البحث في الموقع

لقاءات و نشاطات


رياضات روحية

31/3/2019 "قم، احمل سريرك وامشِ" (يو8:5) إنْ لم تكن مخلَّعًا، فإنّك لن تتمكَّن مِن سماع كلمة الله
https://www.youtube.com/watch?v=u4uiazL-Wko&t=23s

"قم، احمل سريرك وامشِ" (يو8:5)
تأمُّل للأب ابراهيم سعد
في الرِّياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار جرجس- بحردق

31/3/2019

كان الربّ يسوع موجودًا في مكانٍ مكتَّظٍ بالنّاس، إذ أخذ كلّ واحدٍ من الحاضِرين مكانًا له في هذا المنزل، حتّى لم يعد هناك من مَوضِعٍ لاستضافة المزيد من النَّاس. إنّ النّاس قد اجتمعوا في هذا المكان ليسمعوا كلمة الله من الربّ يسوع، فالنَّص الإنجيليّ يقول لنا: "كان (الربُّ يسوع) يُخاطِبهم بالكلمة" (مر2: 2). وهنا يُطرَح السؤال: كم من حالةٍ يعيشها الإنسان، لا يجد له فيها مكانًا حيث هو موجودٌ؟ وكم مِن حالةٍ يعيشها الإنسان لا يترك فيها مِن مكانٍ للآخَرين؟ في الحالتَين، هناك إنسانٌ لا مكانَ لديه، يبحث عن مكانٍ له، في داخل مكانٍ يكتَّظُ بالنّاس، ولا بُدَّ له مِن أن يَجِده.
لقد حَمَلَ أربعةُ رِجالٍ المخلَّعَ. إنّ الرَّقم أربعة في الكتاب المقدَّس، يرمز إلى جهات الأرض الأربع: الشَّمال، الجنوب، الشرق والغرب. إنّ الجِهات الأربع، تشير إلى كلّ الأمم، أي إلى كلّ المجتمعات الّتي لم تعرِف المسيح بعد، والّتي لم تكتشِف رحمة الله بعد. إنَّ الأمم الّتي لم تعرف المسيح بَعد هي في حالة "تخليعٍ"، أي أنّها غير قادرة على التَّقدم والسَّير. ما هي العلامة الّتي نشير إلى أنّ هذا الإنسان هو مخلَّع؟ السَّرير. وما هي العلامة الّتي تدلّ على شِفاء هذا الإنسان مِن مَرَضِه؟ السَّرير أيضًا. إنَّ هذه العلامة تُذكِّرنا بِقَبرِ الربّ يسوع الّذي هو العلامة على موته وكذلك على قيامته، وبالتَّالي حين يرى الإنسان في علامات الموت علامات للحياة، يكون قد دَخل في مشروع الله.

إنّ النَّص لا يتكلَّم عن إيمان المخلَّع، بل يُخبرنا عن إيمان الرِّجال الأربعة الّذين حَملوا المخلَّع إلى يسوع، والدَّليل هو أنَّ النَّص الإنجيليّ يقول لنا: "فَلَـمّا رأى يسوع إيمانَهم، قال للمخلَّع:"يا ابني، مغفورةٌ لَكَ خطاياك!" (مر 2: 5). إنَّ الرِّجال كانوا أربعة، وهذا ما دَفع بالبَعض إلى الإشارة إلى أن الرَّجل المريض كان وَثَنيًّا لا يهوديًّا، فالرَّقم أربعة يرمز إلى الأُمَم لا إلى الشَّعب اليهوديّ. إذًا،كان يسوع موجودًا في مكانٍ يهوديّ، لا في مكان خاصّ بالوَثنيِّين. إنَّ هؤلاء الرِّجال الأربعة لم يَسْتَسلِموا عندما وجدوا المكان غاصًّا بالنّاس، إذ نبشوا السَّقف ودلّوا المخلَّع أمام الربّ. لقد كانت لدى هؤلاء الرِّجال الأربعة رغبةٌ عميقةٌ لِلُقيا الربّ، من دون طلبِ الوساطة من اليهود. وهذا ما يتمّ في سرّ المعموديّة: ففِي المعموديّة، يُصبح المؤمِن ابنًا لله من دون الحاجة به إلى المرور بالشريعة اليهوديّة والخضوع لها. وهذا الصِّراع قد اختبره الرَّسول بولس أيضًا.

إنَّ المخلَّع قد حَضَرَ أمام الربّ، مع الرِّجال الأربعة الّذين كانوا يَحملونه، أي أنّه حضر أمام الربّ مع كلّ أفكاره ومعتقداته الدِّينيّة وغير الدِّينيّة، مَحمولاً مِن بيئته، الّتي يرمز إليها الرِّجال الأربعة. لقد أتى المخلَّع إلى الربّ يسوع ورَمى ذاته مع كلّ أفكاره ومعتقداته أمام الربّ، فكان جواب الربِّ له: "مغفورةٌ لك خطاياك" (مر2: 5)، لا "سأغفر لك خطاياك"؛ فمجرَّد رؤيته مُدلّى من السَّقف، دَفعَت بالربَّ إلى غفران خطايا هذا الإنسان وشِفائه، حتّى قَبْل وصوله إلى أمام الربّ. هذا هو المفهوم الحقيقيّ للتَّوبة الّتي يطلبها منّا الربّ يسوع: نحن لا نقترب مِن كُرسيّ الاعتراف لطلبِ غفران خطايانا من الربّ، بل لأنّنا اكتشفنا أنَّ الربّ قد سَبَقَ وغفر لنا خطايانا. وهنا السؤال يُطرَح: ما دام الربُّ قد سَبَق وغفرَ خطايانا قبل أن نُعلِن توبتنا له أمام الكاهن، فَما حاجتُنا بعد ذلك للتَّوبة؟ نحن نتقدَّم مِن سرّ التَّوبة لا لطلب غفران الخطايا من الربّ، بل لإعلان رُبوبيّة يسوع علينا، بعد اكتشافِنا لغُفرانه، ولإنكار في الوقت نفسه، عبادَتنا للآلهة الأخرى الّتي كُنّا نَعبُدها في السَّابق، عند اقترافِنا الخطايا، من خلال تَسْمِيَتَها أمام الكاهِن. إذًا، نحن لا نتقدَّم مِن سرّ التَوبة، "من أجل" أن يغفر لنا الربُّ خطايانا، بل "لأنَّ" الربَّ قد غفر لنا خطايانا. لذلك نحن نتقدَّم مِن سرّ التَّوبة بفرحٍ وبتعزيَة الرَّوح، ورجاء الحبّ الموعود به مِن الربّ، حتّى وَلو كُنّا نتقدَّم منه بانسحاقٍ بسبب خطايانا الّتي خلَّعتنا وجعلَتنا أسرى سرير الخطيئة، دافعةً بنا إلى الاعتقاد أنَّ هذا السَّرير يُريحُنا. ولكن حين يعترف الإنسان بخطاياه، يكتشف أنَّ سرير الخطيئة غير مريحٍ أبدًا كما كان يعتقد، لذا يسعى إلى التخلُّص منه.

إنَّ الإنسان لا يستطيع التَّخلُّص من سرير الخطيئة إلّا حين يلتقي بالربِّ يسوع، من خلال الاعتراف، فيَسمعُ الخاطئ مجدًّدًا كَلِمة الله الـمُحيية، لأنّ الربَّ "كان يُخاطِبهم بالكلمة" (مر 2: 2). إنَّ الله قد خَلَق الكون وما فيه بالكلمة، ولكنّه حين أراد أن يَخلُق الإنسان لم يَخلُقْه بالكلمة، بل صَنَعه وجبَلَه ووضَعَ فيه من رُوحِه القُدُّوس، لأنّ الإنسان ثَمينٌ في عينيّ الربّ. لا يمُكنك أيّها الإنسان أن تكون مُهمًّا في عَينيّ الربّ، وأنْ تَنظرَ إلى ذاتِك على أنَّك مخلَّعٌ، خاصّةً إنْ كنتَ تريد أن تكون مع الله. ولكنْ إنْ كانَتْ الخطيئة قد استهوَتْك وأردْتَ أن تبقى مُنغَمِسًا فيها، فعندها تكون أنْتَ مَنْ قرَّر أن يبقى مخلَّعًا من دون حُصولك على الشِّفاء مِن الربّ.
قال الربُّ يسوع للمخلَّع:"مغفورةٌ لك خطاياك" (مر2: 5). إنَّ النَّاس الّذين منعوا المخلَّع من الوصول إلى يسوع، بسبب اكتظاظ المكان بهم، هُم أنفسهم الّذين اعترضوا على قَول المسيح للمخلَّع: "مغفورةٌ لك خطاياك". لم يقبل هؤلاء اليهود أن يتعامل الربُّ يسوع مع هذا المريض بالرَّحمة. إنَّ الرَّحمة هي صِفةٌ إلهيّة لا إنسانيّة، ولكنَّها تُصبح صِفَةً إنسانيّة عندما يشعر الإنسان برحمة الله عليه، فيَتَمكَّن مِن معاملة الآخَرين بالرَّحمة. لقد اتَّهم اليهود الحاضِرون يسوعَ بالتَّجديف على الله لأنّه قال للمخلَّع "مغفورةٌ لك خطاياك". إنّ هؤلاء اليهود يَبحثون عَمَّن هو أَهْلٌ لِمَغفرة الخطايا، من دون الاكتراث لِشفاء المخلَّع. للأسف، إنَّ البشر عاجزون عن محبَّة بعضهم البعض، لذا هُم يَحزنون لِفَرح الآخَرين ويَفرحون لِـحُزنهم. إنّ حُزنَ الإنسان لِفَرَح الآخَر، هو دليلٌ على عدمِ لِقائه بالربّ، الّذي يُخاطِبه بكلمة الله. إنّ مِثلَ هذا الإنسان لم يلتَقِ بالربّ، الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل، إذ التقى بإلهِ تصوّراته، إلهٍ صَنمٍ مِن اختراعه. إنَّ الله الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل هو إله قد أعطى الإنسان الّذي لا مكان له، مكانًا، لا بل جَعله مِحوَر هذا المكان. لم يَقُل الربّ للمخلَّع: "قُمْ، لقد شُفيت"، بل قال له:"قُمْ، احمل سريرك وامشِ" (مر 2: 10)، أي أنَّ السَّرير الّذي كان يرمز للإنسان المخلَّع المريض، قد تحوَّل إلى رمزٍ للقيامة والشِّفاء، وما عبارة "قُم"، إلّا دليل على القيامة. لقد سأل الربُّ يسوع اليهود، قائلاً: "ما هو الأسهل: أن يُقال للمخلَّع: "مغفورةٌ لك خطاياك"،أم أن يُقال لَهُ "قُمْ واحمِل سريرَك وامشِ؟" (مر 2: 10). إنّ اليَهود لم يكونوا قادِرين على الإجابة على سؤال يسوع هذا، ولا نحن أيضًا كُنّا لنتمكَّن من الإجابة عن هذا السؤال، لو طَرَحَهُ الربُّ علينا: لأنّه لو كان جوابنا أنّه من الأفضل أنْ يُقال للمخلَّع "مغفورةٌ لك خطاياك"، لَكُنّا أصبحنا في حالة دِفاع عن يسوع في مواجهة اليهود، وهذا دليلٌ على أنّنا حاضِرون في هذا المكان وبالتّالي سَنَكُون مِن الّذين لم يسمحوا للمُخلَّع بالوصول إلى يسوع؛ ولو قُلنا، إنّه كان مِن الأفضل أن يقول يسوع للمخلَّع: "قُمْ، احمل سريرك وامشِ"، نكون قد دَخلنا في صِراعٍ ما بين الرَّغبة والحاجة. إنّ رغبة المخلَّع أن يَمشي، ولكنَّ الربّ يسوع قد نَظَر إلى حاجته وهي غُفران خَطاياه. في الكثير من الأحيان، نَقَع في الخطيئة لأنّنا فضَّلنا رَغبتنا على حاجتنا، ونلوم الربّ لأنّه لم يستَجِب لرغباتنا، مُتناسِين أنَّ الربّ يَعلم بِحاجاتنا. إنّنا للأسف، لا نُصدِّق أنَّ الربّ يلبيّ لنا حاجاتنا لا رَغباتنا. إنّ الربّ يُلبيّ لنا حاجاتِنا حتّى وإنْ لَم نَطلُبها، ولا يُلبيّ لنا رَغباتِنا حتّى وإنْ طَلبناها في الصّلاة. هذا هو إلهنا، هذا هو ربُّنا، الّذي نرغب في تحويله على صُورَتنا ومِثالنا، في حين أنّه يطلُب منّا أن نكون نحن على صُورَتِه ومِثاله. وهنا القرار يعود لنا: أيَّة صُورةٍ نريد؟ هل نريد أن يُصبح الربُّ على مِثالِنا، أم أن نُصبح نحن على مِثاله؟ حين نُقرِّر أن نُصبح على صُورَة الله، فإنَّ هذا سيدفَعُ بالآخَرين عند رؤيتهم لنا، على أن يُمجِّدوا الله بسَبَبِنا، إذ سنكون إنجيلاً متحرِّكًا أمامهم من دون حاجتهم لقراءة الإنجيل.

في بداية تأمُّلِنا، قُلنا إنَّ الربَّ يسوع كان يُكلِّم الجموع بكلمة الله، وبالتَّالي هناك ضرورة عند المؤمِن لسماع كلمة الله. إنَّ الكلمة هي خلّاقة دائمًا، فالكلمة تخلق فيه حالةً جديدة وحقيقةً جديدة. فالإنسانُ، من خلال الكلمة الجارحة الّتي يقولها للآخَرين، يخلقُ فِيهِم حالةً جديدة، هي حالة إنسانٍ مجروحٍ، تعرَّض للأذيّة؛ كما يستطيع الإنسان من خلال كلمته البنّاءة أن يخلق في نفوس الآخَرين، حقيقةً جديدة، وحالةً جديدة. لذا، على المؤمِن أنْ يُفكِّر في كلمَتِه، لأنّه مسؤول عن الكلمة الّتي يتلفَّظ بها. إنّ مقاصِدَ الإنسان مُهمَّة ولكنّ الأهمّ هو ما يتلفَّظ به الإنسان، إذ إنّ السَّامع لن يتمكَّن من إدراك مقاصِد الآخَر، إذ لا يستطيع إلّا أن يسمع ما يتفوَّه به.
إنّ الرَّجاء مبنيٌّ على وَعدٍ، وانتظار الإنسان لتَحقيق هذا الوَعد، فيَنال الفرَح الدّاخليّ. إنّ صعوبة الفرح الآتي من الربّ، هو أنّه غير منسجمٍ مع تفكير البشر. فالفرح الآتي من الربّ، يأتي في أحلَك لحظةٍ، في وقتٍ لا يتوقَّعه الإنسان. تمامًا كما حصل مع المخلَّع، فَحِين كان البيتُ مكتَظًّا بالنّاس، لم يكن يتوقَّع المخلَّع أن يتمكَّن من الوصول إلى أمام يسوع. إنَّ الفرح الآتي مِن الربّ يأتي في لحظةِ يأسِ الإنسان، فتَمنَحُه فرحًا أكبر مِن الّذي كان يتوقَّعه، وأجمل ممّا كانَ يُرتِّب له ويصبو إليه. هذا هو الفرح الحقيقيّ الّذي ستحصل عليه، إذا ألغَيْتَ كلّ الحواجز الّتي تمنعك من الوصول إلى يسوع، حتّى لو كُنتَ مُخلَّعًا. إنْ لم تكن مخلَّعًا، فإنّك لن تتمكَّن مِن سماع كلمة الله الّتي قيلت للمخلَّع:"قُم، احمل سريرك وامشِ". إذا لم تشعر بأنَّك مخلَّعًا، فاسعَ للقيام بما يجعلك مخلَّعًا، لتتمكَّن من سماع كلمة الله لك والحصول على شِفائه مِن الـمَرَض الّذي تُعاني منه. آمين.

ملاحظة: دُوِّن التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
31/3/2019 برنامج الرياضة الروحيّة السنويّة إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح...
إخوتي وأخواتي الأحبّاء،
يسرّنا دعوتكم للمشاركة في الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"، يوم الأحد 31 آذار 2019 في دير مار جرجس – بحردق، المتن، وفق البرنامج المرفق. تتمة...
4/3/2018 "لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا" (مر 2: 1-12) ولكنَّنا نصوم لأنّنا وَصَلنا إلى القيامة
https://youtu.be/6t2ZNX4ZtoA

"لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا" (مر 2: 1-12)
مع الأب ابراهيم سعد
في الرياضة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير سيّدة البشارة للروم الملكيّين الكاثوليك
واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل

4/3/2018

"عادَ يسوعُ إلى كفرناحوم. وَسَمِعَ النّاسُ أَنّهُ في البيت. فَتَجَمَّعَ عَددٌ كبيرٌ مِنهم حتَّى غصَّ بِهِمِ المكان، وَلَم يَبقَ مَوضِعٌ لأَحَدٍ وَلا عِنْدَ الباب. وكانَ يُخاطِبُهم بكلمةِ الله. فَأَتُوهُ بمخلَّعٍ يَحمِلُهُ أَربعَةُ رِجال. وَبسببِ الجَمْعِ لَم يَستَطيعُوا الوصولَ بِهِ إلى يسوع، فَكَشَفوا السَقفَ فَوقَ يسوع ونَبَشُوه، وَدَلُّوا الفِراشَ الّذي كان الـمُخَلَّع مَطروحًا عليه. ورأى يسوعُ إِيمانَهم، فقالَ للـمُخلَّع: "يا ابني، مَعفورةٌ لَكَ خَطاياكَ!". وكان بَعضُ الكَتَبةِ جالِسِينَ هُناكَ يُفكِّرونَ في قلوبهم: "لماذا يتكلَّمُ هذا الرَجُل هَكذا؟ إنَّهُ يُجدِّف! مَن يَقدِرُ أَنْ يَغفِرَ الخطايا إلّا الله وحدهُ؟". وفي الحال عَرَفَ يسوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُم يُفكِّرونَ هكذا في أَنفُسِهم فقال لَهُم: "لماذا تُفكِّرون بهذا في قُلوبِكم؟ ما هُوَ الأَسهَل؟ أَن يُقال للـمُخلَّع: مَغفورةٌ لَكَ خَطاياك؟ أَم أنْ يُقال: قُمْ وَاحْمِل فِراشَكَ وَامْشِ؟ وَلِكَي تَعْلَموا أَنَّ لابنِ الإنسانِ سُلطانًا أن يَغفِرَ الخطايا على الأَرض"، قالَ للـمُخَلَّع: "لَكَ أَقولْ: قُمْ، اِحمِلْ فِراشَكَ، واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!". فقامَ في الحالِ وَحَملَ فِراشَهُ، وَخَرَجَ أمامَ الجَميع، حتَّى دَهِشُوا كُلُّهم وَمَجَدُّوا اللهَ قائلين: "ما رَأَيْنا مِثْلَ هذا البَتَّة!" (مر 2: 1-12).

يُخبرنا هذا النّص الإنجيليّ أنّ البيت كان غاصًّا بالنّاس الّذين أتوا لسماع كلمة الله الّتي يُعلنها الربّ يسوع. وهنا يُطرح السؤال: أَجميعُ الحاضرين كانوا مُهتمِّين حقًّا لسماع كلمة الله، خاصّةً أنّ هذا العدد نفسه كان حاضرًا يوم محاكمة يسوع للمطالبة بصَلبِه؟ يتابع النصّ فيُخبرنا قصّة رَجُلٍ مخلَّعٍ أراد الوصول إلى يسوع، لكنّه عجِزَ عن ذلك وحدَه، لأسبابٍ ثلاثة: أوّلاً حالته الصِحيّة إذ لم يكن باستطاعة هذا الرَّجل المشي للوصول إلى الربّ، ثانيًا إزدحام النّاس في هذا البيت، وأخيرًا الظروف المعاكسة للمخلّع إذ لم يكن أمامه مَمَرٌّ للوصول إلى يسوع، حتّى أنَّ السقفَ كان مقفلاً أمامه. أمام هذه الحواجز، قد يتراجع المؤمِن عن مسيرته صوب الربّ، ولكنّ هذا المخلَّع لم يفقد الأمل بالوصول إلى الربّ لعِلمه أنّ يسوع هو الوحيد القادر على شفائه، وبالتّالي فإنَّ اقترابه مِن يسوع يشكِّل فِرصَتَه الذهبيّة للحصول على الشِّفاء. في ظلّ هذه العوائق الثلاثة في مسيرة المخلَّع صوب الربّ، يتكلّم النَّص الإنجيليّ عن أربعة رجالٍ، حَمَلوا المخلَّع وأوصلوه إلى الربّ. في معادلةٍ حسابيّة، نجد أنّ الرّقم أربعة يساوي الرّقم ثلاثة زائدًا واحدٍ. وبالتّالي، يمكننا الاستنتاج أنّه مهما كانت العوائق كثيرة وكبيرة، فإنّ الربّ لن يترك المؤمِنين به وحدَهم يُصارعون صعوبات هذه الحياة، بل سيُرسِل لهم دعمًا أكبر، ليتمكّنوا مِن تَخَطّيها والوصول إلى الربّ. لقد قام هؤلاء الرّجال الأربعة بحَمْلِ هذا المخلّع وبِتَحدّي كلّ الحواجز، فنَبَشوا السَقف ودلّوه منه ووضعوه أمام الربّ، فأثمر عملهم هذا شفاءً للمخلّع. لقد شفى الربّ المخلَّع قائلاً له: "قُمْ، اِحمِلْ فِراشَكَ، واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!"، أي أنّ الربّ دعاه إلى متابعة حياته بشكلٍ طبيعيّ بعد أن أَعاد له عافيته. يُخبرنا النّص الإنجيليّ أنَّ الدّهشة أصابت الجموع، عندما شاهدوا المخلَّع ماشيًا حاملاً سريره، فمجدّوا الله. إنّ الجموع لم تمجِّد الله حين كان المخلَّع محمولاً على السَّرير مِن قِبَل الرِّجال الأربعة، بل مَجَدَّته حين حمل المخلَّعُ سريرَه. وبالتّالي في يوم شفائه، تحوَّلَ المخلَّعُ إلى مبشِّرٍ بكلمة الله، والسَّرير المحمول إلى إنجيلٍ متحرِّك.كانت رغبة المخلَّع العميقة أن يلتقي بالربّ لينال منه الشِّفاء، ولكنّ حالته الصحيّة والظروف الّتي تواجد فيها، إضافةً إلى الجموع الغفيرة الموجودة في ذلك البيت، شكَّلت عائقًا أمام وصوله إلى الربّ؛ غير أنّ وجود هؤلاء الرِّجال الأربعة حول المخلَّع ساهم في لقاءِ هذا الأخير بالربّ، وبالتّالي في تحقيق حُلمِه بالشِّفاء. إنّ المخّلعَ وصلَ مريضًا أمام يسوع، ولكنّه خرجَ مِن أمامِه مُعافًا. إذًا، إنّ الإنسان الّذي يرغبُ حقيقةً في لقاء الربّ ويسعى إلى ذلك، سيلتقي به وسينال منه حياةً جديدة.كان عدد الرِّجال الّذين حملوا المخلَّع أربعة، وهذا الرقم في الكتاب المقدّس يرمز إلى جهات العالم. إنَّ هؤلاء الرّجال كانوا سندًا للمخلَّع في وصوله إلى الربّ.
إنَّ الربّ لا يستطيع إلّا أن يتجاوب مع رغبة الإنسان العميقة في لقائه، وَما رِوايةُ مخلَّعِ بيتَ حِسدا إلّا دليلٌ على ذلك. ففي بيت حِسدا بِركَةٌ، تمنح الشِّفاء لأوّلِ مَن يغطس فيها عند تحريكِ ملاكِ الربّ لمياهها؛ لذا كان يجلس حولها كلّ المرضى، منتظرين تلك اللَّحظة، لأنّهم يرغبون بالحصول على الشِّفاء. وعند تلك البِركة، كان يجلس بين المرضى، مخلَّعٌ منذ ثمانٍ وثلاثينَ سنةً، ينتظر تحريك المياه ليرمي نفسه فيها، غير أنّ حالته الصِّحية كانت تمنعه مِن ذلك. فحين مَرّ يسوع في ذلك المكان، رآه وسأله عن رغبته العميقة، فكان جوابه أنّه يريد الشِّفاء، فأعطاه الربُّ سُؤلَ قلبِه. إنَّ صعوبات هذه الحياة لا تستطيع أن تقف حاجزًا أمام رغبة الإنسان في رؤية الله؛ لأنّه إمّا أن يُرسِل له الربّ عونًا وَسَنَدًا بشريًّا، وإمّا أن يأتي إليه الربُّ شخصيًّا ليُحقِّق له أمنيته العميقة. إنّ المؤمِن لن يتمكّن مِنَ السَّير نحو الربّ إنْ بَقيَ متمسِّكًا بحياته القديمة بما فيها مِن عاداتٍ وتقاليد بالية، لذا عليه أن يَثورَ عليها، ليتمكّن مِنَ الوصول إلى الربّ الّذي يمنحه حياة جديدة. إذًا، هناك ثلاثة حواجز تمنع الإنسان مِنَ الوصول إلى الربّ: أوّلاً المؤمِن نفسه، ثمّ الآخرين الـمُحيطين به، وأخيرًا الظروف المحيطة بالمؤمِن والّتي لا يمكنه تغييرها. عندما تُواجِهُهُ هذه الحواجز، يجد المؤمِن نفسه أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أن يستخدم تلك الحواجز حُجَّةً للبقاء في مكانه، وإمّا أنْ يحوِّلها إلى حافزٍ له، فيسعى إلى تخطِّيها والوصول إلى هدفه ألا وهو اللِّقاء بالربّ.

إنّ المال لا يستطيع أن يشتري كنزًا حقيقيًّا للإنسان، لأنّ ذلك الكنز ينبع مِن رغبة الإنسان العميقة: فَما نفعُ المال والجمال وغيرها من الأمور، لإنسانٍ مُصابٍ بداءٍ مستعصٍ لا أملَ في شفائه؟ إنّ الإنسان هو الّذي يُحدِّد كنزه، فيُوَجِّه إليه كُلَّ همِّه، فيخلق فيه هذا الكنزُ الـهِمَّةَ ليُغيِّر مسيرته القديمة ويحوِّلها إلى مسيرة مُهِمَّةٍ مع الربّ. على الإنسان أن يُحدِّدَ كنزه ليتمكّن مِن تحديدِ الطريق الّتي عليه أن يسلكها في رحلةِ البحثِ عن كنزِه. إنّ الإنسان الّذي يعتقد أنَّ كنزَه موجودٌ خارجًا عنه، هو إنسانٌ ضائعٌ في هذه الحياة، وسيتعرَّض للإحباط واليأس والفشل، عندما يكتشف أنَّ كنزَه مزيَّف، وسيرمي الإنسانُ مسؤوليّةَ فشلِه هذا على الآخرين الّذين، بالنسبة إليه، تركوه وحيدًا في مسيرتِه، ولم يُساندوه في بحثِه عن هذا الكنز. في هذا الصَّدد، يَعرِضُ لنا العهد القديم، قصّة إيلِّيا النبيّ الّذي اعتقد أنّه الوحيد بين شعب اسرائيل الّذي لا يزال يعبد الله. في أيّام إيلّيا، قامت ملكةٌ وثنيّة تُدعى إيزابيل، نجحت في إقناع شعب الله بالمزج ما بين العبادة اليهوديّة والعبادة الوثنيّة، فابتعد الشَّعب عن الإيمان القويم بالربّ. فأرسل الله إيلّيا النبيّ إلى شعبه ليُعلِن له كلمة الحقّ، فيتوب عن ضلاله. انزعجت الملكةُ إيزابيل مِن إعلان النبيّ كلمةَ الحقّ للشَّعب المؤمِن، فاتَّهمت النبيَّ بأنّه مُقلقُ إسرائيلَ، فاضطهدته. في ظلّ هذه الأزمة الّـتي عانى منها النبيّ، توجّه إلى الله وطلب منه المساعدة، إذ حَسْبَ اعتقاد النبيّ، لم يبقَ غيره في اسرائيل ليُدافع عن الله، فاستجاب له الله وكان له الدّعم. ولكن عندما اشتّد الاضطهاد على النبيّ إيلّيا، وجدَ نفسه مِن جديد وحيدًا، فصلّى إلى الله طالبًا منه المعونة لأنّه هو الوحيد الّذي لا يزال يعبد الله في شعب اسرائيل، فقال له الربّ إنَّ ذلكَ غيرُ صحيحٍ إذ لا يزال سبعةُ آلافِ رُكبةٍ لم تسجد للبعل بعد، فظهر الربّ لإيلّيا بشكلِ نسيمٍ عليلٍ، على عكس ظهوراته للشَّعب قديمًا على شكل لهيب نار أو صوت رعد. لقد ظهر الربّ لإيليّا بنسيم عليل ليُعلِّمه أنّه يتكلّم مع الإنسان في الصَّمت لا بالقوّة، وبالتّالي أراد الربّ أن يقول لإيليّا إنَّ تصرُّفَه العنيف مع كهنة بعل، هو تصرُّف خاطئ.
إنّ أشقى النّاس في هذه الحياة هم الّذين يبحثون عن كنزِهم خارجًا عنهم، لأنّهم لن يجدوا في نهاية مسيرتهم سوى سَرابٍ ووَهْمٍ، فما يبحثون عنه هو كنزٌ مزيّف، إذ إنَّ الكنزَ الحقيقيّ موجودٌ في داخل الإنسان. عندما يكتشف الإنسانُ أنَّ كنزَه هو كنزٌ مزيَّف، لن يتردّد في التَّخلي عنه للبحث عن كنزٍ آخر يعتبره كنزًا حقيقيًّا بالنسبة إليه. إنّ عالمنا اليوم يُعاني مِن فقدان القناعة إذ نجد أنّ النّاس يبحثون عن كنوزٍ يعتقدون أنّها ستؤمِّن لهم السَّعادة، ولكن ما إنْ يحصلون عليها حتّى يكتشفوا أنّها مزّيفة وغير قادرة على مَنْحِهِم السَّعادة الّـتي لا تزول. إنّ بعض الأشخاص يجتهدون ويُحاربون مِن أجل الحصول على هاتفٍ ذكيّ مثلاً، وعندما يحصلون عليه، يكتشفون أنّه أصبح قديمًا إذ إنّ نسخةً جديدةً منه قد صَدَرت في الأسواق، فتتحوّل سعادتهم بامتلاكهم هذا الهاتف إلى تعاسةٍ لا تجد نهاية لها إلّا بشرائهم النُّسخة الجديدة مِن هذا الهاتف الذكيّ. إنّ شعبَنا اليوم لم يعد يكتفي بما لديه، بل يبحث على الدّوام عن كلّ ما هو جديد، حتّى وإن لم يكن ضروريًّا لحياته. ليس المقصود بهذا الكلام أن يتجرّدَ الإنسانُ مِن طموحه بالحصول على ما هو أفضل، إنّما المقصود أن يتحلّى الإنسان بالقناعة بما يملك، مِن دون أن يتحوّل حُبُّ امتلاكه لكلّ جديد إلى هاجسٍ له.

إنّ الكنز الحقيقيّ موجودٌ في داخل الإنسان، وبالتّالي فالإنسان الّذي يبحثُ عن كنزِه خارجًا عن ذاته، إنّما هو يبحث عن كنزٍ مزيَّفٍ غير قادرٍ على مَنْحِه السَّعادة. وَلَو لم يكنِ الكنزُ الحقيقيّ موجودًا في داخل الإنسان لما قال لنا الربّ يسوع في إنجيله:"حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم". إنّ القلب هو قطعةُ لحمٍ لا يستطيع الإنسانُ العيشَ مِن دُونِها، إذ حين يُصبح القلبُ خارجَ الجسد، يموت الإنسان. إنّ القلب هو مكانُ سُكنى الله في الإنسان، فملكوت الله على الأرض هو في قلب الإنسان، أي أنّ الإنسان يستطيع أن يتذوّق الملكوت في هذه الحياة، ويستعدّ بالتّالي للدّخول إلى الملكوت الأبديّ وللقاء الربّ وجهًا لوجه، مع كلّ الّذين سبقونا وانتقلوا من بيننا إلى الملكوت. يخبرنا الربّ في إنجيله أيضًا بأنّه يهتمّ بزنابق الحقل وطيور السّماء وهو بالتّالي قادرٌ على الاهتمام بنا نحن البشر. لذا على الإنسان أن يثق بعناية الله له، فلا يجعل مِنَ الأمور الأرضيّة كنوزًا يلهث وراءها، بل يسعى لإيجاد كنزِه الحقيقيّ في داخله. إذًا، في إنجيل المخلَّع، تَعرَّفنا إلى الحواجز الثلاثة الّتي تعترض الإنسان في حياته، وهي، أوّلاً: الإنسان ذاته، ثانيًا: الآخرين، وأخيرًا الظروف الّتي تحيط بالإنسان. وقد وجدنا الحلّ المناسب للحاجز الأوّل الّذي يكمن في بحث الإنسانِ عن كنزِهِ في داخله لا خارجًا عنه.
إنّ الإنسان ينتابه اليأس والإحباط نتيجة خِبرتِه السيّئة مع إخوته البشر. غير أنّ بعض الّذين عانوا من اختباراتٍ جارحة ومؤذية مع الآخرين، يُعمِّمون تلك الخُبرات السلبيّة على جميع البشر، فيقولون على سبيل الـمِثال إنّ الحبّ قد مات، والوفاء قد فُقِد مِن أرض البشر. لا يجوز للإنسان أن يُعمِّم على جميع البشر ما اختبره مع البعض منهم، لأنّه كما اختبر أمورًا سلبيّة مع بعض النّاس، فقد يختبر الآخرون معه أمورًا سلبيّةً. إنّ الربّ قد يُرسِل إلينا بعض النَّاس ليكونوا لنا سَنَدًا في وقت الضِّيق لذا لا يجب تصنيفهم مُسبقًا انطلاقًا مِن خِبرتِنا مع بعض البشر. إنّ تعميم الـخُبرات السلبيّة على كلّ البشر، يشكِّل حاجزًا يَضَعه الإنسان أمام ذاته، يمنعه مِنَ الوصول إلى كنزِهِ الحقيقيّ أي الربّ. غريبٌ هو الإنسان الّذي يبحث عن كنزِهِ خارجًا عنه، على الرّغم مِن عِلمِه أنّ َالكنز موجودٌ في داخله! هذا ما اختبره آدم: فقد كان يعيش في الفردَوس، ولكنّه قررّ أن يبحث عن كنزِهِ الموجود بين يديه بمجهوده الخاصّ، رافضًا أن يقبل به كعطيّة مِنَ الله. كان كنزُ آدمَ موجودًا في داخله، لكنّ قلبه كان مشدودًا صوب الحيّة الّتي غشَّته إذ أقنعته أنّ الكنزَ موجودٌ في الخارج، فاجتهد للبحث عنه في الخارج لكنّه لم يجد سوى التعاسة والإحباط والفشل. إنّ سماعَ آدم لنصائح الحيّة والعمل بها، أدّى إلى توتير علاقته بالربّ. هكذا تتوتّر العلاقات بين البشر بدخول ثالث على العلاقة، وهذا الثالث قد يكون الإنسان نفسه، أو شخصٌ آخر، أو ظروف الحياة.
لا يمكننا أن نفهم قول الربّ لنا:"حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم"، بِشكْلِه الصَّحيح إلّا إن أدرَكنا فعلاً مفهوم الكنز وكذلك مفهوم القلب حَسَبَ الكتاب المقدَّس. إنّ الكنزَ بالنسبة إلى الإنسان، هو كلّ ما يستطيعُ أن يوفِّر له الأمان والاستقرار، القوّة والاستمراريّة. قد يعتقد البعض أنّ أموالهم كفيلة بمَنحهم الاستقرار والأمان، غير أنّ ذلك غيرُ صحيح إذ إنّ امتلاكَهُم للأموال الوافرة تجعلهم هدفًا للاعتداء والسرقة. وعلى الرّغم مِن تَطوُّر الطبّ والعِلم، لم يتمكّن الإنسان مِن إطالة عمره وتحقيق خلوده في هذه الأرض، وبالتّالي لا شيء يستطيع أن يؤمِّن للإنسان الاستمراريّة، والخلود في هذه الحياة. إنّ البعض يشعرون بالقوّة حين يتواجدون ضمن مجموعاتٍ إذ يعتبرون ذلك فرصةً لإظهار ذواتهم، وبالتّالي دافعًا للهروب مِنَ العزلة. ليس إظهار الذّات للآخرين هو ما يمنح الإنسان قوّةً، إنّما ما يمنحه القوّة هو شعوره بأنّه إنسانٌ محبوبٌ مِنهم. إذًا، ما مِن كنزٍ أرضيّ خارج الإنسان يستطيع أن يمنحه السَّعادة الدائمة والاستقرار والأمان، القوّة والاستمراريّة، فكنوز هذه الأرض ليست سوى أوهام. إنّ الإنسان يشعر بالقوّة حين يشعر بأنّه محبوبٌ مِن آخر حُبًّا صادقًا لا يستطيع شراءه بالمال. إنّ الحبَّ أساسيٌّ في حياة الإنسان، لذا يَعمَدُ البعض إلى شراء الآخرين بأموالهم، مِن أجلِ حصولهم على الحبّ مِنهُم، ولكنّ هذا الحبّ يزول سريعًا لأنّه ناتجٌ عن عبوديّةٍ لا عن حريّة. إنّ الحبّ الحقيقيّ يشترط أن يكون الإنسان الّذي يُعلِن حُبَّه للآخر في حالةٍ مِنَ الحريّة لا في حالةٍ مِنَ العبوديّة. لا يستطيع الإنسان أن ينال حُبَّ الآخر إنْ تصدَّق عليه بالأموال، إنّما يستطيع الحصول على حُبِّه من خلال التّعامل معه بلطفٍ ومحبّة. إنّ الإنسان لا يستطيع الشُّعور بوجوده وبقيمته الإنسانيّة إن لم يشعر بحُبِّ الآخرَ له، حتّى وَلو كانَ أعظمَ عظماء العالم، وهذا ما بَرهَنه تاريخ البشريّة عبر العصور. إذًا، إنّ الكنز الّذي يبحث عنه الإنسان خارجًا عن ذاته هو كنزٌ مزّيف، يُوهِم الإنسان أنّه سيُمنحه القوّة والاستقرار والأمان والاستمراريّة، غير أنّه لن يستطيع أن يُحقِّق له شيئًا ممّا وَعَده به.
إنّ القلب في الكتاب المقدَّس هو كلمةٌ عِبريّة تعني اللُّبّ أي الكيان، وبالتّالي فالقلب لا يعني أبدًا مركزَ المشاعر، إنّما مركزَ الحياة في الإنسان. إنّ القلب الّذي ينبض يؤكِّدُ استمرارَ الحياة في الإنسان، إذ ليس الإنسانُ مَن يُقرِّر خفقان قلبه أو تَوَقُّفَه عن ذلك. بالموت، يخسر الإنسان كلّ كنزٍ خارجٍ عنه، ويحتفظ بكلّ كنزٍ وَجَدَه في داخلِه. بمعنى آخر، إنّ حصول الإنسان على الحياة الأبديّة بعد انتقاله مِن هذه الفانية، مرتبطٌ بقلبه لا بالأمور الماديّة الّتي سعى وراءها. إنّ القلب هو كيانُ الإنسان أي أنّه مركزُ العقل والعاطفة معًا، وبالتّالي على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق الإنسجام ما بين عقله وقلبه، فيكونُ قلبُه فعلاً هو كلُّ كيانِه. لم يقصد الربّ يسوع في قوله: "حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم"، أنّه على الإنسان أن يجد كنزَه أوّلاً، ثمّ يُوجّه قلبَه صوبَ هذا الكنز، بل كان يصِف بهذا القول حالةَ الإنسان الّذي يكتشف كنزَه الحقيقيّ مِن خلال اكتشافه لاهتمامات قلبِه الأساسيّة. يُشكّل زمن الصّوم فرصةً لنا، كي نبحث عن الكنزِ الحقيقيّ الموجودِ في داخلِنا: فإنْ كان الربُّ القائم مِنَ الموت هو كنزُنا، فهذا يؤكِّد أنّ قلبنا مشدودٌ صوب القيامة، أي صوب الملكوت، صوب الحياة الّتي لا تزول. إنّ الإنسانَ الّذي يجدُ في الربِّ القائمِ كنزَه، سينجح في تَخَطّي كلّ صعوبات هذه الحياة لأنّه يُدرِك تمامًا أنّه لن يكون وحيدًا في مواجهته لها، إذ سيشعر على الدّوام بوجود الربّ معه. وبالتّالي فإنّ زمن الصّوم لن يكون بعد اليوم عبئًا ثقيلاً على هذا الإنسان، إنّما سيكون فرصةً لاختبار القيامة مِن خلال الصّوم والصَّدقة والصّلاة.

إنّ اعتقاد الإنسان بأنَّ القيامة هي كنَزٌ خارجٌ عنه هو اعتقادٌ خاطئٌ تمامًا. إنّ القيامة لا تنتمي إلى عالم البشر بل إلى عالم الله، وهي تَنقُل كلّ مَن يؤمِن بها مِن عالمه البشريّ إلى عالمها السماويّ. إذًا، لا يستطيع الإنسان المؤمِن أن يُدخِل القيامة إلى عالمه، بل إنّها هي الّتي تُدخِله إلى عالمها. إنّ قيامةَ الربِّ هي كنزٌ موجودٌ خارج عالَـمِك، وبالتّالي كي تنال القيامة، عليكَ أنْ تَسلُكَ بما يتوافق مع إيمانك بها. فإنْ أصبَحَتِ القيامة كنزَك المنشودَ، فهذا يعني أنّ كلّ موتٍ في حياتك، سيتحوّل إلى فرصةٍ للعبور إلى القيامة. إنّ الإنسان الّذي لا يَتَقبّل موتَ أحبّائه، هو في الحقيقة إنسانٌ يرفض فكرةَ الانفصالِ عنهم بالجسد، وبالتّالي لو تمكّن العِلم من إيجاد طريقةٍ للإنسان تساعده على التواصل مع أحبائه المنتقلين ورؤيتهم، لما كان موتهم سيشكّل أزمةً له. إنَّ كلَّ الأحزانِ والشَّدائد والإحباط الّتي يُعاني منها البشر في يوم فراقهم لأحد الأحبّاء، تتحوّل عند الإنسان المؤمِن بالقيامة إلى فرصةٍ للعبور مِن خلالها إلى القيامة. إذًا، مِن خلال الموت، يَكتَشِفُ الإنسانُ أنَّ الكنزَ الّذي يبحثُ عنه في داخله، هو حالةٌ داخليّة، لا أمرٌ حسيٌّ يحصل عليه.
إنّ الإنسان توَّاقٌ بطبيعته إلى تطوير ذاته، لذا فإنّ كلّ اهتمامٍ دنيويّ عند الإنسان يَهدِفُ إلى تَقَدُّمِه هو أمرٌ مشروع. إنّ الإنسان قد تمكَّن مِن تحسين نمطِ حياته، مِن خلال الاكتشافات الطِبيّة الحديثة الّتي ساهمت في القضاء على بعض الأوبئة الفتّاكة بحياة الإنسان. والاكتشافات العلميّة ساهمت في اقتراب الإنسان أكثر من كنزِه الحقيقيّ ألا وهو الربّ. إنّ كلّ طموحٍ يسعى إليه الإنسان ويكون خارجًا عن ذاته، يتحوَّل إلى "مَقبَرَةٍ" لسعادته. إنّ الإنجيلَ يؤكِّدُ لنا أنَّ كلّ سعادةٍ يبحث عنها الإنسان خارجًا عنه، هي "حماقةٌ وجَهلٌ"، ويُوضِّح لنا الإنجيل هذا الأمر مِن خلال مَثَل الغنيّ الغبيّ، الّذي قرّر أَنْ يَهدِم أهراءَه ليبنيَ أكبر منها وأوسَع، ولكنَّ الربَّ فاجأه بالقول: "يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُسْتَرَدُّ نَفسُكَ منك، فَلِمَن يكونُ ما أعدَدْتَهُ؟"(لو 12: 13-21). إنّ هذا الغنيّ لم يكن مُستَعدًّا لساعة انتقاله، لأنّه وَجَد في تخزينِ الطّعام في هذه الأرض مَصدَر سعادةٍ له. على الإنسان أن يتمتّع بروح الحكمة والتمييز فيُدرِك مَصدَر سعادته الحقيقيّة. يعتقد البعض أنّ كنزَهم يكمن في القيام بالأمور الصّالحة لاسترضاء الله، غير أنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، لأنّ تجسُّدَ الربِّ في أرضنا كانت نتيجة أعمال الإنسان السيئة لا نتيجة أعماله الحسنة، وبالتّالي لو لم يكن الربُّ راضيًا عن الإنسان لما تجسَّد مِن أجله. إذًا، إنّ رِضى الله على الإنسان غيرُ مرتبطٍ لا بأعمال هذا الأخير ولا ببَرارته، فالشَّعب نال حُظوةً في عينيّ الربّ على الرّغم من حالة الخطيئة الّـتي يعيش فيها.
غريبٌ هو الإنسان لأنّه يهتمّ لنظرَتِه الخاصّة إلى ذاته لا إلى نظرة الله إليه. إنّ قيمة الإنسان في نظر الله عظيمةٌ جدًّا، وهو، أي الله، الوحيدُ القادر على إعطاءِ الإنسانَ قيمتَه الحقيقيّة. إنّ الربّ كان سيتجسَّد من أجل خلاص الإنسان، حتّى وإن لم يكن هناك مخلوقٌ آخر سواه في هذه الأرض. إنّ كنزَ الربِّ هو قلبُ الإنسان، وبالتّالي إلى هناك يتَّجه قلب الله، بدليل تركيز الله كلَّ اهتمامِه على خلاص النّفوس البشريّة. إنّ الله هو الوحيد الّذي يَعرِف قيمة الإنسان الحقيقيّة، وبالتّالي على الإنسان أن ينظر إلى ذاته انطلاقًا مِن نظرة الربّ له، فلا يسمح أن تكونَ نظرتُه إلى ذاته أقلَّ شأنًا مِن نظرة الله له. إذًا، مِن هذا المنطلق، على الإنسان ألّا يستهين بقيمة وجوده، أو بالطاقات الّتي منَحَهُ إيّاها الله، وبالتّالي لا يحقّ للإنسان تحت أيّ ظرفٍ مِنَ الظروف المعيشية أنْ يستقيل مِن دَورِه الفريد في هذه الحياة. على كلّ إنسانٍ أن يبحث عن معنى وجوده في هذه الحياة، فيُدرِك ما هو دَورُه فيها. إنّ الإنسان الّذي يَدّعي عدم إدراكه للوسائل الّتي تساعده على معرفة دَورِه في الحياة، هو إنسانٌ قد توقَّف عند عوائق هذه الحياة، لأنّه يرغب في لَعبِ دَور المخلَّع الّذي يحتاج إلى أربعة رجالٍ لمساندته للوصول إلى هدفه المنشود، ألا وهو اللِّقاء بالربّ.
"مَن كان أبوه أو أمُّه أَحَبُّ إليه مِنّي، فليسَ أهلاً لي. ومَن كان ابنُه أو ابنتُه أَحَبُّ إليه مِنّي، فليسَ أهلاً لي" (متّى 10: 37): في هذا الكلام، لا يطلب الربّ منّا أن نُحبّه دون سواه مِنَ البشر، بل يطلب منّا أن نُحبّه أكثر من جميع البشر، كي يكون لنا نصيبٌ معه. إنّ المحبّة تجعل من المحبوب في حالة تبعيّة لِمَن يُحبّ. وبالتّالي إنّ الربّ يُحذّرنا من محبّة النّاس أكثر مِن محبّتنا له، لأنّه في تلك الحالة نكون قد وَضَعنا الآخرين مكان الله. لا يمكن للمؤمِن أن يتبع الله والآخرين في وقتٍ واحد، لأنّه إمّا أن يُرضي الله على حساب الآخرين، وإمّا أن يُرضي الآخرين على حِساب الله. على المؤمِن أن يسعى إلى السَّير في هذه الحياة وِفقَ تعاليم الربّ إن كان يريد الحصول على الحياة الأبديّة، فإنّه لا يجوز للمؤمِن اتِّهام الله بالظُّلم في حال عدم دخوله إلى الملكوت السماويّ، لأنّه مَن لم يكن طائعًا لله وعاملاً بكلامه في هذه الحياة، لا يمكنه طاعة الله في الحياة الأخرى. إنّ الله دعا جميع البشر إلى اتّباعه والدّخول إلى الملكوت، ولكن إنْ رفَضَ بعض البشر تلك النِّعمة، فلا تقع المسؤوليّة في ذلك على الله إنّما على الإنسان وحده. فكما أنّه لا يمكن للإنسان أن يُشارك في حضور عرضٍ موسيقيّ أو مسرحيّ مِن دون شرائه بطاقة دخول، كذلك لا يمكنه أن يحضر أمام الله في ملكوته ما لم يكن مستعدًّا للدّخول إليه من خلال تحقيقه لكلمة الله في حياته الأرضيّة. إنّ الله يُحبّ جميع البشر دون استثناء ولكنّه لا يستطيع أن يُجبر أيّ إنسان على أن يُحبُّه رُغمًا عنه. إنّ الله، مِن شدّة حبّه لنا، يستطيع الاستمرار في محبّته لنا، حتّى وإن لم نُبادله نحن البشر تلك المحبّة. إنّ رَفضَنا لمحبّة الله، يُسبّب لله ألـمًا وحُزنًا إذ إنّنا لن نتمكّن مِن مشاركته الوليمة السماويّة في الملكوت، مع ابنه يسوع المسيح. إنّ لكلّ بيت أرضيّ قوانينه الخاصّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البيت السماويّ أي الملكوت، فالله قد وَضَع له قوانينَ تُوجِب كلّ الرّاغبين في الدّخول إليه الالتزام بها.

إنّ علاقة الإنسان بالله هي على ثلاثة مستويات: علاقة عبدٍ بسيِّده، علاقة أجير بربّ عمله، وعلاقة ابنٍ بأبيه. إنّ الإنسان يملك ملء الحريّة ليختار نوع علاقته بالربّ: فإن اختار أن تكون علاقته بالربّ، علاقةَ عبدٍ بسيِّده، أو علاقةَ أجيرٍ بربّ عمله، فإنّ الربّ سيكون هو الرابح على الدّوام؛ أمّا إن اختار الإنسان أن يبني مع الله علاقة ابنٍ بأبيه، فإنَّ الله سيكون الخاسر الأكبر، والإنسان هو الرّابح الأكبر، لأنّ الله سيتحوّل إلى عبدٍ لأبنائه بفعل محبّته العظيمة لهم. لو عاد التّاريخ بالله إلى الوراء، فإنّنا سنراه مستعدًّا من جديد لتكرار عمله الخلاصيّ للبشر تعبيرًا عن محبّته العظيمة لهم، وهو لن يندم على ما قام به مِن أجلهم حتّى وإن رَفَضَ البعض منهم خلاصه. إنّ الله قد اتَّخذ بشريّتنا لأنّه على قناعة تامّة أنّه ما لم يُتَّخذ لا يُخلَّص، ولهذا السَّبب شابهنا في كلّ شيء ما عدا في الخطيئة، فالخطيئة ليست مِن طبيعتنا البشريّة بل هي طارئةٌ عليها. إنّ الله اتّخذ إنسانيّتنا الحقيقيّة كما خلقها الله، أي بلا خطيئة، وخلَّصها. على الإنسان ألّا يُضيِّع وقته في إثبات مدى محبّته لله، ومدى إيمانه به؛ بل عليه أن يسعى إلى اكتشاف مدى محبّة الله له، ومدى إيمان الله به، فيكتشف الإنسان قيمته الحقيقيّة ومعنى وجوده.

في إنجيل المخلّع، نقرأ "ورأى يسوعُ إِيمانَهم". إنّ هذه العبارة تحتمل بعض التأويل، إذ إنّها لا تُوضِح لنا ما إذا كان المقصود بهذا الكلام هو إيمان الرِّجال الأربعة وحسب، أم أنّها تُشير أيضًا إلى إيمان المخلَّع مع إيمان هؤلاء الأربعة. إذًا، يضَع هذا الإنجيل أمامنا صورة هؤلاء الرّجال الأربعة الّذين كانوا سندًا للمخلَّع في وصوله إلى يسوع وشفائه، وبالتّالي يدعونا هذا النّص إلى التواضع فنتمكّن مِن رؤية الدّعم الّذي يُرسله الله لنا مِن خلال وجود الآخرين بالقُرب منّا في ظلّ الصّعوبات الّتي نواجهها في هذه الحياة.
إنّ بعض المؤمنين يعتقدون أنّ الحدث الأهمّ في نصِّ المخلَّع هو إيمان المخلّع والرِّجال الأربعة، غير أنّه في الحقيقة الحدث الأهمّ هو وجود يسوع: فلولا وجود يسوع لما كان حدث هذا الشِّفاء. إنَّ الإنجيل ينقل إلينا العديد مِن الشفاءات الّتي قام بها يسوع مع أشخاصٍ التقى بهم على الطريق، دون أن يتفحَّص إيمانهم. إنّ الله رحومٌ على البشر، وهو يفيض رحمته عليهم دون أن يشترِط إيمانهم به، بدليلِ أنّه تجسَّد في أرضنا ومنَحنا الخلاص، قبل أن نَتعرَّف إليه ونؤمن به. إنّ الإنسان لا يحصل على الإيمان نتيجة مجهوده الشخصيّ، بل هو نعمة من الله تُساعده على التمتُّع بالخلاص منذ اللّحظة الحاضرة. أمّا الّذي لم يؤمِن فإنّه سينال الخلاص في اليوم الأخير إن كانت حياته مُطابقة لتعاليم المسيح.
هناك مقولة تقول: "آمِن بالحجر تَبرَأ"، ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أنّ الأشياء الّتي يُؤمِن بها الإنسان هي الّتي تمنحه الشِّفاء، بل المقصود بهذه المقوله، أنّه إن آمَن الإنسان بحجر الزّاوية أي يسوع، نال الشِّفاء. ولكن يجدر بنا التوضيح أنّ شفاء الإنسان مِن مرضِه لا يكون نتيجة إيمانه بيسوع، إذ ليس إيمان الإنسان هو الّذي يشفيه مِن مَرَضِه إنّما تَدَخُّل يسوع وتحنُّنه على الإنسان هو الّذي يؤدّي إلى الشِّفاء. وبالتّالي عندما يقول يسوع للمريض: "إيمانُكَ شفاك (خلَّصك)"، فهذا يعني أنّ قبول الإنسان لعمل المسيح في حياته هو الّذي أثمر شفاءً له، وبالتّالي إنّ عَمَلَ يسوع في الإنسان هو الّذي أدّى إلى الشِّفاء لا إيمان الإنسان بيسوع. في رسائله، يستخدم مار بولس ثلاث عبارات تدلُّ على الأمر نفسه، وهي: أوّلاً الإيمان مِن دون أيّ إضافاتٍ على هذه العبارة، ثمّ الإيمان بالإنجيل وأخيرًا الإيمان بيسوع المسيح. إذًا، إنّ المقصود بعبارة "رأى يسوع إيمانهم"، هو أنّ يسوع قد رأى إيمان الرِّجال الأربعة والمخلَّع، معًا، بدليل أنّه قال للمخلَّع: "مغفورة لك خطاياك"، ولم يوجِّه هذا الشِّفاء مِن الخطايا إلى الرِّجال الأربعة، إذ لم يستخدم الإنجيليّ في هذه العبارة صيغة الجمع. إذًا، لا يمكننا أن نُنكِر إيمان المخلَّع، فلو لم يكن هذا الرَّجل المريض ذا إيمان قويّ بالربّ لما سمح لهؤلاء الرِّجال بأن يحملوه ويُحضروه أمام الربّ.
إنّ الشَّعب اليهوديّ لم يتحوّل إلى أمَّةٍ مقدَّسة ولم يحصل على الكهنوت الملوكيّ، نتيجة مجهوده الخاصّ، بل كان ذلك نعمةً مِن الله له. إنّ المؤمِن لا يصوم لأنّه يريد الحصول على مُكافأة مِنَ الربّ نتيجةً لصَومه، بل يصوم لأنّه اكتشف أنّ الله قد سَبَق وأعطاه كلّ شيء. إنّ المؤمِن لا يعترف بخطاياه كي ينال المغفرة مِنَ الربّ، بل يعترف بها لأنّه اكتشف أنّ الله قد غَفَرَ له كلّ آثامه قَبل أن يُعلِن ندامته عنها. إنَّ المؤمِن الّذي لا يعتمد هذه الذهنيّة، هو إنسانٌ يتعامل مع الله على أنّه ربّ عمله، أو سيِّدٌ له، وبالتّالي هو يحضر أمامه مُطالبًا رئيسه بالحصول على مكافأة لِما أنجزَ وحقَّق في حياته. أمّا المؤمِن الّذي يعتمد هذه الذهنيّة فهو إنسانٌ يشعر بأبوّة الله له، وبالتّالي فإنّ علاقته بالربّ مبنيّة على مبدأ الحبّ لا على مبدأ الشريعة. إنّ قانون الحبّ مختلفٌ تمامًا عن قانون الشريعة، إذ إنّه أصعب في التطبيق، ولكنّه يُحرِّر المؤمِن ويمنحه الحريّة. إنّ قانون الحبّ هو إذًا قانون الحريّة. إنّ الحرّية تفترض وجود مسؤوليّة عند المؤمِن. عندما نتكلّم عن أمَّةٍ مقدَّسةٍ، وكهنوتٍ ملوكيٍّ، فهذا يشير إلى ارتباط هذه الأمّة بالقدّوس، وهذا الكهنوت بالـمَلِك، أي الله. إنّ المؤمِنين بالله جميعًا، يتحوَّلون إلى خَدّامٍ للعرش الإلهيّ، لا بمعنى العبيد، بل بمعنى خدمتهم لهذا العرش مِن أجل استمراره والمحافظة على فعاليّته في وَسَطِهم. إنّ شعب الله هو شعبٌ كهنوتيّ، وهذا يعني أنّ أفرادَه هم كهنة، أي أنّ عليهم الاشتراك في تقديم تلك الذبيحة الدائمة، وهي ذبيحة يسوع المسيح الّتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، ولا يزال الشَّعب كلّه يعيش ثمارها ومفاعيلها، إلى يومنا هذا؛ فالشَّعب يعيش مِن تلك الذبيحة الوحيدة، وبها ولها. إنّ الكاهن، لا يُقدِّم ذبيحةً جديدة في كلّ احتفالٍ افخارستيّ، بل إنَّ احتفاله يُشكِّل امتدادًا للذبيحة الوحيدة، ذبيحة المسيح، وما كهنوته إلّا امتدادٌ لكهنوت الكاهن الأوحد يسوع المسيح. لقد اندثرت كلّ سلالةٍ كهنوتيّة بتجسُّد المسيح بين البشر. فالكهنوت الملوكيّ إذًا والأمّة المقدَّسة، هما عطيّتان مِنَ الله للبشر. وهنا يُطرح السؤال: كيف يعيش المؤمِن كلّ تلك العطايا بفرح، وكيف يحافظ عليها في عالمه؟

في زمن الصّوم، علينا أن نصوم لا مِن أجل الحصول على مكافأةٍ مِنَ الربّ، إنّما علينا الصّوم مِن أجل كلّ إنسان لم يتمكّن مِن الحصول على الأمور الأساسيّة في الحياة، فنساهم في صَومِنا لا في ادِّخار المال، بل في مساعدة المحتاجين إلى الأمور الماديّة والمعنويّة. فحين تُشارك الفقير صَومَك، فإنّك تعبِّر في الوقت نفسه عن إدراكِكَ لمعنى قيامة المسيح مِن أجلك، فالمسيح قد مات بسبب فَقر البشر الروحيّ، ليُغنيهم بقيامته. ولذا على المؤمِن أن يعيش صَومه هذه السنّة بذهنيّة جديدة، مبنيّة على إماتة النَّفس من أجل إغناء الآخر المحتاج.
لقد قال الربّ يسوع في إنجيله: "ولكن ستاتي أيّامٌ فيها يُرفَع العريسُ مِن بينِهم، فعندئذٍ يصومون في تلك الأيّام"
(لو 5: 35) على صَومنا أن يُعاش بذهنيّة جديدة غير مبنيّة على الشَّكليات كما هي الحال في الصَّوم اليهوديّ والصَّوم الوثنيّ. إنّ الإنجيليّ لوقا يقصد بعبارة "حين يُرفع العريس من بينهم"، موت المسيح على الصّليب، وإتمامه لعمله الخلاصيّ. وبالتّالي فإنّه حين يُحقِّق الربّ عمله الخلاصيّ مِن أجلك، عندها يتوجَّب عليك أن تصوم، أي أنّه عليك أَن تُساهم في خلاص نفوس إخوتك البشر فتُطعم الفقير وتزور المسجون، وتقوم بأعمال الرّحمة مِن أجلهم. إذًا، إنّ الصَّوم المسيحيّ لا يقوم على انقطاع المؤمِن عن الطّعام في فترة قَبل الظهر وحسب، بل على المؤمِن أن يحوِّل المال الّذي يدّخره مِن خلال هذا الانقطاع عن الطّعام، إلى الّذي لا يملك طعامًا، فيُفرِّح قلوب المحتاجين بعطائه لهم، ويَشعر بفرح القيامة. على صَومِنا ألّا يكون فارغًا مِنَ القيامة. إنّنا لا نصوم مِن أجل الوصول إلى القيامة، ولكنَّنا نصوم لأنّنا وَصَلنا إلى القيامة. إنّ مجتمعنا المسيحيّ يحتاج إلى معموديّة جديدة تبدأ في هذا الزّمن بتغيير ذهنيّته القديمة واستبدالها بذهنيّة الإنجيل.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
4/3/2018 فرح العبور أن نستعدّ لإقامة عهد جديد مع الربّ
https://youtu.be/vpriflOrN24

"فرح العبور"
مع الخوري جوزف سلوم
في الرياضة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير سيّدة البشارة للروم الملكيّين الكاثوليك
واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل

4/3/2018

عند مشاركته في رياضةٍ روحيّة، يترك المؤمِن خارجًا كلّ التزاماته الدنيويّة، رغبةً منه في تجديد التزامه بالربّ في هذا اليوم الروحيّ. لذا يتوجَّب على المؤمِن أن يحاول الإجابة على هذين السؤالَيْن: أين أنا مِن مسيرتي على هذه الأرض؟ وإلى أين أريد الوصول في نهايتها؟ إنَّ أصعب رحلةٍ يقوم بها الإنسان، هي رحلتُه إلى أعماقِ ذاته. في هذه الرياضة، أشجِّعكم إخوتي، على الغوصِ في أعماق ذواتكم مِن دون خوفٍ، لتَكتشفوا جراحاتكم فتضعوها أمام الربّ. على المؤمِن أن يُحدِّد الهَدَف الّذي يصبو إليه في هذه الحياة، فيتمكّن مِن تَبَنِّي مبادئَ روحيّة تساعده على تحقيق هدفه مُتخَلِيًا عن كلِّ مشاريعه الأرضيّة الزائلة. في أَحدِ كُتُبه، روى لنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر قصّةَ مُهرِّجٍ اشتهر بقُدرَته على زرع الابتسامة على وجوه زائري السِيرك. وفي أحد الأيّام، شَبَّ حريقٌ في هذا السيرك، فذهب المهرِّج ليطلب النَّجدة من أهل تلك القرية، ولكنّ أحدًا مِن أهل القرية لم يُصدِّقه، إذ يعلمون أنّه يعمل كمهرِّج، واعتقدوا أنّ ما يُخبرهم به هو كلامُ تهريجٍ. هذا ما نختبره يوميًّا في حياتنا، إذ يعتبر الآخرون أنّنا مُهرِّجون، إذ إنّ تصرّفاتِنا لا تعكس ما نبشِّر به.

إنّ رسالة الصّوم الّتي أطلقها قداسة البابا فرنسيس لهذه السنة هي بعنوان:"فرح الحقيقة"، وقد أطلق في السَّابق عدّة رسائل بابويّة منها "فرح الإنجيل"، و"فرح الحبّ" للمتزوِّجين. إذًا، إنّ البابا فرنسيس يدعونا، ومعه الكنيسة جمعاء، إلى اختبار الفرح، لذا قرّرتُ أن يكون موضوع حديثي معكم هو: "فرح العبور"، ويتألَّف هذا الحديث مِن مقدِّمة عن مفهوم الصّحراء؛ ثمّ يُقسَم حديثي إلى قِسمَين: في القسم الأوّل أعرِض لكم ثلاثةَ أحداثٍ مِن العهد القديم مِن شأنها أن تساعدنا على فَهْمِ معنى العبور، وفي القسم الثَّاني أعرِض لكم ثلاثةَ أحداثٍ مِن العهد الجديد، للهدف نفسه؛ وأختم حديثي معكم بعرضِ لائحةٍ مِنَ الأمور العمليّة اليوميّة الّـتي تساعدنا على عيش عبورنا بفرح مِن هذه الحياة صوب الربّ.

إنّ الصّحراء هي مكانٌ يفتقد لأبسط مقوّمات الحياة الأساسيّة، لذا لا نجد فيها لا نبات ولا حيواناتٍ أليفة بل بعض الحيوانات المفترسة، كالأفاعي والعقارب؛ ولهذا السَّبب أيضًا، لا يسكنها البشر. إنّ الصّحراء تتَّسم بالصمت والهدوء. لا يمكن للإنسان أن يجد في الصّحراء أيَّ دليلٍ يُرشِده إلى الطريق، وبالتّالي فإنّ مسيرته فيها هي مسيرةٌ صوب المجهول. تتَّسِم الصَّحراء بجوٍّ حارٍ في النّهار وباردٍ في اللِّيل. في الصّحراء، يختبر الإنسان الجفاف بسبب عدم وجود المياه، كما أنّه قد يتعرّض لبعض المخاطر، فيختبر الخوف والقلق. في الصّحراء يجد الإنسان نفسه وحيدًا، مِن دون سندٍ، فيختبر ضرورة الاتِّكال على الله والثِّقة به، فيُصلّي إلى الله طالبًا منه المساعدة قائلاً: "تعال يا ربّ، أسرع إلى نجدتي. ساعدني لأَعْبُر هذه الصّحراء بفرحٍ مُتخطِّيًا كلّ صعوباتها".
إنّ الصّحراء في الكتاب المقدَّس هي مكانٌ للعهد بين الله وشعبه، فَفِيها اختبر الشَّعبُ القديم وجودَ الله وعنايتَه، وفيها صام الربّ وصلّى إلى الله أبيه، يومَ قاده الرّوح القدس إليها بعد اعتماده على نهر الأردنّ. في رسالته للمؤمِنين في زمن الصّوم، يقول البابا فرنسيس إنّ فِصح الربّ آتٍ إلى المؤمِنين به. إنّ الإنسان يخاف مِن الوِحدة، لذا يتحاشى اختبار الصّحراء، أي العيش وحيدًا مبتعدًا عن الآخرين. إنّ الصّحراء الدّاخليّة ليست مجرّد ابتعادٍ عن الآخرين، بل هي لقاء الإنسان، في عمق وَحدته مع الربّ الوحيد. إنّ هذا الزّمن يشكِّل دعوةً للإنسان لاختبار صحرائه الدّاخليّة، فينظِّم حياته ويعيد ترتيب أولويّاته، فيضع الربّ في صُلبِ اهتماماته. في عودته إلى أعماق ذاته، يراجع الإنسان حياته الماضية فيتعلّم مِن أخطائه ويتَّخذ العِبَر لبَقيّة حياته. والصّحراء الدّاخليّة على أنواع: فبعض البشر يُعانون مِن صحراء الإيمان فيواجهون صعوباتٍ على مستوى إيمانهم بالربّ، وآخرون يُعانون مِن صحراء العاطفة فيُعانون مِنَ الجفاف الروحيّ، وآخرون يُعانون مِن صحراء العقل فيُعانون مِن شِحٍّ على مستوى الأفكار، وآخرون يُعانون مِن صحراء الأوهام، أو "صحراء الأنبياء الكذبة"، على حدِّ تعبير البابا فرنسيس، إذ يسعون وراء أوهام هذا العالم الّتي لا تمنحهم إلّا سعادة مزّيفة لا تلبث أن تزول سريعًا. إنّ البعض يعانون مِن صَحراء التشاؤم، إذ ينظرون إلى الأمور مِن حولهم بطريقة سوداويّة، كما أنّ آخرين يُعانون مِن صحراء المجادلات العقيمة الّتي لا تُعطي أيّةَ نتيجة، وآخرين أيضًا يُعانون مِن صحراء الدينونة، إذ ينظرون إلى الآخرين نظرةً فوقيّة، ويُعطون أنفسهم حقّ إدانتهم. إنّ بعضًا مِنَ النّاس يُعانون أيضًا مِن صحراء الأنانيّة إذ يرغبون في امتلاك كلّ ما في هذه الحياة، وآخرين يُعانون مِن صحراء اللّامبالاة فيتجاهلون الآخرين المحيطين بهم. إنّ زمن الصّوم يشكِّل حافزًا مهمًّا لنا للدّخول إلى أعماق ذواتِنا، فنكتشف صحراءنا الدّاخليّة، ونسعى إلى تحويلها إلى أرضٍ طيِّبة بالأعمال الصّالحة، فنُطعِم الجياع، ونواسي الحزانى، ونُقدِّم صومَنا مِن أجل كلّ الّذين يُعانون مِن الضِّيق، ومِن التبعيّة ومِن الإلحاد، مُصلِّين مِن أجل كلّ الّذين يرفضون مسامحة الآخرين على زلّاتهم، ومِن أجل إحلال السّلام وانتهاء الحروب والنِّزاعات بين الشُّعوب.

إنّ الكتاب المقدّس، العهد القديم، ينقل إلينا أحداثًا كثيرةً اختبر فيها الشَّعب اليهوديّ معنى العبور، ولكنّنا اليوم سنتوقَّف عند ثلاثة منها فقط. لقد اختبر الشَّعب معنى العبور يومَ ترك أرض العبوديّة، أرض مِصر، عائدًا إلى أرض الحريّة، أرض الميعاد: لقد سار الشَّعب مع موسى أربعين سنةً في الصَّحراء واختبر الجوع والعطش، والتمرّد والتذمُّر على الله، والمرض والألم والموت. لقد اختبر الشَّعب في مسيرته في الصّحراء، أوّلاً: العطش، فتذمّر على موسى وَطالَبَهُ بتأمين المياه ليتمكّن مِن متابعة مسيرته في الصّحراء. لم تكن المياه صالحةً للشُّرب في الصّحراء، لذا عندما رأى الله معاناة شعبه، طلب مِن موسى أنْ يمدَّ عصاه على المياه فتتحوَّل إلى مياهٍ عذبة، وهذا ما حصل، فشرب الشَّعب كلّه. إنّ مسيرةَ الشَّعبِ في الصّحراء، ترمز إلى مسيرة صَومنا اليوم، المليئة بالصُّعوبات والمشَّقات. كما ترمز عصا موسى إلى يد الله القديرة الحاضرة مع شعبه، لتُسانِدَه في وقت الضِّيق، ولتؤكِّدَ له أنّه ليس وحيدًا في الصّحراء بل إنّ الربّ معه. بعد ارتواء الشَّعب، تابع هذا الأخير مسيرتَه في الصّحراء، ولكنّه جاع، فعاد ليتذمّر مِن جديد على موسى وَيلُومه على إخراجه مِن أرض مِصر، حيث كان الطّعام مؤمَّنًا له على الدّوام. لم يترك الربّ شعبَه في هذه المحنة، بدليل إرساله له الـمَنَّ والسّلوى. يرمز الـمَنّ والسّلوى إلى الخبز النّازل مِنَ السّماء، أي يسوع المسيح، فهو الوحيد القادر على إشباع الجوع الحقيقيّ عند الإنسان. لقد لَسَعَتْ أفاعي الصّحراء عددًا مِن أفراد هذا الشَّعب، فماتوا على الفور نتيجة سُمِّ الأفاعي القاتل. إنّ موتَ عددٍ مِن أفراد الشَّعب اليهوديّ، وعدم وجود أماكنَ لائقةٍ لِدَفْنِهم في الصّحراء، دَفع بالشَّعب إلى التذمّر على موسى مِن جديد، عندها رفَعَ موسى الحيّة النّحاسيّة قائلاً للشَّعب إنّ كلّ مَن ينظر إلى تلك الحيّة أو يلمسها، ينال الشِّفاء والحريّة. شكَّل عبورُ الصَّحراء الاختبارَ الأهمّ في حياة الشَّعب اليهوديّ، لذا أقاموا الاحتفالات وأَلَّفوا الأناشيد ورنّموها للتعبير عن فَرَحِهم في هذه المناسبة، وَبَنوا المذابح وقدّموا ذبائح الشُّكر لله في هذه الذِّكرى. إنّ الحيّة النُّحاسيّة ترمز إلى الربّ يسوع الّذي رُفِع على الصَّليب، إذ إنَّ كلّ مَن يدنو منه أو يلمسه ينال الشِّفاء.

يُخبرنا الكتاب المقدَّس، العهد القديم، عن النبيّ هوشع الّذي اختبر أيضًا معنى العبور مع زوجته جُومَر الّتي طلب منه الربّ أن يتزوجَّها. لقد كانت جُومَر امرأةً زانية، وتابعت عيشها لحياة الزِّنى حتّى بعد زواجها فأنجبت طفلَين فَسَمَّت ابنها الأوّل: "ليس بشعبي"، وابنتها: "لا رحمة". بعد انجابها مولودَين نتيجة الزِّنى، طلب الربّ مِنَ النبيّ أن يُخاطِب قلب زوجته كي تتمكّن امرأته مِن العودة عن طريقها المعوَجّ. إنّ القلب هو مكان العهد، وهو المكان الّذي مِن خلاله يستطيع الله مخاطبة الإنسان. استجابةً لطلب الربّ، أخد النبيّ هوشع امرأته إلى البريّة وخاطب قلبها، فعادت جُومَر عن ضلالها، فأنجبت مِن زوجها هوشع ولدًا أَسمته يزراعيل أي الله يزرع، أو الله يُنمي الزّرع ويباركه. إنّ النبيّ هوشَع يمثِّل الله الّذي يسعى مِن دون كَللٍ إلى إعادة أبنائه المنغمسين في الخطيئة إليه، من خلال مخاطبة قلوبهم. إنّ الزِّنى في الحياة الروحيّة، هو ابتعاد الإنسان عن الله، واتِّباعه لآلهةٍ وثنيّة مزّيفة، لا نفعَ منها. إنَّ الله يبقى أمينًا لشعبه على الرُّغم مِن خيانات هذا الأخير المتكرِّرة.

إنّ النبيّ يونان عاش أيضًا خبرة العبور (2سفر الملوك 14: 25)، وقد استشهد بخبرتِه الربّ يسوع في قوله للفرِّيسيين: "جيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بآية، وَلَن يُعطى سِوى آيةِ النبيّ يونان"(متّى 12: 39). كانت نينوى مدينةً عظيمةً، ولكنّ شَرَّ أهلها كان قد صَعِد إلى السّماء. لذا طلب الربّ من النبيّ يونان أن يذهب لتبشيرها علَّها تتوب عن طريقها الآثِم. فخاف النبيّ وعِوَض أن يذهب إلى نينوى، رَكِب سفينة وذهب مع بَحّارتها إلى ترشيش هربًا من نِداء الله له. وحين أصبحوا في منتصف البحر، هبّت رياحٌ شديدة، وأخذت تلطُم السَّفينة، حتّى أوشكَتْ على الغرق. فبدأ بَحّارتها بالتَّضرع، كلٌّ إلى إلهه، مِن أجل خلاصِ نفوسهم مِن هذه الكارثة. ولـمّا وَجدوا يونان نائمًا في السَّفينة، أيقظوه وطلبوا منه أن يُصلِّي بِدَورِه إلى إلهه. حاول البَّحارة التَّخفيف مِن حمولة السَّفينة، فرَموا بعض أمتعتَهم في البحر، علَّهم يَنْجُونَ مِن الموت. ولـمّا لم تهدأ العاصفة، قرّروا رَمْيَ الشَّخصِ المسؤولِ عن حدوث تلك العاصفة، لأنّهم أدركوا أنَّ هذه العاصفة حدثت بسبب أحد الموجودين على متن تلك السَّفينة؛ عندها اعترف يونان أمامهم بالحقيقة، فرَموه في البحر، فهدأت الرِّيح. لكنّ الربّ لم يترك يونان، بل أرسَل إليه حوتًا ابْتَلَعَهُ لثلاثةِ أيّامٍ، ثمّ لَفَظَه بعدها على شاطئ البحر. إذًا، لقد بَقِيَ يونان في جوف الحوت ثلاثةَ أيّامٍ، حيث صلّى إلى الله وتاب إليه. لقد كانت هذه المرحلة، مرحلة عبورٍ بالنسبة ليونان مِنَ الموت إلى الحياة. إنَّ جوف الحوت يرمز إلى الموت، إلى صحراء الإنسان الدّاخليّة، إلى الصّعوبات والمشاكل، الّتي تعترض حياته. من خلال اختبار يونان، يتعلَّم المؤمِن أهميّة الصّلاة إلى الله في وقت الضِّيقة والصّعوبات، فيختبر على مثال يونان "سرّ اليوم الثّالث"، الّذي فيه عاد يونان إلى الحياة. بعد عودتِه إلى الحياة مِن جوف الحوت، انطلق يونان ليبشِّر أهل نينوى، طالبًا مِنْهم الصّوم، كبارًا وصِغارًا، مدّة أربعين يومًا، فاستجاب الجميع لطلبه، وتابوا عن خطاياهم، حتّى أنّ مَلِكها قد لَبِسَ المِسح، وافترش الرَّماد. إذًا، في العهد القديم، اختبر الشَّعب العبور، من خلال عبورهم البحر الأحمر والسير في الصّحراء أربعين سنة، كما أنّ النبيّ هوشع قد اختبر فرح العبور يومَ تابت امرأته عن ضلالها، وأخيرًا اختبر يونان النبيّ هذا الفرح، فرح العبور، يوم عاد إلى الحياة ساعة لفَظَه الحوت.
كما في العهد القديم، كذلك في العهد الجديد، أحداثٌ متعدّدة تساعدنا على فهم العبور المسيحيّ. سنتكلّم أوّلاً عن عبور يسوع في مياه المعموديّة في نهر الأردنّ، ثمّ عن عبور زكّا يومَ تاب عن ضلاله، وأخيرًا عن عبور الصّليب. لقد تعمَّد يسوع في نهر الأردنّ على يوحنّا المعمدان، وقد انفتحت السّماء بعد أن كانت قد أُغلِقت بسبب خطايا البشر.كذلك المؤمِن، فإنّه في يوم عماده، يغطس في المياه ليُعبِّر عن ولادته الجديدة بالرّوح، فتَنفَتِح السّماءُ لتُعبّر بِدَورها عن فرَحِها بعودة هذا المؤمِن إليها، إذ يُعلِن مِن خلال قبوله للمعموديّة عن رغبته في أن يُصبح قدِّيسًا، وأن يُصبح ابنًا لله. في نصٍّ إنجيليّ آخر، نقرأ أنّ يسوع قد رَكِب في السَّفينة مع تلاميذه، قائلاً لهم: "هلّموا نعبر إلى الضِّفة الأخرى". لقد أراد يسوع الاستراحة بعد يومٍ طويل، أمضاه في تعليم النّاس بكلمة الله وفي شفاء مَرضاهم. كانت بُحيرة طبريّا هادئة الأمواج، ممّا دفع بالربّ إلى النوم في مؤخِّرة السَّفينة. وما إن غفا الربّ، حتّى اشتدَّت الرِّياح، وبدأت تَلطُمُ السَّفينة حتّى كادت تغرق، فخاف التّلاميذ وصرخوا، فاستيقظ الربّ مِن سُباته. إنّ عبور الإنسان مِن مكانٍ إلى آخر في الحياة، ليس سَهلاً، إذ سيتعرَّض الإنسان لصعوباتٍ جمّةٍ أثناء مرحلة التَّغيير الّتي يُنشِدها. حاول التّلاميذ إيقاظ يسوع بصراخهم، غير أنّ الربّ لم يستجِب لهم على الفور، لأنّه كان يريدهم أن يتَّكلوا أوّلاً على إمكانيّاتهم البشريّة. إنّ الربّ لم يستجِب للتّلاميذ على الفور لأنّ صوتَ الأمواج كان أقوى مِن صوت صراخهم إليه. إنّ الصّراخ إلى الله يُشير إلى صلاة المؤمِن. حين يتعرَّض المؤمِن للتّجارب، عليه أن يصرخ إلى الله ويطلب منه المعونة، ولكن على صوتِ صُراخه أن يعلو فوق صوت الأمواج، أي فوق صوت التّجارب. حين استيقظ الربّ من نومِه، وبَّخ التّلاميذ على قلّة إيمانِهم، ولكنّه رَفع يمينه بوجه أمواج البحر فهدأت العاصفة. إنّ يمين الربّ تدلّ على قوّة الربّ وبالتّالي على حضوره الدائم معنا.

يُخبرنا الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، عن اختبار زكّا العشّار (لو 19: 1-10)، الّذي كان قصير القامة، ولكنّه أراد رؤية يسوع على الرّغم مِن إزدحام الجموع، فتسلّق جُمَّيزة للوصول إلى هدفه. يُخبرنا هذا النّص الإنجيليّ أنَّ يسوع "دخل إلى مدينة أريحا وبدأ يجتازها". إنَّ مدينة أريحا هي مدينة منخفضة عن مستوى البحر، وبالتّالي هي أقلّ قيمة بالنسبة لليهود، مِن أورشليم على سبيل المثال، الّـتي تقع على جبلٍ مرتفعٍ. إنّ مدينة أريحا تُمثِّل الإنسان المنغمس في خطاياه، ثمثّل الإنسان البائس الّذي يرفض الآخرون الاختلاط به، لاعتباره أقلّ شأنًا منهم.كان زّكا أحد سُّكان هذه المدينة المنخفضة عن سطح البحر، وكان يعمل كجابي ضرائب، وقد اشتهر بحبِّه للمال. ولهذه الأسباب كلّها، كان سُكَّان أريحا يكرهونه ويتجنّبون اللّقاء به ومخالطته. عند رؤيتهم لزّكا، حاول أهل أريحا مَنعَه مِنَ الاقتراب مِن يسوع، إذ إنّهم لا يُحبّون وجوده فيما بينهم بسبب وظيفته الّتي تقتضي جمع المال منهم وإعطاؤه للمحتَلّ، ولكنّهم فشلوا في ذلك. إنّ رغبة زكّا العميقة في رؤية يسوع دفعته ليتحدّى كلّ الحواجز من أجل الوصول إلى هدفه، فتخطّى قِصرَ قامته ومنصِبَه المرموق في المجتمع، وتسلَّق جمَّيزةً وانتظر مرور الربّ. في نصّ شفاء مخلَّع بيت حِسدا، يُخبرنا الإنجيليّ أنّ المخلَّع كان يجلس على حافة هذه البِركة منذ ثمانٍ وثلاثين سنة، منتظرًا في كلّ مرَّة فَوران المياه كي يكون أوّل مَن يرمي نفسه فيها فينال الشِّفاء؛ غير أنّ آخرين كانوا يسبقونه إلى ذلك، فيعجز عن الشِّفاء. وفي أحد الأيّام، كان يسوع مارًّا مِن هناك ورآه، فسأله عن رغبته العميقة، فقال المخلَّع للربّ إنّه يريد الشِّفاء، فأعطاه الربّ سُؤلَ قلبه. إذًا، إنَّ الربّ حاضرٌ لمساعدة الإنسان يومَ يُعلِن هذا الأخير عن رغبته في التَّغيير. هذا ما حصل تمامًا مع زكّا، إذ أراد التّغيير وأعلن للربّ عن تلك الرّغبة حين بادر إلى تسلُّقِ جمَّيزةٍ كان يسوع مُزمِعًا أن يمرّ بالقرب منها. حين رأى الربّ رغبة زكّا، تجاوب معها، فطلب منه أن ينزل على عَجلٍ لأنّه يريد أن يُقيم في بيته. لم يدخل يسوع فقط إلى بيت زكّا بل إلى قلبه أيضًا، بدليل توبة هذا الأخير مُعلنًا توزيع مالَه على الفقراء ومُعوِّضًا أربعة أضعافٍ على كلِّ مَن أجحف بحقِّهم في السّابق. إنَّ لقاء المؤمِن بالله هو لقاؤه بالحقيقة، لقاؤه بالنّور الّذي لا يزول، ممّا يدفع الإنسان إلى تغيير حياته القديمة والتخلّي عن الاهتمام بالمظاهر الخارجيّة للاهتمام بحياته الداخليّة أي بقلبه، لأنّ الإناء ينضح بما فيه، فما يتفوّه به الإنسان نابعٌ من قلبه.
إنّ الكتاب المقدّس يُخبرنا أيضًا عن عبور الربّ يسوع مِن هذه الأرض إلى الآب، مِن خلال الموت على الصّليب. إنّ الربّ يسوع مات مرّة واحدة في التّاريخ فداءً للبشريّة كلّها وبالتّالي فإنَّ الاعتقاد أنَّ الربّ يموت عنّا في كلّ يوم هو خاطِئٌ تمامًا. إنّنا لا نُقدِّم الربّ يسوع تقدمةً جديدة للآب في كلّ ذبيحة إلهيّة، بل نُحيي ذكرى تقدمة الآب ابنه الوحيد ذبيحةً عنّا على الصّليب، ونختبر مفاعيل قيامته في حياتنا من خلال الاحتفال الافخارستيّ. إذًا، إنّ موت يسوع على الصّليب يُشكِّل الذبيحة الوحيدة الّتي غذّت البشريّة عبر التّاريخ ولا زالت تتغذّى منها الأجيال عبر العصور، وهذا ما أدّى إلى حصول التّغيير فيها، فالبشريّة لا تتغيّر بفضل قوَّتها بل بفضل قوّة الله العامل فيها. إنّ الربّ لا يدخل حياة الإنسان ويُغيّر قلبه عُنوةً، بل إنّه يحترم حريّة الإنسان وينتظر مِن هذا الأخير أن يفتح له باب قلبه ليستطيع أن يُحدث التّغييرات اللّازمة في حياته. لذا فلنتشجّع ولنفتح أبواب قلوبنا للربّ كي يتمكّن مِنَ الدّخول إليها وتغييرها. إنّ لقاء الإنسان بالربّ يُعبِّر عن قبول الإنسان بخلاص الربّ له. إنّ المؤمِن يولَد ولادةً روحيّة، حين ينظر إلى الدّم والماء اللّذين سالا مِن جنب يسوع المطعون بالحربة. فلنتأمّل إخوتي، في آلام الربّ يسوع وعذاباته، لا مِن أجل البكاء والنّواح على مدى قسوة البشريّة، بل لنختبر عظمة حبّ الربّ، الّذي مات على الصّليب مِن أجل فِدائنا. بموته على الصّليب، أراد الربّ أن يعبِّر عن حبّه للبشريّة كلّها. وبالتّالي على كلّ مؤمِن أن يسعى للاقتراب من الربّ مهما تعاظمت خطاياه، لأنّ الربّ قد دفع ثمن خطايا البشريّة كلّها بقبولِه الموت على الصّليب. إنّ الربّ بتجسُّده وموته على الصَّليب، قد فتح أمام البشريّة جمعاء باب السّماء الّذي كان قد أُغلِق بسبب خطاياها. لقد أتمّ المسيح بموته على الصَّليب الفِصح لجميع البشريّة، إذ أعطاها الفرصة للدّخول إلى الملكوت. هذا هو الفِصح، هذا هو عبور الصّليب، عبورٌ نحو القيامة. لا يمكن للإنسان أن يعبر مِن هذه الحياة الفانية إلى الحياة الجديدة دون المرور بحقيقية الصّليب، فالمؤمِن يلتقي بالربّ عند أقدام الصّليب.
في الختام، إليكم بعض النّصائح كي تُتِمّوا عبوركم مِن هذه الفانية إلى الحياة الجديدة بفرح. أوّلاً على المؤمِن المحافظة على قلبه، فإنّ قساوة القلب تقف حاجزًا أمام دخول الربّ إلى حياته وتغييرها. في الكتاب المقدَّس أمثلةٌ كثيرة عن قساوة القلب، وأهمّها ما اختبره تِلميذَا عمَّاوس في طريق عودتهما إلى قريتهما. بعد موت المسيح، عاد كلاوبا والتّلميذ الآخر إلى قريتهما حزينين، وكانا يتحادثان في الطريق عمّا جرى في أورشليم، فجاء الربّ وسار معهما، وشرح لهما الكتاب المقدَّس. وعندما وصل التِّلميذان إلى قريتهما طلبا من الضِّيف أن يمكث معهما لأنّ المساء قد حلّ. لقد عرف هذان التّلميذان الربَّ حين كسر الخبز أمام أعينهما وناولهما. في هذه اللّحظة، اختبر هذان التِّلميذان الفِصح الحقيقيّ، فانطلقا عائدَين إلى أورشليم والفرح يملأ قلبيهما لأنّهما التقيا بالربّ القائم مِنَ الموت. على المؤمِن الّذي يرغب في عيش فرح العبور، أن يُحافظ على قلبه متَّقدًا كقَلبَي تلميذَي عمّاوس. إنّ القلب المتَّقد هو علامة للحبّ الحقيقيّ. مِن صفات الحبّ أنّه يدفع الحبيب إلى مرافقة حبيبه في مسيرته على هذه الأرض، فيُصغي إليه ويُصدِّق كلّ أقواله، أي أنّه يثق به، ويصبر على المحبوب، وهذا ما يجعل قلب الحبيب متَّقدًا تجاه محبوبه. عندما نتوب إلى الربّ عن خطيئة قد ارتكبناها، يُصدِّق الربّ توبتنا ويغفر لنا آثامنا، لأنّه يُحبّنا إلى الغاية مع عِلمه أنّنا سنعود إلى ارتكاب الخطايا كلّما كان الظرف مؤاتيًا. إنّ زكريّا الكاهن الطاعن في السِّن، قد طلب من الربّ أن يمنحه وَلَدًا، فصدّق الربّ رغبة زكّريا واستجاب له ومنحه يوحنّا. إنّ الحبّ يدفع بالحبيب إلى تحمُّل كلّ شيء، والصّبر على كلّ شيء. إنّ القلب المتَّقد هو الّذي يدفع بالمؤمِن إلى محبّة الله، ومحبّة إخوته البشر.

إنّ عبور المؤمِن بفرح إلى الحياة الأبديّة يتطلّب منه الانتباه إلى لسانه، أي إلى كلماته مع الآخرين. إنّ قداسة البابا فرنسيس يقول لنا في هذا الصَّدد، إنّ غالبية المشاكل بين البشر يعود سببها إلى اللِّسان. إنّ مشكلة عصرنا اليوم هي الاتِّهاميّة والجدليّة. على المؤمِن أن يتحلّى برحابة صَدرٍ فيسمع كلّ ما يُقال عنه، فيضَع جانبًا الكلام الجارح، ويُعطي أهميّة لما فيه بُنيانه الرّوحيّ. إنّ المؤمِن لا يستطيع الدّخول وحده إلى الملكوت بل مع الآخرين، ولذا عليه الانتباه إلى أخوته البشر لا أن يتحاشاهم ويتجاهلهم.

إنّ الربّ يسوع مات على الصَّليب ثمّ قام في اليوم الثّالث مِن بين الأموات ومَنَح البشريّة جمعاء الحياة الأبديّة: هذه هي الحقيقة الوحيدة في كلّ تاريخ البشريّة. على المؤمِن أن يبني إيمانه انطلاقًا من هذه الحقيقة الأساسيّة، ومِن ثمّ يسمح لعاطفته أن تتغذّى من إيمانه بالربّ. إذًا، يأتي الإيمان بالربّ القائم أوّلاً ثمّ العاطفة، لأنّه عندما يبني المؤمِن إيمانه على العاطفة، فإنَّ ذلك سيؤدّي إلى ضياعه وهلاكه، عندما تواجهه الصُّعوبات. إنّ إيمان المؤمِن بالربّ القائم سيمنحه فرحًا حقيقيًّا، فَرحًا لا يزول.

إنّ اعتناء المؤمِن بقلبه أوّلاً ثمّ بلسانه ثانيًا، سيمنحانه فَرحًا عظيمًا، يدفعه إلى التّعبير عن حبِّه للربّ بالتوبة والعودة إليه. بين الأمثلة الثلاثة الّتي وَضَعها أمامنا لوقا الإنجيليّ عن الخروف الضّال والدِّرهم الضائع والابن الشاطر، عبارةٌ مشتركة، هي:" هكذا يكون فرحٌ". على توبة الإنسان إلى الله أن تكون مصحوبةً بحالةٍ من الفرح والابتهاج، لا بحالة من الحزن والكآبة، فالمؤمِن الحقيقيّ هو إنسان يملأ الفرح قلبه من جرّاء قبوله بالربّ سيِّدًا على حياته. إنّ لقاء المؤمِن بالله هو لقاءُ فَرَحٍ يؤدّي إلى قداسة المؤمن. وهنا أودّ أن أردّد معكم بعض آيات مزمور 23(الربّ راعيّ): "إنّي ولَو سَلكْتُ في وادي ظلالِ الموت لا أخافُ سوءًا لأنّك معي". إذًا، إنّ الإنسان يواجه صعوباتٍ في كلّ عبورٍ يودّ القيام به، لكنّه عليه أن يتذكّر على الدّوام أنّ الربّ معه، فيسعى إلى المحافظة على اتِّقاد قلبه، كما يسعى للاعتناء بلسانه فلا يخرج منه إلّا ما فيه بناء الآخرين رُوحيًّا. في هذا الصدّد، يُشدّد قداسة البابا فرنسيس على أنَّ نار الفِصح آتية وهي ستحرق كلّ لامبالاةٍ وتَجاهُلٍ مِن المؤمِن للآخرين. إنّ نار الفِصح قادرةٌ على تطهير الإنسان وعلى تقديسه، وتساهم في مساعدته على العبور من هذه الفانية إلى الحياة الجديدة بِفَرحٍ.

إنَّ كلّ الكنوز الأرضيّة الّتي يسعى إليها الإنسان ويتمسَّك بها، لا تستطيع أن تمنحه إلّا فَرحًا زائلاً، لا يدوم إلّا لوقتٍ قصير. لذا على الإنسان أن يبحث عن الكنز الحقيقيّ الّذي يمنحه السَّعادة الأبديّة، ألا وهو يسوع المسيح. إنّ الربّ أيضًا يبحث عن كنزه، والكنز الّذي يبحث عنه الله هو قلب الإنسان، لذا فلنسعَ إلى مساعدة الربّ في إيجاد كنزه، فنُعلِن عودتنا إليه، والتزامنا بتعاليمه المقدَّسة. أتمنّى في الختام أن تكون قلوب جميع الحاضرين، مستعدّة لإقامة عهدٍ جديدٍ مع الربّ. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
4/3/2018 "أحد الابن الشاطر" لذا لا نتأخَّرن في العودة إليه
https://youtu.be/1_P2flyJkio

عظة الخوري جوزف سلوم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الرياضة السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيدة البشارة للروم الملكيّين الكاثوليك
زوق مكايل

4/3/2018

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

هذه السنة، يعمُّ الفرحُ رياضَتَنا: إذ بَدَأتْ، في الصّباح، بموضوعٍ حول فرح العبور إلى بيت الآب، وستتابع الآن بعظةٍ حول فرح العودة إلى بيت الآب، إذ إنَّ الإنسان يشعر بفرحٍ عظيمٍ يوم عودته إلى منزله بعد غيابٍ طويلٍ عنه.
إنّ النّص الإنجيليّ الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، هو مَثَلُ الابن الضّال؛ والـمَثَل لا يعني أنّه قصّة واقعيّة، بل قصّةٌ تهدف إلى اتِّخاذ المؤمنين العِبَر منها لتطبيقها في حياتهم اليوميّة. لقد أعطى يسوع هذا المثل، في بيت أحد الخطأة الّذي دعاه لمشاركته الطّعام. لم تكن تلك الدّعوة الأولى الّتي يلبّيها يسوع إلى بيت أحد الخطأة، فيسوع قد اشتهر بمجالسته الخطأة ومشاركتهم الطّعام، إذ إنّه لا يكره الخاطئ بل الخطيئة. إنّ مجالسة يسوع للخطأة أزعجَت رؤساء اليهود الحاضرين في ذلك البيت، وتساءلوا حول مصدر سُلطة يسوع الّتي تقوده إلى مخالفة معتقدات اليهود. لم يرغب في مجادلة رؤساء اليهود، فأعطاهم ثلاثة أمثلة تساعدهم على استخلاص جواب الله عن أسئلتهم. إنّ الـمَثَلَ الأوّل الّذي أعطاه يسوع أمام الحاضرين في ذلك المنزل، هو مَثَل الخروف الضّال. في هذا المثل، يُخبرنا يسوع عن راعٍ له مئة خروف، وقد أضاع خروفًا منها، فترك التِّسعة والتِّسعين خروفًا وذهب ليبحث عن الضّال حتّى وجده، فأعاده إلى البيت، وكان فرح الراعي عظيمًا جدًا. أمّا الـمَثَل الثّاني فَهو مَثَل الدِرهم الضائع: إنّها قصّة امرأةٍ فلسطنيّة أعطاها أبوها عشرة دراهم هديّةً لها بمناسبة زواجها، كما كانت تقتضي العادة قديمًا. إنّ هذه الهديّة ثمينةٌ جدًّا في نظر تلك المرأة لا لقيمتها الماديّة وحسب، إنّما لأهميّتها المعنويّة والرمزيّة إذ إنّها هديّة مِن والدها. لقد أضاعت هذه المرأة درهمًا واحدًا من هذه الدراهم، فقامت بَقَلبِ البيت رأسًا على عقب حتّى وجدته، وكان فرحها عظيمًا. أمّا الـمَثَل الأخير، فهو مَثَل الابن الضّال الّذي يتكلّم عن قصّة والدٍ له ابنان، قسم ميراثه بينهما وهو لا يزال حيًّا، استجابةً لطلب ابنه الأصغر في الحصول على الميراث لمغادرة البيت، فكان له ما أراد. فسافر هذا الابن إلى بلدٍ بعيدٍ معتقدًا أنّه يُحقِّق في هذا التصرّف حريّته واستقلاليّته، فاختبر في الغربة الخطيئة. وحين ساءت الظروف المعيشية في ذلك البلد البعيد، قرّر العودة إلى بيت أبيه، إذ فكَّر في وَضْعِ الأُجراء هناك، ورأى أنّ حالتهم هي أفضل من حالته بكثير. وعند عودته، كان أبوه ينتظره، وما إن رآه حتّى طلب الأبُ مِن خَدَمه ذَبْحَ العجل المسمَّن احتفالاً بعودة الابن الأصغر إلى البيت. إخوتي، في هذه الأمثلة الثلاثة الّـتي أعطاها يسوع، قاسمًا مُشتركًا وهو ضياع الإنسان أو إضاعة الأشياء، ومن ثمّ عودة الإنسان أو إيجاد الشيء المفقود، وشعور الإنسان بالفرح عند عودة الشيء الضائع إلى يديه من جديد. كذلك الأمر، عند اقترابنا مِن سرّ التوبة، نشعر بالفرح العظيم إذ نعود إلى حالة النِّعمة الّتي فقدناها بارتكابنا الخطيئة.

إنّ مشكلة الإنسان تكمن في عدم مقدرته على تحديد ما إذا كانت أعماله هي خاطئة أم لا. هذه هي مشكلة الإنسان منذ بدء الخليقة: فآدم وحواء أكلا من ثمار الشَّجرة الّتي منعهما الربّ عنها، رغبةً منهما بمعرفة ما هو خيرٌ وما هو شرّ. إنّ الله وحده قادرٌ على معرفة الخير والشَّر، لأنّه الوحيد القادر على معرفة خفايا الكِلى والقلوب، وهذه الصّلاحية محصورة بالله دون سواه، لذا لا يستطيع الإنسان أن يُحدِّد ما هو صالحٌ وما هو غير صالح. إنّ مشكلة الإنسان مع الله تكمن في رغبته التجاوب مع ملذَّات هذه الحياة ولو كانت غير صالحة، لذا يضع الإنسان اللهَ على هامش حياته في بعض الأحيان، ليتمكّن من ارتكاب القبائح، أي بما لا يُرضي الله.

أربعةُ أمورٍ تدفع بالإنسان إلى العودة إلى الله أبيه:
أوّلا: الشُّعور بالجوع كما حصل مع الابن الضّال: عندما شعر الابن الضّال بالجوع، بدأ يُفكِّر في العودة إلى أبيه لأنّ وَضْعَ أهلِ بيته أفضلُ مِن حالته المزرية. في بعض الأحيان، قد نتعرَّض لأحداثٍ أو ظروفٍ حياتيّة قاسية، تدفعنا إلى التفكير في حالتنا الأولى، وتحثُّنا على العودة إليها.
ثانيًا: التَّفكير بحالتنا الأولى: حين تعرَّض للجوع، استذكر الابن الضّال حالة الرفاهيّة الّتي اختبرها في بيت أبيه، فقرّر العودة إلى ذلك البيت. في بعض الأحيان، نسمع بعض الكلمات من حولنا، فنتأثّر بها وتدفعنا إلى التفكير بجديّة بالعودة إلى حالة النِّعمة الّـتي كُنّا فيها يوم كُنّا مع الربّ. في كلامه عن مراحل عودة الابن الضّال إلى بيت أبيه، يستخدم الإنجيليّ بعض العبارات المهمّة، مِثل: "فكَّر في نفسه، عاد إلى نفسه"، وسواها من العبارات للدلالة على المراحل الّـتي يمرّ بها كلّ خاطئٍ قبل عودته إلى الله الآب.
ثالثًا: العاطفة أو الحنين إلى البيت الوالديّ. إنّ تفكير الابن في نمط المعيشة في بيت أبيه كافٍ ليُحرِّك قلبه شوقًا إلى أبيه، ويحثُّه على العودة. إذًا، الرّغبة في العودة إلى ذلك النّوع من الرّفاهيّة والشّوق إلى الوالد وحنانه، هما أحد دوافع تفكير الابن في العودة إلى بيت أبيه.

رابعًا: الالتزام بقرار العودة إلى الآب. إنّ هذا النّص يُعبِّر عن هذه المرحلة مستخدمًا عبارة "أقوم وأمضي إلى أبي". على الإنسان أن يتَّخذ قرارًا بالعودة إلى الله، وينطلق في تنفيذه، فينال نعمة الغفران على خطاياه، ويتمكّن من الانطلاق من جديد في حياته. إذًا، من الضروريّ الالتزام بمسيرة العودة إلى بيت الآب، لتأمين انطلاقة جديدة وقويّة في الحياة.
إنّ هذا النّص الإنجيليّ يستخدم عبارة "بَعيد"، للدلالة على الخطيئة، فنقرأ مثلاً أنّ الابن سافر إلى بلدٍ "بَعيدٍ"، للإشارة إلى ارتكابه الآثام. وفي مرحلة العودة، نقرأ أنّه حين رأى الآب ابنه آتيًا مِن "بَعيد". إنّ كلّ هذه العبارات تدلّ على أنّ عينيّ الربّ لا تفارقان المؤمن في هذه الحياة، حتّى حين يكون هذا الأخير في مكانٍ بَعيدٍ عن الله، أي في الخطيئة. إنّ الله ينتظرنا بشوق للعودة إليه، وهو يرانا أينما ذهبنا وابتعدنا عن وجه القدُّوس.

إنّ هذا النَّص يعرِض لنا حالة الآب الّذي هو في حالة خروجٍ دائمٍ صوب الإنسان ليبحث عنه. لقد خرج الأب أوّلاً لملاقاة ابنه الأصغر يوم عودة هذا الأخير من سَفَرِه، كما أنّه خرج لملاقاة ابنه الأكبر لدعوته إلى المشاركة في الاحتفال بعودة أخيه الأصغر. إنّ الأب قد خرج لملاقاة ابنه الأكبر الّذي رفض الدّخول للاحتفال بعودة أخيه، وقد نزع عنه صفة الأخوّة قائلاً لأبيه: "ابنُكَ هذا". لقد سمح الابن الأكبر لنفسه بتحديد خطيئة أخيه، مع العلم أنّ هذا الأمر ليس من صلاحيّاته، فالنَّص ينقل لنا كلام الابن الأكبر في حواره مع أبيه: "ابنُك هذا الّذي أكل ما لَك ...". لقد حاول الأب بخروجه لملاقاة ابنه الأكبر التخفيف من غضبه قائلاً له: "كلّ ما هو لي هو لكَ". وهنا نطرح السؤال: هل عاد الابن الأكبر ودخل إلى الاحتفال، أم بقيَ خارج هذا الاحتفال؟ في الحقيقة، إنّ النَّص الإنجيليّ لا يُعطي جوابًا عن هذا السؤال، إذ يعتبر الكاتب الملهم أنّ الأخ الأكبر يمثِّل كلّ مؤمن، وبالتّالي فطريقة تصرُّفه النِّهائية مرتبطة بالمؤمِن بحدِّ ذاته، فهو مَن يُقرِّر إن كان يريد البقاء خارج بيت الآب أم الدّخول إليه. إنّ المؤمن يدخل من جديد إلى هذا البيت الوالديّ حين يتحلّى بروح التّوبة وانسحاق القلب.

إنّ بعض المؤمنين يرفضون العودة إلى الله والتوبة عن أخطائهم لأنّهم يُدركون استعدادهم لتكرار الخطيئة كلّما كانت الظروف مؤاتية لذلك: فالتّلميذ يجد صعوبةً في الامتناع عن الغشّ في الامتحانات لأنّه يعتقد أنّه في ممارسته لهذه الخطيئة ضمانًا لنجاحه الدِّراسيّ. أمّا البعض الآخر فيُعلن عدم معرفته كيفيّة ممارسة هذا السِّر. كما أنّ آخرين يرفضون الاعتراف عند كاهنٍ يَعرفونه حقَّ المعرفة مخافة أن تتغيّر نظرته إليهم بسبب خطاياهم. وآخرون يرفضون الاعتراف عند الكاهن، كونه إنسانًا خاطئًا مثلهم، لذا يُقرِّرون الاعتراف لله مباشرة دون الاستعانة بالكاهن.
على المؤمِن عدم الخوف من التقرّب من سرّ التوبة، أي "سرّ الشِّفاء"، كما تُسمّيه الكنيسة، بل على المؤمن أن يسمح لذاته باختبار رحمة الله وحنانه، فيتشجّع على الاقتراب منه والاعتراف بخطاياه، مهما كانت عظيمة. إنّ الربّ هو طبيب النّفوس والأجساد، أي أنّه قادر على شفائنا من كلّ أمراضنا الروحيّة والنفسيّة، وحتّى الجسديّة. إنّ المؤمِن يحتاج لهذا الشِّفاء، لذا عليه ألّا يتردّد بالوقوف أمام الربّ والإقرار بخطاياه. إنّ الشِّرير ينصب لنا الأفخاخ الّتي تَحُول دون اقترابنا من الربّ مُجدَّدًا، ولذا على المؤمِن الانتباه من الوقوع في فخ التبرير وفي فخ التذنيب. على المؤمِن ألّا يسعى في كلّ مرَّةٍ يتقرَّب فيها من سرّ التّوبة إلى تبرير نفسه أمام الكاهن، بل عليه الاكتفاء بِتسميَة خطاياه لينال الغفران من الربّ بواسطة الكاهن. كما أنّ على المؤمِن تحاشي الوقوع في فخّ تذنيب ذاته، مُلقيًا على الدّوام اللّوم على نفسه، وبالتّالي عدم استطاعته مسامحة ذاته على ما ارتكب من أخطاء. إنَّ ارتكابنا الأخطاء لا يُشير أبدًا إلى نهاية العالم، بل على المسيح أن يكون هو عالمنا وكلّ شيء في حياتنا، فنتوب عن خطايانا، ونتابع مسيرتنا نحوه. إنّ الربّ يسوع ينتظرنا على الدّوام وهو لا يملّ الانتظار، لذا لا نتأخَّرن في العودة إليه واختبار لَمَساته في حياتنا، فنكون شهودَ رحمته وحبّه في هذا العالم. آمين. ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
4/3/2018 تأمّل للأب ميشال عبود الكرمل في إنجيل (متى 14: 22-33) الرياضة السنوية 2018
https://youtu.be/N4vccalduzk

تأمّل للأب ميشال عبّود (متى 22:14-33)
في رتبة التوبة والسُّجود
في الرياضة السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيدة البشارة - للروم الملكيّين
واحة القدِّيس باسيليوس- زوق مكايل

4/3/2018

ورد في الكتاب المقدَّس: "إنّ الرّوح مندفعٌ، أمّا الجسد فضعيف"، لذا يشارك المؤمِن في الرياضة الروحيّة ساعيًا إلى تحقيق الانسجام بين روحه وجسده. إنّ الرياضة الروحيّة تشبه الرياضة الجسديّة: فكما أنَّ الرياضة الجسديّة تُرهق الإنسان جسديًّا، كذلك الرياضة الروحيّة تُرهق المؤمِن ذهنيًا، إذ إنّ التفكير الذهنيّ يتطلّب منه مجهودًا كبيرًا، وهذا هو سببُ شعوره بالإرهاق في الرياضة الروحيّة.
إنّ كلمة الله كالدّواء: فكما أنّ الإنسان ينزعج مِن تناول الدّواء لكنّه يُضطرّ إلى ذلك لما فيه مِن إفادةٍ صحيّة له؛ كذلك ينزعج الإنسان مِن متطلّبات كلمة الله، لكنّه يجد ضرورةً لسماعها والرّضوخ لها لما فيها مِن إفادةٍ روحيّة له. إنّ كلمة الله كالمرآة: فكما أنّ المرآة تعكس للإنسان صورته الخارجيّة فتدفعه إلى تحسينها ليُصبح شكله لائقًا؛ كذلك كلمة الله تعكس له صورته الحقيقيّة وتدفعه إلى تحسين ذاته بما يتلاءم معها. إنّ كلمة الله كالذّهب: فكما أنَّ الذّهب يبقى ذهبًا حتّى لو أُسيءَ استعماله، كذلك كلمة الله تبقى مصدرًا للحياة حتّى لو رفضها المؤمِن. إنّ الكتاب المقدَّس يعكس للمؤمِن هويّة الله،كما أنّه يحتوي على كلام الله، هذا الكلام الّذي به يخاطب اللهُ الإنسانَ في كلّ لحظةٍ من حياته بطريقة مباشرة وخاصّة.
إنَّ تأمُّلنا في إنجيل متّى (متّى 14: 22-33)، سيتمحور حول بعض المحطّات المهمّة في هذا النّص، الّتي تدفعنا إلى التغيير الداخلي الجذريّ، ممّا يدفعنا إلى تقبُّل نعمة الله. إنّ أَوَّل ما يلفت انتباهنا في بداية هذا النّص هو المكان: الجبل. إنّ للجبل رمزيّة كبرى في الكتاب المقدَّس وفي حياة يسوع الأرضيّة. في العهد القديم، تسلّم موسى لَوحَي الوصايا مِنَ الله على الجبل. أمّا في العهد الجديد، فنجد أنّ يسوع كان يُصلّي على الجبل وقد كان يعلِّم على الجبل، وما عظة الجبل، أي التطويبات، إلّا دليل على ذلك. لقد تجلّى يسوع أمام تلاميذه على الجبل، إضافةً إلى أنّ صَلبَ يسوع وموته تمَّا على الجبل. إذًا، إنّ الجبل هو مكان لقاء الإنسان بالله. وهذا ما دفعكم للمشاركة في هذه الرياضة، فقُمتُم بمجهودٍ كبيرٍ وصَعِدتم إلى هذا "الجبل" للاختلاء بالربّ. إنّ الربّ يسوع صَعِد وحيدًا إلى الجبل ليُصلّي. إنّ الإنسان يعيش في تناقضٍ دائمٍ مع ذاته، إذ يدّعي أنّ لا وقت لديه، ولكنّه في الوقت نفسه، يُعاني مِن أوقات فراغٍ قاتلةٍ وهذا ما يجعله يختبر الوِحدة في حياته اليوميّة. إنّ الوِحدة الحقيقيّة تكمن في اختلاء الإنسان مع ربّه، فيتمكّن الإنسان عندها مِنَ الصُّراخ إلى الربّ والإصغاء لكلمة الربّ له. إنّ الإنسان في بعض الأوقات يُعبِّر بَشريًّا عن وِحدته قائلاً إنّه يصرخ ولكنّه لا يجد مَن يسمعه؛ أمّا في الحياة الروحيّة فليس الأمر كذلك، إذ يعلم المؤمِن أنّ الله يُصغي إليه ويسمعه، وبالتّالي يُدرِك أنّه ليس وَحيدًا. في هذا الصَّدد، ينقل لنا الكتاب المقدّس قولَ الله إنّه إنْ نَسِيَت الأمُّ رضيعها فهو لا يستطيع أن ينسى أبناءَه البشر. لقد صعِد يسوع إلى الجبل، أي إلى مكان العزلة، ليُكرِّس وقته للصّلاة. ومِن هنا، نكتشف أهميّة الجلوس مع الذات. يقول أحد آباء الكنيسة في هذا الصّدد: إنّ اليوم الّذي لا يجلس فيه الإنسان مع ذاته، عليه عدم اعتبار ذلك اليوم كأحد أيّام حياته. كان الربّ يسوعُ دائمَ الانشغال إذ كان لديه الكثير من الأمور الّتي عليه القيام بها، ولكنّه على الرّغم من كثرة انشغاله، كان يُنظِّم وقته مكرِّسًا وقتًا للرّاحة. كذلك يتوجّب على الإنسان تكريس بعضٍ مِن وقته للرّاحة، كي تكون أعماله مثمرةً.

يُخبرنا هذا النّص بأنَّ التّلاميذ قد ركبوا السفينة، وأنّ الأمواج بدأت تلطمها عندما ابتعدت عدّة غلواتٍ عن الشّاطئ، إذ إنَّ الرِّياح كانت معاكسة لها. إنّ السَّفينة ترمز إلى الكنيسة التّي تعرَّضت منذ انطلاقتها لرياح هذا العالم وأمواجه، فكانت الحصيلة عددًا من شهدائها، أبناء الإيمان.كان فكر الكنيسة منذ القِدم معاكسًا لأفكار العالم وتيّاراته، ولا يزال إلى يومنا هذا، فِكرًا مبنيّا على الإيمان بالربّ يسوع ومبادئه. وهذا ما نختبره مع أبناءِ جِيلِنا، إذ نتعرَّض للسخريّة والاتّهام بالتخلّف في كلّ مرّةٍ ننطق بكلمة الله. إنّ الإنجيل يُخبرنا أنَّ يسوع قد جاء في آخر اللّيل، أي عند الفجر، ماشيًا على البحر. في الكتاب المقدَّس، تُشير مراحل اللّيل المختلفة إلى المراحل العمريّة المختلفة عند الإنسان: فـ"أوّل اللّيل" يشير إلى عمر الطّفولة، أمّا "منتصف اللّيل" فيُشير إلى مرحلة الشباب، وأمّا "عند الفجر" فيُشير إلى مرحلة الشيخوخة. إنّ الربّ يسوع يُخبرنا، في نصٍ آخر من الإنجيل، أنّ السّارق يأتي في اللّيل، أي أنّ الموت يأتي على غفلةٍ من الإنسان، يقرع بابنا في مختلف مراحل حياتنا. إنّ سَيْرَ المسيح يسوع على المياه، هو أمرٌ لا يستطيع العقل البشريّ إدراكه، لذا خاف التّلاميذ وصرخوا معتقدين أنّ ما شاهدوه هو "خيال"، لا حقيقة. عندما يتعرَّض الإنسان إلى حادثة معيّنة في حياته، لا يستطيع عقله البشريّ إدراكها، يصرخ من شِدّة خوفه، إذ لا يستطيع أن يُصدِّق ما يحصل. في ظلّ كلّ أزمة يتعرَّض لها الإنسان، يجد هذا الأخير نفسه غير قادر على النّظر إلى أمور الحياة إلّا بنظرة سوداويّة لا أمل فيها، فينظر إلى الصّلاة على أنّها "خيال"، أي لا نفع منها. فحين يتعرَّض الزّوجان مثلاً إلى أزمةٍ في حياتهما العائليّة، ينظران إلى الأمور مِن حَوْلِهما بسوداويّة، وإلى الحبّ الّذي جمعهما، وكذلك إلى الصّلاة على أنّها "خيال"، لا نفع منهما. إنّ كلّ إنسان مُعرَّضٌ إلى مواجهة مثل تلك الأزمات الّتي تجعله يرى الأمور مِن حوله بطريقة سوداويّة، وإلى النّظر إلى الصّلاة والحبّ وكلّ الأمور الصّالحة على أنّها "خيال".

لقد وصف لنا الإنجيليّ حالة التّلاميذ عند رؤيتهم ليسوع ماشيًا على المياه، مِن خلال استخدامه عبارة "مِن شدَّة خوِفهم صرخوا"، ومِن ثَمَّ نقل إلينا قول يسوع لهؤلاء: "أنا هو لا تخافوا". إنّ يسوع لم يُعرِّف عن نفسه قائلاً للتّلاميذ، على سبيل المثال: أنا يسوع النّاصريّ، أو أنا ابن مريم، أو أنا يسوع الّذي قام بالمعجزات أمامكم؛ بل على العكس مِن ذلك، اكتفى بقوله لهم: "أنا هو"، مِن دون أي زيادة في الشِّرح. إنّ عبارة "أنا هو"، هي الكلمة الإلهيّة الّتي عرَّف بها الله عن نفسه لموسى قبل إرساله للشَّعب. حين يقرع أحدُهم باب بيتك، تُسارع إلى الباب سائلاً عن هويّة الزائز، فيأتيك الجواب "أنا هو"، فإنْ أدركتَ صاحب هذا الصّوت فَتحْتَ الباب له، وإن لم تعرِفْهُ تركْتَ الباب مغلقًا. إنّ الربّ يقرع باب كلّ إنسان في كلّ يوم قائلاً له: "أنا هو"، ولكنّه لن يتمكّن من التعرُّف على هذا الصّوت في وقت الشِّدة إن لم يكن يَعرِفه في وقت السّلام والرّخاء. هذا هو الوقت المناسب، كي يتعرّف كلّ مشاركٍ منكم إلى صوت الربّ في حياته، فيتمكّن من التعرُّف به في وقت الأزمات والصُّعوبات. "إنّ الغضب يُطفئ نور العقل"، لذا يعجز الإنسان عن معرفة صوت الله في ظلّ الأزمات الّتي يتعرَّض لها في حياته، كما يعجز عن رؤية الصّلاح في الأشياء مِن حوله. لذا، على المؤمن أن يصلّي لله، في وقت الرّاحة، قائلاً له: "يا ربّ، أطلب منك أن تكون أنت إرادتي، حين تُفقدني الخطيئة إرادتي وتُكبِّلني. يا ربّ، أعطني نعمة الوعي لحضورك حين أتعرَّض للشّدائد في حياتي". لا توجَد أزمة أبديّة في الحياة، بل إنّ كلّ أزمة ستزول مهما طالت. إنّ القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع تعرَّضت لأزمةٍ كبيرةٍ في حياتها إذ شكّت بوجود الله وبوجود السّماء. ولكي تتخطّى تلك الأزمة الرّهيبة، كانت تلجأ إلى الكنيسة فتقرع باب بيت القربان لتسأله عن حقيقة وجوده، كما أنّها لجأت إلى كتابة قانون الإيمان بخطّ يدها، وكانت تضعه على قلبها حين تشعر بالصُّعوبات في حياتها. إنّ القدِّيسة تريزيا تصف ذاتها في ظلّ هذه الأزمة، فتقول إنّها كانت كالعصفور الجالس على الشجرة وغير القادر على رؤية الشَّمس بسبب الغيوم الّتي كانت تحجب نورها عنه، ولكنّ هذا العصفور كان يُدرك وجود الشَّمس على الرّغم من أنّه لم يكن قادرًا على رؤية أشِّعة الشَّمس. إنّ رحمة الله للبشر أقوى جدًّا مِن كلّ صعوبات حياتنا، وهي تفوق كلّ خطايانا.

حين رأى بطرسُ الربَّ يسوعَ ماشيًا على البحر قال له: "يا ربّ، إن كنتَ إيّاه، فَمُرني أن آتي إليكَ على الماء". في ظلّ أزمة الخوف، الّـتي عانى منها بطرس، لم يتردّد في الانطلاق صوب المسيح. إنّ الربّ يسوع لم يطلب من بطرس الترَيُّث قبل القدوم إليه، ريثما تهدأ العاصفة، بل على العكس مِن ذلك شجَّعه على الاقتراب منه في ظلّ شِدَّة العواصف، قائلاً له: "تعال". إخوتي، إنّ الربّ يدعونا للاقتراب منه حتّى في ظلّ عواصف حياتنا. لم تهدأ العواصف في أثناء مسيرة بطرس صوب يسوع، بل على العكس ازدادت شدَّةً. إنّ بطرس بدأ يغرق حين أمال نظره عن يسوع، فرأى شدَّة الرِّياح. في هذا الصدَّد، يقول لنا القدِّيس بيّو: إنّ الخوف هو أكثر شَرًّا من الشَّر نفسه. إنّ الإنسان الّذي يخاف هو إنسانٌ غير قادر على محبّة الآخرين، كما أنّه إنسان غير قادر على اتِّخاذ قراراتٍ في حياته، إذ يشعر على الدّوام بالقلق. إنّ عدم الخوف، لا يعني أبدًا تَسَرُّع الإنسان في التصرّف، بل يعني اتِّكاله على الله في كلّ المسائل الّتي يعجز عن حلِّها بعد استنفاذه كلّ الحلول البشريّة. عندما خاف بطرس، بدأ يغرق، ولكنّ بطرس في ظلّ أزمته هذه، لم يتردّد في الصّلاة قائلاً: "نجِّني يا ربّ". وفي هذا الصَّدد، تقول القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع إنّ الصّلاة هي وَثبةُ القلب صوب السّماء، في وقت المحنة والشِّدة كما في وقت الرّاحة والفرح. على المؤمِن أن يُصلّي إلى الربّ، خاصّة في ظلّ أزمته، فيقدِّم له كلّ الخطايا الّتي تُكبِّله، قائلاً له على مثال القدِّيس بطرس: نجِّني يا ربّ، فإنّي أغرق بسب خطيئتي الّتي تُكبِّلني وتَأسُرني. إنّ يسوع لم يتوجّه بالملامة إلى بطرس حين طلب منه المعونة، بل على العكس تمامًا، فقد مدَّ الربّ يسوع يدَهُ لينتشل بطرس مِنَ المياه الّـتي كان يغرق فيها. بعد انتشال بطرس من الماء، وبَّخَ يسوع بطرس ومعه جميع التّلاميذ في السفينة -كما وبَّخ تلميذَي عمّاوس- قائلاً له: "يا قليل الإيمان". إنّ الربّ يدعونا مِن خلال هذا التوبيخ الّذي وجّهه إلى بطرس إلى التسلُّح بالإيمان القويّ. إنّ إيماننا بالربّ يتقوّى حين نصوِّب نظرنا إليه وحده دون سواه. لم يكن بطرس سائرًا في الإتِّجاه المعاكس ليسوع، بل كان يسير باتِّجاه يسوع، لذا تمكّن يسوع مِن انتشاله حين غرِقَ لأنّه كان على مقربةٍ منه. إنّ السَّير بالاتِّجاه المعاكس ليسوع، يؤدِّي حتمًا إلى الغرق. إذًا، علينا أن نسير صوب يسوع في ظلّ أزمتنا، وفي ظلّ خطيئتنا، حتّى إذا غَرِقنا تمكّن يسوع مِن انتشالنا بسرعةٍ. إنّ يوحنّا الصّليب يقول إنّه مِن الأفضل للمؤمِن أن يكون ضعيفًا بصُحبة القويّ (أي الربّ)، من أن يكون قوِّيًا بصُحبة الضَّعيف. إذًا، على المؤمِن أن يَتَّكل على الدّوام على الربّ لا على بَنِي البشر.
إنّ النّص الإنجيليّ يقول: "ولـمَّا رَكِبا السَّفينة، سكنَتِ الرِّيح". إنّ حضور الربّ يمنح المؤمِن راحةً وسلامًا. إنّ الأمواج هي على سطح البحر، أمَّا قعرُ البحر فيبقى هادئًا. إنّ الإنسان القريب مِنَ الله، لا تختفي الصُّعوبات من حياته بل تزداد، ولكنّها تبقى على هامش حياته، ولا تؤثِّر على سلامه الدّاخليّ لأنّ الربّ يسكن في أعماق هذا الإنسان. في ختام هذا النّص، اعترف التّلاميذ أجمعين بحقيقة الربّ يسوع قائلين:"أنت حقًّا ابن الله". عند أقدام الصّليب، اعترف قائد المئة، الّذي شهد على آلام يسوع وصلبه وموته، بأنّ الربّ يسوع كان حقًّا ابن الله.

إنّ رتبة التوبة، تساعد الإنسان على اكتشاف حضور الله في حياته، فيُدرِك أنّ خطيئته لا يمكنها أن تكون حاجزًا يمنعه مِنَ الاقتراب مِنَ الله. إنّ القداسة لا تعني الابتعاد عن الخطيئة، إنّما تعني التعلُّق أكثر فأكثر بالربّ يسوع. جاءني يومًا رجلٌ ليطرح عليّ سلسلةً من الأسئلة، فقال: أبتِ، هل التفوّه بالشتائم والإهانات تجاه الآخرين خطيئة؟ هل ضربُ الآخرين هو خطيئة؟ فقلت له إنّ كلّ ما ذَكَرْتَ هو في الحقيقة خطيئةٌ. عندها قال: أشكرك يا ربّ لأنّي لا أرتكب أيًّا من هذه الخطايا، وذلك لأنّي لا أتكلّم مع زوجتي منذ سنين طويلة، على الرّغم مِن أنّها تسكن معي. لا تقوم القداسة على تجنُّب القيام بالأخطاء، بل تقوم على سَعي المؤمِن الدائم للقيام بما هو صالح. إنّ المعيار الّذي على المؤمِن اعتماده في فحصِ ضميره هو مدى قُربه مِنَ الربّ، إذ كلّما كان الإنسان قريبًا مِنَ الربّ، كلّما كان أشبه بالزّجاج الشَّفاف الّذي يستطيع أن يعكس نور الربّ للآخرين، وبالتّالي فإنّ أيّة خطيئة قد تبدو ظاهرةً عليه بشكلٍ واضح. على المؤمِن أن يفحَص ضميره لا انطلاقًا مِنَ الوصايا العشر فحسب، إنّما مِن حالات عدم المحبّة الّتي تعرَّض لها، وحالات الشكّ الإيمانيّة الّتي واجهته في الحياة، وعدم طلب المعونة مِنَ الربّ عند الوقوع في الخطيئة، وعدم الصّلاة. فبسبب هذه كلِّها، على المؤِمِن أن يفحص ضميره، ويعترف بها أمام الكاهن في سرّ التوبة.
إخوتي، إنّ هذا الوقت مخصَّصٌ للاعتراف لا للإرشاد، أي أنّه مُخصَّصٌ لتسمية الخطايا فقط. في مزمور "ارحمني يا الله"، يقول النبيّ داود: "إنّ خطيئتي هي أمامي في كلّ حين". وحين يتقرَّب مِن سرّ التوبة، يُعلِن المؤمِن عن رغبته في الشِّفاء من كلّ خطاياه، ولذا فهو يتقرَّب مِن سرّ التوبة، ويذكر خطاياه أمام الكاهن، منتظرًا الحصول على الحَلَّة من كلّ خطاياه مِنَ الله بواسطة الكاهن. حين يُعلِن الإنسان توبته أمام الكاهن، فإنّه يخرج مِنْ كرسيّ الاعتراف كالطِّفل الّذي يخرج مِن جرن العماد، نقيًّا ومبرَّرًا. إنّ بعض المؤمنين لا يتقرَّبون مِن سرّ التوبة بحجّة نسيانهم لهذه الصّلاة. إنّ نِسيان فعل النّدامة لا يستطيع أن يكون عائقًا أمام المؤمِن الّذي يرغب في التوبة، ففِعل النّدامة هو صلاة تعبِّر عن توبة المؤمِن عن خطاياه، واستعداده لتجاوبه مع نِعَم الله مِن جديد. لا نسمحنَّ للخجل أن يكون عائقًا يَحول دون عودتنا إلى الله. إنّ أحد الآباء القدِّيسين يقول إنّ الشيطان ينزع منّا الخجل لحظةَ ارتكابنا للمعاصي، ويعيد الخجل إلينا لحظةَ إعلاننا الرّغبة في العودة إلى الله من جديد. إنّ البعض الآخر مِن المؤمِنين، يُعلنون عدم رغبتهم بالإقرار بخطاياهم أمام الكاهن قائلين: إنّهم يعترفون بخطاياهم أمام الله في صلاتهم الشخصيّة. إنّي أقول لهؤلاء: لا يمكنكم أن تكونوا مؤمِنين بالمسيح وأعضاء في كنيسته من دون أن تلتزموا بكلّ أسرار الكنيسة، وتمارسوها جميعها مع الكنيسة. فإنْ كُنتُم تحتفلون بسرّ التوبة بشكلٍ فرديّ، لماذا تحتفلون إذًا بسرّ الزّواج، وسرّ المعموديّة وسرّ الافخارستِّيا مع الجماعة؟! احتفلوا به بشكلٍ فرديّ في بيوتكم، عمِّدوا أولادكم في بيوتكم، احتفلوا بالذبيحة الإلهيّة وحدكم. إنَّ سرّ التوبة هو أحد أسرار الكنيسة السبعة، وإن كنتم تقبلون بأسرار الكنيسة، فعليكم أن تعترفوا بهذا السِّر أيضًا وتمارسوه كما سائر الأسرار. في الختام، أودّ أن أذكِّركم بأنّ يسوع بعد القيامة، دخل على التّلاميذ في العليّة والأبواب موصدة، ونفخ فيهم الرّوح القدس قائلاً لهم: "خذوا الرّوح القدس. مَن غفرتم لهم خطاياهم تُغفر لهم، ومَن أَمسكتم عليه الغفران يُمسَك عليهم أُمسِكَت" (يو 20: 22-23).

ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
4/3/2018 برنامج الرياضة الروحيّة السنويّة لأنّكم حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا، لو34:12
إخوتي وأخواتي الأحباء، يسرّنا دعوتكم للمشاركة في الرياضة الروحية السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"، يوم الأحد 4 آذار 2018 في دير سيّدة البشارة للراهبات الشويريات الباسيليات - زوق مكايل، وفق البرنامج المرفق. تتمة...
12/3/2017 الشهادة والاستشهاد إنّ كلَّ شاهدٍ مؤمنٍ هو شهيدٌ أمينٌ لكلمة الله
https://youtu.be/KMQOrxZ2HG4

"الشهادة والاستشهاد"
للأب إبراهيم سعد
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير سيّدة البير - بقنايا

12/3/2017

إنّ تاريخ الكنيسة مبنيٌّ على كلمتَيْن، هما: الشهادة والاستشهاد، وهاتان الكلمتان تُلَخِّصان حياة المسيح يسوع وكذلك حياة الرّسل. إنّ الحياة المسيحيّة مِن دون شهادة واستشهاد، إنّما هي وَهمٌ وخيال، وصنميّة مُتَّشِحة بالتقوى الزائفة. إنّ اللّغة العربيّة تُميِّز ما بين الشهادة والاستشهاد لذا يتمّ استخدام تعبيرَيْن مختلفَيْن، أمّا الحال فليست كذلك في اللّغة اليونانيّة إذ لا فرق بين هذين التعبيرَيْن، لذا يُستَعمَل تعبيرٌ واحدٌ للدلالة عليهما معًا، فالشاهد هو أيضًا الشهيد. لقد كُتِبَ الإنجيل باللّغة اليونانيّة، وبالتّالي فإنّ الإنجيليّون كانوا يُدرِكون أنّهم حين يستخدمون عبارة "الشهادة"، فإنّهم يقصِدون بها أيضًا "الاستشهاد". إنّ سِفرَ أعمال الرّسل الّذي كُتِب باللّغة اليونانيّة، ينقل لنا قول يسوع لتلاميذه، يومَ صعودِه إلى السّماء: "ولكنّ الرّوح القدس ينزل عليكم، فتنالون قُدرةً وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وكلّ اليهوديّة والسّامرة، حتّى أقصى الأرض" (أعمال 1/ 8). في ذلك الزّمان، كانت روما تُشكِّل أقصى الأرض: إنّ بطرس وبولس قد وصلا في تبشيرهما بكلمة الله إلى روما، فَنَقلا شهادَتِهما للآخرين عمّا اختبراه مع يسوع، فكان ذلك سببًا أيضًا في استشهادهما. إنّ استشهادَ هذين الرّسولين دَفَع بالكنيسة إلى اعتماد صَومٍ هو"صوم الرّسل"، الّذي يبدأ في الأحد الأوّل الّذي يَلي عيد العنصرة، ويُختَتم يوم عيد الرّسولَيْن القدِّيسَيْن أي في التاسع والعشرين مِن شهر حُزيران. إنّ هذا الصّوم يبدأ بعد عيد العنصرة، أي بعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ، إذ على المؤمِن الّذي نال الرّوح القدس، أن يُجاهِد في الشهادة للمسيح، وإنْ قاده ذلك للاستشهاد. فالشهادة، إذًا، تؤدي إلى الاستشهاد، ولذا لا يتمّ الفَصل بين هذيْن التعبيرَيْن في اللّغة اليونانيّة.

أمّا عن مفهوم الشهادة: فالشاهد هو الّذي يتكلّم انطلاقًا من خبرته، أي مِمّا شاهَدَه وَلَمَسَه وَسَمِعَ به، فهو لا يحقّ له أبدًا أن يُدلي برأيه في القضيّة الّتي يتمّ معالجتها في المحكمة، إذ عليه أن ينقل للقضاة والمحامين، أمرًا يقينًا اختبره، لا مشاعره وأحاسيسه. إذًا، إنّ الشاهد هو الّذي ينقل للآخرين، ما رأى وسمع واختبر، ولذا يُدعى شاهدًا. إنّ عبارة "شاهد زور"، تحتوي على تناقُضٍ، إذ إنّ مفهوم الشاهد يقوم على أن ينقل ذلك الإنسان حقيقةَ ما اختبر، أي أنّه ينقل أمرًا يقينًا، وبالتّالي فإنّ شاهد الزور يشهد بما لم يره ولم يسمع به، ولذا لا يجب أن تُطلق عليه صِفة "شاهد". إنّ عبارة "شاهِد زور"، استُعمِلت في الإنجيل، يوم أخبرنا الإنجيليّون عن اعتقال يسوع ومحاكمته، فقالوا لنا إنّ شاهِدين قد شهدا عليه زورًا. إنّ شاهد الزّور هو ذاك الّذي يعرف الحقيقة، ولكنّه ينقلها للقاضي والمحامين بشكلٍ مغلوطٍ ومشوَّهٍ، أي أنّه لا ينقل إليهم الحقيقة، وبالتّالي تُصبِح كِذبَتُه هي الحقيقة بالنسبة لسامِعِيه. إنّ شاهِدَي الزور اللّذين أَخْبَرَنا عنهما الإنجيل، قد نقلا كلام يسوع عن هدمِ الهيكل وبنائه في ثلاثة أيّام، كما فَهماه لا كما قَصَد يسوع بكلامه هذا. إنّ الكذِبَ هو مِن صفات الشيطان والصِدِق هو مِن صفات الله، فالإنجيليّ يوحنّا ينقل لنا عن لسان يسوع قوله إنّ الشيطان هو كذّابٌ وأبو الكذب. إنّ الكذّاب، في اللّغة اليونانيّة، هو ذاك الّذي ينقل لك الحقيقة، بعد أن يُفرِغها من معناها. وتكمن خطورة الكذب، في نجاح الكذّاب في إيهام الآخرين أنّ ما يتفوّه به هو فعلاً الحقيقة. إنّ الهرطقات الّـتي نشأت في الكنيسة لم تكن مبنيّة على أمرٍ خاطئ، إنّما كانت ترتكز على نقل الحقيقة الإيمانيّة بطريقة مغلوطة ومشوَّهة. يَصِفُ سفر الرؤيا يسوع فيقول فيه إنّه الشاهد الأمين الصادق، لأنّه شَهِد بما رأى عند الآب وأخبرنا به، أي أنّه نَقَل لنا الحقيقة كما هي؛ وبالتّالي، فإنّ مَن يريد إتِّباع المسيح، عليه أن يتَّبع نهج المسيح في نَبْذِ الكَذِب ونقل الحقيقة دون سواها للآخرين، حتّى وإن كان ثمن تلك الشهادة هو "الاستشهاد". إنّ كلمة "أمين"، في اللّغة اليونانيّة، تعني أيضًا المؤمِن، وبالتّالي، فإنّ عبارة "الشاهد الأمين"، في اللّغة اليونانيّة، تعني إمّا الشاهد المؤمِن، أو الشهيد الأمين.

إخوتي، إنّ كلَّ شاهدٍ مؤمنٍ هو شهيدٌ أمينٌ لكلمة الله، وإنَّ كلَّ مؤمنٍ هو مشروع شهيد، وبالتّالي لا يمكننا الكلام عن شهادةٍ للمسيح، مِن دون أن تتبادر إلى أذهاننا إمكانيّة الاستشهاد. إنّ الكنيسة الأولى كانت تُطلِق لقبَ "الـمُعترِف"، على المؤمِن الّذي صدَرتْ بحقّه عقوبة الاعدام، ولم يتمّ تنفيذها فيه، فمات ميتة ربّه في وقتٍ لاحق، كما حدث مع القدِّيس مكسيموس الـمُعتَرِف. إنّ الإنجيليّ يوحنّا (يوحنّا 21)، يُكلّمنا عن ذاك التلميذ الّذي شهِد للربّ، فيقول لنا إنّ شهادته هي حقّ. إنّ استشهاد المؤمِن هو نتيجةُ شهادتِه الحقّة للمسيح.

في داخلِ كلِّ شاهِدٍ بذرةٌ رسوليّة، تدفعه إلى نقل البشارة بأمانة، مِن دون زيادةٍ أو نُقصان، لأنّه ما إن يُدخِل هذا المؤمن تعديلات خاصّة به على البشارة الّـتي ينقلها، يتحوّل المؤمن مِن شاهدٍ وناقلٍ للبشارة إلى كاتبٍ لها، وبالتّالي تكون الحقيقة قد تعَّرضت إلى تشويه. لا يجوز للشاهد، أن يُحلِّل ويُفسِّر القضّية الّتي يشهد بها، كما أنّه لا يحقّ له إبداءَ رأيه الخاصّ، لأنّه يتحوّل عند ذلك إلى مُحلِّلٍ وتنتفي عنه صفة الشهادة، فالشهادة تفترِض نقل اختباره الحسيّ بأمانة كاملة. إنّ الشهادة بتجرُّدٍ كاملٍ عن المشاعر والأحاسيس، هو عمل بطولةٍ يقوم به المؤمِن. يحقّ للشاهد أن ينقل مفاعيل تلك الشهادة فيه، أي أن ينقل تأثيرها في نفسه. إنّ بشارة المسيح لا تصل إلى الآخرين إلّا إذا نَبَعَتْ مِن قلبِ مؤمنٍ قد مَسَّتْهُ جمرةُ كلمة الله، وتركت في نفسه لهيبًا يدفعه إلى نقل اختباره للآخرين. إنّ كلمة الله تُشعل لهيبًا في قلب المؤمِن، وهذا اللّهيب سيهدِم كلّ صنميّة موجودة في داخله، فيتحقّق في المؤمن قول الله للنبيّ إرميا، إنّه أقامه ليَهدمَ ويقلعَ ويُدَمِّرَ فَيَبني ويَغرِس. إنّ كلمة الله تجد صعوبة في الانسجام مع كلّ ما هو قديمٍ وبالٍ، وبالتّالي يعيش المؤمِن صراعًا داخليًّا بين ما هو قديم وما هو جديد. إنّ مَن يقبَل كلمة الله، يَعترِفُ بالمسيح مُخلِّصًا له وربًّا، وبالتّالي فإنّ الربّ سينتصر على الدّمار الّذي أحدثته كلمة الله في داخل المؤمِن، فتنمو بذرة الحياة والتجديد في قلب المؤمِن. وهذا ما حدث مع يسوع، إذ بعد الآلام والموت والدّفن، قام المسيح من الأموات وانتصر على الموت. وكما أنّ المسيح قد انتصر على الموت وقام، كذلك على المؤمِن أن يُميتَ فيه الإنسان القديم، ليقوم فيه الإنسانيّ النورانيّ، الإنسان الجديد.

إنّ المؤمنين بالمسيح هم شهود للكلمة وليسوا مبشِّرين بها، فالمبشِّرون هم الرّسل فقط، إذ يملكون سُلطانًا في نقل حقيقة الكلمة والتبشير بها، أمّا نحن فنشهد لتلك الكلمة. إنّ شهادة المؤمِن تقتضي بأنّ يُظْهِر المسيح للآخرين من خلال حياته اليوميّة وتصرّفاته، وهذا يفترِض مسيرة طويلة مِنَ الجهاد الروحيّ والاستشهاد الدّاخليّ، وقد تؤدي تلك الشَّهادة إلى الاستشهاد الخارجيّ الجسديّ. إنّ الاستشهاد الدّاخلي هو إماتة الإنسان العتيق فيك ليتمكّن الإنسان الجديد من الولادة في داخلك؛ أمّا الاستشهاد الخارجيّ فيقوم على تَحوُّل المؤمن الشاهد إلى شهيد، بسبب عدم قبول الآخرين لشهادته، فيقتلونه إمّا جسديًّا وإمّا نفسيًّا برفضه وعَزْلِه، وبالتّالي فإنّ كلّ شاهِد للحقّ أي لكلمة الله هو مشروع شهيد. إنّ أكثر النّاس الّذين تمّ عزْلُهم ورفضُهم هم حاملو لواء الحقّ. إنّ مَن أراد اتبّاع الحقّ، عليه أن يُعانِق الصّليب، لا محالة. إنّ الحقّ ليس أمرًا جامدًا، بدليل أنّ يسوع لم يتفوّه بكلمةٍ أمام بيلاطُس حين سأله هذا الأخير عن ماهيّة الحقّ، لأنّ المسيح يسوع هو الحقّ، وبالتّالي فالسؤال الّذي كان على بيلاطس طرحُه على يسوع هو: "مَن هو الحقّ؟"، فيأتيه الجواب أنّ المسيح هو الحقّ. على كلّ مدافعٍ عن الحقّ أن يُظهِر المسيح يسوع فقط للآخرين.

يعيش المؤمِن سِفر الرؤيا بأكمله حين يكون على مَقْرُبةٍ من الموت، أي في الفترة الزمنيّة الفاصلة ما بين اعتقال المؤمِن مِن منزله، أي مِن الدّهاليز في ذلك الزّمان، بواسطة القوى العسكريّة التابعة للامبراطوريّة، وبين موعد محاكمته وإعلان الحكم عليه بالموت. وفي دار الولاية، يُعطي المؤمنُ الحاكمَ الجوابَ عن هويّة الإله الّذي يَعبُدُه، فإمّا أن يُنكِر المؤمنُ إيمانَه، ويعترِف بالامبراطور إلَهًا، فيُطلَق هذا الأخير سراحه، وإمّا أن يعترِفَ بإيمانِه ويُجاهرَ به أمام الامبراطور، فيُصدِر هذا الأخير الـحُكمَ بالموت على المؤمِن، فيتمّ استشهاده. إنّ سفر الرؤيا ليس كتاب توقّعات يتضمّن أحداث نهاية الأزمنة، بل إنّ سفر الرؤيا يُعبِّر عن الحالة الّـتي يعيشها المؤمِن في طريقه للاتّحاد بالربّ عبر الاستشهاد، إذ على كلّ مؤمِن أن يتّخذَ مِنَ المسيح مثالاً له، فيكون شاهدًا مؤمنًا وشهيدًا أمينًا لكلمة الله. إنّ الشهيد يصل إلى الملكوت فورًا بعد استشهاده، فهو لا يحتاج إلى انتظار يوم الدينونة العامّة وحلول الملكوت، ليدخُلَه. إنّ المؤمنِ هو مَن يختار المصير الّذي سيناله بعد الاستشهاد: فإنْ اعترف بالربّ، نالَ نعمةَ الوصول إلى حضن الله الآب والابن والرّوح القدس، وإنْ أنكرَ إيمانه، فالموت الأبديّ سيكون مِن نصيبِهِ. إنّ الإنسان قد تعلّم إحدى حيَل الشيطان، وبدأ تطبيقها في علاقتِهِ مع الله، إذ يعمَدُ الإنسانُ إلى تأجيل عمل الشهادة للمسيح وتوبته إلى الله، إلى الغَد. وفي هذا الإطار، يقول لنا الإنجيل في مَثَل الغنّي الجاهل: "يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُستَرَدُّ نَفسُكَ مِنكَ، فَلِمنَ يكون ما أعدَدته؟" (لوقا 12/ 20). ما مِن وقتٍ مُحدَّد للشهادة، وبالتّالي على المؤمِن أن يشهد للمسيح في كلّ آنٍ وآوان، إذ عليه استغلال كلّ فرصةٍ تُعرَضُ عليه للإعلان عن إيمانه، وشهادته هذه قد تؤدي به إلى الاستشهاد على يد الّذين يرفضون كلمة الله. إذًا، لا يجب تأجيل عمل الشهادة للمسيح إلى الغد، كما أنّه يجب علينا ألّا تنتظر حلول زمن اضطهاد مِن قوّاتٍ غريبةٍ محتلّة، كما كانت الحالة في أيّام الرّسل كي نُعلِن عن إيماننا، ونجاهر به، فيُسْفَكَ دمُنا. إخوتي، إنّ سفر الرؤيا يُعاش كلّ يوم، إذ على المؤمِن الشهادة للمسيح وإعلان الحقّ في كلّ موقفِ فسادٍ يتعرَّض له في حياته اليوميّة. فمثلاً، أمام موقف الارتشاء، يجد المؤمن نفسه أمام خيارَين إمّا الحصول على المال أم رفضه، وهنا على اختيار المؤمِن أن يكون مُرتَكِزًا على إيمانه بالمسيح والشهادة له. إنّ سِفر الرؤيا يُذكِّرنا في كلّ موقفٍ حياتي نتعرَّض له بضرورة الشهادة للمسيح، فنختار الحقّ على الباطل، والصِدقَ على الكذِبِ، والنِّعمة على الخطيئة فنشهد للمسيح في حياتنا اليوميّة من خلال مواقفنا.

إذًا، إنّ سِفر الرؤيا يُعاش في حياتنا اليوميّة في كلّ مواقفه. إنّ سِفر الرؤيا لا يتطلّب وجود مُضطَهدٍ خارجيٍّ كي يعيش المؤمِن هذا السِفر، فالمؤمِن يَضطَهِدُ ذاته عندما يُفضِّل ارتكاب الخطيئة على صَونِ كلمة الله من خلال تصرّفاته، فيتحوَّل إلى شاهدِ زورٍ على كلمة الله، إذ يتصرّف بعكس إيمانه. إنّ شهادة الزّور تؤدي إلى عواقب وخيمة على المجتمع، إذ إنّ القاضي سيصدرُ قرارًا خاطئًا وسيظلم البريء، ويُبَرِّئ الظالم، وهذا ما يؤدي إلى فوضى في المواطنيّة الإلهيّة، إذ لا يقبل أهل السّماء بمِثلِ هذا الظلم. إنّ شهادة الزور هي حالة تمرّد على الله، إذ إنّها تُلغي الحقيقة، وتَصنعُ حقيقةً أخرى مبنيّةً على الكَذِب، وبالتّالي فإنّ شاهد الزور يجعل من نفسه إلهًا إذ استنادًا إلى شهادته يتمّ ظُلمُ البريء وتبرئةِ الظالم.

إنّ المؤمِن الّذي يشهد لإيمانه بكلّ مِصداقيّة وشفافيّة، سيُواجِهُ عدوانيّة من الآخرين تجاهه، أكانوا أقرباء أم بعيدين، نتيجة رفضهم لكلمة الله. إنّ الكثيرين يقعون في حبائل الشيطان وفخاخه، إذ يتّخذون من الصراحة حُجَّةً كي يقوموا بأذيّة الآخرين، فيعتقد أولئك المتحجّجون أنّ ابتعاد الآخرين عنهم هو نتيجة إعلانهم كلمة الحقّ. إنّ الصّراحة قد تكون مُغايرة للحقيقة، إذ إنّ الصّراحة هي رأيٌّ خاصٌّ يتعلّق بحدثٍ معيَّن، أي أنّ الصرّاحة لا تتضمّن حقيقة عامّة بشكلٍ مؤكَّد، وعلى المؤمِن التحلّي بالمصداقيّة لا بالصّراحة. إنّ كلمة "صراحة"، تنبثق من الفعل صرَّح، والتصريح المستمِّر هو ثرثرةٌ. على المؤمِن أن يقول الحقّ والصِدق، حتّى وإن كَلَّفَه ذلك، الاستشهاد. إنّ الإنجيل يقول لنا في هذا الإطار: "طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كلّ كذبٍ من أجلي" (متّى 5/ 11). إذًا، الاضطهاد يكون من أجل إعلانك كلمة الله، ولا يكون مستندًا على عدم انسجامك واتّفاقك مع الآخر فكريًّا وجسديًّا. وبالتّالي فإنّ المعيار للشهادة والاستشهاد هو المسيح يسوع، لا المؤمِن بحدِّ ذاته.

على المؤمِن أن ينقل البشارة للآخرين بطريقة صحيحة، لا بطريقة خاطئة لئلا تضيع الحقيقة، لذا على المؤمِن معرفة كيفيّة نقل البشارة إلى الآخرين، فيكون شاهدًا حقيقيًّا وأمينًا للكلمة الإلهيّة. إنّ مار بولس يُوجِّه حديثه في إحدى رسائله إلى المؤمنين فيقول فيهم إنّهم يتمتّعون بغيرةٍ على كلمة الله، لكنّهم لا يملكون المعرفة، وبالتّالي فإنّ عليهم تعلّم الطريقة الصحيحة ليتمكنّوا من نقل البشارة، إذ إنّ مَن يُحبّ كلمة الله، عليه أن يتعلّم كيفيّة إيصالها للآخرين، ولذا كان بولس يوبِّخهم على تصرّفاتهم وذلك من أجل تصحيح مسارهم الإيمانيّ، وبهدفِ بنيانهم روحيًّا أيضًا. إنّ توبيخ الآخرين وتصحيح مسارهم، يتطلّب وجود محبّة في قلب المسؤول عن هذا العمل، وإلّا فلن يتجرّأ هؤلاء على التغيير في مسيرتهم، وبالتّالي، فإنّ توجيه الملاحظات إلى الآخرين، مِن دون وجود محبّة تجاههم، سيُواجَه بالرَفض من قِبَلِهم، لأنّهم سيشعرون بدينونة الآخر لهم لا بمحبّته لهم، وسيرفضون التحسين في مسلكيّتهم. فإن كنتَ لا تُحبّ لا تبدي أيّة ملاحظة للآخر، أمّا إن كنتَ تُحِبّ فإنّه يمكنك أن تقوم بكلّ شيء حتّى الخطيئة، غير أنّك ستتوقّف عن ارتكاب الخطيئة بقرارٍ منك لأنّك ستُدرِك أن الخطيئة ستؤذي الآخر، ولن تُعبِّر عن محبّتك له.

إنّ الشهادة للمسيح، تتطلّب مِنَ المؤمن الإعلان عن كلمة الله بكلّ كيانه: بكلّ حوّاسه، وتفكيره، وقلبه، إذ عليه أنّ يتحوّل إلى كلمة الله المتحرِّكة، فيصبح بمثابة الإنجيل الخامس. إخوتي، إنّ الشهادة للمسيح، قد تعرَّضت إلى التشويه مِن قِبَل المؤمنين أنفسهم، عبر التّاريخ، لذا لا نسْمَحَنَّ لتلك الشهادة المغلوطة بالاستمرار ولنحاول تصحيح المسار قدر المستطاع، طالبين من الله المعونة في ذلك. إنّ الله لا يطلب منّا التبشير في الأماكن البعيدة والّتي لم تصل إليها بعد كلمة الله، بل يطلب منّا التبشير في محيطنا أوّلاً، إذ قد خلق لنا يدين ورجِلَين لا يمكنهما الوصول إلى كلّ بقاع الأرض بل إلى مسافةٍ محدودة معيّنة. إذًا، إنّ الربّ يُرسِلُكَ اليوم، إلى أشخاصٍ في محيطك قد وَصَلت إليهم كلمة الله، بسبب تصرّفاتك، بطريقة خاطئة، لتَسْعى وتُصحِّحَ ما أفسدَتْ تصرّفاتك من تعطيلٍ لكلمة الله، فلا يعود يُجدَّف على اسم الله بسببك.
إنّ طريق الاستشهاد هو خيارك، فاحسم خيارك من خلال شهادتك الصحيحة، أو شهادتك زورًا على كلمة الله.

إنّ عالمنا اليوم، يعاني من الضّياع، إذ إنّه لا يعرف أن يستخدم -بشكلٍ صحيح - ما أعطاه إيّاه الله من نِعَم: فالله قد أعطى الإنسان يدَيْن كي يخدم بهما الآخرين، غير أنّ الإنسان يستخدمهما للحصول على كنوز هذه الدّنيا. في نصّ تجارب يسوع في الصّحراء، نجد أنّ الشيطان قد استخدم لغة هذا العالم مع المسيح، إذ نصَحه بالحصول على كنوز هذا العالم، مقابل تَخَلِّيه عن كلمة الله، غير أنّ المسيح رفض الانصياع لكلام الشيطان، متمسِّكًا بالمحافظة على كلمة الله. إنّ الربّ قد رفض ذهنيّة هذا العالم، في التسّلط على النّاس، والحصول على كلّ ممتلكاته. إنّ الشيطان قد استقى تلك التجارب من الكتاب المقدَّس، وتحديدًا من سِفر الاشتراع. إنّ قمّة الخطورة تكمن في تحوّل بعض المؤمنين، بحجّة الدّفاع عن الله، إلى ديَّانين للآخرين، وبالتّالي يَتَعدّون على صلاحيّات الله، لأنّ الدينونة هي شأنٌ إلهيّ لا إنسانيّ. ما مِن شاهدٍ على كلمة الله أفضل مِنَ الشاهد الأمين يسوع المسيح، وبالتّالي سيصبِح كلّ شاهد حقّ إنسانًا مُغرَّبًا عن جماعته، وهذا ما حصل تمامًا مع المسيح، إذ جعله اليهود غريبًا عنهم، ليتمكّنوا من قتله وصلبه خارج أورشليم. إنّ أورشليم قد أوصَدت أبوابها في وجه بولس الرّسول، فمنعته من الدّخول إليها للتبشير، وقد اعتقد اليهود أنّهم بهذا العمل قد تمكنّوا من تشريد بولس في الأمم، غير أنّ بولس الرّسول قد استفاد من تلك الفرصة، فذهب ليبشِّر الأمم، الّتي ارتدّت إلى المسيحيّة وتحوّلت إلى أورشليم الجديدة. إنّ بطرس أيضًا قد بشّر في عدّة أماكن إلى أن وصل في النّهاية إلى روما، حيث مات شهيدًا، وبالتّالي لقد أوصلته البشارة بالمسيح إلى الصّليب، أي إلى ذلك المكان الّذي أسند عليه يسوع رأسه، غير أنّه رفض أن يموت مصلوبًا كالمسيح، فاختار الصّلب بالشكل المعاكس لصلب المسيح، لأنّه لم يجد نفسه أهلاً ومستحقًّا أن يشابه المسيح في موته. إذًا، إنّ الشهود لكلمة الله هم استشهاديّون في الوقت نفسه.

إنّ قبول الاستشهاد ليس أمرًا سهلاً على الإنسان إذ يتساقط دمه كالعرق. قد يقع بعض المؤمنين فريسة أوضاعهم الاقتصاديّة فيقبلون ببعض الأمور غير الصالحة، كقبول الرّشوة مِن أجل الحصول على المال لتأمين معيشةٍ أفضل لهم ولعائلاتهم. إنّ البعض قد يتذرَّعون بأنّ الفساد لن يتوقَّف في العالم، إن امتنعوا عن الارتشاء، ولذا نجد أنّ البعض قد يُقدِم على ارتكاب مثل تلك الخطيئة وثمُّ يتوب عنها. إنّ الخطيئة هي ذات جذور جذّابة للإنسان لذلك يرتكبها، ولكنّه لا يلبث أن يُدرِك الأذى الّذي سبّبته له وللآخرين، لذا يعود فيتوب عنها. إنّ الخطيئة تتضمّن إغراءً، لذا عندما يتوب الإنسان عنها، ويعود فيرتكبها مُجدّدًا فإنّه لا يتذكَّر الأذى الّذي سبق وسبّبته إنّما يتذكَّر إغراءها له. غير أنّ الله يقول في سِفر إرميا، إنّه ينسى خطايا الإنسان حين يتوب عنها لأنّه يُدرِك مُسبَقًا أنّ الإنسان سيعود ويرتكبها من جديد. في كلام الله هذا، نجد تشجيعًا للمؤمِن بمحاولة نسيان خطايا وتخطِّيها فيعود للشهادة لكلمة الله بطريقة أفضل، فلا تصِل الشهادة إلى الآخرين مشوَّهة بسبب الضعف البشريّ. إنّ بولس الرّسول يقول لأهل قورنتس إنّنا نحن البشر آنية خزفيّة تحمل الكنز الإلهيّ، وإنّ قيمة هذه الآنية لا تأتي من ذاتها بل من قيمة الكنز الّذي تحمله في داخلها. إنّ وجود هذا الكنز الإلهيّ داخل هذه الآنية الخزفيّة لا يجعلها آنيةً غير معرَّضة للسقوط والهوان، فالضّعف البشريّ يبقى فينا، ولكن الربّ ارتضى السُكنى فينا نحن الضُعفاء، على الرّغم من شهواتنا الأرضيّة الّتي تتجاذبنا. إنّ الله قادرٌ على الوصول إلى الآخرين من خلالنا شرطَ عدم الالتهاء بخطايانا، وتوقّفنا عندها، عن البشارة، لأنّ ذلك من شأنه أن يمنع كلمة الله من الوصول بالسرعة المطلوبة إلى الآخرين.

على المؤمِن أن يبقى منشغلَ التفكير في كلام الله وما تطلبه منه تلك الكلمة الإلهيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يُخفِّف من ضغط حواس المؤمِن على إحساسه. على المؤمِن أن يتحرّر من ضغط حواسه على إحساسه، فيتحرّر من إدانة النّاس انطلاقًا من حواسه، ويُقلِّل من إساءة الظَّن فيهم، وعندما ينجح في التحرّر من ضغط الحواس، فيشعر براحة كبيرة وسلام داخليّ لا وصف لهما. إنّ بعض الثواني القليلة، كفيلةٌ بأن تُعطي الإنسان انطباعًا أوّليًا عمّا يراه، وهذا الانطباع قد يكون سلبيًا كما قد يكون إيجابيًّا، وهو يتطلّب الكثير من الوقت كي يُمَّحى مِن ذاكرة الإنسان. إنّ ضغط العين كفيلٌ في جعل الإنسان يُسيء الظنّ في الآخرين، ويُصدِر الأحكام في شأنهم. هذا بالنسبة إلى ضغط العين، فما حال باقي الحواس؟ بالتأكيد، إنّها ليست أفضل حالاً. إنّ حاسّة السَّمع كفيلة بأن تجعل الإنسان يُصدِر الأحكام مستندًا على نبرة الصوت: فأن يكون الإنسان شاهدًا حقيقيًّا للكلمة أم شاهد زورٍ لها، فإنّ هذا الأمر يتعلّق بحاسّة السّمع. إنّ حال اللّسان ليس أفضل، فهو على الرّغم من أنّه أصغر أعضاء الجسد، غير أنّه كفيل بتحطيم كلّ العِظام، فإنّ اللّسان يفيض بما في قلب الإنسان، وبالتّالي فإنّ الشهادة تتعلّق بما يصدُر عنه.

إنّ الشهادة للمسيح لا تحتاج إلى تعلّم العقائد اللاهوتيّة، بل يكفيها أن يتمّ نقل كلمة الله إلى الآخرين بكلامٍ نابعٍ من القلب. كُثُرٌ هم الّذين ارتدّوا إلى المسيحيّة لا لأنّهم فهِموا العقائد اللاهوتيّة، بل لأنّهم لمسوا حبّ الله لهم من خلال بعض الكلمات الّـتي سمعوها مِن بعض المؤمنين الحقيقيّين بالمسيح. إذًا، على المؤمِن أن يُظهر محبّة الله لكم في محيطكم ببساطة دون اللّجوء إلى الفلسفة. وقد اشتهرت مقولة خاصّة عن طلاب اللّاهوت تقول فيهم إنّهم يدخلون إلى كليّة اللاهوت وفي قلبهم مخافة الله، أمّا عندما يتخرّجون مِن تلك الكُلِيَّة، فإنّ الله هو مَن يَخاف منهم. إنّ الشهادة للمسيح لا تتعلّق بمعلوماتك وعِلمِك عن الله، بل بقلبك وكيانك الـمُتجاوبيْن مع كلام الله. إذًا، إن الشهادة للمسيح تتعلّق برغبة المؤمِن العميقة: فإن كانت رغبة الإنسان أن يكون مع الله، فعندها ستكون إرادته وقدرته منسجمتَيْن مع تلك الرّغبة، ولا خوف إن تقاعست الإرادة والقدرة، ما دامت الرّغبة موجودة؛ أمّا إذا اضمحلّت تلك الرّغبة فإنّ الإرادة والقدرة ستزولان، ولن تعودا نافعتَيْن للبشارة. إنّ يسوع الّذي قام من الموت، ظهر لبطرس، وسأله ثلاث مرّات إن كان يُحبّه، قَبْلَ أن يُسلِّمه رعاية القطيع، ليمحو له آثار إنكاره للمسيح عندما أُلقيَ القبض عليه وليتأكَّد مِن محبَّة بطرس له، لا لأجل التأكُّد مِن تعلُّمه كيفيّة إدارة القطيع. إنّ الربّ قد نسي نُكران بطرس له، حين أعلن هذا الأخير عن محبّته للمسيح، وهذا ما يبرِّر تسليم المسيح لبطرس رعاية قطيعه الّذي تسلّمه هو مِن الآب، لقد سلّم المسيحُ بطرسَ رعاية تلك الأمانة الّتي أعطاها الله الآب له كي يَمنحنا الخلاص.

إنّ الشهادة للمسيح تكمن في إعلاننا عن هذا الحبّ الحقيقيّ للآخرين. إنّ الّذين يرتدّون إلى المسيحيّة هم أشخاص قد شعروا واختبروا محبّة المسيح لهم، ومن أجل تلك المحبّة الّتي اختبروها قرّروا الحصول على سرّ المعموديّة فتحدّوا دُوَلِهم وغيّروا دينهم على الرّغم من كلّ العقوبات الّتي تفرِضها على المرتدّين. إنّ المؤمِن لا يشهد لإيمانه بالمسيح لأنّه يُحبّ الله، بل يشهد له لأنّ حُبَّ المسيح له، قد دفعه إلى التغيير في مسلكيّته، فَحُبّ المسيح غير خاضع للمزاجيّة أو لظروف الحياة كما هي حال محبّة الإنسان لله، إذ يكفي أن تُعاكس الإنسانُ ظروف الحياة ليتوقّف عن الصّلاة.

إنّ المسيح قد سلّمنا مسؤوليّة كبيرة، نحن المسيحيّين، فمسؤوليّة بقائه في الشّرق متعلِّقة في بقائنا في هذا الشرق، فَمِن دون المسيح لا معنى لرسالتنا في الشرق. إنّ خوفنا اليوم هو في تحوّل المسيحيّين إلى مجتمعٍ، أو طائفة أو أمّة. إنّ استخدامنا لغة هذا العالم، للدّفاع عن وجودنا وكياننا في هذا الشرق، مِن شأنه أن يُلغي وجودنا، إذ إنّنا باستخدامنا لتلك اللّغة، نفقد لغة الرّوح، ميزتنا كمسيحيّين. إنّ عدد المسيحيّين لم يكن يفوق عددنا اليوم في هذا العالم، ولكنّهم قد تمكّنوا مِن نقل البشارة إلى المسكونة بأسرِها، أي أنّه يمكننا نقل البشارة إلى العالم بأسره إن حافظنا على روحانيّتنا المسيحيّة إذ إنّنا سنتمكّن مِن مساعدة الآخرين إلى الارتداد إلى الله. قال بولس في إحدى رسائله، إنّ مساهمته في خلاص بعض النّفوس سيُسبِّب له فرحًا عظيمًا، وإنّ عبارة "بعض"، الّتي استخدمها بولس تشير إلى عددٍ يتراوح بين ثلاثة وتسعة أشخاص. إنّ مدينة "قورنتس" بأسرِها لم يتجاوز عدد المسيحيّين فيها الثلاثين. إنّ بولس الرّسول في حياته الأرضيّة لم يتمكّن من جعل الأمم كلّها ترتدّ إلى المسيحيّة، ولكنّه تمكّن مِن زرع كلمة الله في أرجاء الامبراطوريّة الرومانيّة كافّة. إنّ المسيح سيكون رابحًا فقط إن استعمل المسيحيّون لغة المسيح في نقل البشارة إلى الآخرين، فهذه اللّغة المرفوضة مِن البشر هي اللّغة الوحيدة والكفيلة بإبقاء المسيحيّين في هذا الشرق؛ فإن استعمل المسيحيّون لغة هذا العالم، فقد يزداد عدد المرتدِّين إلى المسيحيّة، غير أنّ كلمة الله ستبقى بعيدةً عنهم، وسيكون المسيح هو الخاسر الأكبر. إنّه من الطبيعيّ أن يتضاءل عدد المسيحيّين في هذا الشرق، لأنّهم مشاريع استشهاديّين. إنّ المسيح لا يطلب من أتباعه طلب الموت والسّعي له، بل إنّه يطلب منّا أن نعيش الحياة بالطريقة الّتي علّمنا إيّاها، ولكن إن لم يكن هناك من حلٍّ آخر لشهادتنا له سوى الموت، فعندئذٍ علينا مواجهته وتقبُّلُه. إنّ على المؤمِن الّذي يصبح قريبًا مِن لحظةَ موته شهيدًا، أن ينظر إلى السّماء ويرى الملكوت الـمُعَدّ له، ذاك الملكوت الّذي سيناله بعد الاستشهاد، لأنّ استشهادنا لا يُخفِّف مِن عدد المسيحيّين بل يُساهم في الإسراع في مجيء ملكوت الله.

ملاحظة: ألقيَت المحاضرة في الرياضة الروحيّة السنويّة 2017 ودُوّنَت من قبلنا بتصرّف.
12/3/2017 "أحد شفاء المنزوفة" أين هو إيمانكم؟
https://youtu.be/CJIP3DX6nyg

"أحد شفاء المنزوفة"
عظة للخوري جوزف سلّوم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة

12/3/2017

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
أبتِ الجليل،
إخوتي بالربّ يسوع،
إنّ ذروة نهارنا هو الذبيحة الإلهيّة الّتي نحتفل بها الآن، وهي تُكلّل جميع أعمالنا.
إنّ عِظَتي ستتمحوّر حول سؤالٍ مهمّ هو: "أين إيمانكم؟" وهو السؤال الّذي غالبًا ما يطرحه يسوع على التّلاميذ، وبالتّالي على المؤمنين به، وسنتأمّل به عبر العبور في ثلاث محطّات وردت فيها هذه الآية.

بعد يوم مُضْنٍ من العمل على بحيْرة طبريّا، أمْضاه يسوع في تعليم النّاس كلمة الله، وشفاء المرضى، أراد يسوع الاستراحة، فركب إحدى السُفن التّي كانت راسية على شاطئ تلك البحيرة. إنّ تلك السفينة الّتي صعد إليها يسوع، قد تكون سفينتنا، لِنَسْمَح ليسوع بركوبها عِوضَ أن تبقى سفينتنا راسية على الشاطئ. عندما صعد يسوع إلى تلك السفينة، نام واستراح واضعًا رأسه على الوِسادة، وما إن غفى حتّى هبّـت عاصفةٌ شديدة، وهذه العواصف والأمواج الّتي واجهت تلك السفينة، تُمثِّل العواصف والمعاكسات الّتي تواجه حياتنا اليوميّة، فطلب يسوع من التلاميذ العبور إلى الضِّفة الأخرى. إخوتي، إنّ كلّ تغيير يتعرّض للمقاومة والمعاكسة، لأنّ الإنسان يُفضِّل التمسّك بما اعتاد القيام به، عوض التغيير. إنّ يسوع بكلامه هذا للتلاميذ: "لنعبر إلى الضِّفة الأخرى"، يُشجِّعنا على العبور من مكانٍ إلى آخر، رغم الصّعوبات الّتي تواجهنا، ويدفعنا إلى اجتيازها بمعونته، إذ مِنْ دونه سيكون تخطّي الصّعوبات أمرًا في غاية الصّعوبة. إنّ يسوع كان متَّجهًا لتبشير المناطق الوثنية، وهنا يمكن أن نرى في الأمواج صعوبات واعتراضات تلك الشعوب على قبولها للبشارة. إذًا، يواجه الإنسان صعوبات كثيرة في هذه الحياة، وفي ظلّ هذه الصّعوبات، يسألنا يسوع: "أين إيمانكم؟ إنّ هذه الحياة مليئة بالصّعوبات، في مجال العمل، في الحياة الاقتصاديّة، في الحياة العلائقيّة مع النّاس، ولكنْ علينا ألّا نخاف من تلك الصّعوبات بل نواجهها طالبين مساعدة يسوع لتَخَطِّيها.

في نصّ شفاء المرأة النّازفة، يطرح يسوع من جديد سؤاله على المؤمنين: أين إيمانكم؟ إنّ لـَمسَة تلك المرأة كانت مختلفة عن باقي لمسات الجموع الّتي كانت تزحم يسوع. إنّ الجموع لم يلمسوا يسوع بهدف الشفاء أو تعبيرًا عن إيمانهم به، على عكس تلك المرأة الّتي كانت تطلب من خلال لـَمْسِها لِـهُدبِ يسوع، الشِّفاء. إنّ لمسة تلك المرأة ليسوع مميَّزة، إنّها "لَـمسَة الإيمان". في مواجهتنا للمرض، يسألنا يسوع أيضًا: أين إيمانكم؟ إذ يدعونا للتحلّي بِلَمسة الإيمان في كلّ حين.
إنّ ابنة يائيروس، تلك الفتاة ابنة الاثنتي عشرة ربيعًا، المشرفة على الموت، قد حصلت على لمسة مميَّزة من يسوع. إنّ هذه الفتاة، قد ماتت وقد كان أهلها يبكونها عند وصول يسوع، ولكنّ يسوع قد أمسك بيد تلك الفتاة قائلاً لها: "طابيثا، قومي"، وأعاد لها الحياة. في هذه الأوقات الصّعبة، يُكرِّر يسوع السؤال علينا: أين إيمانكم؟ إذًا، إنّ يسوع يطرح علينا السؤال: أين إيمانكم؟ في كلّ الظروف الحياتيّة: في أوقات الأزمات والصّعوبات الحياتيّة، في أوقات المرض، وأيضًا في أوقات الحزن والموت.

إنّ الحياة مليئة بالصّعوبات والمعاكسات الّتي تواجه الإنسان، ولكن على المؤمِن تحديدها ومواجهتها كما فعل يسوع، إذ إنّ يسوع لم يَخَف مِن مواجهة معاكسات الأمواج له، بدليل أنّه لم يعد إلى الشاطئ، بل تابع رحلته. حين يتعرّض البعض إلى الأذيّة، يواجهونها بالانزعاج، والتوقّف عن مخالطة الآخرين. إخوتي، لا تسمحوا لسفينتكم بأن تبقى راسية على الشاطئ مِن دون حراك، لئلّا يتآكلها الصدأ، وبالتّالي على المؤمِن المغامرة في هذه الحياة ومواجهة الصّعوبات، لأنّه أسهلٌ عليه مواجهة الحياة من الهروب منها، فيترك حينها سفينته على الشاطئ لتتعرّض للصدأ، وتُصبح بالتّالي غير صالحة للعمل.

كُثُرٌ هم الأشخاص الّذين كانوا على الشاطئ ينتظرون وصول يسوع، ومِن بينهم يائيروس رئيس المجمع، المعروف من قِبَل الشعب، وقد كانت الجموع تُسانِده في محنته إذ إنّ ابنته البالغة من العُمر اثنتي عشرة سنة، مُشرفة على الموت، لذا جاؤوا معه ليتوسّلوا يسوع شفاء تلك الصبيّة. إنّ وَجع يائيروس لِمَرضِ ابنته، هو وَجعٌ معروفٌ من سائر الشعب لأنّ يائيروس هو رئيس المجمع، غير أنّ بين الجموع، أشخاص تُعاني من الأمراض والأوجاع بِصَمتٍ وَهُمْ غير معروفي الهويّة، كما هي حال تلك المرأة النّازفة، المريضة منذ اثنتي عشرة سنة. وكان على الشاطئ، آخرون لم يتكلّم أحدٌ عن أوجاعهم، إذ إنّهم من أصحاب الأوجاع الصّامتة كتلك المرأة النّازفة. وهذا المشهد الإنجيليّ يطرح علينا سؤالين مُهمَيّن يتطلّبان منّا الإجابة، وهما: هل أنا بين الجموع أنتظر يسوع على الشاطئ؟ وما الهدف من انتظاري له؟ إنّ انتظارنا ليسوع على الشاطئ هو دليل على أنّنا نعاني من الأوجاع، لذا علينا الاعتراف بالنزف والوجع الّذي نُعاني مِنه دون خوف.

في العهد القديم، كانت تشير خسارة الدّم عند الإنسان إلى نجاسته، وبالتّالي فإنّ الشريعة كانت تمنعه من الاقتراب من القدّوس، أو الدّخول إلى الهيكل، أو الاختلاط مع الجماعة. غير أنّ تلك المرأة النّازفة قد خالفت كلّ تلك القوانين وذلك لإيمانها بأنّ لَمْسَ يسوع كفيلٌ بشفائها، فاخترقت الجموع، واقتربت مِنَ القدّوس، أي يسوع المسيح، وانتزعت منه قوّة الشِّفاء. إخوتي، إنّ الإنسان هو أهمّ من الشريعة، لذا لا يجب أن نخاف من اختراق مجتمعنا، والسّعي للتغيّير في عاداته خاصّة تلك البالية منها. إنّ تلك المرأة قد خرقت مجتمعها فاقتربت من يسوع بِصَمتٍ، وتسلّحت بقرارٍ داخليّ قد اتّخذته، ألا وهو إيمانها بالربّ يسوع وبقدرته على شفائها من خلال لَـمسِها لِطرف ثوبه. حين اقتربت المرأة من يسوع، نالت الشِّفاء في لحال، وتَوَقّف نزفُ دَمِها. لقد بدّدَت تلك المرأة أموالها عند الأطبّاء مِن أجل الحصول على الشِّفاء، غير أنّ يسوع كان الوحيد الّذي منحها الشِّفاء مجانًا وأعاد لها الحياة. كذلك نحن، نُعاني من أمور كثيرة تُسبِّب لنا نزفًا وآلامًا في حياتنا، ولكنّنا نسعى للحصول على الشِّفاء والمساعدة من الجميع معتقدين أنّهم قادرون على ذلك، غير أنّ يسوع هو الوحيد القادر على مَنحنا الشِّفاء وإعادة الفرح إلى حياتنا، لأنّه هو الشافي الوحيد، ومُعطي الحياة.

إنّ الجموع كانت تزحم يسوع، وقد لَمَسَه عدد كبيرٌ منهم، وَمِن بينهم مَنْ سَلّم على يسوع أيضًا؛ لذا استغرب التَّلاميذ سؤالَ يسوع للجموع: "مَن لمسني؟"، عندها أخبرهم أنّ قوّةً خرجت منه، فلَمسةُ المرأة له لم تكن كلَمَسات جميع الحاضرين له. إخوتي، إنّ السؤال الّذي يُطرح علينا اليوم، هو: مَن مِنّا يستطيع أن يلمِسَ يسوع لمسَة إيمان كما فعلت تلك المرأةِ؟ إنّ يسوع قد أوقف مسيرته لأنّه شعر بقوّة الشفاء الّتي خرجت منه، وبالتّالي فإنّ يسوع يهتمّ لِأَمرنا، وهو يعتبرنا من أولويّاته. إنّ يسوع لا يَمرّ أمام وجعنا مرور الكِرام، بل إنّه يعتبر ذلك الوَجَع أمرًا طارئًا يستحقّ التوقّف عنده، على الرّغم من انشغالاته الكثيرة. إنّ زيارة يسوع لتلك المدينة كانت من أجل شفاء ابنة يائيروس ذات الاثنتي عشر ربيعًا، ولم تكن زيارته تتضمّن شفاء المرأة المنزوفة، غير أنّ لمسة تلك المرأة دفعته إلى إيقاف المسيرة لمعرفة هويّة الشخص الّذي لَمَسه. إنّ الربّ قد توقّف أمام لمسة إيمان تلك المرأة، على الرّغم من أنّ حالة ابنة يائيروس خطرة جدًّا فهي مُشرفة على الموت، ووَضْعُها الصحيّ لا يحتمل أيّ تأخير، لأنّه يُعطي قيمةً كبيرة للأمور الطارئة كحالة تلك النّازفة وشفائها. إخوتي، إنّنا لا نسمح لأحدٍ أن يُغيّر لنا مشاريعنا الحياتيّة، غير أنّ يسوع قد أخضع مشاريعه التبشيريّة إلى تغيير عندما حصل أمرٍ طارئ، وبالتّالي علينا أن نتعلّم منه أنّ في الحياة أمورًا طارئة قد تدفعنا إلى إدخال بعض التعديلات على مُخطّطاتنا، أو حتّى إلى تغييرها. وإليكم مثالٌ آخر يُطلِعنا على أهميّة الأمور الطارئة في مشاريع يسوع: حين كان متّجهًا صوب أورشليم، حيث كانت الجموع تنتظره، والأطفال يحملون سُعُفَ النّخل والزيتون ليُرحِبّوا به في مدينتهم، التقى في طريقه أعمى أريحا الّذي كان يصرخ إليه طالبًا منه الشِّفاء، فما كان من يسوع إلّا أن تعاطف مع وجع هذا الأعمى، فأوقف المسيرة، وأعاد للأعمى النّظر. إنّ كلَّ النّاس ينتمون إلى مشروع يسوع وبرامجه، فهو لا يستطيع وَضْعَ أيٍّ مِنّا خارج مشاريعه، لا بل إنّ حالة البعض منّا قد تكون حالةً طارئة بالنسبة ليسوع، لذا فهو مستعِّد أن يُوقِفَ مسيرتَه من أجل تلبية حاجتنا. إنّ الربّ سيتوقّف عند حالة كلّ إنسان لأنّه ذو أهميّة كبرى في نظر الربّ، فهو يهتمّ لأمرِ كلّ واحدٍ منّا، وهو لا يستطيع تجاهل بكائنا وأوجاعنا وأمراضنا، لأنّنا أبناؤه: هذا هو إلهنا الّذي نعبده.
مَدَحَ يسوع إيمان تلك المرأة بعد أن شفاها، ولكنّه لم يَمدَح الأشخاص الّذين رآهم يتصدّقون على المحتاجين بأموالهم، ويقومون بأعمال رحمةٍ تجاههم، لأنّ الإيمان العظيم هو الوحيد الّذي يستحقّ المديح بالنسبة إلى يسوع. لقد تابع يسوع مسيرته بعد شفاء النّازفة، متّجهًا صوب بيت يائيروس لشفاء ابنته، حتّى بعد أن وَصَلَه خبر وفاتها، فقصَد ذلك البيت، وأقام تلك الفتاة من الموت. أقام يسوع ثلاثة أشخاص فقط من الموت في أثناء حياته الأرضيّة، وهم: لعازر صديقه؛ وابن أرملة نائين، وحيد أمّه؛ وابنة يائيروس، تلك الفتاة الّتي تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، غير أنّ هؤلاء عادوا وماتوا في هذه الأرض الفانية، وانتقلوا إلى الحياة الثانية، حيث عاينوا وجه الله.

إنّ أقارب ابنة يائيروس بكوا على موت الفتاة، كما نفعل نحن إذ نذرف الدّموع عند فقدان أحد الأعزّاء. لكنّ يسوع قد دعا أهل تلك الفتاة إلى الإيمان بالله، لا إلى البكاء على الفتاة. إذًا، ها هو يسوع يطرح علينا السؤال من جديد، في وقت فراق أحد الأعزّاء، قائلاً: أين إيمانكم؟ ونحن كمؤمِنين، وعلى الرّغم من التنشئة الّتي ننالها في جماعة "أذكرني في ملكوتك"، قد نفقد إيماننا في بعض الأحيان حين نفقد أحد الأعزّاء، فنرى البعض يبكون على الأعزّاء المنتقلين كَمَن لا رجاء لهم وتضيع في تصرّفاتنا خلال هذه الظروف كلّ علامات الإيمان. إخوتي، إنّ البكاء هو حقّ لنا، لكن لا يجب أن يغيب عن تفكيرنا أنّنا أبناء القيامة والحياة. لقد سأل يسوع أهل الصبيّة إن كانوا يؤمن بالله، وعندما حصل على الجواب، نالت الفتاة القيامة. إنّ الربّ طلب من أهل تلك الصبيّة عدم البكاء لأنّ الفتاة هي نائمة، كذلك نقول في نشيد رفع البخور بحسب الطّقس المارونيّ عن الموتى إنّ موتَهم هو "غفوٌ في الأنوار"، فالإنسان الّذي يُغادر هذه الدّنيا هو شخص يغفو في أنوار الله. إنّ الربّ أمسك بيمين الصبيّة وأقامها من غفوتها، قائلاً لها: "طابيتا، قومي". إنّ ربّنا هو القيامة والحياة، ولذا هو يُمسِك بِيَمينِنا حين ننتقل من هذه الفانية، كي نتخطّى الظلمات والفساد، فنصل إلى الملكوت حيث لا فساد. إنّ مصير أمواتنا قد يخيفنا بعض الأحيان حين يغيب عن تفكيرنا أنّ إلهنا هو القيامة والموت، ولكنّ علينا أن نتذكّر أنّ الربّ يُمسِك بِيَميننا في ساعة انتقالنا، وأنّنا ذاهبون لا محالة إلى الحياة الأبديّة مع الربّ.
لنُصلِّ إلى الربّ، ولنُخبره بنزفنا وجروحاتنا، وبالأمور الّـتي تُعيق مسيرتنا صوبه، ولنتسلَّح بلمسة الإيمان، فلا نخافَنَّ مِن بَعد الاقتراب من الربّ، وسماع كلمته ولَمسِ جسد الربّ ودَمِه في القربان الأقدس، فنحصل على الحياة الأبديّة معه.

ملاحظة: ألقيَت العِظة في الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك" ودُوِّنت مِنْ قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
12/3/2017 تأمّل في إنجيل تلميذَي عماوس 24: 13-31 إنّ زمن الصّوم هو زمن توبة
https://youtu.be/ddooK4PiQPQ

تأمّل في إنجيل: "تلميذَي عماوس" (24: 13-31)
للأب ميشال عبّود الكرمليّ
الرياضة الروحيّة السنويّة في دير سيّدة البير - بقنايا

12/3/2017

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.


إنّ زمن الصّوم هو زمن توبة. ولكن السؤال الّذي يُطرَح علينا: ماذا تعني التوبة؟ قد يُعرِّفها البعض قائلين إنّها عودة الإنسان إلى الله، أمّا آخرون فيقولون إنّها رجوع الإنسان إلى ذاته والتصالح معها، وآخرون إنّها عمليّة الإقرار بالخطايا مع اتخاذ المقاصِد بعدم العودة إليها.

إنّ التّوبة هي عودةُ الإنسان إلى الله، ولكنّ السؤال الّذي يُطرَح علينا هو: أين يسكن الله كي نتمكّن من العودة إليه؟ إنّ الله يسكن في داخلنا، وفي الكتاب المقدّس، وفي القربان المقدَّس الّذي هو جسد الربّ ودَمِه. إنّ القدِّيس أوغسطينوس، الفيلسوف والمفكّر والواعظ، قد اكتشف بعد مسيرة بحثه الطويلة عن الله في الكتب الفلسفيّة، وفي الطبيعة، أنّ الله يسكن فيه، في قلبه. لقد كُتِب الإنجيل ليُخبرنا أنّ يسوع قد قام من الموت، وهو حيّ وحاضرٌ معنا على الدّوام. على المؤمن اختبار هذه الأمور الثلاثة في حياته اليوميّة ليتمكّن من نقل البشارة إلى الآخرين، استنادًا إلى خبرته الخاصّة مع يسوع. لم تعد الصّلاة قادرة على إحداث تغيير في حياة المؤمِن بسبب عدم اندهاشه أمام عطايا الله وعظمة حبّه له، وعدم وجود رغبة عند المؤمِن في اكتشاف الله والبحث عنه. إخوتي، إنّ الحياة الروحيّة تتطلّب بحثًا دائمًا عن الله، لا من أجل حصول الإنسان على راحة نفسيّة وراحة البال، والابتعاد عن التّعب الجسديّ، فإنّ أمورًا دنيويّة كثيرة كالنّوم والرياضة كفيلةٌ بِـمَنحِ الإنسان كلّ ذلك؛ فالحياة الروحيّة ليست مجموعة أمورٍ صالحة يقوم بها الإنسان، إنّما تتضمّن كلّ الأمور الّتي مِن شأنها أن تساعد المؤمِن على اختبار حضور الله في حياته، وهذا الاختبار لا يتمّ وَسْطَ ضجيج هذا العالم واهتمامات الإنسان الدّنيويّة. إخوتي، ماذا نفع أطنانُ الذّهبِ لمريضٍ لا أمل في شفائه؟ إنّ الحياة الروحيّة لا تكمن في الأمور الكبيرة، بل في الأمور الصّغيرة التّي تجعلنا نكتشف حضور الله في حياتنا.

لقد انهارت أحلام تلمِيذَي عمّاوس عندما شاهدا معلّمَهما، ذاك الّذي مشى على البحر، وشفى المرضى، وأقام الموتى، مُعلَّقًا على الصّليب، ومستسلمًا للموت. لقد انهارت أحلامهما، عندما شاهدا ذاك الّذي كانت تتبَعه الجموع، مقبوضًا عليه من قِبَل الجنود، ومُساقًا إلى المحاكم، وقد هرب التّلاميذ كلَّهم تاركين يسوع وحده في هذه المحنة. إنّ هذا المشهد يُجسِّد فعلاً قول يسوع إنّه حين يُضْرَبُ الرّاعي، تتبدّد الخراف. بعد أن رأى هذان التّلميذان مصير يسوع، هما اللّذان تركا عائلاتَيهما وديارهما من أجله، وجدا أنّ لا فائدة من بقائهما في أورشليم، لذا عادا يوم الأحد إلى مدينتهما عمّاوس. وبينما هما في الطريق إلى قريتهما يتحادثان عن أحلامهما الّتي انهارت بموت يسوع، نجد يسوع يقترب منهما ويسير معهما من دون أن يتمكّنا من معرفته، فسألهما عن الموضوع الّذي يشغل بالهما ويتحادثان به. هذه هي التوبة: أن نُخبِر الربّ بهمومنا وانشغالاتنا. إخوتي، لا يجب أن نندهش أمام الخوارق الّتي يقوم بها القدِّيسون، إذ إنّها نتيجة علاقتهم الخاصّة مع المسيح، وبالتّالي فإنّنا مدّعوون جميعًا كي نبني قصّتنا الخاصّة والفريدة مع المسيح، فنتمكّن من القيام بأعظم مِن تلك الخوارق، فَلِكُلِّ قدِّيس قصّته الخاصّة مع المسيح. إنّ التّوبة تقتضي بأن يُقدِّم المؤمِن حياته للمسيح بكلّ ضعفها، ولكنّ هذه التقدمة تشترط اكتشاف المؤمِن حضور الله في حياته. غير أنّ العقل البشريّ غير قادر على إدراك سرّ الله بسبب محدوديّته، لذا يتوجّب على المؤمِن القيام بفعل إيمانٍ داخليّ يعترف من خلاله بحضور الله في حياته حتّى وإن لم يتمكّن من إدراك ذلك بعقله البشريّ. لأنّه كما أنّ الإنسان يُدرِك أن صحّته جيّدة وإن لم يتمكّن من رؤية عمل الخلايا في جسده بشكلٍ يوميّ، كذلك الأمر أيضًا في الحياة الروحيّة، إذ يتأكّد الإنسان من حضور الله في حياته حتّى وإن لم يتمكّن من رؤيته بشكلٍ حسيّ. إنّ الإنسان يتلمَّس حضور الله في حياته، من خلال سماعه لاختبارات الأقدمين، وبالتّالي على المؤمِن أن يتابع المسيرة، فينقل خبرته الخاصّة مع المسيح للآخرين ليتمكّنوا من تلَمُّس حضور الله.

تحضيراً لسرّ التوبة، يقوم البعض بفحصِ ضمائرهم مستندين فقط على الوصايا العشر الموجودة في العهد القديم. إنّ ذلك لَأمرٌ حسنٌ، ولكنّهم بتلك الطريقة يشابهون اليهود الّذين يستندون أيضًا إلى الوصايا نفسها في عمليّة فحص الضمير. إنّ المسيح يسوع قد جاء أرضنا لا ليَنْقُضَ الشريعة بل ليُكمِّلها، وبالتّالي لا يجب أن نستند في عمليّة فحص ضميرنا إلى الوصايا العشر فَحَسِب، بل على تعاليم المسيح كذلك. جاءني يومًا أحد الرّجال يستوضح منّي إن كانت بعض الأمور الّتي يمتنع عنها، هي حقًّا خطايا. وبعد أن سألني عن أمور كثيرة، سألني في نهاية المطاف، إن كان ضرب الزوجات خطيئة، فكان جوابي له إيجابيًا. عندها سمعته يشكر الربّ إذ إنّه لا يضرب زوجته، أي أنّه لا يرتكب تلك الخطيئة، فهو قد توقّف عن التحدُّث معها منذ سنين عديدة. إخوتي، لقد اعتقد هذا الرّجل أنّه يقوم بالصّواب بتصرّفه هذا، ولكن السؤال هو: أين المحبّة في مثل ذلك التصرّف؟ لا نستطيع تقييم علاقتنا بالربّ انطلاقًا من الأمور الخاطئة الّتي لا نقوم بها، إذ لا يجب علينا ارتكابها، إنمّا نستطيع تقييمها مستندين إلى الأمور الصّالحة الّتي لا نقوم بها، والّـتي من شأنها أن تعبِّر عن محبّتنا للربّ، وتساعدنا على نموِّنا في تلك العلاقة، وتساهم في تقديسنا.
لقد تشوَّهَ مفهوم القداسة عند المؤمنين بسبب جهلهم للكتاب المقدَّس، وعدم قراءتهم له. إنّ قراءتنا للكتاب المقدَّس ستساعدنا على اكتشاف حضور الله، وبالتّالي فإنّ مِثلَ هذا الاكتشاف يساعدنا على أن نجعل من صلاتنا فاعلة، وقادرة على إحداث تغييرات في نفوسنا. إنّ المؤمِن الّذي يقرأ الكتاب المقدَّس، يتعرَّف إلى المسيح الّذي صار إنسانًا مثلنا، وشابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة: فالمسيح قد جاع، وعطش ونام، وتعب، وبكى، وغضب كسائر البشر. إنّ الإنسان هو كائنٌ بشريّ، وليس ملاكًا نازلًا مِن السّماء ولا حجرًا غير قابل للتفاعل مع الآخرين، لذا يغضب في بعض المواقف الحياتيّة الّـتي يتعرَّض لها. إنّ الخطيئة لا تكمن في غضب الإنسان بحدِّ ذاته، بل في نتائج هذا الغضب على نفسه وعلى الآخرين، لذا على كلّ مؤمِن أن يتوقّف عند الموقف الّذي أثار غضبه، وأن يُعيد التفكير فيه، ليكتشف إن كان هذا الموقف يستحقّ كلّ هذا الغضب وما أسفر عنه من نتائج. إنّ مشاعر الإنسان تتغيَّر بين لحظة وأخرى، وبالتّالي فإنّ الإنسان مُعرَّضٌ للسقوط في الخطيئة في كلّ آنٍ، وبخاصّة في عصرٍ يُقدِّم له الشهوات على طبقٍ من ذهب، في كلّ مرّة يستخدم إحدى وسائل التواصل الاجتماعي. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون في منأىً عن الخطايا وهو في قلب العالم، أي في قلب المعركة، بل يستطيع أن يكون كذلك عندما يعود إلى ذاته ويبتعد عن العالم وانشغالاته، فيُعيد التفكير في تصرّفاته، فيُدرِك حينها إن كان قد ارتكب المعاصي أم لم يرتكبها.

حين يعود الإنسان إلى ذاته، يستطيع أن يكتشف أسباب الخطيئة الّتي وقع فيها، ويحاول إيجاد الحلول لها. إنّ أصل كلمة "السّماء"، هو الفعل "سما" أي "ارتقى"، وبالتّالي يصل الإنسان إلى السّماء إن تمكّن من الابتعاد عن الخطايا الّتي ارتكبها فيرى بشكلٍ واضحٍ الأسباب الحقيقيّة الّـتي تؤدي به إلى ارتكابها ويجد حلّا لها، فينجح في التخلّي عنها والاقتراب أكثر من السّماء. إنّ الأمور الّتي نخجل منها، ونتحاشى أن نتكلّم عنها حتّى مع ذواتنا، تشير إلى مَواطن الأمراض الرّوحيّة فينا؛ لذا إنّ كنّا نرغب في الحصول على الشِّفاء، فعلينا أن نسمح للمسيح بأن يلقي بنوره على تلك الأماكن المظلمة فينا، فنتخلَّص من كلّ ما يُسبَّب لنا بالآلام. إخوتي، لقد كان الله يرانا حين ارتكبنا المعاصي، فلِـمَ نخجل الآن من إخباره بها، وإعلان توبتنا عنها؟ لقد عبّر تلميذَا عمّاوس ليسوع عن همومهما جوابًا عن سؤاله لهما: ما بالكما مضطربَين؟ إنّ يسوع يطرح علينا السؤال نفسه اليوم قائلاً لنا: ما بالكم مضطربين؟ فلنتحلَّ بالجرأة ونخبره بما يشغل تفكيرنا، فهو يريد مساعدتنا وشفاءنا من كلّ ما يُسبِّب لنا آلامًا وأوجاعًا، لنكشف له عن جروحاتنا إذ إنّه الطبيب الوحيد، شافي نفوسنا من أمراضها.

لقد شرح يسوع الكتب المقدَّسة لتلميذَي عمّاوس بعد أن أصغى إلى همومهما وأوجاعهما. إخوتي، كي نتمكّن من التخلُّص من الخطيئة، علينا مَلءُ الفراغ الّذي نشعر به جرّاء ابتعادنا عنها، وقد تكون قراءتنا للكتاب المقدَّس إحدى الوسائل الّتي تساعدنا على ملء ذلك الفراغ. إنّ عالمنا اليوم، يسعى إلى ملء الفراغ الّذي يعيشه بأمور عديدة، منها ما بها فائدة، ومنها ما لا فائدة منه. لذا على كلّ مؤمِن إجادة اختيار الوسائل السليمة لملء الفراغ، وهذا الأمر ليس بالسّهل أبدًا، إذ إنّ الرّوح مندفع لكن الجسد ضعيف على حدّ قول المسيح. فكما أنّك لا تستطيع مَنْعَ ابنك من الاقتراب من الأشياء الّتي تؤذيه، مِن دون أن تستبدله بأمورٍ أخرى، تملأ له الفراغ، كذلك لا يمكن للإنسان الابتعاد عن الخطيئة، مِن دون ملء الفراغ الناتج عنها بأمور صالحة ومفيدة.

ليس زمن الصّوم زمن الامتناع عن الطّعام بل زمن اتّخاذ القرارات. إنّ القدِّيسة تريزيا الأفيليّة تقول لنا إنّ الإنسان لا يمكنه الصّلاة إن كان بطنه خاويًا، لأنّه حينها سيُفكِّر في بطنه لا في قلبه. إنّ البطن الخاوي هو سبب كلّ الأزمات الّتي يتعرَّض لها الإنسان. لقد عاد الابن الضّال، الّذي تكلّم عنه الإنجيل، إلى منزل أبيه من أجل إشباع بطنه من الخبز المتبقيّ على مائدة أبيه، لا إدراكًا منه محبّة أبيه له، بدليل قول الإنجيليّ عن لسان هذا الابن: "كم أجير في بيت أبي، يفضل عنهم الطّعام، وأنا هنا أهلك جوعًا؟" إذًا، لقد عاد هذا الابن من أجل إشباع جوعه، فاختبرَ لا محبّة أبيه وحسب بل رحمته أيضًا.

إنّ الصّلاة تقتضي بأن يُكرِّس المؤمِن وقتًا يُخصِّصه لله دون سواه، غير أنّ المؤمن سيتعرَّض لعاصفة من التّجارب في هذا الوقت الّذي سبق وحدّده، إذ في هذا الوقت بالتحديد، سيشعر بالنُعاس والتعب وسيتلقّى زيارة من أصدقاء، وبالتّالي سيبتعد المؤمن عن الصّلاة. للصّلاة ركيزتان أساسيّتان، وهما معرفة هويّة الّذي نتوجّه إليه بالصّلاة، ومعرفة مكان وجوده. إنّ وقت الصّلاة هو موعد في غاية الأهميّة لأنّه لقاء مع الله، فأهميّة اللّقاء تكمن في أهميّة الشخص الّذي سنلتقي به. حين يتخّذ المؤمِن قراره فيُحدّد موعدًا للصّلاة ويلتزم به، يصبح أمر الاختلاء بالله سهلًا، في قلب ضجيج هذا العالم، لأنّه "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك". إنّ يسوع لم يدخل إلى بيت تلميذَي عمّاوس رُغمًا عنهما، بل تظاهرَ في بادئ الأمر أنّه ذاهبٌ إلى مكان أبعد، حسب قول الإنجيليّ. غير أنّ التلميذَين ألّحا عليه في البقاء معهما قائلَين: اُمكث معنا يا ربّ. وبالتّالي فعلينا أن نُلِّح على الربّ كي يبقى معنا كما فعل هذان التلميذَان، إن كنّا نريد أن نجعله لا ضيفًا عندنا فحسب، إنّما سيّدًا على منزلنا. عندما لبّى دعوتهما ومكث معهما، لم يعرفاه إلّا عند كسر الخبز.

إنّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عن القربان المقدَّس، فهو غذاؤه الأساسيّ ليتمكّن من النّمو روحيًّا وللِّقاء بالربّ. ولـمّا عرفاه عند كسر الخبز، توارى عن أنظارهما. كُثُرٌ هم الأشخاص الّذين يتساءلون عن مكان الله، ويعتقدونه بعيدًا عنهم لأنّه متوارٍ عن أنظارهم. إخوتي، إنّ الربّ يسكن فيما بيننا، إنّه تلك القربانة المقدَّسة الّتي نتناولها في كلّ ذبيحة إلهيّة. عندما يكتشف المؤمن حضور الله في حياته، لن يهرب من جديد من مشاكله، بل سيعود إلى طريق الربّ، تلك الطريق الّتي كان يسلكها قبل ارتكابه الخطايا. لقد عاد هذان التلميذَان إلى أورشليم، حين اكتشفا أنّهما التقيا بالمسيح القائم؛ لقد عادا إلى تلك المدينة حيث حضّر الفريّسيون والكتبة، وأيضًا بيلاطس مؤامرة قتل يسوع وقد سعوا إلى الحكم عليه بالإعدام صلبًا. إنّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يهرب من الواقع ومِن مشاكله، بل يسعى إلى تخطّي مشاكل الواقع، متسلِّحًا بإيمانه المبنيّ على اختباره مع المسيح القائم من الموت. لقد صلّى المسيح إلى الله أبيه لأجل تلاميذه، ولأجلنا أيضًا قائلاً: أبتِ، لا أسألك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير. على المؤمِن أن يعيش في هذا العالم، متيَّقظًا لكلّ أوجه الخطيئة، كي لا يقع في حبائل تجارب إبليس، فسفر التكوين يقول لنا إنّ الخطيئة رابضة عند الباب، تنتظر مَن تَلتَهِمه.

إخوتي، كُثُر هم الّذين يرفضون التقرّب من سرّ التوبة، إذ إنّهم حسب قولهم، يعترفون بزلّاتهم أمام الله في صلاتهم الشخصيّة. إخوتي، إنّني ننتمي إلى جماعة المؤمنين بالمسيح، وقد اتّخذنا سرّ العماد في قلب الجماعة لا في بيوتنا الخاصّة عند الاغتسال المنزليّ، ولذا فَمَن يقبل بسرّ المعموديّة في الكنيسة، فعليه أن يلتزم بكلّ أسرارها أيضًا. فكما أنّ المعموديّة لا تتمّ بين المؤمِن والله فقط، كذلك لا يمكن للمؤمن الاعتراف بزلّاته أمام الله فقط. إنّ سرّ الاعتراف هو أحد الأسرار السبعة، وقد منحَه يسوع شخصيًّا إلى تلاميذه، حين قال لهم: مَن غفرتم لهم خطاياهم غُفِرَت، ومَن أمسَكتُم عليهم خطاياهم أُمسِكَت (يوحنا 20/ 19-20). بعد اتّخاذ المؤمِنين قرارًا بالاعتراف بزلّاتهم، نجدهم يبحثون عن كاهنٍ عجوزٍ يعاني من ضُعفٍ في سَمَعه، ويسكن الأماكن الـمُقفِرة. إخوتي، إنّ سرّ الاعتراف يتمتَّع بسريّة كاملة، ولا يجوز للكاهن الإفشاء به مهما كان السبّب، كما أنّ الكاهن يتمتع بنعمة النِّسيان، كسائر البشر. إنّ الخطايا الّـتي تُقِرُّ بها أمام الكاهن، هي خطايا يرتكبها جميع البشر، وبالتّالي فإنّ خطاياك ليست من اختراعك الشخصيّ دون سواك من البشر، ثمّ إنّ الكاهن يسمع خطايا مشابهة لخطاياك يوميًّا. إخوتي، ما من ضرورة للخوض في تفاصيل ارتكابكم للخطيئة مع الكاهن أثناء الاعتراف، فالخوض في التفاصيل يَقع على عاتق المؤمِن في أثناء فحصه لضميره قبل التقدّم من سرّ التوبة والإقرار بالخطايا أمام الكاهن، لأنّه كما يقول داود النبيّ في المزامير الّتي تُنسَب إليه: "إنّ خطيئتي أمامي في كلّ حين". إنّ مهمّة الكاهن تقوم على الإصغاء إليك ومساعدتك على النّهوض من خطاياك، لا على إشعارك بالرّاحة عبر إسماعك ما ترغب في سماعه. على المؤمِن ألّا يتوقّف عند شعوره حيال هذا الكاهن أو ذاك، فالأهمّ في سرّ الاعتراف، هو أن يحلّك من خطاياك بالسُّلطان الـمُعطى له من المسيح يسوع، فإنّ الـحَلّة التّي يعطيك إيّاها الكاهن كفيلة بأن تشعرك بأنّك إنسانٌ جديد، مولود من جرن المعموديّة. إنّ بعض المسيحيّين يتَّخذون من ضُعفِهم البشريّ ذريعة لعدم التقرّب من سرّ الاعتراف قائلين: ما ضرورة الاعتراف إن كنّا مُدرِكين أنّنا سنعود ونسقط من جديد مرتكبين الخطايا نفسها؟ فكما أنّ الّذي يعمل ويجتهد يتساقط منه العرق، فيشعر بضرورة الاستحمام يوميّاً، على الرّغم من عِلمِه أنّه سيشقى في اليوم التّالي، كذلك علينا التقرّب من سرّ التوبة، كلّما شعرنا باتِّساخنا جرّاء ارتكابنا للخطايا.

إخوتي، إنّ سرّ التوبة، يتطلّب من المؤمِن اتّخاذ مقصَدٍ بعدم اقتراف الخطيئة من جديد، والابتعاد عنها قدر المستطاع، وهذه النِّعمة تُمنَح للمؤمِن في سرّ التوبة، إذ يتشَّدد من جديد ويسعى إلى الابتعاد عن الخطيئة. إنّ آباء الكنيسة يقولون في كتاباتهم: إنّ الشيطان ينزع منك الخجل حين ترتكب الخطيئة، ومن ثمّ يعود ويزرع فيك الخجل عندما تُقرِّر التوبة عنها والاعتراف بها. فلنحاول اليوم، إخوتي، كسر هذا الخجل الّذي يزرعه الشيطان فينا، ولنجعل المسيح ينتصر عليه بتقرُّبنا من سرّ الاعتراف، فكرسيّ الاعتراف، ليس كرسيّ المحاكمة، إنّما هو كرسيّ داخل مستشفى، على حسب قول يوحنّا الذهبيّ الفمّ، فإنّ الربّ أعطانا سرّ الاعتراف لأنّه يرغب في شفائنا، لا في إدانتنا على خطايانا.

ملاحظة: ألقيَ هذا التأمّل في الرياضة الروحيّة السنوية 2017 ودوِّن مِن قِبَلِنا بتصَرُّف.