الكهنوت
الأب ابراهيم سعد
24/1/2017
في الآونة الأخيرة، تناقلت وسائل الإعلام أخبارًا سيئة عن الكهنة، وقد أدّى ذلك إلى إثارة نقمة الشعب على الكنيسة، وبخاصّة في نظرتهم إلى رِجالها. لذا، عَمَدْنا إلى توضيح مفهوم سرّ الكهنوت ودور الكاهن، للشعب، علَّ ذلك يُخفِّف مِن تعظيمهم لتلك الأخبار، وَيُساهِم في وجود حلول لكلّ أزمة طارئة بين رجال الكنيسة والشعب.
يتكلّم كاتب الرسالة إلى العبرانيين، في الإصحاح السابع منها، عن سرّ الكهنوت، ويختم كلامه بالقول إنّ يسوع هو الكاهن الأوحد. في التقليد اليهوديّ القديم، كان يرتكز دور الكاهن على تقديم الذبائح لله نيابةً عن الشعب، أمّا في العهد الجديد، فَقَد قدَّم يسوع المسيح نفسَه ذبيحةً عن البشر، وبالتّالي أصبح هو الكاهن والذبيحة في آنٍ، وهذا ما لم يتمكّن أيّ كاهن في العهد القديم مِن القيام به، وبهذا تكمن فرادة المسيح. إنّ الكاهن في العهد القديم، كان يُقدِّم الذبائح تكفيرًا عن خطايا الشعب بشكلٍ خاص، كما كان يُقدِّم الذبائح لأسباب أخرى واردة في الشريعة، أمّا المسيح فإنّه لم يُقدِّم نفسه ذبيحةَ تكفيرٍ عن خطايا الشعب، إنّما قدَّم نفسه مِن أجلهم ذبيحةً على الصليب، وبهذا أيضًا تكمن فرادته. إنّ الفرقَ كبيرٌ جدًّا بين تقديم الإنسان ذبائح تكفيرًا عن الخطايا، وبين تقديم ذاته ذبيحة مِن أجل الآخر: فحين يُقدِّم الإنسان نفسه ذبيحة عن الآخر، فإنّه بذلك يُعبِّر عن مدى سمّو حبّه لِمَن يُقدِّم مِن أجلهم نفسه. إنّ الإنسان يَحظى بأهميّة كبرى في عينيّ الربّ، لِذا قدَّم الله ابنه ذبيحة مِن أجل الإنسان. إنّ الله يعرف قيمة الإنسان الحقيقيّة، لذا يريد مَنحَه الخلاص، أمّا الإنسان الّذي لا يُدرِك قيمة ذاته، فإنّه سيرفض خلاص الربّ له، على عكس الإنسان الّذي أدرَك قيمته، فإنّه سيقف عاجزًا أمام عظمة حبّ الله له. إنّ الله قد قدَّم ابنه الوحيد ذبيحة مِن أجل البشر وذلك تعبيرًا عن حبّه اللامتناهي لهم. إنّ كهنوت المسيح قد أُعلِن على الصليب، حين قدَّم يسوع نفسه ذبيحة مِن أجلنا. إذًا، إنّ المسيح قد صُلِب من أجلنا لا من أجلِ خطايانا، وبالتّالي فإنّ قيمتَنا عند الله أعظم وأهمّ مِن خطايانا. عند أقدام الصليب، لم يتمكّن الجنود مِن شَقِّ ثياب يسوع واقتسامها فيما بينهم، لأنّها كانت مصنوعة من قطعة قماشٍ واحدة، كما كانت حالة ثياب رئيس الكهنة في ذاك الزمان، لذا اقترعوا عليها، وبهذا الأمر تحقّق ما ورد في الكتاب: "اقتسموا ثيابي، وعلى لباسي اقترعوا"، وبذلك أظهر يسوع نفسه أنّه رئيس الكهنة الحقيقيّ والأوحد. إنّ لوقا الإنجيليّ يعرِض لنا دورًا مُهمًّا لرئيس الكهنة لم يتمكّن زكريّا مِنَ القيام به، وهو مباركة الشعب، أمّا يسوع، فقد أظهر نفسه أنّه رئيس الكهنة الحقيقيّ حين تمكّن من القيام بهذا الدور الـمُعطى للكاهن، فبَاركَ تلاميذه في لقائه الأخير بهم قَبلَ صعوده إلى السّماء، على حسب ما أورَد أيضًا لوقا الإنجيليّ. إنّ الإنجيليّين الأربعة قد أدركوا أنّ المسيح هو حقًّا الحمل المذبوح الّذي تكلّم عنه العهد القديم، وقد أظهروا ذلك كلٌّ بطريقته، وهذا أيضًا ما بشَّر به الرّسل، فَبُولس الرسول قد قال إنّه يبشِّر بالمسيح كما تعرّف إليه، أي المسيح المصلوب على الصليب.
في الكنيسة الأولى، كان الرّسل يُبشِّرون بالكلمة، ويحتفلون بالافخارستيّا أي بالذبيحة الإلهيّة. ولكن، مَعْ تَطوُّرِ البشارة ونموِّها، بَرزت الحاجةُ إلى فرز أشخاص من أجل خدمة موائد الافخارستيّا، وهذا ما يُعرف اليوم بالكاهن. أمّا في ذاك الزمان، فَقَدْ تَمَّ استخدام عبارتين هما: "خادم الأسرار"، و"خادم الكلمة"، في إشارة إلى تحديد دور كلّ منهما، ولم تكن تحتوي أيّ مِن تلك العبارتين على المفهوم الحالي للكاهن. إنّ الكاهن يُولَد مِن كأس الإفخارستيّا، وبالتّالي فإنّ كهنوته مرتبطٌ بخدمته للأسرار لا بشخصه. إنّ المسيح هو الكاهن، والذبيحة أيضًا في الاحتفال الإفخارستيّ، إذ لا كاهن سِوى المسيح، فهو الكاهن الأوحد، ولا ذبيحة أخرى تُقَدَّم سِواه. إذًا، إنّ كهنوت الإنسان مرتبطٌ بخدمته للكاهن الأوحد: فالكاهن في الإفخارستيّا، يُعلن عن كهنوت المسيح مِن دون أن يجعل الكهنوت مُلكًا خاصًّا به. في الكنيسة الأولى،لم يكن هناك كهنة، بل أساقفة وشماسة. إنّ كلمة "أسقف" في اللّغة اليونانيّة تعني episcopos أي الـمُراقِب مِن فَوق، وكانت وظيفته تقوم على إدارة شؤون أبناء رعيّته والاهتمام بهم، إضافةً إلى مراقبة التّعليم الّذي يُعطى لهم، ومراقبة سلوك إخوته وَتَطابُقِهِ مع التّعليم. إنّ الأسقف هو مسؤول أمام الله عن الاستعداد الّذي أعلَنَه من أجل خدمة إخوته المؤمنين. وقد كان في الكنيسة الأولى أيضًا شيوخ، أي presbyteros، وكانت وظيفتهم تقوم على تقدُّمِ إخوتهم المؤمنين في الصّلاة، فالشيخ هو "إِمام الجماعة"، أي أنّه أحد أفراد الجماعة ولا شيء يُميِّزه عن سائر الأعضاء. إنّ هذا التقليد الّذي كان سائدًا في الكنيسة الأولى، ما زال سائدًا إلى اليوم في الكنيسة الّتي تتّبع التقليد الشرقي (الكنيسة الأرثوذكسيّة)، إذ لا يقف الكاهن خلف مائدة الافخارستيّا بل أمامها شأنه شأن إخوتِه المؤمنين، للدلالة على أنَّه لا يفوقهم مرتبةً إلّا في كونه مترئسًا للصّلاة، فهو مجرّد خادمٍ لهم.
إنّ الكاهن هو "خادم الكلمة" و"خادم الأسرار" في آنٍ، فإنّ مهمّة الكاهن تقوم على إعطاء سرّ العِماد لكلِّ من يرغب في ذلك، علامةً على قبوله للكلمة الإلهيّة بعد سماعه إيّاها. إنّ أسرار الكنيسة قد تطوّرَت، عبر العصور، تماشيًا مع حاجات المؤمنين وفَهمِهم لحقيقة السّر، إلى أن وصَلت إلى شكلها المتعارف عليه اليوم. لقد نشأ سرّ التوبة نتيجة حاجة المؤمن للعودة إلى حالة القداسة الّتي حصل عليها بالعماد، بعد أن يكون قد ضَلَّ الطريق الصحيح. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سرّ الزواج، فهو قد تحوّل مع الوقت إلى سرٍّ، إذ كان في البدء عبارةً عن بركةٍ يطلبها العروسَان تعبيرًا عن إلتزامهما بالكنيسة، فالزواج في الإمبراطوريّة الرومانيّة كان مدنيًّا إذ كان يُعقَد في داخل الإمبراطوريّة. إنّ كلّ إنسان يصبح مؤمنًا بالمسيح، إنْ حصل على سرّ المعموديّة وسرّ الإفخارستّيا فَهُما أساسُ كلّ الأسرار. إنّ الإنجيليّ يوحنا يَنقُلُ إلينا البشارة مستندًا على هذين السِّرَين، ممّا يُبَرِّرُ وَفرةَ استعماله للماء والخبز في نصوصه، فَمَثلاً يذكر الماء في نصوص عديدة، على سبيل المثال نصّ نيقوديموس، ومخلّع بيت حِسدا في إشارة لسرّ المعموديّة، أمّا الخبز فيَذكُرُه في الإصحاح السادس منه، حين نَقَلَ إلينا قول المسيح عن ذاته إنّه الخبز الحيّ النازل من السّماء، في إشارة لسرّ الإفخارستيّا. إنّ الكاهن لا يُشكِّل مرجعيّة دينيّة إذ إنّ وظيفته تقتصر على كونه خادمًا للكلمة وللأسرار فقط، لذا هو يترأس الصّلاة. إنّ الكنيسة مُجتمعةً تُشكِّل مرجعيّة دينيّة للمؤمن في ما تتّخذه من قرارات، أي أثناء الإفخارستيّا. إذًا، فالكاهن وحده، لا يُشكِّل مرجعيّة لاهوتيّة للمؤمن في تصرّفاته. في الافخارستيّا، يُجدِّد المؤمن عهده مع الله ويُعبِّر عن قبوله لعطايا الله عبر قبوله جسد الربّ مِن يد الكاهن، الّذي هو موظّف عند الله. إنّ الكهنوت الخاصّ هو كهنوتٌ وظائفيّ، لِذا فإنْ لم يتمكّن الكاهن مِن القيام بوظيفته بشكلٍ صحيح، تُنزَع مِنه تلك الوظيفة وتُمنَح لآخرَ قادرٍ على استلام تلك المسؤوليّة، إذْ ليس الكهنوت والأُسقفيّة ألقابًا شرفيّةً. إنّ السرّ الوحيد الذي لا يمكن انتزاعُه مِنَ المؤمن هو سرّ المعموديّة، أمّا الكهنوت فيُمكن انتزاعه إن لم يقم الكاهن بوظيفته.
إنّ الموهبة هي طريقة للخدمة في الكنيسة، وهي متنوِّعة ومتعدِّدة: فالبعضُ قد أُعطي موهبة الابتسامة، والبعضُ الآخر موهبة الوعظ، وآخر موهبة الترتيل، وآخر موهبة الاهتمام بِبَيت الله الحجريّ، وهناك مواهب أخرى أيضًا، وعلينا عدم الاستخفاف بها، لأنّ كلَّ واحدة منها هي في غاية الأهميّة إن وُضِعت في مكانها الصحيح. إنّ الكاهن لا يصبح مميَّزًا عن سائر إخوته المؤمنين حين ينالُ سرَّ الكهنوت، غير أنّ المؤمنين يُعطونه هالةً لا أساس إيمانيًّا لها، ويحوِّلونه إلى كائنٍ إلهيّ بسبب الوظيفة الـمُوكَلة إليه، ويُعطونَ أنفسهم حقًّا إلهيًّا، عن غير وجه حقّ، بإدانة الكاهن حين يُخطئ التصرّف، فيشوِّهون صِيتَه، عِوَض دَفعِه للاستقامة في سلوكه، والعودة عن ضلاله. إنّ مهمّة اختيار الكاهن تقع على عاتق الشعب إذ عليهم ملاحظته فيما بينهم، فيُقدِّمونه للأسقف كونهم قد وجدوه أهلاً لتلك المسؤوليّة، فيضَع الأسقف يدَه عليه ويُكرِّسه كاهنًا لخدمة الجماعة. هناك اعتقادٌ خاطئ يسود الجماعات المسيحيّة، أنَّ رُتبة وضعِ اليد على الكاهن تمنَحُه نعمةً إلهيّةً، فتَجعل منه كائنًا مختلفًا في النوعيّة عن سائر البشر. إنّ مهمّة الكاهن تقوم على إعلان كلمة الله للجماعة، إضافةً إلى إعطاء الأسرار الكنسيّة. إذًا، الكاهن هو مُؤمِن مِن بين الشعب، تَمَّ اختياره وانتدابه مِن قِبَل الشعب، وتقديمه إلى الأسقف، فيكرِّسه للخدمة، بعد أن يضع يده عليه.
إنّ الكهنوت، هو خدمة يسوع المسيح من خلال توزيع كلمته على المؤمنين ومِن خلال توزيع جسده ودمه المقدَّسين عليهم. أثناء الذبيحة الإلهيّة، يقوم الكاهن بتوزيع كلمة الله على المؤمنين بعد قراءته للإنجيل من خلال العظة، ثمَّ يقوم بتوزيعها في المناولة الإلهيّة مِن خلال إعطاء جسد الربّ ودمّه للمؤمنين. إنّ المسيح قد كثَّر الخبز والسّمك بعد أنْ باركها،كما نقرأ في الكتاب، وثُمَّ أعطى تلاميذه وطلب منهم توزيعه على الحاضرين: هذه هي مهمّة الكاهن توزيع كلمة الله من خلال الإنجيل وكسر الخبر والخمر. إنّ الكاهن لا يفوق المسيح أهميّة، بل إنّ المسيح هو الأعظم، وَما الكاهن إلّا مجرَّد موزِّع للكلمة. إنّ مسؤوليّة الكاهن كبيرةٌ جدًّا إذ عليه الحرص على عدم تشويه كلمة الله الّـتي يحملها إلى الآخرين بسبب تصرّفاته المشينة، إذ إنّه يحمل إليهم القُدُّوس، وبالتّالي فإنّ الكهنوت ليس امتيازًا يُعطى للمؤمن، إنّما مسؤوليّة ودينونة له. في الرسامة الكهنوتيّة، بحسب التقليد الأرثوذكسيّ، يقوم الأسقف بِوَضعِ جسد الربّ ودمه بين يديّ طالب الكهنوت، طالبًا منه المحافظة على تلك الوديعة الّـتي تُمنَح له اليوم، إلى يوم مماته، لذا نجدُ أنّ الشماس طالب الكهنوت، يذهب إلى وراء المائدة الإفخارستّيا للتأمُّلِ بها، فيُدرِك مسؤوليّته تجاهها. على الكاهن أن يكون أمينًا لوظيفته، كي لا تُنتَزع منه، فيُحافِظَ على الكلمة الإلهيّة الّتي أُعطِيَت له يوم رسامته. فكما أنّ الإنسان الّذي يَطلب خدمة مُعيّنة مِن إحدى الشركات، لا يهتّم لشكل الموظّف الّذي يخدمه، ولا لمشاكله الخاصّة، إنّما يهتمّ لأدائه الوظيفة بشكلٍ جيّد، كذلك على المؤمن عدم التوقّف عند شكل الكاهن ومشاكله الخاصّة، فَحَسْبُه أن تصل إليه الكلمة الإلهيّة بواسطته بأفضل طريقة ممكنة. إخوتي، "لا إله إلاّ الله"، أي أنّ جميع البشر مُعرَّضين لارتكاب الخطايا، والكاهن هو أحد هؤلاء البشر، مُعرَّض للوقوع في الخطايا مثلهم. إنّ الكاهن ليس كائنًا إلهيًّا بل هو كائنٌ بشريٌّ، مجبولٌ بالخطايا، فإنْ نَظَرَ المؤمنون إلى الكاهن على أنّه كائنٌ إلهيٌّ فإنّهم سيتعرَّضون للإحباط، وللتّخلي عن الله حين يَضعُفُ الكاهن ويرتكب الخطايا. إنّ اعتبار الكهنوت وظيفةً لا يعني أبدًا التقليل مِن أهميّة هذا السرّ. إنّ بولس الرسول يعتبر أنّ البشارة هي مهمّته ولا يجب التقاعس عنها مهما كانت حالته، فَرِحًا كان أم لا، فهو يعترف قائلاً :"ويلٌ لي إن لم أبشِّر".
إنّ سرَّي المعموديّة والإفخارستيّا مرتبطان بالكهنوت، إذ إنّ كلمة الله الّـتي يبشِّر بها الكاهن قد تَجِد تجاوبًا في قلب المؤمن الّذي يسمعها، فيُقبِل هذا الأخير على العماد وبالتّالي يحقّ له تناول جسد الربّ ودمه. كان سرّ المعمودية مَقرونًا بسرّ الإفخارستيّا في الكنيسة الأولى، إذ كانت تُعطى المناولة للمؤمن بعد حصوله على سرّ العماد، ولكن فيما بعد تَمَّ الفصل بينهما لأسبابٍ تبشيريّة جغرافيّة إذ كان سرّ التثبيت محصورًا بالأسقف، وقد كان يتعذّر عليه المجيء في كلّ آنٍ بسبب بُعد المسافات. إنّ الفصل بينَ هذين السِّرين لا علاقة له أبدًا بإدراكِ المعمَّدِ أهميّة الأسرار الّتي ينالها. فإنّ سرَّ المعموديّة وسرّ الإفخارستيّا هما مُتَسويان مِن حيث الأهميّة، فكما أنّ المعمَّد ينال المعموديّة وهو غير مدرِكٌ لعطيّة الله له في هذا السّر، كذلك يُمكِنُه الحصول على سرّ الافخارستّيا وإن كان لا يُدرِك النّعمة الإلهيّة الّتي يحصل عليها في المناولة. إنّ هذا الفصل ما بين السِّرين لا يرتكز على أساس لاهوتيّ، غير أنّه تحوّل إلى عادة، والعادة تحوَّلت مع مرور الزمن إلى عقيدة يَصعُب التخلّص منها بسهولة.
إنّ كلمة "رجل دين"، لا تعني بتاتًا أنّ هذا الرَّجُل هو المسؤول عن الدّين، أو العالمِ بكلّ تفاصيله. إنّ رجل الدّين هو رجلٌ للحياة، يحاول السير وِفق إلهامات الرّوح القدس، ساعيًا للحصول على رِضى الربّ، في خدمته للأسرار. إنّ المؤمنين قد تأثَّروا بالأنظمة الّتي كانت تَحكُمهم عليهم على مرّ العصور في بلادهم، فأدخلوا صورة هذه الأنظمة إلى النّظام الكنسيّ، فَحَوَّل المؤمنون في الشرق الأسقفَ إلى سُلطانٍ على مثال السلطان العثمانيّ، أمّا المؤمنون في الغرب فقد حوَّلوه إلى ملكٍ أو امبراطور على مثال ملوكهم أو أباطرتهم. إنّ الكتاب المقدّس العهد الجديد، قد أعطى الأسقف سلطانًا لا يشبه سلطان هؤلاء الملوك والأباطرة، بل مَنَحه سلطانًا مختلفًا عنهم، وهو سلطان المحبّة. إنّ بولس قد شبّه علاقة المسيح بكنيسته بالزواج الّـذي يجمع بين المرأة والرّجل. إنّ الكنيسة هي عروس المسيح، وهو رأسها، ولأنّه عريسها فهو قد بذل ذاته لأجلها. إذًا، الرئاسة تُعطى لِمَن يُحِبّ أكثر، ولكنَّ المفهوم الإنجيليّ للرئاسة قد تعرَّض للتشوُّه، فوَقعت الكارثة، إذ أُعطي حقُّ الرئاسة لا لِمَن يُحِبّ أكثر بل لِمَن يتمتّع بوظيفة أعلى درجةً من غيره. في الكنيسة الأولى، كان اختيارُ المؤمنين الـمُخوَّلين الحصول على الرُتَب الكهنوتيّة، يرتكز على أهليّتهم لخدمة الكلمة والأسرار، إذ لم يكن باستطاعة المؤمن أن يصبح شماسًا إلّا بعد وصوله إلى مرحلة مِنَ اللّاهوى أي حين يُظهِر قدرةً على التخلّي عن كلّ أهوائه البشريّة، في سبيل خدمة الأسرار؛ ولم يكن يستطيع هذا الشماس بلوغ مرحلة الكهنوت، إلّا مَتى وصل إلى مرحلةٍ مِنَ الاستنارة الداخليّة؛ ولم يكن يستطيع الكاهن الوصول إلى مرحلة الأسقفيّة، إلاّ عند وصوله إلى مرحلة الرؤيا الإلهيّة. كانت هذه الشروط مفروضة على كلِّ مَن يرغب بالتَقدُّم مِن الدرجات الكهنوتيّة الثلاث، وذلك مِن أجل خدمة أفضل للكلمة وللأسرار. إنَّ مَن يرغب في خدمة الكلمة والأسرار، عليه أن يكون أمينًا للكلمة الإلهيّة وللأسرار، وأن يسعى للوصول إلى الاتّحاد الكامل بهما، ليتمكّن من إيصالهما إلى الآخرين معتمدًا على سلطان الحبّ، لا على سلطان هذا العالم. إنّ المؤمنين قد أَعطَوا الكاهن والأسقف هالةً إلهيّة لا يستطيعان التخلّي عنها حتّى وإن أرادا ذلك، لأنّ الهالة الـمُعطاة لهما من قِبَل المؤمنين، ستُرافِقُهما في كلّ حالاتهما الإنسانيّة، فالمؤمنون سينظرون دائمًا إلى الأسقف والكاهن على أنّه كذلك، حتّى وإن خلع ثياب الكهنوت. إنّ الصِّفات الّتي نُطلقها على البابا فرنسيس اليوم، هي الصّفات الإنسانيّة الطبيعيّة الّتي على كلّ مؤمن التحلّي بها وبخاصّة خادم الكلمة والأسرار. إنّ المؤمنين لا يمنحون الكاهن تلك الهالة إلّا من أجل استخدامها كَعُذرٍ لهم ليتمكّنوا من إدانته والحكم عليه حين يرتكب السوء، فالمؤمنون في تلك الحالة يتحوَّلون إلى مُجرمين، إذ يقومون بقتل صِيتِ الكاهن عبر إطلاقهم إشاعات يستمرّ تناقلها عبر أجيال وأجيال، عِوضَ مساعدته على تصحيح مساره. فالكاهن إذًا، هو مؤمن ضعيف، كسائر البشر، لكنّه اعتبرَ كلمة الله حياته، فلاحظ الشعب فيه هذا الأمر فكَلَّفوه بواسطة الأسقف توزيع الكلمة عليهم. إنّ الأساقفة والكهنة لا يتمّ اختراعهم، بل مُلاحظتهم مِن قِبَل الشعب.
إنّ مسألة اختيار الكهنة والأساقفة ليست مسألة دعوة إلهيّة بل مسألة استعداد يُظهِرُه هؤلاء للخدمة، فيَتُمّ ملاحظتهم مِن قِبَل الجماعة المؤمنة، فيُكلِّفونَهم مسؤوليّة توزيع الكلمة عليهم، فيصبح المؤمن عندها إنسانًا مدعوًّا للخدمة. إذًا، لا يكون الإنسان مدعوًّا في بداية الأمر إنّما يصبح مدعوًّا حين يُصبح مكلَّفًا للخدمة. لا يمكننا الكلام عن دعوة خاصّة مِن قِبَل الله لبعض المؤمنين، لأنّ في ذلك تشويهًا لصورة الله العادل، الّذي لا يُميِّز بين أبنائه. إنّ الله لا يدعو أحدًا لخدمته بشكلٍ خاصّ، بل إنّه يُمهِّد الطريق أمام أبنائه المؤمنين، الّذي يُعبِّرون عن استعداداتهم للخدمة، عبر ملاحظة الشعب لهم، فيَفرِزونهم لخدمة الأسرار والكلمة. إنّ الهالة الّتي أعطاها الشعب للكهنة، أدّت إلى أذيّة الكنيسة وإلى خلق جرحٍ فيها: إنّ بعض المؤمنين، الضعيفي الإيمان ربطوا بين تصرّفات الكاهن البشريّ، وبين الله، فابتعدوا عن الكنيسة عند سماعهم عن ضعف الكاهن. إنّ الإيمان بالمسيح يجب أن يتمّ عن وعي وإدراكٍ عند المؤمنين، فلا يهتزّ إيمانهم نتيجة ضعف بشريّ صادرٍ عن كاهن مُتَسِّمٌ بالضعف كسائر البشر، فالإيمان غير مرتبط بالكاهن. إنّ الكاهن هو وسيلة يستخدمها الله لإيصال البشارة إلى المؤمنين، غير أنّ مهمّته تقف عند هذا الحدّ، لتبدأ مهمّة المؤمن في العمل على نموّ إيمانه بالمسيح. إنّ مهمّة الكاهن هي إيصال المسيح إلى الآخرين، وإنّ دوره ليس أبديًّا بل ظَرفيًّا، مرتبطًا بهذه المسألة المحدّدة. إنّ دور مريم العذراء في عرس قانا، هو دور كلّ كاهن في الكنيسة: فكما أنّ مريم العذراء أعلَمَتْ يسوع بِنَفاذ الخمر ثمّ انسحبت وتركته يعمل مِن دون أن تتدّخل في أعماله طالبةً من الخَدَم أن يفعلوا كلّ ما يأمرهم به يسوع، كذلك على الكاهن أن يوصِل كلمة الله إلى المؤمنين، ثُمَّ ينسحب من حياته فاسحًا الطريق أمام كلمة الله كي تعمل في داخلهم.
إنّ الكهنة ليسوا وكلاء الله على الأرض إنّما أيقونات تعكس حضور الله على الأرض. وهنا يُطرَح السؤال: هل الكهنوت وظيفة، مسؤوليّة أو امتياز؟ إنّ رجال الدِّين هم أشخاص بشريّون عاديّون لا آلهة، وهم مُعرَّضون كسائر البشر لارتكاب الخطايا، إنّهم جماعة خطأة يَتَطهِّرون مِن أثامهم. إنّه حريّ بالمؤمنين عدم تضييع الوقت الـمُعطى لهم بتناقل خطايا الكهنة وإدانتهم، بل الحريّ بهم الاستفادة من الوقت في أمورٍ ذات منفعة روحيّة، كقراءة الكتاب المقدَّس ومناقشة مواضيع روحيّة. إنّ الشيطان هو الرابح الأكبر في مِثل تلك الأزمات الكنسيّة، لأنّ الكثيرَ من المؤمنين يقعون في تجاربه، إذ ينشغلون في تناقل أخبار خطايا بعضهم البعض، عِوضَ التفكير في الملكوت، والتحضير له وانتظاره، ويكون الشيطان قد بلغ إلى هدفه المنشود. إنّ همّ الشيطان هو دفع المسيحيّين إلى الاعتقاد أنّ الملكوت هو أمرٌ رمزيّ غير واقعيّ، لا وجود له إلّا في قلوبنا، بدليل عدم مجيئه بَعد على الرّغم مِن انتظارنا الطويل واستعدادنا له. إنّ هذه النّظرة الشعبيّة الخاطئة إلى الكهنوت لن تَصطَلِح في الأذهان إلاّ عن طريق التربية، وهذا الأمر يستغرق وقتًا طويلاً كي يأتي بالثمار المرجوَّة.
إنّ الاعتقاد السائد عن الكهنوت، هو اعتقادٌ خاطئ وقد أدّى إلى انشقاقات داخل الكنيسة، ونشأت على أثَرِه الكنيسة البروتستاتينيّة إضافةً إلى العديد مِنَ الشِيَعَ والبِدَع كشهود يهوه وغيرها من البِدَع المعاصرة. إنّ أسبوع الوحدة، هو أسبوع الـمُزايدات في الكنيسة، إذ تقوم كلّ كنيسة بالتباهي أمام الكنيسة الأخرى بامتلاكها للإيمان القويم دون سواها من الكنائس، واعتبار بقيّة الكنائس أنّها على ضلال وبالتّالي بضرورة التوبة والانضمام إلى الكنيسة الأخرى. في أسبوع الوحدة، يتحوّل المسيح إلى موضوع خلاف وانشقاق بين الكنائس، إذ تُعلِن كلّ كنيسة امتلاكها حقًّا حصريّا للدّفاع عن المسيح وكأنّه ملكيّتها الخاصّة. إنّ مِثل تلك الانشقاقات في الكنيسة تُعبِّر عن نقصٍ في المحبّة بين الكنائس، وبالتّالي في غياب المحبّة الصّادقة يَصعُب الوصول إلى الوحدة الحقيقيّة بين المسيحييّن. إنّ مِثلَ تلك التصرّفات الكيديّة بين الكنائس تُعبِّر عن عدم فَهمٍ حقيقيّ للكلمة الإلهيّة وللسرّ الافخارستيّ. وإنّ مسؤوليّة عدم الفهم للكلمة الإلهيّة تقع على عاتق الكهنة بشكلٍ أساسيّ، ولكنّ المؤمنين يشترِكون في هذه المسؤوليّة إذ إنّهم المسؤولون عن اختيار الكهنة مِن بينِهم. في هذه الحالة، لا ينفع الانتقاد وإلقاء المسؤوليّة على الآخرين وإدانتهم، بل إنَّ ما ينفع هو العمل على تحسين اختيار الكهنة، وبخاصّة في تربية الأبناء على أن يكونوا أهلاً لخدمة الكلمة الإلهيّة والأسرار وتقديمهم إلى الأسقف من أجل تكريسهم للخدمة. لا يوجد في الكنيسة طبقتان: طبقة مُعلِّمة هي الكهنة، وطبقة متعلِّمة، مؤلّفة من الشعب، بل إنّ الكنيسة هي طبقة واحدة، ومعلِّمها هو الرّوح القدس. على المؤمن ألّا يُصغي إلّا إلى ذاك الّذي يجد في سلوكه انعكاسًا لكلمة الله، أكاهنًا كان أم لا. إنّ علمانيين كثُرًا يعيشون حالة مِن القداسة، تفوق بأضعاف حالة بعض الكهنة، غير أنّ مهمّة خدمة الأسرار والكلمة لم تُعطَ لهم مِن قِبَل الجماعة، لذا فَهُم لا يستطيعون الاحتفال بالإفخارستّيا، وتأديَة الدور الـمُوكَل إلى الكهنة. إنّ هذا الأمر لا يُعطي المؤمن الحقّ في عدم احترام الكاهن أو في تخطّي صلاحيّاته، فالكاهن على الرّغم من كلّ أخطائه يبقى هو المسؤول الأساسيّ عن نقل البشارة وخدمة الكلمة الإلهيّة والأسرار. إنّ الخبز والخمر يتحوّلان إلى جسد المسيح ودمه، بِغَضّ النّظر عن قداسة الكاهن أو عدمها. إنّ الله هو الوحيد الّذي يستطيع إدانة الكاهن على أدائه للمسؤوليّة الّتي أُسنِدَت إليه. إنّ الكاهن هو الّذي يُقرّر من خلال تصرّفاته إن كان يريد أن يكون مضَلِّلاً للشعب في نقله لكلمة الله لهم، أم أمينًا لتلك الكلمة الإلهيّة. على المؤمن طاعة الكاهن إن كان يطلب منه تحقيق كلام الإنجيل حتّى وإن كان هو نفسه لا يُطبِّقه في حياته اليوميّة، فالمهمّ بالنسبة للمؤمن هو السّعي لتحقيق كلمة الله في حياته الخاصّة، ودفع الآخرين إلى عيش الإنجيل من خلال سلوكه. إنّ مسؤوليّة الكاهن تكمن في إقناع المؤمنين، من خلال طريقة عيشه أنّ كلام يسوع يُمكن أن يُعاش، وهو كلام واقعيّ. إنّ مسؤوليّة الشعب المؤمِن تَكمُن في كونه "حافظًا للإيمان"، عبر العصور. إنّ كلّ الهراطقة في الكنيسة كانوا من الكهنة، غير أنّ الكنيسة ما زالت مستمرّة بفضل الشعب الّذي حافظ على الإيمان الصحيح.
إنّ المؤمنين هم رعيّة المسيح، وبالتّالي فإنّ راعيهم هو المسيح يسوع، الكاهن الأوحد، دون سواه. إنّ سلوك الكاهن الـمَشبوه، يجب أن يترافق مع تدابير كنسيّة داخليّة، وذلك بهدف الحفاظ على خدمة الأسرار والكلمة الإلهيّة. على كلّ كاهن أو أسقف، يعاني من أمراض تَمنعُه مِنَ القيام بواجباته على أفضل وجه أن يستقيل أو أن تتمّ إقالته، كما أنّ على الكنيسة أن تُعفي من الكهنوت كلّ كاهنٍ أو أسقف، لا يعكس في تصرّفاته وسلوكه ما يبشِّر به. إنّ الشيطان قد جرّب يسوع في البريّة وطلب منه تحويل الحجارة إلى خبزٍ كي لا يجوع، وبالتّالي فإنّ الإنجيليّ من خلال كتابته لهذا النّص كان يريد أن يُنبِّه المؤمنين إلى أنّ من يسلك وِفق كلام الله فَسيجوع ويُعاني من الضيقات، أمّا مَن يسِر وِفق منطق هذا العالم، فإنّه سيشعر بالقوّة والسيطرة في هذا العالم. إخوتي، إنّ المؤمنين الحقيقيّين بالمسيح يُدرِكون تمامًا أنّ هذه الدّنيا هي فانية، وأنّ الحياة الأبديّة هي رجاؤهم. لذا مَن أراد أن يسير وِفق كلام المسيح فسيُعاني من الاضطهادات في هذا العالم: سيتعرّض للجوع، ولتشويه السُمعَة، إذ ما من خادمٍ أفضل مِن مُعلِّمه، فكما فعلوا بالمسيح، سيفعلون بأتباعه. إنّ المسيح قد حُكِمَ عليه بالموت، نتيجة شهادات زورٍ قِيلَت في حقِّه، وشوَّهوا سمعته، وقد أسقى أبناء هذا العالم، ربّ الكون خلّاً عِوضَ الماء. على كلّ مؤمنٍ أن يختار إمّا أن يكون مِن أتْبَاع الربّ يسوع، وإمّا أن يكون مِن أتباع برأباس، ذلك الّذي استعمل أدوات الشّر معتقدًا أنّه بتلك الطريقة يصل إلى الحقّ والسّلام. إنّ رجل الدِّين غير مُنَزَّه عن الأخطاء، ولِذا فإنّه يحقّ لكلّ مؤمن، حِرصًا على الكلمة الإلهيّة أن يَلفتَ نظر الكاهن إلى ضرورة تحسين مسلكه، بطريقة تملؤها المحبّة، وتوجيه تلك الملاحظات لا يكون بهدف الهدم، إنّما مِن أجل البِناء. لا يحقّ للمؤمنين تسويق خطايا بعضهم البعض، إنّما عليهم عيش الحقّ، لأنّه هو الكفيل باصطلاح المعوَجّ.
تعاني الكنيسة اليوم، من أزمة كبيرة، إذ انقسمت إلى كنيستين: كنيسة المسيح، وكنيسة رجال الدّين ومَن يَتبَعهم مِنَ الشعب. إنّ بعض المؤمنين يخلِطون ما بين هاتين الكنيستين، إذ ينسبون أعمال رجال الدّين إلى الله، وأعمال الله إلى رجال الدِّين. على كلّ مؤمن أن يُدرِك إلى أيّة كنيسة ينتسِب، فإن كان ينتمي إلى كنيسة المسيح، فهذا يفترِض منه أن يساعد إخوته على النّهوض من خطاياهم بكلّ محبّة ومن أجل بنائهم، وإنْ لم يصطلحوا فَعليه بإقالتهم بكلّ محبّة، وأن يُكلِّف آخرين يكونون أهلاً لمسؤوليّة الخدمة. إنّ المؤمن الّذي يريد أن يقوم بثورة على الأخطاء الّتي يراها في الكنيسة، عليه أن يفعل ذلك بكلّ محبّة، وعليه أن يكون مستَعدًّا لتحمّل الضربات الموجِعة.
إخوتي، إنّ العالم لم يخلُ مِنَ الصالحين والمؤمنين الحقيقيّين، وقد قال لي أحدهم حكمةً هي أنّ الكُرَة الأرضيّة ما زالت مستمرّة في الدَوران بفضل الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين. إخوتي، إنّ الكنيسة تستمرّ بفضل مؤمنين صالحين. لذا فلنتخلَّ عن دينونة الآخرين، ولنسعَ لنحافظ على دورنا كمؤمنين صالحين وحافظين للإيمان. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
عيد الظهور الإلهيّ
الأب ابراهيم سعد
10/1/2017
إنّ الكنيسة تعيش اليوم زمن الظهور الإلهيّ، الّذي يُعرَف شعبيًّا بزمن المعموديّة. إنّ المؤمِنِين، عبر العصور، لم يُدرِكوا الأهميّة الروحيّة لهذا العيد، بدليل وجود قلّة في العادات والتقاليد الشعبيّة الخاصّة بهذا العيد.كما أنّ كُثُرًا منهم، اعتقدوا أنّ هذه الأعياد هي أعياد خاصّة بالمسيح كونه هو الّذي عاشها، ولكن في الحقيقة، هذه الأعياد تخصّ المؤمن أكثر ممّا تخصّ المسيح. إنّ زمن المعموديّة ليس زمن معموديّة يسوع وحسب، إنّما زمن معموديّة المؤمِن الخاصّة.
إنّ الأعياد اللّيتورجيّة والكنَسيّة ترتكز على كلمتين هما: الذِّكرى والذِّكر. إنّ تاريخ الإنسان يُقسَم إلى قِسْمَين: عصر ما قبل التاريخ، وعصر التاريخ. إنّ فترة "ما قبل التاريخ" هي الفترة الّتي لم يُدوِّن فيها الإنسان شيئًا ممّا اختبره وعاشه، وبالتّالي لم يتمكَّن الإنسان المعاصر مِن معرفة اختبارات النّاس في ذاك الزَّمان، لأنّ أخبارهم قد اندثرت مع موت معاصريهم. إنّ الإنسان بدأ تدوين تاريخه في عصر"التاريخ"، وبالتّالي أصبح الإنسان المعاصر قادرًا على معرفة ما عاشه أولئك في تلك الفترة الزمنيّة، إذ وصلت إليه أخبارهم عبر ما دوَّنوه. إنّ الإنسان يسعى دائمًا ليُوَثِّق اختباراته ويُدوِّنها، لأنّها تُشكِّل الدليل على وجوده وجذوره. إذًا، إنّ التاريخ يرتكز على الذّاكرة الإنسانيّة، فالإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على تدوين اختباراته الحياتيّة مستندًا على حواسه، وبالتّالي يستطيع نقل أخباره إلى الأجيال القادمة ومشاركتهم بها من خلال كتاباته. إنّ التَّناقل الشفهيّ الكلاميّ مفيدٌ لفترة محدودة من الزَّمن، أمّا في الأمَد البعيد، فلا بديل له عن الكتابة، لذا دوَّن الرّسل ما اختبروه مع المسيح مخافةَ أن تَتعرّض تلك البشارة إلى النِسيان مِن ذاكرة الإنسان أو إلى التشويه في نقلها، فكان الإنجيل. في زمن الرّسل، عاش المسيحيّون الإيمان المسيحيّ، ولم يكن هناك ضرورةٌ لكتابة اختباراتهم مع المسيح، لأنّهم عاصروه وعرفوه عن قُرب، غير أنّ الكتابة باتت ضروريّةً عندما بدأ الموت يُغيِّب الرّسل الواحد تلو الآخر. كتب بولس رسائل إلى كلّ الّذين نَقَلَ إليهم البشارة، مِن أجل تصحيح مسارهم وسلوكهم، بعد أنْ لاحظ سوء فَهمِهم للبشارة الّـتي بشَّرهم بها. إذًا، إنّ الذَّاكرة الإنسانيّة هي الّتي تصنع تاريخ الإنسان، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الّذي يتمتّع بذاكرة منطوقة من بين كلّ المخلوقات، ولذا فَهو يستطيع أن يتذكّر ما عاشه ويشهد به، إمّا بالكلام أو بالكتابة. إذًا، "الذّكرى" تُشير إلى ذاكرة الإنسان، وأمّا "الذِّكر" فهو الشهادة لكلّ ما يتذكّره الإنسان.
في الأسرار الإلهيّة، يعيش المؤمِن "الذِّكرى" و"الذِّكر"، إذ يتذكَّر عملَ الله الخلاصيّ في تاريخه البشريّ، فيَذكُرُه للأجيال اللّاحقة شاهدًا لإيمانه بالله. في القدّاس الإلهيّ، يتذكّر المؤمِن مسيرته مع الله، فيَتَوجّه إليه بالصلاة طالبًا منه تقديس ما يُقدِّمه له مِن مياه أو قرابين، وبالتّالي فإنّ المؤمِن لا يصلّي إلى إله تصوّراته وتخيُّلاته، إنّما للإله الحاضر في تاريخه عبر الأجيال. أثناء الاحتفال بالمعموديّة، يقوم الحاضرون بتَذَكُّر تاريخ الله مع شعبه، فيسألونه مباركة المياه ومباركة الإنسان الّذي يتقدّم مِن سرّ المعموديّة، فيُصبِح المعمَّد عضوًا في الكنيسة، وتاريخ شعب الله يُصبح تاريخه الخاصّ بفعل معموديّته. إنّ انتماء كلّ معمَّدٍ إلى الكنيسة، هو انتماءٌ إلى تاريخ شعب الله، وبالتّالي فإنّ دخول المعمَّد إلى تاريخ الله سيكون فاعلاً، وسيغيّر في هذا التاريخ. إنّ تاريخ شعب الله سيحوي اسم كلّ معمَّدٍ في الكنيسة، أكان ملتزمًا بالله أم بعيدًا عنه. فالله لا يلِدُ الإنسان مِن جديد إنْ لم يسلك هذا الأخير بحسب رضى الله ومشيئته، وبالتّالي هذا ما يُفسِّر عدم مَنح المعموديّة إلّا مرّة واحدة. إنّ سفر أعمال الرسل يتكلمّ عن المعموديّة الّتي تُمنَح مرّة واحدة، كما تُعلِن الكنيسة ذلك في قانون إيمانها إذ تقول: "ونعترف بمعموديّة واحدة". بعد خروج المؤمِن مِن جُرن المعموديّة، يصبح المعمَّد خليقة جديدة على صورة الله ومثاله كما كان يسوع المسيح، كما يصبح ابنًا لله، أي أنّه يشارك المسيح في ميراث الله. إنّ إغراءات هذه الدنيا وآلامَها، تُغيِّر المؤمِن وتُشَوِّه صورة الله فيه الّتي نالها في المعموديّة. إنّ هدفَ العيد والأسرار الإلهيّة تصحيحُ مسيرة المؤمِن الحياتيّة، فالعيد هو فرصةٌ لليقظة الروحيّة.
إنّ المعموديّة تجعلُ المؤمِن أهلاً للشهادة، من خلال مواهبه الّتي يُنعم بها الله عليه. في المحاكم البشريّة، يتمتّع الشاهد في قضيّة معيّنة، بمصداقيّة وشفافيّة، وإلّا أصبحت شهادته مشكوكًا بأمرها؛ كذلك على حياة المؤمِن، أن تشهد لإيمانه، وبالتّالي يجب أن يتمتّع بمصداقيّة وشفافيّة في عيشه لما يؤمِن به، وإلّا تحوّل إلى مصدر شكّ للآخرين وسببًا في ابتعادهم عن الله. في معموديّته على نهر الأردّن، غطس الربّ يسوع في المياه وتعمَّد على يد يوحنّا المعمدان. في هذه المعموديّة، ظهر الله الثالوث: ظهر الروح القدس على شكل حمامة على رأس يسوع الابن، وسُمِع صوت الآب مِنَ السّماء قائلاً عن المسيح: "هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُرِرت". إنّ "ابني الحبيب"و"سُرِرت" كلِمَتان تدلّان على رضى الله على يسوع المسيح. ولكنَّ السؤال هو: كيف يُسَرُّ الله بابنه قَبلَ أن يبدأ هذا الأخير رسالته؟ إنّ مسرَّة الأب بابنه، بحسب المنطق البشريّ، ترتكز على سلوك الابن. غير أنّ مسرّة الله مختلفة عن مسرّة البشر، إذ لا يفرح الله بابنه يسوع نتيجة سلوك هذا الأخير في رسالته الّتي بدأها بعد المعموديّة، إنّما يفرح الله بالابن نتيجة ثقته بأنّ ابنه يسوع لن يخيِّب له ظنّه. إذًا، إنّ سبب سرور الله بابنه يسوع، هو طاعة هذا الأخير لله ولمشيئته: فإنْ عاش المعمَّد الطاعة لله، فَسيختبر ما عاشه المسيح في أثناء المعموديّة، إذ سيسمع صوت الله الآب قائلاً فيه: "أنتَ ابني الحبيب الّذي به سُرِرت". إنّ المؤمِنِين يُشكِّلون مصدرَ سرور الله على الرّغم مِن خطاياهم وأذيّتهم وظُنونِهم، فَمَسرّة الله بهم غير مرتبطة بسلوكهم الـمُخجل، بل مرتبطة باختيارهم البُنُوَّة لله مِن خلال المعموديّة. إنّ الإنسان يفرح حين يُدرِك أنّ الله يُسَرّ به ويقبَلُه كما هو، وقد تبنّاه إذ جعله ابنًا له بالمعموديّة. إذًا، إنّ عيد الظّهور الإلهيّ هو عيد الفرح. إنّ الله غير قادر على التخلّي عن الإنسان إذ إنّ طبيعة الله تمنعه مِن ذلك فَهيَ تتَّسِم بالرّحمة والمحبّة. إنّ الله يتخلّى عن هويّته الإلهيّة إنْ حاسب الإنسان على خطاياه من دون رحمة ومحبّة، ويتحوّل إلى قاضٍ بشريٍّ، وعندها ستهلك البشريّة بأسرها لا محالة. في عيد الظهور الإلهيّ-كما في كلّ الأعياد- تَظهر محبّة الله ورحمته للبشر. في العيد، يتذكّر الإنسان ما قام الله به مِن أجله، فيُدرِك أنّ إلهه رحومٌ ومحبٌّ، وهذا ما يدعوه إلى الفرح والابتهاج.
في العيد، يُعبِّر الإنسان عن فرحه وابتهاجه بِطُرقٍ متعدّدة: فقد يُعبِّر البعض، مثلاً، عن فرحهم عبر تحضير حلوى العيد "الزلابيّة"، وآخرون بإضاءة مصابيح شُرُفات المنازل، وآخرون بِطُرقٍ أخرى مختلفة. إنّ كلّ وسائل التعبير هذه، لا يجب أن تخلو من معنى العيد الحقيقيّ، فهي مِن شأنها أن تساعد المؤمِن على عيش العيد في كلّ نواحي حياته: فالنّساء اللّواتي يُحضِّرن "الزلابيّة"، يَقُمَن بتغطيسها بالزيت، وبذلك يتذكّرون ما قام به يسوع المسيح في نهر الأردّن، إذ غطس في المياه. إنّها لَنِعمةٌ مِن الله أن يكون الإنسان كائنًا مُعبِّرًا: إنّ الّذين يَكبِتون مشاعرهم هُم أشخاص يُعانون من أمراض نفسيّة وعصبيّة وجسديّة متعدّدة. إنّ الإنسان لا يُعبِّر عن حبّه أو جفائه للآخر من خلال الكلام وحسب، إنّما أيضًا مِن خلال الجسد، إذ إنّ إلقاءَ الإنسانِ التحيّةَ والسّلامَ، مثلاً، على أشخاص تربطه بهم علاقة محبّة، تختلف عن طريقة إلقاء الإنسان نفسَ التحيّةَ على آخرين تربطه بهم عداوة، أو لا تربطه بهم أيّة معرفة. إنّ طريقة تعبير الإنسان عن فرحه تختلف عن طريقة تعبيره عن حزنه: فالآخرون يستطيعون معرفة حالة الإنسان مِن خلال طريقة تعبيره، ولكنّ الآخرين لا يستطيعون معرفة مقدار الحزن أو الفرح الّذي يعيشه الإنسان في داخله، لذا فَقَدْ يجد البعض بعض طُرق التعبير مبالغًا بها. إنّ الإنسان هو الشخص الوحيد القادر على معرفة مدى عُمق حزنه أو فرحه. إنّه لَخَطرٌ كبير على الإنسان أنْ يبني فرحه على الأمور الدنيويّة، وقد حذّرنا المسيح مِن ذلك في الإنجيل. إنّ مدّة التعبير عن الفرح قصيرة جدًّا، غير أنّ الفرح يدوم لفترة أطول: فإنْ انتهى فرح الإنسان مع انتهاء العيد فهذا دليلٌ على أنّ المؤمِن لم يفهم معنى العيد الحقيقيّ، ولكنْ إنْ كان فرحه دائمًا فهذا يعني أنّه أدرك حقًّا معنى العيد. وبالتّالي، فإنْ فَهِمَ الإنسان الحدث حقيقةً، شَعَرَ بالفرح في هذا العيد العظيم؛ وإنْ لم يَفهَمه، فإنّه سيعتبر هذا العيد عيدًا بسيطًا وفرَحُه فيه سيكون قصير الأَمَد، وذلك لأنّ ذهنيّة العالم هي الّتي غَلَبَت على مفهومِه للعيد. إنّ الكنيسةَ تدعو المؤمِنِين إلى عيش الفرح والتعبير عنه وِفقَ ذهنيّة الإنجيل. إنّ الإنسان قد يجد صعوبةً في التَمييز لعَيشه فرح العيد إذ قد يعتقد أنّه يعيش فرح الرّوح في هذا العيد، في حين أنّه يعيش مَرَحَ العالم.
إنّ العبادة قد تتحوّل عند المؤمِن في بعض الأحيان إلى عادة، إذ قد يُمارِسُها من دون تفكير في موضوع عبادته. إنّ ما يتحرّر الإنسان من التفكير فيه، أي مِن تحليله وفهمِه، يتحوّل إلى عادة وبالتّالي يَفرغ من معناه. إنْ حُذِفَ حرف الباء من كلمة "العبادة"، تتحوَّل تلك الكلمة إلى "العادة"، والحرف المحذوف أي "الباء"، هو حرف شِفاهيّ، أي أنّه يصدر عن شفاه الإنسان الّتي منها تخرج كلّ الكلمات، وبالتّالي فإنّ العبادة تتحوّل إلى عادة عندما تخلو مِن الشهادة أي مِن إعلان المؤمِن لها بكلامه. إنّ الشهادة تتضمّن سماع الإنسان ورؤيته للحدث الّذي يشهد له، إضافةً إلى خِبرَتِه في عيش الحدث. إنّ الكنيسة الّتي تتَّبِع التقليد الشرقيّ، تدعو المؤمِن في نهاية زمن كلّ عيد، إلى "قدّاس وَداع العيد"، ويكون ذلك في آخر أيّام العيد، ويتضمّن القدّاس احتفالاً بكلّ مباهج العيد المتعارف عليها. إنّ الكنيسة تدعو المؤمِن من خلال "قدّاس توديع العيد" إلى أن يتذكّر ما حَمل له العيد مِن ثمار روحيّة، كما تُشجّعه على المحافظة عليها والمثابرة على عيشها كي تعطي المزيد مِن الثِّمار في العيد المقبل. إنّ العيد لا تنتهي ثماره ونتائجه مع انقضاء مرحلته، فالعيد لا ينتهي بحلول العيد، كما تقول ذهنيّة العالم، بل يبدأ العيد بحلول العيد، وَفق ذهنيّة الإنجيل.
إنّ معموديّة الماء والرّوح لا تُمنَح إلّا مرّة واحدة في الكنيسة، ولكنّ ثمار هذا العيد هي معموديّة الفكر والرّوح بواسطة الكلمة الإلهيّة، فالكلمة الإلهيّة تُعمِّد فكر كلّ مَن يسمعها ويقبلها في حياته. إنّ بولس الرسول يُخبرنا أنّ المسيح هو العريس، وقد أحبّ كنيسته للغاية حتّى أنّه بَذل نفسه مِن أجلها، إذ جعلها عروسةً له. وعندما أراد المسيح تجديد عهده مع الكنيسة، غسلها بماء المعموديّة وطهّرها بواسطة الكلمة الإلهيّة. ولذلك، فإنّ لكلّ سرّ من الأسرار الكنسيّة ما يناسبه مِن نصوص في الأناجيل والرسائل، أي في الكلمة الإلهيّة. إنّ المؤمِن يُصبح مشتركًا في عطايا الله له، في نهاية كلّ سرّ يناله. إنّ المؤمِن لا يستطيع الاشتراك في عطايا الله له إلّا إذا كان طاهرًا ونقيًّا مِن كلّ دَنس. وهذه الطهارة لا يستطيع الإنسان تحقيقها من دون معونة الله له، لذا يقوم الله بغسل المؤمِن بماء المعموديّة وبالكلمة الإلهيّة. إنّ "الذِّكرى"، و"الذِّكر" لحدثٍ معيّنٍ في الكنيسة، يتمّ بكلمات ينطقها المؤمِن، تعبِّر عن فرحه بالحدث الإلهيّ الّذي يتذكّره فيقيم ذكراه.
في عيد الظهور الإلهيّ، يحتفل المؤمن بمعموديّته الخاصّة لا بمعموديّة المسيح. كانت معموديّة يوحنّا مِن أجل توبة الخطأة، ودعوتهم إلى تصحيح مسارهم؛ غير أنّ يسوع لم يكن محتاجًا إليها فهو البارّ والقدّوس، ولكنَّه أراد الاعتماد على يد يوحنّا مِن أجل تتميم برّ الله. ولذلك، فإنّ معموديّة يسوع على يد يوحنّا المعمدان لم يكن مِن شأنها أن تزيد المسيح طهارةً، بل أن تساعد النّاس على إدراك برّ الله إذ انفتحت السّماء لأجلهم وسُمِع صوت الآب، وظهر الرّوح القدس على شكل حمامة. إنّ برّ الله كاملٌ ولم يكن بحاجة لأنّ يتعمَّد المسيح كي يكتمل. إن معموديّة يسوع على يد يوحنّا كانت الوسيلة الّـتي استخدمها الله ليُعلن للبشر أجمعين عن برّه. أراد يوحنّا المعمدان إظهار تواضعه حين رفض في بادئ الأمر تعميد يسوع، لِعِلمِه أنّه طاهر، غير أنّه عاد وسكب المياه على رأس يسوع، من أجل إتمام برّ الله. وبالتّالي، فعلى المؤمِن أن يسعى إلى عدم تعطيل مشروع الله بتواضعه. إنّ الكتاب المقدّس يخبرنا أمورًا قد تثير استغرابنا لقبول الله بها، كأن يقبل بِكذبةِ ابراهيم حين أنكر أنّ سارة هي زوجته، في سبيل تخليص روحه، أو كأن يقبل بخداع يعقوب لأبيه اسحق. إنّ مشروع الله لا يتعطّل بسبب خطايانا، ولذا نجد أن الله قَبِل بها وجعلها تخدم مشروعه الخلاصيّ. إنّ الله هو الوحيد الّذي يحقّ له استخدام كلّ الوسائل، من أجل تحقيق الخلاص. إنّ خطايا الإنسان لا يمكنها أبدًا تعطيل مشروع الله الخلاصيّ، ولكنّها تستطيع أن تجعل الإنسان خارج مشروع الله لأنّها تعبِّر عن رغبة الإنسان برفض الخلاص. على المؤمِن ألّا يُضيِّع وقته في محاولة التخلّص مِن خطاياه، فيرفض قبول الأسرار الإلهيّة والمشاركة فيها بحجَّة هذه الخطايا، فلا يحصل على الخلاص الذي يمنحه إيّاه الله. ولذلك، فإنّ الأعياد هي سبب فرح للمؤمِن إذ تُظهِر له مدى عظمة محبّة الله ورحمته له، كما أنّ فرح الإنسان المستمِرّ بعمل الله الخلاصيّ، يجعل العيد حاضرًا في كلّ أوان.
إنَّ الّذين اهتمّوا بتنظيم الحياة اللّيتورجيّة، ووَضْعِ السَّنوات الطّقسيّة الخاصّة بكلّ كنيسة، هم قدِّيسون بلا شكّ، إذ إنّهم حاولوا من خلال أعمالهم هذه أن يساعدوا المؤمِنِين على اكتشاف ورؤية ما قد رأوه واختبروه هم أنفسهم مع الله. إنّ الإنسان يتقدَّس حين يكتشف في قيامة الربّ يسوع مِن بين الأموات كلّ فرحه، وعليه بالتّالي أن يسعى إلى دفع الآخرين إلى القداسة عبر نَقلِه هذا الفرح إليهم، فالفرح يُعدي. إنّ الابتسامة قد تكون أصدق تعبير عن إيمان الإنسان بالله، وهي إحدى طُرُق الشهادة عن لقاء المؤمِن بالرّب. إنّ الابتسامة هي إحدى وسائل التبشير بالمسيح، إذ إنّ للابتسامة قوّة الكلمة، وما يُقصَد بالابتسامة هنا، هو الفرح النابع من المسيح، أي من القلب.
إنّ عيد الظهور الإلهي هذه السَّنة، هو فرصةٌ لكلّ مؤمن كي يُعيد للعادة معناها الروحيّ، فتصطلح العادة وتصبح عبادة لله، كما يدفع هذا العيد كلّ مؤمِنٍ إلى تحويل مرَحَهُ العالميّ إلى فرحٍ بالرّوح، فلا يفارقه الفرح بعد ذلك الحين. إنّ الفرح له تعابيره الخاصّة ومعاييره أيضًا، ولا يُعبَّر عنه بالضرورة من خلال إعطاء المال للآخرين. فكما أنّ الفضيلة تُعدي الآخرين،كذلك الرذيلة، وبالتّالي فإنّ الفرح والحزن ينتقلان إلى الآخرين بالعدوى بواسطة المؤمِن. غير أنّ التعزيّة لا تأتي مِن البشر إنّما مِن الله، لذلك انتظارُ المؤمنِ الحصولَ عليها مِن البشر هو مَضيعةٌ للوقت. إنّ الفرح السماويّ يأتي إلى المؤمِن بواسطة الآخرين المحيطين به، ولذا فإنّ المؤمِن مدعو لأنّ يكتشف هذا الفرح الحقيقيّ أوّلاً في داخله ثُمّ في الآخرين. إنّ مشاكل هذه الدّنيا وضغوطاتها على الإنسان، تدفع بالمؤمِن إلى الإحباط واليأس، وبالتّالي إلى التوقّف عن تحقيق مشروع الله في حياته، ذلك من الشيطان لتعطيل مشروع الله في داخل الإنسان. إنّ الروح القدس يأتي لنجدة المؤمِن في أوقات الشّدة والـمِحَن، فلا يلغي له المشاكل، إنّما يُساعده على مواجهتها، وعلى دفعه إلى رؤية تعزيات الله له في هذه الظروف الّتي يمّر بها. عندما يتعمَّد المؤمِن، فإنّه يخرج من جُرنِ المعموديّة ابنًا لله، ولكنّ العالم الّذي يعيش فيه المؤمِن يبقى على حاله، غير أنّ نظرته إلى أمور هذه الدّنيا هي الّتي تتبدّل وتتحوّل، إذ يتعلّم كيف يتعامل مع هموم الدّنيا، فينقل المؤمِن إلى العالم عدوى الفرح الداخليّ، دون أن يسمح للعالم بأن ينقل إليه فرحه الزائل.
في عيد الظهور الإلهيّ ظهر الثالوث الإلهيّ، ولكنْ كلّ أقنوم منه قد ظهر بطريقة مختلفة عن الآخر: فالآب ظهر من خلال الصوت أي من خلال الكلمة، والابن ظهر في الإنسان القابل للمعموديّة، والرّوح بشكل حمامة ترمز أيضًا إلى السلام. إذًا، إنّ كلّ معمَّد يحصل على الكلمة الإلهيّة والتعزية الإلهيّة الّتي تُعطي السّلام، وبالتّالي فإنّ كلّ معمَّد هو أيقونة المسيح. إنّ المسيح هو أيقونة الله الوحيدة على الأرض، فإنّ كلّ إنسان معمَّد يتحوّل إلى أيقونة جديدة عن المسيح.
ملاحظة: دوِّنت المحاضرة بتصرّف.
تتمة...تأمّل في مسيرة الصوّم
للأب ابراهيم سعد
28/2/2017
إنّ موضوعنا اليوم هو، الصّوم بحسب اللّيتورجيا الشرقيّة الأرثوذكسيّة، وسنتناول في حديثنا مسيرةَ الصّوم في هذه الكنيسة، مِن خلال شرحِ آحادِ الصّوم. إنَّ الاختلاف بين اللّيتورجيا الغربيّة واللّيتورجيا الشرقيّة، لا يُعبِّر عن تناقُض في ما بينهما إنّما يُعبِّر عن غنى كلّ ليتورجيا وتكامُلِها الواحدة مع الأخرى، وذلك في سبيل تقوية الإيمان عند المؤمنين، خاصّةً في هذا الزَّمن المبارَك.
ليس الصّومُ في الكنيسة فريضةً إنّما هو ترتيبٌ وتدبيرٌ في الكنيسة، نابعٌ مِن حالة يعيشها المؤمنون، ويُعبِّرون عنها بطُرقٍ مختلفة؛ والصّومُ هو إحدى وسائل التعبير. إنّ التّعبير عن هذه الحالة الإيمانيّة الّتي يعيشها المؤمِنون، ليسَ تعبيرًا جافًّا، إنّما هو تعبيرٌ مُتغيِّرٌ بحسب اختلاف الأزمنة الطقسيّة الكنسيّة. إنّ الصّوم قد تطوَّر عبر التّاريخ قَبلَ وصولِه إلى حالته النهائية الّـتي نعرفها اليوم: ففي البدء، كانت مدّة الصّوم الفِصحيّ لا تتعدّى الثلاثة أيّام، وقد تطوّرَت مَع الزّمن إلى أن أصبحت أسبوعًا واحدًا، ومع الوقت امتدَّت هذه المدّة لِتَصلِ إلى الأربعين يومًا؛ وقد أُضيفَ على هذا الصّوم الفصحيّ الأربعيني أصوامًا أخرى،كَصَوم الرّسل، وصوم الميلاد، وصوم السيّدة. إنّ الصّومَ هو ترتيبٌ تربويّ يهدف إلى مساعدة المؤمِن على ترويض ذاته، ولا نقصِدُ هنا بترويض الذات، ضبطَ المؤمِن لأهوائه، إذ على المؤمِن ضبطَ أهوائِه طيلة أيّام حياته لا في فترة الصّوم فقط. إنّ الصّوم يُعبِّر عن حقيقة وِحدَة جسدِ المسيح السرّي، أي الكنيسة، وإنّنا لا نقصد بهذا الكلام وِحدَة الأشخاص الأقوياء في الكنيسة، إنّما وِحدَة الأشخاص الأقوياء مع أولئك الضُعفاء. إذًا، ليسَ الصّومُ تعبيرًا عن التزام المؤمِن بِرَبِّه إنّما هو تعبيرٌ عن التزامِه أمام الله بالآخر، أيًّا يكن هذا الآخر. إنّ الأزمة الّتي يعيشها المؤمِنون في الصّوم ناتجة عن اعتبارهم زمنَ الصّوم، زمنًا مخصّصًا لِضبطِ الأهواء وترويض النّفس. بهذا الاعتقاد الخاطئ للصّوم، يضع المؤمِنون حول الصّوم هالةً تُمكِّنهم مِنَ التباهي بالإنجازات الخاصّة الّتي يقومون بها، وتُعطِيهم صلاحيّةً لإدانة الآخرين. إنّ الصّومَ الأربعينيّ، يُعرَف أيضًا بِـ"صَوم الفِصِح"، لأنّ خاتمتَه هي الصَّلب والقيامة، أي الخلاص: إنّ الربّ يريد مَنْحَنا الخلاص في نهاية هذه المسيرة، إنّه يريدُ خلاصَنا من الموتِ الأبديّ وأن يَمنَحنا الملكوت السّماويّ. إنّ الربّ لم يحكم في حياته على أحدٍ مِنَ البَشر، وقَولُه إنّه جاء ليُخلِّص البشر لا ليُدينهم هو البرهان على ذلك، كما أنّ غفرانه لصالِبيه يُشكِّل برهانًا إضافيًّا إذ قال وهو مُعلَّقٌ على الصّليب: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يَفعَلون". إنّ الربّ لم يُدِنْ أحدًا على الرّغم مِن امتلاكه هذا الحقّ كَونَهُ الله، وبالتّالي أراد القول إنّ الحصول على الخلاص لا يُعطينا الحقّ في إدانة الآخرين. إنّ الوجهَ الوحيد للخلاص هو الله: فالله يَمنَح جميع البشر الخلاص، غير أنّ الإنسان قد يرفض خلاص الله له، فيَجعل نفسَه بعيدًا عن الله، وذلك من خلال مواقفه الحياتيّة العملانيّة. في اليوم الأخير، يجد الإنسان نفسَه قدّام الله أمام خياريْن، إمّا الحصول على الخلاص، وإمّا الدينونة الأخيرة، واختيار الإنسان في هذا اليوم يرتكز على موقفه مِن الله وعلى أعماله في هذه الأرض الفانية، فإن كان رافضًا لله نالَ الدينونة والعذاب الأبديّ، وإن كان عائشًا وِفق تعاليم الله، فإنَّ الخلاصَ سيكون نصيبَه الأخير. غالبًا ما ينطلق المؤمِن في مسيرة الصّوم صوب الصّلب والقيامة بِروح الإدانة، فَهوَ يُدين نفسَه على تراخيه وإهماله وكسله، إذ إنّ نور الربّ قد أضاء حياته وجَعَلَه يرى أخطاءَه الكثيرة، لكن على المؤمِن ألّا يتناسى أنّ رحمة الله عظيمة، وهي أكبر من خطاياه. إنّ الصّومَ هو مسيرة خلاصٍ لا دينونة، لذا على المؤمِن أن يَتقبَّل خلاص الله له، دونَ أن يُعطي نفسَه الحقَّ لإدانةِ ذاته، أو لإدانة الآخرين، إذ إنّ ذلك مَضيَعةٌ للوقت، ولا فائدة منه.
إنّ مسيرةَ الصّوم ترتكز على فرحِ القيامة. إنّ أحدَ مدخلِ الصّوم في الكنيسة الّتي تتّبع التقليد الشرقيّ الأرثوذكسيّ، يُسمّى بـ "أحد الغفران"، وفيه تقرأ الكنيسةُ نصًّا إنجيليًّا يدعو المؤمِنين إلى غفران أخطاء بعضهم البعض، على مثالِ غفرانِ الله لنا. إنّ أحدَ الغفران هو الأحد الّذي يَختِم أسبوعَ مرفعِ البَياض، مُعلنًا بدءَ الصّوم. في التقليد الشرقيّ الأرثوذكسيّ، هناك مَرْفَعين: مرفعُ اللّحم، ومرفعُ البَياض. في أسبوع مَرفع اللّحم، يَعمَدُ المؤمنون إلى تناولِ اللّحمِ بكثرةٍ في هذا الأسبوع، قبل أن يتمّ رَفعُه عن الموائد يوم الأحد، الّذي يتمّ فيه قراءة إنجيل الدينونة: "كنت جائعًا ومريضًا وسجينًا...". إنّ قراءة هذا الإنجيل في أحد مرفَع اللّحم مِن شأنِه أن يُحفِّزَ المؤمنين على الاهتمام بالآخر المحتاج خلال فترة الصّوم. إنّ الصّومَ يُصبح مصدرَ فرحٍ للمؤمِن، حين يغفر للآخرين زلّاتهم تجاهه، تعبيرًا عن فرحه بغفران الله له كلّ خطاياه، على الصّليب. إذًا، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يتمّ دعوة المؤمنين إلى عيش الرّحمة والغفران لا إلى الدينونة، أي إلى عيش المسامحة والغفران وخدمة الآخر، مِن خلال الأناجيل الّتي تُقرأ على مسامِعهم في الذبيحة الإلهيّة، في الآحاد التحضيريّة للصّوم. الصّومُ هو دعوةٌ لكلّ مؤمنٍ كي يحوّلَ اهتمامه إلى الآخر لا إلى ذاتِه، ساعيًا إلى تلبية حاجات الآخر قدرَ المستطاع.
كُثُرٌ هم الأشخاص الّذي يُعلنونَ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، انقطاعهم عنها في فترة الصّوم، ولكنّ انقطاعهم هذا يترافق مع شعورهم بالحسرة والألم والندم على ذلك. إخوتي، إنّ كانت وسائلُ التواصل الاجتماعيّ مفيدةً، فلا يجب الانقطاع عنها في فترة الصّوم، بل على العكس، علينا استخدامها في فترة الصوم كوسيلة للتبشير بالمسيح. أمّا إن كانت تلك الوسائل مُضرّةً للنَّفس، فيجب الانقطاع عنها لا في فترة الصّوم وحسب، إنّما في كلّ أيّام حياتنا. إنّ أبوابَ السّماء لن تُفتَح أمام المؤمنين جرّاء حرمان ذواتهم من بعض الأمور مع شعورهم بالألم نتيجة هذا الانقطاع. إنّ المؤمن لا يصوم من أجل انفتاحِ أبواب السّماء له، إنّما يصوم لأنّه في السّماء، أي أنّ صومَه لن يكون سببًا في اقتراب المؤمن من الله، إنّما الصّوم هو نتيجة قُربِ المؤمن مِن الله.
إنّ هدف الصّوم هو الاهتمام بالآخر، وثماره ستكون عظيمة إن أدّى اهتمام المؤمِن بالآخر إلى اهتمامه بِذاته. فاهتمام المؤمِن بالآخر هو إعطاء هذا الأخير حاجته. إنّ العطاء ينعكسُ فرحًا على قلب المحتاج،كما وأنّه سينعكس بعد ذلك فرحًا في قلب الـمُعطي. في بداية الصّوم، على المؤمِن أن يتّخذ قرارًا بالسّعي إلى زرع الفرح في قلوب الآخرين، وذلك تعبيرًا عن فرحِه بغفران الربّ له على الصّليب، ليتمكّن في نهاية الصّوم من الوصول إلى فرح القيامة. ليس الصّوم زمنَ عبوس وَحُزنٍ وإماتاتٍ جسديّة مؤلِمة، إنّما هو زمنُ فرحٍ بغفران الربّ لنا. إنّ الصّوم ليس فترة انقطاع عن الآخرين من أجل تقوية العلاقة مع الله، بل إنّه فترة لإعادة التواصل مع الآخرين، والسّعي لتلبية حاجاتهم. في الصّوم، لا يجب الانقطاع عن الطّعام لأنّه سيّئ وغير مفيد، أو بسبب تعلُّق المؤمِن به، بل على المؤمِن الانقطاع عن الطّعام في سبيل تحويل هذا الطّعام إلى آخرَ قد حرَمَتْهُ الظُّروف المعيشيّة من الحصول عليه. ليسَ الصّومُ تدريبًا بوذيًا للنَّفس، ولا تأمُّلاً تجاوزيًّا. إنّ الصّوم عند سائر الدّيانات، يُكبِّل الإنسان ويَفرِضُ عليه بعض الالتزامات، أمّا الصّومُ عند المسيحيّين، فهو عبارة عن فترةٍ يعيشها المؤمِن تساعده على التَحرُّر مِن كلِّ القيود الّـتي تُكبِّله وتَمنَعُه من الوصول إلى الحريّة. لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى الحريّة الحقيقيّة إلاّ إذ ارتبط بالآخرين المحتاجين، وهذا الارتباط سيُحرِّره من كلّ القيود دون أيّ مجهودٍ منه. إنّ المؤمِن الّذي يعيش الحريّة الحقيقيّة لا يمتنع عن الطّعام في الصّوم والحسرةُ تملأ قلبَهُ، إنّما يمتنع عنه رغبةً منه في تقديم هذا الطّعام لِآخرَ يحتاجه، وبالتّالي فإنّ هذا الانقطاع يُشعِر الصائم بالفرح لا بالكآبة والحسرة. إنّ انقطاع المؤمِن عن الطّعام لا يتحوّلُ إلى فضيلةٍ إلّا عندما يُقدِّم هذا الطّعام إلى الـمُحتاج. إنّ الصّومَ الحقيقيّ ليس فترةَ انقطاعٍ عن العالم للتواصل مع الله، عبر تقديم السّجود والصّلوات له، بل إنّ الصّوم الحقيقيّ هو ذلك الصّوم الّذي يُعاش مع الآخر المحتاج والـمُهَمَّش الّذي يَضَعه الله أمامك، طالبًا منك مساعدته. إنّ الله يدعونا في زمن الصّوم إلى عبادته في الآخر المتروك والمهمشّ، وإلى تحويل كلّ تقدِّماتنا له إلى الآخر، وإلى طلب الغفران منه لأنّ الله يسكن فيه.
إنّ الكنيسة تَمنح المؤمنُ الحريّةَ الكاملة في التزام الصّوم أو عدمه، إذ إنّها تؤمِن بحريّة الإنسان الّتي تَجعلُه يتَحمَّلُ مسؤوليّة قراراته. فالحريّة هي تَحرُّر الإنسان من شيءٍ معيّن لارتباطه بأمرٍ آخر أكثر أهميّة بالنسبة له. إنّ أهمّ ارتباطٍ في الحياة هو الارتباط بالحُبّ، ولذا يَشعُر الإنسان بالحريّة إثر ارتباطه بالآخرين، نتيجة حبِّه لهم. إنّ الحبّ هو الارتباط الّذي يجعل المؤمِن يشعر بالحريّة غير أنّ الحبّ هو عبوديّة طوعيّة للمحبوب. لا يستطيع الإنسان أن يُجبر الآخر على الحبّ أو الكراهيّة، فهذه المشاعر تنبع مِن داخل الإنسان وتُعبِّر عن حريّته. إنّ البعض يعتقدون أنّ الصّوم هو زمن عيش المؤمِن لبرنامجٍ خاصّ بهذه الفترة الطقسيّة الخاصّة. إخوتي، إنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ، فالصّوم هو زمن اللّابرنامج، إنّه زمن الحريّة الحقّة. على كلّ مؤمِن أن يُدرِك سببَ التزامه بالصّوم، أو عدم التزامه به: فالصّوم لا يكون من أجل ضبط الأهواء إنّما من أجل إشباع حاجة الآخر المحتاج. إنّ عدمَ الالتزام بالصّوم لا يكون نتيجة استخفاف المؤمِن بعادات الصّوم وتقاليده بحجّة أنّ الصّوم لا يكون عن الطّعام بل عن الخطايا، وصوم اللّسان، بل يكون تعبيرًا عن رغبة المؤمِن في التحرّر من كلّ القيود الّـتي تُكبِّله، مع الالتزام بِمَدّ يد العون لكلِّ محتاجٍ مهما كانت حاجته. على الصّائم ألّا ينظرَ إلى غير الصّائم نظرة إدانة، كما أنّه على غير الصّائم ألّا ينظر للصائم نظرة استخفاف واحتقار لممارساته الدينيّة. إنّ الفرق كبير بين "الّذي يصوم كي" وبين "الّذي يصوم لأنّ": إنّ المؤمِن لا يصوم كي يحصل على السّماء، بل يصوم لأنّه في السّماء. إنّ المؤمِن الصائم الّذي يَعطشُ مثلاً، يستطيع أن يشرب الماء حتّى قبل أن يحين موعد الفطور، لأنّه من الأفضَل له عدم إضاعة الوقت في صراعه مع ذاته حول إمكانيّة الشرب قبل موعد الفطور، وتكريس هذا الوقت للآخر المحتاج إلى خدمة أو مساعدة. إنّ الصّائم الّذي يلبيّ إحدى الدّعوات إلى الغداء أو العشاء، عليه أن يتناول مِن الطّعام الّذي يُقدَّم له، لأنّ في عدم تناوله من الطّعام جرحًا لمحبّة الآخرين له، أصحاب الدّعوة. علينا ألّا نكون أسرى الصّوم، فالمحبّة هي أقوى من الصّوم، لكنّ هذا الكلام لا يعني عدم الصّوم، كما أنّه لا يعني الإفراط في المآكل، إذ على المؤمِن التحلّي بنعمة التمييز، كما عليه السّعي لعيش الشفافيّة في حياته، لأنّ في ذلك انعكاسًا وشهادةً لمصداقيّته في عيشه للإيمان.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بِتَصَرُّف.
تتمة...حارب الغضب بكلمةِ الله
مع الأب ابراهيم سعد
10/5/2016
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
موضوعُنا هو عن صراعِ الانسان مع نفسِه عند الغضب، وسنحاول أن نرى ماذا يربح الانسان من غضبه، وماذا يخسر من جرّائه. إنّ الانسان معرّض في كلّ أوان لأن يكون أمام مشهدٍ، أو تحدٍّ يدفعه إلى الغضب. والسؤال الّذي يُطرح هو: ما الّذي يجب أن يتنبّه إليه الانسان عند الغضب؟ وهل من خسارة، وربح في هذا الموضوع؟
إنّ الغضب وردّات الفعل الناتجة عن الغضب، لا تُعالَج في حينها، ولا تُعالج وحدها. إنّ كلّ انفعال سلبيّ يترافق مع أذيّة للآخر، فالانفعال لا يتوقف عند صاحبه، بل يتخطّاه إلى الآخر، أمّا وإن بقي الانفعال السّلبي ضمن حدود الانسان المنفعل، فذلك يؤثر سلبًا عليه، ويؤذيه على الصعيد الصحيّ والنفسيّ. إن الغضب في الأدب الرهبانيّ القديم هو من الأهواء الـمُعيبة. فعند الانسان، يمكننا أن نلاحظ الشهوة الطبيعية كالجوع مثلاً، والشهوة غير الطبيعيّة كالشراهة مثلاً. إذًا، هناك شهوات مفيدة وأخرى ضّارة: من الطبيعيّ أن يشعر الانسان أو أن ينفعل، لكن عندما يتحوّل هذا الانفعال إلى غضب، فإنّه عندها يكون قد قرع باب الخطيئة كي تفتح له. ولا يعتقد أحدٌ منكم أنّ الغضب في بعض الأحيان لا يؤدي إلى ارتكاب خطيئة، غير أنّ الغضب الإلهيّ وحده لا يؤدي إلى ارتكاب خطيئة. أن يكون غضبك غضبًا إلهيًّا يعني أن يكون غضبُكَ مرتبطًا برضى الله، فتغضب مثلاً عندما ترى أحدهم في عداوةٍ مع الله. أنت لست مضطرًا إلى أن تنفعل أمام شخص يَكفُر ويَتفوَّه بالحماقات تجاه الله، فترّد على ذلك، بانفعال شخصيّ أي بأن تردّ عبر أذيته وإهانته، ولا يجب أن تَنْعَتَهُ بالصّفات السيئة الـمُهينة له. عندما يوجّه إليك أحدهم صفةً سيئةً بطريقة مباشرة، عندئذٍ تغضب، وتشعر بضرورة الدّفاع عن ذاتك، إذ ترفض أن يتمّ لصق هذه الصفة السيئة في شخصِكَ، وردّة فعلك ستكون منطلقة من شخصك، فأنت المعنّي بالدّفاع عن ذاتك، وبطريقة شخصيّة في هكذا حالة. إنّ الغضب الإلهيّ هو الغضب الّذي لا يتحوّل إلى خطيئة. إن غضبت على أخيك، فإنّك تؤذي أخاك بسبب انفعالاتك، وعوض أن يكون غضبك من أجل الإصلاح، يصبح غضبك سببًا لخطيئة قد يرتكبها أخوك. إنّ أُمّ الفضائل هي "التواضع"، وأمّ الرذائل هي "التكبّر". إنّ مشكلة الغضب السريع هو أنّه يجعل الانسان يتخّذ موقفًا من الآخر، فهذا الغضب ليس "فشة خلق"، أي آنيًا وعفويًا لا خلفيّات له. إن غالبية النّاس الّتي تغضب بسرعة، تبرِّر غضبها بأنّها على الرّغم من غضبها السريع، فهي طيبة القلب. إن مثل ذلك التبرير فيه نوع من التكبّر عند الانسان، حتّى وإن لم يقصد الانسان أن يكون متكبِّرًا. صعبٌ جدًّا على الانسان أن يكون متّزنًا عند الغضب، وأن ينتبه لكلماته حينها، لكنّ ذلك ليس مستحيلاً، فالأمر يتطلب تمرينًا ومجهودًا. إنّ ذلك يتطلب تحضيرًا روحيًّا كبيرًا، فلا يعود الانسان يغضب بسهولة، ولأيّ سببٍ كان.
إنّني أعلم أنّ الكثيرين من الّذين تمكنّوا من السيطرة على غضبهم وانفعالاتهم، تعرّضوا لاتهامات سلبيّة من قِبَل الآخرين، كأن يُتَّهَموا بأنّ لا شيء يؤثر فيهم، مستخدمين عبارة "تمسح" للدليل عليهم. ما يضّر بعلاقتنا بالرّبّ هو إحساسنا أن تلك العلاقة محكومة بما يُسّمى الواجبات والحقوق. لا تخافوا من أن تُغضِبوا الله بل خافوا من أن تَجرحوا علاقتكم به. إنّ العلاقة بين الأحبّاء ليست محكومة بما يجوز وما لا يجوز فعله، بل بالأمور الّتي تبرهن عن وجود علاقة بين الأحبّاء أو عدمها، كذلك على علاقتنا بالله أن تكون هكذا. إنّ أساس موضوع الانفعال والغضب، هو وجود جرعة زائدة من "الأنا" ego عند الانسان، مجبولة ببعض الكبرياء. وخطورة الكبرياء، هو أن القسم الأكبر منه لا يظهر للنّاس، أي للعلن. إنّ المرض الّذي تظهر عوارضه، يستطيع الانسان معالجته، فيُشفى منه، ولا يعود عندئذٍ الانسان مريضًا، إذ لم يعد المرض خطيرًا. غير أنّ المرض الخطير هو الّذي يعيش في جسم الانسان ويتآكله ولا عوارض خارجيّة له، فعندما يكتشف الانسان وجود هذا المرض، لا يعود العلاج ينفع إذ يكون قد أصبح في مراحل متقدمة جدًّا. هذا ما كانت تفعله أمهّاتنا عندما كانت ترتفع حرارة أجسادنا حين كنّا أطفالاً، فعند ظهور البقع الحمراء مثلاً، على أجسادنا، كُنَّ يعلَمنَ أن ما من خطر على حياتنا بعد الآن، إذ أنّ المرض قد ظهر، وسرعان ما سنُشفى منه. إنّ خطورة الكبرياء تكمن في وجوده بشكلٍ خفيٍّ، لا يستطيع الآخرون رؤيته بوضوح، لا بل تكمن خطورته في أنّه يستطيع أن يغِّش النّاس، إذ ترتدي تصرفاتك الناتجة عن الكبرياء لباس التواضع، فيُخيَّل للنّاس أنّك فعلاً متواضع. إنّ الكبرياء يؤدي إلى القلق، والاضطراب، إذ يصبح الانسان سريع العطب، فتصبح أيّ ملاحظة توّجه إليه تجرحه، وتعبِّر عن ملامةٍ له، فيقوم الانسان عند توجيه الملاحظات له، بالتبرير كوسيلة للدّفاع عن نفسه. إنّ التّبرير يؤكد الكبرياء، إذ يجعلك غير قادر على الاعتراف بالخطأ، وبالتّالي ترفض التّصحيح والتّحسين، ويخلق لديك مشكلة مع الشخص الّذي وجّه إليك الملاحظة، فتسعى من جديد إلى وضع قناعٍ آخر تجاهه لإخفاء أمور كثيرة. إن الغضب هو إحدى حجارة مسبحة الرذائل تجمعها، أمّ الرذائل، وهي "الكبرياء".
إنّ النتائج المضرّة للغضب هي تحوّل شعور الانسان وإحساسه تجاه هذا الشخص، من شعور إيجابي إلى شعور سلبيّ، وإن أردنا تلطيف التعبير مستخدمين كلمات تدّل على تقوى، قُلنا إنّ شعور الإنسان تجاه الّذي وجّه إليه الملاحظة تحوّل إلى شعور حيادي، إذ يصبح غير مبالٍ به. والحياد هو شعور سلبي في الكتاب المقدّس: فالنأي بالنّفس هو سلبي، وليس إيجابيًّا، ففكرة الحياد تشير إلى ألا أكون مع أي من الطرفين، لا مع الحقّ ولا مع الباطل. إذًا فالحياد سلبيّ، إذ إنّ هناك دائمًا أحد الطرفين على حقّ، أي أنّ هناك موقفًا صحيحًا وآخر خاطئ. وعندما تقع في موقفِ حيادٍ مع الشخص الآخر، في موقف نأيٍ بالنفس عنه، أي في موقف ابتعادٍ عنه، لا يطول الأمر بك ليتحوّل شعورك تجاهه من شعور إيجابيّ إلى شعور بالكراهيّة، ولا يطول الأمر كي تتحوّل المزايا الإيجابية في هذا الشخص إلى سلبيّة، فتكون قد أَمَتَّ في الآخر، كلّ مزاياه الإيجابية إذ ألغيتها عنه في فكرك، وهذا ما يفسِّر لنا العبارة الموجودة في إحدى المزامير إذ نقرأ العبارة التّالية: إن غضبتم فلا تُخطئوا. فالكتاب لا يقول اغضبوا ولا تُخطئوا، بل: إن غضبتم فلا تُخطئوا. إذًا الكاتب لم يعطِك أصلاً حقّ الغضب كما أنّه يعلم أنّه عندما تغضب تكون كمن يقرع باب الخطيئة كي تفتح لك.
إن الخطايا أنواع: فمنها من يُبادر أي يؤذي، ومنها غير المبادر أي الّذي لا يبالي، وهذان النوعان من الخطايا هما وجهان لعملة واحدة، بمعنى أنّه إذا قمت بأذية الآخر، فأنت تُلغيه، وإذا كنت لا مباليًا تجاهه، فأنت تُلغيه كذلك. إنّنا هنا نتكلّم عن حالة من القتل الروحيّ والفكريّ، لذا يجب الانتباه واليقظة. يبدو أنّ الكلمات الّتي تقولها عند الغضب عن الشخص الآخر الّذي هو أمامك، تكون من أصدق الكلمات في رأيك عن الآخر، بمعنى أنّك تصفه وتحلّله. إنّ الغضب يكشف لك عن مكامن في داخلك، غالبًا ما تحاول أن تتجاهلها، لأنّك تكون في حالة انسجامٍ في الظاهِر مع الآخر. إنّ المسايرة والمساومة وإرضاء الخواطر تترجمها ببعض الصفات، والمواقف الهشّة، الّتي لا تعبِّر بالحقيقة عن رأيك الصادق بالآخر. لكن عند الغضب تتعرّى الأمور من مواقف المساومة والمسايرة، ولا يبقى فيك إلاّ الرأي الصّادق بهذا الشّخص، فتقوله. إنّ هذا الموقف يقتل فيك طاقتك في أن ترحم الآخر، إنّه يقتل فيك قدرتك على رحمة الآخر، وقدرتك على المسامحة، وفتح الطريق أمامها. إنّ هذا الموقف يقتل هذه الطاقة والقدرة رويدًا رويدًا، لأنّه وقت الغضب تصبح أمام موقف بدون مساومة، فتصبح قريبًا من الصدق عند الغضب، لذلك لا يعود وقتك يسمح في ترتيب الأمور وجعلها في الظاهر جيّدة، ولا يكون تصحيح الأمور مع الآخر من صلب اهتمامك. فعندما يتشاجر النّاس، ويغضبون ويجرحون بعضهم البعض، يكون همّهم الوحيد هو الدّفاع عن ذواتهم. فلو استغلَيْت فرصةً مثلاً عند شرب القهوة، أو في عشاءٍ ما، لأخبرك عمّا يزعجني فيك بطريقة لطيفة وهادئة تعبِّر عن محبّتي لك، عندها يكون هدفي بنيان الآخر. لكن عند الغضب، يكون همّي الوحيد الدّفاع عن ذاتي، فالآخر يصبح تهديدًا لوجودي، وللهويّة الّتي قد رسْمتُها أمامه عن ذاتي، فتتهدّد هذه الصورة بسبب الموقف الجارح والغاضب. لذا ما أقوم به هو إلباس الآخر هويّة أخرى مختلفة عن الّتي كنت أراها فيه، أي أنّني أقوم بنزع كلّ الصفات الجيّدة عنه، صورته الجميلة في عينيّ، وألبسه قناعًا وصورة أكثر بشاعةً من الّتي وضعني فيها الآخر أو ألبسني إيّاها. وبالتّالي أكون كمن يضع حصانة لذاته، وكلّ ذلك كي لا تهتزّ "الأنا" فيّ، كي لا يهتز كبريائي، علمًا أنّه في اللّيل في أثناء النّوم، كلّ شخص منّا يرى ضعفه، ويسكبه أمام الله، يسكب خطاياه، ونقائصه، ويجود، ويستفيض بالأمور السيئة أمام الله، وإن كان لم يرتكبها، وذلك لكي يستعطف الله أكثر من أجل أن يرحمه.
إنّ الغضب يقتل طاقتك على إمكانيّة الرّحمة والمسامحة. والشخص الّذي تقطع معه جسر الرّحمة والمسامحة، تكون قد قطعت معه بالتأكيد جسر المحبة. وعندما تقطع جسر المحبة والرّحمة مع الآخر، يصبح شبه مستحيل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الخلاف. إنّ ذلك صعبٌ لكن ليس مستحيلاً عند مَن اتخذ القداسة منهجًا لحياته. نحن نتحججّ، كلبنانيين، بحجج واقعيّة كأن نقول بأنّ الثقة قد تمّ كسرها، ويصعب بعد ذلك بناؤها من جديد. إنّ الموضوع ليس موضوع ثقة بالحقيقة، إنّما الأمر يتعلّق بموقفك من الآخر، الناتج عن حسد، أو غيرة، أو غير ذلك. فمن الطبيعي إن كنت مثلاً شخصًا نشيطًا، وكثير الحركة، أن ينزعج من نشاطك، الآخر الكسول وقليل النشاط، وتعبيرًا عن غيرته منك، يتهجم عليك بكلماتٍ مليئة بالغضب. إنّ الغيرة هي شهوة مفيدة طبيعيّة، أما الحسد فهي شهوة ضارّة. أنت تغار من الآخر، فتسعى لتصل إلى ما وصل إليه إذ تراه أفضل، ويصبح مثالاً لك لتحذو حذوه. أمّا الحسد، فهو أن تسعى إلى إرجاع الآخر إلى حيث أنتَ، وذلك عبر قتله المعنويّ والنفسيّ. إنّ القتل السريع لا يشفي غليل النّاس، لكنّ القتل البطيء هو يفعل. الغليل هو النّفس المشوّهة والمريضة، بسبب أمور حصلت في السابق. وبما أنّ نفسي ليست مدّربة، ولا مروحنة، وليست مزخرّة برضى الله، وكلماته، وبالصلوات وبالأقوال المفيدة، تصبح كبُركانٍ ينتظر فرصةً كي ينفجر. هذه هي مخاطر الغضب، وهذه هي نتائجه. إن طريقة ابتسامتك تجاه الشخص الّذي أزعجك، وأنت غضبت منه، تصبح مزيفة، وغير حقيقيّة، حتّى وإن تمّت المصالحة. إنّ الابتسامة المزّيفة تتطلبّ جهدًا من عضلات الوجه.
والابتسامات نوعان: الابتسامات الّتي تتطلّب فعلاً، وأخرى الّتي لا تتطلّب فعلاً. إن الابتسامة الصادقة لا تتطلّب فعلاً. أما الابتسامة غير الصادقة، فتتطلّب فعلاً، إذ إنّك تقرِّر الابتسام لهذا الشخص قبل أن تراه بثوانٍ قليلة، فالابتسامة غير الصادقة تتطلّب قرارًا بذلك. إذا طلبتم من أحد المصوّرين التقاط صُوَرٍ لابتساماتِ النّاس العفويّة، وغير العفويّة، لرأيتم أن عضلات الوجه في نوعي الابتسامة مختلفة. لذلك من يتخصّص في قراءة تعبير الجسد، يتمكّن من التمييز بين نوعي الابتسامات. إنّ ابتسامتك لشخص تصالحت معه بعد أن كنت على خلاف معه، تتطلّب مجهودًا وتخطيطًا. أنت لا تحتاج لأن تقول لأحبّائك إنّك فعلاً تحبّهم، إذ إنّ تصرّفاتك العفويّة ستُظهر لهم ذلك، من خلال الابتسامة، وطريقة المعانقة الّتي تعبِّر عن مدى اشتياقك إليهم.
أمّا على الصعيد الروحيّ، إنّ الظنّ بالسوء، هو كذب بالفكر. فعندما يطلب الله منك ألاّ تكذب، فهو لا يقصد بذلك عدم التّفوه بالأكاذيب فحسب، بل يتخطّى ذلك إلى ما هو أبعد، فالله لا يريد منك أن تتسّرع في حكمك على الآخرين من خلال ظنونك السيئة بهم، وبخاصّة أولئك الّذين أنت على عدم صفاء معهم، إذ إنّك تقول بأنّك لست تكرههم، لكنّك لا تحبّهم، وهذا ما يُطلَق عليه اسم الكراهية بالفكر. لا أحد يستطيع أن يعرفك على حقيقتك سوى الله وذاتك. وهذه نعمة من الله نشكره عليها كلّ حين. أتتخيّلون ما الّذي سيحدث لو كان كلّ منّا يعرف خطايا الآخر؟!! ستكون كارثة حتمًا.
إذًا حالة الغضب هي حالة خطرة جدًّا، وعلينا التّدرب على التخفيف من وطأتها. إن تخفيف وطأة حالة الغضب، لا يكون بتبرير خطأ الآخر، والتقليل من حجمه، فالخطأ هو خطأ. ولا يكون تخفيف وطأة حالة الغضب عبر النّظر إلى الأمر من منظار روحيّ عبر تذّكر أن الآخر صورة لله، متناسيًا الجرح الّذي سببه لك؛ فالآخر قد أذاك حقًّا وأغضبك بكلماته الجارحة. إذًا، لا يكون التخفيف من وطأة حالة الغضب عبر الفلسفات الروحيّة، بل إنّ الحلّ لمشكلة الغضب، يبدأ عندما يعي الانسان حقيقة الموت. يبدأ التخفيف من وطأة الغضب عندما تفكّر في الموت وتتذّكر الّذين سبقوك وماتوا، وتتذّكر أنّك مائت، وأنّك ستموت يومًا ما. إن الموت هنا لا نقصد به فقط انتقالك إلى بيت الآب، ومعاينة وجه الله، بل نقصد به أن تتذّكر أنّك كلّ شيء سيفنى، وأنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الأرض، ولن تحصل على شيءٍ، ولن تربح شيئًا. ففكّر إذًا جيّدًا: هل يستحقّ الأمر أن تغضب، وأن تكون على عداوة مع كثيرين من أجل كبريائك؟! ليست صدفة أن يقوم كلّ راهب في بعض الأديرة الرهبانية بحفر قبره يوميًّا بعد الانتهاء من الصّلوات، والاعمال المنزليّة، والأعمال الزراعيّة، بل إنّ ذلك من شأنه أن يُذّكر الراهب باستمرار، وبطريقة يوميّة، أنّه انسان مائت، وأنّه لا يملك شيئًا، ولن يملك شيئًا في هذه الأرض. لذا لا تسعَ إلى جمع الثروات، والأمور الماديّة، فأنت لن تصطحبها معك حين تموت، وكلّ شيء سيبقى في هذه الأرض. حين تموت، ويحضّرك أحباءك للدّفن لن تقرِّر أنت ماذا سترتدي، بل هم من سيقرِّرون ذلك عنك، وقد درجت العادة إلباس بدلةً سوداء للرّجال، وثوبًا أبيض الّلون للنّساء. نحن الّذين ما زلنا في الحياة نقرِّر ذلك، فأنت عندما تموت لا يعود لك رأي، ولا تعود تملك شيئًا، وستغادر هذا العالم من دون أن تأخذ منه شيئًا، ولا حتّى شكلك الخارجيّ، فهو سيهترئ بعد فترة قصيرة من موتك. في أثناء حياتك على هذه الأرض، تمشي مختالاً بنفسك، ورأسك يلامس السّماء، وتعتقد نفسك سيّد هذه الأرض، لكن عندما تموت، جسدك هذا سيصبح ترابًا، ولن يتجرأ أحد من الأحياء على المشي فوق ترابك، إذ إنّه تراب شخصٍ مُتوفّـىً. ينتهي الانسان بشريًا، عندما يموت، ولا يبقى من أثره سوى علاقاته الطيّبة مع محبيّه الّذين سيذكرونه في الصّلاة الّتي يرفعونها من أجله كما أنّهم سيطلبون صلاته وشفاعته لهم عند الله. وحالات غضب الآخرين منك تنتهي عند موتك، فلا يعود للغضب مكان بينك، وبين الأحياء. فإن كان الموت، من جهة، يجعلك تدرك أنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الحياة، فهو يظهر لك من جهة أخرى، أنّ كلّ حالات الغضب والخصام، ستنتهي عند موتك، أو عند موت من أنت متخاصم معه. فعندما تتذّكر أنّك مائت، وتفكِّر في الموت، وأنّك لن تأخذ معك شيئًا من هذه الحياة سوى أعمالك الصالحة وعلاقاتك الطيّبة مع أحبائك، ستصبح ردّات فعلك أخفّ وطأةً، وستسعى إلى تمرين نفسك من أجل أن تكون وطأة غضبك أقلّ شدّة.
إنّ كلمة الله هي أيضًا كفيلة بالتّخفيف من وطأة غضبك وحدّته. فكلما تغلغلت في نفسك وفكرك كلمة الله، كلّما أصبحت أقلّ تسرّعًا في الحكم على الآخرين، وأكثر تفهّمًا لتصرّفاتهم. هذه الطاقة تحصل عليها كلّما تسلّحت بكلمة الله. غالبًا ما يكون الإنسان الرّوحيّ قليل الانفعال، وبطيئًا في التعبير عنه. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ العكس ليس بالضرورة صحيحًا. فليس كلّ إنسانٍ قليل الانفعال، بالضرورة، إنسانًا روحانيًّا. إنّ العمل على الذّات لا يأتي من خلال قراءة الكتاب المقدّس فحسب، بل من خلال فهم الإنسان لكلمة الله. فالله هو الّذي يرافقك في الصلاة وعمل الخدمة. في مسألة التخلّص من الخطايا، كان أعظم الآباء الروحيّين والرّهبان ينصحون المؤمنين الّذين يلتجئون إليهم بالتعويض عن الخطايا من خلال القيام بأعمال صدقة بشكل متواتر. فالصّدقة هنا، لا تقتصر على تقديم المال إلى الآخر إنّما تقوم كذلك على القيام بأعمال خير، ورحمة تجاه الآخر.
إنّ الغضب محوره ذاتك، أما محور الأعمال الصالحة فهو الآخر: إنّ عمل الخير يخرجك من ذاتك ويُطلقك صوب الآخر، يخرجك من "الأنا". لكن على أعمال الصدقة ألاّ تكون يتيمة وإلاّ فلن تساعدك على التخلّص من غضبك، لذا فاللّجوء إليها مرارًا كي تتخلّص رويدًا رويدًا من غضبك ومن كبريائك. على الأعمال الصالحة أن تصبح منهجًا لحياتك. إليكم بعض الكلمات الّتي نستعملها للتعبير عن حالات غضبنا: "إنّني لا أغضب بسرعة لكن الويل إن غضبت"، "لم تروا شيئًا من غضبي بعد"، فما الّذي يمكننا أن نراه جرّاء غضبك! إنّ الله يرى، وأنت أيضًا ترى ما الّذي يحدثه غضبك، وهذا يكفي. إذًا تذّكر دائمًا أنّك ستموت، أو تذّكر أن الآخرين سيموتون أيضًا، وفكِّر في الموت بشكلٍ عام من خلال تمرين عقلك، وذلك سيخفِّف من وطأة غضبك بالتأكيد. تذّكر كلمة الله واقرأها واسمع لها دائمًا، اجعلها تتسّرب إلى قلبك، لأنّها متى احتّلت خلايا عقلك وقلبك، فهي قادرة على أن تغيّرك، وتساعدك، إن أردت، في السيطرة على غضبك. إذًا مرِّن نفسك في تذّكر خطاياك دائمًا، وحاول أن تفكّر في كلّ صعوبة تمرّ بها، وخاصّة عند غضبك، كيف كان الله سيتصرّف لو كان مكانك، وما سيكون وضعك أمام الله يوم الدينونة. ليس المطلوب أن تسامح الجميع مهما فعلوا، وأن تحبّهم كما يفعل الله، بل المطلوب هو أن تحلّل تصرّفاتك حين تغضب، وتحاول أن تعمل على تحسين وضعك أمام الله يوم الدينونة.
هذه هي الأمور الثلاثة المطلوبة منك كي تخفّف من وطأة غضبك: أن تتذّكر أنّك مائت، وتتذّكر خطاياك وتحاول التعويض عنها بأعمال رحمة، وأن تتذخّر بكلمة الله، فتنتبه إلى كلّ كلمة تخرج من فمك. انظروا إلى الأولاد الصّغار! إنّهم يلعبون بفقّاعات الصابون، ففقاعة الصابون تكون صغيرة ضمن الحلقة، لكن عندما ينفخها الصّغار، تصبح كبيرة، إذ تخرج من الحلقة.كذلك فإنّ الكلمة التّي تصدر عنك تكون صغيرة جدًّا، لكن عندما تتلفّظ بها ويسمعها الآخر، تصبح كحجم الجبال الّتي توضع على رأسه، وأنت تعتقد أنّ كلمتك صغيرة، ولا تستحقّ كلّ هذا الغضب. بالنسبة إلى الآخر، فكلماتك التّي تعتقد أنّها صغيرة ولا تستحقّ الغضب قد دمّرته، أمّا هو فقد فسّر كلامك الناتج عن غضب، أنّه دليل على عدم محبّتك له. وهنا الملاحظة الّتي يجدر الانتباه إليها، هي أنّه لا يجب تشريع تلفظّ الآخر بالكلمات الجارحة، ولا يجب تعظيم شأن تلك الكلمات، وكأنّها لا تستحقّ المسامحة. أَعِد النّظر بوعيٍ كاملٍ ويقظة روحيّة لتسلسل الأحداث الّتي أدّت إلى غضبك. وفكّر بالمسيرة التّي سلكتها، وتلك الّتي سلكها الآخر حتّى وصلتما إلى حالة الغضب هذه. وفكِّر إن كنت قد قمت بكلّ ما يلزم للسيطرة على غضبك، والتّخفيف منه أم أن تصرّفاتك قد ساهمت في تأجيج حالة الغضب، وبالطبع لقد ساهم كلّ من الطّرفين في تأجيج الغضب. عندما كنت أسأل أحدهم في المحكمة الروحيّة: هل قصّرت بحقّ الآخر، وليس فقط بالمبادرة إنّما أيضًا باللا مبادرة، فيأتي الجواب بأنّه لم يُقصِّر في شيء مع الشريك. إنّ هذا لدليل على رفضك البوح بتقصيرك، وأنّك لم تقم بقراءة صحيحة وواقعيّة للمسيرة الّتي سلكتها أنت وشريكك في حالة الغضب.
إخوتي، في بعض الأحيان نساهم في تأزم حالة الغضب من خلال لامبالاتنا. إنّ اللامبالاة خطيئة، وليست وجهة نظر: فاللامبالاة بوجود الآخر، تعني أنّ الآخر هو غير موجود بالنسبة لك، وبالتّالي فأنت تقوم بتلك الطريقة بقتله وإلغائه. حاسبوا أنفسكم، ولا تسمحوا لهموم الدّنيا أن تشغلكم وتمنعكم من العمل على ذواتكم من أجل الأفضل، فإن عملك على ذاتك، من شأنه أن ينعكس على الآخر إيجابيًّا، وعليك أنت أيضًا. فاسعَ لتعمل على ذاتك ليس فقط في مواسم الزّخم أي في زمن الصوم، حيث تتكثّف صلواتك، وإماتاتك بل اِسعَ أيضًا للعمل على ذاتك، بعد تلك الفترة أيضًا، ولا تستسلم للاسترخاء الروحيّ بعد إنقضاء تلك الفترة من الزّخم الروحيّ. يجدر لفت النظر إلى أنّنا في بعض الأحيان، نشعر أنّ ردّات فعلنا صحيحة، وأن الآخر هو دائمًا على خطأ، وهو السبب في ردّات فعلنا السلبيّة، لكن إخوتي، أدعوكم إلى قراءة حقيقية وواقعيّة لتلك الأحداث، وفكّروا إن كان حقًّا السبب في إحداث حالة الغضب يعود فقط إلى أفعال الآخر، أم أنّكم ساهمتم فيها. إنّي أدعوك للمحافظة على نفسك، أمام الآخرين الّذين يسببون لك حالات من الغضب، واسعَ كي تربح نفسك. إذًا جوابًا على السؤال الّذي طرحته في البداية: ما الّذي تربحه من غضبك؟ وما الّذي تخسره من غضبك؟ هو التّالي: إنّ ما تربحه في حالة الغضب وانفعالك السلبيّ هو التوّتر الّذي ينشأ بينك وبين الآخر، كما أنّك تكون قد ربحت خسارة بطيئة لنفسك. إنّ هذا الوعي لمسببات الغضب، لا ينتعش، إلاّ من كلمة الله، ومن جسد ودمّ الرّبّ، ومن الصلاة، ومن عمل الخدمة والمحبة لكي تبقى لديكم طاقةٌ على الغفران، وعلى المسامحة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتصرّف.
تتمة...كلّنا رسل
الأب ابراهيم سعد
17/10/2015
في هذا الموضوع "كلّنا رسل"... نستخدم كلمة رسل أو رسول، عندما نتكلم عن الرسالة. وحتى تسمّى رسالة يجب أن يكون هناك مَن كتبها بمفرده، تمعّن في كتابتها ثم انتقلت إلى مكان آخر، ولم تبقَ عند كاتبها، وضروري أن يكون هناك مَن تلقاها، بمعنى أن هناك شخص سوف يوصل الرسالة.. إن لم يكن الرسول موجوداً أو إذا لم يقُم بمهمته فالرسالة لن تصل، وبالتالي الشخص الذي لم تصله يعتبرها غير موجودة وكلّ ما كتبه الكاتب سيذهب سدًى، أي بمعنى أن الرسول يُميتها أو يخلقها من جديد.
عملياً من كتب الرسالة هو من خلقها، ولكن من أوصلها خلقها أيضًا، ولكنه خلقها في قلب وعقل متلقي الرسالة ، وكأن الرسول عندما أوصلها والشخص تلقاها وقبلها، لم يعد وجود الكاتب ضروريًا، فهناك حامل الرسالة ومتلقيها، ولم يعد كاتب الرسالة موجودًا، ولم يعد هناك حاجة لوجوده، فهو فعلياً موجود ضمن رسالته.
للرسول إذاً دور مهمّ في ايصال الرسالة بمسؤولية، فهو قادر أن يُميت أو أن يحييّ صاحب الرسالة في أعماق المتلقي، وهذه مسؤولية كبيرة.
إذا كان الكتاب المقدّس هو الرسالة والبشرى...فالله عندما كتبها بيسوع المسيح ووصلت بواسطة بولس أو بطرس، أصبحت الرسالة وكأنها مكتوبة من قبلهم، وأصبح هناك تمازج بين موصل الرسالة وكاتب الرسالة.
إذا أردنا أن نقيم سلالة للرسل لكان يسوع الناصري هو الرسول الأول والوحيد بالنسبة للتلاميذ لأنهم تلقوا الرسالة، ولكن بالنسبة لبولس عند أهل كورنتوس الذين نشروا الرسالة في أثنيا أصبح هو الرسول الأوّل، ويسوع هو من أرسله.
أهل كورنتوس اذاً قبلوا هذه الرسالة: وذهبوا وتكلموا بها، ونشروا الإنجيل في أثينا فأصبحوا هم الرسل... وهكذا تنتقل الرسالة من شخص إلى شخص لتصل إليكم ، وهنا تبدأ قصتكم أنتم لتوصلوا الرسالة، وإن لم تفعلوا ذلك قتلتموها وقتلتم صاحبها. وإن نشرتموها، أحييتموها وخلقتموها وهذا هو دوركم. فهذه الرسالة يجب أن تصل إلى كلّ جسد على هذه الأرض الآن وكلّ آن .
إذًا من هنا السؤال كيف ستصل الرسالة الآن وهنا، وليس لبعد خمسمائة عام؟
ومن هنا السؤال الذي طُرح اليوم "كلّنا رسل" بأيّ معنى؟
أي بمعنى أن الرسالة لا تقف هنا اليوم بهذا النشاط أو مع جماعة "اذكرني في ملكوتك"...بل تبدأ القصة مع هذه الجماعة.
إذا لم تكن عندكم القناعة والإيمان لدرجة الإيمان اللاهوتي، وعلى مستوى يسوع المسيح، فاذهبوا إلى بيوتكم... إذا لم يكن عندكم الإحساس الواعي أن الرسالة إن لم نوصلها ماتت، يعنى أن الله يموت.... فالله يموت عندما لا نوصل الرسالة.
وليست صدفة أن ابن الله تجسّد على الأرض، وليست صدفة أن ابن الله أصبح إنساناً.. فيجب أن تؤمنوا أن المسيح تجسّد وصار إنساناً لتكونوا هنا اليوم، ويجب أن تملكوا هذا الايمان، وليست صدفة أننا قرّرنا أن نصبح جماعةً وليس جمعية.. جماعة حاملة رسالة، فالرسالة تزول، تضيع وتتشوه إذا نحن دخلنا بأمور الدنيا والبشر مثل اللهو، الحسد، والغيرة.... نحن إذاً أمام مسؤولية كبيرة ووجه أساسي من وجوه الله.
فالله يكشف أسرار قلوبنا ويعرف ما في داخلنا، حيث وجد أنه إذا قال "صلّوا"، صلّيتم، وإذا قال صوموا، صمتم. فهكذا وضع لنا إنسانًا أمامنا، فبكيفية تصرفك مع أخيك الإنسان تكشف خباياك ونواياك.
الإنسان الذي هو مثلي، الذي يواجهني، والذي لا أستطيع أن أتعامل معه على أنه مفعول به وإنما فاعل، فأنا لا أقبل أن أكون مفعولًا به بل فاعلًا، فبسببه، وبسبب وجوده، ينكشف معيار الحبّ والكره...إذا كنت وحدك في جزيرة وقلتَ أنا إنسان محبّ، فلا يوجد برهان إلاّ بوجود شخص يكشف كمائن قلبك .
إذًا نشكر الله على تجسّد المسيح لأننا رأينا أن هناك شخصًا آخر نتعامل معه.
أمّا الأهمّ، هو أنّك تعرف أنك تستطيع أن تعيش ملحداً بدون الله ولكنك لا تستطيع أن تعيش وحدك بلا إنسان، ولهذا تجسّد الله ليصبح إنساناً، وعلينا أن نوصل الرسالة لهذا الإنسان.
فإذا كان ايصال الرسالة مرتبطًا برأينا بهذا الإنسان؟ ضاعت الرسالة.
فإذا كان ايصال الرسالة مرتبطًا بحبّنا لهذا الإنسان؟ ضاعت الرسالة.
فإذا كان ايصال الرسالة مرتبطًا بمزاجيتنا؟ ضاعت الرسالة.
فإذا كان ايصال الرسالة إذًا مرتبطًأ بتصرّف الإنسان الآخر تجاهي؟ ضاعت الرسالة.
المهمّ أن تصل الرسالة كما كتبها الكاتب بدون زيادة أو نقصان، ومن دون تشويهها بتشوّهاتنا. لذلك هناك حرص شديد وانتباه ويقظة روحية. وعندما تدير ظهرك بعد انتهاء في القداس الإلهي إلى الكنيسة وإلى الله الذي واجهته في القدّاس وأتى إليك، فيصبح الآتي خلفك كل إنسان تراه، فالقدّاس لا ينتهي، وإنما يكون خبزًا وخمرًا، ويصبح جسدًا ودمًا.
بالقدّاس الإلهي هناك مَن يكسر الخبز لكي تأكله أنت، أما عندما ينتهي القدّاس فأنت تكسر الخبز ليأكله غيرك، وهذا هو الاهتمام بالآخر... وإلاّ لن تصل الرسالة كما يجب.
وأخيراً، سأقدّم لكم توجيهات ختامية لبولس:
ثم نسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبّرونكم في الربّ وينذرونكم وأن تعتبروهم كثيراً جداً في المحبة من أجل أعمالهم. سالموا بعضكم بعضًا، وانذروا الذين بلا ترتيب، شجعوا صغار النفوس، أسدوا الضعفاء، تأنّوا على الجميع، انظروا أن لا يدين أحدٌ أحداً عن شرّ بشرٍ، بل كلّ حين ادفعوا الخير بعضكم ببعض، وللكلّ افرحوا كلّ حين، صلّوا بلا انقطاع، واشكروا الله في كلّ شيء، لأن هذه هي مشيئة الربّ، فلا تطفئوا الروح، ولا تحتقروا النبواءت، امتحنوا كلّ شيء، تمسّكوا بالحسن، انتبهوا من كلّ شبه شر، وإله السلام يقدّسكم ولتُحفظ روحكم وجسدكم بلا لوم عند مجيء ربّنا يسوع المسيح. آمين.
ملاحظة: "كلّنا رسل" الموضوع الروحي الذي اُلقي في الإجتماع السنوّي لمسؤولي الرعايا وأعضاء اللجان، 17/10/2015.
دوّن من قبلنا بتصرّف.
"لأنّي أملك السماء في داخلي"
عظة الأب جوزف شلالا الكرملي
3/5/2015
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
نجتمع مع جماعة "اُذكرني في ملكوتك" مرّة كلّ شهر في الحازميّة. وهذا المركز يعزّ عليَّ كثيرًا، لأنّه يُقدِّم الكثير من الخدمات، ويستقبل الكثير من الجماعات، لينشر كلمة يسوع ويُبشّر باسمه، فليُبارككم الرّبّ ويُبارك رسالتكم. ففي كلّ إنسان رجاءٌ كبير، وسماء في داخله، وهذا هو موضوعنا اليوم؛ "لأنّي أملك السماء في داخلي".
فبحسب رأيكم، ما هي السماء؟...وأين هي ؟...ومن يُريد أن يملكها؟...جماعة "اذكرني في ملكوتك" تُبشّر بالسماء. وكثيرًا ما نتساءل، إن كان الأشخاص الذين فقدناهم موجودين في السماء. ففي داخل كلّ منّا منّا سماء، ولكن عليه أن يعرف، كيف يصل إلى هذا الداخل... فقد قال التلاميذ ليسوع: "علّمنا أن نصلّي"، أيُعقل أنّهم لم يتعلّموا منه كيفية الصلاة؟!...فإنّه كان يُصلّي أمامهم باستمرار، وكلّما أراد أن يُصلّي، ويلتقي بالآب السماوي، يصعد إلى جبل الزيتون. ويرمز الجبل إلى مكان مُرتفع، أعلى من المدينة، أي أنّه مكان قريب من السماء. أمّا بستان الزيتون فيرمز إلى الهدوء والخضوع، حيث كان الرّبّ يسوع يتنعّم بأبيه السماوي. وعندما رأى التلاميذ هذا الانخطاف الذي يعيشه يسوع مع أبيه السماوي، قالوا له: " علّمنا أن نصلّي"... فللصلاة عدّة أنماط وأشكال. وكان التلاميذ يُصلّون أمام الهيكل، ولكن ما جذبهم هو صلاة الاختلاء والتأمل... إنّني أتكلم اليوم عن جزء من تنشئة المسيح، لأنّ مركز حياتي، ونقطة الصمت في حياتي، هي يسوع. لأنّني عندما أُصلّي بخشوع، يصل صوتي إلى الله، فيفيض بنعمته عليّ، وهو من يعطيني القوّة في حياتي.
وفي القرن السادس عشر، كان هناك راهبة اسمها تريزيا الأفيلية، وهي مُعلِّمة في الكنيسة. عاشت اختباراً جميلاً في الصلاة، وكانت تؤكّد على وجود السماء في داخلها. فقد تركت كتابات عظيمة مبنيّة على اختبار عاشته في حياتها، وعندما ازداد تَرَدُّد الراهبات إليها، طالبات منها أن تُعلِّمهنّ كيف يصلّين، بدأت تكتب أكثر وأكثر. وكتبت أيضًا عن مسيرة حياتها، والعديد من الكتب الرّوحيّة، مثل كتاب "المنازل"، الذّي تُبيّن لنا فيه كيف نتّحد مع حبيبنا، مع عريس نفسنا، وتُبيّن الطريق الذي يجب أن يسلكه الإنسان ليصل إلى الكمال.
والسماء هي مكان رائع، ممتلئ بالفرح والسعادة، لأنّ الإنسان يتّحد مع العريس، وهذه هي قمّة الحبّ. وكذلك الزوج والزوجة، يعيشان قصّة حبّ، ويتّحدان ليصبحا شخصًا واحدًا من خلال سر الزواج المقدّس، ويصدر عنهما ثمرة الحبّ، وهم الأولاد.
وتتكلّم القديسة تريزيا عن المنازل السبعة التي كتبتها، وتُشَبِّه النفس بالقصر مؤلّف من عدّة غرف، وعندما تَدخل هذا القصر، تَصعد إلى الغرفة السابعة، وتعيش هذه الحميميّة... وشرَحَت في كتابها عن كل غرفة، ابتداءً من باب القصر، ومفتاح هذا الباب هو الصلاة.. وتُشَبِّه القصر بالنَفْس، فالإنسان يحتاج إلى عزم وإرادة ليدخل إلى نفسه. وتحدّثت أيضًا بالتفصيل كيف يدخل الإنسان إلى ذاته في كلّ غرفة، ويمكن أن يشعر في الغُرَف الأولى بالملل، فيخرج من ذاته، ويرفض نفسه، ويبتعد عن الصلاة...وهذا ما أرادت تريزيا أن تصل إليه، أي أنّ الشرط الأول لدخول السماء، هو قبول الذّات. فإذا سقط الإنسان في خطيئة معيّنة، يمكن أن يكره ذاته، ويعيش صراعاً مع نفسه. وهذا الاختبار نشعر به في سرّ الاعتراف. فعندما يعترف الإنسان، ويتصالح مع ذاته، يعيش بسلام، وينزع حملاً كبيراً عن قلبه. فعلينا أن نخرج من ضجيج العالم، ونتجنّب تأثير التكنولوجيا، لأنّنا نسكن في عالم مبني على الديجيتال، وهذا الديجيتال يجعلنا نعيش بوهم كبير، ويخلق مشاكل اجتماعية، مثل الطلاق، لأنّ العلاقة بين الزَوجَين صارت قائمة على الإنترنيت. ومثال آخر عن ذلك، هناك فتاة تكون في مزاج سيّئ، وإذ تصلها رسالة من أحدهم، وفجأة تبتسم وتفرح، كأنّ حياتها مبنيّة على هذه الرسالة. ونلاحظ وجود أمور خارجية تُقيّدنا، تُذِّلنا وتُبكينا، وتجعلنا غارقين في هذا العالم، ناسِين اكتشاف العالم الذي في داخلنا...فإنّنا بحاجة للصلاة والسلام. ورغم العالم الخارجي الذي نحن فيه، فإنّنا بحاجة لأن نكتشف العالم في داخلنا. فعلينا أن نتجرّأ ونترك كلّ شيء خارجي، ونكتشف الأمور التي في داخلنا، وهذه هي السماء التي تتحدّث عنها تريزيا، وهي:"الاختلاء"؛ أي وقت الصمت الذي أجلس فيه مع ذاتي، وأنفصل عن العالم الخارجي، وأدخل إلى أعماق نفسي، إلى قصري، وأصعد إلى الغرفة السابعة.
وتحدّثت تريزيا في كتابها، عن الصراع الذي عاشته في الغرفة الأولى والثانية والثالثة، والجهد الذي بذلته لتلتقي بالحبيب، والمشقّات التي واجهتها، والتعب النفسي الذي رافقها، لتصل إلى المرحلة الرابعة. وفي هذه المرحلة يتذوّق الإنسان فيها طعم الله، ويتصالح مع نفسه. فحياتنا عبارة عن خط بياني، فيه صعود وهبوط، وعليّ أن أنظر برجاء في عمق الهبوط والمشكلة إلى نور القيامة الساطع من خلف صليبي، لأصل إلى الحياة...وفي بعض الأحيان، نكون في المنزلة الخامسة أو السادسة، وننزل إلى المنزلة الأولى، فهذه هي طبيعة الإنسان، يَتَجرّب ويَتَعرَّض لكثير من المواقف، وهكذا أيضًا هم القديسون...فالقديسة تريزيا الطفل يسوع كانت تبكي قائلة: "أريد أن أحبّك مع كل دقّة من دقات قلبي". فكيف نسلّم نفسنا للرّبّ ونمشي معه الطريق، ونتّحد معه في المنزلة السابعة؟ فالإنسان يعمل بذاته في المنازل الثلاثة الأولى، ونصف الرّابعة، وفي بقية المنازل يتدخّل الله. والقدّيسة تريزيا استسلمت بين يديه، وسلّمته ذاتها ليساعدها في طريق القداسة، لأنّه هو من وضع فيها الرغبة في أن تصبح قدّيسة. والغرفة السابعة لا تحتوي على أبواب، وإنّما هي عالم روحاني، فيه انخطاف روحاني، حيث تكون النفس في سعادة قصوى، لأنّها بعيدة عن العالم المادي والأرضي، أي عالم الإنسان. وكم يتعذّب الإنسان الذي ينخطف روحيًّا ويعود إلى العالم الأرضي !وحياتنا المسيحيّة مزيج من الصلاة والعمل. وفي كتاب ثانٍ لتريزيا، اسمه "طريق الكمال"، ركّزت فيه على ثلاث فضائل، وتكلّمت في الفصول الستّة عشر الأولى عن كيفيّة العمل اليوميّ، "إذا أردتم أن تُصلّوا، فعيشوا التواضع". فالفضيلة الأولى هي التواضع؛ وهي تُظهر المواهب الّتي يملكها الإنسان على حقيقتها، ويعيشها بعمق. وفي بعض الأحيان، كلمة العالم المحيط بنا تُشوّه صورة التواضع فينا، لأنّنا نصبّ اهتمامنا في الأمور الدنيويّة والأرضيّة، ونغفل عن الجوهر. والتواضع هو أن أكون في الحقيقة، وأعرف أنّ كل عمل أقوم به يكون باسم يسوع وبحضوره. والفضيلة الثانية التي تحدّثنا عنها تريزيا، هي التجرّد؛ أي التجرّد الذاتي، التجرّد من الحسد والأنانيّة، لنحصل على كلّ شيء، أي على الله. فيجب أن يكون الرّبّ يسوع في المرتبة الأولى في حياتنا، ولكنّنا في كثير من الأوقات، نكون مُتمسكين بأشياء أرضيّة تُغرينا وتبعدنا عن الله. فبالرغم من الوزنات التي يهبنا إيّاها الله، علينا أن نترك الأولوية للرّبّ يسوع. والفضيلة الثالثة هي الحبّ. أيُعقل أن أُقدِّم الذبيحة وأُحبّ يسوع، قبل أن أُحبّ أخي؟!...أيعقل أن أَتّحِد بالله، وأنا لا أُسامح أخي الإنسان؟!...فكيف أستطيع أن أعيش الحبّ؟...وأصعب شيء ،عندما نقول: "اغفر لنا كما نحن نغفر"، وكيف يكون ذلك إذا نحن لم نغفر للآخر؟!... وقد كان علينا أن نقول: علّمنا أن نغفر ونسامح، كما غفرت أنت لنا. فقد قال الرّبّ يسوع: "اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون". فلا يستطيع الإنسان أن يغفر أو يسامح، إلّا إذا تذكّر أن الله غفر له، وسامحه. فالحبّ الحقيقي هو أن أموت عن أشياء من أجل الشخص الذي أحبّه، أي أن أُضحّي من أجل شخص أحبّه، وأموت عن شيء فيّ يُزعج أخي أو حبيبي. فالحبّ هو أن يخرج الإنسان من ذاته من أجل الآخر...وبعد الفضائل الثلاث، تُحَدِّثنا عن صلاتها في العمل، والعمل في الصلاة. فهي لا تُصلّي فقط في حياتها، وإنّما تحوّلت حياتها إلى صلاة. فثمرة صلاتي تكون في عملي اليوميّ، والقدّاس لا ينتهي عندما أخرج من باب الكنيسة، وإنّما يبدأ من باب الكنيسة ويتتابع في حياتي. أي بعد أن نُهيّئ الفضائل في حياتنا، يأتي الوقت لنرى كيف تستقبلنا هذه الفضائل. فالإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك لوحده، وإنّما هي بحاجة لوجود الله إلى جانبه، وعيش حياة التأمّل، ليكتشف السماء في داخله، ويعيش الفرح الحقيقي. ويصبح إنساناً مسيحيّاً لأنّه يملك السماء في داخله، ويعيش التواضع والتجرّد والحبّ في داخله. وعرّفت تريزيا الصلاة: "بأنّها حِوار صداقة نُجريه على انفراد مع مَن نَعرِف أنّه يُحبّننا". وإذا فسّرنا كل كلمة من هذه الجملة، وجدنا أن كلمة "حِوار" تعني أنّه هناك شخص آخر يشاركني صلاتي، يساعدني على اختيار القرار الصحيح في حياتي. وكلمة "صداقة" تعني لغة القلب، أي أنّ هناك حوار يدور بين شخصين، حيث ينظر أحدهما للآخر ويتبادلان أطراف الحديث. وكلمة "نُجريه" تعني أنّنا نتكلّم مع الله عدّة مرات في الأسبوع أوفي اليوم، وليس فقط في قدّاس الأحد، لأنّنا نهدُف أن نُنَمّي هذه الصداقة. "على انفراد"، أي الشخص الذي نحبّه، ونريد أن نكلّمه لوحدنا...
وأتمنّى أن يتقبّل كلّ شخص وجود الآخر، ويرجع إلى ذاته، لأنّ الله يسكن في قلب كلّ واحدٍ منّا. وتقول إليزابيت: "أنا مَسكِن للثالوث"، أي أنّها بيت للآب والابن والرّوح القدس. آمين.
ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.
تتمة...تأمّل في اختلاف وجهات النّظر بين الكنائس المسيحيّة
للأب ابراهيم سعد
8/2/2015
أوّلاً، الخلاف حول أمورٍ مُتعلّقةٍ بالكنيسة موجودٌ منذ القِدم أيّ منذ عهد الرّسُل، فبطرس، والمجموعة الّتي كانت تُرافقه في فلسطين، كانوا على خلاف مع بولس ومجموعته. وهذه الخلافات تُبيّن تِقنيّة العمل، ولكن، في عمقها، هي تمسّ جوهراً معيّناً. لذلك، مثلاً، في رسالة بولس إلى غلاطية يقول إنّ الخلاف كان موجوداً بشكلٍ مُعيّنٍ. كانوا يُسمّون بولس رسول الأمم لأنّه بَشَّرَ غير اليهود، أيّ الوثنيّين، في آسيا وصولاً إلى روما. وهو يقول إنّ المسيح المُخلّص أتى لكلّ البشر وأنّ الخلاص هو لكلّ البشر من دون امتيازات. فَكَوْنك يهوديّاً منذ زمنٍ بعيدٍ ومُنتظراً مجيء المسيح، لا يعني أنّك تستحقّ، عند مجيئه، حِصّةً أكبر من حِصّة الوثنيّ الّذي لم يكن يعرف يسوع، لكنّه آمن به وبهذا يكون أفضل منك ويُصبح هو ابن ابراهيم، أمّا أنتَ إن لم تؤمن بالمسيح فلا تعود من أبناء ابرهيم، ولا امتياز إلّا بارتباطك بإيمانك بيسوع المسيح. عندما ذهب بولس لِيُبشّر في روما وكان بطرس مع مجموعته، يعقوب ويوحنّا وغيرهم، يُبشّرون في فلسطين، يقول بولس بأنّه لامَ الإخوة، لا لأنّهم يقولون إنجيلاً مختلفاً، لأنّ الإنجيل هو نفسه، بل لأنّهم كانوا موجودين مع الوثنيّين المسيحيّين وعندما رأوا أناساً قادمين من أورشليم، أيّ يهود مسيحيّين، ابتعدوا عن الوثنيّين كي لا ينزعج اليهود. فعندما يُبشّرون بالإنجيل، عليهم أن يجعلوا اليهود يسمعون ليفهموا بأنّ الخلاص هو لكلّ البشر ولا فرق في ما بينهم. يقول بولس: "ولكن لمّا أتى بطرس إلى أنطاكيا واجهته مقاومة لأنّه كان مَلوماً، فقبلنا أتى قومٌ من عند يعقوب (أيّ من يهود فلسطين) الذي كان يأكل مع الأمم ولكن لمّا أتَوْا كان يؤخّر ويفرز نفسه" ( غلاطية 2: 11). هناك خلافات، ليست مع بطرس مباشرةً، ولكن مع المجموعة الّتي آمنت على يد بطرس، فهي لم تكن تفهم أنّ الوثنيّ هو مثلها وأنّ الملكوت هو للإثنيْن بالتّساوي. هذا الأمر ليس بالسّهل ولكن إذا تساهل بطرس سيقوم بإلغاء الإنجيل. إذاً تُلاحظون الاختلافات حول موضوع الأمم واليهود. كذلك، في المجمع الرّسوليّ الأوّل، أيّ عندما اجتمع الرُّسُل، حصلت خلافات حول مَن آمن بالمسيح وتعمّد ولكنّه بعدذلك تنكّر لايمانه، فهل ينبغي أن يردّوا له معموديّته إذا عاد عن خطئه؟ في ذلك الوقت، اتّفقوا، في مَجْمَع الرُّسُل أو في أعمال الرُّسُل في الإصحاح الخامس عشر، وقالوا: "هكذا قال الرّوح القدس ونحن" أيّ أنّ قرارنا إلهيٌّ. إذاً خطر الاختلاف في الآراء هو في أن يتحوّل إلى خلاف وانقسامات بين النّاس. فرسالة بولس إلى أهل كورنثوس: "أنا لبولس وأنا لأبوليوس وأنا لبطرس" أيّ أنّ النّاس ينقسمون إلى أحزاب وفي الأحزاب خلافات. هناك واحدٌ فقط قد صُلِب من أجلكم فعليكم أن تتبعوه. عندما يريد كلّ شخص أن يدافع عن رأيه في أمر معيّن، يمكن أن يختلف في الرأي مع شخصٍ آخر حول الأمر نفسه ولكنّ السّؤال، هنا، إلامَ سيؤدي هذا الاختلاف في الرّأي؟ وهل سيسبّب خلافاً وتباعداً بين الأشخاص وعلى صعيد العلاقات؟ فإذا كنتَ تُفكّر في أنّك الوحيد الّذي يُدافع عن الله وفي أنّ الآخر لا يُجيد ذلك، فعليك أن تقرأ الإنجيل، من جديد، لتعرف إن كنتَ، حقّاً، قد فهمتَ الله. ليس عليك أن تغضب إن كان رأي غيرك مختلفاً عن رأيك، المطلوب منك، فقط، أن تشهد للمسيح. ستحصل على أجرك إذا كنتَ أميناً في الشّهادة حتّى لو لم يقبل العالم بذلك، فلا علاقة للنّتيجة بعملك. وقعت الخلافات، في الكنيسة الأولى، في القرن الرّابع، حول موضوع الاحتفال بعيد الفصح، وقد وجدوا الحلّ عام 325 وكانت الكنيسة واحدة وبقيت واحدة، إلى حين تردّدت قصة مفادها أنّ قدّيسيْن اختلفا على هذا الموضوع وافترقا بسلامٍ ولكنّهما، في ما بعد، وجدا الحلّ في المَجْمَع المسكونيّ الأوّل، وهو أن يكون عيد الفصح على الشّكل التّالي: عندما يحصل الاعتدال الرّبيعيّ في 21 آذار يصبح القمر بدراً فاتّفقا على أن يكون عيد الفصح في الأحد الأوّل بعد أن يصبح القمر بدراً. نحن الاثنان نعتمد المبدأ نفسه، ولكن ما تغيّر هو في 21 آذار، إذا اتّبعت الرّزنامة اليوليانيّة أو الرّزنامة الغريغوريّة. فالأولى تسبق الثّانية بثلاثة عشر يوماً. فإذا كان الاعتدال الرّبيعيّ، بحسب الرّزنامة الأولى يقع في 21 آذار، وسيقع بحسب الثّانية في 3 نيسان. وفي الأحد الأوّل بعد أن يُصبح القمر بدراً بعد الاعتدال الرّبيعيّ يقع عيد الفصح. هذا الاختلاف كان قبل انقسام الكنيسة إلى كاثوليكيّة وارثوذكسيّة. هذان تقويمان لا علاقة لهما بالطّوائف. هناك بلدٌ، في الشّرق، يُعاني من هذه المشكلة بسبب التّصاهر وتداخل الكنائس وهو لبنان. فإسبانيا أو إيطاليا هما بلدان كاثوليكيّان إلاّ أنّهما لا يُواجهان هذه المشكلة كذلك الأمر في روسيّا حيث الكنيسة هي واحدة ارثوذكسية. نقول، هنا، إذا قبِلَت الكنيسة الأرثودكسيّة، في الشّرق، أن تُوحّد عيد الفصح مع الكنيسة الكاثوليكيّة ستكون بهذا انقسمت عن الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم، إذاً لا تزال مشكلة الانقسام موجودة، والعكس صحيح. لكنّ البابا السّابق وجد حلّاً وهو أنّه حيث تكون الأكثريّة ارثوذكسية، تحتفل الأقليّة الكاثوليكيّة بالعيد معها والعكس صحيح. هذا الاقتراح مُناسب للشّرق، أيّ أنطاكيا وسائر المشرق، لأنّ الأكثريّة هي أرثوذكسية. ومن الممكن أن تتّفق الكنيستان، في الشّرق، على موعدٍ محدّدٍ واحدٍ للاحتفال بعيد الفصح معاً حتّى لو خلقتا مشكلةً مع الكنيستيْن في العالم. فإذا اتّبعنا الرّزنامة الّتي تتّبعها الكنيسة الكاثوليكيّة، لوجدنا أنّه، في بعض الأحيان، يأتي الفصح المسيحيّ قبل الفصح اليهوديّ، أمّا إذا اتّبعنا الرّزنامة الارثوذكسية لوجدنا أنّ الفصح المسيحيّ، منذ 2000 سنة حتّى اليوم، لم يأتِ قبل الفصح اليهوديّ، فهو يُصادف إمّا في الوقت نفسه أو بعده بيوم أو بِشهر. وطالما أنّ الرّزنامة تتغيّر بسبب القمر، يكون الفرق بين العيديْن إمّا أسبوعاً أو شهراً وأسبوعاً أو يقعان في الوقت نفسه. هذه هي مسألة الانقسام في شأن العيد ولكنّها لا تخلق مشكلةً عقائديّةً أو لاهوتيّةً. لذلك يمكن للكنيسة أن تتوحّد ويبقى الانقسام حول العيد كما وأنّه يُمكن للعيد أن يتوحّد وتبقى الكنيسة منقسمة. هذا ليس خلافاً يُعرض في الاجتماعات الكاثوليكيّة – الأرثوذكسيّة العالميّة عن وحدة الكنيسة.
إذاً طُرِح هذا الانقسام الأوّل عام 325، وفي ما بعد نشأ خلافٌ عام 451 في الشّرق بين السّريان الأرثوذكس، الأقباط الأرثوذكس، والأنطاكيّين، أيّ الرّوم الأرثوذكس. لقد اختلفوا على مفهوم المسيح إن كان ذا طبيعتيْن أو طبيعة واحدة. هم يقولون إنّه ذو طبيعة واحدة أمّا الأرثوذكس فيقولون إنّه ذو طبيعتيّن. شدّد الأقباط والسّريان على أنّه ذو طبيعة واحدة لأنّه، بالنّسبة إليهما، وبحسب تربيتهما الفلسفيّة في ذلك الوقت، لكلّ شخصٌ طبيعةٍ فعندما تقول إنّ المسيح ذو طبيعتيْن يعني أنّه شخصان. أمّا الأرثوذكس، بحسب تربيتهم الفلسفيّة في الشّرق، فقالوا إنّ هاتيْن الطبيعتيْن اتّحدتا في شخصٍ واحدٍ فالطّبيعة الإلهيّة اتّحدت مع الطّبيعة الإنسانيّة في شخص يسوع وهو ابن مريم من دون انفصال وإلغاء طبيعة للأخرى. هذا كلامٌ شبه فلسفيّ. فبعد 1500 عاماً، اتّفقوا على أنّه خلافٌ لفظيٌّ. في ذلك الوقت، عندما اختلفوا عقليّاً وفكريّاً، انقسموا إلى فريقيْن وأصبح هذا الشّعب عدواً للآخر، فنحن، بطبيعتنا، نميل إلى الانقسام الّذي يُولّد الخصومة والعداوة والكره. استمرّت هذه الحالة إلى حين نشوء خلافٍ في الغرب لا دَخْل لنا به، فنشأ مَجْمَع طُلَيْطِلة، وهي ضيعة، في القرن السّادس. كان النّاس فيها يُحبّون التّقليل من شأن يسوع وألوهيّته، ولكي تُدافع الكنيسة الغربيّة عن ألوهيّته قرّرت أن تُضيف إلى دستور الإيمان عبارة "المُنبثق من الآب والابن" غير الموجودة أصلاً في دستور الإيمان الّذي أقرّه الآباء، والجميع وافق عليه، غرباً وشرقاً، في المَجْمَع الأوّل عام 325 والمَجْمَع الثّاني عام 381، لذلك تلاحظون أنّ الموارنة عندما يُعلنون إيمانهم يقولون "من الآب والابن" أمّا الأرثوذكس فيقولون فقط "من الآب". ولكن الكاثوليك أضافوا هذه العبارة ليُدافعوا عن ألوهيّة الابن بِمُساواة الآب والابن. إلى حين مجيء "شارلومان"، في القرن التّاسع، حاكِم أوروبا الذي وضع على الكنيسة لوحيْن من الفِضّة وزاد "من الابن". فأصبح النّاس يأتون إلى الكنيسة ويَرَوْنها فاعتادوا عليها وأصبحت الكنيسة كلّها تقول "من الآب والابن". في الشّرق، يقولون ما هو مكتوب في الإنجيل. مثلاً، يقول يوحنّا: "روح الحقّ الّذي هو من الآب ينبثق" فهكذا يقول الأرثوذكس، إضافةً إلى أنّ دستور الإيمان الّذي اتّفقوا عليه لم تكن "من الابن" موجودة فيه، فنشأ الخلاف عام 1009، بدأ الخلاف الأوّل حول هذا الموضوع حتّى عام 1054، وهو تاريخ الانشقاق الرّسميّ بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والكنيسة الكاثوليكيّة عامّةً. فقال البابا إنّ كلّ مَن لا يقول دستور الإيمان كما نحن نقوله هو خارج الخلاص أيّ مطرود من الكنيسة.لذلك أرسل له البطريرك القسطنطينيّ رسالة أخوّة ومحبّة طالباً منه التّراجع عن قراره والرّجوع إلى التّقليد الكنسيّ والإنجيل. عام 1054،كان البطريرك في القسطنطنيّة، في اسطنبول، الّتي كانت أعظم بطريركيّة في الشّرق، يحتفل بالقدّاس الإلهيّ عندما أتى شمّاس من روما ووضعَ ورقة الحرم الكنسيّ على المائدة في القدّاس وبعدها رحل لأنّهم لم يقولوا كما قال طلب إليهم البابا أن يقولوا، فحرمَ البابا البطريرك لأنّه يعتبر أنّ الرّئاسة له. ردّ البطريرك على البابا بحِرْم بالمقابل. الحِرم هو: البطريرك حين يُصلّي يذكر كلّ بطاركة العالم كما أنّ المطران حين يُصلّي يذكر كلّ مطارنة أبرشيّته والكاهن، أيضاً، حين يُصلّي يذكر كلّ كهنة أبرشيّته. إذاً البابا لن يذكر البطريرك ميخائيل بصلاته فردّ عليه هذا الأخير بالمثل وذلك كان عام 1054 ونحن الآن عام 2014. لو لم يُرسل البابا الحِرم، لكان الخلاف بقي ولكن لما كان حصل الانقسام.
ما هي الأسباب غير المباشرة للانقسام؟
الأسباب غير المباشرة للإنقسام تبدأ بالسبب الجغرافيّ، لأنّ هناك مسافات طويلة بين الشّرق والغرب ووسائل النّقل لم تكن متوفّرة وكذلك وسائل التّواصل. الثّقافة المختلفة: اللّغة اللّاتنيّة واللّغة اليونانيّة كما الحضارة الغربيّة والحضارة الشّرقيّة، البيئة إضافةً إلى الخلفيّات الفلسفيّة لمكانيْن مختلفيْن... كلّ هذا ساهم في الانقسام. إضافةً إلى السّبب الاقتصاديّ والسّبب السّلطويّ. أمّا السّبب المباشر فهو الخلاف العقائديّ، وواحدة من هذه العقائد هي زيادة "والابن". علماً أنّه، هناك العديد من اللّاهوتيّين الكاثوليك في هذا الزمن الّذين يقولون دستور الإيمان من دون "والابن"، وواحدٌ منهم هو مطران كاثوليكيّ. إعطاء البابا لنفسه سلطة أن يحرم بطريركاً يدلّ على وجود أمور مخفيّة حول سلطة البابا في القديم، بمعنى أنّ له سلطة، بحسب الرّأي الأرثوذكسيّ، على بطريركيّته كلّها. إذاً بطريرك روما لا سلطة له على بطريركيّات أخرى، ومجموعة البطاركة مجتمعين أو مُنتدبين عنهم يُؤلّفون المَجْمَع المسكونيّ. حصل المَجْمَع المسكونيّ الأخير بين الكنيستيْن عام 787 أي منذ أكثر من 1200 سنة ولم يحصل اجتماع عام. ولكن بعد هذا التّاريخ، عُقِدت اجتماعات في الشّرق وافق عليها البابا فأصبحت وكأنّ الطّرفيْن مجموعان إلاّ أنّ المهم هو أن يُوافق عليها الجميع. إذاً مشكلة البابا أو رئاسته مُرتبطة بما يُسمّى عِصمة البابا أيّ أنّه عندما يُعلن إعلاناً إيمانيّاً (أنّ الكرسيّ الرّسميّ له أو العرش الباباويّ)، يُصبح هذا الإعلان الّذي يلفظه، المُختصّ بالإيمان معصوماً، لا خطأ فيه. لذلك لم يُوافق الأرثوذكس على ذلك لأنّ لا أحد معصوم والدّليل على ذلك أنّ الكنيسة كانت تعتبر البطاركة والمطارنة الّذين أخطأوا في الإيمان مهرطقين. سلطة المجمع أيّ المَشورة هي أعلى من سلطة البابا، بحسب الرّأي الأرثوذكسي، حتّى لو كان البابا على رأس المَجْمَع. فعندما يُعلن البابا أمراً ما يُعلن إيمان المَجْمَعيّة.
كلمة "عصمة" البابا ليست موضوعاً إداريّاً، فعند الكاثوليك أصبحت موضوعاً لاهوتيّاً لأنّ البابا هو الوكيل. عند الأرثوذكس، هم ليسوا وكلاء الله على الأرض وإنّما أيقونته، فأنتَ لا تملك سلطته وإنّما تحمل مسؤوليّة أن تُبيّن سلطته. لذلك طال هذا الخلاف ولكنّه لم يبقَ خلافاً عقائديّاً فقط، إنّما الأهواء كان لها دور في هذا الخلاف إضافةً إلى الجدل حول من هي الكنيسة الأغنى والأقوى والمُتمتّعة بعلاقات أكثر مع الدّول وعدم خضوع القويّة للأقلّ قوّةً، إلى حين بدء الحروب الصّليبيّة، الّتي كانت من أسباب اندلاعها هذه الخلافات. بعد الحروب الصّليبيّة، أصبح مستحيلاً إقناع الأرثوذكس بالحوار مع الكاثوليك فهم يقولون إنّهم جاءوا واستباحوا كنيسة القسطنطنيّة قبل الإسلام وإنّهم أساءوا لهم أكثر من المسلمين فحصل البُعْد والعدوانيّة. إلى حين نشوء الحركة المَسْكونيّة في القرن التّاسع عشر، ونشأ معها ما يُسمّى بالمجلس الكنائسيّ العالميّ لإحياء الحوار بين الكنائس فتحسّنت أمور كثيرة منها نشوء علاقات شخصيّة بين رؤساء الكنائس خلقت الهدوء بينهما فاستطاعوا أن يتفاهموا. وما حصل هو أنّ الكنيسة مرّت بمشاكل متعدّدة، واحدة منها أنّ الكاثوليك كانوا يُبشّرون الأرثوذكس لأنّهم يعتبرون أنّ كلّ من يؤمن إيماناً مختلفاً عن إيمانهم عليهم أن يُحافظوا على خلاصه بتبشيره، مع العلم أنّ الأرثوذكس هم من المسيحيّين، وهذا ما يُسمّى بالاقتناص. أمّا الأرثوذكس، إذا كان لدى الكاثوليك وجهة اختلاف معهم، فهم لن يفعلوا شيئاً. وما زاد الطّين بلّةً هو نشوء، الكنيسة البروتستانتيّة في القرن السّادس عشر، أي عام 1516 في الغرب وهي تعني اعتراض. إذاً البروتستانت هم المُعترضون المُحتجّون لأنّه كان هناك راهبٌ اعترض واحتجّ على قرارات البابا واعتبر أنّها لا ترتكز على الإنجيل (وقد كان على حقّ) فحاول الإصلاح لكنّه لم ينجح فانفصل عنهم. بعد الانفصال، تبعه البعض فتأسّست الكنيسة البروتستانتيّة. وهذه الكنيسة موجودة فقط في الغرب، لا علاقة للشّرق بها لكنّ الانقسامات موجودة، كما حصلت، في الشّرق، بين السّريان والأقباط والرّوم، حصلت، في الغرب، بين الكاثوليك والبروتستانت. واحد من هذه الانقسامات هو نشوء الكنيسة الأنكليكانية وعلى رأسها الملكة إليزابيت. ورئيس الكنيسة الأنكليكانية هو دائماً ملك بريطانيا، لأنّ ملك بريطانيا هنري الثّامن لم يُرزق بأولاد على الرّغم من أنّه كان متزوّجاً وبالتّالي شعرَ بأنّ العرش سيكون في خطر فحِفاظاً على المملكة وعظمة بريطانيا، طلب الملك من البابا أن يسمح له بأن يُطلّق زوجته لكي يتزوّج من غيرها ويُرزق بطفل ولكنّ البابا لم يسمح له بذلك، فقرّر أن يؤسّس الكنيسة الأنكليكانيّة وهكذا حصلَ فطلّق زوجته، وتزوّج من أخرى ورُزِق بولد. عندئذٍ، انقسمت الكنيسة الكاثوليكيّة، للمرّة الثّانية، مع العلم أنّ الجميع هم من الكاثوليك ولكنّ النّاس مُرتبطون بالأهواء وبالفعل وردّات الفعل، لذلك كانت المُصالحة صعبةً. فكلّ خلاف، يتدخّل فيه النّاس وهم مشبعون بالغريزة، لن يكون للحوار مكان فيه إضافةً إلى نسيان السّبب الأساسيّ للخلاف. عصمة البابا هي الأساس، هي رئاسة البابا (أيّ "أنا رئيس الكنيسة، يحقّ لي بحسب اللاهوت الكاثوليكيّ أن أتدخّل في كنيسة ما وأملك السّلطة في تَنْحِيَة الكاهن.......) هكذا هي سلطة البابا ولا تزال حتّى اليوم بحسب القانون ولكنّها غير مُطبّقة بالممارسة. أمّا بطريرك الأرثوذكس في أنطاكيا فلا يحقّ له أن يُرسل لي رسالةً يوجّه من خلالها ملاحظةً، بل عليه أن يُرسلها إلى المطران المسؤول عنّي، فهو الّذي يُصحّح لي أخطائي، فلا سلطة للبطريرك عليّ إلى حدّ أنّه لا يستطيع زيارة أبرشيّة جبل لبنان إلّا إذا أعلم المطران مُسبقاً وحصل على إذنه بحسب القانون لا اللياقة. أمّا من حيث مشكلة الأرثوذكس مع مفهوم سلطة البابا كرئاسة وكعصمة فنقول إنّ المَجْمَع هو أعلى من سلطة البابا كما أنّ المَجْمَع أعلى من سلطة البطريرك. وقد توّصلت الحوارات إلى أنّ مسألة "الآب والابن" سهلة فالنّاس قد اعتادوا عليها ويحتاجون فقط إلى الوقت لإلغائها. لكن هناك بعض الأمور المختلفة كمسألة المطهر الّذي ليس، أصلاً، سبباً خلافيّاً ليقسم كنيستيْن، لأنّه، أوّلاً، عند الكاثوليك ليس عقيدةً بل هو رأي مُلزِم كقوّة العقيدة. الحَبَل بلا دنس أيّ أنّ العذراء وُلِدت من أمّها وأبيها بريئة من الخطيئة الأصليّة لأنّها ستلد المسيح أيّ أنّ الله خلّصها وأعاد إليها النّعمة المبرّرة الّتي كانت في آدم قبل أن يُخطئ.
وقال الأرثوذكس إنّ العذراء إذا كانت من غير نوعيّة البشر، فأنا الإنسان البسيط لا رجاء لي في أن يولد المسيح فيّ، فعلى العذراء أن تكون مثل كلّ البشر. يؤمن الأرثوذكس بأنّ العذراء لم تُخطئ إراديّاً لأنّها بريئة من الخطيئة الأصليّة، ولأنّهم أصلاً لم يقبلوا بفكرة الخطيئة الأصليّة لأنّهم يعتقدون بأنّهم عندما يولدون لا يحملون خطيئة آدم بل نتائج هذه الخطيئة. فهم وآدم من الطّينة نفسها ولكنّهم لا يحملون خطيئته. هذه الخلافات موجودة لكنّها لا تقسم الكنيسة. المشكلة الأساسيّة، الآن، هي سلطة البابا وعصمته من دون إنكار الخلافات االلاهوتيّة الّتي يمكن إيجاد حلّ لها. عصمة البابا أساسيّة جدّاً وإذا وُجِد لها حلّ ستُعلن وحدة الكنيسة ولكنّها تعني، أنّه في العمق، هي مشكلة نفوذ وسلطة ألبسوها ثوب العقيدة واللاهوت. كلّ هذه الفوضى تؤكّد أنّ هناك كلمة لا تستطيعون قراءتها وهي المحبّة الّتي تصبر على كلّ شيء، لا تظنّ السّوء، ترفق وتترأف وتلطف. كلّما زادت كميّة المحبّة تحسّنت الأمور والعكس صحيح، إلاّ أنّ كمية المحبّة تتضاءل بسبب تصرّفات النّاس.
الرّوح هو الّذي يجمعنا. هل تؤثّر هذه الخلافات؟ وبأيّ معني تؤثّر إن كنتَ تُدافع عن الله؟ فهل يختفي الله إذا اختلفنا؟
إذا عدنا إلى الأصل، وجدنا هناك اقتراحاً ارثوذكسياً يقول: "نحن بقينا ألف سنةٍ من دون أن ننقسم وألف سنةٍ كنّا مقسومين فيها، نعود إلى ما قبل 1054، بقيْنا متّفقين على كلّ ما كنّا متّفقين عليه. وبعد عام 1054، من يتبنّى آراءً جديدةً لا يُلزم الآخر بتبنّيها ولكنّ الجواب لم يصل بعد. قبل أن ننقسم، كان لدينا إيمان واحد هو المجامع المسكونيّة السّبعة ونحن الاثنان مُلزمون بها ونُطبّقها حتّى ولو كنّا مُنقسمين. كلّ ما أتى بعد الانقسام واتّخذتم القرارات بشأنه، كالحبل بلا دنس والمطهر، هو رأي لاهوتيّ لايلزم الأرثوذكسيّ به والعكس صحيح. من الصّعب أن يقبل الكاثوليكيّ أنّ الأرثوذكسيّ لا يقبل برئاسة البابا.( إعتراضي شخصيّ)، فالفرصة سانحة: اليوم يوم خلاص، الوقت وقت مقبول طالما انّ البابا فرنسيس موجود. إذا تابع ما بدأ به وتفرّغ قليلاً لموضوع العلاقة الكنسيّة الأرثوذكسيّة لأنّ ما يحصل في العالم لا يسمح لأحد بالتّفكير إلّا في الإنسان. فالمسيحيّون، في البلاد الشّرقيّة، سينتهون أمّا المسيحيّون، في البلاد الغربيّة، فقد انتهوا من دون أن يُنهيهم أحد بسبب الفراغ الحاصل لأنّ تلك المناطق تمتلئ بالبوذيّين أو المسلمين، أمّا في الشّرق فيتهجّر المسيحيّون ويأتي مكانهم "داعش".
ونحن نجد في هذا الجوّ الّذي نعيش فيه بعض الخلافات مثل: نحن نقول "نؤمن" أمّا أنتم فتقولون " أؤمن" عندما نقول الدّستور. عندما كُتِب الدّستور الإيمانيّ في المَجْمَع المَسكونيّ الأوّل قالوا "أؤمن" إذاً نحن ننفّذ ما قالوه. أمّا الكاثوليك فقالوا: "نؤمن" لأنّه في الكنيسة لدينا الإيمان نفسه فنقول في الجماعة "نؤمن". أو مثلاً "إله من إله نور من نور" لا تُغيّر شيئاً في المعنى. حتّى في صلاة الأبانا، التّرجمتان لا تُصيبان المعنى الصّحيح فهناك كلمة، في اليونانيّة، لا ترجمة لها حتّى اليوم أيّ عند الأرثوذكس "الخبز الجوهريّ أعطنا اليوم" وعند الكاثوليك "أعطنا خبزنا كفاف يومنا" إلّا أنّ التّرجمة الأرثوذكسيّة هي الأقرب لأنّها ترجمة حرفيّة. هي تعني، في اليونانيّة، الخبز الجوهريّ الّذي يأتي من فوق لأنّهم يعتبرون أنّ "الأبانا" تتكلّم عن الآخِرة. أمّا الكاثوليك، فيقولون إنّهم يريدون "خبزنا كفاف يومنا" أيّ الخبز اليوميّ لأنّنا ننتظر الخبز الّذي سيأتينا في ما بعد. نيّة كليهما حسنة ولكن عندما يكونان على خلاف لا يقبلان الرّأي المغاير. هناك أمرٌ آخر: خلال القدّاس، يُناول الكاثوليك البرشان أيّ خبزاً من دون خميرة أمّا الأرثوذكس فيُناولون القربان أيّ خبزاً يحتوي على الخميرة. نشأ هذا الخلاف بسبب الثّقافات. في نصّ يوحنا اليونانيّ، عندما يقول إنّ المسيح أخذ الخبز... لا يستعمل كلمة "برشان"، كذلك الأمر في الأناجيل كلّها. لقد استعملوا كلمة "قربان" ونظراً إلى أنّ الأرثوذكس يتبعون الإنجيل حرفيّاً فهم أيضاً يعتمدون القربان. أمّا الكاثوليك فيقولون، "لأنّ العشاء السّرّيّ يُصادف ليلة العشاء اليهوديّ وبالتّالي، بحسب وصيّة موسى، نَفِدَ الخبز وكان هناك خميرة فقط لذلك اعتمدوا البرشان. يتكلّم كلاهما بشكلٍ صحيحٍ فلا خلاف على المضمون ولكن الكره والبعد الموجودين بينهما يخلقان الخلاف بينهما.
كان هذا موجزاً صغيراً عن الخلافات، أنا عرضتها من دون تحريض. ولكن التّحريض الّذي أزرعه فيكم إنما هو لِرفض الخصومة لا لِتسخيف الخلاف، أو بالأحرى الإختلافات، ولكن احتراماً له لكي نجد الحلّ.
ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة من قبلنا بتصرُّف.
تتمة...تأمّل في أسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس
الأب ابراهيم سعد
27/1/2015
اليوم، في هذا الأسبوع الّذي يُسمّى أسبوع الصّلاة من أجل وحدة الكنائس، (لَسْتُم ملزمين بتبنّي ما سأقوله)، في إنجيل يوحنا، في الإصحاح السّابع عشر، نجد صلاة يسوع للآب قبل أن تحين ساعة موته، واسمها الصلاة الكهنوتية، وكأنّ المسيح هو الكاهن في هذه الصلاة، فيقول: "ليكونوا واحداً مثلما نحن واحد" (يو 22:17)، وهنا السؤال يطرح نفسه حول موضوع الوحدة. أوّلاً: لنتكلّم على الوحدة، علينا أن نسأل عن سبب انقسامهم قبل السّؤال عن سبب توحّدهم. ففلسفة الانقسام مبنيّة على أساس دفاع كلّ منهم عن الله. وقد وضعوا نقاطاً اختلفوا حولها في التفكير والطروحات، فاعتبر كلّ منهم بأنّه على حقّ وبأنّه هو وحده يُدافع عن الإيمان المُستقيم، وبالتّالي على الآخر أن يُغيّر رأيه وإلّا أصبح لا ينتمي إليهم، والعكس صحيح. أنا لا أريد مناقشة لأيّ طرف منهم في ما هو محقّ فيه أو مخطئ لأنّني بهذا أصبح مثلهم. أنا ملتزم بتعاليم كنيستي ولكنّني أتكلّم من خلال قراءة لأننّي أريد أن أعرف إن كانت هذه الاختلافات تستحقّ أن نصل إلى ألف سنةٍ، تقريباً، من الانقسام الّذي لا نجد له حلّاً. نتذكّر الوحدة لأسبوعٍ واحدٍ في السّنة فنذكر خلاله الصّلاة والوحدة والمحبّة مرّات لا تُعدّ. هي ثلاث كلمات مؤثّرة جدّاً نجعلها تملّ منّا خلال هذا الأسبوع. ولكن ننساها بقيّة أيّام السّنة فلا نتكلّم إلّا على "هم" و "نحن".
وأسبوع الوحدة، الواقع بين الثّامن عشر والخامس والعشرين من كانون الثّاني، يأتي قبل عيد الفصح بشهريْن، حيث تعود الاختلافات بين الطّرفيْن في الاحتفال بالعيد- في الوقت نفسه أو في وقتٍ مختلفٍ. هناك خلافات واختلافات في أمورٍ عديدةٍ ولكن، فَلنَضع في ميزانٍ مَن يجمعنا وما يُفرّقنا. هناك فرقٌ بين "مَن" و"ما". فمن يجمعنا هو المسيح وما يُفرقنا هو أفكارنا عن هذا الموضوع أو ذاك. حتّى لو اقتضى الأمر أن يتطرّق المرء إلى المشكلة المؤلمة فيصبح نتاجها إعادة إحياء لمشهد قايين وهابيل. لماذا يكون الحلّ في إلغاء أو في خضوع؟ لماذا لا يكون الحلّ في الإختلاف شرط أن يبقى تركيزنا على من يجمعنا. لدى الكنيستيْن الكاثوليكيّة والأرثودكسيّة نقاط واضحة في إيمانهما وهي الثّالوث ويسوع وربوبيّته وناسوته وألوهيّته وكلّ ما ينتج عن هذا الموضوع من مفهوم الأسرار والإنجيل. ما يُفرّقنا هو عصمة البابا، زيادة عبارة "والابن" على دستور الإيمان. وبالمناسبة، المطهر ليس سبباً خلافيّاً للانقسام، فقد أتى ذكره بعد انقسام الكنيسة بوقتٍ طويلٍ كما أنّ الحبل بلا دنس كان عام 1854أيّ أنّ لا شيء قديم. فهل تستحقّ كلّ هذه الأمور أن ننقسم وأن نجعل صلاة المسيح كاذبةً؟ فعندما تطلب أمراً ما الى الله يكون لديك الرّجاء والإيمان بأنّ الله هو الوحيد الّذي يستطيع أن يُحققّ لك ما تريد ولكن عندما تطلب إليه أمراً ولا يستجيب لطلبك يدور في رأسك تساؤل حول هذا الوضع أو تقول بأنّ الله لم يجد الوقت المناسب لتحقيق طلبك، ولكن مشكلتك الحقيقيّة هي عدم استجابة الله لطلبك. وقد طلب يسوع المسيح من الله "ليكونوا واحداً كما نحن" ولكنّ الله لم يستجب بعد لطلبه فأصبح هناك تساؤل حول الله وهنا تكمن الخطورة أيّ أنّ الله لم يستطع عمل ذلك، وقد جعل هذا الأمر صلاة يسوع تفشل على الرّغم من أنّه قال: "كلّ ما تطلبونه يُستجاب لكم". وتبقى أهمّ صلاة "ليكونوا واحداً كما نحن" إلاّ أنّ الله لم يحقّقها حتى الآن
.
السّؤال الأساسيّ: "ماذا يطلب يسوع ليكونوا واحداً؟" ما معنى الوحدة؟ هل نجحت أم لا؟
وإن لم تنجح فمن هو المسؤول عن عدم نجاحها؟ النّاس هم المسؤولون عن ذلك لأنّهم لم يفهموا طلب يسوع. ففي أحيانٍ كثيرةٍ، كلمة "وحدة" تنطبق على الطّرفيْن أو على أحدهما وهي تعني أنّ واحداً منهما سيتنازل للآخر. أن نتوحّد أيّ أن تصبح هويّتي في خطر، بسبب اتّحادي بك، وهكذا يُصبح من الممكن أن تتعطّل هويّتي، أو يتعطّل ما تُسمّونه هويّة، أو نفوذ أو سلطان أو وجود. ذكرتُ كلماتٍ عديدةً ولكنّني لم أذكر يسوع لأنّه لا خوف عليه، أنتم تستعملونه لتختلفوا. ولكي نفهم معنى "واحداً" في صلاة يسوع علينا أن نفهم ما يليها "كما نحن" بمعنى أنّ الآب والابن واحدٌ. لم يذب الابن ولا الآب، ولم تضِعْ هويّة أحد بسبب الوحدة بينهما، لأنّ لا أحد منهما يشعر بعقدة النّقص، هما كاملان والإنسان الكامل هو الإنسان البسيط، أمّا الإنسان النّاقص فهو الإنسان المعقّد لأنّه، في أيّة لحظة، يُمكن أن ينتبه لما هو موجود عند غيره وناقص عنده، فيعتبر نفسَه ناقصاً. والحلّ يكمن في إلغاء الآخر كي لا يظهر ما هو موجود عنده، أو إخضاعه كي يصبح ملكه. كلّ منّا معنيّ ومسؤول. وحين يقول الرّبّ يسوع "ليكونوا واحداً كما نحن" علينا أن نعرف معنى "نحن واحد" بمعنى أنّه كلّ ما هو لي هو لكَ وكلّ ما هو لكَ هو لي. فالإتّحاد لا يعني أنّي إذا اعتمدتُ رأيكَ سنصبح واحداً. إذ لا اتّحاد بمعنى أنّ كلماتي تصبح كلماتك، وبالتالي لا يُمكنكم فهم الاتّحاد من خلال وحدة العقيدة ووحدة الفلسفة ووحدة الفكر. يجب أن يُفهم الاتّحاد انطلاقاً من كلمة "نحن" الّتي قالها يسوع. "نحن" أيّ الآب والابن. ولن نستطيع أن نفهم كلمة "نحن" إلّا من خلال قاموس واحد وهو المحبّة فقط. رجلٌ وامرأةٌ يُحبّان بعضهما، يقولان إنّهما واحدٌ انطلاقاً من الحبّ الّذي يجمع بينهما لا لأنّهما يتبنّيان الأفكار نفسها حول موضوعٍ مُعيّنٍ. لذلك يُمكن التّكلّم على الوحدانيّة في إطار الحبّ فقط. إذاً صلاة يسوع إلى الآب "ليكونوا واحداً كما نحن" هي بمثابة طلب الى الله أن يزرع فيهم الحبّ، فعندما يُصبحون مُطعّمين بالحبّ أي (حبّ الآب والابن) سيعرفون كيف يكونون واحداً. ولأنّنا لم نفهم بعد مفهوم الوحدة، انقسمنا، ولأنّنا لم نفهم بعد مفهوم الحبّ في الإنجيل، تخاصمنا. إذاً لقد بدأت انطلاقة الحوار الكَنَسيّ بشكلٍ خاطئ، هذا هو رأيي، ولكنّني لا أُجبر أحداً على الالتزام به. لقد بدأوا الحوار على أساس ما قاله كلّ منهم ومناقشة الفكرة لمعرفة من هو على حقّ، لذلك لم يتوصلوا إلى نتيجةٍ لأنّهم لم يرتكزوا على أساس المحبّة. وكلّ حبّ من إنسانٍ إلى آخر هو حبٌّ إلهيٌّ نزل عليك بطريقةٍ ما. إذاً النّقاش الّذي دام سنين طويلةٍ ولم ينتهِ، سببه أنّهم انطلقوا من أساس اختلافهم في الآراء. والمشكلة، هنا، تكمن في استعمال كلمة "محبّة" التي أصبحت مُبتذلةً، لأنّ النّاس لا يسمعونك، باعتبار أنّ هذا الكلام عن المحبّة ضربٌ من الشّعر، على هذا النّقاش أن ينتهي لأنّنا نُحبّ بعضنا، فلا حاجة إلى الإتّفاق إن كنتَ تُحبّ، إذاً المشكلة الأساسيّة هي في الانطلاقة.
يحصل الانقسام عندما تجهلون جوهر الإنجيل وهو المحبّة، لأنّكم انطلقتم بشكلٍ خاطئ وبالتّالي لن تحصل الوحدة لأنّهم لن يوقفوا الحوار حولها، وكأنّهم يُتاجرون بها من خلال المؤتمرات ومآدب الغداء والعشاء وعدسات الكاميرا. لقد بدأت الصّلاة من أجل الوحدة منذ خمس وستّين عاماً وهم ما زالوا يبحثون في الحوار، وفي بعض الأحيان يقولون إنّ الحوار قد تأزّم بسبب أفكار ومُعتقدات شخصيّة. فبعد مرور مئات السنين، اتّفقوا في أحد المؤتمرات على عدم الالتباس، أيّ أنّ الكاثوليكيّ لا يصبح أرثوذكسيّاً والعكس صحيح، ويختمون بأنّ الجوّ كان إيجابيّاً. وينسون المسيح على الصّليب وهو يتألّم، إلى حدّ أنّ لا وقت لديهم لكي يدفنوه. وبهذا نجعل كلمة "محبّة" زينة بسبب هذا التّمثيل لأنّ الانطلاقة الأساسيّة هي العقائد. فإذا أتينا بمُسلمٍ وحاولنا أن نجعله يؤمن بالمسيح من خلال العقائد فهو لن يؤمن، أمّا إذا أتينا به وحدّثناه عن محبّة المسيح فهو حتماً سيؤمن به وسيقبل بالإنجيل. أنا لا أعني بأنّ العقائد غير صالحة ولكن عليك أن تتكلّم عليها انطلاقاً من حبّ المسيح. ففكرة الصّعود الإلهيّ وفكرة التّجسّد، أيّ أنّ ابن الله صار إنساناً هي الّتي تخلق لدى الأديان الأخرى مشكلةً، لأنّه من المستحيل أن يكون لله ابناً ويتجسّد. ولكن إذا انطلقنا من السّؤال "لماذا أصبح إنساناً؟" ذلك من حقيقة حبّ الله للنّاس الّذي لا يُريد الابتعاد عنهم ويشاركهم إلى حدّ تخلّيه عن عرشه. وعندما نتكلّم على الصّعود الإلهيّ أيّ عندما جلس يسوع الإنسان عن يمين الآب هذا يعني أنّ جزءاً منك أصبح "فوق" عند الآب بسبب الحبّ. وهكذا نكون لا نصنع ديناً ولا نتكلّم على الدّين المسيحيّ بل على المسيح والإنجيل. فحين يكون أخوك بحاجةٍ الى المساعدة، عليك أن تُسرع لإنقاذه من دون التّأخّر وبعدها تناقشه لأنّ هناك أفضليّة يُحدّدها حبّك لا أنتَ. إذاً هناك ما هو أعلى منك ومنه وهو الالتزام بحبّ المسيح أو عدمه. لذلك، عليهم أن يبتعدوا عن هذه الخلافات والاختلافات بتحضيرهم لمؤتمرات حول فهم حبّ المسيح وليس لمؤتمرات حول الوحدة.
لقد أجبتُ، سابقاً، عن سؤال "من يجمعنا؟" المسيح، ولكنّي الآن أعود عن هذه الإجابة. "من يجمعنا؟" نحن نختلف حول تفسيرنا للمسيح. صحيح أنّ المسيح يجمعنا والإنجيل هو واحد ولكن القراءة مختلفة. فلنبحث عمّا يجمعنا من دون الاختلاف في تفسيره: إذا قلنا إنّ المحبّة هي الّتي تجمعنا، نقع في مشكلةٍ ثانية لأنّ مفهومنا للمحبّة يبدأ بفلسفة. الوجه الآخر للمسيح الّذي يجمعنا هو الفقير فلا اختلاف حول تفسير كلمة " فقير". إلاّ أننا لم نجد مؤسّسة كَنَسِيّة مُشتركة تحت إشراف إدارةٍ موّحدة تهتمّ بالفقير.
إذا كنتم لا تُريدون أن يجمعكم المسيح لأنّكم على اختلاف حول تفسير النّصوص، فاعتمدوا الفقير ليجمعكم، فهو لم يُذكر في أيّ نصّ لأنه لا يملك المال. إذاً توحّدوا على الفقير وبخاصّةٍ في هذه المرحلة التي تبرز فيها الأزمة. من يجمعكم هو واحد: المسيح، الفقير، الأمر سيّان، لأنّ المسيح قال: " هذا الفقير هو دينونتكم على الأرض". هكذا قال يسوع في إنجيل متّى "كنتُ جائعاً وعطشاناً... ولم تُساعدوني أو كنتُ جائعاً... وساعدتموني فإذا فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فَبي قد فعلتم". وإذا كنتم غير قادرين على أن تتوحّدوا على العقائد أو على القربان أو على وجود المطهر أو عدمه فتوحّدوا على الفقير. وبهذا تصيرون كنيسة المسيح. "الّذين أعطيتَهم لي" يقول المسيح لله عن الرّسل الاثنَيْ عشر، واحدٌ منهم كان خائناً وهو يهوذا.
في هذا الأسبوع - أسبوع الوحدة، اذهبوا واقترحوا على رعاياكم أن تبتدعوا أسبوعاً آخر وتُسمّونه "أسبوع الكيلو" فتجمعون الطّعام وتوزّعونه على الفقراء وبهذا تتمّ الوحدة.
الوحدة مبنيّة على المحبّة الّتي تنبثق من الأمّ والأب وهكذا تكون العائلة موحّدة. كلّ حديث عن الوحدة والانقسام والكنيسة المنقسمة بجُرأة وبتواضع، يظهر بأنّ المرء يعترف بأنّه أخطأ، ولم يُحبّ كما أراده المسيح أن يُحبّ.
والدّليل على ذلك، مثلاً، هو حين انقسمت كنيسة الرّوم الارثوذكس وكنيسة السّريان الارثوذكس عام 451 قبل أن تنقسم الكنيستان الكاثوليكيّة والارثوذكسية عام 1054. اختلفوا على دفاعهم عن يسوع المسيح فهو ذو طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة وهاتان الطّبيعتان تصنعان مشيئتيْن، الأولى إلهيّة والثّانية إنسانيّة وهذه الأخيرة خاضعة للمشيئة الإلهيّة. هنا وقع الخلاف: هل لكلّ طبيعة مشيئة أو للطّبيعتيْن مشيئة واحدة؟ في القرن العشرين أيّ بعد 1500 عام من الخلاف، التقى بطريركا الرّوم الارثوذكس والسّريان الارثوذكس ، وهما صديقان، وقرّرا أن يُوحّدا الطّائفتيْن معتبريْن أنّ الخلاف الّذي وقع لفظيٌّ. لقد سهّلا الوحدة لأنّهما أَحَبّا بعضهما. إذاً العودة دائماً هي إلى المسيح أو إلى الفقير. وإذا أردتَ أن تكون أكثر وعياً ويقظةً، حتّى لو لم يكن المسيح والفقير موجوديْن، تكون أنتَ المسيح أو الفقير كي تتّحِد بالآخر. وهكذا تكون انطلاقة الأعياد كلّها، بدءاً من عيد الميلاد وصولاً إلى الفصح حين ظهر يسوع قائماً من بين الأموات إمّا بُستانيّاً أو غريباً والاثنان هما صورة عن الفقير. إذاً المسيح القائم تراه في الفقير والمسيح المولود تراه في الفقير. من هنا، في أسبوع الوحدة، نُصلّي من أجل وحدة الكنائس: عودوا إلى الله. "لأنكم عندما تبتعدون عنّي ستتوهون، وكي لا تتوهوا عودوا إليّ".
ملاحظة: دوّنتْ المحاضرة من قِبلنا بتصرّف.
تتمة...اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك" لو23: 26-43
مع الأب ابراهيم سعد
في كنيسة مار يوحنا المعمدان - حوش الزراعنة
8/11/2014
يعرف الأسبوع الأخير من حياة الرب يسوع بالأسبوع العظيم، وبخاصة عندما كان على الصليب ومحاطا بالمجرمين، إذ كان هناك لص مصلوب عن يمينه والآخر عن يساره. وشعار جماعتنا هو ذاتها الصرخة التي اتجه بها لص اليمين إلى يسوع عندما كان على الصليب، ولكن ما يهمنا نحن فعلا ليس الصرخة وحسب، بل الجواب الذي صدر من فم يسوع.
«26 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. 27 وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ.28 فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ،29 لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ!30 حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا!31 لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟» 32 وَجَاءُوا أَيْضًا بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. 33 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. 34 فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. 35 وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ
اللهِ!». 36 وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاً، 37 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ!». 38 وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». 39 وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!»40 فَأجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟
41 أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». 42 ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». 43 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»».
نلاحظ في البداية، عندما حمل يسوع الصليب أن شخصا قد ساعده، وكان يدعى "سمعان" تماما كـ
"سمعان - بطرس" الذي لم يكمل الدرب مع يسوع. أما إنجيل يوحنا، فيخبرنا أن شخصا واحدا قد بقي مع يسوع ولم يذكر اسمه، وهو الرسول يوحنا نفسه، وعدم ذكر اسمه على الرغم من أنه الوحيد الذي وصل مع يسوع دليل على أن الطريق مفتوح للجميع، لكل من يريد أن يكمل الدرب مع الرب يسوع.
وسمعان "القيرواني" ليس بالضرورة أن يكون من مدينة "قيروان" في ليبيا، فالأمر أعمق من هذا بكثير. يسوع كان صاعداً إلى "الجمجمة"، والجمجمة باليونانية تعني "Kranion"..... وكأنه يريد أن يقول أن سمعان القيرواني هو الذي يقبل أن يرافق يسوع حتى الموت، لأن سمعان بطرس ادّعى أنه لن يسمح لأحد بأن يمسّ يسوع، أو يقتله، فأجابه يسوع "اذهب ورائي يا شيطان"، لأنه اتخذ موقف الشيطان. وموقف الشيطان في الإنجيل، هو محاولته المستمرة لإيجاد ثغرة أو حجة تمنع يسوع من إطاعة أبيه، وعندما قال بطرس بأنه لن يسمح بموت يسوع، كان وكأنه يطلب منه أن يتوقف عن طاعة الآب، كما الشيطان، لذا طلب منه يسوع أن يبقى خلفه ويحتمي به لأنه لن يتمكن من الاحتمال. أما سمعان القيرواني الغريب فقد قبل أن يكملَ حتى النهاية عندما خاف بطرس وتراجع. وهنا ندركُ أولا، أن أحدا لا يتمتع بامتياز أن يكون رفيق يسوع، بل هو قرار شخصي يعبر عنه موقفنا.
وصعدوا إلى الجمجمة، وربما قد أطلقت عليها هذه التسمية نسبة لعدد الناس الذين حصدت أرواحهم فيها، وكأنها ساحة الاعدام والموت. وأخذوا مع يسوع لصَّين، مذنبَين، مجرمَين، بالرغم من وجود لص ثالث مجرم كان يتوجب صلبه واسمه باراباس. وباراباس كان زعيم لمجموعة مسلحة عند اليهود أرادت أن تقوم بثورة ضد النظام الحاكم، لتطرد الرومان وبالتالي يتحول الحكم إلى حكم ذاتي، لأنهم يظنون أن وعد الله لهم هو بأن تحكم اليهودية ما بين النهرين. واسم باراباس بالعبرية والآرامية هو "بر أبفا"، و"بر" تعني الابن، و"أبفا" تعني الآب، أي ابن الآب. إذا لدينا باراباس "ابن الآب"، ويسوع ابن الآب، وهو الوحيد الذي يحق له أن ينادي الله بـ "أبفا". وكان لدى اليهود الخيار فاختاروا "ابن الآب" اللص، الذي أراد ملكوتاً على شاكلة البشر. أما يسوع فقد دعا إلى ملكوت لا صورة له ولا وصف. اختار الناس "بر أبفا" واختاروا صلب يسوع. والصلب لا يعني القتل، بل يعني ميتة العار، ميتة العبد لأن العبد هو من كان يصلب في الامبراطورية الرومانية، أما الحر فلا يصلب حتى لو كان مجرما. فبولس الرسول لم يصلب لأنه صاحب هوية رومانية لا يعذَّب يل يقطع رأسه ليموت بسرعة، أما بطرس فصلب لأنه يهودي وهو بمثابة عبد عند الرومان.
وصلب مجرمين مع يسوع يذكرنا بقول ورد في العهد القديم: "وأحصي مع الأثمة". ففي بداية المشهد إذا، يحاكم يسوع كمجرم بين مجرمين "قتلا"، ولكن "أمام الله" كيف يمكن ليسوع أن يدفع أجرة خطيئة لم يرتكبها؟ فالموت أجرة الخطيئة، ومن هنا نفهم موقف يسوع في الجثسمانية، عندما قال لأبيه: "إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس"، ليس خوفا من الموت، بل لأنه لم يتقبل أن يقف وقفة المتهم أمام أبيه لشدة صدقه وطاعته وإخلاصه للآب. فالموت يعني أنه خاطئ، وهو يريد أن يعفيه الآب من الوقوف أمامه كمذنب، إلا أنه مع ذلك خاضع لمشيئة الآب إن كانت هذه هي. فيسوع إذا لم يخف الموت بل رفض الوقوف كمذنب أمام أبيه الذي سر به بحسب الإنجيل.
فالمشهد الأول إذا مشهد غير منطقي وغير مقبول، ولكن يسوع قبل بغير المنطقي وغير المقبول حبا بالبشرية، وهذا أمر لا يمكن للعقل البشري أن يفسره لذا علينا أن نقبل به فقط، ويبقى السؤال أنقبله أم لا؟
وعندما صلبوا لصَّين واحد عن يمين يسوع والآخر عن يساره، أحدهما قبل والآخر لم يقبل، إلا أن الذي لم يقبل لم يشتم يسوع، بل قال له: " إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا"، وهذا ما قاله كل من اليهود، وبطرس - بطريقة مختلفة - والشيطان عندما جرب يسوع بعد اعتماده في نهر الأردن "إن كنت أنت المسيح ابن الله...". والشيان ترك يسوع بعد تلك التجربة إلى حين، وهذا "الحين" كان عند الصلب، فيسوع كان قادراً على النزول عن الصليب، ولص اليسار طلب منه أن يخلصهم ويخلص نفسه، إلا أن يسوع لم يجبه. أما لص اليمين فقد أجاب اللص الآخر مؤكدا أن هذه هي النتيجة الطبيعية لكل الأفعال التي قاما بها، أما يسوع فلم يخطئ، وهذا الاعتراف من "لص" هو أهم كلام لاهوتي في الإنجيل لأنه من حيث لا يدري كشف حقيقة الابن البار الذي أطاع الآب حتى الموت، موت الصليب، دون أن يخطئ. وقال له: "اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ"، وكان من المفترض أن يكون جواب يسوع: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْمَلَكوت"، لأنه طلب أن يكون في الملكوت، إلا أن يسوع أجابه: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ"، ولكن لماذا؟
آدم وحواء كانوا في الفردوس قبل السقوط، وبالتالي فإن يسوع يبرر اللص من الخطيئة، ويخبره بأنه في عينيه بار، ويعيده إلى الفردوس حيث كان سيدا ولم يكن عبدا، وبالتالي فإن يسوع بهذا القول حرر اللص من عبوديته وجعله سيد حتى لو كان مقيد اليدين على الصليب. حرره من الخطيئة، وإذ حرر من الخطيئة أصبح "آدمي" أي كآدم قبل الخطيئة، وبالتالي بات في معية يسوع أينما ذهب، وقد قالها يسوع ليوحنا: "حيث أكون أنا، فهناك يكون خادمي"، وبالتالي أقام يسوع علاقة بينه وبين اللص لأنه طلب الرحمة.
إذا، في الوقت الذي تتلقى في كل الناس ورقة نعي على باب الموت، تلقى لص اليمين المشرف على الموت دعوة عرس، لأنه سيذهب إلى العرس الأبدي. وهذا أيضا أمر غير مقبول أو معقول "عقليا". ولكنَّ يسوع طلب من أبيه أن يغفر للذين قتلوه "لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"، فكم بالحري هذا اللص؟ فالرحمة إذا لم تبدأ مع هذا اللص، بل مع المجرمين الذين لم يتوبوا أيضا. وهذا لا يعني أن من لا يتوب ينال الغفران هكذا، إلا أنه يظهر لنا موقف يسوع الذي حكم عليه بالموت، والله الآب يعرف أنه بلا عيب، وبذلك كانت كل الخطيئة ستعاقب، فيقف يسوع أمام الله ويغطي البشر قائلا لأبيه: "هم لا يعرفون ماذا يفعلون" وبالتالي يطلب منه أن يمحي ذنبهم هذا. حدث كل هذا عندما كان يسوع على الصليب يواجه الموت، وبالتالي لا يمكن أن نذهب إلى الموت ونحن لدينا أية خطيئة نحملها على شخص آذانا، أي نُغفَر ونَغفِر.
إذا قول: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" هو اعتراف أولا بملكية يسوع، إذ لا وجود لممكلة بدون ملك، وإلا بطل عنها لفظ "مملكة"، وأهمية المملكة تكمن بوجود الملك، وبنوعية الملك، إن كان ضعيفا، فهي ضعيفة، وإن كان ثابتا فهي ثابتة. واللص اعترف بيسوع ملكا بالرغم من أنه كان يموت على الصليب، وهو بالتالي نطق بكلمات لا يصوغ النطق بها، وهي اعترافه بملكية الرب بالرغم من إشرافه على الموت، اعترف بملكية الرب وهو لا يعطي حكم ولا يتفوه بكلمة. وهذا ينقلنا إلى ميلاد يسوع، عندما اعترف المجوس الغرباء بولادة الملك، بالرغم من أنه مجرد طفل صغير، والمولود لا يكون ملكا حتى لو كان ابن ملك، بل أميرا. واعترافهم بمولود ملك يعني أن المملكة أصلا لم يكن فيها ملك إذ لا يجوز وجود ملكَين على رأس مملكة واحدة. والمولود هو رمز الضعف أيضا، أي أن يسوع كان ضعيف ومع ذلك اعترفوا به ملكاً، في الوقت الذي قرر كل من كانوا ينتظرون الملك قتله. من انتظروا ملكوته قرروا إلغاء ملكوتهن ومن رأوا ضعفه اعترفوا به ملكا! "إن أفكاري ليست كأفكاركم، وطرقي ليست كطرقكم، كبعد المشرق عن المغرب هكذا طرقي بعيدة عن طرقكم وأفكاري بعيدة عن أفكاركم يقول الرب".
يقول الرب يسوع: "الحق الحق أقول لكم..."، و"الحق" تعني "آمين"، وعادة "آمين" تقال في نهاية الصلاة كخاتم لها وليس في بداية الكلام، إلا يسوع يختم كلامه في البداية وليس في النهاية.
"الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". وكلمة "اليوم" التي تُردَّد كثيرا في الليتورجيا: "اليوم علق على خشبة"، "اليوم يولد من البتول"، "اليوم يوم القيامة"، تدلنا على أننا لا نقيم تذكار لما حدث منذ أفي عام، بل أننا نعلن موقفاً مفاده أننا دخلنا في هذه الحالة، وبتنا جزءا منها، وبالتالي تحولت الحالة إلى "يومنا" الذي نعيشه. عندما نقول "اليوم" نحن لا نتذكر، بل ندخل في هذا "اليوم"، وبالتالي يكون هذا عيدنا وليس عيد القيامة، أو عيد الميلاد، لأننا دخلنا فيه بقبولنا لربوبية يسوع وملكيته وعظمته تماما كما قبلها اللص. واللص ليس مجرما أكثر من غيره، بل هو خاطئ كالجميع وعلى حافة الموت، هو مثلنا من حيث الاهتراء البشري نتيجة للخطايا والأهواء، ونحن لدينا امتياز وحيد على هذا اللص وهو أنه بامكاننا أن نقول هذا الكلام ونحن لسنا على الصليب، بكامل قوتنا وأثناء حياتنا اليومية وليس ثناء مواجهتنا للموت، وهذه هي النعمة. ولكن للأسف هذه النعمة لا تدوم لأننا ننساها مباشرة، كما نسي بطرس نعمة مشيه على المياه، إذ لم يكن البحر بحرا عندما كان يتجه بنظره نحو يسوع ولكن بمجرد أن أشاح بنظره عن يسوع عاد البحر بحرا يؤدي إلى الغرق، فالنعمة إذا لا تدوم. وهناك رحمة كبيرة حصلنا عليها من الله، وهي قدرتنا على النسيان، لأننا إن كنا نحن ننسى يمكننا بالتالي أن نفهم أن الله أيضا ينسى، كما نسي على الصليب كل ما فعله هذا اللص.
ولكن من أين لنا أن نعرف أن الله ينسى؟! جاء في الإصحاح 31 من سفر إرميا: « 31«هَا أَيَّامٌ مُقْبِلَةٌ»، يَقُولُ الرَّبُّ أَقْطَعُ فِيهَا عَهْداً جَدِيداً مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا، 32 لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي أَبْرَمْتُهُ مَع آبَائِهِمْ، يوم أَخَذْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فَنَقَضُوا عَهْدِي، لِذَلِكَ أَهْمَلْتُهُمْ. 33 وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أُبْرِمُهُ مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ»، يَقُولُ الرَّبُّ: «سَأَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَوَاخِلِهِمْ، وَأُدَوِّنُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. 34 وَلاَ يَحُضُّ فِي مَا بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ إِلَهَكَ لأَنَّهُمْ جَمِيعاً سَيَعْرِفُونَنِي، مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، لأَنِّي سَأَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ مِنْ بَعْدُ.»»
إذا قال الرب "سيعرفونني"، أي بعد أن يقوم الرب بفعل معين وهذا الفعل هو أنه سيصفح عن خطايانا ولا يذكرها من بعد. أي ان ارتكب أحدنا خطية وعاد إلى الرب بالتوبة، ثم عاود ارتكاب خطيئة جديدة وتاب من بعدها من جديد، ينسى الرب أنه هو نفسه الذي ارتكب الخطيئة الأولى، ولا يحاسبه عليها. بل أكثر من ذلك، بمجرد قدومنا إلى الرب تائبين، فإنه يغفر لنا خطايانا وينساها حتى قبل أن نعترف في سر الاعتراف. وهنا يبرز سؤال: "لماذا نعترف عندها إذا؟" في مثل الابن الضال قبل أن يعترف الابن بخطيته لأبيه، قبله الأب على عنقه وسامحه، إلا أننا نعترف لأن الرب قد غفر خطايانا ونحن لا نقبل إلا أن نعترف بربوبيته كاللص، ولكي نعترف بربوبيته علينا أن ننكر الآلهة الأخرى قبلها وهذه الآلهة هي خطايانا. فنحن إذا نعترف لأننا عدنا وعرفنا الله لأنه غفر لنا خطايانا، ولأننا سننكر الآلهة التي عرقلت مسيرتنا نحو الله. نحن لا نعترف بالخطية بل ننكرها. ولا يجب أن يحضر أحد منا ليعترف وهو على يقين أنه سيعود إلى الخطيئة بعد الاعتراف، بل يجب أن يكون متخذا لقرار بأنه لن يرتكب الخطايا مجددا في حياته، وإلا عليه أن يركز على توبته أكثر. وفي سر الاعتراف، يأتي المعترف إلى الكنيسة والكاهن، أي إلى الناس الذين يفرحون به لمجرد عودته دون أية مصلحة أخرى، ويعترف أمام الله والكنيسة بربوبية يسوع وينكر آلهته أي خطاياه، وهذا أيضا سر المعمودية، والفرق أنه في المعمودية هناك ماء العماد، أما في الاعتراف فهناك ماء "الدمع"، أي معمودية الدموع. فعمليا في سر الاعتراف نقول نحن: "اليوم قال لي الرب أنني أنا أيضا سأكون معه في الفردوس لأنه سينظر لي كنظرته لآدم قبل أن يخطئ" وبالتالي نعود أسياد، ولسنا عبيد لأي إله أو خطية من بعد، حتى أننا لسنا عبيدا لله بل أبناء له، أي يرفعنا الرب من مستوى العبودية إلى مستوى اعترافه بأبوته لنا وبنوتنا له، لذا يحق لنا أن نصرخ كصرخة يسوع: "أبفا... أبانا الذي في السموات...". ونحن عمليا نردد الصلاة الربية في الكنيسة قبل المناولة، لذا يحق لنا من بعدها أن نقترب ونشترك في مائدة أبينا ونأكل معه في المناولة.
فالقداس الإلهي إذا، هو دخول أحدنا محملا بآلهة أخرى تتسلط عليه، فيسمع كلام الإنجيل ويوزَّع عليه هذا الكلام، كلام الله أثناء العظة، فيقرر أن يدخل بنوة الله ويقبلها، فيحين الوقت بعدها ليأكل من مائدة أبناء الرب لا من مائدة العبيد الذين لا يأكلون على مائدة السيد. أي يطعمنا الرب من مائدته، وهذه المائدة هي ذاتها تلك التي سنجلس عليها في العرس السماوي. إذا في القداس الإلهي يمنحنا الله "دعوة إلى العرس" لا تنتهي صلاحيتها، وتبدأ فرحتنا من تلك اللحظة لأننا أيقنا أننا سنشارك في العرس السماوي طالما أننا نحافظ على الدعوة التي حصلنا عليها ولا نضيعها. وللأسف، نحن نخرج من القداس وننسى كل ما حدث في الداخل، ونعود لنتخبط في هذه الدنيا حتى موعد نعمة الرب التي تدخلنا في قداس جديد، وهكذا دواليك. لذا فإن أي قداس لا يشبه قداسا آخر، إذ علينا أن نركز في كل مرة على رحمة ربنا لنا لأنه في كل مرة يرحمنا من جديد. علينا أن نركز على أن سيد القصر يقرر أن يصرخ وينادي العبيد الذين في الخارج ليدخلوا ويأكلوا مع ابنه على مائدة واحدة دون أن يتخوف من تبلدنا واعتبار أنفسنا "من أهل البيت" وهذا ما نقوم به فعلا، وتكبر على الله الذ لا يطلب منا شيئا. أما اللص فقد قال: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" أي قرر أن يقبل أن يكون على مائدة الآب، وأن يقبل فقط دون أن يقوم بأي أمر آخر.
إذا الحياة الروحية في الكنيسة ليست جهاد روحي، بل هي اللاجهاد، وقبول عطية الله وعدم إضاعتها. وإذا كنا أصلا نخرج من جرن المعمودية أبناء لله، فلماذا نجاهد لنصبح أبناءه؟ نحن لا نزال نتصرفُ بحسب عقلية العبد، لذا نحلمُ بالبنوّة. كلُّ ما يتطلبه الأمر هو يقظة روحية، يقظة لحقيقة أننا أبناء الله، لأننا عندها فقط نعي أننا لسنا في حاجة لأن نقوم بأي فعل لأن الميراث كلَّه لنا أصلاً، وإلا نكون جهلة: "يا أحمق، الليلة تؤخذ نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون؟"، "اطلبوا أولا ملكوت الله وبرَّه وكلُ شيءٍ يزُاد لكم" "اذكرني في ملكوتك"، آمين. ملاحظة: دوّنت المحاضرة بتصرّف.
تتمة..."الصوم زمن العبور"
مع الأب فادي سركيس
24/2/2014
من المعروف أنّ الصّوم هو الامتناع عن الأكل وعن الملذات وقضايا أخرى. إلا أنّ الكنيسة لا ترى في الصّوم حالة امتناع بالمعنى السلبيّ، غير أنها تعتبره حالة عبور وحالة حياة جديدة ينطلق منها الإنسان لينمو في الحياة الروحيّة. وفي زمن العبور، نجد اتجاهات ثلاثة يسلكها الإنسان ليشعر أنه قد عَبَر.
جميعنا نمرّ بمراحل الحياة الطبيعيّة ذاتها، إذ نعبر فيها من الولادة إلى المراهقة، فالشباب، وثمّ النضج من خلال المعرفة الاختباريّة، المعرفة العلميّة والمعرفة الروحيّة. ولذا فإن الكنيسة سنويًّا تعرض علينا حالة النّمو هذه، من خلال اتجاهات ثلاثة: الاتّجاه الأول هو العبور إلى العلاقة مع الله، أما الثاني فهو العبور إلى العلاقة مع الذّات، والاتّجاه الثالث هو العبور نحو العلاقة مع الآخر. وهذه المحاور الثلاثة تشكِّل أساسًا لحالة النموّ في زمن العبور.
في العهد القديم، عاش الشعب اليهودي اختبارًا تأسيسيًّا لعلاقته مع الله. وهذا الاختبار هو تحرير الشعب اليهودي من عبوديّة مصر وعبور البحر الأحمر حتى بلوغه أرض الميعاد؛ عاش الشعب اليهودي اختبارًا ماديًّا، فباتوا يقيمون تذكارًا سنويًّا للحدث ويحتفلون بالعيد مُستَذكِرين يد الله القديرة التي أخرجتهم من أيدي المصريين وحررتهم وأعطتهم أرض الميعاد.
ومع المسيحيّة، تطوّر هذا الفكر وبات عبورنا مع السيّد المسيح من شقاء هذه الأيام وعبوديّة ملذاتنا وكلّ ما يجذبنا إلى التراب، إلى التحرّر والدخول في علاقة حميمة مع يسوع، ابن الله، ليدخلنا في حياة أبناء الملكوت. والتحرّر هو الأساس في مسيرة العبور والنموّ. وإن لم يتوفر هذا التحرّر من القيود، سنشعر وكأننا لا زلنا في أماكننا، وهنا نتذكر كلام يسوع: "طوبى للفقراء بالروح فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله. طوبى لفاعلي السلام لأنهم أبناء الله يدعون" الذي يساعدنا لنكتشف المسيرة التّي تقودنا إلى أن نكون أنقياء القلوب وفاعلي سلام وفقراء بالروح. وهذا الأمر يتطلّب الكثير من العمل على تطوير الذات والتحرّر من القيود النفسيّة والروحيّة والجسديّة والماديّة والثقافيّة والحضاريّة لنتمكّن من خلع الإنسان القديم عنا وارتداء الإنسان الجديد، إنسان البِّر والنعمة. وهكذا نتمكّن من فهم العلاقة مع الله بشكل أوضح، هذه العلاقة التّي ستؤدّي بنا إلى اكتشاف صورتنا الداخليّة بحسب ما جاء على لسان القديس خوسيه ماريا سكريفا في كتاباته: "إن خبرتي كإنسان وككاهن وكمسيحي علّمتني أن النّفس البشريّة مهما اختبأت في أجواء الخطيئة تخفي في طياتها صورة النبل"، وذلك لأنّ صورة النبل هي صورة الله فينا، وبالتّالي علينا أن نكتشف هذا النبل، هذه الصورة الإلهيّة المطبوعة في كياننا البشري لأننا خُلقنا على صورة الله ومثاله. نكتشف هذه الصورة من خلال محطة العبور التي ستمكننا يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، من معرفة المكنونات الإلهيّة التي فينا. وهذه المعرفة التّي تحتاج إلى نموّ، من الضروري جدًّا أن يكون لدينا حالات من الضّعف لنكتشف أهميّة هذا النموّ، كما يجب أن تكون هناك عبوديّة ليكتشف الإنسان أهميّة التحرّر، لأنّه إن كان حرًّا دومًا لن يكتشف أهميّة الحريّة أو أهميّة العبوديّة. وفي كلّ مرّةٍ نمرّ في أزمة ما، نكتشف حضور الله. فالعبور إذًا هو التطلع نحو الله لمعرفة مشيئته.
زمن الصّوم ليس بالزمن السهل، إذ أنّه زمن التعب والجهد الروحي والإماتة، وكلّ هذا بات غريبًا عن عالمنا اليوم، عالم السهولة والرخاء. فالصّوم يدعونا إلى بذل الجهد، وإلى دخول عالم لم نكتشفه بعد، إلى الحياة الروحيّة، إلى الكلمات الروحيّة التّي تنعش فينا النّفس وتحرّرنا، وبالتّالي نَعي أهميّة الجهد الروحيّ في حياتنا اليوميّة. الوسيلة الأولى لنحيا في العلاقة مع الله هي الصلاة، والصلاة بالمعنى السائد تعني إعادة تلاوة الكلام المكتوب مسبقًا، كالصّلاة الربيّة ودستور الإيمان وغيرها، ولكن في الحقيقة ليست هذه الصّلاة الحقيقيّة التّي نُدعى إليها. فالصّلاة بالنسبة لكلّ الآباء الروحيّين هي تقرّب القلب وانفتاحه على الرّوح القدس، الذّي بدوره يقود حياتنا ويحرّرنا، وإن لم نكن ممتلئين من نِعَم الرّوح القدس، لن نتمكَّن من الصلاة وعندئذ تتحوّل صلاتُنا إلى تمتمة كلمات. يجب أن نمتلئ من روح الله (د 20)، الذّي سيعلِّمنا سرّ الاتحاد مع الله، وسيقود حياتنا كما قاد حياة يسوع: "وقاده الرّوح إلى البريّة ليصوم أربعين يوما وأربعين ليلة"، وبالتّالي فإن هذا الانقياد يجب أن يكون أساسًا للصّلاة، لأنّ الصّلاة هي صلة وعلاقة مع الله الذّي عرفناه وليس الله الذّي لم نعرفه. الله الذي رأته أعيننا وسمعته آذاننا ولمسته أيدينا، وهذا هو الإله الذي نبشِّر به، فهو ليس إلهًا مجهولاً. الديانة المسيحيّة كما كلّ الديانات تدعو إلى الخير، إلا أنّها أيضًا تدعو إلى بناء علاقة مع شخصٍ حيٍّ عرفناه هو يسوع المسيح، ابن الله، الذي حرّرنا من قيود ترابيتنا وأطلقنا شهودًا لقيامته. ومن هنا، تتحوّل الصّلاة إلى ضرورة حياتيّة لتقود حياتنا في الصّوم، ولتحرّرنا – بحسب الرّسول بولس-من أعباء الجسد المنحرفة وتُثمر فينا ثمار الرّوح، أي المحبّة والفرح والسلام والطُهر واللطف والتواضع والصبر. وكلّ هذه الثِّمار التي يزرعها فينا الرّوح من خلال صلاتنا،
هي التي تقود حياتنا وتحرّرنا يومًا بعد يوم، لتكتسب حياتنا حالة جديدة، هي حالة أبناء الملكوت، حالة الأشخاص المستنيرين بحضور الله.
الصّوم هو حاجة، وهو الوسيلة الثانيّة لنحيا حياة الرّوح، لأنّ كل إنسان منا أخطأ. فهو خاطئ لأنّه متَحِدّ بأبينا آدم وأمنا حواء، متحدّ معهما في قضية رفض الله. مَن منّا لا يرفض الربّ؟ من منّا أمينٌ لله طيلة أيّامه؟ وإن قلنا أنّنا أُمناء جعلْنا الله كاذبًا، لأن الله يعرف أننا محدودون وغير كاملين بل نسير في مسيرة نور نحو الكمال. وهذه المسيرة تتضمّن المرور باختبارات ليست بالضّرورة ناجحة دومًا. فالفشل هو طريق النجاح، ولا يجب أن ننظر إلى الفشل بطريقة سلبيّة دومًا، بل علينا أن نُدرك أنّه يعطينا خبرةً معينةً، تجعلنا نصمد في المستقبل بشكل أفضل، لأنّه يقويّ فينا العلاقة. الصوم يساعدنا على التعويض، والمسيح ابن الله عَوَّضَ عن خطايانا إذ كان كفّارةً. نحن عندما نعترف عند الكاهن فإنّه يطلب منّا تكفيراً عن خطايانا ولا يعاقبنا، وهذا التّكفير هو تعويض عن نقص الحب الذي كنّا نحياه، ليمكِّننا من تعويض الحبّ الأكبر. الربّ يسوع، البريء من كلّ خطيئة شخصيّة وعامّة، هو الذي صنع الخير لجميع النّاس وكفّر عن خطيئتنا، وكان القربان والمقرِّب، لذا فإنَّ الصَّوم بالنسبة لكلّ إنسان منّا هو حالة تجدّد بالذهنيّة والتّفكير والآفاق المرسومة للحياة الشخصيّة لنتمكَّن من الظهور بحالة جديدة.
أما الوسيلة الثالثة فهي الصدقة تجاه الفقراء، وهي تعبيرٌ عن واجب العدالة ووصيّة المحبّة الأخويّة. فجميعنا نتحدَّث عن العدالة ونريدها، والعدالة تبدأ من جانبنا تجاه الآخرين، إذ علينا أن نقوم بواجباتنا لننتظر حقوقنا. أما العدالة في الصدقة فلها مدى أبعد مع يسوع، فهو لا يريد منّا أن نمارس الصّدقة مع إخوتنا الذين نحبّهم فقط: "أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السّماء". إنه يطالبنا بجهدٍ عظيمٍ لنكون كاملين في الحقيقة كما أنّ أبانا السماويّ كامل، أي أن نكون في حالة كمال، وليس في حالة اعتياديّة ككلّ النّاس. لذا فإنّ العبور بات بحاجة إلى وقفة مسؤولة وتخطيط ووعي. يقول يسوع: "تصّدقوا بما هو لديكم"، "كنت غريبًا فآويتموني، كنت جائعًا فأطعمتموني، كنت عطشانًا فسقيتموني، كنت مريضًا فزرتموني" وهذا كلّه يبدو سهلاً وبسيطاً، إلا أنّ الصعوبة تكمن في قدرتنا على الالتزام به في حياتنا، ويُكمل يسوع: "أحبب قريبك حبَّك لنفسك"، فعلينا ألاّ نخشى استغلال الآخر لنا. في أحد الموتى المؤمنين بحسب الطقس الماروني، تتمّ قراءة إنجيل "لعازر والغنيّ"، وهو رائع بالنسبة لموضوع الصدقة، إذ "كان لعازر ملقى عند باب ذلك الغنيّ، وكان يشتهي أن يملأ جوفه من الفتات المتساقط عن مائدة الغنيّ الذّي كان يلبس الأرجوان والكتّان النّاعم ويتنّعم كلّ يوم بأفخر الولائم. مات لعازر، ومات الغنيّ"، فلعازر الذّي لم يكن بعيدًا عن الغنيّ، بل كان عند باب بيته، إلّا أنّ قساوة قلب الغنيّ لم يكن لها حدود، ولوقا الإنجيليّ يكافئ لعازر إذ يصفه ويذكر اسمه، أمّا الغنيّ فلم يذكر له اسم لأنّه معروف من خلال غناه هو المستغنيّ عن الله. عندما مات لعازر "حملته الملائكة إلى حضن ابراهيم، ومات الغنيّ ودُفِن"، فالغنيّ لم يفهم سرّ العبور، بل فَهِم سرّ الحياة الأرضيّة فقط وكبَّل قلبه وجاء التّعبير عن كل ذلك بأحرف ثلاثة "د- ف- ن، دفن". الإنسان الذي لا ينظر نحو البعيد، هو إنسان ليس لديه حالة نموّ، بل هو مكتفٍ بالحالة التي يحياها ويعتقد أنّ هذه هي كل الحياة، فيضع قلبه فيها وبالتّالي يجد كنزه حيثما يضع قلبه، وكنزه هو الموت وليس الحياة. فالحياة بالنسبة لنا كمسيحيّين زمنان، الزمن المعدود الأيّام، والزمن الأبديّ، لذا نحن نؤمن بالقيامة لأنّ يسوع عاش معنا الزمن المحدود، وجذبنا لنعيش معه الزمن اللامحدود. علينا أن نفهم أن الصّدقة ليست فقط في العطاء، بل هي الدّخول في مفهوم يسوع للأمور والخيرات التّي بين أيدينا، وكما قال يوحنّا المعمدان: "من له قميصان فليعطِ من ليس له"، ويعقوب الرّسول قال:"إن كان أخ أو أخت عريانين وليس لهما قوت يومهما فقال لهما أحدكم: اذهبا بسلام واستدفئا واشبعا ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا انتفعا؟"
الصدقة تقود إلى وعي الإيمان. إن كانت لدينا علاقة مع الله ولكن لا نقوم بأعمال محبّة ورحمةٍ، فإيماننا ميّتٌ، ولا تعود إليه الحياة إلا بالعمل الصادر عن القلب، وإن لم يصدر العمل عن القلب فلا قيمة له، وهذا ما يقوله مار بولس في نشيد المحبّة: "لو كنت أنطق بألسنة النّاس والملائكة ولو أسلمت جسدي ليحرق ولم تكن فيّ المحبّة فلا يجدي ذلك نفعا". من القلب يصدر كلّ خيرٍ، وشراكة الحبّ والخير هي التي تؤدّي بالإنسان لأن يكون نورانيًا ومن أبناء الملكوت، والحياة الداخليّة التي يحياها الإنسان تجعل منه إنسانًا مميّزًا بأمانته لله ومحبّته للقريب. من هنا نُدرك إلى أين سنعبُر، إلى الحقيقة، حقيقة أنّ الإنسان عندما يبزغ فجره في الدّنيا ويبصر النّور، فإنّ هذا يحدث ليبقى مبصرًا النّور الأساسيّ، يسوع المسيح الذي سيقود خطاه حتى النهايّة، حتّى الفجر الجديد، فجر نور القيامة. لذا فإنّ يسوع الذّي هو شمس حياتنا، هو يقود خطانا في زمن الصّوم. وبحسب الطقس المارونيّ فإننا نحيا ثلاث حالات في الصّوم، الأولى هي الشّفاء الجسديّ الداخليّ والخارجيّ، والثانية هي حالة الجمع، جمع الإنسان بعلاقاته مع الأبناء كالابن الضّال، ومع الجماعة بالمحبّة كشفاء المخلّع، والحالة الثّالثة هي حالة النّظر والرؤية نحو البعيد مع شفاء الأعمى لندخل مع الرّبّ في آلامه ونعبر معه في سرّ الحبّ العظيم، فيرينا يسوع في كلّ أسبوع صورة له، صورة للشّخص الذّي سيمنح ذاته قربانًا وكفّارةً، فنفهم عندها أنّ زمن الصّوم هو سرّ الانسكاب بتواضع وبطاعة كاملة كما أطاع يسوع بموته على الصّليب. و"أخلى ذاته آخذا صورة عبد"، وعندها لن نرى يسوع ممجدًا على جبل طابور وحسب، بل أيضًا سنراه ممجدًا عند أقدام الرسل، وإنَّ أعلى مستوى حبٍّ وصل إليه يسوع قبل الصَّليب هو انحناؤه عند أقدام الإنسان، وهو اختبار رائع جدًّا، أن ينحدر ابن الله على أقدام الرسل ويغسلها كالعبد، لينقيَّ أقدامهم قبل أن ينطلقوا ليبشِّروا بكلمته ورسالته، فلا يعلِّق غبار الدنيا على أقدامهم من بعد، كي ينقلوا البشارة إلى كلّ العالم، إلى كلّ البشريّة، إلى كلّ الحضارات والثقافات، ليزرعوا فيها الثّقافة الجديدة، ثقافة الحبّ، حبّ الله فلا ترتبط أقدامهم بأرض واحدة فقط.
نرفع صلاتنا في النهايّة إلى الرّبّ الذّي دعانا إلى التحرّر من قيود الجسد، من كل محدوديّة التّفكير، من قيود ثقافة النزعة الذاتيّة والإقفال على الذات، لنفتح قلوبنا لمحبّة الله التي تكبر فينا يومًا بعد يوم، ولكي كما النّور الطّالع من الفجر إلى وضح النّهار، تبزغ مسيرة حياتنا من فجر أيّامنا لتلتقي بالنّهار الذّي لا يعقبه مساء، يوم القيامة. المسيح قام... حقا قام.
ملاحظة: اُلقيَتْ المحاضرة في مركزنا الروحي ودُوِّنت مِن قِبَلِنا بِتَصَّرُف.
تتمة...كيف أكتشفُ إرادة الله في حياتي؟
الخوري جوزف سلوم
30/1/2014
إنَّ اكتشاف إرادة الله في حياتنا أمرٌ غاية في الأهمية، وهو أساسيٌّ في إيماننا المسيحيّ، ولكن كيف نَصِلُ إلى ذلك؟ في البداية، علينا تحديد إرادتنا ورغبَتنا في الحياة، ومن ثمَّ معرفة إرادة الله، وبعدها تحديدُ إذا ما
كانتا تتوافقان معاً أم لا. يقولُ بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تلميذه تيموثاوس: "إنَّ الله يريد أن جميع النَّاس يخلصون". فإرادة الله إذاً هي خلاصُنا وحسب، وهي تتجلَّى عبرَ التاريخ بأكمَلِهِ، ولا يقتصرُ ظهورها على حدثٍ أو اثنين.
في أغلبِ الأحيان، لا نتمكَّنُ من فَهْمِ سببِ وقوع حدثٍ مُعيَّنٍ في حياتنا، ونطرحُ سؤالنا الدَّائم: لماذا يحدث هذا لي؟ وهو سؤالٌ لا جوابَ له، إذ لا يمكِنُنا فهم السَّبب مهما فكَّرنا، ولكن يمكننا أن نقبلَ هذه الأحداث فقط، لِنَصِلَ بعدها إلى قبولِ سيادة الله على حياتنا. ونحنُ نقبلُ هذه السِّيادة مهما كانت، ونُعلِنُ هذا القبول عندما نُصَلِّي كلِمَتَيْن اثنتَيْن: "لتكُنْ مَشيئتكَ"، وعلينا أن نَتَنبَّه وننتظِرَ لنرى ماذا يريدُ الله مِنَّا عبر النَّظرِ في أحداثِ تاريخِ حياتنا، واللهُ يساعدُنا مع الوقت لنفهمَ ونتعلَّمَ.
نحن نريد أن نكون سببَ سرور الله عندما نُرضِيه هاتفين "لِتَكُن مشيئتكَ"، إذ نُسْلِمْهُ ذاتنا، حتى وإن لم نفهمْ سببَ الجراحِ والصعوبات والتَّحدِّيات التي تُثْقِلُ قلوبَنا وأرواحَنا، فيفرح الرَّبُّ بنا كما فرحَ الرب عندَ اعتمادِه في نهر الأردن على يدِ يوحنا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْت".
في الكتاب المقدَّسِ، إرادةُ الله تحمل الكثيرَ من المعاني ومنها: القضاءُ الأزليُّ، الاختيارُ، الدَّعوةُ، التَّحريرُ، المواعيدُ، الخلاصُ، وغيرها.
إرادةُ الله مُحقَّقةٌ في السماء، وعندما نرغبُ في تحقيقِها على الأرض أيضاً - بإعلان التسليم التَّام لله وسيادَتِه المطلقةِ على حياتنا- ينتفي وجودُ الأرضِ من حياتنا، وتَتَحوَّلُ الأرضُ سماواتٍ جديدةً: "لتكُن مشيئتكَ، كما في السَّماء كذلكَ على الأرض". إذ أنَّ ما يميِّزُ الأرضَ عن السَّماء هو عدمُ معرفتنا لكيفيَّة إعلان: "لتكن مشيئتك"، وعندما نعلنها تختفي الفوارقُ بينَ الأرضِ والسَّماء وتُضحي الأرضُ سماءً.
إرادة الله في حياتنا هي فرحُنا وسرورنا، فالله يريدُ خلاصَنا، ويريدُ أن نكونَ سعداءَ في حياتِنا. وتحقيقُنا لإرادة الله وعيشُنا بحسبِ المسيحيَّةِ الحقَّة لا يعني أن نحيا بألمٍ وعذابٍ مُستمرٍّ، فإلهنا يريدُ فرحَنا جميعاً.
تتمة...تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل لوقا (2:21-35)
"تقدمة الرب يسوع إلى الهيكل"
الأب إبراهيم سعد
2014/1/25
باسم الآب والابن والرّوح القدس، إلهٍ واحدٍ. آمين.
يتحدّث الإنجيل عن إدخال أو تقديم يسوع إلى الهيكل، حسب الشريعة والناموس، فالرّبّ يسوع لم يأتي ليُبطل الناموس وإنّما ليُتَمِمَه.
ولا يمكننا أن نتّخذ جملة "دخول السيّد إلى الهيكل" كعنوان لهذا المقطع، لأنّ يسوع كان عمره اثنا عشرة سنة عندما وجدوه في الهيكل، أي دخله لوحده... بينمافي النصّ فقد تمّ تقديمه.
بعد قراءة نص الإنجيل، نجد أولًا حسب الشريعة والعهد الّذي قُطع على ختان الذكر، أنّ هذا الميثاق أو العهد علامة ليتذكّر الشعب أعمال الله معه، وليست علامة بأنّهم شعب الله. ففي الأقوال التقليديّة، إنّ ختان الفتى علامة ترمز بأنّه أصبح من شعب الله، ولكنّها في الواقع هي علامة ليتذكّر بها أعمال الله معه. فعلى الإنسان أن يتذكّر في جسده نقطتان، هما: الذِكرة "مطرح حبل الصُرّة"، وعمليّة الختان أي التطهير. فإذا نظرتَ إلى ذِكرتَكْ تتذكر أنك لست آدم، فهناك أحدٌ وَلدَكَ، لذا عليك ألاّ تتكبّر وتظنّ نفسك أنّك الأول. وهذه العلامة تذكّرك بأن تحفظ الوصايا، وتسلكها وتطبّقها في حياتك. هناك انفصام في حياة الشعب بين: حفظ الناموس، والعيش حسب الناموس، وهذه النقطة شكلّت مشكلة في العهد القديم و العهد الجديد وفي عهد الكنيسة. فالمسيحيّون يعتقدون أنّ حفظ الإنجيل يعني أن يَرسَخ في ذاكرتهم، ولكن هذا المفهوم خاطئ. فكلمة "تحفظ" تعني، أنّه مثلما تحفظ الأكل في أونية كي لا يُفسد بسرعة، عليك أن تحفظ كلمة الله فيك كي لا تُفسَد وتذهب سُدًى وتبقى بخير. إنّك تحفظ كلمة الله وتبقى تلك الكلمة بخير عندما يسلُك الإنسان بحسبها، ويبرهن أنّ كلمة الله دائمة.
يُعطى الولد إسماً في اليوم الثامن من ولادته. أمّا يسوع فقد سُمّي قبل ولادته، ونجد ذلك حسب إنجيل لوقا في الإصحاح الأوّل، عندما قال الملاك لمريم: "ستلدين ابنًا وتُسمّينه يسوع". إذًا إسم الولد أُعطي لمريم من قِبل الملاك، فمريم لم تُسمّيه، وإنّما أعلنت الاسم الذي أطلقه الله عليه. والقانون في الشرق الأوسط يستدعي بأن يكون للاسم معنىً. وعندما يُعطي الأهل ابنهم إسماً، فهم يتمنّون أن يكون إبنهم وفق اسمه. فمعنى اسم "يسوع" : "الله يُخلّص"، فهذا دوره وهذه هي رسالته، أي عندما سمّاه الله بهذا الاسم حدّد له مهمته ورسالته.
و"بعد أربعين يومًا "من ولادة الصبيّ حسب الناموس: كان عند اليهود ارتباط بين الدمّ الذي يخرج من المرأة عند الولادة، وبين موضوع النّجاسة والطّهارة. فاليهود يعتبرون المرأة في حالة نجاسة، وبعد انتهاء هذه المدّة يمكنها أن تدخل الهيكل ويباركوا المولود. وللأسف هذه العقليّة موجودة حتّى الآن عند الكثير من النّساء، حيث يمتنعون عن المناولة في هذه المدّة، ما بعد الولادة أو في فترة الدّورة الشهريّة، حيث يعتبرون وجود الدّم نجاسة، ولكن هذا لا يتعلّق بالمناولة. وهنا نرى تأثير هذه العادات على الشعوب.
بعد أن انتهت مريم من هذه الفترة، صعدوا إلى أورشليم،التي كانت تبعد تسعة كيلومترات ونصف، ليقدّموا الرّبّ إلى الهيكل كما كُتِبَ في الناموس، وكان كلّ ذكر فاتح الرّحم أي "البكر" يُدعى قدّوسًا للرّبّ. فالقدّوس يعني "المفروز"، وقَدَّس تعني بالعبريّ "فَرَز". أي عندما تُريد أن تفرز أرض، يعني أنّك تعرف من يمتلكها. فعندما تُقدِّم شيئاً ما للرّب ّتجعله ملك لله، تفرزه أي تجعله مقدّساً. فالبكر لا يعني أنّه أوّل ولد وإنّما يعني الوريث، وكما قيل في إنجيل متّى:"لم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر"، أي أنّ يسوع هو وريث أبيه أي الله.
وعند تقديم الولد للهيكل يُقدّم معه خروف، ولكنّ الفقراء يستعيضون عنه بزَوجَي حمام. إذًا أمام الرّبّ ليس هناك فرق بين الغنيّ والفقير، ولوقا أكبر داعم للفقراء ويقول في إنجيله: "طوبى للفقراء"، بينما يقول متّى: "طوبى للمساكين بالرّوح".إنّ لوقا يهتّم بالفقراء والأولاد والمرأة، أي الأشخاص ذو المستوى الاجتماعي الأدنى لدى النّاس. ونرى أنّ لوقا ركّز على الحمام في إنجيله، حيث قال: "الرّوح القدس حلّ بهيئة حمامة"، وعندما دخل الرّبّ يسوع إلى الهيكل وغضب على الباعة حيث توجّه بالكلام للأشخاص الّذين يبيعون حمام، فقد ارتبط الحمام بالرّوح القدس، أي تاجروا بالرّوح القدس، واستعملوا ما أُعطي من الله كأنّه مِلكًا لهم. وهذا ما نفعله غالباً في حياتنا، حيث نستعمل عطايا الله كأنّها لنا ونتصرّف بها. ويقول بولس الرّسول في رسالة كورنتس: "كيف تتصرّف كأنّك أخذت الخلاص وكأنّه أصبح مُلكَك". فعلينا أن نتذكّر دائمًا أنّه هناك ارتباط بين ما أُعطِيتَ ومَن أَعطاك، ولا يُمكنك أن تفصل العطيّة عن المعطي، فعندما تقوم بفصلها تتحوّل إلى مُتسَلِّط على الناس، وعندما تُحافظ على هذا الرّباط، تُصبح مُتقبِّل لهذه العطيّة وللناس.
عندما قدّما يسوع ومريم الذّبيحة، كان هناك رجلٌ في أورشليم اسمه سمعان، وكان موجود في الهيكل قبل تقديم الولد، أي أنّه يمارس كهنوتًا ما، أو وظيفة النبوّة، فهو ليس النبيّ الّذي كتب مثل الأنبياء، ولكن يمكن أن يكون "الرائي"، وهي وظيفة في الهيكل حيث يتكلّم فيها الشخص عن المستقبل، أي يُرشدك بحيث يكون طريقك وسلوكك مُنسجم مع ما يرضي الله. فالنبيّ حسب الكتابات النبويّة والعهد القديم، لا ينتظر السؤال ليُجيب، فكلامه ليس ردّة فعل، وإنّما هو عبارة عن فعل هجومي على تصرفاتك وحياتك دون أن تسأل، ويصبح كلام النبي لك وكأنّ الله يسأل وأنت تُجيب، وهذا هو الإنجيل.أمّا سمعان،كان يسمع السؤال ليُعطي الإرشادات.
تعني كلمة "مسؤول" أنّ هناك سؤال، قد طُرِح عليك ويجب الإجابة عليه. فالمسؤول لا يعني الرئيس، وإنّما الشخص الّذي يملك جواب لله، لذلك يقول بولس الرسول عندما بشّر أهل كورنتس كلاماً مفادُهُ أنّني أعمل كل ما في وسعي لأربح بعض الأشخاص للمسيح . فإن لم يؤمن أحد بالبشارة التي أكرز بها،فهذا الأمر سوف يطرح سؤالاً عليّ أمام الله: هل أنا حقاً رسول. فالبرهان على رسولية بولس هو عدد الأشخاص الذين آمنوا بالبشارة على يده، لذلك قال بولس: "أنتم ختم رسالتي في الرّبّ".
لم يكن سمعان مذكوراً في العهد القديم أو الجديد، فاسم سمعان، مربوط بسمعان الرسول الذي تبع يسوع، ولكنّه في كثير من الأحيان لم يكن يسمعه. فكلمة "سمعان" تعني الشخص الذي يسمع كلمة الله، وعندما يسمعها يأخذها وكأنّها كلمة قد تحققّت، ويعيش على أساس أنّها مُحققّة...فابراهيم أول شخص في العهد القديم قد سمع كلمة الله واعتبرها أنّها مُحققة، ولكنّها لم تَكُن مُحقّقة فعليّاً، ولم يَكُن ينتظر البرهان، حيث قال الرّبّ له: "اترك أرضك وعشيرتك إلى الأرض التي أُريك". فبالنسبة له، البرهان على صحّة وجود الله، هي كلمة الله عندما يقولها الله بنفسه، وهذا هو الإيمان. ولكن نحن البشر لدينا سلوك مُختلف: فعندما نُريد من الله شيئاً، نَعِدُه أنّنا سنُنَفِذّ الوعد عندما يتحقّق هذا الشيء. فسمعان سمع كلمة الله وعاش على أساسها، وانتظر وعدًا وعَده الله به وعاش على أساس أنّه سيتحقّق، ولكنّه كان يتأمّل تحقّقه قبل موته، كي يراه ويتعزّى. فيجب علينا نحن البشر أن نُصلّي بأن نتعزّى بما وعده الله لنا، وليس بما نطلبه منه، وهو لم يُلبّيه. ففي الصلاة التي علّمنا إياها الله نقول: "أبانا الذي في السّماوات...لتكُن مشيئتُك"، فسمعان كان خاضعاً ومُسلِّماً ذاته لإرادة الله ووعده، فقد كان بارّاً (أي صِدِّيقًا)، وكان تقيًّا.
وماذا تعني كلمة "البار" في الكتاب المقدّس؟...قال يسوع ليوحنّا المعمدان: "دعنا الآن لنُرنمّ لكلّ بِرٍّ". البِرّ يعني أن يكون الله راضياً عن الإنسان. وكلمة "تَقي" تعني أنّه خاضع وحافظ وأمين على كلمة الله. وكلمة "أمين" في اليوناني "Estos " تعني أمين ومؤمن في الوقت نفسه.فكلّ مؤمنٍ أمين، ولا يمكن أن يكون الشخص مؤمن دون أن يكون أميناً. ففي حالة البشر، إنّني أُؤمن بالله ولكنّني لا أفعل كما يُريد، فهذا ليس إيمان وإنّما تصديق وتسبيح لله. فوجود الله شيء، والإيمان بوجوده شيء آخر. فعبارة "أؤمن يإله واحد" لا تعني أنّني مُصدّق لوجود الله، وإنّما تعني أنّني أخذت القرار بإقامة علاقة مع هذا الإله الضابط الكلّ. فكلمة "الإيمان" تعني "علاقة" وليس الإيمان بوجود الله. وهنا أصبح دورك بأن تقوم بالمبادرة، وأن تقبل العلاقة بينك وبين الرّبّ.
كان سمعان ينتظر تعزية إسرائيل،أي الوعد الذي وعده الله لإسرائيل في العهد القديم. فكلمة إسرئيل لا تعني الدولة، ولا تعني الشعب اليهودي. وهي تعني حسب الكِتاب، الّذين سمِعوا كلمة الله وحفظوها وسلكوا على أساسِها، وهم بقيّة باقية.
وكان سمعان أيضًا ينتظر تعزية الرّوح القدس، فقد حلّ الروح القدس عليه، أي حلّ رِضى الله عليه، وأُوحِيَ إليه بالرّوح، أي بتعزية الرّوح ألّا يرى الموت قبل أن يرى المسيح الرّبّ. عندما رأى سمعان يسوع الطفل في الهيكل، تحوّلت رؤيته للطفل إلى قرار إيماني بأنّ الطفل هو المسيح الرّبّ.فالمسيح يعني "المختار"، أي الذي وضع عليه الله إصبعه ودلّ عليه. "فأتى سمعان بالرّوح إلى الهيكل"، وكلمة "أتى بالرّوح" لا تعني أنّه آلة يُسَيِّرها الرّوح، وإنّما أتى بحسب مشيئة الرّوح، طائِعًا للروح. والرّوح تعني "كلمة الله"، فأنت لاتسمع ولا تقبل كلمة الله إلّا بمعونة الرّوح القدس. وكما قيل في الإنجيل:"وعندما دخل بالصبيّ أبواه، أخذه على ذراعَيه وبارك الله"، أي تمّ مُباركة الله بطفل، وقال: "أَتَتْ السّاعة، والآن أَطلِق عبدك"، فالآن يُمكن لسمعان أن يموت وهو مرتاح، لأنّ ما يُريده قد حصل عليه، فقد اكتفى قبل أن يموت، ولأنّه اكتفى، طَلَبَ الموت. وطَلَبْ الموت،لا يعني أنّه يُريد أن يموت، وإنّما لم يعد لديه مشكلة بالموت. أمّا نحن فنرفض الموت لأنّنا لم نكتفِ، وهذا هو الفرق. وقيل في الإنجيل عن الرّبّ يسوع "لما تمّ كلّ شيء أسلم الرّوح"، أي أنّه عندما اكتفى قال: "الآن تُطلق عبدك يا سيّد ،حسب قولك ، بسلام لأنّ عَينَيَّ قد أبصرتا خلاصك". فيسوع هو خلاص الله، وبه يتمّ الخلاص. وكلّ هذا الكلام قاله سمعان عن طفل، ولم يكن الوعد قد تحقّق بعد. ولكنّه اعتبر أنّ كلمة الله مُحقّقة وحتّى لو لم تتحقّق بعد، وعاش على هذا الأساس، واكتفى. أعطى الرّبّ بحضوره وخلاصه المجد لشعب إسرائيل، أي أنّ شعبه لا يملك المجد. فقد تعجّب يوسف ومريم ممّا قيل، علمًا أنّ الملاك أخبر مريم أشياءًا أعظم من ذلك. فالتعجّب لم يكن من فكرة الخلاص وإنّما مِن موقف سمعان.ونرى أنّ يسوع قد تعجّب ،في عدّة آيات من الإنجيل:تعجّب من إيمان بعض الأشخاص الّذين لم يتوقع منهم أن يؤمنوا، كما تعجب من عدم إيمان بعضهم الذي كان يعتقدهم مؤمنين.
بعد أن بارك سمعان الطفل، قال لأمه مريم: "هذا الطفل قد وُضِع لِسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل"، أي أنّ هذا الطفل سيكون سبب عثرة لكثيرين وذلك يتوقّف على موقفهم منه. فالمسيح هو المعيار والعلامة الآية.إنّه الآية التي تدل على الله والتي تلقى مقاومة كبيرة من الإنسان الذي يرفض كلام الرّبّ.
وعندما قال لمريم: "وأنتِ سيجوز سيفٌ لتُعلن الأفكار في قلوب الكثيرين": فهذه الجملة لها تفسيرين. الأول، يرمز إلى آلام مريم العذراء نتيجة رؤية ابنها البارّ يتألّم ويُعاقب وكأنّه مُجرم، فمريم لن تتألّم بسبب أوجاع وآلام يسوع، وإنّما بسبب الظلم والقرار على يسوع، وهذا الأصعب. فبسببه سوف تظهر خفايا النفوس. والثاني: السّيف يعني كلمة الله التي يحفظها الإنسان وتكون مرّسخة في أعماقه. فكلمة الله أُعلنت للإنسان وهو عليه أن يختار ويقرر هل يقبل بكلمة الله أم يرفضها، وهذا موجود في العهد الجديد. فبولس الرّسول يُسمّي يسوع "سيف الرّوح"، ويقول يسوع: "أنا ما جئتُ لأُلقي سلامًا بل سيفًا". فبسببه ،الناس ستفصل وتختار بين الحقيقة والباطل. فالكثير من الأشخاص يتجمعون على كلمة الباطل، ولكن قلائل هم من يتجمّعون على كلمة الحق. فقليل جدًّا عدد الأشخاص الذين يسعون لإيصال الحقيقة للآخر. فإذا تَبَنَّيْتَ الحقّ للآخر، فأنت مشروع شهيد، أي أنت مشروع مصلوب عندئذٍ تخاف وتتراجع مثل تلاميذه، الذين تركوه وحيداً على الصليب بإستثناء واحدٍ وهو يوحنّا. إذًا ارتباطكَ بالحقّ يُكلّفك كثيرًا، لذلك تتألّم وكأنّه "سيفٌ يجوز في قلبكُ" لأنّك ارتبطتَ بالحقّ والتزمتَ بكلمة الله. وقالت مريم جملتين فقط في الإنجيل: "ها أنا أمةٌ للرّبّ"، "ومهما قال لكم فافعلوه"، ولكنّها كانت تحفظ كلّ شيء في قلبها.
إذًا السؤال هنا، ماذا تفعل أيُّها المؤمن في هذا العيد؟...فأنت واقفٌ في الداخل، وكلمة الله التي تُعلن أمامك، هل ستُسقِطُكَ أو تُنهِضُكَ؟...وذلك يعود بحسب موقفك. أسَتَفضَحُكَ أم تُمَجِّدكَ؟... هذا الأمر يتعلّق بموقفك إزاء كلمة الله. وبحسب الموقف الذي تأخذه، تُشارك في العيد. ولكن بعد خروجكَ من الكنيسة في يوم العيد ستُصبح سمعان آخر،لا مشكلة لديك مع الموت لأنّ عيناك قد شاهدتا خلاص الرّبّ لك.
لذلك علينا أيّها الإخوة أن نُصلّي لكي يتسلّح الأحياء بالرجاء، وعلينا بالصّلاة للأموات..والسؤال الذي يُطرح الآن: هل الذي غادرنا بإنتقاله إلى بيت الآب، قد تعزّى بتعزية الرّوح؟ نحن نصلي على رجاء أنّه تعزّى، ونعيش على هذا الأساس...ونحن الأحياء، هل قد مررنا بمرحلة سمعان أم بعد؟ إن كنّا لم نمّر بمرحلة سمعان بعد، فهذا يدّل أننا ما زلنا في حالة انتظار، وقد يتمّ دخول المسيح إلى حياتك في أيّة لحظة.. فدخول يسوع إلى الهيكل ليس حدثًا تاريخيًّا حصل مرّة، وإنّما هي حالة يعيشها المؤمن كلّما سقط، لينهض من جديد ويدخل المسيح إلى هيكله، وينطق بعبارات سمعان.
إنّ الخلاص مُعّدٌّ للجميع، وإن كانت تَعتقد الكنيسة المسيحيّة أن دور اليهود قد زال، فقد أخذت الشعوب دورها لأنّهم يمتازون بالذهنيّة والعقليّة نفسها. فالكنيسة التي نحن فيها على الرجاء لم تَحلّ مكان اليهود في العهد القديم، وهو لا يتكلّم عن اليهود كما لم يتكلّم العهد الجديد عن تاريخ الكنيسة. ففي العهدَين تمّ التحدّث عن فعل كلمة الله في التاريخ، وبالتالي نحن نتكلّم عن كلمة الله، فتَتَحدّث عنها، عندما تُصبح أنت المتكلّم عنها. ولتتكلّم عن كلمة الله يجب أن تُصبح أنت كلمة الله. إذًا ارتباطنا بالذين رحلوا، هو وعد الله بالخلاص الذي نحن نصدّقه حتّى لو لم يتحقّق بعد، ولكنّنا نعيشه وكأنّه مُحقّق. وهناك شيء غريب، فتعتقد أنّك حفظت كلمة الله ومحافظ عليها، ولكنْ فعليًّا هي التي تحفظك، وهذا هو سبب فرحك، ولا شيء يمكن أن ينزع منك فرحك إلّا الخطيئة. والإنسان الخاطئ يعتقد أنّ الفرح قد زال، ولكنّه يدخل قلبه يوميًّا. فعليك أن تستفيد من هذه الفرصة، وتستلقي على ذراعَي الله وتطلق صرخة قائلًا: "الآن تُطلق عبدك أيّها السيّد حسب قولك بسلام، فإنّ عَينَيَّ قد أبصرتَا خلاصك الذي أعدته أمام كلّ الشعوب نورًا لاستعداد الأُمم، ومجدًا لشعبك اسرائيل". لم يتغيّر معنى "إسرائيل"، فكلّ شخص يقبل يسوع المسيح رّبًّا ومُخلّصًا هو اسرائيل، وكلّ شخص لا يقبل يسوع المسيح رّبًّا ومُخلّصًا ليس اسرائيل حتّى لو كان يهوديًّا. والله يُقرر من هم شعبه، لذلك لا يُمكنك أن تُغلق بابك، أي باب قلبك وعينِك، وباب فكرك، وبالتالي لا يجب أن تكون مُتعصِّباً، كافراً، رافضاً غيرك، أو ديّاناً لغيرك، والأهم أنّ يبقى باب كنيستك مفتوحًا. فأيّ شخصٍ يمكنه يدخل إلى قلبك ويرى تعزيّة الله فيك. فعندما يرى شخصاً الشعب أمامه مسروراً، مُحِبّاً لبعضه البعض، مُعطياً، خادماً، مُسامحاً، مُتغاضياً عن الأذيّة، سيُسَرُّ جدًّا من هذا الشعب، ويسأل عن سبب فرحهم يُدرك من هو نبع هذا الفرح، ويذهب إليه، ويفرح معه، وبهذا سنفرح جميعنا. آمين.
ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.
تتمة...المرافقة الروحية
عملُ الحِداد
الأب جورج رعد
16/2/2013
ما زالَ مجتمعُنا متمسِّكَاً بعاداتٍ قديمةٍ باليةٍ فيما يخصُّ الحدادَ، بُغيةَ التَّعبيرِ عَنْ خسارةِ عزيزٍ، كارتداءِ اللَّونِ الأسودِ والامتناعِ عَنْ مُشاهدةِ التِّلفازِ والسَّهرِ وحرمانِ النَّفسِ مِنَ الأطعمةِ المــُستَطابَةِ وتعذيبِ الذَّاتِ بهذهِ الطُّرقِ وردَّاتِ الفعلِ، التي هيَ في الأصلِ عاداتٌ يهوديَّةٌ لا تُصيبُ جوهرَ الإيمانِ، بل تعني أنَّنالَمْ نَرتقِ معَ المسيحِ إلى العهدِ الجديد.
فالإنسانُ هوَ الكائنُ الوحيدُ بينَ كُلِّ كائناتِ الأرضِ الذي يعرفُ أنَّهُ سَيموتُ، وهوَ الوحيدُ الذي يعرفُ أنَّهُ موجودٌ، وأنَّهُ ذو ماضٍ وَحاضرٍ وَمستقبلٍ، لذلكَ يجبُ أَنْ يعرف أنَّ الخسارةَ هيَ انسلاخٌ، وكلُّ انسلاخٍ بحسَبِ علمِ النَّفسِ يُؤدِّي إلى ولادةِ حياةٍ. والانسلاخ هوَ نتيجةُ محبَّةٍ، فالأمُّ إِنْ لَمْ تَنسلخْ عَنِ الطِّفلِ الذي في أحشائها يموت. و في الحُبِّ يجبُ أَنْ يكونَ هناكَ انسلاخٌ و بُعدٌ لأَنَّ الذَّوبانَ يَقضِي على الحُبّ. الانسلاخُ هوَ الطَّريقةُ الوحيدةُ للدُّخولِ في سرِّ حُبِّ الله. نحنُ نحزَنُ ولكنَّ حُزنَنا ليسَ ككلّ النَّاسِ وليسَ بلا رجاءٍ. لذلكَ فإنَّ فترةَ ما يُسَمَّى بالحدادِ يجبُ أَنْ تَكونَ مَبنيَّةً على أُسسٍ روحيَّةٍ وليسَ على مجرَّدِ تصرُّفاتٍ خارجيَّةٍ. فالمسيحيون الأوائلَ كانوا يَلبَسُونَ الأبيضَ علامةً للفرحِ وَالانتصارِ وَالقيامةِ، والأسودَ علامةً لانتصارِ الموتِ -" أينَ شوكَتُكَ يا موتُ وأينَ غلبَتُكَ يا جَحيمُ"، "شوكةُ الموتِ انكسَرَتْ، وأبوابُ الجَحيمِ أُغلِقَت"- لذلكَ لمْ يَعدْ هناكَ مِنْ جَحيمٍ.
فما الأَسَودُ إلَّا دليلٌ على أنَّنا لَمْ ندخلْ حقيقيَّاً إلى سرِّ الرَّجاءِ المسيحيِّ، أو على التزامِنا بالتقاليد لأجلِ المجتمعِ الذي حولِنا، إذْ لا نمتلكُ الجرأة لنقولَ "أنا إنسانٌ قياميٌّ وأتحدّى بإيمانٍ". " مَنْ يخجلُ بي أمامَ النَّاسِ أخجلُ بهِ أمامَ أبي الذي في السَّماءِ". فالمسيح أدخَلَنا في الرَّجاءِ، "لا تضطَّربُ قلوبُكُم أنتم تؤمنونَ باللهِ فآمنوا بي أيضاً"، "أنا ذاهبٌ لبيتِ أبي لأُعِدَّ لكُم في بيتِ أبي منازلَ كثيرةً ومتى أعددْتُ لكُم مكاناً عُدْتُ لآخذَكُم إليَّ لتكونوا أنتُم حيثُ أكونُ أنا". هذا هو فرحُنا و هذا هوَ رجاؤُنا، فيجبُ أنْ نأخذَ الموضوعَ بمعناهُ الروحيِّ وليسَ بمعنى الحزنِ والألمِ لأنَّ اللهَ ضدَّ الألم.
إنَّ مرحلةَ الحدادِ هيَ دعوةٌ لكلٍّ منَّا لتخطِّي هذا الحدثَ الأساسيَّ والمفصليَّ عندما نخسرُ أحبَّاءَنا ولنتعلَّم كيفَ يستطيعُ الإنسانُ أن يتحمَّلَ هذهِ الخسارةَ في حياتِه. مِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ يجبُ أنْ نعرِفَ بأنَّ الموتَ جزءٌ أساسيٌّ مِنَ الحياةِ لا نستطيعُ أن نهرُبَ منهُ أبداً. إنَّهُ جزءٌ أساسيٌّ من الحياةِ بشريَّاً، أمَّا بالنَّسبةِ لنا فهوَ العبورُ أي الفِصح، ونحنُ ننتظِرُ هذا العبور. فما نسمِّيهِ موتٌ على المستوى البشريِّ هوَ على المستوى الإيمانيِّ فصحٌ وعبورٌ إلى حيثُ لا وجعَ ولا حزنَ ولا تنهُّدَ، بل حياةٌ لن تفنى، وما أعدَّهُ اللهُ لنا لا يخطر ببالٍ، إذلم تسمعْ بهِ أذنٌ ولم تَرَهُ عينٌ.
على الإنسانِ مِنَّا أنْ يكونَ مستعدَّاً بطريقةٍ صحيحةٍ لهذا الحدثِ الذي يحصلُ في حياتنا، إِذْ لا يمكنُ أن ننسى أحبَّاءَنا، ولكنهم يتحوَّلونَ إلى ذكرى. إنَّ نداءَنا "أُذكرني في ملكوتِكَ" يعني أن نكونَ في حالةِ لقاءٍ دائمٍ معَ اللهِ، وفي فترةِ الحدادِ يجبُ أن نكونَ في لقاءٍ معَ الله.
"أنتُم لا تستطيعونَ شيئاً مِنْ دوني" يقولُ الرَّبُّ يسوعُ.
إنَّ إيمانَنا مبنيٌّ على هذا اللِّقاءِ الدَّائمِ مَعَ يسوعَ المسيحِ، لذلكَ يقولُ القدِّيسُ بولسَ: "لستُ أنا بعدُ أحيا بلِ المسيحُ الذي يحيا فيَّا". المؤمنُ يجبُ أن يقولَ هكذا كالقدِّيس بولس؛ إِنْ أَحيا.. فبالمسيح، وإِنْ أَمُتْ.. فبالمسيحِ أيضاً.
لذلكَ فإنَّ الألمَ الذي نُصابُ بِهِ نتيجةَ فُقدانِ الأشخاصِ الذيَن نحبُّ، يبدأُ بالانحسارِ في فترةِ الحدادِ إلى أن يزولَ، إذْ يجبُ أن يزولَ. إِنْ لم يَزُلْ الألمُ فعلَينا أَنْ ندركَ أنَّهُ ما زالَ أمامَنا مسيرةٌ طويلةٌ في فترةِ الحدادِ.
قدْ تتطلَّبُ فترةُ الحدادِ دعماً روحياً من أشخاصٍ مختصّين، ويجبُ أنْ ندعَمَ أهلَ المريضِ، وليس المريضُ فقط. فالأهلُ الذينَ سيخسَرُونَ بعدَ فترةٍ قصيرةٍ إنساناً موجوداً بينَهُم. انطلاقاً مِنْ هذا الدَّعمِ الرُّوحيِّ ندعمُ محيطَ المريضِ، وهؤلاء الأشخاص.
فترةُ الحدادِ لا تقتصر فقط على الموتِ. بالحقيقةِ الحدادُ يُعاش بكثيرٍ مِنَ المراحلِ في حياتِنا، فتَغيُّرُ صورةُ إنسانٍ "كاملٍ" في نظرِنا يتطلَّبُ حداداً. والإجهاضُ والطَّلاقُ وبُطلانُ الزَّواجِ وفُقدانُ الثِّقةِ بشخصٍ أو خسارةُ علاقةِ حُبٍّ، جميعُها تتطلّب حداداً.
تُقسم فترةُ الحدادِ إلى خمسة مراحلٍ. الأولى هيَ مرحلةُ ما يُسمَّى بالصَّدمَةِ. وهيَ ما نحياهُ عندما نُبَلَّغُ بفقدانِ شخصٍ عزيزٍ، أو بأنَّنَا مُصابون بمرضٍ خطيرٍ، فأوّل ردَّةِ فعلٍ للإنسانِ طبيعيَّاً هي الصَّدمةُ والرفض.
المرحلةُ الثَّانيةُ هي الغضبُ والنَّقمةُ، أوّلاً على الله وخاصَّةً إذا كُنَّا مؤمنين، فنتّهمه ونُذَكِّرُهُ بكلِّ الأعمالِ الحَسَنَةِ التي قُمْنا بها، والصَّلَواتِ، ونسأًلُهُ: "أَهكَذا تَضرِبُني؟ أَبهذِهِ الضَّربة؟". ما يجبُ أنْ نَعرِفَهُ في هذهِ الحالةِ أنَّ اللهَ أحبّنا، وأنَّهُ لا يضرِبُ ولا يعاقبُ ولا يُرسلُ الموتَ أو الأمراضَ. فمقولةُ أنَّ "الإنسانَ إِنْ أخطأَ، مَرِضَ" قديمة ٌومغلوطةٌ ولا علاقَةَ لها بالمسيحِ، لأنَّهُ نفاها عندمَا سُئِلَ عن الأعمى "مَنْ أخطأَ أَهوَ أَمْ أبواهُ؟" فأجابَ يسوعُ بأنَّهُ "لا هوُ أَخطأَ ولا أَبواهُ". لا تُوجد علاقةٌ بينَ الخطيئةِ والمرضِ، كلُّنا أخطَأنا، وهناكَ مَنْ يحيا في الخطيئةِ ولمْ يمرضْ، كما هناكَ من يعيشُ بالبرِّ ويعاني أشدَّ الأمراضِ.
ثالثُ مرحلةٍ هيَ التَّفاوضُ مَعَ اللهِ. أَيْ أنَّنا نطلُبُ أن يُعيدَ لنا الصِّحةَ أو الفقيدَ كي نعودَ لأعمالِنا الحسنة. وتتَّضحُ هذهِ المرحلةُ من خلالِ التَّعابيرِ المــُستخدمةِ أثناءَ وداعِ الأشخاصِ الرَّاقدين، مثلاً عندما نقولُ "يا ربُّ أنهِضهُ الآنَ، فالحياةُ تليقُ بِهِ"، وما هنالك من كلماتٍ ليعيدَهُ اللهُ لنا، وهنا تحصلُ المزايدةُ مَعَ الله. أو أنْ نطلبَ الشفاءَ من الأمراضِ مقابلَ عملِ ما يتطلّبُه التَّديُّنُ مِنَّا بشكلٍ طبيعيٍّ، كزيارات الحجّ للقدَّيسينَ، أو تقدماتٍ للفقراءِ وغيرها. وهذهِ كلِّها تدخلُ ضمنَ المفاوضاتِ معَ الرَّبِّ " إنْ لم تلبِّ طلباتي فلن أعودَ للصَّلاةِ، وسأقطَعُ علاقتي بكَ وبالكنيسةِ"، وكأنَّ اللهَ هوَ المسؤولُ عن هذا الحزنِ.
المرحلةُ الرَّبعةُ هي الانهيارُ، أو ما يُسَمَّى بالإنهيار العصبيِّ، والذي يصابُ بهِ الإنسانُ، وتتفاوتُ حدَّتُهُ من شخصٍ لآخرَ. فهناكَ أشخاصٌ يعانونَ الانهيارَ لأسابيعَ وأشهرَ وحتَّى سنواتٍ وأحياناً مدى الحياةِ، وقد تنتهي فترةُ الحدادِ عمليَّاً، إلَّا أنَّها تستمرُّ روحيَّاً.
أمَّا المرحلةُ الخامسةُ والأخيرةُ فهيَ المرحلةُ الأهمُّ، والتي بها نُدرك بعدَ كلِّ المراحلِ أنْ لا شيءَ يتغيَّر، فإمَّا نقبلُ الواقِعَ الذي نحنُ فيهِ ونواجههُ، أو نستسلمُ. أثبتَ العلمُ تأثيرَ الحالَةِ النَّفسيَّةِ على جهازِ المناعةِ لدى الإنسانِ. فهناك أُناسٌ يبقى المرضُ منتشرٌ في أجسادِهم و يبقَونَ على قيدِ الحياةِ نتيجةَ رفضِهِم للواقعِ، وهناكَ أشخاصٌ ينتشرُ المرضُ في جسدِهِم بشكلٍ سريعٍ وينتقلُونَ من هذهِ الحياةِ بسرعةٍ لأنَّهم استسلموا. ويجبُ في هذهِ المرحلةِ الأخيرةِ أنْ يشعرَ الإنسانُ المحزونُ أنَّهُ أصبَحَ بحالٍ أفضلَ.
ليسَ بالضَّرورةِ أن يمرَّ الإنسانُ بهذهِ المراحلِ جميعِها، أو أن تكونَ بهذا التسلسل، فقد يصلُ المرحلةَ الأخيرةَ في آخر حياتِهِ. فبعضُ النَّاسِ يعانونَ الصَّدمةَ دونَ غضبٍ، ويبدأون بالاستسلام.
نحنُ في عيدِ الفصحِ نقولُ: "قامَ المسيحُ من بينِ الأمواتِ ووطئَ الموتَ بالموتِ وَوهبَ الحياةَ للَّذينَ في القبورِ"، ولكنَّ السُّؤال يبقى؛ هل نصدِّقُ كلمةً ممَّا نقولُ؟ مَنْ يؤكِّدُ لنا بأنَّ المسيحَ قامَ؟ مَنْ الذي ذهبَ وعادَ ليُخبِرَنا بأنَّه وطئَ الموتَ بالموتِ؟ أي أنَّهُ لمْ يعُدْ للموتِ كلمةٌ أخيرةٌ، ويصلُ الإنسانُ لمرحلةٍ يقولُ بأنَّ اللهَ هو من أرادَ هذا، وهوَ الذي كتبَ ما كُتِبَ لنا في حياتِنا، وإلى ما هنالكَ من تعابير.
وفي كلِّ حياتِنا نتكلَّمُ عن القيامةِ، ونذكُرُ في قانونِ الإيمانِ بأنَّنا "نترجَّى قيامةَ الموتى والحياةَ في الدَّهرِ الآتي". ماذا يعني لنا التَّرجِّي بقيامةِ الأمواتِ؟ أهذا أملٌ أم رجاءٌ؟ الأملُ يمكنُ أن يتحقَّقَ، بينما الرَّجاءُ هو الإيمانُ الأكيدُ. نحنُ نترجَّى أي نحنُ نؤمنُ إيماناً أكيداً بأنّه هناكَ قيامةٌ للأمواتِ وهناكَ حياةٌ أبديَّةٌ.
مؤسفٌ ما نسمعُهُ من المسيحيِّينَ من أفكارٍ، فبعدَ ألفَي سنةٍ هناكَ أشخاصٌ يدَّعونَ المسيحيَّةَ ولا يؤمنونَ بالقيامةِ، أو بالحياةِ الأبديَّةِ. لا يؤمنونَ بقيامةِ الرَّبِّ يسوع، لذلكَ فإنَّ الكنيسةَ واضحةٌ جدَّاً من هذه النَّاحية. الكنيسةُ تُوَدِّعُ أبناءَها بفرحٍ كبيرٍ. الكنيسةُ المشرقيَّةُ تُصلِّي صلواتِ الفِصحِ وأَحَدِ القيامةِ في الجنازةِ.
يجبُ أن نعرِفَ كيفَ نعيشُ مرحلةَ الحداد. جميعُنا مشروعُ حدادٍ ورقادٍ وألمٍ. فتعزيتُنا لا يجبُ أن تكونَ فارغةً من الرُّوح. في الوقتِ الذي نمتلكُ فيه الرجاءَ الكاملَ لنقولَ "المسيحُ قامَ - حقَّاً قامَ"، لا يليقُ بنا القدَّاسُ إذا كنَّا مسيحيِّينَ وغير مؤمنينَ بالقيامة. يجبُ أن ننظرَ إلى المسيحِ وكيفَ واجهَ الموتَ، لِنواجهَهُ نحن أيضاً، ونستمعَ إلى آخرِ سبعِ كلماتٍ قالها يسوعُ على الصَّليبِ؛ ثلاثةٌ منها قبلَ أن تُظلِمَ الشَّمسُ، وَواحدةٌ أثناءَ الظَّلامِ والثلاثُ الأخيرةُ بعدَ الِظَّلامِ. إنَّهُ موضوعٌ روحيٌّ متكاملٌ.
نحنُ نرى مواجهةَ المسيحِ للموتِ مواجهةً جبَّارةً، وعندما نتكلَّمُ عن المسيحِ ومواجهةِ الموتِ نتكلّمُ عن المسيحِ الإنسانِ الكاملِ الذي يشعرُ وَيتعبُ وَيعطشُ وَيجوعُ وَيفرحُ وَيحزنُ، وهوَ الذي على الصَّليبِ كانَ يقولُ الكلماتِ من مُنطَلَقٍ إنسانيٍّ بشريٍّ، وليسَ من مُنطَلَقٍ إلهيٍّ؛ "بينَ يديكَ أستودعُ روحي"، "ولتكُنْ مشيئَتُكَ"، "لقدْ تمَّ"، "أنا عطشانٌ" و"اللَّيلةَ تكونُ معي في الفردوسِ" لِلِصِّ اليمينِ، والأهمُّ من هذا كلِّهِ عندما قال "اغفرْ لهم يا أبتاهُ لأنَّهم لا يعرفونَ ماذا يفعلونَ".
المصلوبُ يموتُ اختناقاً على الصَّليبِ، ولا يستطيعُ التَّكلُّمَ حتى بصعوبةٍ كبيرةٍ، لأنَّهُ بحاجةٍ لكلِّ نفسٍ، ولكنَّ يسوعَ الإنسانَ صرخَ عن الصًّليبِ: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟". إنَّهُ لعملٌ جبَّارٌ لا أحدَ يستطيعُهُ. علينا أن نقفَ أمامَ الموتِ بنفسِ الطَّريقةِ التي وقفَ بها يسوعُ. ويجبُ أنْ نعرفَ أنَّهُ لا سلطانَ للموتِ عليهِ؛ "أنا قد غلبتُ العالمَ"، "وكلُّ من آمنَ بي وإنْ ماتَ فسيحيا".
نقولُ "اذكُرْ يا إنسانُ أنَّكَ من التُّرابِ وإلى التُّرابِ تَعودُ" لا نعرفُ من أينَ أتَت هذهِ الآيةُ، نحنُ لم نأتي من ترابٍ، بل خرَجنَا من فيضِ حُبِّ اللهِ. اللهُ فاضَ حُبَّاً كاملاً على الخلقِ، وَأعظمُ ما في هذا الخلقِ هو الإنسانُ، ولن نذهبَ إلى التُّرابِ بل سنعملُ لنلتقيَ بالله.
"إنَّنا للهِ وإنَّنا إليهِ راجعونَ" هذا إيمانُنا، فاذكُر أنَّكَ منَ اللهِ وإلى اللهِ تعودُ.
فمواجهةُ الموتِ الحقيقيِّ هي عمليةُ الدُّخولِ بحالةٍ جديدةٍ، بحالةٍ إيمانيَّةٍ.
كلُّ تعلُّقٍ يُسبِّبُ ألماً. فالحبُّ ينطوي على ألمٍ، إلّا أنَّ الحُبَّ ذاتَهُ هو علاجُ هذا الألم. هناكَ أمرٌ أساسيٌّ لم نعتدْ أن نحياهُ، وهوَ ما يُشوِّه إلى حدٍّ ما إيمانَنا، وقدِ اختصرَهُ جُبران خليل جبران عندما سُئِلَ عن الحبِّ والزَّواجِ بقولِهِ: "وُلدتُما معاً وتظلَّانِ معاً". أي أنَّ الحُبَّ ديمومةٌ وولادةٌ جديدةٌ. وينهي العبارةَ بقولهِ "ارقصا فرحَين، غنِّيا فرحَين" أي أنَّ الحُبَّ هو فرحُ الحياةِ. "جئتُ لتكونَ لهمُ الحياةُ، لتكونَ لهم بوفرةٍ"، اللهُ جاءَ ليزرَعَ حباً وسعادةً فقط، وليسَ ألماً وعذاباً وقهراً.
أمَّا أعظمُ ما في نصِّ جبرانَ فهيَ عبارةُ "إنَّما اتركا بينكُما بعضَ فسحاتٍ لترقصَ فيها رياحُ السَّماوات"، أي أنَّنا لا يجبُ أن نتعلَّقَ كثيراً بمن نحبُّ من النَّاسِ، بل يجبُ أن نتركَ بيننا مسافةً، إذ لا نعرفُ متى نفقدُ أحدَهُم. والله لا يقبلُ أن نذوَب فيه دائماً، فيردّنا إلى الوراءِ ويترُكُنا على مسافةٍ منه لنتمكّنَ من رؤيته بوضوحٍ، ويتمكّنَ هو من أن يرانا.
نحنُ كُنَّا في رَحِمِ اللهِ، ولم نكنْ نراهُ، كما الطِّفلُ في أحشاءِ أمِّهِ لا يراها ولا يعرفها، لكن عندما يخرجُ إلى الحياة ينسلخ عنها فيتمكَّنُ من معرفَتِها.
لذلك فالوصفةُ النَّاجحةُ في تخطيّ كلِّ أزماتِ حياتِنا تُختصرُ بكلمَتَين؛"الحبُّ المجانيُّ". لا نستطيعُ تخطِّي فراقَ الأشخاصِ والانسلاخَ عنهم، مثل الطَّلاقِ أو فشلِ الحبِّ، وبنهايةِ هذهِ المراحلِ علينا أن نتعلَّمَ الاستعدادَ للمواجهةِ. فالصَّلاةُ هي استعدادٌ لتحمُّلِ هذه النِّعمةُ التي أعطانيَ الرَّبُّ في كلِّ لحظةٍ.
ملاحظة : دوّنَت المحاضرة من قبلنا بتصرف.
تتمة...حقيقة الموت...صنيعة الانسان
الأب نايف سمعان البولسّي
4/2/2013
تأمل وتوجيه او توضيح يعتبر كمقدمة...
ورد في رسالة يعقوب (5/14-15)"هل فيكم مريض فليَدعُ كهنة الكنيسة وليصلّوا عليه، ويمسحوه بالزيت باسم الربّ. فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والرب ينهضه، وإن كان قد اقترف خطايا تغفر له ". كل إنسان مريض، مؤمن، يحتاج للجسم الروحيّ في الكنيسة، الجسم الكهنوتيّ، لكي يمده بالاسرار التي من خلالها ينال شفاءه بحسب إيمانه، وهذا العمل يدل على مدى العلاقة الطيبة، والتواصل الضروري، بين أعضاء الكنيسة الأصحاء منهم والمرضى، فإن الرب يسوع يسمع صلاتنا فيعطي كلاًّ منا ماهو لخلاصه وحياته الأبدية.
عمل الكنيسة: الكنيسة"الاكليروس" تمد الانسان المريض بالأسرار الالهية لتحييه نفساً وجسداً ، كلٌّ بحسب إيمانه، فهذا عمل الكنيسة على الأرض دون سواه ، إذ ليس من واجب الكاهن أن يقدم للانسان اللباس أو الطعام أو الشراب وماشابه ذلك، فهذا إنما هو دور العلمانيين الذين يشكّلون مع الاكليروس جسم الكنيسة الواحد، فأنتم تساعدون الانسان بما هو مادي ارضي ولو كانت التقدمة من خلال الكاهن والاكليروس يساعدون بماهو إلهيّ وباتحاد العملين معاً نشكّل صليباً هو طريقٌ ووسيلة خلاصنا.
سؤال مطروح : كيف واجه السيد المسيح الموت عندما وصل إليه؟ قال السيد المسيح قبل آلامه: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هذِهِ السَّاعَةِ؟" (يوحنا 27:12). بحسب القديس يوحنا الدمشقي، يعبّر المسيح هنا عن خوف في مواجهة آلامه وموته. ولتجنّب سوء التفسير، علينا أن نتذكر أن القديس يوحنا الدمشقي يميّز بين الخوف الطبيعي والخوف الفائق الطبيعة. فالخوف الطبيعي من الموت سببه وجود ارتباط بين النفس والجسد، وبالتالي الموت الذي به تنفصل النفس عن الجسد ليس حدثاً طبيعياً. لهذا عندما تتهيأ النفس لترك الجسد من الطبيعي جداً أن تحسّ بكرب عميق وحزن. يأتي الخوف غير الطبيعي ، من عدم الإيمان وجهل ساعة الموت. بما أن المسيح اتّخذ كل الأهواء غير المعابة، وخاصة لأنّه اتّخذ جسداً قابلاً للتجربة والفناء، لهذا خاف بشكل طبيعي. فالخوف الذي أظهره المسيح كان طبيعياً وليس فائق الطبيعة. وهذه لمواقف ،من قِبل المسيح، ليست ملزِمة بعملها بل طوعية، أي أنّه هو يقوم بها. يقول القديس أثناسيوس الكبير مفسّراً "الآن نفسي قد اضطربت" بأنّ عبارة "الآن" تعني أن مشيئته الإلهية أذعنت " خضعت "لطبيعته البشرية في خوف الموت.
بحسب القديس كيرللس الإسكندري، خوف المسيح من آلامه أظهر أنّه إنسان حقيقي، وبأنّه اتّخذ طبيعته الحقيقية من العذراء. ولكن بما أنّ كل طبيعة في المسيح كانت تعمل في شركة مع الأخرى، لهذا خاف كإنسان من الموت لكنّه كإله حوّل الخوف إلى جرأة. لهذا فإنّ المسيح بالسلطة التي لديه دعا الموت أن يأتي، سمح له بالوجود ، فكان هو الداء ولكن له الدواء ..
صلاة الموتى : " لماذا نصلي من اجل الموتى"؟ عندما ينتقل الانسان المؤمن الى حضرة الله، نصلي من أجله، ليس فقط ليستحق المثول أمام الله أو لينال المغفرة من الله فحسب، إنما لكي يتشفّع هو، الحاضر أمامه ،من أجلنا لنعيش على الأرض بسلام ورضى الله، فلا نقولنّ إن الصلاة للأموات لانفع لها، إنها تمد الجميع ببركات الله ورحماته أحياءً كنا أم أمواتاً. فصلاتنا تريحهم، وراحتهم، تتشفع لنا، وهذا كل الكمال بالتواصل... والصلاة هذه، هي الطريق الأكمل للتحدث مع من نحبّ من إخوتنا الراقدين ، فلاينقطع أيُّ تيار تواصليّ بيننا، ولا يمكن لخط الاتصال أن يشوّشَ
علينا، كما يفعل الانترنيت أو الخليوي أو أية أداة اتصال أرضية ، كل منا يصلي بطريقته ، وكما يشاء ، والرب سميع مجيب وكفيل بخلاصنا لأننا أولاده
.
من هنا، ينبغي علينا ألاّ نهيّء أنفسنا جسدياً باللباس الفاخر والطعام الهنيّ والصحة الجيدة كي ننال خلاصنا ، فالله في سماواته لاينظر الى مانلبسه من ثياب فاخرة او من صحة جيدة او مواهب عظيمة أو ....إنما ينظر الى ماامتلكناه في حياتنا من أعمال صالحة، ومالبسناه من نقاء القلب وصفاء الضمير و... فالانسان المريض جسدياً قد يخلص اكثر ممن لديه جسداً جميلا ولكن نفسه مريضة بالتمسك بما لا نفع له ...هذا كله يكلّفنا الكثير من المتاعب والتضحيات والإماتات لنحصل على وعد الله ، وربما هذه التضحيات والمشقات والمتاعب الأرضية، هي جزء من عقابنا لإنسانيتنا" بعرق جبينك تأكل خبزك" التي اختارت هي بنفسها تأليه ذاتها، فابتعدت عن الله ، وخلقت لنفسها عالماً غريباً لم يخلقه الله تعالى، ألا وهو عالم الموت، لأن الله ،كما خاطب موسى هو :" إله أحياء وليس إله أموات" مرقس12/27 .
المرافقةُ الرُّوحيَّة
المسيح في حياة المتالم
الأب جورج رعد
19/1/2013
باتت المرافقةُ الرُّوحيَّةُ موضوعاً عالميّاً، ومحطَّ اهتمامٍ مِنْ قِبَل المستشفياتِ والرَّعايا والأبرشيَّات. فقد تطورّت الأمورُ، وأضحَتِ المرافقةُ من الشُّروطِ الأساسيَّةِ في المستشفياتِ لينالوا علامةَ الجودةِ، فباتوا يَطلُبونَ مرشديَّةً روحيةً للاهتمامِ بالمرافقةِ. إلّا أنَّها لم تتحقَّق إلى الآن بشكلٍ علميٍّ، فليس هناكَ مِنْ كهنةٍ مختصّين بالمرافقةِ الرُّوحيَّةِ، أو متطّوّعينَ، بل هناك نقصٌ بعديدِ الكهنة، والَّذين تُختَصَرُ زيارَتهم بدقائق خمسٍ من الصَّلواتِ وإعطاءِ القربانةِ أي المناولة. والمرافقةُ بالحقيقةِ تستلزمُ وقتاً أطولَ، كما تتطلَّبُ زيارةً مِنَ الكهنةِ والعلمانيِّينَ الملزَمينَ والرُّهبانِ والرَّاهباتِ كي يقوموا بها كما يجب، فعاملُ الوقتِ مهمٌّ جدّاً عندما يدقُّ المرضُ ناقوسَهُ.
ولكن لماذا يزدادُ الطَّلبُ على هذا الموضوع؟! هل لأنَّنا نتألَّمُ أكثرَ من ذي قَبل؟! أم أنَّهُ واقعٌ أو وعيٌ زائدٌ؟ وخاصَّةً أنَّ الكنيسةَ تشدّد على أهميَّةِ كرامةِ الإنسانِ منذُ لحظةِ وجودِهِ إلى أَن يلفظَ أنفاسَهُ الأخيرة.
قديماً لم يكنِ المريض بحاجةٍ إلى المرافقة الرُّوحيةِ، إذ أنَّ أكثرَ من خمسةٍ وتسعينَ بالمئةِ مِنَ المرضى كانوا يموتونَ على فراشِهم وفي بيوتهم. فيتكفّلِ المحيطُ العائليُّ بمساعدةِ المريضِ، فلا يشعرْ بهذه الحاجة الملحَّةَ لوجودِ مرافقةٍ روحيَّةٍ، إذ يحاطُ بأهلِ بيتهِ كالزَّوجةِ أو الزَّوجِ والأهلِ والأولادِ والأصدقاءِ والجيران، فيحصلَ بطريقةٍ عفويَّةٍ على الدَّعمِ المطلوبِ ولا يعود بحاجةٍ إلى المرافقة. أمَّا اليوم فـخمسةٌ وتسعونَ بالمئةِ مِنَ المحتضرينَ يموتونَ في المستشفيات، أي أنَّهم باتوا بحاجة لهذه المرافقة. إِذْ فقدَتِ الممرِّضاتُ والممرِّضينَ عموماً الشُّعورَ بالإنسانِ المريضِ، لأنَّهم باتوا يعتبرونَه مجرَّدَ حالةٍ أو رقمَ غرفةٍ، فنحنُ اليومَ نعيشُ بزمنِ الأرقامِ في جميعِ المجالاتِ، والأرقامُ لا تعبِّرُ عن جوهَرِ الإنسانِ، بل تُفقِدُهُ هويَّتهُ. ما دامَ الإنسانُ يدرِكُ أنَّهُ سيموتُ، فلَنْ يرتاحَ أو يهنأَ لهُ عيشٌ. والتَّسمياتُ التي نطلِقُها تدلُّ على خوفِ الإنسانِ مِنَ الموت. أمَّا المؤمنُ فلا يَعُدْ خائفاً مِنَ الموتِ، بل حتَّى لا يسمِّيهِ موتاً.
"أينَ شوكتُكَ يا موتُ؟ وأينً غلَبَتُكَ يا جحيمُ؟" "شوكةُ الموتِ انكسرَت وأبوابُ الجَحيمِ أُغلِقَت."
يقولُ القدِّيسُ بولسَ: "أيُّها الأخوةُ لا أُحبُّ أَنْ تَجهَلوا ما يختصُّ بالموتِ، ولا تحزَنوا كَمَنْ لا رجاءَ لهم."
فنحنُ المؤمنينَ نؤمنُ بالرقاد، وكلمةُ "رقاد" تعني "فِصْح" بالعبرية أي "فِشح"، ومعناها "عبور". فالإنسانُ يتحاشى استخدامِ كلمةِ "موت"، بل يقولُ "نهايةُ حياةِ الإنسانِ". وهناكَ مِنَ التَّعزياتِ ما تحملُ كلماتٍ فارغةً مِن معناها، فالإنسانُ يمكنه أن يواجِهَ الواقعَ الذي هوَ فيهِ، فكلُّ مُصابٍ بالسرطان يعرِفُ أنَّهُ مريضٌ، وهذا ما أثبتَتْهُ الدِّراسات. مِنْ حَقِّ الإنسانِ أَنْ يعرِفَ وضعَهُ ليُنظِّمَ حَيَاتَهُ. فهذا جزءٌ مِنَ الدَّعمِ الرُّوحيِّ، إذْ لربَّما هناكَ أمورٌ يجبُ أَنْ تَعرفَها العائلةُ، كأمورِ الأموالِ والديون وغيرها، على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ.
هناكَ أيضاً مشكلةُ التميّيز؛ بينَ المريض والمعافى، بين المسنِّ والشَّابِّ، وحتى بين مريضٍ وآخر. أَأعطى المسيحُ بشارَتَه لأشخاصٍ معيّنين؟ أو لمجتمعٍ معينٍ؟ الإنجيلُ واحدٌ أحدٌ للجميعِ دونَ تمييزٍ.
إنّ مجتمعنا استهلاكيّ إلى حدٍّ كبيرٍ، فبعضُ المرضى لا يستطيعونَ دخولَ المستشفيات بسببِ الفقرِ وارتفاعِ تكاليفِ الطّبابةِ، وكأنَّ الفقيرَ لا حقَّ له بالعيش. لذلك يجبُ علينا أن نسعى على المستوى الإيمانيِّ، فالمؤمنينَ يلومونَ الكنيسةَ، ولكنَّها لا تمتنع عَنْ أداءِ مسؤوليَّاتها تجاهَ الفقراءِ، ويجبُ أيضاً أنْ ندرك أنَّ علينا لومَ الدّولةِ إذْ أنَّ هذا النوع من المسؤوليَّاتِ يقعُ على عاتِقِها وليسَ على عاتِقِ الكنيسة. نعودُ إلى القاعدةِ الذَّهبيَّةِ التي قالها يسوعُ: "افعلُوا للنَّاسِ ما أردتُم أَنْ يفعلَهُ النَّاسُ لكم."
هناكَ فَرقٌ كبيرٌ بينَ المرافقةِ الرُّوحيَّةِ والمرافقةِ الدِّينيَّةِ، والدَّعمِ الرُّوحيِّ والدَّعمِ الدِّينيّ. فالدَّعمُ الرُّوحيُّ يعني عطاءً والتزاماً، وحواراً إنسانياً. فهو يحبُّ الصَّمتَ والإصغاءَ وتركَ المجالِ للمريضِ كي يُعبِّرَ عن شعورِهِ الخاصِّ ومخاوفِهِ وتطلُّعاتِه للبعيدِ، فيسألُ نفسَهُ عن معنى حياتِهِ، ويسعى انطلاقاً من مرضِهِ لإيجادِ مكانٍ جديدٍ لهُ في الحياةِ، ومعنىً جديداً لها.
ما معنى الألمِ؟ الألمُ لا معنى لهُ. إنَّهُ عبثيٌّ، فالأطبَّاءُ مختصُّونَ بإزالة الألمِ، إذ لا يجبُ للإنسان أن يتألَّمَ، لأنَّهُ بألمِهِ يعطي معنىً للألم.
إننا نعاني في المجتمعاتِ بكثرةٍ من عدمِ توفُّرِ توعيةٍ روحيَّةٍ كافيةٍ لدى الأطبَّاءِ والممرِّضينَ، وحتَّى لدى الكهنوتيين. فكهنوتياً، يُؤدَّى فقط سرُّ مسحةِ المرضِ، بِدونِ المرافقةِ. في حينِ أنَّ عمليَّةَ الدَّعمِ الرُّوحيِّ لا تتطلَّبُ فقط كهنةً ورهباناً وراهباتٍ وعلمانيِّينَ، بل أيضاً طبيباً نفسيّاً وآخرَ جسدياً. الأطبَّاءُ يخفِّفونَ الألمَ النَّفسيَّ والجسديَّ، والدَّعمُ الرُّوحيُّ يعمَلُ على إِعادةِ السَّلامِ الدَّاخليِّ إلى المريض.
الإنسانُ هوَ الكائنُ الوحيدُ الذي يعرفُ أنَّهُ سيموتُ، وأنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يَحيَاها يتقدَّمُ خطوةً نحوَ الموتِ على المستوى البشريِّ. أمَّا على المستوى الرُّوحيِّ، فالموتُ هو عمليَّةُ عيشِ الملكوتِ، والدُّخولِ في سرِّ الفصحِ. هذا هوَ العبورُ الحقيقيُّ الذي نحنُ جميعنا بانتظارِهِ. ملاحظة : دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.
"لذلك كونوا انتم أيضاً مُستعدّين" (متى24/44)
"فاسهروا إذاً، لأنّكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة" (متى25/13)
24/10/2011
يقول لنا يسوع المسيح إنّه علينا أن نكون مستعدين للذهاب اليه. وغالباً ما نكون منهمكين في شؤون الدنيا التي تصرفنا عن الاستعداد ليوم الآخرة.
المسيح يلفت نظرنا الى وجوب الاستعداد لمجيئه الأخير، الى ساعة يدعونا اليه لنكون الى جانبه إذا كنّا من الصالحين في هذه الدنيا. ولمّا كنّا لا نعرف في أي وقت سيأتي، نميل ان نشغل ذواتنا بأمور ملحّة ومستعجلة. وهناك الكثير من الأمور الملحّة، لكنها لا تتقدم على الأمور المهمّة: مثلاً الإعداد لمجيء المسيح، وهو أمر لا نشعر دائماً بأنه ملحّ.
يحثنا الرّبّ على السهر، ويشجّعنا على الثبات في الايمان والسهر الدائم على الهوية والرسالة. فالموت حتمي لكل بني البشر، لكنه عبور الى الحياة الجديدة بالمسيح الذي قام من بين الأموات. "فكما انه بآدم يموت الجميع، كذلك في المسيح سيحيا الجميع، هو الذي قام من بين الأموات، وكان باكورة الراقدين". (اكور 15/20و22)
يدعو القديس بولس الرسول في رسالته إلى فيليبي 3/17-4/1 لحسن الاستعداد أو للنهاية الشخصية التي "سيغيّر فيها المسيح مخلّصنا"، عند مجيئه الثاني بالمجد، "جسد هواننا، فيجعله على صورة جسد مجده وفقاً لعمل قدرته"(فيل3/21). اما الاستعداد فيقتضي في الاساس ان ننظر الى الغاية الأخيرة من وجودنا أي "مدينتنا التي في السماوات" (فيل 3/20)، وبطريقة غير مباشرة يدعو الى الاستعداد بتجنّب مسلك الذين "يسلكون كأعداء لصليب المسيح، أولئك الذين إلههم بطنهم، ومجدهم عارهم، وفي امور الأرض همّهم، هؤلاء عاقبتهم الهلاك"(فيل3/11-12)
في ضوء هذا الكلام، يكون الاستعداد للنهاية الشخصية دخولاً دائماً في الشركة مع المسيح، عبر مراحل الحياة على الأرض، لكي تتواصل هذه الشركة عند الموت، "فنكون في اتحاد مع المسيح"(فيل 1/23).
ان الكنيسة تقدّم وسائل الاتحاد بالمسيح: كلمة الانجيل والتقليد الرسولي والتعليم، ونعمة الاسرار والقوانين التي تنظّم حياة المؤمن وتقوده الى خلاص نفسه.
انتظار مجيء الربّ، في نهاية حياتي الشخصية، هو الذي يضيء مسيرتي الوجوديّة، ويدفعني الى المسلك الصالح، والى اتمام الواجب اليومي بحكمة وامانة. كلّ مسؤولية في العائلة والمجتمع والكنيسة هي وكالة من الله، بحسب نظام الخلق، لتوزّع عطاياه لشعبه. بل الحياة الشخصيّة بحدّ ذاتها وكالة لحفظها في بهاء صورة الله، ولجعلها في خدمة الأخوة بما قسم الله لها من "مواهب وخدم وأعمال"، على ما يقول بولس الرسول. ثمة مثلّث لا ينفصم ولا ينقسم هو السيّد أي الله، والوكيل، والجماعة.
هذا السيّد لا يتحكّم ولا يتسلّط، بل يوفّر خيراته لجميع الناس، "الطعام لأهل بيته".
الوكيل هو صاحب ثقة سيّده، وقد جعله وسيطاً بينه وبين أبنائه البشر. لا يسعه إلاّ ان يكون حكيماً وأميناً. الوكيل الحكيم هو الذي ينظر من منظار الله الى مسؤوليّته وواجبه، فيحسن تمييز الحاجات واختيار الوسائل الافضل لتلبيتها. والوكيل الأمين هو الذي يحافظ على وعده الاوّل وديناميته الاولى، تجاه سيّده وواجبه والجماعة ، متخطيّاً تجربة الرتابة وصعوبات الحياة والمسؤولية.
الجماعة هي شعب الله، كلّ انسان أيّاً كان لونه وعرقه ورأيه. إنّه موضوع عناية الله الذي "رتّب كلّ خيرات الدنيا لجميع الناس"، كما تعلّم الكنيسة وآباؤها.
هذا الوكيل الحكيم الأمين، إذا ظلّ في حالة انتظار لسيّده في يوم مجيئه، أي لساعة موته، فلا يسيء استخدام مسؤوليته وطاقاته وعطايا الله له، ينال ثوابه، يوم الدينونة، "فيقيمه سيّده على جميع خيراته"(متى47:24). أمّا اذا استغيب سيّده، وخرج من حالة انتظاره والامانة له، يفاجئه السيّد ويحكم عليه بالهلاك الأبديّ . الوكيل الحكيم والامين، حسب رسالة القدّيس بولس، هو الذي "يسلك في النور". يسهر على مسؤوليته وواجباته، ويصحو أي يظلّ في حالة انتظار دائم لمجيء سيّده، فيعيش في الايمان والرجاء والمحبّة (1 تسا 8:5). فالايمان هو القاعدة التي تنظّم تصرّفاته، والرجاء هو مبدأ الثبات والتقدّم في المسؤولية والواجب، والمحبّة هي الديناميّة التي تدفعه الى الأمام في التفاني والبذل.
"مجيء الرّبّ" المعروف "بساعة الموت" هو مفاجئ، لكنّه حتميّ "يوم الربّ ياتي كالسارق ليلاً. مهما كان من أمر يبقى الموت مكروهاً. ولكن، يجب قبوله بروح التوبة والتكفير، لأنّه "ثمن الخطيئة"، كما يقول بولس الرسول (روم23:6). فلو لم يخطأ الانسان، لما كان عليه أن يموت. الانسان يتألّم من الموت ويحزن. يسوع نفسه بكى لعازر صديقه عندما مات (يو35:11). لكنّ الايمان والرجاء يكشفان لنا وجهاً آخر من الموت. المسيح تحمّل "الخوف من الموت في ضوء ارادة الله ابيه" (مر36:14). مات "ليحرّر كلّ الذين كانوا مدى الحياة خاضعين لعبوديّة الخوف من الموت"(عبرانيين 15:2). إنّ السبيل الأفضل لتخطّي الخوف من الموت هو الاستعداد الدائم له بعيش كلّ لحظة من حياتنا في الحقّ والخير والجمال، وباعتباره مجرّد عبور من هذا العالم لملاقاة الآب بالمسيح في الروح القدس.
رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما (9:12-12) تصف "المحبّة التي سنُدان عليها في مساء الحياة" كما قال القدّيس يوحنا الصليبي.
- هي المحبّة الأخويّة الصادقة التي لا غشّ فيها، والتي تلازم الخير، وتتجنّب الشّر.
- تبادر الآخر بالاكرام، باجتهاد وحرارة، وبروح العبادة لله، وبالرجاء والصلاة.
- تساعد الاخوة في حاجاتهم، وتستضيف الغرباء، وتشارك بروح التضامن المسؤول الفرحين والحزانى.
- تعيش الاتفاق مع الجميع، بتواضع وحكمة. فلا تبادل شرّاً بشرّ، بل تعتني بعمل الخير مع الجميع، وتسالم الجميع، ولا تنتقم من أحد، بل تترك كلّ شيء لحكم الله.
قراءة على ضوء لاهوت الانتظار
زمن الصّليب في الكنيسة المارونية معروف بزمن الانسان في انتظار المسيح، مع اختبار عدم كفاية (insuffisance) الانسان لتحقيق مستقبله بحثاً عن حلّ يقود إلى المسيح. الانتظار هو البحث الجديّ عن حلّ لعدم الكفاية بأمل الوصول إليه. نجد عند الفيلسوف الفرنسيّ blondel في كتابه الشّهير L’action ) سنة 1893) تحليلاً فلسفيّاً لواقع الانتظار الّذي يعبر مراحل هي بمثابة تسع مَوجات: في الأولى يسعى فعل الإنسان إلى تحقيق علاقة متناغمة مع العالم الماديّ؛ في الثانية يبني الإنسان حياته الداخليّة؛ في الثّالثة يبحث عن اكتمال حياته الشخصيّة بحبّ الآخرين، في الرابعة يصبح الحبّ عنده ينبوعاً للحياة العائليّة؛ في الخامسة يعزّز ويغذّي الحياة في جماعة؛ في السادسة يتوق إلى تحقيق جماعة أكثر شموليّة؛ في السابعة يندفع إلى ما وراء آفاق الزمان والعالم، إلى تحقيق القِيَم الخلقيّة؛ في الثامنة يتشوّق دوماً إلى تجاوز حدود المكان والزمان؛ في التاسعة والأخيرة يبلغ الفعل إلى بعده الدينيّ، حيث اللقاء بنعمة المسيح الّذي هي الحلّ.
في كلّ "مرحلة" من المراحل التّسع يصبح فعل الإنسان نبعاً لكمال جديد نسبيّ يظهر في المرحلة اللاحقة، يُغني الحياة، ويبلغ إلى قيَم جديدة، في مسيرة تدريجيّة نحو تحقيق المصير. ولكن قلّما تحقّق أي مرحلة الكمال، فيبقى الإنسان "كائناً غير مكتمل" في كلّ مرحلة وفي المراحل بأجمعها. إنّ اختبار "عدم الاكتمال" و "عدم الكفاية" يصبح مقياس الأصالة والصّدق، ويجعل الإنسان في رحلة حجّ يريد استكشاف عالم جديد، هو بمثابة "الفردوس" الّذي يجيب على رغباته غير المحدّدة. غير أنّه لا يلقى في مسيرته الطويلة إلاّ الصّحراء، ويظلّ في عطش لا يروى: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ" (متّى 5/6).
لن يقع الإنسان، عبر هذا المسعى، في حالة تشاؤم أو يأس، بل هو مدعوّ للانفتاح الدائم على الرّجاء والانتظار، ولو كانت الدعوة قاسية ومؤلمة بسبب عدم الكفاية وعدم الارتواء: "ظمِئَت نفسي إلى الله، إلى الإله الحيّ" (مز42 م 3). وبذلك يجد نفسه مرغماً على اختيار الانتظار: فهو لا يستولي على المستقبل، بل ينتظر حلاً له. إنّه الطّوق إلى "عالم جديد ينبع من قلب المسيح، عالم جديد يصنعه حبّ المسيح".
السهر والترقب:
السهر والتّرقب، عنصران أساسيّان في الحياة الرّوحيّة يُظهران لنا معنى الإيمان المسيحيّ. يعطي الرّب هذا المثل لتلاميذ كان يحترقون رغبة في معرفة "متى يحدث هذا"، "متى يكون دمار الهيكل"، "متى تكون نهاية الأزمنة"، ومتى يكون المجيء الثاني!
هي أسئلة نطرحها نحن أيضاً اليوم، ولكننا لن نحصل إلاّ على هذا المثل كجواب لتساؤلاتنا.
فالإيمان هو جواب من الإنسان على مبادرة إلهيّة. إنّه الدخول في علاقة مع إله بادر الى الإنسان بنعمة مجّانيّة، وأراد أن يجعل منه صديقاً له ويعطيه الحياة. وبالإيمان يجيب الإنسان على هذه الدعوة. الله لا يعطي ضمانات حسيّة ملموسة، بل يعطي مبادرة ويطلب ثقة الإنسان به وقبوله له. منطق الله هو منطق الأب لا منطق التاجر، كالأب يقدّم لنا حبّه، وحنانه، وحمايته، يعدنا بميراثه إن إلتزمنا بمنطقه، يطلب منّا مشاركته حياته. أبونا الإلهيّ قدّم لنا الدخول في علاقة حبّ أبوّي، أعطانا معنى لوجودنا، رفعنا من مستوى الوجود الماديّ المائت، وأفهمنا أن وجودنا يتخطّي الحياة الحيوانيّة الماديّة البحتة. لقد خلقنا ووضع في داخلنا الرغبة بالحياة الأبديّة، ووضع في قلبنا التوق الى ما يتخطّى حدود بعدنا الجسديّ. لقد خلقنا كائناً يسعى الى الحبّ الأبديّ.
إنّ جوابنا لهذه الدعوة لا يمكن أن يكون جواباً عقليّاً مبنيّاً على المنطق وعلى الحسابات، بل على الإيمان. والإيمان بالمنطق المسيحيّ هو ثقة بالله الذّي يدعونا لأن نكون أبناء له، واستسلاماً مطلقاً لمخطّطه ولمشروعه الخلاصيّ في حياة كلّ واحد منّا. الإيمان قد تبدو بهذا المعنى قفزة في المجهول، فالله لا يعطينا الضمانات الحسيّة والمنطقيّة، ولكنّه يعطينا ضمانة الحبّ والثقة. كالطفل بين يدي والده يطلب الله منّا أن نكون: الطفل لا يفكّر في إمكانة سقوطه من بين يديّ والده، لا يتساءل حول مدى قوّة أبيه وكم يمكنه أن يستمرّ في حمله، جلّ ما يفعله الطفل هو الإستسلام لحبّ أبيه، واثق أنّه بين أيدي أمينة، لا يستعمل قوّة المنطق والعقل، بل يستسلم لثقة الحبّ المخلّص.
هكذا هو إيماننا بالله، هو استسلام وجودنا بين يديّ من أحبّنا فخلقنا، ودخل في عهد حبّ معنا، غفر لنا خيانتنا، أعادنا الى صداقته من جديد، أعطانا بدم ابنه الحياة الأبديّة، وفتح لنا طريق الملكوت. وحده الإيمان يمكنه أن يعطينا الضمانات: ضمانة الحبّ لا ضمانات العقل والمنطق.
من هوَ الخادِمُ الأمينُ العاقِل ؟
الأمانة والعقل ميزتان لا بدّ أن يتحلّى بهما كلّ خادم للمسيح، كلّ معمّد: الأمانة هي صفة روحيّة أخلاقيّة، هي الوفاء المطلق للعهد الّذي قدّمه الله والتزمنا به بإرادتنا وبكامل حرّيتنا. الأمانة هي الوفاء لقيم الإنجيل، والعمل على تطبيقها في حياة كلّ يوم وأينما كنّا. دعوتنا هي أن نكون أوفياء لله الّذي أحبّنا في كلّ لحظة من لحظات وجودنا. حياتنا المسيحيّة لا يمكننها أن تتلخّص بساعة يوم الأحد أذهب فيها للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة. انتمائي المسيحيّ لا يمكنه أن يتلخّص بعبارة موجودة على هوّيتي أو في سجلاّت الأحوال الشخصيّة. إنتمائي المسيحيّ هو قناعة يوميّة ودائمة، هي حالتي الدائمة لا بدّ أن ترافقني أينما كنت وفي أي وقت من أوقاتي، فأنا، كخادم أمين، وفيّ لوصايا الرّب في حياته، يجب أن أعلن هذا الإيمان بطريقة عمليّة في كلامي، في أفكاري، في صداقاتي، في تصرّفاتي، في أحاديثي ومشاريعي، في معاملتي للآخرين، في إنسانيّتي، في وقوفي إلى جانب من هو محتاج للمادّة أو للسند أو للرفيق أو للحبّ. حالتي المسيحيّة هي مثل كياني، مثل إنسانيّتي، مثل إسمي، مثل ضميري، ترافقني في كلّ لحظة، وأعلنها بفخر، وأحيا بأمانة لمستلزماتها، ليرى العالم ما معنى الوفاء للإنجيل، وما معنى الصداقة الوفيّة للمسيح الوفيّ الدائم.
والعقل هي صفة ترتبط لا بالبعد الرّوحيّ الأخلاقيّ، بل بالبعد العاقل العقلانيّ الّذي يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات كلّها.
حين قلنا أن الله لا يعطينا الضمانات الحسيّة والمنطقيّة، ولكنّه يعطينا ضمانة الحبّ والثقة، وقلنا أن الإيمان ليس قوّة عقليّة منطقية، فإننّا لم نعنِ أن لا دور لعقلنا في البحث عن معرفة الله. المسيحيّ هو ليس كائن مدعوّ الى خنق عقله، والإيمان ليس مرتبطاً بالمشاعر فقط، وإلا يصبح الإيمان تعصّباً وطائفيّة وإرهاباً وانغلاق. المؤمن، كخادم عاقل، هو مدعوّ لأن يبحث كيف ينمّي معرفته بالرّب أكثر فأكثر، والعقل يقدر أن يحمله الى التقدّم أكثر نحو هذه المعرفة. لا نخدعنّ أنفسنا: لن يكون العقل قادراً أبداً على إستيعاب سرّ الله بأسره، فالمخلوق لا يحدّ خالقه، والإناء لن يقدر على استيعاب سرّ جابله، ولكن العقل هو عطيّة من الله ميّزت الكائن البشريّ، وعلينا أن نضع كلّ أمكانيّاتنا وطاقاتنا، الرّوحيّة طبعاً، والعقليّة أيضاً، في خدمة التعرّف على الله الّذي يدعونا.
وهكذا يصبح الإنتماء الى الله روحيّاً وكيانيّاً، ويصبح مستنيراً بنور العقل، فنقدر أن نميّز بين ما هو حسن وما هو سيء، بين ما يعطينا الخلاص وبين ما يمكنه أن يقودنا الى الهلاك.
خياراتنا بأسرها يجب أن تكون مستنارة بعقلنا المؤمن، فنعرف ماذا نقرأ، وماذا نشاهد، وماذا نختار، وأين نذهب، ومن نعاشر، والى أي جماعات ننتمي. لا بدّ لنا، إن كنّا نريد أن نكون خدّاماً أمينين وعاقلين، أن نعرف التميّيز بين ما يُرضي الله وما لا يرضيه، بين ما يبنينا وما يهدمنا، بين ما يعطينا الخلاص وما يعطينا الهلاك.
بحرّيتنا نختار خدمة الرّب وبحرّيتنا نرفض صداقته، وعلى حرّيتنا أن تتحمّل مسؤوليّتها أمام سيّد البيت حين يعود. فالمشكلة مع هذا الخادم غير الأمين ليس فقط أنّه أساء استعمال خيور سيّده، فاستثمرها للذّته الشخصيّة، ولكن، يقول الرّب، أخذ يضرب الخدّام الآخرين. لقد جعل الإنسان نفسه أعلى من إخوته، وجعلهم عبيداً لرغباته: هي خطيئة الكبرياء وقلّة العدالة، لقد خلق الله البشر متساوين، يتميّزون بكرامة إنسانيّة كونهم أولاد الله، وجعل الخليقة في تصرّفهم ليتعاملوا معها بما يليق بالكرامة المعطاة لهم. الإنسان، بجشعه، قادر على إلحاق الظلم بأخيه الإنسان، والظلم هو خطيئة ضدّ عدل الله. قلّة العدالة هي قتل لمن هم أضعف منّا، وعقاب الله الّذي يتكلّم عنه الإنجيل معبّر جدّاً: فيُمزِّقُهُ تَمزيقًا ويَجعلُ مصيرَهُ معَ المُنافِقينَ. فعل مزّق تعني الإنسان المقسّم الى أجزاء عدّة، هي نتيجة الخطيئة التي تمزّق حياتنا الرّوحيّة وتجعلنا نحيا في حالة من الفصام بين قناعاتنا وما نقوم به، بين ضميرنا الّذي يسمع صوت ربّ البيت ولذّتنا التي تجذبنا الى استغلال غيابه وظلم الآخرين واستعبادهم، هو الإنقسام والتمزّق الّوحي الّذي يقود الإنسان الى الموت الرّوحيّ إن لم يتب. هي دعوة لنا أن لا نكون بين المنافقين: بين الّذين يؤمنون بالله بالعقل أو باللّسان، وهم في الفعل أبعد ما يكون عن درب الإيمان وعن بنّوة الله، هو المنافقون لأنّهم يظنّون أن بخداعهم الآخرين يقدرون أن يخدعوا صوت الله في ضميرهم وشخص المسيح في حياتهم. من يحيا التمزّق بين الإيمان والعمل هو منافق، مصيره الإنفصال عن المسيح لأنّه قد اختار بنفسه هذا الإنفصال، حين اختار أن يحيا في حياته طريق الظلمة والضلال.
" كونوا متيقظين"، هو نداء لنا لنكون على حجم دعوة الله في حياتنا، فنعي أنّ حياتنا لا بدّ أن تكون مرآة تعكس حبّ الله، وأن حضورنا في هذا العالم بين الإخوة هو حضور يخدم نمّو الآخرين ويجذبهم نحو شخص المسيح، وأن الهدف الأخير لوجودنا هو أن نحيا بكلّيتنا كسفراء للسيّد وكوكلاء لكلمته، نحمل إنجيله الى الآخرين، ننطق بكلماته، نحافظ على إخوته وننتظر بشوق وترقّب عودته لنصبح معه شركاء في الحبّ الثالوثيّ، ونرث ملكوت السماوات، لا، بل نحوّل عالمنا هذا الى صورة مسبقة لهذا الملكوت الّذي أعدّه الله للّذين يحبّونه.
إعداد الأباتي سمعان أبو عبدو
مركز جماعة أذكرني في ملكوتك
زوق مكايل، في 24تشرين أول2011
"اليَومَ حَصَلَ الخلاَصُ لهَذا البَيت" (لوقا 9:19
بقلم الأخت دوللي شعيا ر.ل.م
19/11/2012
الصلاة الافتتاحيَّة :
اللهمَّ إفتح أُذُنَيَّ، وقلبي، وعقلي، حتّى أسمعَ كلامَكَ وأفهمَهُ وأعملَ بوصاياكَ يا ربّ. لأنّي غريبٌ في الأرض، فلا تُوارِ وجهَكَ عنّي بل اكشِف عَن عينيَّ، كي أُدرِكَ الحكمةَ المكنونةَ في كتابكَ المقدّس. آمين!
1. قراءة النصّ (لو 19: 1-10)
[وَدَخلَ (يَسُوعُ) أريحَا وأخَذَ يَجْتَازُهَا. فإذَا رَجُلٌ يُدعَى زَكّا وهو رئيسٌ للعشَّارِينَ غَنيٌ قد جاءَ يُحَاوِلُ أن يَرى مَن هُوَ يَسُوع، فَلَم يَستَطِع لِكَثرةِ الزِّحَام، لأنـَّه كان قصيرَ القامَة، فَتَقَدَّمَ مُسرِعًا وَصَعِدَ جُمَّيزَةً ليراه، لأنـَّه أوشَكَ أن يَمُرَّ بِهَا. فلمَّا وَصَلَ يسوع إلى ذلك المَكَان، رَفَعَ طَرفَهُ وقَالَ له: "يا زَكَّا انزِل على عَجَل"، فيجِبُ عليَّ أن أقِيمَ اليومَ فِي بَيتِكَ]. فنَزَلَ على عَجَل وأضافَهُ مَسرُورًا. فلمَّا رأوا ذلكَ قَالُوا كُلُّهم متذمِّرِين: "دَخَلَ منزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ لِيَبِيتَ عِندَهُ!" فَوَقَفَ زَكَّا فقالَ للربّ: "يا رَبّ، هَا إنـِّي أعطي الفقراءَ نِصفَ أموالِي، وإذا كُنتُ قد ظلمتُ أحدًا شيئًا، أردُّهُ عليهِ أربعةَ أضغاف". فَقَالَ يَسُوعُ فيه: "اليومَ حصلَ الخلاصُ لهذا البيت، فهو أيضًا ابنُ إبراهِيم. لأنَّ ابنَ الإنسانِ جاءَ لِيبْحَثَ عَنِ الهَالِكِ فيُخَلِّصَهُ].
2. تأمّل حول النصّ
2. 1 مدينة أريحا
أريحا هي أوّل مدينة دخلها العائدون من مصر والداخلون إلى أرض الميعاد. أريحا مدينة مدمَّرَة ولا خلاص لها (يشوع 1–6 خاصَّة 6: 26). مع يسوع ستحصل على الخلاص. المدينة المدمَّرة سيُعطيها الربّ الحياة بعد أن فقدت كلّ أمل ورجاء بالحياة.
2. 2 دور زكّا
إسم زكّا يعني [الطاهر والنقي]. وهنا نتعجّب كيف يكون هذا العشّار والسارق نقيًّا وهو خاطئ بفعل وظيفته، إذ يسرق الناس ويعطي من حصيلته المسروقة قسمًا للحاكِم الروماني، إذ هو خائنٌ لربّه ولوصاياه وخائنٌ تجاه الشعب، وفي نظرهم هذا الاسم لا يليق به. زكّا معزولاً عن باقي الشعب وانغلق على ذاته، إذ ترفض الجماعة التعامل معه وكان يُحظَّر عليه الدخول إلى الهيكل أو المجمع.
من صفات زكّا أنـّه كان رئيس العشّارين وغنيّ وله هدف واضح: [يُحاول أن يرى من هو يسوع]. ويبدأ سعيه للوصول إلى غايته. ولكنـَّه يصطدم بعائق مزدوج: كثرة الزحام وقصر قامته. لكنـَّه لم يتوقَّف عند أوَّلِ صعوبة. فالذي يسعى للوصول إلى يسوع يعمل المستحيل (لنتذكَّر أصدقاء المخلَّع، والنازفة التي اخترقت الجموع ولمست ثوب يسوع، والخاطئة التي دخلت إلى بيت سمعان ودهنت قدميّ يسوع بالطيب
قام زكّا بمجهودٍ شخصيّ. صعد ليرى يسوع، وإذا بيسوع يرفع نظره ويرى زكّا. يسوع يطال الإنسان حيث هو: على قارعة الطريق أو على جميّزة، فقيرًا كان أم غنيًّا، شحّاذًا أو رئيس عشّارين. لكن في البحث عن يسوع هناك تفسيرَين: أو أنَّ زكَّا يريد أن يرى يسوع بسبب حشريّته، ويسوع يدعوه إلى شيءٍ أعمق؛ أو أنَّ هدف زكّا ليس رؤية يسوع بعين الجسد (طوله، لون شعره، ماذا يرتدي...) وإلاّ لكان قد وصل إلى غايته عند صعوده إلى الجمّيزة وانتهت الرواية. ولكّننا نراه ينزل سريعًا عندما دعاه يسوع لأنّ زكّا يفتّش عن شيء أعمق. ينزل زكّا ويستقبل يسوع فرحًا مسرورًا لأنّ هدفه بدأ يتحقّق. بدأ برؤية يسوع بعينيه والآن يراه بقلبه. وعندما التقى نظرُ كلٍّ منهما، يسوع وزكّا، تمّ اللقاء بين الاثنين (عندما كنتُ أبحثُ عنكَ وأنتَ تبحثُ عنّي التقينا ووجدتُ دعوتي).
يبحث زكّا عن يسوع فيتسلّق الجمّيزة –الأمر غير المناسب في ذلك الوقت، لأنّ شجرة الجميّز كانت تُعتبر نجسة –. فما فعله زكّا هو ضدّ الأنماط الشائعة في المجتمع، ضدّ المنطق البشريّ، ضدّ الطرق المعتادة. هذا يعني أنّ البحث عن الله يتخطّى الاحتفالات التقليديّة، والحشود، والآراء السائدة، يتحدّى التذمّرات ويحاول أن يستعمل كلّ السبل للعثور على ما يحتاجه.
الجمع الذي كان يشكّل حاجزًا بين زكّا ويسوع استاءَ وتذمَّر: [دخل بيت رجل خاطئ ليبيت عنده]. هذا صحيح! لكنّ يسوع دخل بيت الخاطئ لا ليُبقيه خاطئًا بل ليحوّله إلى تائب مكفّر عن خطيئته. خطيئة زكّا رئيس العشّارين معروفة؛ أمّا خطيئة الشعب فهي أنــَّه عندما يُكَوِّن فكرة عن إنسان معيَّن يرفض أن يغيّرها وكأنه يحكم على ذلك الإنسان بأنّه لن يتغيَّر ويحكم على قدرةِ الله التي باستطاعتها أن تجعل الإنسان يتجدّد وأن تخلقه إنسانًا جديدًا.
لو استسلم زكّا إلى أصوات الذين منعوه من التقدّم، لما تمّ اللقاء بينه وبين يسوع. فلو شكّ زكّا بالأمور التي يمكن أن تحدث له، ولو خاف من التغيير والانفتاح على الجديد الذي سوف يعطيه إيّاه يسوع، لما استطاع أن يلتقي به. لو قال زكّا في داخله: [هل يريد يسوع حقّاً أن ينظر إليّ؟ هل يستطيع بالرغم من كثرة الحشود هنا؟ لربما هو يعلم أيَّ نوعٍ من الناس أنا!] لما كنـّا قرأنا هذا الإنجيل اليوم ولا وصل إلينا. لو خَشِيَ زكّا مما يمكن أن يؤدّي به اللقاء بيسوع، أي من تغييرٍ في الحياة، أو ما يمكنه أن يسأله، لتغلّب على رغبته الخوف. لذا رغبة زكّا نابعة من النار المتّقدة في داخله والتي تُشعلها نظرة يسوع له. هذه النظرة جعلته يلتقي بإله الحياة على الرغم من كونه لصّاً غير مُقدَّر في المجتمع. فالبحث عن يسوع هو تحدٍّ وفوز على ما يمكنه العالم أن يقوله عنّي، هو التغلّب على الخوف من الحُكم عليّ، هو تخطّي الشلل الذي قد أتعرّض إليه باتـّباعي للربّ، هو إشعال الرغبة المستمرّة في داخلي، لأنـّي لستُ أنا من يبحث عن الربّ بل هو الذي يبحث عنّي.
كان زكّا قصير القامة [فتقدّم مُسرعاً وصعدَ جميَّزة ليرى يسوع]. إنـّه قصير القامة الروحيّة. لكن قال له يسوع: [إنزل على عجل] لأنـّي أريد أن أراك كما أنت في قِصرِكَ، فلا تحاول أن تتخطّى إمكانيّاتكَ. ولمّا قال له [يجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك]: أي أني لن أرتاح حتى آتيك بالخلاص. أنا لا أتحمل أن أتركك على خطيئتك. هذه توجعني. لن أدعك ترتاح اليها. [عليّ أن أقيم في بيتك]: سأمكث معك ساعات يحلو لي فيها الحديث عن ملكوت الله. وسأتعشى معك. استَضَافَ زكّا يسوع مسروراً مع أنه يعلم أن المواجهة لن تكون سهلة لكونه يعرف وضعه ويعرف موقف يسوع من الخطيئة. لكنّ المعلِّم لطيف يرأف بالخطأة.
كيف كانت توبة زكّا؟ قبل أن يتحدّث عن ماضيه، يتكلّم زكّا عن الحاضر والمستقبل: [ها إنّي أعطي الفقراء نصف أموالي، وإذا ظلمت أحدًا أردّه عليه أربعة أضعاف]. فالندامة الحقيقيَّة تبدأ بالحديث عن المقاصد المستقبليّة ثم تنتقل للندامة عن الماضي وللتكفير عنه.
يأخذ زكا أمام يسوع وكلِّ الحشد مسؤوليَّة رسميَّة كبيرة، وبإرادته الحرَّة، بأن يقرر توزيع نصف أملاكه برحمة وأن يعيد لكل شخصٍ ظلمه أربعة أضعاف ويأخذ هذا القرار لأنه تاب بحضور المسيح إلى بيته. العطاء الذي قدّمه زكا كان فوريّ. لم يقل سأترك أموالي للفقراء من بعد مماتي بل الآن سأعطيهم. بهذا العمل يؤكد لنا بأن التوبة الحقيقة وطلب الغفران لا يمكنهم الانتظار فلا تتأجل للمستقبل بل تتطلب عملي فوري وآني. وبنفس الطريقة علينا إصلاح كل عمل سيء أو ظالم قمنا به أي بشكل فوري.
2. 3 دور يسوع
نلاحظ أن ليسوع طُرقًا مختلفة ليتعامل فيها مع الإنسان، فهو لا يهتمّ بالشكل الخارجي الخدَّاع، فهذه الأمور الخارجيَّة المنظورة كثيراً ما تخدع البشر وتجعلهم يتفاخرون ويتكّبرون، أما بالنسبة ليسوع فهذه تبقى بعيدة عن الاهتمام، لأنه يبحث عن تلك الأشياء الداخلية التي تكشف معدن الإنسان وحقيقته، وهو يهتم بنوعية البشر لا بأعدادهم، لهذا لا يهتم للمظاهر العالمية أو للمقدَّرات البشرية أو التطبيق الحرفي للناموس. وعندما يعترف الإنسان بخطاياه ويطلب الغفران فإن الله لا يحاسبه على ماضيه المغفور، لأن هذا الماضي يُعتَبَر عائق للحصول على غدٍ أفضل، إلا إذا كان سبباً لتوبة لا تنقطع، وبالاعتراف تنفتح للإنسان طرقاً وإمكانيات ليحقق ولادة داخلية جديدة وبه يطلب العفو والغفران بتواضع ليعود لله.
كان حضور يسوع إلى منزل زكا دافعًا ليطلب الأخير الاعتذار وليمارس التواضع والتوبة وليعود لله كابن ضال، هو تمسّك بالفرصة التي أُعطيت له وتجاوز كلَّ ضعفاته البشرية مُعترفًا بأخطائه مُبطلاً ظلمه للناس و بالنتيجة أصبح يرى الآخرين بنظرة مختلفة، ليس كفرصة ليقتنصها وليستغلّها ويتاجر بها إنما ليكونوا سبباً لممارسة الرحمة والمحبة لأنهم بنتيجة معرفته للمسيح وتوبته أصبحوا إخوة له. [فوقف زكا وقال للرب: "ها أنا يا رب أُعطي أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف"] حضور يسوع وتوبة زكا كانا العنصران الكافيان لحدوث التحوُّل عند زكا ولاشتعال النور بداخله نور العدل والحق الغير العقلي.
لم يتخطّ يسوع مجهود زكَّا بل تمّمه: كمّله وأعطاه معناه وأوصله إلى الغاية المنشودة الحسنة. لذلك دعاه للنزول على عجل لأنّ يسوع سيُظهر نفسه لزكّا من خلال دخوله بيته.
لم يقل يسوع لزكّا أيّ شيء عن خطيئته. لكنّ زكّا، بمجرّد وجوده أمام يسوع يرى خطيئته ويعرف أنـَّها العائق الوحيد الذي يمنعه عن رؤية مَن هو يسوع. لذلك كان على زكّا أن يُكفِّر عن خطيئته أوَّلاً ويتوب عنها.
بعد توبة زكا يُعلن يسوع أنّ [الخلاص قد حصل لهذا البيت]. فما هو الخلاص؟ [اليوم،حصل الخلاص لهذا البيت]: زكّا في حضرة يسوع وقد أزال كلّ الحواجز الداخليّة والخارجيّة. فلماذا لا يحصل الخلاص لزكّا الذي آمن (إذ هو ابن إبراهيم أبي المؤمنين)؟
زكّا يسعى ليرى من هو يسوع، فإذا بيسوع يرى زكّا. زكّا يبحث عن يسوع، فإذا بيسوع ابن الإنسان يبحث عن زكّا الهالك ليمنحه الخلاص. زكّا يبحث ليرى مَن هو يسوع، وإذا بيسوع يكشف عن نفسه لزكّا. من هو يسوع؟ هو ابن الإنسان الذي جاء ليبحث عن الهالك ويُخلّصه؛ إنـّه الخلاص.
هناك كلمة تتكرّر مرّتين في نصّ زكّا وهي كلمة [اليوم] (يجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك؛ اليوم حصل الخلاص لهذا البيت). والاثنتان تَرِدَان على لسان يسوع. خلاص الله لا يتأخّر؛ إنـَّه معطى [اليوم] لكلّ من يطلبه.
3. المناجاة
المسيح يدعونا بكلامه: [أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك]. هل يوجد تقدير وإكرام أفضل من هذا؟ للمسيح رغبة دائمة أن يأتي إلى بيتنا!! وأن يبقى بقربنا!! لا ليترك في البيت حزن بل بركة، لا ليترك مشاكل واضطراب بل مع بركته يفتح قلوبنا لنستطيع أن نحب أكثر. يقدم بركةً ومحبةً وخلاصًا كما قدّم لزكّا [اليوم حصل خلاصٌ لهذا البيت] هو يقدِّمُ كلَّ شيءٍ وإنما بالمقابل ينتظر ماذا سيكون جوابنا هل سندعوه أن يدخل بيتنا؟ زكّا أجاب، إذ فتح منزله وأخذ البركة والخلاص، ونحن ماذا سنجيب؟
نحن اجتمعنا الآن باسمكَ، يا ربّ، لأنـّنا نريد أن نراكَ، وأن نسمعكَ، وأن نلتقي بكَ. لقاؤنا ليس مجرّد فضوليّة معرفيّة، إنـّما رغبة عميقة كي نستقبلكَ في بيتنا وفي حياتنا. نظرتَُكَ تكشفُ لنا شقاءنا وخطايانا، ولكنـّها نظرةُ حبٍّ لا توبيخ. فاللقاءُ الحقيقيُّ معكَ لا يتركنا أبداً كما كنّا في السابق. أعطنا أن نجدَ فيكَ وحدَكَ القوَّةَ التي تحوِّلُ حياتَنا. آمين!.
4. المشاهدة
الفقير (قصّة الأعمى؛ لو 18: 35-43) والغنّي (زكّا) على السواء هما بحاجة إلى يسوع. يسوع يُلبّي الحاجة النفسيّة والجسديّة.
في السعي نحو يسوع يكفي على الإنسان أن يخطو خطوة نحو يسوع حتى يجد يسوع يتمّمها له ويقوده خطوة بعد الأخرى في السير وراءه. إرادة الإنسان أساسيّة [الله الذي خلقك بدونك لا يستطيع أن يُخلّصك بدون إرادتك] (القدّيس أغوسطينوس).
لكي ترى يسوع بقلبك عليك مثل زكّا أن تمرّ بتنقية ذاتك تنقية عمليّة.
أنا أبحث عن يسوع، أنتظره؛ ولكن هو الذي يكشف لي عن نفسه وعن هويتّه: هو الخلاص، هو الذي يبحث عنّى ويُخلّصني.
مع يسوع لا شيء يبقى مدمّرًا، لا شيء يبقى دون أمل ورجاء. حتّى المدينة أريحا التي وقفت في وجه شعب الله ستنال الخلاص لأنّها بحثت عن يسوع وتابت توبة حقيقيّة وسألته الرحمة.
يسوع يزرع الرجاء والخلاص حيث نعتبر أنّ كلّ أمل بالحياة قد فُقد.
من وحي إنجيل زكّا نَظرَ الربّ إليّ.كنتُ قصيرًا، لكن ليس قصيرًا جدًا، كي لا ينتبهَ الربّ إليَّ.كنتُ فضوليًّا فقط،
أريد أن أراه، فأعطاني موعدًا، كي أتمكَّن من اللقاء به.لم أكن مستحقًا أن يأتي الربُّ إليَّ ويبحثَ عنّي.
كنتُ مكروهًا لدى الناس، أشعرُ بالحيرةِ والضياع. مع ذلك، كان الربّ قادرًا أن يرى فيَّ،
ذلكَ الخيرَ الذي لم أظنُّ يوماً أني أمتلِكُهُ. نَظرَتـُهُ لمسَتنِي، واللِّقاءُ به حَوَّلَ حياتي...
ألقيت هذه المحاضرة في مركز جماعة أذكرني في ملكوتك، زوق مكايل، السبت 19 تشرين الثاني 2011
تتمة..."رعوية الموت والمرافقة الروحيّة لأهل الفقيد"
الخوري جوزف سلوم
19/2/2011
بحث الأب سلّوم في تلقّي فكرة الموت وممارسة طقوسه، وفي طريقة التّعبير عن وداع الميت، وما فيها من رواسب وثنيّة، تخلو من أيّ بعد روحي، ولا تمتّ إلى المسيحية بصلة.
ثمّ انطلق ممّا يزعج كلاًّ منا عند موت أحدهم:
فمنّا من يبكي لأيّام طويلة أمام المدفن، ومنّا من يذكر مناقب ميته فوق الجثمان، ومنّا، وعلى مستوى تقبّل الخبر، تعلو صيحته، وتبدأ الأقاويل من مثل: " مات فلان "، " لماذا؟ بعدو منيح!"، " ضيعانه !"، " خلص! خلصوا زيتاتو "؛ وكلّها تعابير تستسلم للقدر، بما يعني " هذا ما كُتب لنا "؛ ولكنّها أفكار وتعابير غير مسيحيّة.
إلاّ أنّنا أمام حدث الموت، منّا من يُصدم بالموت- النّهاية، ومنّا من هو أكثر تحضّراً وجهوزيّة، وإيمانا، وشوقاً لملاقاة وجه الله، في الموت-العبور-البداية.
فالموت دعوة لاكتشاف سرّ الحياة الحقيقية والخلاص وقبول كلّ شيء بمشيئته؛ ومن هنا التّمسّك بالاعتبار الأوّل أنّ يسوع سيّد الحياة، وفيه ملء الثّقة لأنّه هو القادر على إقامة الموتى، كما أقام صديقه لعازر، وابن أرملة يائير، تأثّراً منه بدموع الأمّ والأخت. أمّا ذرف دموع الحزن والحرقة على فقدان الميت فواجب من أجل التخفيف من الضّغط النّفسي، فالمسيح بكى لعازر لشدّة ما تأثّر لفقدانه. لكنّ التعبير الوثني، من الزّجل إلى النّدب، والتّظاهر بترتيبات الدّفن المكلفة التي تتداخل فيها المصلحة والسّمسرة والمحسوبيّات والسّياسة، كأين نضع الجثمان، وكم خوري نحضر للمشاركة في رتبة الجناز، وماذا سيُقال عنه، والمفرقعات، واللّباس الأسود وعدم الذّهاب إلى الكنيسة، وعدم المشاركة في مراسيم الأعياد...فمرفوضة لما فيها من عدم رجاء ووثنيّة واستسلام لنهاية الحياة بالموت.
إلاّ أنّ الرّثاء والشّعر برجاء، وشيء من تقدير الميت بالزّهور، وتلاوة الصّلوات قرب الجثمان، والسّهرعلى الجثمان للصّلاة، فهي أمور مطلوبة.
كذلك تُرفض التّعابير الخالية من الرّجاء: " عوض بسلامتك" أي مات هو كي تبقى أنت، و" ان شاء الله تكون خاتمة أحزانك "أي أن تموت أنت اوّلاً فلا تشهد أحزاناً أخرى، ويمكنم أن تُستبدل بتعابير فيها من الإيمان من الرّجاء الشيء الكثير: " المسيح قام "، " رحمه الله ".
وختاماً، من أجل فتح آفاق مسيحيّة جديدة في التّعاطي مع طقوس وداع الميت، اقترح الخوري سلّوم أن نفكّر بعمل رحمة عند انتقال الميت كأن نوجّه الكهنة والنّاس إلى مساعدة الجمعيّات الخيريّة، وإقامة لقاءات صلاة مع أهل الفقيد، من أجل تعزيته مسيحيّاً، مع المحافظة على الخشوع والتّمسّك بالرّجاء، مع ذكر أهل الفقيد في صلواتنا، والعمل على تغيير الذّهنيّة القديمة والتّفكير بنضوج ووعي وتدريب العاملين في شركات دفن الموتى على كيفيّة التّعاطي مع أهل الفقيد.
إنّ مرافقة أهل الفقيد وأقربائه هي أهمّ ما يجب أن يُتدرّب عليه وبخاصّة عند الصّدمة الأولى من حيث تقبّل واقع الموت، كالإرشاد والإصغاء والمتابعة ومشاركتهم اختبار الموت من أجل مساندتهم في تخطّي الموت والحزن، الحزن الخاص بكلّ شخص حتّى الأطفال الذين عليهم التّحضّر لفكرة الغياب الدّائم؛ وتبقى الصّلاة هي العلاج الشّافي الأوّل والأهمّ لكلّ محزون.
ملاحظة : ألقيت هذه امحاضرة في مركزنا الروحي وكُتبت من قبلنا بتصرّف.
المرافقة الروحيّة للمرضى
بأبعادها اللاهوتية والإنسانية والعملية
الأب جورج رعد
12/2/2011
من أصول المرافقة :
- لا يجب إعطاء المريض المحتضر أمل كاذب، فهو عليه أن ينجز أمورا عالقة متعددة قبل مماته وينبغي أن يستعد
للموت (قراءة حياته، إجراء وصيته، إلخ. ) المطلوب قول الحقيقة له، لكن كيفية قول الحقيقة تختلف حسب وضعه
النفسي وأمور أخرى. الطريقة المعتمدة هي بالتدرّج
- إن الدعم الروحي هو على مستوى الإنسان ككل
- المرافقة الروحية ليست عبارة عن مشحة المرضى فقط، ولا تقتصر على جلب الخوري للصلاة رغم أن الصلاة تعطي
سلاما داخلياً. هي تعطى لكل إنسان، هي عملية إصغاء ودخول داخل قلب المريض وفكره وجعله يفهم أنه لا
زال كيانا موحدا intègre وليس مشتتا ومفككا .
- المراحل التي يمر بها المريض المصاب بمرض قاتل أو الذي يواجه الموت:
• أولا الصدمة
• ثانيا الرفض
• ثالثا الثورة
• رابعا التسوية (تكثر النذورات عند هذه المرحلة)
• خامسا الاستسلام (résignation) أو القبول (acceptation)
- المرافقة دورها أن تساعد المريض على قبول وضعه وفكرة موته ولا تساعده على الاستسلام
- من عنده علاقة محبة مع الله يتقبل موته أكثر ممن عنده علاقة خوف ومصلحة مع الله
- لا يجب مقارنة المرضى ببعضهم البعض
- المرافقة الروحية متعبة لكنها تغني الإنسان المرافق على الصعيد الروحي إلى حد كبير
- المرافقة هي عملية أن نلمس الشخص على مستويين: لمس اليد يعطي قوة للمريض ولمس قلبه
- من يحب الدخول في عالم المرافقة الروحية، ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار خبرته السابقة مع المرض والموت.
- بالمرافقة لا نجاح ولا فشل ولا أسلوب واحد بل معايير شبه موحدة
- المرافق ينبغي أن يتقبل وضع المريض النفسي الذي تارة يكون منفتحا وطورا منغلقا
- قبل مرافقة المريض ينبغي قبلا التواصل مع أفراد عائلته وإفهامهم دور المرافق حتى لا يشوشوا على عمله
- الموت جزء أساسي من الحياة و من دون الموت لا قيامة فلا علاقة للمرض مع عقدة الذنب ولا يجب الشعور بأن
المرض قصاص
- لا يجب عزل المريض (من دون تلفزيون، أو إقفال النوافذ، إلخ. ): الموسيقى مفيدة له مثلا
- لا حاجة للجواب على أسئلة المريض ( عن الموت عن الله عن سبب مرضه، إلخ. ) بل
ضرورة تحويل السؤال نفسه له لأنه هو من يجب أن يعطي الجواب لا المرافق.
ملاحظة : اخذت هذه المعلومات من مضمون المحاضرة وكتبت من قبلنا بتصرّف.
تتمة..."العذراء مريم من خلال نصوص في العهد القديم"
محاضرة للأب ملحم الحوراني
ضمن برنامج التنشئة الروحية
7/2/2011
ضمن سلسلة المحاضرات الرّوحيّة التّأمّليّة، كان لنا لقاء بالأب ملحم الحوراني في مركزنا الروحي، شرح لنا فيه أيقونة العذراء ورموزها في العهد القديم.
وبعد أن رنّمنا:"افرحي يا والدة الإله العذراء مريم، يا ممتلئة نعمة..."، غصنا مع الأب ملحم على بحر الكتاب المقدّس وعلى جزره المريميّة الرّمزيّة حتى نفهمه بشكل أفضل.
بدأ الأب ملحم يشرح لنا المواضع والمقاطع والجمل في العهد القديم التي تتناول العذراء بشكل رمزي، مُرفقًا ذلك بعرضٍ للأيقونات التي تتوافق مع الآيات الكتابيّة المذكورة؛
من الأيقونة الاولى التي يحمل فيها نوح ذو اللحية البيضاء بيديه الفُلك، أي سّفينة الخلاص التي يدخلها الأبرار حتّى ينجوا من الغرق، لا الأشرار الذين يغمرهم الطّوفان،حسب ما ورد في (الإصحاح 6 آية 13 والاصحاح 7).
إذًا، أولاً: الفُلك يرمز إلى العذراء مريم. ونجد إشارةً إلى ذلك مثلاً في الجنّاز الماروني:" أنتِ الفُلك يا مريم...".
إلى أيقونة ثانية حيث نرى سّلماً تربطُ الارض بالسّماء، مع الملائكة النازلة والصاعدة عليها، وفي الأعلى العذراء الحاملة المسيح وهي باللّون الرّمادي neutre وذلك قبل التّجسّد بـ 1200 سنة. كلّ هذا ورد في حلم يعقوب (تكوين إصحاح 28 الآيات 10-19) عندما أسند يعقوب رأسه إلى حجر ليرتاح، ثم استيقظ وأقام عموداً فوق الحجر وصبّ عليه زيتاً ودعاه "بيت إيل"، إذ رأى في ذاك المكان بيتًا لله.
ثانياً: فالسّلم ترمز الى العذراء مريم التي أنزلت الإله من سمائه لكي نصعد الى السّماء من خلالها؛ ونجد هذه الايقونة في كنيسة "مار جرجس" في وسط بيروت.
إلى الأيقونة الثالثة حيث موسى يرعى الخراف وأمامه عليقى لا تحترق لكنّها ملتهبة وفي داخلها رمز حياديّ رماديّ للعذراء قبل التّجسّد، وملاك في الأعلى ينادي موسى، وقد ظهر موسى في تفصيلٍ ثانٍ وهو يخلع الحذاء كما ورد في سفر الخروج إصحاح 3.
ثالثاً: فالعليقّى ترمز الى العذراء مريم التي منها تجسّد الإله، حتى بات ممكنًا أن يُكلّم الله البشر.
أمّا الأيقونة الرابعة التي تُظهر هارون، أخا موسى، وبيديه عصًا كانت يابسة ثم أفرخت وأزهرت زهر اللوز كما طلب الله من موسى (سفر العدد اصحاح 17 آية 1-8)، أي العصا اليابسة غير المثمرة أعطت الحياة.
رابعاً: فالعصا ترمز في الأيقونة إلى العذراء مريم التي أعطت الحياة للمسيح وهي بتول غير متزوّجة.
بعدها أقام مقارنة بين صموئيل في العهد القديم (2صم 6:1-11) ولوقا في العهد الجديد (إصحاح 1آية 39):
عند الأوّل حُمل تابوت العهد، الذي يحوي الله، إلى الجبل فسبّب موتًا وحزنًا وخوفًا، أمّا عند الثّاني فقد صعدت مريم الجبل نحو أليصابات فأنتجت حياةً وفرحًا ورقصًا. كذلك تساءل داود عند الأوّل: "كيف يأتي تابوت الله إليّ؟"، وتساءلت أليصابات عند الثّاني: "كيف تأتي أمّ ربّي إليّ؟". كما بقي التّابوت عند داود ثلاثة أشهر، ومكثت مريم عند أليصابات ثلاثة أشهر أيضًا. فمريم إذاً هي تابوت العهد الجديد لأنّها تحمل الله.
ثمّ انتقل إلى أيقونة الشّفاعة حيث تقف العذراء عن يمين يسوع مُذَهَّبة الثّياب، كما في التّنصيب الملكي عندما تقف الملكة عن يمين الملك (مزمور 45)، ويوحنا المعمدان عن يساره.
ثمّ إلى صورة الصينيّة المقدّسة التي تُستعمل في القدّاس، واتي يضع عليها الكاهنُ الحَمَلَ في الوسط (أثناء الإعداد للقداس، ثمّ يضع عن يمين الحمَل جزئًا هرميًّا للعذراء، والأجزاء الهرميّة الباقية للقدّيسين ثم للاحياء والأموات (مقارنة مع المزمور 45).
أمّا أيقونة السّيرافيم، وهم ملائكة ذوات أجنحة ستّ، وقد رآهم إشعياء في رؤياه (إصحاح 6) حين رأى الله في الهيكل يقيم القدّاس والسيرافيم يحتفّون به ويرتلون قدوس قدوس قدوس... وإذا بملاك يطير حاملاً ملقطا وفيه جمر ليلامس شفتيه، كما في القداس الالهي، الملقط ترمز الى العذراء، والجمرة ترمز إلى الرّب يسوع.
وأيقونة العذراء المشهورة عند الرّوسيين، فيها العذراء تفتح يديها والمسيح يخرج من دائرة في بطنها؛ وتُسمّى أيقونة "عذراء الآية" التي سبق أن تنبّأ عنها إشعياء النبي سنة 736 حين قال: "ها الرب نفسه يعطيكم آيةً: ها إن العذراء تحبل وتلد ابنًا ويُدعى اسمُه عمانوئيل" ( إشعيا 14:7).
ثمّ انتقل إلى ما رآه حزقيّال (44 آية 1-10) حين أمسك بيده الله وأخذه الهيكل ليُريه بابًا مبنيًّا للهيكل لجهة الشرق، ولكن هذا الباب بُني ليكون مغلقًا، ويبقى مغلقًا لأن الرب وحده دخل وخرج منه، وهذا الباب يرمز إلى عذريّة مريم التي دخلها المسيح ووُلد منها من دون يمسّ عذريّتها.
كما حدّثنا عن رؤيا حزقيال وفيها سحابة تحمل الله (1: 55) وعند أطرافها أربعة أشباه حيوانات، وقد فسِّرت الكنيسة أيقونة العذراء المحاطة بالإنجيليين الأربعة بأنها هي تلك السحابة التي رآها حزقيال:
• فالإنسان يرمز إلى إنجيل متى : الذي تحدّث عن ابن الإنسان.
• والأسد يرمز إلى إنجيل مرقص : الذي يبدأ بعبارة "صوت صّارخ في البرية".
• والنّسر يرمز إلى يوحنّا: الذي يستهل إنجيله بالتحليق في سماء اللاهوت "في البدء كان الكلمة".
• والثّور يرمز إلى إنجيل لوقا : الذي كان طبيباً.
وختم الأب ملحم الحوراني برواية دانيال (اصحاح 3) حيث أقيم للملك تمثال رفض ثلاثة فتية هُم عزريا وحنانيا وميصائيل أن يسجدوا له، فأمر الملك برميهم في أتون النّار فانفكّت قيودهم ورتّلوا لله وهُم يرقصون داخل نار الأتّون، ولم تُؤذهم النار الملتهبة، ورأى النّاس ملاكاً يظلّلهم ويُندّي عليهم في الأتّون. وصار هذا الأتون رمزاً للعذراء مريم التي حملت اللاهوت (المسيح) ولم تحترق.
ملاحظة : كُتبت هذه المحاضرة من قبلنا بتصرف.
تتمة...