجات أولئك لم تكن بمقدار حاجاتنا اليوم، فَمَع ازدياد حاجات الإنسان تزداد همومه، وكذلك سَعْيه إلى العمل لأجل توفير حاجاته، وقد لا يتمكّن مِن توفيرها بسبب قلّة العمل، ولذا تُسيطر عليه الكآبة. إذًا لا تكمن مشكلة الإنسان الّذي من الجمود الروحيّ، في الأزمة الاقتصاديّة فحسب، إنَّما في ازدياد حاجات الإنسان الّتي لا يستطيع هذا الأخير في ظلّ تلك الأزمة من إيجاد موارد ماديّة كافية لإشباع كلّ تلك الحاجات، ولذا فالحلّ يكون في العمل على ذهنيّة الإنسان وتحسين بعض المفاهيم فيها. وإليكم مِثال على ذلك: حين يكون الإنسان في منزله، نراه يتكبَّر على بعض الأمور، فيرفض تناول الطّعام إلّا ساخنًا ولا يشرب إلّا في كوبه الخاصّ، أمّا عندما يكون في نزهةٍ في البريّة، فإنّه يتناول ما لا يقبل بِتَناوله في حياته اليوميّة، ويشرب في الآنية المتوفِّرة لديه دون أن يتذَّمر بل تتحوَّل نزهته إلى مدعاة لفرحه. كذلك مع الأطفال الفقراء المحتاجين الّذين يقبلون الثياب القديمة ويمتلئون بهجةً لحصولهم عليها، أمّا أبناء العائلات الميسورة فإنّهم لا يقبلون بارتداء الألبسة الّتي يمتلكونها أكثر من مرّة واحدة. فما سرّ هذا الفرح الموجود عند الأطفال الفقراء، وغيابه عند الأطفال الميسورين؟ إنّ حاجات الأطفال المحتاجين متواضعة جدًّا، لذا يفرحون كثيرًا حين يتمّ تلبيَتها، فهم لا يملكون لا أحذية ولا ألبسة لولا عطاء البعض. أمّا الأولاد الميسورون، فَهُم لا يُعانون من الحرمان نفسه الذي يُعاني منه أولئك الفقراء، بل إنّهم يجدون أنّ عدم امتلاكهم لكلّ ما هو موجود في السّوق هو حرمان. إنّ الفقراء يُعانون مِن حرمان حقيقيّ، أمّا الميسورون فَهُم يُعانون من أوهام حِرمان، أي أنّهم لا يُعانون في الحقيقة مِن الحرمان، إنّما حاجاتهم قد كثُرت لأنّهم أغنياء، غير أنّ تلك الحاجات ليست ضروريّة للعيش.
إذًا، إنّنا لا نعيش جمودًا روحيًّا بسبب الأوضاع الاقتصاديّة الصّعبة، إنّما سبب هذا الجمود هو انتشار ثقافة البطر،"ثقافة وَهْم الحاجة"، في أوساطنا المسيحيّة إذ ما عُدنا نكتفي بما هو متوفِّر لنا، بل حوَّلنا الكماليّات إلى حاجةٍ ماسّة لنا، لا نستطيع التخلّي عنها. قَبْل أن يقتني الإنسان سيّارةً، لا يجد مشكلةً في التنقّل مستخدمًا وسائل التنقّل الجماعيّ كسيّارات الأُجرة والباصات، بل ويشكر الله لأنّه وَفَّقه بوسيلة تَنَقُّلٍ سريعة تُوصِله إلى المكان الّذي يقصده. ولكنّه ما إن يقتني سيّارة خاصّة به، حتّى يبدأ بالتذمُّر إن اضطُرَّ إلى استخدام وسيلة تَنَقُّل جماعيّ بسبب عِطلٍ في سيّارته أو لسببٍ آخر. إذًا، المشكلة لا تكمن في حاجتك إنّما في قناعتك، وطريقة إدارتك لأمورك الخاصّة. إنّ القناعة وطريقة الإدارة السليمة للأمور، لا يمكن للمؤمِن أن يتعلَّمها إلّا مِن خلال الإنجيل أي حين يحتلّ المسيح المركز الأساسيّ في حياته. إنّ الله يتدخّل في حياة المؤمن عبر الإنجيل فيُنيرُ له عقلَه مِن خلال الكلمة الإلهيّة. إنَّ المسيح يُعلِّمنا كيفيّة مواجهة كلّ صعوبةٍ نتعرَّض لها: فعلى المؤمن إمّا إزالة تلك الصّعوبة، وإمّا تَجاوُزِها، وإمّا بالصبر إلى أن تزول تلك الشِّدة، فالإنجيل يُذكِّرُنا بأنّ مَن يصبُر إلى النهاية يَخْلُص.
إذًا، أزمة الجمود الروحيّ الّتي يُعاني منها الإنسان لا ترتبط بالأوضاع الخارجيّة إنّما بالأوضاع الداخليّة للإنسان، أي في ذهنيّته: لقد أصبح الإنسان يستعبد كلّ الأمور المحيطة به ويستغلُّها مِن أجل خدمته، دون أن يُفكِّر بالآخرين؛ فَبِسَبب ضجيج هذا العالم ما عاد الإنسان يستطيع الإصغاء إلى حاجات الآخرين، وأصبحت الحريّة حجّته لعدم الاكتراث للآخرين. إنّ الحريّة لا يجب أن تَدفع الإنسان إلى عدم الاهتمام بالآخرين، فإنّ فرح الآخرين يندرج ضمن حرّيتك. يُخبرون عن شابّ لبّى دعوة أصدقائه لمشاركتهم الفرح في لقاءٍ حضّروه له، فتلقّى في أثناء هذا الاحتفال اتِّصالاً يُعلن له خبرَ موت والده، غير أنّ هذا الشابّ تابع اللّقاء مع أصدقائه. وعندما استغرب أصدقاؤه هذا التصرُّف سألوه عن السبب، فأتاهم الجواب: إنّ أبي قد مات وَعَودتي إلى المنزل لن تُفيده شيئًا، غير أنّها ستكسر قلوبكم وتُدخل الحزن إلى قلوبكم إذ قد حضَّرتم هذا اللّقاء كي نفرح معًا، وفي الغد عند عودته شارك في الصّلاة على نيّة والده. كما يُخبرون عن شابّ خاف من إزعاج طبيب الأسنان إن صرخ في وجهه بسبب وجعه. إذًا، إنّ شعور المؤمن بالآخر يندرج ضمن إيمانه بالله، فالله لم يطلب من الإنسان الصّلاة والسّجود له، إنّما أعطاه إنسانًا محتاجًا له، فيخدم الله من خلاله. ما دام الإنسان في هذه الحياة، فإنَّ حياته لن تخلو من المشاكل الّتي تحتاج إلى معالجة. على الإنسان ألّا يسمح للمشاكل الّتي تعترضه في هذه الحياة بأن تكون سببًا في دخوله في حالةٍ من الإحباط واليأس. على الإنسان أن يسعى لِتَخطِّي مشاكله، ساعيًا إلى القيام بما يُفرِح الآخرين.

إنّ كلمة الله قادرة على إلهام المؤمن على الحلول الّتي يجب اعتمادها لحلّ المشاكل الّـتي يواجهها. على المؤمن عدم الاستسلام لوَضعه، بل عليه التخلُّص مِن "ثقافة النَّق"، أو التشكّي مِنَ الوَضع الاقتصاديّ السَّييء، وإدراكه أنّ كلمة الله هي الحلّ لكلّ المشاكل، إذ تمنح الإنسان طريقة تفكير جديدة تساعده على مواجهة الصّعوبات وتَخَطِّيها، دون أن تتمكّن تلك الأخيرة مِن زرع الإحباط واليأس في نفسِه. إنّ الصّلاة ليست فقط من أجل التضرّع إلى الله، وطلب الاحتياجات منه، سائلين الربّ الاستجابة لها، فالصّلاة تمنح الإنسان طريقة تفكيرٍ جديدة. لقد توقّف الكثيرون عن المشاركة في ألعاب الحظّ لأنّهم أمضوا وقتًا طويلاً في الصّلاة لله كي يمنحهم الجائزة الكبرى ولم يستجِب الربّ سُؤْلَهُم. غريبٌ هو أمر الإنسان إذ يتصرّف كشيخٍ كهلٍ وهو لا يزال في عمر الشباب، وتتَّسِم حياته بالموت على الرّغم مِن أنّه لا يزال على قيد الحياة. وبهذا ينطبق فيه قول المسيح في الإنجيل: طبَّلنا لكم فلم ترقُصوا، نُحْنَا لكم فلم تبكوا. على الإنسان أن ينظر إلى الحياة بإيجابيّة، ويسعى إلى تدبير أموره بنفسِه حتّى ولو اضطَّر في بعض الأحيان إلى طلب المساعدة من الآخرين، فإنّ في ذلك تواضعًا مِن الإنسان. لا يوجد ضررٌ في لجوء الإنسان إلى شخصٍ آخر يختلف عنه في رؤيته للأمور الحياتيّة، فإنّ ذلك مِن شأنه المساعدة على حلِّ المشاكل، لأنّه متى التقى اثنان في هذه الحياة، يعتمدان "ثقافة النَّق" فإنّهما لن يتمكّنا من حلّ الأمور، بل إنَّ نظرتهما إلى المشاكل ستتعاظم. وغالبًا ما يرفض الإنسان الّذي يُعاني مِن أزمة الجمود المساعدة مِن الآخرين، متَّهمًا الآخر بأنّه غير قادر على فَهْم المشاكل الّتي يُعاني منها الإنسان اليائس. إنّ سائر البشر قادرون على فَهْم ما يُعاني منه إخوتهم البشر، فالمشاكل متشابهة، غير أنَّ الإنسان الّذي يُعاني من الجمود ينظر إلى الأمور بطريقة سوداويّة وهو يرفض تغييرها، لذا يعتقد أنّ الآخرين غير قادرين على إدراك ما يعيشه: إنّ أحد الكهنة قد تعرَّض إلى تشويه سُمعَتِه لأنّه كان ينظر إلى عيون سامعيه عند إلقائه العِظة، ليُدرِك مدى تفاعلهم مع الكلمة. إنّ النَّظرات السوداويّة والاتّهامات ترافق جميع المؤمِنِين، إذ قد لا تُفهَم تصرّفاتهم مِن قِبَل الّذين يُعانون من أزمة الجمود الروحيّ.

إنّ العين البسيطة تمنح الإنسان حياة داخليّة نيِّرة. إنّ العين البسيطة هي تلك العين الّـتي تنظر إلى الأمور بكلّ بساطة، دون أن تُفلسِف الأمور وتُعقِّدها، أو تُسيء الظنّ. إنَّ العين البسيطة تدفع الإنسان إلى إيجاد حلولٍ بسيطة وسهلة للمشاكل الّتي تعترِضُه. لا يمكن للإنسان أن يتمتّع بتلك العين البسيطة دون معاشرةٍ لكلمة الله بكلّ أبعادها: قراءة الإنجيل، الصّلاة، التراتيل، الأيقونات، الموسيقى والهدوء. على الإنسان أن يكتشف حضور الله في حياته، غير أنَّ هذا الاكتشاف لن يُزيل المشاكل، إنّما ستدفع الإنسان إلى إيجاد حلول لها وِفقَ تعاليم المسيح. على الإنسان أن يضع تعاليم الله قيد الاختبار، فإن وجَد أنّ تلك التعاليم فاعلة لحلّ مشاكله، اعتمدها منهجًا له في كلّ حياته. إنّ المطلوب إذًا، هو استعمال "عِدَّة الله" لا "عِدَّة البشر" لحلّ المشاكل الّتي تعترِض الإنسان. إنّ الإنجيل يدعو المؤمن إلى عدم استعمال الثوب القديم لإصلاح الثوب الجديد، والعكس صحيح، لذا على المؤمن التخلّي عن الذهنيّة القديمة، واعتماد ذهنيّة المسيح في حلّ المشاكل، ثمّ يستطيع المؤمن أن يحكم إن كانت طريق الإنجيل نافعة لحلّ المشاكل الإنسانيّة أو لا. كُثُرٌ هم البشر الّذين اعتمدوا ذهنيّة الإنجيل على الرّغم من كونهم غير مسيحيّين، فوجدوها فاعلة، فاعتنقوا المسيحيّة. إنّ كلّ لقاءٍ لك مع إنسان يخلق لك ذهنيّة جديدة من خلال تعامله معك ولطفه، وطريقة تعبيره. لذا عليك أن تعتمد الذهنيّة الأنسب لك، لأنّ المشاكل لن تنتهي أبدًا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
28/2/2017 تأمّل في آحاد الصّوم الأب ابراهيم سعد
https://youtu.be/Y9rqCKsWJuc

تأمّل في آحاد الصّوم
الأب ابراهيم سعد

28/2/2017

إليكم معاني آحادِ زمن الصّوم بحسب اللّيتورجيا الشرقيّة:

إنّ الأحد الأوّل من الصّوم يُسمّى "أحد الأرثوذكسيّة" أي "أحد استقامة الرأي"، كما يُطلق عليه اسم "أحد الأيقونات"، إذ فيه يتمّ الدَوران بالأيقونات داخل الكنيسة تعبيرًا عن رفض المؤمِنين لتلك البِدعة الّتي كانت سائدة في إحدى حقبات تاريخ الكنيسة، الّتي كانت تعتبر كلَّ مَن يُصلّي أمام الأيقونة، عابدًا للأوثان، فَعَمَدَت إلى اضطهاده.

إنّ المؤمِن لا يعبد الأيقونة، بل يصلّي أمامها متعبِّدًا لله، ومُكرِّمًا القدِّيس صاحب الأيقونة. في هذا الأحد، تتلو الكنيسة على مسامع المؤمِنين، الإنجيلَ الّذي يتكلّم عن فيلبّس الّذي دعا نتنائيل إلى التعرّف على الماسيّا قائلاً له: "تعال وانظر". إنّ هذا الانجيل يُعطي جوابًا لكلّ مؤمِن يطرح أسئلةً على ذاته متعلّقة بالصّوم، كمَعرِفَة هدف الصّوم، وكيفيّة عيشه، واختيار المنهج الصّحيح له، قائلاً له: "تعال وانظر"، كما قال فيلبّس لنتنائيل. إنّ الكنيسة تُعطي جوابًا للمؤمِن من خلال هذا الانجيل واضعةً أمامه أيقونات القدِّيسين إذ أنّهم مثالٌ له في اختيار منهج الصّوم الخاصّ به. إنّ هؤلاء القدِّيسين قد أدركوا حقًّا مفهوم الصّوم الحقيقيّ: يعتقد المؤمِنون أنّ الهالة الذهبيّة الموضوعة فوق رأس القدِّيس هي علامةٌ على تأكيد وصوله إلى الملكوت، غير أنّ تلك الهالة تدلّ على أنّ هذا المؤمِن قد أصبح قدِّيسًا لأنّه قام بتوزيع كلّ عطايا الله له على الآخرين، فالقدِّيس قد نال الملكوت، لأنّه وزَّع في حياته على الأرض كلّ خيراته، وكلّ موهبة مَنَحَه إيّاها الله على إخوته، وقد كافأه الربّ بأنْ مَلَأَهُ تعويضًا عنها بروحه القدّوس وبالمزيد من النِّعَم. إذًا، إنّ كلّ مؤمِن هو أيقونة المسيح في هذا العالم، وبالتّالي فعليه أن يُظهره في قلب العالم ويشهد له في حياته.

في الأحد الثاني من الصّوم، تحتفل الكنيسة بذكرى القدّيس غريغوريوس بالاماس. إنّ هذا القدّيس كان راهبًا في جبال آثوس في اليونان، وقد تكلّم في كتاباته عن النّور والنِّعمة: لقد تكلّم عن النّور الّذي ظهر للمسيح يوم التجلّي على جبل طابور، هذا النّور الـمُخبّأ في إنسانيّة المسيح، وهو لم يكن قد انكشف للبشر بسبب تواضع المسيح. إنّ المسيح كشف عن هذا النّور الموجود في إنسانيّته يوم التجلّي، وأظهرَه للبشر أجمعين تعبيرًا عن محبتّه لهم. إنّ الكنيسة تدعونا بواسطة هذا القدّيس إلى إظهار نور المسيح الموجود في داخلنا، إلى الآخرين. إذًا، إنّ الكنيسة تدعو المؤمِن، في زمن الصّوم، في الأحد الأوّل إلى أن يتعهّد بتوزيع كلّ خيرٍ مَنَحه إيّاه الله على الآخرين، ليَنسَكِب نور المسيح فيه، ذلك النّور الّذي تكلّم عنه القدِّيس غريغوريوس بالاماس، في الأحد الثاني من الصّوم.

إنّ الأحد الثالث من الصّوم هو أحد الصّليب. في هذا الأحد، يتمّ الدَوَران بالصّليب المحاط بالزّهور في داخل الكنيسة، فيتذكّر المؤمِن عمل المسيح الخلاصيّ من أجله، ويرى من جديد مدى عظمة حبّ الله للبشر، فلا يتَّخذ التَّعب حجّةً تُثنيه عن متابعة مسيرة الصّوم. وبالتّالي، لا يحقُّ للمؤمِن التفاخرَ بصِيامه، عندما يرى حبّ المسيح له، ذلك الحبّ الّذي أوصل المسيح إلى الموت صلبًا. في هذا الأحد، تدعو الكنيسة المؤمِن إلى النّظر إلى المسيح المصلوب على الصّليب، وأَخْذ القوّة منه لمتابعة مسيرة الصّوم، فيُدرِك المؤمِن المعنى الحقيقيّ للصّوم.

في الأحد الرابع من الصّوم، تحتفل الكنيسة بذكرى القدِّيس يوحنّا، ذاك الرّاهب الّذي عاش في دير سيناء، وَمِن كتاباته: "السُلَّم إلى الله" أو "سُلَّم الفضائل". إنّ هذا القدِّيس يَعرِضُ للمؤمِن الفضائل على شكل درجات، عليه صعودها ليَصِل إلى مرحلة الاستنارة العظيمة. إذًا، بعد أحد الصّليب، تَحُثُّ الكنيسةُ المؤمِنَ على متابعة مسيرة الصّوم كي يكتسبَ الفضائل المسيحيّة، فيَتَمكّن من المحافظة على عهده الأوّل بأن يكون أيقونة المسيح في هذا العالم، فينشرَ نور الله الموجود في داخله للآخرين.
في الأحد الخامس، تحتفل الكنيسة بتذكار القدِّيسة مريم المصريّة. إنّ تلك القدِّيسة عاشَت حياةً مليئة بالفساد: فَقَد كانت بائعة هوى، تَخطِف الشُبّان مِن أمام الكنيسة إلى بيوت الدّعارة، وقد بلغ بها الشرّ إلى محاولتها إخراج الشُّبان من داخل الكنيسة وَسَوْقِهم إلى الخطيئة، غير أنّ قوّةً عظيمةً حالَتْ دون دخول تلك المرأة إلى داخل الكنيسة لارتكاب تلك الشرور. إنّ تلك القوّة، الّتي لم تُدرِك في بادئ الأمر تلك القدِّيسة سِرّها، شكَّلَت صَفعةً قويّة لها، جَعَلَتها تُدرِك فظاعة أعمالها، وأنّ هذه الحياة فانيةٌ وأنّ هناك حياة أبديّة، فقرّرت تلك القدِّيسة التعويضَ عن خطاياها باعتزالها العالم، فذهبت إلى الصّحراء، حيث الموت إذ لا حياة في الصّحراء، وأمضَت بقيّة حياتها فيها، أي ما يُقارب السّبعَ عشرة سنة، تائبةً إلى الله، طالبةً منه الرّحمة. لقد اعتزلت هذه القدِّيسة في الصّحراء كلّ مباهج هذه الدّنيا وملذَّاتها واكتفَت برحمة الله. وفارقَت هذه الحياة حين تناولَت جسدَ الربّ ودمَه، مِن يد الكاهن "زوسيما"، الّذي قصدها في الصّحراء، وقد اعترته الدّهشة لحالةِ القداسة الّتي وصلتْ إليها تلك المرأة التائبة. إذًا، إنّ الكنيسة تدعونا إلى عدم اعتبار ضُعفنا البشريّ، وخطايانا الكثيرة، حاجزًا يَحولُ دون وصولنا إلى القداسة، إلى الملكوت. فكما أنّ تلك المرأة الخاطئة استطاعَت الوصول إلى القداسة، كذلك يستطيع كلّ مؤمِن الوصول إلى القداسة والاقتراب من جديد إلى الله مهما عَظُمَت خطاياه وتفاقمت.

في أحدِ الشعانين، يدخل المؤمِن الّذي عاش مسيرة الصّوم، مع يسوع إلى أورشليم، فيعيش معه مسيرة الخلاص. فالمؤمِن، كائنًا مَن يَكن، يهوديًا كان، أم أُمَمِيًا أم مُلحِدًا، خاطئًا أم خائنًا، سيُشارك المسيح في مسيرة الخلاص، وسيصرخ مع الجماهير تسبحة "هوشعنا في الأعالي". إنّ كلّ مؤمِن يريد اتبّاع المسيح والحصول على خلاصه، عليه الدّخول معه في الأسبوع العظيم، حيث المؤامرة تتحققّ فيَتمّ القبض على المسيح، من قِبَل الجنود بمساعدة يهوذا، أحد تلاميذ يسوع، فيُحكم على يسوع بالموت صلبًا، ولكنّ يسوع قد غلبَ الموت، وقام من بين الأموات، وأقام معه كلّ المؤمِنين به، وأدخلهم الملكوت.
إنّ "الجمعة العظيمة" تضع المؤمن أمام سؤالٍ كيانيّ في عيشه لمسيرة الجلجلة، مَن هو مِثالُه في هذه المسيرة: أهو يوحنّا الّذي لم يفارق يسوع وبَقي معه حتّى عندَ أقدام الصّليب، أم هُوَ بطرس الّذي أنكر يسوع ثلاث مرّات أمام الجاريّة، ثُمَّ هربَ كما فعل الآخرون، الّذين تركوا يسوع وحيدًا في هذه الـمِحنة؟ إذًا، منذ أوائل أيّام الصّوم، على المؤمِن أن يتَّخذ قراره، فيُدرِك من البداية، طبيعةَ ارتباطه بالمسيح: فإن كان يريد اتِّباعه، عليه أن يسعى كي يتحرّر من كلّ الآلهة ومن كلّ الأهواء الّتي كان يعتقد أنّها السبب في خلاصه، فيَتَّخِذ المسيح مخلِّصًا وحيدًا له. على كلّ مؤمِن أن يُدرِك إن كان يريد متابعة المسيرة مع الله أم لا. وإن قرّر المؤمِن متابعة المسيرة مع المسيح، فعليه أن يقرّر أيَّ موقفٍ سيتَّخِذ أمام صليب يسوع. إنّ بطرس الّذي خان المسيح وأنكره، نال الملكوت كنصيبٍ له، فأيًّ كان موقفك أيّها المؤمِن، فإنّ نصيبَك سيكون أن تقوم مع المسيح يوم الأحد، وأن ترثَ الملكوت. في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يوم الجمعة العظيمة، وفي رتبة جنّاز المسيح، تُرتَّل تراتيل القيامة، ويتمّ توزيع الورود على المؤمِنين، فالورود هي عربونٌ للمؤمنين على أنّ القيامة ستتمّ يوم الأحد، إذ إنّ المسيح قد غلبَ الموت، والورود هي عربونٌ للمؤمِن على أنّه سيكون له نصيبٌ مع المسيح في القيامة، إذ إنّه سيرث الملكوت مع المسيح. إنّ تلك الوردة الّتي تُوَزَّع على المؤمِن، تجعله يتذوّق طعمَ القيامة قبل أن تتمّ.

إنّ مسيرة الصّوم تنتهي بفرح القيامة، ولكنّ الصّوم هو مسيرة فرحٍ أيضًا، لذا نجد في التقليد الشرقيّ، أنّ بعض القرى اليونانيّة على سبيل المثال تحتفل ببداية الصّوم، بتكريس اليوم الأوّل من الصّوم للفرح إذ تقوم العائلات بتمضية يومٍ في الطبيعة، في أجواءٍ من الفرح والتسلية. أمّا في التقليد الغربيّ الشعبيّ غير الكنسيّ، فَيُقيم المؤمنون "الكرنفالات" قبل بداية الصّوم، من أجل توديع مباهج الدُّنيا، إذ يعتقدون أنّ الصّوم هو مرحلةَ حزنٍ وألمٍ، وإماتات وعذابٍ. إخوتي، ليس الصّوم كذلك، بل إنّ الصّوم هو فترةٌ للفرح، وعلى كلّ مؤمن أن يُعبِّر عن فرحِهِ بطريقة مختلفة عن الآخر، غير أنّ بعض المؤمنين قد انغلقوا على ذواتهم، إذ اعتبروا أنَّ الصّوم هو قانونٌ، على جميع المؤمِنين تطبيقه. إنّ القانون إخوتي، لم يوضع من أجل ظلم النّاس، بل من أجل ترتيب وتسهيل أمورهم، لذا علينا أن نتقبّل أنّه قد لا يتمكّن جميع النّاس من الالتزام بهذا القانون، أيّ بالصّوم. إنّ الصّوم مِن دون مغفرة، مَضْيَعةٌ للوقت؛ والصّوم مِن دون رحمة، كبرياءٌ مُقَنَّع؛ والصّوم مِن دون يدٍ ممدودة للعطاء عبادةُ أصنامٍ. إنّ كلّ مؤمن يمتنع عن العطاء، والرحمة، والمغفرة للآخرين، هو إنسانٌ قد جعل مِنَ الصّوم إلهًا جديدًا له، وابتعد عن هدف الصّوم الحقيقيّ، ألا وهو إظهار المسيح للآخرين من خلال تصرّفاته. إنّ الصّوم، يقول الربّ، يقوم على كسر المؤمِن خُبزَه مع المحتاج، والاهتمام بالأرملة واليتيم، والمسكين. إنّ الصّوم الّذي يطلبه الربّ منه هو مساعدة الآخر وتلبية حاجاته، وعلى المؤمِن عدم استعمال ضعفه البشريّ لعدم ممارسة الصّوم، لأنّ الربّ يقول لنا إنّه سيُبَيِّض لنا خطايانا القُرمزيّة ويجعلها كالثلج. إنّ العطاء يُدخل الفرح إلى قلب المحتاج والعاطي معًا. إنّ الإنسان الّذي يهتمّ بالفقير ويشتري له ما يحتاجه، يشعر بالفرح لهذا العمل، غير أنّ فرح هذا الإنسان المعطاء سيكون أكبر إنْ تخلّى عمّا يملك ليُقدِّمه لأخيه المحتاج، لأنّه حينها سيختبر الألم الّذي يعاني منه ذاك المحتاج. إنّ المحتاج سيشعر بالفرح حين يحصل على عطائك، وفرحه هذا سينعكس فرحًا عليك، لشعورك أنّ تلبية حاجة هذا المحتاج قد سبَّبَت له فرحًا، وبالتّالي تقوم وتشكر هذا المحتاج الّذي أدخل الفرح إلى قلبك، جرّاء عطائك له. لذلك، يقوم الصّوم على الامتناع عن بعض الأمور لا تطبيقًا لقانون الصّوم، إنّما لأنّ في ذلك الامتناع مَسَرَّةً أكبر لك، إذ ستكتشف فرح المسيح.
إنّ التعبير عن الصّوم وتناقل الصلّوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هو شهادةٌ للآخرين وتعليمٌ لهم عن كيفيّة عيش الصّوم، لكنّ التعبيرَ الأفضل عن الصّوم هو عندما يلتفت المؤمِن إلى الآخر المحتاج له، ذاك المرميّ على الطريق، ذاك الّذي "تلحس الكلاب قُرُوحَهُ". إنّ مؤمنين كُثُرًا يمتنعون عن الاهتمام بالمحتاج، بحجّة أنّهم يكرّسون وقتهم للصّوم والصّلاة في هذا الزمن الطقسيّ. إخوتي، إنّ الصّوم والصّلاة ليسا حكرًا على المؤمِنين في فترة الصّوم وحسب، إذ على المؤمن ممارسة الصّلاة والصّوم في كلّ حين. لقد قال أحدهم: "ما أحلى الصّوم بعدَ الصّوم"، إذ إنّ الصّوم هو مرحلةٌ تساعد المؤمِن على اكتساب بعض الفضائل الّتي عليه أن يتمرّس في عيشها كذلك ما بعد الصّوم. ما أجمل أن يتمتّع المؤمِن بذهنيّة الصائم حتّى بعد انقضاء فترة الصّوم الكبير، فهي تقوم على الانتباه للآخر، وتلبية حاجاته لا رغباته، وهذا تفسير تطبيقيّ لمعنى المحبّة الحقيقيّة. إذًا، إنّ الصّوم لا يقوم على إدانة الآخرين إن كانوا صائمين أم لا، بل الصّوم هو فترة تدفعنا للانتباه أكثر إلى حاجات الآخر وتلبيتها، وبالتّالي على المؤمِن ألّا ينظر إلى صحن الآخر لإدانته على الأطعمة الّتي يتناولها في الصّوم، إنّما عليه أن ينظر إلى صحن الآخر ليملأه طعامًا إن كان فارغًا. إنّ الله لم يجعل من المؤمِنين حُرّاسًا بعضهم البعض، فيراقبون أطعمة بعضهم البعض.
على الكنيسة أن تعيد التفكير في طُرق التعبير عن الصّوم، لا من أجل إلغائه، أو تصنيمه، إنّما من أجل إعادة العريس أي المسيح إلى محور مفهوم الصّوم. إنّ مفهوم الصّوم لن يستقيم إلاّ بعودة المسيح إليه، وعندها فقط سيتمكّن المؤمِن من عيش مفهوم القيامة بالعُمق: على المؤمِن أن يختبر أربعين يومًا من العطاء الموجِع على حسب قول الأمّ تريزيا، ليتمكّن من عيش فرح القيامة. على المؤمِن أن يشعر بألم الحرمان مِنَ الطّعام عندما يُقدِّمه لآخرَ يعاني من حُرمانٍ من الطّعام طوال السنّة، ليُدرِك معنى الفرح الحقيقيّ. إنّ المؤمِن الّذي يعيش الصّوم مُختبِرًا هذا العطاء الموجِع يستطيع أن يصرخ في كلّ حين: "المسيح قام"، لأنّ المسيح حقًّا قام.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بِتَصَرُّف.

تتمة...