البحث في الموقع

لقاءات و نشاطات


رياضات روحية

6/3/2016 "اذهب وافعل أنتَ أيضًا هكذا" لو10: 37 كيف يجب أن نعيش الرّحمة اليوم، في بيوتنا، في عائلاتنا
https://youtu.be/dD5iTxa9Kl8

"اذهب وافعل أنتَ أيضًا هكذا"(لو10: 37)
مع الخوري جوزف سلّوم
الرّياضة الروحيّة السنوية لجماعة "اُذكرني في ملكوتِكَ"
في دار سيّدة الجبل، فتقا

6/3/2016

الله معكم،
أنا سعيدٌ جدًّا بلقائنا اليوم لنتابع مسيرتنا في هذه الرياضة الرّوحيّة، لنأخذ منها زوّادة روحيّة تُفيدنا في حياتنا اليوميّة. من حيث الإطار العامّ، هذه الرياضة يُصادف وقوعها في زمن الصّوم المبارك، وضمن إطار يوبيل الرّحمة الذّي تحتفل به الكنيسة التّي تتأمّل فيه بوجه يسوع الرّحوم. هذه المسيرة التّي نقوم بها مع الكنيسة، في سنة اليوبيل هذه، سوف تجعلنا قادرين أن نعكس وجه يسوع الرّحوم.

إنّي أسمع الكثيرين من النّاس يتأفّفون إذ يعتقدون أنّهم قد أعطوا الكثير من الوقت للرّبّ يسوع من خلال مشاركتهم في رياضةٍ روحيّةٍ، أو في حضورهم القدّاس الإلهيّ، وينتظرون من الرّبّ يسوع أن يكافئهم على هذا الوقت القصير الذّي قدّموه له، متحجّجين أنّهم، بالرّغم من انشغالاتهم الكثيرة، تمكنّوا من إعطاء وقتًا للرّبّ. إنّ هذا الفكرة خاطئة: فلست أنتَ من تكرّس وقتًا للرّبّ إنّما الحقيقة هي على عكس ذلك تمامًا. إنّ الرّبّ يعطيك هذا الوقت، وهو هديّة منه كي تستفيد من الوقت، كي تأخذ منه إفادة لحياتك. إنّ الوقت نعمة ٌكبيرةٌ من الله، وعليك أن تسأله ما الذّي يريده منك في هذا الوقت. إنّ كلمةً واحدة ًكافية، متى وقعت في أرض نفسِكَ، أن تُغيّر الكثير في حياتك. إنّ أردتَ أن تكون أرضًا خصبة، وإذا أردتَ أن تبحثَ عن ثمار، فإنّ هذا الوقت هو عطيّةٌ من الله لك، وفرصةٌ لك كي تتجدّد، وكي تنمو.
أعلن البابا هذه السنّة، يوبيل الرّحمة. الملاحظة الاولى التّي أوّد أن ألفتَ انتباهكم إليها هي إنّنا لا نقول سنة الرّحمة. نحن نستطيع أن نقول إنّ هذه السنة هي سنة المكرّسين، أو سنة الإيمان، أمّا اليوبيل، فهو ليس سنة عاديّة إنّما سنة استثنائية لذلك نقول يوبيل الرّحمة. ونحن حتّى اليوم، نسمع، بعض الكهنة وحتّى أساقفة، يتكلّمون عن سنة الرّحمة: إنّهم مخطئون، فهذه ليست سنة الرحمة إنّما يوبيل الرّحمة. أعلن البابا فرنسيس هذه السنة سنة يوبيليّة مع علمه أنّ الكنيسة تعيش سنة يوبيل كلّ خمسة وعشرين سنة. ففي سنة الألفين عشنا في الكنيسة سنة يوبيلية وبالتّالي كان علينا الانتظار حتى حلول سنة 2025 لنعيش سنة يوبيليّة. ففي الواقع، أصبح البابا ذا قيمة كبيرة في الكنيسة إذ أحدث ثورة في داخلها، بل أعظم من ذلك، إذ قرّر أن يطبع حبريّته بحدثٍ مميّزٍ وهو الحبّ والرّحمة. لقد عُرِف البابا يوحنّا بولس الثاني بـ"بابا الرجاء"، والبابا بنديكتوس السادس عشر بـ"بابا الإيمان" وأمّا البابا فرنسيس فهو "بابا الرّحمة والمحبّة"، وبذلك يكون قد طبع حبريّته المميّزة. لقد أعلن البابا فرنسيس بداية هذه السنة اليوبيليّة، يوبيل الرّحمة، في الثّامن من كانون الأوّل، في عيد العذراء مريم. إنّ هذا التّاريخ مهمّ عند اللّبنانيّن إذ أنّه ذكرى إعلان قداسة مار شربل، غير أنّ البابا قد اختاره لأنّه ذكرى اختتام أعمال المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذّي عُقِد منذ خمسين سنة، وذلك نظرًا لأهميّة هذا المجمع وأعماله التّي لم تُعَشْ حقًّا حتّى يومنا هذا. إضافة إلى ذلك، لقد اختار البابا هذا التاريخ لأن العذراء مريم هي باب السّماء وهي أيضاً أمّ المراحم، وبالتّالي هي تساعدنا للدّخول واكتشاف رحمة الله لنا. وقد أعلن البابا اختتام اليوبيل في عيد يسوع الملك، بحسب الطقس اللاتيني، في العشرين من تشرين الثاني سنة 2016
ثمّ يتطرق البابا في رسالته عن مفهوم ومعنى سنة اليوبيل. سوف أتذّكر معكم يسوع، الذّي بعد انتهائه من بشارته، عاد إلى قريته النّاصرة حيث عاش طفولته. دخل كعادته إلى المجمع، يوم السبت، مع اليهود ليصلّي. ولأنّه كان مثقفًا، دُفع إليه الكتاب ليقرأ حيث دُوِّنت هذه الكتابة:"روح الرّبّ عليّ مسحني وأرسلني لأبَشِّر المساكين، وأُعلن سنة رحمة". لقد أعلن يسوع سنة مميّزة، سنة رحمة. خلق هذا البابا ثورة في داخل الكنيسة، إذ إنّه يملك غزارة في التأليف وفيضًا من المواقف والمبادرات والمفاجأت. لقد أشعل الكنيسة! إنّ هذا البابا جاء ليصنع التغييّر في الكنيسة. إنّ هذا البابا هو محبوب من غالبيّة النّاس، حتّى من غير المسيحيّين غير أنّه مرفوض من قِبَل بعض الإكليروس والرّهبان والرّاهبات.

ما الذّي كان يحدث في السنّة اليوبيليّة؟ كيف كانت تُعاش في السّابق؟ كان النّاس يعملون ستّ سنوات متتاليّة عادةً وفي السنة السّابعة يستريحون، وهذه كانت تُعرف بالسنة السبتيّة.كان اليوبيل يعتبر زمن تجدّد، زمن نعمة بامتياز. كان الانسان يستريح ويُريح الأرض بعد ستّ سنوات من المواسم فإنّ الأرض هي أيضًا بحاجة للرّاحة. إنّ الرّاحة مهمّة، إذ إنّ الله في اليوم السابع استراح، لذلك أخذوا السنة السابعة للرّاحة. قديمًا،كان النّاس يزرعون الأشجار وليس فقط بحسب المواسم. إنّ الشجرة هي علامة للثبات، وبالتّالي عندما أزرع شجرة، هذا يعني أنّني أفكّر في الأجيال اللاحقة، في أولادي وأحفادي. إن الزراعة بحسب المواسم تعني أنّني أفكر في ذاتي فقط. فكلّ مَن يمرّ على الطريق، يقطف من ثمار الاشجار ويأكل. إنّ الثمار في هذه السنة اليوبيليّة تكون للجميع، ولا أسوار حول الأراضي.

في هذه السنة اليوبيليّة كان يتمّ تحرير العبيد والأسرى، كما كان يتّم الإعفاء من الدّيون. لقد كانت هذه السنّة مميّزة إذ كان يتمّ فيها مبادرات مصالحة، فيسعى الانسان إلى مصالحة كلّ إنسان يكون على خصام معه، كائن من كان، ومهما كانت الصعوبة أو الإشكاليّة من دون انتظار الآخر ليقوم بالمبادرة. وإنّ كان الحقّ مع فريق معيّن فهذا لا يعفيه من القيام بمبادرات مصالحة في هذه السنّة للتّقرّب من الآخر.

كذلك كان النّاس، قديمًا، يقومون برحلات حجٍ مقدّس إلى أماكن معينّة على خطوات معيّنة وباتجاه معيّن. إنّ هذه المسيرة هي دليل على اتّباع يسوع. لذلك أعلنَ قداسة البابا عن أماكن مقدّسة. إنّ السنة اليوبيليّة هي زمن توبة وارتداد. في هذه السنّة، يجب أن أتخذ قرارًا بالتغيّير والتجدّد أي أن أغيّر قلبي، وأن أسعى كي أكون إنسانًا جديدًا فأتخلَّص من خطاياي. هذا هو مفهوم السنّة اليوبيليّة بشكلٍ عام. إضافةً إلى ذلك، فقد أعلن قداسة البابا فتح الابواب المقدّسة. إنّ البابا لا يملك شركة سياحيّة يريد تمويلها، لذلك لم يحصر الباب المقدّس ورحلات الحجّ في روما. في الفاتيكان هناك باب مقدّس لا يفتح إلّا مرّة واحدة كلّ خمس وعشرين سنة. إنّ فتح ذاك الباب لَهُوَ أمرٌ رمزيّ. إنّ قداسة البابا أعلن فتح الابواب المقدّسة وليس ذلك بهدف سيّاحيّ وليس خوفًا من التّدافع إنّما ليتمكنّ الجميع من الحجّ حتّى وإن كان لا يملك المال. قام قداسة البابا بفتح الباب المقدّس في 8 كانون الأوّل في كاتدرائيّة مار بطرس، ثمّ في الأيّام التّاليّة قام بفتح أبواب كاتدرائيات أخرى في الفاتيكان: سان جان دو لاتران، سانتا ماريا ماجوري، سان بول أورليمور. إذًا هناك أربعة أبواب مقدّسة في الفاتيكان. ولقد طلب قداسة البابا من كلّ أسقف أن يحدّد في أبرشيته، بابًا مقدّسًا يدخل منه المؤمنون، ويكون باب رحمة. فعندما يدخل المؤمن من هذا الباب الرمزي يستطيع إدراك أنّ الرّبّ يعانقه، ينتظره، ويسامحه. في أبرشيتنا، الباب المقدّس هو باب الكاتدرائيّة في أدما، في أبرشيّة صربا الباب المقدّس هو باب كنيسة مار جرجس. في أبرشية جبيل هناك بابان مقدّسان، باب كنيسة مار يوحنّا مرقس وباب كنيسة مار مارون عنايا، في القبيات الباب المقدّس هو باب كنيسة سيّدة الغسالة. في أبرشيّة أنطلياس، الباب المقدّس هو باب كنيسة القيامة المطيلب. وقد أعلنوا في كلّ أبرشيّة بابًا مقدّسًا تجاوبًا مع نداء قداسة البابا الذّي أراد بذلك أن يقول إنّنا كلّنا في شراكة وإنّه لايريد أيّة حصريّة في الأمور. إنّ هذا البابا يحبّ الانفتاح والشموليّة. إنّ مهمّة كلّ شخص منّا وبخاصّة المكرّسين ليس فقط الجلوس وراء المكاتب أو خلف المذابح، إنّما علينا الخروج صوب جروحات النّاس، على أمل ألاّ يكون هذا الخروج وهذه الولادة ولادة قيصريّة. دعوتنا إذاً الخروج صوب النّاس. فيوبيل الرّحمة هو سنة مقدّسة، سنة استثنائية، نتأمّل فيها بوجه يسوع الرّحوم، ورحمته العظيمة لنا، ونتأمّل في بُعد الرّحمة الذّي أعطانا إيّاه.

أتذّكر معكم إخوتي في إطار يوبيل الرّحمة، ذكرى خمسين سنة على افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني، إنّه أكبر مجمع في الكنيسة، لا مثيل له في سائر المجامع الكنسيّة، ويُقال عنه إنّه العنصرة الجديدة للكنيسة. لقد كانت الكنيسة قبل هذا المجمع منغلقة على ذاتها، وقد أَنتَنَتْ نتيجة إغلاقها هذا. لكن البابا يوحنّا الثالث والعشرين الذّي تمّ إنتخابه، وقد اعتقد البعض أنّه لن يتمكنّ من القيام بتغيير داخل الكنيسة، كان أعظم بابا وخَلَقَ التّغيير في خط البروتوكول ونادى بمجمع فاتيكاني ثانٍ. لقد قال هذا البابا عن المجمع إنّه عنصرة جديدة للكنيسة كما قال إنّ الكنيسة عروسة المسيح أي الكنيسة تُفَضِّل أن تستعمل الآن دواء الرّحمة بدلاً من أن تحمل أسلحة القساوة والتّزمت. علينا إستخدام هذا الدّواء، دواء الرّحمة، على الرّغم من وجود أسلحة القساوة في كنيستنا وحيث التّزمت موجود فيها على صعيد القوانين والشرائع. إن استخدام دواء الرّحمة في قلب الكنيسة، لا يعني أبدًا تشجيع الانفلات في الكنيسة بل على العكس من ذلك، إنّه يشجِّع التنظيم داخل الكنيسة. إنّ البابا يوحنّا الثالث والعشرين مات خلال فترة المجمع وقد استلم عنه هذا العمل خَلَفَهُ أي البابا بولس السادس. ويقول البابا بولس السادس إنّه شعر بروح السامريّ الصالح، روح المحبة في هذا المجمع، روح الانفتاح على الجميع، وتجدر الاشارة إلى مشاركة إخوتنا الارثوذوكس والبروتستانت في هذا المجمع، كما كان للمسلمين حضور ملفت.

عندما نقول العهد القديم، يُخيّل إلينا أن الله ليس رحومًا، وأنّ الله يَبطُش بالنّاس، وأن من لا يسمع كلمة الله، القصاص والعقاب بانتظاره. إنّ هذا ليس منطق الله. إنّ منطق الله هو منطق رحمة: "إنّ إلى الأبد رحمته". ونرى في العهد القديم تَكرار لكلمتين: "إنّ الله صبور ورحوم".
أمّا في العهد الجديد، نرى أنّ الجموع كانت تلاحق يسوع لمدّة ثلاث أيام على الجبل، علّمهم، شفاهم وأطعَمَهم، وعندما أراد أن يرتاح ويذهب إلى الجبل تبعوه وكانوا نحو خمسة ألاف رجل ما عدا النّساء والأطفال، وعندما وصل إلى هناك، رآهم كخرافٍ لا راعٍ لها، تحنّن يسوع على الجموع وأشفق عليهم. إنّ يسوع قد رأى هذه الجموع آتية وهي من دون راعٍ. إنّ يسوع عندما كان يرى حاجةً أو وجعًا، كان قلبه يتحنّن ويتحرّك. هذا هو إلهنا، يتحنّن على أوجاع البشر ولا ينظر إليها كمتفرِّج. لذلك علينا أن نتعلّم في هذه السنة اليوبيليّة الخاصّة بالرّحمة أمرين: الأوّل هو أن نصرخ بصوتٍ مرتفع. هناك نوعان من الصّراخ: صرخةٌ بصوتٍ مرتفعٍ كما صرخ الأعمى الذّي كان موجودًا على قارعة طريق أريحا. كان يسوع صاعدًا من أريحا إلى أورشليم، وكانت الجموع تنتظر دخول يسوع إلى أورشليم، وكذلك كان الأطفال بانتظاره حاملين أغصان النّخيل استعدادًا للقائه في أورشليم ولمناداته بأصوات مرتفعة ملكًا حقيقيّاً، فناداه الأعمى صارخًا: "ارحمني يا ابن داوود". إن يوم الشعانين لم يبدأ في أورشليم بل في أريحا: في أورشليم، كانت الجموع تنادي وتقول صارخةً:" هوشعنا لابن داود". وفي أريحا، نادى الأعمى يسوع قائلاً: "ارحمني يا ابن داود". إذًا الشعانين بدأ بالصّراخ عاليًا في أريحا، حيث عبّر الأعمى عن حاجته وهي المقدرة على الرؤية، عبّر عن مشكلته التّي رافقته منذ سنين، فهو يتسوّل جالسًا على قارعة الطريق، وبحاجة لمن يشفيه. لقد أَسكَتَهُ الجمع، لكنَّ يسوع سمع صرخة الأعمى وطلب من الجمع أن ينادوه وعندما جاء إلى يسوع، لمسه وشفاه وأعاد إليه النّور والبصيرة وعين الإيمان، فسار الأعمى وراء يسوع صوب أورشليم. وهناك نوعٌ آخر من الصّراخ، هناك أشخاص قد اختفت أصواتهم من شدّة صراخهم. هناك أشخاص موجوعون وفي عيونهم دموع ألمٍ، يصرخون بصوتٍ خافت، لكن يسوع بالرّغم من ذلك يسمع صراخهم. هناك أشخاص ألتقي بهم أحيانًا، يقولون لي أن لا أحد يعرف ألمهم ووجعهم ومشاكلهم وصعوباتهم سوى وسادتهم، وقد تبللَّ فراشهم بالدّموع. إنّ هذا غير صحيح، إنّما الرّبّ هو الذي يسمعهم، هو راحتهم. لذلك، سوف أعطي مثلاً عن الصرّخة الصامتة التّي لا يسمعها الجمع، صرخة أرملة نائين، التّي فقدت وحيدها وهي تسير في موكبه الجنائزي باكيةً عليه، ومعها كلّ أهل قريتها. التقى هذا الموكب بيسوع، ولو لم تلتقِ هذه المرأة به، لأكملت طريقها في مسيرة الحزن إلى المدفن، واستمرت في حزنها وبقيت كلّ علامات الموت عليها. لكن لحسن حظ هذه المرأة أنّ موكبها التقى بموكب يسوع، التقت دموعها بيسوع، الذّي سمع صوت دموعها. عند رؤية يسوع هذه الدموع، مع أنّ المرأة لم تطلب منه شيئاً لكنّه استجابةً لدموع أمّ الميت، طلب أن يتوّقف النّعش، فلمسه وقال للشاب:" لك أقول، قم"، ثمّ أعاد الشاب إلى أمّه، وطلب يسوع من المرأة أن تمسح دموعها، وكأنّه يقول لها يكفي ما ذرفتِه من دموع وحزن، امسحي دموعك! فالبكاء يمنعنا من رؤية حقيقة القيامة، ولو أنّه أمر طبيعيّ وقت الحزن، لكنّ الرّبّ يسوع يسمع دومًا صوت دموعنا، الربّ يسوع يسمع صراخنا الصامت.

سوف أتابع في العهد الجديد وسوف أتطرّق إلى ثلاثة أمثلة هي: الابن الشاطِر، الخروف الضّائع، والدرهم الضائع. في مَثل الدرهم الضائع، يدور الحديث عن امرأة فلسطينيّة، إحدى نساء تلك المنطقة. في القديم، كانت المرأة عند زواجها تحصل على عشرة دراهم من أبيها تكون بمثابة هديّة لها. أضاعت تلك المرأة درهمًا منها، فأخذت تبحث عنه وقد أنارت البيت لكي تجده، إنّها تبحث في كلّ التفاصيل، كلّ زوايا المنزل، لتجد هذا الدرهم وقد وجدته. القاسم المشترك في نصوص الأمثلة الثلاثة هو: "هكذا يكون الفرح بخاطئ واحدٍ يتوب". يُمنع على الإنسان الذّي يلتمس رحمة يسوع، أن يبقى حزينًا، هناك فرح رغم كلّ الآمنا ودموعنا، فإنّ يسوع يتدّخل في حياتنا ليزرع الفرح.

أتطرّق الآن إلى فكر الكنيسة. على الكنيسة أن تعيش الرّحمة أوّلاً على مستوى الخِطاب، نشكر الله على بطاركتنا، أساقفتنا وكهنتنا، إذ أنّهم يشتهرون بخطاباتهم وبوعظاتهم وبالنّصوص التّي يكتبونها. خطاب الرّحمة هو جيّد جدّاً لكن المشكلة هي في الأفعال "قولنا والعمل". على الخطابات أن تقترن بالأعمال، فالقول وحده لا ينفع. على أحدهم أن يبدأ بالقيام بأعمال رحمة لكي يبدأ التغيير في الواقع. أنظروا إلى قداسة البابا الذّي ترك القصر الذّي أعطَوه إياه، وأخذ غرفتين في سانتا مارتا، غرفة للنّوم، وغرفة للإستقبال. وغرفة الإستقبال تتضّمن أربعة أمور فقط: المصلوب، تمثال أمّنا مريم العذراء وتمثال مار يوسف وآخر لمار فرنسيس. إنّه يستوحي كلماته وعظاته منها، بكلّ بساطة. إنّه يحتفل بالقدّاس يوميًّا ويسمح للمؤمنين بمشاركته القدّاس، ويتلو عليهم العظة بكلّ عفويّة وبساطة.كم هو رائع هذا البابا في التغيير الذّي خلقه في الكنيسة، لقد جعلها تتنفّس من جديد بنفسٍ جديد! أوّل ما قام به البابا عندما تكلّم عن أعمال الرّحمة هو أنّه قام بتجميع المشردين ذوي الشعر الطويل وقد دعا حلّاقين كلّ نهار اثنين للإهتمام بهؤلاء وتصفيف شعرهم، وقد قام بإنشاء حمامات لهم وسيفتتحون مركزًا لهم في حاضرة الفاتيكان. من فترة صغيرة، تمَّ نقل أَلفَي شخص من المتسوّلين بسيارات الكرادلة. لقد قام هذا البابا بثورة في الكنيسة، بخضّة كبيرة. عندما كان قداسة البابا رئيس أساقفة في الأرجنتين، لم يسكن في بناء الأبرشيّة بل قام بإستئجار شقة صغيرة له للقيام بالمهمّات الإداريّة، وكان يتنقل في وسائل النقل العموميّة. إنّ هذا البابا يتمتّع ببساطة في التّصرف مع محافظته على امتيازاته كبابا. في أحد الايّام، التقى البابا بأحد الحرّاس السويسرين الموكول إليهم حراسة الفاتيكان، فوجده مريضًا. فقام البابا بالاهتمام بهذا الحارس المريض، فأتى له ما يأكله وجلب له كرسيًّا ليرتاح. إنّ مثل تلك الشهادات في البساطة والتجرّد والتواضع والقرب من النّاس مهمّة جدًّا في الكنيسة وهذه هي حاجتها اليوم. هكذا كان يعيش يسوع. هذه الثورة التّي لسنا قادرين على قبولها، يجب أن تبدأ فينا من الدّاخل، أن تَعصِف فينا وتُغيّرنا.

هناك أيضًا مثل السامريّ الصالح، إنّه مثل تلّفظ به يسوع عندما سأله أحد اليهود من هو قريبي فتلا عليه هذا المثل. مرّ شخص يهوديّ على الطريق، فتعرّض له لصوص وضربوه. ثمّ مرّ لاويّ وكاهن رأياه مرميًّا على الطريق ولم يهتّما به،كي لا يتنجسّا إذ أنّه كان ينزف والدّم هو علامة النّجاسة. أمّا السامريّ، وهو عدّو اليهوديّ، لم يتكلّم بل قام بأفعال "رآه، تحننّ عليه، إنحنى، ضَمَّد جراحه، سكب زيتًا، حمَلَه على دابتّه". هذا هو الحبّ و هذه هي الرّحمة، إنّهما يرتكزان على الأعمال. علينا استعمال كلّ الوسائل التّي لدينا لنساعد الآخرين. أريد أن أخبركم أمرًا، في التّاسع من شهر شباط المنصرم، كان لديّ لقاء مع عدّة رهبانيات، في رياضة روحيّة. قمت وإيّاهم بقراءة لواقع الرهبانيّات، فقلت لهم إنّ الرهبانيّات أصبحت اليوم تقوم بفتح مؤسسات: دور عجزة وأيتام وما إلى هنالك، وتأتي بأشخاص من جنسيّات غريبة لخدمة هؤلاء، والمكرّسون في هذه المؤسسات يقومون بتنظيم الأمور إداريًّا فقط. قلت لهم أنظروا إلى راهبات القديسة الأم تريزيا دي كالكوتا، فهنَّ لا يملكن غسّالة للثياب فيقمن بغسل الثياب بأيديهنَّ. فالرّحمة لا تقتصر فقط على التنظيم إنّما تتطلّب القيام بأعمال رحمة أيضًا. علينا العودة إلى جذور وجوهر إنجيلنا.

إنّ شعار يوبيل سنّة الرّحمة "رحماء كالآب"، رسمه أبٌ يسوعيّ إلمانيّ. وفي هذا الشعار نرى يسوع المصلوب، وتبدو على يديه أثار الصّلب، نراه مرتديًا ثيابًا بيضاء ويضع على وسطه زنّارًا باللّون الأحمر تعبيرًا عن الشّهادة والذّي يرمز إلى حبّ يسوع لنا الذّي قاده إلى بذل ذاته عنّا. نرى يسوع حاملاً شخصًا على ظهره، إنّه يرمز إلى كلّ شخص ضائع أو مريض، أو بحاجة لمساعدتنا. ولكننّا نرى ثلاث أعين في هذا الشعار، هناك عين مشتركة بين يسوع والشخص المحمول على ظهره، وبذلك يريد راسم الشعار أن يقول لنا إنّه علينا أن ننظر للآخرين بعين يسوع، بنظرته إليهم.
كلمة الرّحمة باللغة الأجنبيّة تترجم"miséricorde" إنّها تتألف من كلمتين: misère وتعني البؤس، وcordia وتعني القلب، وبالتّالي إنّ الرّحمة تدعونا للتخلّي عن قلبنا القاسي لنتحلّى بقلب محبّ ورحوم. وهذه هي فكرة البابا من هذا اليوبيل أنّه عند رؤيتنا لبؤس، وشقاء النّاس والآمهم، علينا التحلّي بقلب محبّ، حنون، رحوم، ومحبّ للبشر.

هناك نوعان من أعمال الرّحمة: أعمال الرّحمة الرّوحيّة وأعمال الرّحمة الجسديّة. سأبدأ بأعمال الرّحمة الجسديّة وإنجيل متّى يتكلّم عنها في الفصل 25، نحن قد حفظناه غيبًا: كنت جائعًا، كنت عطشانًا،كلّ أعمال الرّحمة موجودة. لكنّي سأتوقف عند الآية الأخيرة، عند كلمة "ندفن الميت".إنّ مشكلة المشاكل تكمن هنا، هناك العديد من النّاس يموتون في هذه الأيّام وليس هناك من يدفنهم، لذلك أضاف البابا هذه الكلمة على أعمال الرّحمة المطلوبة. هناك حروب، وقد أصبح الموت مكلِفًا وباهظًا جدًّا إذ أصبح هناك سمسرة في ما يختّص الموت. فلذلك عند موت أحدهم، نرى تجار الموت، يأتون ظاهريًّا بوجه خدماتيّ لكنّهم ليسوا كذلك، إذ يعرضون خدمات الآخرين فيما يختّص بمستلزمات الدفن من أكل، سيارة دفن الموتى، ورقة النّعوة، وإلى ما هنالك. إنّ قداسة البابا يدعونا إلى القيام بأعمال رحمة تجاه إخوتنا. إنّ البابا يدعونا في رسالتة عن الرّحمة كي "نتحمّل الشخص المزعج بصبر". فلنحاول عيش هذه الرّحمة لمدّة سنة فقط، ولننظر إلى الأشخاص المزعجين في حياتنا ولنحاول تحمّلهم أقلّه هذه السنة.

ليوبيل الرّحمة بحسب رسالة البابا ثلاثة أبعاد: البعد الأوّل مغفرة الخطايا، البعد الثاني المصالحة والبعد الثالث كيفية مساعدة الفقراء. البعد الأوّل يطرح مشكلة الاعتراف، فمهما كانت خطيئتك عظيمة، تعال إلى الرّبّ ولا تخف من أن تفصح عن جميع خطاياك، دون خوف وخجل وبصراحة تامّة، وتذّكر أن لا حدود لمغفرة الرّبّ ولرحمته لك. فليس عليك تبرير ارتكابك الخطايا، يكفي أن تأتي إلى الرّبّ وتعترف بخطاياك. هناك العديد من النّاس قد ابتعدت عن الكنيسة وعلينا أن نسعى إلى إعادة جمع القطيع من جديد، هذا ما يطلبه قداسة البابا منّا اليوم. وفي هذه السنة، أطلق قداسته 1071كاهنًا وأسقفًا إلى كلّ العالم ليُفسح المجال للجميع بأن يتوب ويعترف بخطاياه، مهما كانت خطاياهم عظيمة، هذه هي دعوتنا في هذه السنّة اليوبيليّة. إنّ قداسة البابا لا يحبّ التجمعّات الكبيرة إذ أنّه يهتّم لكلّ فردٍ بمفرده. إنّ البابا ينظر إلى كلّ شخص بمفرده بعينيه فيهتّم لأمر كلّ شخص، وهو لا يحبّ الأمور العامّة، تلك هي روحانيّته: الإهتمام بكلّ شخص بمفرده. لقد اختار الآباء اليسوعيّون، راهبًا من بينهم هو الأب أنطونيو لإجراء مقابلة مع البابا، وطرح عليه أسئلة عدّة، أوّلها: من هو خورخيو ماريو برغوليو، وهو اسم البابا الحقيقيّ. فجواب البابا كان أنا رجلٌ خاطئ، لكنّ الرّبّ ألقى نظره عليّ. إنّنا كثيرًا ما نبتعد عن الرّبّ، ونهتّم بالتنظيمات والثقافة، لكنّ البابا يدعونا إلى العودة إلى مرجعيتين: المسيح والكنيسة. وهنا سوف استشهد بهوشع: هوشع طلب الله منه أن يتزّوج إمرأة خاطئة زانية. وقد أنجبت طفلة أطلق عليها هوشع النبيّ اسم "لا رحمة"، ثمّ أنجبت امرأته صبيًّا وقد أطلق عليه اسم "ليس بشعبي". هاتان الولادتان كانتا نتيجة علاقة خارج الزّواج. وعندما شكا هوشع أمره للرّبّ، طلب منه أن يغوي جومر إمرأته من جديد ويجذبها، لذلك قال هوشع: "آخذها إلى البريّة وهناك أتكلّم إلى قلبها". أخذها إلى البريّة وتكلّم إلى قلبها، ثمّ قال إنّه سيخطبها ويريد إقامة عهدٍ جديدٍ معها، و قد استجاب الرّب لهما وأعطاهما صبيًّا ، هو ابن البركة واسمه يزراعيل أي الله يزرع، الله يبارك. لقد قال هوشع ما ردّده يسوع لاحقًا في الانجيل: "أريد رحمة لا ذبيحة". فهناك ثلاث خطايا هي ضدّ الرّحمة يجب الاعتراف بها عند ارتكابها: الأولى هي خطيئة الإكتفاء بالذّات، وعدم حاجتي للآخر، وعدم الشعور بحاجة للرّحمة وأنّي قديس وممتلئ نعمة. أمّا الخطيئة الثانية هي الحكم على الآخرين ودينونتهم، وأمّا الأخيرة فهي خطيئة التّجاهل واللامبالاة، رؤية وجع الآخر دون محاولة المساعدة.

والآن، سوف أتطرّق إلى مبادرات المصالحة. في أيّامنا هذه، النّزاعات كثيرة جدًّا في رعايانا، في جماعاتنا، وفي وظائفنا. علينا التحلّي بالشجاعة للقيام بمبادرات مصالحة كما فعل قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني الذّي التقى بالإنسان الذّي أطلق عليه النّار "علي أقجة"، فغفر له. إنّ الأكبر والأقوى، والممتلئ من الرّبّ، هو الذّي يغفر.

والآن، سوف نتناول مسألة مساعدة الآخرين الذّين يعيشون في حالةٍ من البؤس. أمام بؤس النّاس، وآلامهم ومعاناتهم والظلّم الموجود في عالمنا، لا يخجل البابا من التكلّم عن تجّار الأسلحة وأصحاب المافيا وتجّار المخدّرات، إذ لا يجب أن يكون هناك ظلّم، وعلى الدّول الغنيّة التّي تمتلك الثروات الكبيرة المساعدة في تخفيف البؤس وألمه. لقد أعلن البنك الدوّليّ إنّ نسبة سكان الأرض الذّين يعانون من الجوع والفقر هي 34 بالمئة، وهذا رقم كبير، أي ثلث البشريّة تعيش في حالة فقر وجوع. لذا لا بجب أن ننظر إلى البؤس المحيط بنا دون محاولة المساعدة. إنّ القديسة الأمّ تريزيا دي كالكوتا، عندما رأت شخصًا مرميّاً قرب محطّة القطار ويصرخ أنّه عطشان، شكَّل لها ذلك دعوة لتترك رهبانيتها وتسمع صوت يسوع الذّي يناديها من على الصليب "أنا عطشان"، بصوت هذا الانسان، ثم أن تؤسس رهبانيّة جديدة إذ لا تستطيع أن تغلق بابها عن حاجات الآخرين وأن تكون قاسية القلب أمام بؤسهم ووجعهم.

الآن سنتكلّم عن الرّحمة كما تكلّم عنها الآباء. إنّ القديس باسيليوس قال إنّ كلّ ثوب تمتلكه وأنت لست بحاجة إليه، كلّ حذاء تمتلكه ولست بحاجة إليه، كلّ هذا هو ملك للفقراء والعراة وليس ملكك. وكذلك بالنسبة للطعام، إنّه مُلك الجياع. ويضيف قائلاً إنّه لَمِن غير المقبول أن تُلبِس الجياد ذهبًا وتُطلي منزلك بالذهب عندما يكون هناك أناس يموتون جوعًا. والقديس يوحنّا الذهبيّ الفم يقول إنّه كما يحتفل الكاهن على المذبح ويقدّم قربانه، كذلك عليّ أن أقف أمام الفقير وأحتفل احتفالاً أسراريًّا بالسرّ الأخويّ وكأنني أمام المذبح. إذاً هناك دعوة للخروج صوب الآخر ودعوة لنكون رحماء فنحوِّل إلى الأحسن واقع الآخرين والآمهم.
هل الرّحمة تنفي وجود العدالة والنّظام؟ إنّ هذا الأمر ليس صحيحًا أبداً إذ إنّ العدالة تُكمل الرّحمة. إنّ الرّحمة هي ملء العدالة شرط ألاّ نعيشها بروح الفريسيّ أي أن نتمسّك بحرفيّة الشريعة. إنّ المسلمين واليهود يفكّرون بالرّحمة. عند اليهود، إنّ العهد القديم مليء بالرّحمة، والمسلمون يطلقون على الله اسم "الرَّحمن الرّحيم"، وإنّه يتكرّر بشكل مستمِّر على شفاه المسلمين. إخوتي إنّ الفقير لا هويّة له. وكما يقول الأب يعقوب الكبوشيّ إنّ النبع لايسأل الذّي يشرب منه ما هي هويّته، لذلك علينا أن نكون رحماء مع جميع الفقراء. إنّ الكنيسة في ذهابها وتواجدها في السّجون، حيث الغالبيّة هم من المسلمين، تقوم بعمل رحمة مع هؤلاء. إنّ الشيوخ غالبًا لا يهتّمون بالسّجناء كونهم ينالون عقابًا على أفعالهم. لذلك نجد أنّه من واجبنا الإهتمام بهم، غير أنّنا نرى امتعاضًا من البعض على هذا الأمر. في بعض الأحيان هناك مسلمون في رعايانا وعلينا ألاّ نترَدَّد في مساعدتهم، إذ إنّ ذلك هو من أساس الحبّ الذّي علّمنا إياه الرّبّ، أن نكون منفتحين على الجميع. إنّ قداسة البابا، من خلال حواره مع المسلمين يريد أن يتعاون المسيحيّون مع المسلمين من أجل نزع العنف من العالم، وأن يتمّ التعامل بالرّحمة مع بعضنا البعض. نقول إنّ مريم هي أمّ المراحِم. لقد ظهرت كذلك عند أقدام الصليب، عندما كانت تتأمّل وجه يسوع الرّحوم، الذّي غفر للجميع، هو المعَلَّق على خشبة، على حجنّا أن يكون موّجهًا صوب جرح الإنسان. علينا أن ننظر بأعيننا الاثنتين، الأولى موّجهة صوب قلب يسوع المطعون بالحربة، والأخرى موّجهة صوب الفقير.

كيف يجب أن نعيش الرّحمة اليوم، في بيوتنا، في عائلاتنا في مؤسساتنا، في مجتمعاتنا وفي وطننا؟ علينا أن ننزع قلب الحجر منّا، ونضع مكانه قلبًا محبًّا ورحومًا، لكي نعكس بمبادراتنا وجه يسوع الرّحوم. المطلوب منّا إذًا ثلاثة أمور: عين مفتوحة قادرة على رؤية حاجات النّاس، ثمّ قلب مفتوح يتحنّن، ويد مفتوحة وصرّة أموال مفتوحة أيضًا حاضرة للعطاء. فإذا عدنا إلى مثل السامري الصالح، لا يكفي أن نشتري دابّة لمساعدة الآخرين إنّما علينا إخراج الدينارَين من صُرّة أموالنا وإعطاءهما لمن هم بحاجةٍ إليهما. فالصّلاة فقط لا تكفي، علينا بالمساعدة الماديّة أيضًا، أي أن أعطي رغيف خبز للجائع، وأن أصلّي له أيضًا. أعمال الرّحمة اليوم، أصبحت حسب حاجتنا وإليكم مثالاً هو تصرّفات المرشحيّن إلى الانتخابات، فهم يغرّون الآخرين بمساعدتهم ماليًّا كي ينتخبونهم، إنّهم يساعدونهم من أجل مصالح خاصّة. فهل هذه المساعدات هي أعمال رحمة؟ هناك قديسة تدعى إميلي دو رودا، هذه قديسة من راهبات العائلة المقدسّة الفرنسيّة، عمر رهبنتها حوالي المئتَي سنة. لقد كانت هذه القديسة رائدة في أعمال الرّحمة أيّام الثورة الفرنسيّة،كانت تهتّم بالفقراء، تساعد الفتيات اللواتي يعشن في الشوارع، كانت تدخل إلى السّجون للمساعدة. وهناك أيضًا الأب يعقوب الكبوشيّ، هذا الشخص الذّي كان مميّزاً بعلاقته مع يسوع. ومن أجل التبشير بيسوع، مشى لبنان بأكمله سائرًا على الأقدام. رفع صليب يسوع على كلّ تلة، وقد قام بافتتاح مؤسسات ورهبانيّات تهتّم بالفقراء وبالبؤساء، الذّين لا يهتم أحدٌ بهم، إنّه وجهٌ نَيِّرٌ في الكنيسة.
إنّني أدعوكم في ختام حديثي معكم اليوم، إلى "اذهب وافعل أنت أيضًا هكذا"، فإذا اقتنعنا، علينا القيام بأعمال رحمة وعدم البقاء على مستوى النّظريّات الجميلة حول ما يجب فعله، علينا الانطلاق صوب العمل. علينا عدم الغرق في النّظريات الأخلاقيّة والوعظ. علينا التّعامل بصدقٍ، والتعاطي المباشر كما تفعل الأمّ تريزيا وراهباتها. علينا الاتكّال على رحمة الله كما يفعلن هنّ، فهنّ لا يخبِئنَّ شيئًا لهنّ. إنّ الرّحمة هي فعل، عمل:"اذهب وافعل أنت أيضًا". إذًا إخوتي، هناك ضرورة بالإعتراف، وتشجيع الآخرين على ذلك، وضرورة مصالحة الآخرين وعدم انتظار الاخرين بل علينا التشجّع والقيام بمبادرات مصالحة. وحيث هناك جرح، علينا إحضار دابة، ودرهمين فنقوم بما نستطيع في هذا العالم، لنستطيع تغيير العالم من حولنا. آمين.

ملاحظة: اُلقيَ هذا الموضوع في الرّياضة الروحيّة لجماعة"اُذكرني في ملكوتِكَ" 2016- في دار سيّدة الجبل، فتقا .
وَدُوِّنَ من قِبَلِنا بتَصَّرُف.
6/3/2016 "أحد شفاء المخلَّع" كم هو مهمّ أن يكون يسوع في بيتنا.
https://youtu.be/m62r60jBZfU

تأمّل في "أحد شفاء المخلَّع" مر 2: 1-12
للخوري جوزيف سلّوم
الرياضة الروحيّة السنويّة في دار سيّدة الجبل - فتقا

6/3/2016


باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في الأحد الخامس من زمن الصّوم، تتأمّل الكنيسة، بحسب الطقس المارونيّ في حادثة شفاء المخلّع، فتقرأ الانجيل، ليس كحدثٍ جرى في الماضي، بل على العكس، تقرأه كحدثٍ يحصل الآن فعلاً. نقرأ الانجيل دائمًا بطريقة آنيّة وكأنّه يحدث الآن، ولا يجب قراءته وكأنّه حدثٌ خارِجُ عنّي. فعليّ أن أجد لي مكانًا في النّصّ الانجيليّ: من الممكن أن أكون المخلّع، أو صاحب البيت، أو أحد الرّجال الذّين كانوا يحملون المخلّع، كما يمكنني أن أكون حماة بطرس التّي كانت تهتّم بالمنزل وتخدم النّاس، أو بكلّ بساطة أحد الحاضرين في هذا المنزل الذّين يتفرّجون منتظرين ما سيفعله يسوع. هكذا أقرأ الانجيل طارِحًا على ذاتي السؤال التّالي: أين أنا من النّصّ الذّي أقرأه؟ أتخيّل الكلام الذّي تفوّه به يسوع، الحديث الذّي يدور بين الأشخاص، المشهد الانجيليّ كلّه، هل أنا أحد الكتبة أو الفريسييّن الذّين ينتقدون يسوع، وهم يسألوه عن السّلطان الذّين يستخدمه لغفران الخطايا وعن هويّته، ويُذكّرونه بأنّ الله وحده هو الذّي يغفر الخطايا. إن إنتقاد الفريسييّن والكتبة لأعمال يسوع يشكِّل أحد الأسباب الأربعة التّي أوصلت يسوع إلى الصّليب.

أبدأ بالكلمة الأولى من النّصّ: "وسمع النّاس أنّه في البيت": سمع النّاس أجمعين أنّ يسوع موجودٌ في البيت.كم هي مهمّة كلمة "البيت"! البيت هنا هو بيت بطرس، وهذا يعني الكنيسة. أوّل لقاءات يسوع لم تكن في ملاعب رياضيّة، في أماكن واسعة بل كانت في بيت، فهو لا يبحث عن جماهير غفيرة تُصَفِّق له، لذلك بدأ عمله في أماكن صغيرة ضيّقة، في عائلة، في بيت. أوّل أعجوبة قام بها يسوع كانت في العائلة، في بيت. في هذا البيت، بيت بطرس، قام يسوع بثلاثة أعمال: عَلَّم، شَفى، وغفر. إذًا هذه هي الأعمال التّي حصلت في بيت بطرس: التّعليم، الشِّفاء، والمغفرة. فالمغفرة لا تتّم عندما أكون مستلقيًّا ومرتاحًا قبل النّوم، إنما بيني وبين الله فقط.
"إنّه في البيت"، كم هو جميل ومهّم أن نقول إنّ يسوع في بيتي أنا. كم هو مهمّ أن يكون يسوع في بيتنا. لكن هل ما زلنا نستقبل يسوع في منزلنا أم أخرجناه منه منذ زمن؟! عندما نضع يسوع خارج بيتنا، ينهار الزواج ولا يثبت. إنّ اللقاء كلّه يتمّ في البيت: الحوار، التقاسم والمسامحة. لكن المشكلة تكمن في أنّ شبابنا اليوم لا يحبّون المكوث في المنزل، لأنّهم يضجرون. (وأنا لم أتكلّم عن الأزواج لأنّ الجميع أصبح يعمل اليوم، وهذه من متطلّبات الحياة في هذا العصر.) اليوم، أصبح يسوع وحده في البيت، وكأنّه حارس أمنّي يقوم بحراسة منزلنا من اللّصوص، ونحن في أغلب أوقاتنا خارج المنزل، ويسوع وحده في الداخل. واليوم، أصبحت اللّقاءات بين العِيَل والأصدقاء تتمّ كلّها في المطاعم، أي خارج المنزل. في السابق، كنّا نفرح بمجيء رفاقنا وزوّارنا إلى المنزل. أمّا اليوم، فإذا جلسنا في المنزل، فلا نتواصل مع بعضنا البعض كما يجب. لذا إخوتي علينا أن نُعيد يسوع إلى بيتنا وحياتنا، فعندها أمورٌ كثيرةٌ سوف تتغيّر وتتبدّل في حياتنا.

"إنّه في البيت"، أردت أن أشدِّد على موضوع البيت لأقول أمرًا وهو: عندما يكون يسوع في البيت يصبح هناك مكان للمريض والعجوز وللشخص المعوّق في منزلنا. لقد قرأت منذ فترة كلامًا لقداسة البابا فرنسيس عن الشخص العجوز في المنزل -وقد أفرحني ما قاله-قال البابا إنّه في خلال وجوده في الأرجنتين عندما كان رئيس أساقفة، أراد في أحد الأيّام زيارة مأوىً، فذهب وتناول مع العجزة وجبات الطعام وتبادل معهم الأحاديث. وعندما سأل البابا عجوزًا إن كانت عائلته تقوم بزيارته، فكان الجواب إيجابيًا. ولمّا استطرد البابا بسؤالٍ آخر عن تاريخ الزيارة، تفاجأ بجواب العجوز إذ قال له إنّ عائلته تزوره في الأعياد، كعيد الميلاد، أي قبل ثمانية أشهر من زيارة البابا للمأوى. لذلك صرخ وقال إنّها جريمة كبيرة ولخطيئة فظيعة ومميتة. ويضيف البابا ويُخبر قصّة أخرى عن عجوزٍ موجود في المنزل ضمن عائلة أحد أبنائه. وفي أحد الأيّام، قام الابن بصناعة طاولة خشبيّة لأبيه، وطلب منه الجلوس في المطبخ لتناول الطّعام وحيداً لأنّه سيستقبل ضيوفًا في المنزل. وعندما رأى الحفيد هذا الأمر، بدأ بصناعة طاولة خشبيّة مماثلة لأبيه، وعندما سأله والده ما الذّي يفعله أجابه أنّه يُعِدّ له طاولة خشبيّة كالتّي صنعها هو لجدّه، إستعدادًا لشيخوخة والده. فيعيد البابا صرخته ويقول إنّها خطيئة مميتة. إنّ البيت هو أمر مهمّ وهو محور العائلة.

هنا في هذا النّصّ، نرى ازدحاما للنّاس في بيت بطرس. هناك أشخاص يفرحون عند ازدحام النّاس حول يسوع، لكن الازدحام في هذا النّصّ قد يكون مزعجًا، إذ لم يترك هؤلاء النّاس ممرًا للآخرين، للمرضى والآتين من بعيد، والذّين هم في أمسّ الحاجة للإقتراب من يسوع. نحن الذّين نعتبر أنفسنا على مقربة من يسوع، أَكُنّا كهنة أم مؤمنين أو جماعات روحيّة، علينا الانتباه إلى الآخرين وترك ممر للذّين هم بحاجة للاقتراب من يسوع.

هناك في بعض الأحيان، معوّقات تقف حاجزًا دون وصولنا ليسوع. فمِنَ النّاس مَن يتحجّج بعدم وجود وقت، وبكثرة الانشغال، وكثرة الارتباطات، وكثرة الزيارات، لعدم وصوله إلى يسوع. لا يجب أن يكون هناك معوِّقات لوصول أيٍّ كان أمام يسوع، خاصّةً أمام كلمته. يسوع شفى المخلَّع بقوّة الكلمة، ففي هذا النّصّ، لم يضع يسوع يده على جسد المخلّع لشفائه، إنّما شفاه بقوّة كلمته ومن بعيد. إنّ الكلمة أي الانجيل والكتاب المقدّس هي وحدها قادرة على الشفاء والغفران لذا علينا إعادة كلمة الله إلى بيوتنا وقراءتها. علينا إخوتي أن نصلّي من جديد في بيوتنا وأن نضع الله وكلمته في قلب منازلنا. إخوتي، فلنضع يسوع وسط منزلنا.

في هذه الحادثة، حادثة شفاء المخلّع في بيت بطرس، يسوع تكلّم مع المخلّع لكن الأولويّة عند يسوع كانت لغفران الخطايا. نظر يسوع للمخلّع وقال له: "قم، احمل سريرك، واذهب إلى بيتك". كلمة "قُمْ" تدّل على القيامة. إنّ الشخص المريض يشبه الميت، جاء يسوع وأعاد الحياة لهذا المخلّع. إنّ يسوع بهذه الكلمة "قم"، أراد أن يقول للمخلّع، ومن خلاله لنا، أن نقوم ونحمل صعوبات الحياة التّي نواجهها، صليبنا والآمنا، وننتقل إلى بيت جديد لكي نغيّر الواقع.

والآن سنتوقف عند فكرة وجود الاشخاص الأربعة الذّين أتوا بالمخلّع إلى يسوع. ومن هنا نُشدِّد على أهميّة وجود الجماعة التّي تحمل الاشخاص الذّين يعيشون وسط الصعوبات التّي تشكِّل عائقًا لهم في مسيرتهم. نحن نلاحظ أنّ الاشخاص يتواصلون مع الكهنة من أجل رتبة المعموديّة، وبعد الانتهاء من هذه الرتبة، لا يعودون إلى الكنيسة. عوض أن نتحضّر لهذا السّر روحيًّا، بتنا اليوم، نتحضّر له عبر الاحتفالات الاجتماعيّة، كالاهتمام بالتذكارات الخاصّة بالمناسبة، بالعشاء في المطعم، والثياب والزينة وما إلى هنالك من تحضيرات. والأمر نفسه نراه في المناولة الاولى والاكاليل. أصبحت كلّ إحتفالاتنا الدينيّة شكليّة. فلنفكّر في الطرق التّي يجب استخدامها لجعل جماعاتنا المسيحيّة أكثر قدرة على حمل الأشخاص الذّين يمرّون بصعوبات، فتكون جماعتنا أكثر فاعليّة. قلائل هي الجماعات التّي تستمِّر بإلتزامها، لقد أصبحنا اليوم نَحضُر إلى الكنيسة كمن يقوم بوظيفة، نأتي إلى الكنيسة للقيام بمهمّة معينّة ثمّ نغادرها. وهنا نطرح السؤال عن الدور الذّي نستطيع أن نلعبه في تكوين الجماعات الرعوية والكنيسة. لذا إخوتي، فلنحمل مع الكهنة جماعاتنا المسيحيّة. وعندما يُطلق الكاهن النِّداء من أجل إيجاد أشخاص لمساعدة الآخرين في حمل صعوباتهم، غالبًا ما نرى أن القسم الأكبر من النّاس يهرب من تَحَمُّل هذه المسؤوليّة. إخوتي، فإن لم نتمكن من أن نحمل جسدّيًا الأشخاص في صعوباتهم، فلنُصلِّ لهم. فبصلاتك أنت قادر على أن تحمل الكثيرين، وصلاتك قادرة على اجتراح المعجزات. ويمكن أن يكون المخلَّع أحد أقربائي، ففي حال كنت وحدي غير قادر على حمله، أحاول أن أطلب المساعدة من الآخرين. لنتحَلَّ إخوتي بالاندفاع لمساعدة الآخرين في الحمل. أريد معكم إخوتي لفت النظر إلى قوّة الجماعة بإيمانها القادر على اجتراح المعجزات، وتشفي النّاس وتُغيّر مسار كثيرين إذا كانت قادرة أن تتضامن مع بعضها البعض وتحمل بعضها البعض في وقت الصعوبات. في عالمنا اليوم، الكثير من النّاس يحبّون أن ينظروا إلى الآخرين كمتفرِّجين، دون أن يمدّوا يد المساعدة. إنّ المشكلة في عالمنا اليوم هي الفِردانيّة.كلّ واحد يريد العمل بمفرده. فلنطلب من الله أن يعطينا النّعمة وهي أن يساعدنا لنعمل كجماعة، ككنيسة. آمين.

ملاحظة: اُلقيت العظة في الرياضة الرّوحيّة السنويّة لجماعة "اُذكرني في ملكوتِكَ"2016 في دار سيّدة الجبل-فتقا.
ودوِّنَت من قِبَلِنا بتصرّف.
5/3/2016 تأمّل في إنجيل المرأة الخاطئة "غُفِرَ لها الكثير لأنّها أحبّت كثيراً":
https://youtu.be/7ojl8lLDW4Q

تأمّل في "إنجيل المرأة الخاطئة"
للأب ميشال عبود الكرملي
الرياضة الروحية السنوية في دار سيّدة الجبل - فتقا

5/3/2016

نبدأ تأمّلنا اليوم منطلقين من السؤال الأخير في الانجيل: "من هذا حتّى يغفر الخطايا؟". هذه الكلمات يقولها المؤمنون وهم يقصدون بها الكهنة. من هو هذا الكاهن لكي أذهب إليه أنا المؤمن وأعترف أمامه، إنّه بحاجة لمن يغفر له خطاياه. إنّ كلّ ذلك صحيح. في مكان آخر يقول الربّ يسوع: "لكي تعلموا أنّ ابن الإنسان له السلطان أن يغفر الخطايا". نحن نقول إنّنا مسيحيّون، فهذا يعني أنّنا نحبّ يسوع، ونحفظ كلماته. إنّ كلمات يسوع واضحة عندما قال لرسله بعد القيامة: "خذوا الرّوح القدس، من غفرتم له خطاياه غُفِرَت، ومن أمسكتم عليه خطاياه أُمسِكَت". مَن أنا، الكاهن؟ أنا لستُ بشيء، أنا رسولُ المسيح أتوّجه إليك حاملاً لكَ رسالةً من يسوع، إنّها رسالة الغفران. يمكنك أن تقبل تلك الرسالة كما يمكنك أن ترفضها، لكن وجودنا هنا هو علامة على قبولنا لتلك الرسالة.

ننتقل إلى نقطة أخرى في هذا النّصّ، حيث نرى أنّ يسوع هو المحور بين فريقين: الأوّل يطلب الغفران من الرّبّ والآخر منتقِد لأعمال الرّبّ. إنّ الفريقين هما مع يسوع: من جهة نرى سمعان الفريسيّ الذّي قام بدعوة يسوع إلى منزله، وعلى الأرجح أنَّ يسوع كان صديقه، أو على معرفة به. أمّا تلك المرأة فقد جاءت من الخلف صوب يسوع، جاءت حاملةً خطاياها، ماضيها، وهي ليست خائفة من أعيُن النّاس بقدر ما يهمّها الالتقاء بيسوع. والمثل الشائع يقول إنّ الذّي لا يعرف إلى أين هو ذاهبٌ، كلّ الطرقات تَفي بالغَرَض بالنسبة له. فإنّ الذّي لا يعرف أنّ الرّبّ هدفه، يسعى للحصول على بَلسَمٍ لجروحات قلبه من أماكن عدّة. انطلاقًا من هذا الإطار، نرى أنّ تلك المرأة تعرف الهدف، لذلك جاءت إلى يسوع باكيةً. والبكاء يُعبِّر عن حالتها، فكلّ مآسيها قد ظهرَتْ من خلال دموعها السخيّة. لقد مسحت بها رجليّ يسوع، سكبَتْ أمام يسوع كلّ مآسيها؛ حزنها وذاتها. هي كلّها موجودة الآن أمام يسوع، وأكثر من ذلك، لقد سكبت أنوثتها أمامه عندما بدأت تمسح دموعها على رِجليه بشعرها. فالإنسان يخضع أحياناً إلى عمليّة جراحيّة معيّنة، ويصرخ من شدّة الألم، لكن ذلك لا يهمّه لأنّ هدفه هو الوصول إلى مرحلة الشفاء، فهذا هو ما يُنشِدُهُ.

من جهة أخرى، الأشخاص الذّي ينتمون إلى فريق المنتقدين: قد وجَّهوا انتقاديْن: الانتقاد الأوّل تمّ توجيهه إلى يسوع، والانتقاد الآخر كان موّجه صوب المرأة. "لو كان هذا الرّجل نبيّاً، لَعَلِمَ من هذه المرأة، وما هي حالتها، إنّها خاطِئة.". إنّ هذا الانتقاد كان موّجهاً إلى يسوع من قِبَل الأشخاص الذّين دعوا يسوع لمجالستهم، لذا فإنّ عين الانتقاد تبقى دائماً موجودة. وكلامهم هذا، "لو كان هذا الرّجل نبيّاً" إنّما يدّل على عدم رؤية هؤلاء الأشخاص في يسوع نبيّاً: إنّهم لا يَرَون فيه لا نبيّاً ولا ابن الله، ولا الله. لقد أصبح يسوع ذا قيمة صغيرة جدّاً في نظرهم نتيجة تعامله مع هذه المرأة. لكنّه بالرّغم من ذلك، ما زال يسوع يُجالِسُهم. أمّا الانتقاد الآخر الموّجه ليسوع فقد كان الحكم عليه بعدم معرفته لحقيقة هذه المرأة. هذه هي الدينونة إذ يُنَصِّب الإنسان نفسه قاضيًا لله، ومُحاميًا عنه ويدلّ على الآخرين. إنّنا ندعو الانسان، الذّي ينتقد الآخرين ويوّجه لهم أصابع الاتّهام، أن يرى أصابعه المتّجهة صوبه عندما يدلّ على غيره ويدينهم، عليه أن ينظر إلى ذاته. لذلك فإنّ آباء الكنيسة يقولون في هذا الإطار، "إن كانت الوصيّة تقول أحبّب قريبك حبّك لنفسك"، فنحن نقول لك: دِنْ نفسَك إدانتَك لقريبك.

النقطة الثالثة التّي أوّد الكلام فيها هي:" قل يا معلِّم"، ونحن في هذه الأمسيّة نريد أن نقول للرّبّ: قل يا معلِّم، تكلَّم فإنّنا نريد أن نسمعك. الربّ يسوع سوف يقول لنا في هذه الأمسيّة: عندي ما أقوله لك. فاليوم أيضًا يريد يسوع أن يُكلّمني. فمن غير الممكن أن أخرج من هذه الأمسيّة كما دخلت إليها. كثير من الأشخاص يقولون إنّ لديهم موعدًا مهمًّا، فإنّ الموعد يكون مهمّاً نسبةً إلى الشخص الذّي سنلتقي به. ونحن اليوم على موعد مهمّ مع الله نفسه، فمهما كانت أسباب حضورنا إلى أمسيّة التّوبة هذه علينا أن نعيَ أن لدينا لقاءًا مع الله. لقد أتى كلّ شخص منّا اليوم حاملاً في قلبه وفكره وعقله، أوجاعًا وخطايا، أمورًا جميلة وأخرى مزعجة. علينا أن نسكبها جميعها أمام الله اليوم. إنّ الكثير يسألوننا لماذا سَمَح الله أن أَمُرّ بما أَمُرّ به من صعوبات، نحن اليوم ندعوهم إلى أن يوّجهوا تلك الاسئلة إلى الله ذاته، صاحب العلاقة، إذ لا أحد يستطيع إجابة مثل الله على أمور تتعلّق بإيمانك به. إنّ الله يريد أمامه إنسانًا واقعيًّا، يصرخ أمامه من شِدّة الألم، طالباً منه نعمته المطَّهرة. إذًا لا يجب أن نكون متصّنعين أمامه، بل علينا أن نتغيّر، وعلينا أن نسمح لكلمته ولرحمته بأن تطهرانا. علينا عندما نتوّجع أن نسأل الله عن أسباب ما نمرّ به من صعوبات، فنحن لسنا بحجارة أمام الله ولسنا أيضًا ملائكة. هذه المرأة جاءت إلى يسوع وسكبت كلّ أوجاعها وذاتها أمامه، وعلينا نحن أن نسكبَ كلّ ذواتنا أمام الله، كلّ أوجاعِنا. لذلك علينا أن نقوم بمثل تلك القراءة لذواتنا.

علينا القيام أيضًا بمصالحة مع ذواتنا. ما هي المصالحة؟ عندما نريد أن نصالح متخاصِمَين، غالباً ما يطلبان مساعدة من طرف ثالث. وغالباً ما يأتي المتخاصِمَين إلى الطرف الثالث وهما لا ينظران إلى بعضهما البعض ولا يوّجهان الكلام إلى بعضهما بطريقة مباشرة بل من خلال الطرف الثالث مستخدمَيْن عبارة "قل له". إن الشخص المتخاصم غالباً ما لا يُعير أيّة أهميّة للطرف الآخر المتخاصم معه وكلامه دائماً عنه هو بلغة الغائب: "هو"، إذ أنّه ما زال متخاصمًا مع الطرف الآخر، لكن بعد مرور بعض الوقت يتصالحان مع بعضهما. عندما ألتجئ إلى الرّبّ غالباً ما أتلو عليه المبادئ الإنسانيّة، غير أنّ الله ينتظر منّا أن نخبره عن ذواتنا. عليّ أن آتي إلى الرّبّ وأصليّ له خطيئتي. هناك أشخاص لا يستطيعون التّخلّص من خطيئة معينّة، ننصحهم بأن يضعوها أمام الله، وهذا ما يُسمّى بسكب الذات أمام الله. مع الرّبّ، لا يجب أن نكون أشخاصًا مصطنعين، ومصنوعين على قياس بعض شخصيّات التّي نراها في كُتب القدّيسين، أو على قياس ما نتمنّى أن نكون. هناك فرق بين ما نحن نحبّ أن نكون عليه، وما نحن عليه حقيقةً. بالطبع نحن نسعى للكمال، نسعى إلى الرّحمة، وهذه أمور حسنة لكن السؤال يبقى: أين نحن حقاً من هذا؟ في أوقات المعركة، نرى المتحاربين على الجبهات يُنادون عبر اللاسلكي، طالبين المساعدة، وعندما يسمعهم الطرف الآخر، يطرح عليهم السؤال: حدّدوا لي موقعكم كي أرسل لكم المساعدة. اليوم، الرّبّ يطلب منّا الأمر ذاته: أن نحدّد له موقعنا. إنّه يعلم موقعنا لكنّه يطلب منّا تحديد ما نحتاجه. لذلك عندما أتى إليه أعمى أريحا، طرح يسوع عليه سؤالاً: ماذا تريد منّي أن أصنع لك؟ مع أنّ الرّبّ يعلم حاجة الأعمى لكنّه يريد من الإنسان أن يعلم ما هي حاجته الحقيقيّة. إنّ الرّبّ يطلب منّا اليوم أن نحدّد له موقعنا. عندما أتوّصل إلى تحديد موقعي وسط كلّ ما أعيشه في هذا العالم، عليّ أن أضع أمام الله كلّ دراسة حياتي، كلّ نِعَم حياتي، وكلّ خطايا حياتي.

أختم بالنقطة الأخيرة: "غُفِرَ لها الكثير لأنّها أحبّت كثيراً": إذاً الأمر يتعلّق باختبار الغفران نتيجة الحبّ واختبار الحبّ نتيجة الغفران وترابط الاثنين بعضهما ببعض. هناك اعتقاد أنّه من الممكن أن تكون تلك المرأة الخاطئة هي مريم المجدليّة. وأنتم تعلمون أنّ الاناجيل لم تُحدّد مَن هي هذه المرأة التّي مسحتْ رِجليّ يسوع بشعرها. لكن عند الصّليب نرى ثلاث أشخاص، مريم أمّ يسوع، يوحنّا الحبيب، ومريم المجدليّة، وهؤلاء كلّهم اختبروا حبّ الله لهم. أوّلاً، لم يحبّ أحدٌ يسوع أكثر مما أحبّته أمّه مريم. ثانياً، التّلميذ الذّي أحبّه يسوع: إنّ هذا التّلميذ كان يتباهى أنّه محبوب من قِبَل يسوع، والإنجيليّ لم يُحدِّد لنا أنّه يوحنّا الحبيب، بل يقول لنا الانجيل إنّه عندما قال يسوع لتلاميذه، إنّ واحدًا منه سوف يُسلمه، نظر بطرس إلى يوحنّا، التّلميذ الذّي أحبّه يسوع، وطلب منه أن يسأله عن هويّة هذا الشخص. فمال يوحنّا على صدر يسوع وسأله: مَن يا معلّم؟ ويرى آباء الكنيسة في حركة يوحنّا هذه أنّه سمع دقّات قلب يسوع، لذلك نحن لا نطلب الألم. القدّيسون لم يطلبوا الألم بل طلبوا حبّ الرّبّ. ومَن يُحِبّ يتألم من أجل الحبيب، مَن يحبّ يستطيع الوصول إلى الصّليب. أخيرًا، مريم المجدليّة، لقد اختبرتْ حبّ الله لها من خلال غفرانه لها، هذا الغفران الذّي جدّدها وشفاها، ودفعها للتخلّص من كلّ صعوباتها. لقد اختبرتْ حبّ الله لدرجة أوصلتها إلى الصّليب وتحمّلت الألم. لذلك نحن في المسيحيّة، لا نطلب الألم، ولا نطلب الأوجاع أبدًا، فإنّ ذلك يعاكس إرادتنا البشريّة. نحن نحبّ، ومن يحبّ يضّحي، لذلك "ما من حبّ أعظم من أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه"، وهذا ما يجب أن تكون عليه نظرتنا إلى ذاتنا أمام الله الذّي يشبه الشمس. ففي غرفة مظلمة مليئة بالغبار، لا نستطيع رؤية الغبار فيها. لكن عندما نشعل الضوء فيها، نرى بوضوح الغبار. هكذا هي حالنا، ففي وسط هموم هذا العالم، نحن لا نرى خطايانا، غير أنّ نور الله يُظهرها لنا، ويأتي الاعتراف ليمسحها فلا يعود لوجود هذا الغبار أيّ مكان في حياتنا.

سأقوم بمقدّمة، كما قبل كلّ اعتراف، وإليكم ما يطلبه منّا آباء الكنيسة، في كلّ مرّة تذهب فيها للصّلاة، عليك أن تتذكّر أوّلاً مَن الذّي تتكلّم معه وأين هو. في الصلاة، تدرك أنّك تتكلّم مع الله، وتدرك أنّ الله هو في داخلك. وهنا أريد أن أستذكر اللازمة التّي نسمعها بشكل دائم من قبل المؤمنين: أنا أعترف بيني وبين الله، فيكون الجواب كما يلي: عَمِّد أولادك إذًا بينك وبين الله، قدّس إذًا بينك وبين الله، لِمَ تأتي إلى سرّ الاعتراف؟!. فكما أنّ المسيح أعطى لتلاميذه سرّ الافخارستيّا، في ليلة الآمه، "خذوا كلوا هذا هو جسدي"، كذلك يوم قيامته، منح سرّ الاعتراف إلى تلاميذه قائلاً لهم:" خذوا الرّوح القدس مَن غفرتم له خطاياه، غفرت له، ومَن أمسكتم عليه خطاياه، أمسكت له".

غالبًا ما يسألنا المؤمنون عن كاهن متقدّم في السِّن، لا يسمع، لا يعرفهم ويقطن في مكان بعيد، وذلك من أجل الاعتراف عنده، بحجة رغبتهم في الاعتراف بكلّ شيء. أقول لكم إنّ الكاهن قد سمع بخطايا مشابهة لخطاياك أكثر من ثلاثة آلاف وأربعين مرّة، بل أكثر من ذلك كن متأكدًّا أن الكاهن يقوم بخطاياك نفسها لا بل أكثر منها، فلا داعي للخجل. يقول القدّيس يوحنّا الذهبي الفمّ "إنّ مَن يذهب إلى سرّ الاعتراف فإنّه لا يذهب إلى محكمة بل إلى مستشفىً"، إنّك لا تذهب لكي يُحكَم عليك بل لكي تُعالج من مرضك، لذلك عليك الذهاب للاعتراف دون خجل. ويضيف يوحنّا الذهبي الفمّ فيقول إنّ المريض عندما يذهب إلى الطبيب كي يُعالجه، فهو يكشف له عن كلّ جروحاته وليس بعضها فقط، لأنّه في حال لم يكشف المريض عن كلّ جروحاته، سيبقى يتألم من الجروحات التّي لم يكشفها للطبيب. لذلك إنّ سهرة التّوبة هذه، هي بمثابة فرصة لنا، علينا اغتنامها، فنكشف عن كلّ جروحاتنا، حتّى تلك التّي هي من الطفولة والتّي أنا لست مسؤولاً عنها. في الاعتراف، علينا عدم الدخول في تفاصيل حدوث الخطيئة. عندما جاء داوود النبيّ وقال "ارحمني يا رّبّ، فإنّ خطيئتي هي أمامي في كلّ حين". لذلك عند الاعتراف أمام الكاهن علينا تعديد خطايانا وبوضوح. ونحن غالبًا ما نبرّر ذواتنا لا يهمّ، فالمهمّ أن يكون اعترافنا واضحًا، خطايانا واضحة وظاهرة أمامنا. إنّ الاعتراف يختلف عن الارشاد. فعندما نعترف بشكل مطوّل ومُسهب نسبّب خطيئة للآخرين الذّين ينتظرون دورهم ليعترفوا. فمن الممكن أن يتذّمر البعض من إطالتنا في الاعتراف ويرتكبوا خطيئة بسببنا. وبسبب إطالتنا في الاعتراف، تتكوّن عند الآخر صورة معيّنة عنّا، غالبًا ما تكون خاطئة.

هناك أشخاص يتحججون بأنّ الخطايا التّي يرتكبونها هي نفسها فما حاجة الاعتراف؟! نحن نشبّه في هذا التفكير، شخصًا عاد من العمل ويرفض الاستحمام لأنّه سيعمل في اليوم التّالي وسيتصبّب عرقاً من جديد. فكما هو الأمر بالنسبة للاستحمام كذلك الأمر بالنسبة للاعتراف، فنحن لسنا ملائكة على هذا الأرض. يقول الله في الكتاب المقدّس: "البّار يخطأ في النّهار سبع مرّات"، واُنهي كلامي اليوم وتأملي بكلمة من أحد آباء الكنيسة الذّي يقول إنّ الشرير يكسر فيك الخجل عندما ترتكب خطيئة ما بينما يضعه فيك يوم تريد الاعتراف. لذلك علينا أن نكسر خجلنا هذا، فنذهب إلى الرّبّ الذّي ينتظرنا في سرّ المصالحة، وبالتّالي نتغلّب على الشرير.

ملاحظة: اُلقي هذا التأمّل في الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "اُذكرني في ملكوتك" 2016، في دار سيّدة الجبل – فتقا، ودُوّن بتصرّف من قبلنا.
5/3/2016 الرحمة في الكتاب المقدّس الرّحمة، فهي ليست صفة إنسانيّة.
https://youtu.be/2-XbpnB66DM

الرحمة في الكتاب المقدّس
الأب ابراهيم سعد
الرياضة الروحية السنوية لجماعة" اُذكرني في ملكوتك"
في دار سيّدة الجبل - فتقا

5/3/ 2016

إنّ هذا الموضوع هو صَعب الفهم والإدراك والاستيعاب والعيش، إذ إنّنا نتكلّم عن صفة من صفات الله: الرّحمة، فهي ليست صفة إنسانيّة. نحن نواجه صعوبة في إدراك سرّ الله، سّرّ الرحمة. الرّحمة هي ككرّة الثلج، تكبر كلمّا تقدّمت في مسيرتها. الرّحمة تنمو في مسيرتها مع الإنسان ومع الجماعة. وكلّما كَثُرت خطايانا كلما كبُرَت رحمة الله لنا. ولكن، إذا أردنا أن نتكلّم عن كلمة "رحمة"، علينا في الوقت عينه أن نتكلّم عن كلمة الحقّ والعدل. إنّنا نطلب الرّحمة خوفًا من العدل، خوفًا من الحقّ الذّي شوَّهْتُه أنا كإنسان. ولكن إذا كان هناك من غضب إلهيّ، فالرّحمة هي الدّواء لانتهاء الغضب. إذا كان هناك من غضب لله، وفي حال وجوده، فالسبب هو أنتَ أي الإنسان، والرّحمة سببها هو أي الله وليس أنت. الرّحمة تحلّ محلّ الغضب. فإنّ الغضب وقتيّ بسبب سلوك الإنسان، أمّا الرّحمة فأبديّة وليس لها علاقة بالإنسان إنّما بطبيعة الله. ولا يمكننا الكلام عن الرّحمة دون أن نتكلّم عن العدل وعن علاقة الإنسان مع الله. إنّ الانسان هو في حالة تمرّد على الله. وكلمة "تَمَرَدَ" باللغة العبرية "بيشاع"، وتعني العصيان أو الثورة لإنهاء الحكم. الخطيئة هي: "الشعب يريد تغيير النّظام". وكلمة péché باللغة الفرنسيّة هي تأتي من الجذر العبريّ "بيشاع"، إذًا الخطيئة هي تمّرد على الله. والنتيجة الطبيعيّة لأيّ تمرّد للشعب على حاكمه، مَلِكه، سيّده هي الغضب، الانتقام، القصاص. والنتيجة غير الطبيعيّة للتمرّد هي الرّحمة والغفران. لكن إذا تكلّمنا عن الرّحمة والغفران، فهذا يحصل بعد تمرّد ما، إذ إنّه من دون وجود تمرّد، لا حديث عن الرّحمة. بين الرّحمة والتمرّد، تنشأ التّوبة، الاستغاثة لطلب الرّحمة. والرّحمة الإلهيّة شاملة وكاملة دائمًا لأنّها أبديّة. الخطيئة والتمرّد تُنشِآن غضباً مرحليّاً. أمّا الرّحمة فهي أبديّة، قبل أن يُخلَق الكون وقبل أن يُخلَق الإنسان، ولكنّها كُشِفت لنا بسبب معصيّة الإنسان. إذا ًالخطيئة فيها أمرٌ إيجابي، إذ إنّها تكشِفُ رحمةَ اللهِ لنا. إذاً خطيئتك هي فرصتك لتكتشِفَ رحمةَ الله. لكن هذا لا يعني أبدًا أن تتشَّجع على ارتكاب الخطيئة لتكتشف رحمة الله لك، إذ عليك أن ترى خطيئتك، وتتنبَّهَ لها. إنّ الخطيئة، إذا تكاثرت وتحكَّمت في النّفس، تُنشِئ حالة من اللامبالاة. وحالة اللامبالاة هذه هي عامّة إذ تصبح لا مبالٍ لذاتك وللآخرين، وتدخل في حالة من الاضطراب العقليّ وليس فقط النفسيّ، فتصبح غير قادر على النّوم، وتفقد هدوءك كما إنّك تفقد تركيزك. وهذه تشكِّل فرصةً لك لتكتشِف رحمةَ الله. وأستشهد ببعض الآيات من الكتاب المقدّس، العهد القديم، أيّ من الكتاب الذّي لا يرى فيه غالبية المسيحيّين سوى كتاب القتل والتّدمير والغضب فقط، وهم يرفضونه، إذ إنّهم يفَضِّلون الإبقاء على العهد الجديد فقط حيث الانجيل يبرز وجه الرّحمة والحياة والحبّ. هناك مفهوم خاطئ ولكنّه شائع جدّاً بأنّ العهد القديم هو تاريخ الشعب اليهوديّ، وهذا أمر غير صحيح، فالصحيح المكتوم أنّ العهد القديم هو كتاب كلمة الله ومعاناة الله مع مَن تَسمّى أنّه شعبه. ويقول الكتاب المقدّس في سفر هوشع النبيّ إنّ الشعب كان متمرّداً وخاطئًا وعاصيًا لكلمة الله، وكلمة الله ليست محفوظة من قبلِه. والمقصود هنا بحفظ كلمة الله ليس حفظ كلمة الله غيباً إنّما صَونُها من الفساد.

في سِفر هوشع، في الإصحاح الأوّل منه، يقول الرّبّ للنبيّ، أن يُسمي ابنته: "لو روحاما"، أي لا رحمة. كلّ حيثيّات سِفر هوشع هي حيثيّات حُكم، لكي يصدر الحكم. وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر هوشع نقرأ: "قد انقلب عليّ قلبي واشتعلت واضطرمت مراحمي كلُّها". إنّ الله يقول إنّ قلبه وعقله قد قاما بانقلاب عليه، واشتعلت مراحمه كلّها عندما أراد الحكم على الخطيئة وذلك لأنّه الله وليس إنسانًا. إنّ الرّحمة من طبيعة الله. والله قال في سفر هوشع إنّه يريد رحمة لا ذبيحة. إنّ الله لا يتغيّر جرّاء تصرّف الانسان لأنّه الله. أمّا الإنسان فيغيّر في مبادئه وقيمه وسلوكه أمام تصرّف مؤذٍ صدر عن إنسان آخر، أمام أذيّة ما قد تعرّض إليها، وتستطيع تلك الأذيّة أن تحوّله إلى وحش. إليكم مثلاً آخر من الكتاب المقدّس، العهد القديم، ميخا النبيّ: "من هو إلهٌ مثلك، غافر الإثم، صافح عن الذنب، لبقيّة ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه فإنّه يُسَّرُ بالرأفة، فيعود ويرحمنا، يدوس آثامنا، وتُطرح في أعماق البحر جميع خطايانا". لا أحد مثل الله، بشريّاً، هذا الكلام لا يُفسَّر. وإذا أردنا تفسيره: قلنا إنّه هو الله، وعادةً يكون جوابنا هذا للتهرّب من المسؤوليّة كإنسان. ولكن، هل هناك أجمل من هذا الجواب: "إنّه الله". ومن كلام فمِكَ يا إنسان أُدينُك، هذا ما يريد الله سماعه منك: اعترافك به أنّه هو الله وأنّه "لا إله إلاّ الله"، لا إله سوى الله، وإنّك إنسان، ولست الله. ويقول نبيّ آخر هو دانيال: "للرّبّ إلهنا، كلّ المراحم، وكلّ المغفرة، لذلك يُفيضهما على المتمرّدين، وليس لنا حقّ بالمغفرة والرّحمة لأنّنا متمرّدون". ونقرأ في سفر ارميا: "من أجل ذلك، بعد أن رأيت خطاياكم، حنّت أحشائي ورحمة أرحم الإنسان"، الذّي يسبّب لهيب في قلب الله هو رغبته في أن يعرفه الإنسان. إنّ الإنسان لم يعرف الله معرفةً حقيقيّة، في الخلق، في القدرة، في الطوفان، في برج بابل. على الإنسان أن يعرف الله على حقيقته، وليس وفق تخيّلاته البشريّة. لذلك يقول الرّبّ: "سيعرفونني، من صغيرهم إلى كبيرهم، لأنّني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيئتهم من بعد". إنّ إلهنا يُعرّف عن ذاته بإلغاء ذاته، هذا هو إلهنا. فإن لم نصدّق الله في العهد القديم،
فلنقرأ العهد الجديد ونرى كيف يعبّر الله عن ذاته في العهد الجديد: "بهذا يعرفونك أنّك أنت هو الإله الحقيقيّ وحدك، ويسوع المسيح، ابنك الذّي أرسلته". كيف نعرف الله؟ نعرفه بإلغاء ذاته لأجلنا نحن البشر. وإن أكملنا قراءة الإصحاح الواحد والثلاثين من سفر ارميا، نقرأ أنّ الربّ قال: "سأقطع معهم عهداً جديداً ليس كالعهد الذّي قطعته مع آبائهم، عهداً في القلب وليس على ألواح حجرية". لقد تمّ الانتهاء من الشريعة، ألغى الله الشريعة أمام الرّحمة، وإذ بإشعياء النبيّ يضيف فيقول "هل تنسى المرأة رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟" هذا السؤال جوابه معلوم لدى الجميع. لكن إشعياء يتابع فيقول: "...حتّى هؤلاء ينسيْن، أمّا أنا فلا أنساك، هوَذا على كفيّ نقشتُك" (49: 15)، أي إنّ الله عندما يفتح يديه، يراك منقوشاً في راحةِ يديه وهذا يعني أن لا مسافة بينك وبين الله؛ فإذا كان الإنسان واقعًا في العشق والحبّ مع الآخر تُلغى المسافة بينهما. ويُضيف إشعياء في الإصحاح 54 إذ يحاول الله إفهام البشر ماذا فعلت به خطيئة شعبه فيقول:"لُحَيظَةٌ تركْتُكَ، وبمراحم عظيمة سأجمعك، وبفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة". يقول الرّبّ للإنسان إنّه لم يعاقبه بل تركه لُحَيظةً. ونرى الإنسان يعترض فيقول لله إنّ ذلك ليس من حقّ الله، لكن هل هذا أمر مقبول؟ فالإنسان قام بخطايا ومساوئ كثيرة تجاه الله، ألا يحقّ لله أن يترك الإنسان لُحَيظَة واحدة؟! أين العدل وأين الحقّ؟ ألا يحقّ لله أن يُمارس العدل لُحيظة؟!! ويقول الرّبّ أيضاً: "وبإحسانٍ أَبَديّ أرحمك". إنّ غضب الله هو للحظات قصيرة أمّا رحمته فهي أبديّة. يُضيف الرّبّ في السِفر نفسه فيقول: "الجبال تزول أمّا إحساناتي فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع"، أمّا إشعياء فيضيف قائلاً "قال راحِمُكَ الرّبّ". أما أنتَ، فعندما تنتبه لخطيئتك وأنّك انفصلتَ عن الله، وتُدرك ما حدث لك إثر ابتعادك عنه لُحَيظَة، تصرخ إليه قائلاً: "ارحمني يا رّبّ، لأنّي ضعيف، اشفيني، وخلّصني من أجل رحمتك وليس من أجل توبتي." وفي هذه الصلاة نتوّسل إلى الله ونطلب منه أن يرحمنا لأنّه في حال لم يرحمنا يكون قد تخلّى عن هوّيته. إذًا من يريد طلب الرّحمة من الله، عليه أن يُدرك ما هي نتيجة خطيئته على الله، عندئذٍ يحقّ له أن يُعاتب الله ويلومه. وفي المزمور يقول كاتب المزامير: "أُذكُرْ مراحمك يا رّبّ، لأنّها منذ الأزل هي، لا تذكر خطايا صِباي، أُذكُرني كرحمتك، كلّ سُبُل الرّبّ رحمة وحقّ"، ومزمور 107 يقول: "لأنّ إلى الأبد رحمته".

بعد هذه النظرة العامّة والسريعة حول نصوص في الكتاب المقدّس حول الرّحمة، سننتقل إلى بعض الامور في العهد الجديد. في العهد القديم، الحديث كان عن الرّحمة والإله الرّحيم، أمّا في العهد الجديد فانتقل الحديث إلى التبَّني. في العهد القديم، كان الحديث عن الرّحمة فكشف الله أنّ الرّحمة هي ككرة الثلج في ازدياد ونموّ مستمرّ، لتصل إلى التبنيّ في العهد الجديد مع يسوع المسيح. إنّ جَذِر كلمة "رحمة" هو "رَحِم". الرَّحِم نجده عند المرأة فقط وفيه ينمو الجنين. إذاً، عندما تقول للرّبّ أن يرحمك تكون في الوقت ذاته تطلب منه أن يُرجعك إلى رَحِمِه، فإنّ العيش خارج رَحم الله، سيؤدي حتمًا إلى الموت، تمامًا كما يحصل مع الجنين خارج رَحم أمّه. الرّحمة هي العودة إلى الرَحم. كلّ دعوة الله في العهد القديم، كانت من أجل أن يعود الإنسان إلى رَحم الله، لأنّ الانسان دون الله ورَحمِه لا حياة له، فحياة الانسان هي في داخل أحشاء الله. في العهد الجديد أَوضَحَ الله قصده بالرّحمة، وهو أن نعود إليه كأولاد فَيَلِدنا من جديد، وهذه هي الولادة الجديدة. لذلك بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما في الإصحاح الثامن، عندما تكلّم عن التبّني قَصَدَ بذلك المعموديّة أي الولادة الجديدة. أن تصير جنيناً في ولادة جديدة هذا يعني أن تصير ابن الله. وإن كنت لا تعرف ماذا يعني أن تكون ابن الله، فانظر إلى النموذج الذّي لديك أي يسوع المسيح، ابن الله. عليك إذاً أن تكون مثله. أن تكون مثله ليس أن تفعل مثله، أن تصير مثله أيّ أن تأخذ حِصَتَّهُ. أمّا نحن فنفهم الأمور دائماً انطلاقا من ذهنيّة عبد وسيّد. كلّ مَن يتبناه الله، ويعلن أنّه ابن الله، هذا يعني أن له الميراث نفسه كيسوع. هل تُصَدِّقون ذلك؟ فإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نفرح، وإن لم يكن، فكلام الفيلسوف الألماني "نيتشه" يَصُحّ فينا، هو الذّي قال إنّ المسيحيّين لا يفرحون لأنّ إلهَهُم مات ولم يقم. قال ذلك لأنّه لم يرى على وجوه المسيحيّين أنّ إلههم قام حقّاً. فكم من المسيحيّين الذّي إن صاموا عبّسوا وجوهم وأصبحوا غير قادرين على الحوار مع الآخرين بسبب الصيّام، وإذا ذهبوا للقدّاس، لا ينفّكون عن التلّفت شمالاً ويساراً لينتقدوا كلّ الذّين لم يشاركوا في القدّاس كما هم فاعلون. "والله في الوقت نفسه، يرحمكم من كثرة خطاياكم لأجل رحمته هو، وقداسته هو، وليس لفضلٍ منكم". إذاً، العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد ربطها يسوع المسيح إذ أنّ الله دعا المؤمنين ليقبلوا رحمته من خلال كلمته، وبتجسّد المسيح، أصبح قبول الرّحمة يعني قبول أبوّة الله. ومتى قبلناها، فرحنا بها. وإن لم نقبل أبوّته، نبقى أبناء الله لكنّنا لا نكون فرحين بذلك. إذاً نبقى أبناء لله، أقبلنا ذلك أم لا، لكن ما يختلف هو التّالي هو فرحنا بهذه البنوّة أم لا. إن كنت ابن الله، فهذا لا يعني أن الله يَفرِض عليك أمور معينة فهو خلقك حُرًّا، فالله لا يفرض أيّ أمر على عبده، فكيف يكون الحال مع ابنه؟ وإليكم مثل بسيط من العهد الجديد: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم". إذا قرأنا هذه الآية على الطريقة اللبنانيّة، لفهمناها كما يلي: إنّ هناك دعوة من الله لنا لنكون رحماء لكن لا أحد يستطيع أن يكون مثل الله، وأنّ تلك الآية هي مجرّد أمنيّة من الله لنا. غير أنّنا إذا قرأناها بشكل صحيح: "كما أنّ أباكم رحيم"، فنفهم أنّ الله يدعونا لكي نكون رحماء مع بعضنا البعض كما يُعاملنا هو بالرّحمة، فاللّه قد رَحِمَ الجميع.

وهنا ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي أنّه بعد أن يفيض الله عليك رحمته، يطلب منك أن ترحم أخاك. الله لا يطلب منك أمراً آخر سوى أن ترحم أخاك أي أن تُرجع أخاك إلى أحشائك، وتتخطّى الحواجز التّي تفصلك عنه فيما يخصّ موضوع الرّحمة. إذ أنّ هذا الأمر لا يعني أبدًا أن تقع كما وقع أخاك في الحفرة نفسها. وإليكم مثلًا آخر من العهد الجديد، إنّه مَثَل يعطي صورة عن الملكوت: في هذا النّصّ الذّي يتكلّم فيه يسوع عن الخراف والجداء، فيقول للجداء إنّه كان عطشاناً، ومريضاً ...ولم يفعلوا له أيّ شيء، ولم يهتمّوا به، "فكلّ ما لم تفعلوه إلى إخوتي هؤلاء الصّغار فلي لم تفعلوه". قام يسوع بفعل تّماهي بينه وبين هؤلاء الصّغار الذّي لا ينتبه لهم إلاّ القليل من النّاس. فيسوع هنا قد جعل من ذاته صغيراً كهؤلاء. لقد شابه الدّيان والجالس على العرش نفسه بهؤلاء الصّغار. وسوف أقرأ على مسامعكم قسماً من رسالة مار بولس إلى أهل روميّة، والتّي تشكِّل إحدى أصعب الرسائل من حيث صياغتها، ففي الفصل 32 نقرأ:" فإنّه كما كنتم أنتم مرّةً لا تطيعون الله، ولكن الآن رُحمتم بعصيان هؤلاء. هكذا هؤلاء أيضاً الآن، لم يطيعوا لكي يُرحموا أيضاً برحمتكم، لأنّ الله أغلق على الجميع معاً في العصيان لكي يرحم الجميع". يريد بولس أن يُذّكر أهل رومة أنّهم كانوا غير مُطيعين لله فيما مضى وأنّ الله قد أغلق على الجميع، ليس ليُعاقب ويُقاضي بل ليرحم الجميع. بعد أن أعطاهم بولس البراهين في رسالته إليهم أنّهم قد أصبحوا في الخارج مع باقي الأمم بعصيانهم، إذ إنّ اليهود كانوا يظنّون أنفسهم أنّهم من الدّرجة الأولى بين الشعوب، وأنّ بقيّة الشعوب هم من الدّرجة الأخيرة. إنّ الله قد أظهر لهم أنّهم مع باقي الشعوب من الدّرجة نفسهم إذ أنّ الجميع قد عصوا الله، لذلك قرّر أن يرحم الجميع. إنّ ذلك هُوَ جنون من قِبَل الله، إنّه جنون الحُبّ. وفي الرسالة إلى أهل كورنتس الثانية، الإصحاح الأوّل الآية الثالثة، يقول بولس: "مباركٌ الله، أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو الرأفة، وإله كلّ تعزيّة، الذّي يُعزينا في كلّ ضيقتنا، حتّى نستطيعَ أن نُعزِّيَ الذّين هم في كلّ ضيقة بالتعزية نفسها التّي نتعزّى نحن بها من الله". نحن نتكلّم عن التعزيّة وقت الضيق، إذ إنّنا لا نقدّم التعزيّة في وقت الفرح. لذلك علاقتنا مع الله ليست ثنائية إنّما ثلاثيّة، فهو يُعزّيك لتُعزّي الآخرين، يرحمك لِتَرحم الآخرين. إنّ الله لا يريد شيئاً منك لكنّه وَضَع ذاته مكان أولئك الذّين هم بحاجة إليك، بحاجة لبسمتك، ولِيَدِك الممدودة لهم، وبحاجة لقلبك المفتوح، كي تعطيهم ما يحتاجونه وبالتّالي ليس من الصدفة تأسيس الكنيسة. إنّ الله يمتحن الانسان في مدى فهمه لمحبة الله له عبر ترجمته لها مع الآخرين، فيرحمهم. وهنا يحضر إلى ذهننا مثل العبد المديون الذّي أعفاه سيّده من كلّ دينه، والذّي لم يرحم أخاه. تَصَرُف هذا العبد المديون مع رفيقه العبد إن دلّ على شيء، فهو يدّل على عدم فهمه لرحمة السيّد له بشكل صحيح، تَصَرُف العبد إنّما هو عصيان وتمرّد. يقول القدّيس يعقوب في رسالته، في الإصحاح الخامس في الآية الحادية عشر: "ها نحن نطوِّب الصابرين. قد سمعتم بصبر أيوب، ورأيتم عاقبة الرّبّ، لأنّ الرّبَّ كثيرُ الرّحمة ورؤوف". إنّ القدّيس يعقوب يقوم بالإعلان عن رحمة الله.

بعدما استعرضنا مقاطع كتابيّة من العهدين: القديم والجديد، يبقى لنا أن نستعرض العهد الثالث والأخير، ألا وهو عهدك أنتَ أيّها المؤمن. إنّ الكتاب المقدّس يقسم إلى ثلاثة أقسام: العهد القديم، والعهد الجديد، وأنت، إنّك الإنجيل المتّحرك. إنّ العهد القديم قد أظهر رحمة الله والعهد الجديد أظهر أبوّة الله. أمّا نحن فعلينا أن نُظهر الله، علينا أن نظهر مرمى ومغزى وهدف الخليقة بأسرها إذ خلقنا الله على صورته ومثاله. إنّ الله وضع مصيره بين أيدينا، لذا علينا أن نظهر صورة الله الحقيقيّة بعدما أشعلتنا رحمة الله وأشعلنا حبّه لنا. إنّ الحبّ يُولِد، لذلك ولدنا الله بالمسيح. فالآن جاء دورنا لنُشعل الآخرين بجمرة رحمتنا وحبّنا بعد أن أشعلتنا جمرة رحمة الله لنا وكذلك حبّه، حتى إذا رآنا النّاس وسمعونا، وانتبهوا إلى كيفيّة سلوكنا وأفعالنا وأعمالنا، يقولون كما قال قائد المئة على الصّليب: "حقّاً كان هذا ابن الله". إن قال هذا الإنسان الغير يهوديّ، الوثني، هذا الكلام عن يسوع، فهذا يعني إنّه في لحظة اللاّ أمل، وفي لحظة اللاّ حياة، اللاّ تعزية واللاّ رجاء، استطاع شخص خارج الكلمة الإلهيّة أن يقول عن يسوع إنّه كان حقّاً ابن الله. فهل نستطيع ذلك؟ على كلٍّ منّا أن يجد الجواب على ذلك. آمين.

ملاحظة: اُلقيت المحاضرة في الرياضة الروحيّة السنويّة 2016 في دار سيّدة الجبل – فتقا، ودُوّنت من قبلنا بتصرّف. تتمة...
14/3/2015 "لكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم" يو 33:16 مَن يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحوَ اسمه من سفر الحياة
https://youtu.be/B7G39WZfe_w

"لكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم" يو 33:16
مع الأب ابراهيم سعد
الرياضة الروحية السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البير - بقنايا

14/3/2015

عنوان موضوع اليوم هو الجملة الأخيرة من الإصحاح السّادس عشر من إنجيل يوحنّا، بعد خِطابٍ وداعيّ يبدأ من الإصحاح الثّالث عشر: "قال الرّبّ يسوع: ثِقوا قد غَلَبْتُ العالم". هي الآية الأخيرة الّتي قالها وهو يُودّع تلاميذه قبل الذّهاب إلى الموت، كما أنّه صلّى الصّلاة الكهنوتيّة الّتي يُصلّيها كاهنٌ يُقدّم الذّبيحة.
كيف يُمكن للربّ يسوع أن يقول لِتلاميذه أن يثقوا بأنّه قد غَلَبَ العالم وهو ذاهِبٌ ليُرينا مشهد الضّعف والهَوان؟ يُخبِرون كيف أخذوه وجَلَدوه وصلبوه وقتلوه عُرياناً، إذاً صورة الضّعف موجودة في الربّ يسوع. فعندما يقول "قد غَلَبْتُ"، وهو فعل حدث في الماضي، من البديهيّ أن نرى تلك الغلبة إلّا أنّنا لم نرَ يسوع غالِباً بل مغلوباً.
فكرة الغَلَبَة تعني أنّه كان هناك معركة أو حرب وبالتّالي يجب أن يكون هناك عدوّ، ولكن لا وجود هنا، لهذه الأسُس الثلاث. لا عدوّ ولا معركة، فكيف حصلت الغلبة؟
سأذكر سبع جملٍ من سفر الرّؤيا. كاتِب سفر الرّؤيا هو نفسه، بِحسب التّقليد الكَنسيّ، كاتِب إنجيل يوحنّا.

الجملة الأولى هي الآية السّابعة من الإصحاح الثّاني: "مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، مَن يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة الّتي في وسط فردوس الله" (شجرة الحياة هي الشّجرة الّتي مُنِعَ آدم من أن يأكل منها).

الجملة الثّانية هي: "مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، مَن يغلب فلا يؤذيه الموت الثّاني".
الجملة الثّالثة: "مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، فسأعطيه أن يأكل من المنّ المخفيّ (تذكّروا عندما أكل الشّعب اليهوديّ، في الصّحراء، المنّ الّذي لا يصلح أكله في اليوم التّالي لإمكانية موت آكِلِهِ) وأعطيه حَصاةً بيضاء (أيّ حجراً)، وعلى الحَصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الّذي يأخذه".
الجملة الرّابعة: "مَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النّهاية سأعطيه سلطاناً على الأمم فيرعاها بقضيب من حديد، مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس".
الجملة الخامسة: "مَن يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحوَ اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته، مَن له أذن فَلْيَسمع ما يقوله الرّوح للكنائس".
الجملة السّادسة: "مَن يغلب سأجعله عموداً في هيكل إلهي (الهيكل مبنيٌّ على أعمدة إذاً هيكل إلهي سيُبنى عليك) ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتبُ عليه اسم إلهي، واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة النّازلة من السّماء من عند إلهي، واسمي الجديد. مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس"

الجملة السّابعة: "مَن يغلب سأعطيه أن يجلس معي في عرشي (أيّ العرش الّذي يجلس عليه الآب) كما غلبْتُ أنا أيضاً وجلستُ مع أبي في عرشه".
سبع جمل تتضمّن "مَن يغلب" والرّقم 7 هو رمز الكَمال. إذاً في النّهاية، الغلبة تعني "كما غلبتُ أنا". ويبقى السّؤال "كيف غلبَ؟" هنا نعود إلى عنوان موضوعنا "ثقوا قد غلبتُ العالم".
ثلاثة أنواع للغلبة: الأوّل هو عندما تنتصر في المعركة، وليس من الضّروريّ أن تكون قد كسرتَ عدوّك. أمّا الثّاني فهو أنّك تربح عندما لا يكسرك عدوّك. والنّوع الثّالث من أنواع الغلبة هو عندما تبقى صامِداً ولا تسمح لعدوّك بأن يجعلك تحت رعايته وحكمه، فبهذا تكون قد غلبته. وتُضاعف غلبتك إذا استطعتَ أن تجعله تحت حكمك.
النأي بالنّفس، في الإنجيل، أمرٌ سلبيٌّ، لا تستطيع أن تقف على الحِياد في الإنجيل فهو موقف سلبيّ لأنّك أنتَ لستَ معه. لذلك عليك أن تكون إمّا مع الله وإمّا مع الشّيطان.
والسّؤال الأساسيّ "كيف غَلَبَ يسوع؟" أوّلاً، تجربة يسوع في البريّة حيث لم يستطع الشّيطان أن يجعله تحت حكمه فغلبه، بمعنى آخر، رفض يسوع أن يقبل بأيّ شيءٍ يُعطيه إيّاه الشّيْطان حتّى ممالك العالم. لقد رفض أن يأخذ أيّ سلطان يأتيه من غير الله لأنّه، بالنّسبة إليه، شيْطانيّ. كلّ مساومة على حساب العلاقة بينه وبين أبيه هي شيْطانيّة. لذلك في تجربة يسوع في البريّة، كانت أجوبته، لثلاث مرّات، من الكتاب المقدّس من سفر تثنية الاشتراع أيّ من فم الله. عندما قال له الشّيطان: "حَوّل الحجارة إلى خبز إذا كنتَ أنتَ ابن الله" أيّ أنتَ غالِب وقادر على تحويل الحجارة إلى خبز فتأكل، لأنّه كان جائعاً. أجابه يسوع من سفر تثنية الاشتراع: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله". أيّ أنا قادِر وأستطيع أن أُظهِر قدرتي ولا أفعل. "وجاع أخيراً بعد أربعين يوماً" هو لم يصم بل جاع. والفرق بينهما أنّه خلال الصّوم، الإنسان يتوقّف عن الطّعام إراديّاً، أمّا يسوع، في الإنجيل، فلم يتوقّف عن الطّعام بل كان في البريّة حيث هو مجبرٌ على ألّا يأكل. إذاً لا أحد يصوم كما صام يسوع. لقد اقتيد بالرّوح إلى البريّة بِحسب إنجيل مرقس أيّ رُغماً عنه. ذهب إلى البريّة ولمّا جاع أيّ واجَهَ الموت حَضَرَ الشّيْطان في لحظة مواجهة يسوع للموت بسبب عدم الأكل. عندها طلب إليه أن يُحوّل الحجارة إلى خبز، فرفض، ولكن، لو كان ذلك الصّوت من عند الله لَكان فعل ذلك. هذا يُذكّركم بآدم الأوّل وحوّاء الّلذيْن سمعا اقتراح الأفعى وهي حيوانٌ لا يسمع، ولاحظتم، في سفر الرّؤيا، جملة "مَن له أذنان فَلْيسمع". أن تكون الأفعى لا تسمع يعني أّنّ كلّ مَن لا يسمع كلمة الله لا إمكانيّة له لأن يتوب. لذلك عندما أمسك أحد تلاميذ يسوع سيفاً وقطع أذن أحدهم، أوقفه يسوع وأعاد أذن الآخر إلى مكانها قائلاً إنّ تلميذه يمنعه من سماع كلمة الله لكي يتوب في حين أنّه يُبشّر مع المسيح، إذاً بفعلته هذه ناقض نفسه. وهذا كان وثنيّاً يُريد القبض على يسوع فأعاد إليه أذنه كي يسمع.إذاً كان يسوع قادِراً، في ذلك الوقت، على أن يجلب اثنتيْ عشرة مجموعة من الملائكة لكي تمنعهم من أخذه ليصلبوه، ولكن لأنّه سمع كلام أبيه لم يقاوم.

ولغاية الآن، لم نرَ أين هي الغلبة. أين ظهرت غلبة يسوع؟ بحسب التّقليد الإنجيليّ، يسوع غلب على الصّليب وليس في القيامة، فهي نتيجة طبيعيّة للغلبة الّتي تمّت على الصّليب الّذي هو، بدوره، نتيجة طبيعيّة للحبّ. إذاً هو واضح أنّ أيّ حبّ نتيجته هي الصّليب. نتيجة الحبّ هي الّذي يُحِبّ وليس الّذي يُحَبّ.مّن يُحبّ يسند رأسه إلى صليب ومّن يُحَبّ يأخذ كلّ ما ينتج عن هذا الحبّ فيفرح. نحن نقول "افرحوا وتهلّلوا المسيح قام".

لا كلام لنا على الصّليب من حيث الألم بحدّ ذاته، فالله لا يُقدّس الألم بل المُتألّم، كما أنّه لا يُحبّ الفقر بل الفقير، ولا يُحبّ الموت بل المائت. انتبهوا كي لا يصبح ديننا دين يأس وفلسفة يونانيّة هدفها العذاب والوجع. ولكن، مَن يُحبّ يُعطي، وكلّما كَبُر حبّك كَبُر عطاؤك فتعبّر عن حبّك الكبير بعطاء أكبر. وعندما يصل حبّك إلى المطلق سيكون عطاؤك إلى المطلق، والعطاء المطلق هو حياتك. لذلك النتيجة الطّبيعية للحبّ هي أن تصبح حياتك ملك الآخر، كما تقول الأم تيريزا: "العطاء الموجع"، لأنّ المسيح أحَبَّ حتّى المُنتهى وكان لا بدّ من أن تكون نتيجة حبّه الطّبيعيّة هي الموت الّذي أتى إلى يسوع عن الطّريق المحبوب، وهذا هو ما يؤلم. لذلك في الصّليب صورة الوجع لأنّه بدأ بالحبّ. قال يسوع: "مَن أراد أن يتبعني فَلْيحمل صليبه" والصّليب ليس الألم بل الحبّ الّذي اتّخذته نهجاً بسبب اتّباعك للمسيح، لأنّ الله محبّة.

هناك نتيجة أخرى للحبّ وهي العبوديّة، فكلّ حبّ حقيقيّ فيه عبوديّة إراديّة، طوعيّة مثل حبّ الأمّ لابنها أو حبّ الحبيب لحبيبته. إذاً الحبّ يأخذ منحى العبوديّة أيّ الضّعف. هنا، تذكّروا الله الّذي، منذ الأزل، خالِق الدّنيا، جالِس على العرش السّماويّ، بسبب حبّه ينزل على الأرض ليصير إنساناً ضعيفاً مثلي، يُشاركني اللّحم والعظم، لكن من دون الخطيئة.لم يرتكب يسوع الخطيئة لأنّه ليس بحاجة إلى شيء أمّا نحن فنرتكب الخطيئة لأنّ لدينا وَهْم الحاجة، نحتاج فنسعى إلى تحقيق هذه الحاجة والوسائل لذلك هي المشكلة. يسوع ليس بحاجة إلى شيء إلّا كلمة الله الّتي تخرج من فمه إلى أذنَيْه فيكتفي يسوع الإنسان بذلك. إذاً في الحبّ ضعفٌ ولكنّ الضّعف الإراديّ هو أعظم صورة عن القوّة. وهكذا صنع يسوع.

هذا الربّ "يسوع" الّذي تعبدونه وتتغنّوْن به وتحتفلون بكلّ أعياده، هذا الّذي ارتضى، بسبب حبّه، أن يكون ضعيفاً حتى أنّه قَبِلَ بِلَطْمَة من أحدٍ، لا قيمة له، فقط لأنّه يُحبّه. هذا الحبّ أوْصَلَ الربّ يسوع إلى أن يقبل بأن يرفضه الّذين يُحبّهم، ومّن رفضه لم يكتفِ بالعداوة بل قرّر أن يُلغيَهُ لأنّه حين رآه فُضح رفضه له. لقد ألغاه بذكاء فصلبه، لأنّ الربّ يسوع جعل نفسه عبداً له لأنّه يُحبّه، كما يُصلب العبيد. وعلى الصّليب تحوّل هذا المصلوب إلى عريس لِعروس خائنة هي البشريّة الّتي رفضت حبّه إلاّ أنّه تزوّجها. ظهر الدّم من جنبه إضافةً إلى المياه وهذا يعني أنّه عندما يتمّ الزّواج يجب أن يُثمر حياةً. حصل الزّواج بين المسيح وكنيسته على الصّليب، هنا الغلبة وهنا الانتصار لأنّه كان من المفترض أن ينتهي ذكراه بعد قتله. فإذا به يصنع خليقةً جديدةً في المكان نفسه حيث الموت، على الصّليب. ولأنّ هناك حياة، كان لا بدّ للمسيح من أن يظهر قائماً من بين الأموات؛ وقام المسيح من بين الأموات. عندما ذهبْنَ إلى قبره قال لَهُنَّ الّذي أخبرهم أنّ المسيح قام: "أنتنّ تطلبْنَ يسوع النّاصريّ المصلوب؟ قد قام ليس هو ههنا" أي أنتنّ تشعرنَ بالحنين إلى الوضع البشريّ في الوقت الّذي أصبح فيه يسوع على العرش السّماويّ.

إذاً الجمل السّبعة من سفر الرّؤيا الّتي تتضمّن "مَن يغلب كما غلبتُ أنا" تعني أنّه مَن يُحبّ كما أنا أُحبّ يصل إلى العرش أي يصبح وريث الله. يسوع هو وريث الله الوحيد وأنتَ تُصبح مثله إذا غلبتَ أي إذا لم تسمح للشّيْطان والعالم أن يجعلوك تحت حكمهم، كما فعل القدّيسون من قبلنا. وإذا لم تتعلّم لغة العالم وبقيت كلمة الله في أذنك وبالتّالي في نطقك، أنتَ غلبتَ.

إذا كان ما تُعانيه من الحبّ ينتج عنه حياةً للآخر وإن سرى الموت فيك، تكون أنتَ قد غلبتَ. هكذا حصل مع يسوع ومع الرّسل. وكما يقول بولس الرّسول: "الموت يسري فينا والحياة فيكم". ولكن بعد أن تقبل بهذا الحبّ وتفرح به ستُصبح مُحِبّاً تلقائيّاً عندما تنتبه إلى حبّ الله لك، وعندما تصبح مُحِبّاً تكون مُتّجِهاً إلى الصّليب ولكن بعد الصّليب هناك القيامة. الصّليب هو الّذي يوصِلك إلى القيامة ولا ينتج عنه الوجع بل الحبّ.

أنتم تقتربون من عيد الفصح، من الأسبوع العظيم الّذي يكشف الله فيه عن كلّ ما هو مُخبّأ. كان يُخفي فقط أنّه هو الكائن المُحبّ، هو المحبّة الكاملة، هو الأب، وقد كشف ذلك على الصّليب.
إذا ضرب إنسانٌ قويٌّ آخرَ ضعيفاً وبقي بجبروته لا قيمة لقول الضّعيف إنّه سامحه بينما إذا الضّعيف سبّب الأذى للقويّ وهذا الأخير يستطيع أن يُدافع عن نفسه لكنّه لم يفعل بل سامحه، فالقويّ هو الّذي يغفر. وبالتّالي إذا غفر القويّ سيكون غفرانه قويّاً.
قال يسوع، وهو على الصّليب: "اغفر لهم" بسبب قوّة حبّه لِمَن قتله، فكان على الله ألّا يقبل بما فعلوه بوحيده إلّا أنّ الربّ يسوع أضاف: "لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون". يقول بولس الرّسول في كورنثوس 15: "أين شوكتك يا موت؟ أين غَلَبَتُكَ يا جحيم؟ قام المسيح".


ملاحظة : دُوّنَ المضمون من قبلنا بتصرّف
الرياضة الروحيّّة السنوية في دير سيّدة البير- بقنايا، السبت 14 آذار 2015
14/3/2015 تأمّل في إنجيل "السامري الصالح" الطّبيب عندما يُداوي المريض يؤلمه ولكنه يشفيه
https://youtu.be/em8Gm-vul2w

تأمّل في إنجيل السامري الصالح (لو 10: 25-37)
للأب ميشال عبود الكرملي
الرياضة الروحية السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البير - بقنايا

14/3/2015

اخترنا قراءة هذا الإنجيل في سهرة التّوبة وقد وضعتُ علامةً له، بين العدالة والمحبّة وبين الحرف والرّوح. ومَن جاء يسأل يسوع هو عالِم شريعة وناموسيّ أيّ هو شخصٌ مثقّفٌ ومتعمّقٌ ويعيش الشّريعة في كلّ تفاصيلها. لقد بدأ بالسّؤال الكبير "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟" وهو السؤال الّذي يسأله كلّ واحد منّا. نعلم الإجابة عنه مع المسيح "مَن آمن بي له الحياة الأبديّة، مَن أكل جسدي له الحياة الأبديّة، فالحياة الأبديّة هي أن يعرفوك، أنتَ الإله الحقّ، ويعرفوا الّذي أرسلتَهُ يسوع المسيح". إذاً الإجابة عن هذا السّؤال هي يسوع المسيح "أنا الطّريق، أنا الحقّ، أنا الحياة" وقد أتى هذا الشخص الى يسوع ليجرّبه! كان يسوع مُلفِتاً للأنظار فكلامه مزعجٌ لأنّه نور والنّور يُزعج الّذين يعيشون في الظّلام، وهو مزعجٌ أيضًا لأنّه يشفي فالطّبيب عندما يُداوي المريض يؤلمه ولكنه يشفيه.

لقد سأل عالمُ الشريعة الربّ يسوع الذي أجابه بسؤال آخر وهو"ما هو مكتوب في الناموس؟ كيف تقرأ؟" فأعطاه النّاموسيّ إجابةً صحيحةً لأنّه في إنجيل آخر سأل أحدهم يسوع عن الوصيّة الكبرى للشريعة، فأجابه يسوع بأنّها اثنتان إلّا أنّها ثلاثة وهي حبّ الله، حبّ القريب وحبّ النّفس، وكلّ شيء يبدأ بحبّ النّفس، فلا أحد يستطيع أن يُحبّ الآخرين إن لم يستطع أن يحبّ نفسه. حبّ الذّات ليس الأنانيّة لأنّنا شحّاذو كرامةٍ ومحبّةٍ ودعوةٍ وتحيّةٍ من الآخرين، وهذا ما يثير الاضطرابات في داخل العائلات والجماعات لأنّني أراقب الآخرين.

سأل "ما هو سرّ النّجاح؟" فأجابه "لا أعلم وإنّما أعلم ما هو سرّ البشر وهو محاولة إرضاء الآخرين". والكتاب المقدّس واضح من هذه النّاحية فيقول "الويل لمن يتّكل على بني البشر" . عندما تصنعون الخير من أجل النّاس، لن تحصلوا على شيء، ولكن عندما تصنعونه من أجل الله ستكسبون، وتخطون الخطوة الأولى نحو السّماء. قال يسوع للنّاموسيّ "اعملْ هذا فتحيا" أرادَ أن يُبرّر نفسه فسأل يسوع... هذا المثل ليس حادثةً وإنّما هو مثلٌ كالابن الضّال والخروف الضّائع.

كان يسوع يُكلّم يهوديّاً ويُعطي مثلاً عن سامريّ، علماً أنّ اليهود والسّامريّين هم على خلاف بحسب التّقاليد، فجاء يسوع لِكسر هذه القاعدة. كان يهوديّ نازلاً من أورشليم إلى أريحا فوقع بين أيدي لصوص فعرّوه وضربوه وتركوه بين حيّ وميت. وكان كاهناً يمرّ من هناك فلم يلتفت إليه بل تابع طريقه لأنّه يعتبر أنّه يقوم بواجباته، فالشّريعة واضحة في أنّه من غير المسموح أن تلمس دمَ غريبٍ. ومرّ أيضاً لاوٍ يخدم الهيكل، فنظر إليه ومالَ عنه ومضى. هذان بتصرّفهما طبّقا الشّريعة. فجاء أخيراً السّامريّ، وهنا يسوع يُكلّم النّاموسيّ المُناقِض للسّامريّ، فنظر إليه ودنا منه، ضمّد جراحه وصبّ عليها زيتاً وخمراً (لذلك نستعمل الزّيوت في الأسرار فهي علامة الشّفاء)، بعدها أركبه على دابته وأتى به إلى فندق واعتنى به. هو لم يُعطِهِ فقط من وقته بل أعطاه ديناريْن من مالِه، فيكون بذلك قد اهتمّ به في الحاضر وفي المستقبل عندما قال لصاحب الفندق إنّه سيعود ويدفع له إذا أنفق عليه أكثر ممّا أعطاه. عندها سأل يسوع النّاموسيّ مَن هو، برأيه، القريب فأجابه مَن عامله بالرّحمة، فقال له يسوع "إفعلْ هذا فتحيا". هذا ما يدعُنا، في رتبة التوبة، أن نقفَ أمام ذاتِنا.

أنا، كإنسانٍ مسيحيّ، لديّ علامة واحدة تُميّزني، هي علاقتي بالله، فالخيار لي، إمّا أسمع كلامه أو لا أسمعه. الله هو الّذي يطلب منّي، وما طلبه لا يُرهقني فقال "تعالَوْا إليّ، أيّها المُتعبون والمُثقلون وأنا أريحكم". إذاً إمّا أنتَ تؤمن بأنّ الله يُريحك وإمّا لا تؤمن. لذلك إذا كانت بعض مبادئ المسيحيّة تُتعبنا وتجعلنا نتمنّى ألّا نكون من المسيحيّين وأنّ الإنجيل هو الّذي يُلزمنا، إذاً مسيحيّتنا تشهد على الخطأ، فيُصيبنا ما أصاب الابن الضّال أو الابن الأكبر في مثل الابن الضّال الّذي قال "وأنا منذ سنين أخدم" أيّ هو يعتبر نفسه أنّه لم يكن كابنٍ وإنّما كخادِم. وكما يقول القدّيس يوحنّا الصّليب "أن تكون ضعيفاً بِصُحْبة القويّ أفضل من أن تكون قويّاً بِصُحْبة الضّعيف". ومار بولس أيضاً قال "في الضّعف تكمن قوّتي أنا قويّ بالّذي يُقوّيني". إضافةً إلى أنّ يوحنّا الذّهبيّ الفم قال أيضاً "الشّيطان قال للرّبّ: أنا أتغلّب على الأقوياء لا على الضّعفاء لأنّ الأقوياء يحتمون بأنفسهم بينما الضّعفاء يحتمون بك".

علاقتي بالله هي علاقة الأب بابنه أو هي علاقة محبّة. وهنا، نذكر أمراً مهمّاً. البعض يقول إنّ الله هو الّذي اخترع الدّين وهذا غير صحيح. هناك العديد من الأديان كالدّين الإسلاميّ، الدّين اليهوديّ، والدّين البوذيّ وهي كلّها متعارضة. فلو كان الله هو الّذي اخترع الدّين لَكان يُناقض نفسه. المسيحيّة ليست ديناً لأنّ الإنسان، في الدّين، يبحث عن الله كي يعبده. فإذا قرأتم تاريخ الأديان ترَوْن أنّهم عبدوا الحجر والنّار وغيرها، أمّا في المسيحيّة فالأمر مختلف، فالله هو الّذي يبحث عن الإنسان ما يجعل الحياة المسيحيّة مبنيّةً على علاقة الحبّ أيّ لقاء الحبيب والمحبوب. وهنا، يُخبرون عن ابراهيم الخليل، في نهاية حياته عندما أطلّ عليه ملاك الموت فقال له ابراهيم "أنا خليل الله، وهل الله يُريد موت خليلِه؟" فسأله الملاك "أنتَ خليل الله، أنتَ حبيبه؟" فأجابه ابراهيم "نعم" عندئذٍ سأله الملاك "هل المحبوب يرفض لقاء الحبيب؟" فأجابه "ها أنا ذا". لقد جعلونا نخاف من الله الّذي جعلوه أيضاً في عدد التّساعيّات وفي عدد الصّلوات، فبِقدر ما نُصلّي نحصل على رضاه، وجعلونا نؤمن بأنّ الدّين هو الّذي يضع لنا المبادئ الّتي علينا أن نتّبعها.

قريبي هو كلّ شخص أعيش معه. إذا كنّا نتحلّى بروح الخدمة والأخُوّة لن نشعر بأنّ الآخرين حملٌ ثقيلٌ. وكلّ شخص نلتقي به هو قريبنا. إنّ العادات والتّقاليد والمبادئ تُعلّمنا أموراً قاسيةً خارج المجتمع. لذلك عندما التقت الامرأة السّامريّة بيسوع تعجّبت من أنّه لم يكترث للتقاليد وتكلّم معها، فقال لها يسوع "لو كنتِ تعرفين عطيّتي". عندما نقرأ تاريخ الأديان أو تاريخ الشّعوب حتّى تاريخ ما بعد المسيح، بحسب علم الأنتروبولوجيا، نرى كيف كانت القبائل قبل المسيح وكيف أصبحت بعده. الإنجيل هو الّذي غيّرها من النّواحي الاقتصاديّة والإنمائيّة والحياتيّة وعلاقاتها بعضها ببعض، لقد اُدخل الفرح الى حياتها وأنعشَها.

مَن هو الّذي عاملَه بالرحمة هنا؟ علينا أن نعرف مقدار الرّحمة الموجودة في قلوبنا. فكم من الأحيان نتصرّف بقلبٍ قاسٍ. لذلك نُصلّي في صلاة قلب يسوع "يا يسوع الوديع والمُتواضِع القلب، اجعلْ قلبنا مثل قلبك"، قلب الله الّذي يُحبّ وليس قلب الله المُتحجّر. الأناجيل كلّها تتكلّم على بحث الله عن الإنسان. لذلك علينا أن نقف أمام ذاتنا ونعرف كيف نضع حياتنا أمامنا وأن نُقدّم خطايانا إلى الرّبّ بتوبة. كما إن القداسة هي ليست فقط الابتعاد عن الخطيئة وإنما هي التّعلّق بيسوع فَكلّما تعلّقنا بالله كلّما رأينا خطيئتنا أكبر، ولكننا نشعر، في الوقت نفسه، بأنّ رحمته أكبر منّا بكثير. وبهذا علينا أن نرتاح ونكفَّ عن القول إنّنا نتمنّى ألّا نكون من المسيحيّين، كما علينا أن نعيش مسيحيّتنا عن قناعة ونطلب معونة الرّبّ.

يقول بعض النّاس إنّهم يعترفون منهم إلى الله من دون الحاجة إلى الاعتراف عند الكاهن، كما أنّك لا تستطيع أن تُعمّد أولادك وتتناول جسد يسوع المسيح من دون الكاهن، فإنّك أيضاً لا تستطيع أن تعترف من دونه. فالاعتراف هو سرّ من الأسرار السّبعة. فإما نأخذ الأسرار كلّها وإمّا لا نأخذ أيّاً منها. كان يسوع واضحاً عندما قال لتلاميذه، بحسب يوحنّا 21 "خذوا الرّوح القدس، مَن غفرتُم له خطاياه غُفِرَت ومَن أمسكتم عليه، اُمسِكتْ". وهناك ما يُسمّى بسريّة الاعتراف لأنّ هناك جزاءً مدنيّاً وجزاءً كنسيّاً. والله يُعطينا نعمة النّسيان. علينا أن نعترف بكلّ خطايانا، فإذا قلنا بعضها وأخفينا البعض الآخر لن نشعر بالرّاحة، وهذه فكرة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. الأمور الّتي نخجل بها هي السّرقة وعلاقتنا مع بعضنا البعض وغيرها... والكاهن قد سمع هذه الأمور مرّات عديدة لذلك علينا ألّا نخاف حين نعترف. يقول الملك داوود "خطيئتي أمامي، أنا حالِفٌ بخطيئتي".
الاعتراف والتّوبة ليسا مبنيّين على الشّعور بل على الإيمان. يقول يسوع: "جئتُ لِأُلقي ناراً وما أشدّ رغبتي في أن تشتعل" هي نار الرّوح القدس الّتي ستُغيّرني وتجعلني أتقدّم.

ملاحظة: اُلقي هذا التأمّل في الرياضة الروحية السنوية 2015- دير سيدة البير بقنايا، رتبة التوبة والسجود.
ودُوّن من قبلنا بتصرف.
15/3/2015 عظة في قداس أحد المخلع هذا هو النّزف الدّاخليّ، جِراح الحبّ الّذي في داخلنا
https://youtu.be/waCS968BwVA

عظة قدّاس أحد المخلع
للخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنوية في دير سيّدة البير – بقنايا

15/3/2015


يبدأ الأمر من عرس قانا الجليل، وهنا يكمن مفهوم الصّوم فهو من عرسٍ إلى آخر. العرس الأوّل يتجسّد أمامنا من خلال هذه اللّوحة الرّائعة من عمل الفنّان نفسه الّذي وضع الفسيفساء على واجهة "لورد". هنا، في هذا العرس، جرى تحويل الماء إلى خمر كما أنّ الصّوم هو تحويل؛ فإذا لم أجتهد على تغيير نفسي في زمن الصّوم لأعبر إلى شاطئ الأمان ، لا أكون قد عشتُ الصّوم كما يجب. والصّوم فرح، فإذا كان أحدهم عابِساً خلال هذا الزّمن لا يكون قد عاش الصّوم فعلاً. الصّوم هو علاقة مُكثّفة مع الله. فأذهب إلى عمق اختبار الصّحراء كي أتّحد في العمق بالله.

بدأنا، في اللّيتورجيّة المارونيّة، بأحد الأبرص وهو عبارة عن الشّفاء من الخارج وهذا ما كان بحاجةٍ إليه. هو يُعاني من مرضٍ في الجلد والجميع يخاف أن يلمسه ويسوع هو الذي لمسَه وشفاه. بعبارةٍ أخرى، هذا هو شفاء علاقاتنا المريضة عندما لا نتجرّأ على لمس أحد في عملنا، في بيوتنا أو في الوطن، ونحن بحاجة إلى هذا الشّفاء. إذاً فَلنسعَ إلى شفاء العلاقات.

الأحد الّذي يلي أحد الأبرص هو أحد المرأة النّازفة من الدّاخل، الّذي يُعبّر عن الشّفاء الدّاخليّ. ينظر البعض إلى الخارج مُعتبِراً أنّه متصالح مع الجميع ولكن عليه أن ينظر إلى داخله. هناك مبدأ مهمّ في الحياة المسيحيّة، وقد علّمنا إيّاه واحدٌ هو المسيح ولا أحد يعيشه وهو الحبّ المجّاني الّذي لا ينتظر مقابلاً وهو غير متوفّر في الأسواق وعبر التلفزيون وفي بيوت النّاس. وتكمن المشكلة في أنّه ليس هناك ما هو مجّانيّ. فكم هو مهمّ أن نعرف كيف نعطي مجّاناً، من دو مقابل في حياتنا وعلاقاتنا. ومن هنا، اعتقد البعض أنّ الله لا يُعطي من دون مقابل لذلك تربّينا، منذ صغرنا، على أنّه علينا الصّلاة لله كي ننال رضاه. إضافةً إلى ذلك، هناك مَن اعتبر أنّ الله لا يسمعنا دائماً في كلّ صلاتنا، فأصبحنا نضع الشّروط فإذا لبّى طلباتنا نصلّي ونقدّم له النّذور. ولكن هؤلاء النّاس مخطئون، فالله يُعطينا كلّ شيء مجّاناً، من دون مقابل.
لذلك، علينا أن نحبّ، من جديد، مجّاناً. هذا هو النّزف الدّاخليّ، جِراح الحبّ الّذي في داخلنا.

الأحد الماضي كان أحد الابن الشّاطر، الّذي يُعبّر عن البعد وأنواعه العديدة كما العلاقات الوهميّة ، من خلال وسائل التّواصل الاجتماعيّ، إضافةً إلى البعد الموجود بين شخصيْن قريبيْن من بعضهما جسديّاً، وعلينا إصلاح هذا البُعد والتّخلّص منه.

وصولاً إلى اليوم، الأحد، في كفرنحوم في بيت بطرس مع والدة زوجته الّتي شفاها يسوع. وقد تردّد إلى هذا البيت مراراً. يقول الإنجيل: "إنّه في البيت". أمّا هذا البيت فيُمكن أن يكون بيت واحد منّا ولكنّه يُرجّح أنّه بيت بطرس ، أيّ الكنيسة، حيث حصلت ثلاثة أمور مهمّة. أوّلاً، لقد علّم يسوعُ، في بيت بطرس، كما أنّهم أنزلوا المُخلّع من سطح بيته كي يسمع تعاليم يسوع. إذاً لا تعليم صحيح يُعطي الحياة خارج بيت بطرس، أي الكنيسة. ثانياً، لقد تمّ غفران الخطايا الّذي لا يحصل إلّا في الكنيسة "مغفورة لك خطاياك". ثالثاً، الشّفاء "قمْ احملْ سريرك وامشِ". فكم من مرّة نواجه، في حياتنا، صعوبةً في السّير. أحياناً، أيّ حادث قد يحصل لنا يوقعنا في شللٍ يمنعنا من الخدمة أو القيام بمبادرة، كما يوقعنا في عجزٍ يمنعنا من الذّهاب إلى الكنيسة أو إلى كرسيّ التّوبة. مثلاً هناك الكثير من النّاس الّذين لم نزرهم منذ وقتٍ طويلٍ إلّا عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ. وأتمنّى أن نعرف كيف نتّجه إلى الفقراء فنتّخذ الاتّجاه الصّحيح ونمشي على طريق الرّبّ. نطلب من ربّنا أن يُعطينا نعمة الشّفاء من كلّ شللٍ يمنعنا من الاتّجاه صوب الرّبّ وصوب الآخر.
رسالة البابا لهذه السّنة في الصّوم هي عن عولمة اللّا مبالاة. فبالنّسبة إليّ، أنا المحور، لا أهتمّ بالآخر وبألمه. يقول لنا البابا أن نبني جُزُرَ رحمةٍ في قلب العالم حيث نعيش التّصحّر، إذ إن كلّ شخصٍ يعيش لوحده، حيث التّشاؤم والفتور في الحبّ، لذلك علينا أن نُصلح الأمور ونقوم بوثبةٍ جديدةٍ فنحمل سريرنا، صليبنا، صعوبتنا وننطلق انطلاقةً جديدةً.
أتمنّى لكم صوماً مباركاً وتجدّداً لحياتنا الرّوحيّة، آمين.
ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف
29/3/2014 "خطئتُ إلى السَّماء وإليكَ" لماذا يرفض أغلبُنا الاعتراف أمام الكاهن؟
"خطئتُ إلى السَّماء وإليكَ"
مع الأب ميشال عبود الكرملي
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير سيّدة البير - بقنايا

29/3/2014

إننا نعيش سرَّ الاعتراف ونمارسُه في حياتنا لأننا نؤمن بيسوع المسيح. ومن يؤمنْ بيسوع المسيح يسمعْ كلامه ولا يجتزئ منه شيئاً، إذ تقول الآية 23 من الفصل 20 من إنجيل يوحنا: "ودخل إليهم في ذلك المساء قال لهم: سلامٌ عليكم، ونفخَ في وجوههم وقال: خذوا الرّوح القدس. من غفرتُم له خطاياه غُفِرَت، ومن أمسكتم عليه خطايا أُمسِكَت". وكلامُ يسوع هنا واضحٌ، فهو قد أعطى الرُّسل سلطان غفران الخطايا، وبالتالي فإنَّ هذا السلطان ليس منهم بل منه هو.

أما فيما يخصُّ سرَّ الاعتراف، لماذا يرفض أغلبُنا الاعتراف أمام الكاهن، إن كان قد اعتمد على يديه، وإن كان يتناول جسد ودم الرَّبِّ يسوع باستمرارٍ من يديه، وإن كان يحصل على بركة زواجه منه؟ لماذا لا يعمِّدُ الأهل أولادَهم وحدَهم بينهم وبين الرَّبِّ؟ ولماذا لا يُجري كلٌّ مِنَّا ذبيحة خبزٍ ونبيذٍ بينه وبين الرَّبِّ ويتناول؟ أو لماذا لا يباركُ كلٌّ مِنَّا زواجَهُ في المنزل بينَه وبينَ الرَّبِّ؟!

الاعترافُ هو سرٌّ من الأسرار السَّبعة المقدَّسة، وإمَّا نقبلُ الأسرارَ جميعها أو لا نقبلُ أيَّاً منها. والمشكلة ليست في سر الاعتراف، بل في شخصِنا نحنُ لأنَّنا نخشى أن نكشف جراحَنا وخطايانا لشخصٍ آخرَ مثلنا، خاطئٍ مثلنا. فهذا يتطلَّبُ مِنَّا فعلَ تواضعٍ مغايرٍ للفعل الذي قام به آدم في بداية حياة الانسان عندما رفض أن يُطيع الله وتكبَّرَ عليه.
والقانون اللبناني يجازي الكاهن إن أفشى أمراً أُدليَ به إليه خلالَ سرِّ الاعتراف، كما يجازي المحامي ويحترمُ السِّرِّية المصرفية. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّه يُحرَم كنسيَّاً وبالتَّالي يُوقَفُ عن ممارسة كهنوته. وأشكرُ الرَّبَّ أنَّه قد أعطانا نعمةَ النسيان.

والخجل من الخطايا ومن البوح بالأمور الخاصَّة هو سببٌ قويٌّ يمنع النَّاس من الاعتراف أمام الكاهن، وبالتالي يبحثون عن كاهنٍ مسنٍّ في منطقةٍ بعيدةٍ ليعترفوا عنده. ولكن ماذا يمكن أن تكون هذه الخطايا؟ سرقةً؟ حقداً؟ امتناعاً عن الصلاة؟ مهما كانت الخطيئة، فإنَّ الكاهن قد سمع ما هو أشنعُ منها بكثير، وهو لا ينتظرُ أن يسمع مِنَّا ما هو جديد. والبعض مِنَّا يتحجَّج بأنَّه سيعاود ارتكاب الخطايا ذاتها بعد الاعتراف، لذلك لا يعترف. ولكن، ألا نتَّسخُ بعد الاستحمام دوماً؟ فلماذا نستحمُّ باستمرارٍ؟!

وفي إنجيل الابن الضَّال الذي أعطانا إيَّاه يسوع، البطل هو الأبُ وليس الابن. ويسوع قد أعطى هذا المـــَـثَل، ومَثَلَ الفرِّيسيِّ والعشَّار لقومٍ كانوا يظنُّون أنفسهم أبراراً ويحتقرون سائر النَّاس، كالابن الأكبر في المــــَـثَل الذي نتشبَّه به نحن أبناء الكنيسة أحياناً، عندما نحاول أن نرى بعيون الله ونحامي عنه، فنحكم على إخوتنا إن كانوا يستحقُّون المناولة أم لا، أو يستحقُّون الدُّخول إلى الكنيسة أم لا. الله ليس بحاجةٍ لمن يُدافع عنه. فمن يحبّ الله، عليه أن يحبّ كما اللهُ يحبّ. وعندما اعتدنا أن نقول "الابن الشاطر"، كنا نعتقد أنَّه "شاطر" لأنَّه عاد إلى حضن أبيه. في الحقيقة "الشَّاطر" هو من "شطرَ" مال أبيه. ويسوع قد أعطانا هذا المثل بأن "كان لرجل ابنان"، وهما يمثِّلان الازدواجيَّة الموجودة لدى كل الناس، الناس المقسومين، كالنور والظلمة، كالباب الضَّيِّق والباب الواسع، كالصُّعود والنُّزول، كالموت والحياة. و"الابن الأصغر" هو الذي جاء لعند أبيه وطلب نصيبَه من المال، لأنه "صغيرٌ" في تفكيره وفي إيمانه، فهو لم يعترف بأنَّ أباه هو صاحب المال، بل طالب ب"نصيبه" هو، أي أنه نسِيَ حقَّ والدِه وجميلَهُ. إلَّا أنَّ الأب لم يقلْ شيئاً، فالله يصمت أمام خطيئتنا. وهنا يتساءل الكثير من الناس عن سببِ عدمِ مجازاة الله للخطأة، متناسين أنَّ محبة الله تقتضي الحرية لذا فقد خلقَنا أحراراً وأعطانا الحرية، ف "قسَمَ مالَهُ بينهما". وبعد زمنٍ قصيرٍ جمع الابنُ الأصغر كلَّ ما يملك "وسافر إلى مكانٍ بعيدٍ" ليكون بعيداً عن عينَي والده. وهذا هو الإلحاد، أي رفضُ العيشِ تحت نظر الله. والكنيسة تشدِّدُ على الإلحاد العمليِّ من المؤمنين، إذ هناك أناسٌ تدافع عن الصَّليب إلَّا أنها تجدِّف عليه، وهناك ناس تدافع عن الله إلا أنَّها تسبُّ الدِّين. ونحن ننشغلُ عن اللهِ بأمورِ الحياةِ اليوميَّةِ وننساه وكأنَّه غير موجود، كما أنَّ أعمالَنا وتصرُّفاتنا تدلُّ على ذلك، وهذا ما يجب أن نفحصَ ضمائرَنا بشأنه.

"بدَّد مالَه في عيشة الطَّيش، في عيشة الإسراف"، والإسرافُ هو تبذيرُ شيءٍ ما في مكانٍ غير مكانه الصَّحيح. فالحياة أُعطيَت لنا، ونحن في مسيرةٍ لعددٍ مُعيَّنٍ من السَّنوات سينتهي بعدها هذا المشوار ويبدأ مشوارٌ جديد. وهنا على الإنسان أن يعرفَ كيف يعيش، ونحن للأسف لا نعرف كيف نعيش. فالعلم يزيد سنواتٍ على حياتنا، إذ تشفينا الأدوية والعمليات الجراحية، ولكنَّه لا يُضفي حياةً على سنواتِنا. فالحياة المسيحيَّة تعني أن نحيا وننطلقَ إلى الأمام، ونستفيدَ من كلِّ لحظةٍ نعيشها. و"حدثت مجاعةٌ في ذاك البلد كبيرةٌ، فأخذَ يشكو العوَزَ فالتحق بأحدِ رجال المنطقة وأرسله ليرعى الخنازير". أي في البداية ذهب بملء حريَّته، إلَّا أنَّه عندما جاع، أي كُبِّل، لم يعد يملك الحريَّةَ. وهنا يتَّضح قولُ يسوع: "من ارتكبَ الخطيئة صار عبداً للخطيئة"، "فاشتهى أن يملأ بطنَهُ من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطيه أحد". والإنسان يشعر بهذه الوحدة، ويشعر أنَّ أحداً لا يحبُّه وأنَّه وحيدٌ ومتروكٌ من الله، ويُدرِكُ فناءَ حياته. وكما نتذوَّقُ طعمَ السَّماء، فإنَّ وحدتنا تؤدي بنا إلى تذوُّقِ طعمِ جهنَّم أحياناً. وكلُّ التائبين الكبار الذين ارتدُّوا إلى الإيمان وكتبوا قصَّةَ حياتهم يتحدَّثون عن هذه الوحدة "فلا يُعطيه أحد"، وهذا الجوعُ داخليٌّ. والابن في هذا المثل ليس على مستوى عالٍ من الذكاء، ونيَّتُه ليست صافية. فهو لا يحبُّ أباه إلَّا أنه "عاد إلى نفسه"، والعودة إلى الذَّات والدُّخول إليها هي أكبرُ رحلةٍ في التاريخ، فسببُ نجاح المفكِّرين واللَّاهوتيين والفلاسفة الكبار هي الوحدةُ الممتلئةُ من حضور الله، لأنَّ الوحدة من دون الله هي فراغٌ. "عاد إلى نفسه"، وعندما نعود إلى نفسنا علينا أن نعرفَ أنَّنا مخلوقون من الله، والله لا يخلق ما هو غيرُ صالحٍ، فكلُّ واحدٍ مِنَّا إذاً صالحٌ، "أحببْ قريبَكَ حبَّكَ لنفسِكَ"، والمشكلةُ أنَّنالم نعُد نحبُّ أنفسَنا لذا بتنا نستجدي الحبَّ والكرامةَ والظُّهورَ من غيرنا، لذا بتنا نعتقدُ أنَّ كلَّ ما يُقال أو يُخطَّط له هو قولٌ أو مخطَّطٌ ضدنا. علينا أن ندرك أن قيمتَنا تكمنُ في ذواتنا نحن، وليست في تصرُّفات النَّاس تجاهنا. وسقراط أثناء بحثه عن الحقيقة - قبل المسيح - وجد جملةً تقول: "أيها الإنسان اعرف نفسَك بنفسِك"، وأدركَ أنَّه بدأ باكتشاف الحقيقة لأنَّه ليس من الضَّروري أن يعرفَ الإنسان عن كلِّ النَّاس، المهمُّ أن يبدأَ من نفسِهِ، فيكونُ قد عادَ إلى ذاتِه. "عادَ إلى نفسِهِ وفكَّرَ كم أجيرٍ عند أبي يفضُلُ عنهم الخبزُ وأنا هنا أهلك جوعاً" فهو إذاً لم يفكِّر بأبيه، بل بجوعه، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ. واتَّخذ قراراً "أقومُ وأمضي إلى أبي وأقولُ له: خطِئتُ إلى السَّماء وإليكَ ولا أستحقُّ أن أُدعى لكَ ابناً، اجعلْني كأحدِ أُجرائِكَ"، اعتقدَ أن الخطيئةَ تنزعُ عنهُ صفةَ البُنوَّة، وهذا غيرُ صحيحٍ، ونحن في دستورِ الإيمان نقول: "نؤمن بمعموديَّةٍ واحدةٍ"، أي عند اعتماد الواحد مِنَّا، حتَّى لو أصابَهُ الإلحاد وابتعدَ عن الله، عندَ عودتِهِ لن يحتاجَ إلى معموديَّةٍ جديدةٍ، فسرُّ معموديَّة الإنسان يكمنُ فيه، فالخطيئة غبارٌ والجوهر يبقى موجوداً مهما حدث. وبعد أن اتَّخذَ الابن هذا القرار نفَّذَهُ، بعكسنا نحن الذين نخطِّطُ الكثيرَ وننجِزَ القليل، والتَّأجيلُ مرضٌ، فيسوع يقول: "الروحُ مندفِعٌ أمَّا الجسدُ فضعيفٌ".
"قام ومضى إلى أبيه وكان مازالَ بعيداً إذ رآه أبوه"، أي أنَّ أباه كان بانتظاره. وذُكِرَ في العهد القديم أنَّ الله ينتظرُ عودةَ الخاطئ وهو لا يُريد هلاكَهُ، والانتظار صعبٌ، والله ينتظرنا وهذا أمرٌ علينا أن ندركَه. وما أن رأى الأبُ ابنَهُ حتَّى هرعَ إليه "وألقى بنفسِهِ وقبَّلَهُ على عُنُقِه"، أي أنَّهُ لم يشمئزَّ من رائحتِهِ، ولم يطلبْ منه تنظيفَ نفسِهِ أوَّلاً، ونحن بخطايانا لا ننجِّسُ الله، بل هو الله من يقدِّسنا. ونحن بحاجةٍ إلى الرَّبِّ عندما نخطئُ، وقد تعرَّضَ يسوع للانتقاد عندما أكلَ مع الخطأة، واعترضَ النَّاسُ عند تلاميذِهِ، وعندما أدركَ يسوعُ أفكارَهُم قال: "ليسَ الأصحَّاءُ بحاجةٍ إلى طبيبٍ بل المرضى، ما جئْتُ لأدعو الأبرارَ بل الخطأة".

والخطيئة هي أن نشوِّهَ صورةَ الله معتقدين أنَّه غاضبٌ دومًا، وأن نقرأ الإنجيلَ بشكلٍ مغلوطٍ ونتبنَّى أفكارَ العهدِ القديم متناسين العهدَ الجديد. والعُنقُ هو علامةُ الحياة، لذا قبَّلَهُ على عنقه. وعندما أسلمَ يهوذا يسوع، أسلمَهُ بقبلةٍ، والقبلةُ هي رمزُ الحياة والحبِّ ويهوذا حوَّلها إلى علامةٍ للخيانة والموت، فقال يسوع له: "يا صديقي، أبِقبلةٍ تسلِّمُ ابنَ الإنسان؟". وبعدها بدأَ الابن بالكلام قائلاً: "يا أبتِ، خطئْتُ إلى السَّماء وإليكَ ولا أستحقُّ أن أُدعَى لكَ ابناً"، إلَّا أنَّ أباه منعَهُ من إتمامِ حديثِهِ ولكنَّهُ لم يتكلَّم. فالأبُ لم يتكلَّم معه لا عندَ ذهابِهِ ولا عندَ عودتِه ولم يعاتبْهُ. إلا أنَّه طلَبَ من الخدمِ أن يأتوه بالحلَّة والخاتَم وأن يذبحوا العِجلَ المسمَّنَ لأنَّ ابنَه "كان ضالَّاً فوُجِدَ وكان ميتاً فعاش"، وهذه هي الخطيئةُ التي تقتلُ علاقتَنا مع الرَّبِّ. وهنا علينا أن نُدرِكَ أن لا وجودَ لشيءٍ يُدعى "الخطيئة" إلَّا في الحياةِ الدِّينيَّة، أمَّا في الحياةِ العلمانيَّة فهناكَ "الخطأ". والخطيئة نحياها تحتَ نظرِ الله، وهذا ما حدَثَ بين يسوع وبطرس، إذ قال يسوعُ في ليلةِ آلامِهِ "سيُضرَبُ الرَّاعي وتتبدَّدُ الخراف"، إلَّا أنَّ بطرس اعترضَ على هذا القول، وأخبر الرَّبَّ أنَّه لن يتخلَّى عنه حتَّى لو فعلَ الجميع ذلك. إلَّا أنَّ يسوعُ أخبرَهُ أنَّه سينكره ثلاثَ مرَّاتٍ قبل أن يصيحَ الدِّيك، فصاح بطرس: "حاشى يا ربُّ". وقد أنكرَ بطرسُ يسوعَ بالفعلِ مرَّاتٍ ثلاثاً، وبعد أن أنكرَهُ يخبرُنا إنجيلُ لوقا أنَّه أثناء جَلْبِ يسوعَ إلى المحاكمة "وقع نظرَهُ على نظرِ بطرسَ" فتذكَّرَ حينئذٍ بطرسَ خطيئتَهُ وذهب وبكى بكاءً مرَّاً". فالنَّظرةُ إذاً تُنعِشُ، وتوبِّخُ وتُبكي. ولكن مهما كانت أفعالُنا علينا أن ندرِكَ أنَّ نظرةَ الله هي نظرةُ حنانٍ. وعلينا أيضاً أن نعرفَ أنَّ الله يغفرُ. فعندما تساءلَ بطرس إن كان عليه أن يغفرَ لأخيه سبعَ مرَّاتٍ فعلاً، أجابَه يسوع بأنَّ عليهِ أن يغفرَ له سبعينَ مرَّةً سبعَ مرَّاتٍ. فإذا كان الرَّبُّ قد طلبَ إلينا أن نقومَ بهذا الأمر ونسامح، فكم بالحريِّ سيسامحُنا هو ونحنُ خطأةٌ ومحدودون. إلَّا أنَّ الحُبَّ لا يستغلُّ الحبَّ؛ "حيثُ كثُرَت الخطيئة فاضت النعمة". والكثيرُ من الأشخاصِ اختبروا نعمةَ الله بعد الوقوع في الخطيئة.

كانَ هناكَ كاتبٌ شهيرٌ كتبَ الكثيرَ من القباحاتِ ضدَّ المسيحيَّة يُدعى هيوستن، وفي يومٍ أتاهُ صديقُهُ مخيِّراً إيَّاهُ بين أقدامِ الصَّليبِ وفوهةُ المسدَّس، وعندما قرَّر اختيارَ الموتِ وَجَدَ نفسَهُ راكعاً أمامَ أقدامِ الصَّليب. بعدها ذهبَ إلى الكاهنِ معترفاً له، مُخبراً إيَّاه أنَّه تركَ الخنازير ترعى في قلبِهِ لشدَّة قباحته، وطلب منه كِسرةً من الخبزِ لراعي الخنازير السَّاكن فيه، واعترفَ بكلِّ خطاياه وتغيَّرت كلُّ حياته. والمشكلةُ فينا حتَّى هذا اليوم، أنَّنا عندما نفحصُ ضميرَنا نفحصُهُ استناداً إلى الوصايا العشر، بدل أن نفحصَهُ استناداً إلى الإنجيل الذي يحوي كلامَ يسوع وخارطةَ طريق السماء. وهنا نكتشفُ رحمةَ الرَّبِّ، لأنَّنا كلَّما اقتربنا منه كلَّما أدركْنا خطيئتَنا. والقدِّيس يوحنَّا الصَّليبي يرى أنَّه كلَّما اقتربَ النُّورُ من الزُّجاجِ كلَّما اتَّضحَ اتِّساخُ الزَّجاجِ أكثر، ولكن علينا أن ندركَ أنَّ رحمةَ الله أوسعَ من خطايانا مهما كانت. آمين.

ملاحظة: اُلقي هذا التأمّل في الرياضة الروحية السنوية 2014 – رتبة توبة وسجود.
ودُوّن من قبلنا بتصرف.
29/3/2014 الأسبوع العظيم أيّهُما أولى، أن يُسمّى أسبوعُ الآلام أم الأسبوعُ العظيم؟
https://youtu.be/vkZHg5ab2Ak

الأسبوع العظيم
الأب ابراهيم سعد
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البير - بقنايا

29/3/2014

يُعْرَفُ الأسبّوعُ الأخير من الصوم باسمِ أسبوعِ الآلام بحسَبِ تسميتِه الشائعةِ بين الناس، ولكّن تُرى أيّهُما أولى، أن يُسمّى أسبوعُ الآلام أم الأسبوعُ العظيم؟
في الحقيقةِ هناك ثلاثُ تسمياتٍ يمُكن أن تُطلَقَ على هذا الأسبوع وهي أسبوعُ الآلام، أو الأسبوعُ العظيم، أو أسبوعٌ كغيره من الأسابيع، ونحن من نُعطي الصفةَ لهذا الأسبوع ونسمّيه بحسب ما نراه. فإن قُلنا "أسبوع الآلام" فنحنُ إذا نتعاملُ معه انطلاقاً مما أصابَ يسوع من ألمٍ، ومريم من حزنٍ، وإن كان بالنسبة لنا أسبوعاً كباقي الأسابيعِ فنحنُ بالتالي خارجَ القصةِ تماما. أما إن قُلنا "الأسبوع العظيم"، فنحنُ بالتالي نعترفُ أنه مميزٌ عن كلّ أسابيعِ السنة، وكُلّما كبُرَ الفرحُ الذي يزرعُه هذا الأسبوعُ فينا، كلما ازدادتْ عظمتُه في أعيننِا! ولكِنْ مِن أين يأتي الفرحُ وكلُّ ما نشاهدُه في هذا الأسبوع لا يَدُلُّ على الفرحِ إطلاقاً؟.

إن أعظمَ فرحٍ قد يَشعُرُ به الإنسانُ، هُو عندما يُدرِكُ أنَّ من يبتغي حبَهُ يُحِبُه فعلاً، فالفرحُ ينبعُ من قناعتِنا أنَّ مَن ننتظرُ حبَه يحبُنا حقاً، وفي الأسبوعِ العظيم هُناك الاكتشافُ والكَشفُ عن محبةِ الله للإنسانِ بشكلٍ كلِّي. لذا فإنَّ أحداثَ الأسبوعِ العظيم في الليتورجيا الكنسِيَّة تبدأُ من سبْتِ ألعازر وتنتهي بالفُصحِ، وذلك لكي يُعطينا هذا الأسبوع البُشرى بأن الله يُحِبُ كلَّ واحدٍ منّا ويكشِفُ لنا ما فعلَهُ الله من أجلِنا، إذ باتَ لحياتنِا معنى لأن موتَنا أصبحَ يُحمِلُ معنى أيضاً ومَن لا يعرفُ قيمةَ الحياةِ لا يعرِفُ قيمةَ الموت، لأنه كشفَ أن الموتَ صفحةً من صفحاتِ الحياة. لذا بدأَ الأسبوعُ العظيمُ بإقامةِ ألعازر وانتهى بقيامةِ السيّد المسيح.

وقد اختارَ الربُّ ألعازر ليُقيمُه لأن اسمَه (ألعازر)، وهو يعني أنّ الله فقط هو من يَعينني ويُؤازرُني. وعلينا أن نركّزَ على كلمةِ "فقط"، لأنه إنْ كان أحدٌ آخر يُعينُنا مع الله، فسيكونُ من السهلِ جدّا علينا أن نُقيمَ التحالفاتِ والمساومات، أمّا إذا كان الله وحدُه مُعينَنا فقط، فلا يُمكننا أن نتحالفَ إلا معه لكي نُنقَذ. وفي العهدِ القديم، كان لدى ابراهيم الذي وعدَهُ الله بالبركة خادمٌ اسمُه "ألعازر الدمشقي"، أي أنّه لم يكن يهودياً، ولأنّه خادمٌ لم يكنْ له حقٌ أن يرِثَ سيّدَه. أما في العهدِ الجدّيد، فقد باتَ بإمكانِ كلِّ من لم يكُن له الحقَّ بالميراثِ قديماً أن يرِثَ، شرط أنْ يكونَ الله وحدُه مُعينَهُ كائناً من يكون، يهوديٌ أو غير يهودي. فالوعدُ الأوّلُ إذا هو أنّنا نرِث كلَّ شيءٍ، نرث الملكوت. والربُّ يسوع قد أقامَ ألعازر في اليومِ الرابع لوفاتِه، لأنّ الناسَ كانوا يعتقدِون أن الروحَ تبقى قريبة من الجسدِ لمدةِ ثلاثةِ أيام بعد الوفاة، ويُصَدّق خبر الموتِ في اليومِ الرابع، إلا أنّ يسوعَ قد أقامَه بعد الإفلاسِ، فهُو وحدُه المحيي، وقد قالَ لأخت ألعازر: "أنا القيامةُ والحياة" أيْ هُوَ فعلُ القيامة، وفعلُ الحياة.

ومشكلةُ الإنسانِ المطلَقَة والوحيدةُ هي الموت. فعلى سبيلِ المثال، الخوفُ من الفقرَ أو الحربِ ناجمٌ بالأصل عن الخوفِ من الموت. ويسوع ¬قد حلَّ هذه المشكلة، بحلِّه لأوجاعِ الموت بإقامةِ إنسانٍ مثلِنا هو ألعازر في البداية، ومِن ثمّ بقيامتِه هُوَ من بين الأموات. وبالتالي أنهى قَلقَنا من موضوع الموت، فماذا ينقصُنا بعد؟ إذ بعد أن بدّدَ الربُّ خوفَنا، لا يُمكن إلا أن تمتلئَ قلوبُنا بالطمأنينة والسلام. ولكن بالرغمِ من ذلك يبقى القلقُ مُسيْطراً على حياتِنا، وهذا القلقُ مصدرُه الخوف من أن نَكونَ غيرَ محبُوبين، أي أنّ لدى الإنسانِ خوفٌ آخر لا يَقِلُّ عن خوفِه من الموت، وهُوَ الخوفُ من ألا يكون محبوباً. وقد لا يعي الإنسانُ خوفَه هذا، إلا أنّ تصرّفاتِه جميعَها تُبنى على هذا الأساس. وبالتالي فإنّ جميعَ الخطايا التي يرتكبُها الإنسانُ سببُها أمرٌ من اثنين، إما الخوفُ من الموت أو عدمُ اقتناعِه بأنّه محبوبٌ. وجلُّ عمل يسوع في العهدِ الجديد هو أن يقنعَنا ويزرعَ في نفوسِنا وكيانِنا حقيقةً أنّ الله يحبُنا، لأنّنا قد ترّبيْنّا على فكرةٍ أنّ الله هو الخالقُ القادرُ على كلِّ شيءٍ والدّيّان، لِذا نما الخوفُ فينا. وعندما أتى يسوع، ذكّرَّنا بأنّ الله أبٌ أيضا، فتغيّرتْ الدنيا لدى الرسُلِ والمؤمنين الأُول. فالأبوّةُ في الشرقِ الأوسط مرتبطةٌ بالميراث، وكلّما زادَ غِنى الأبِ كلّما زادَ شعورُ الابنِ بقوّة سندِه، ويسوع جاء ليُنبِئُنا بأنَّ الله سيّدُ الكونِ الذي كنّا نخشاه لأنّهُ الخالقُ والدّيّانُ والقادرُ هو أبٌ لنا أيضاً، أي أنّنا نملكُ كلَّ ما يملكُه يسوع، ولكن الفرق هُو أن يسوع يَبقى دوماً أميناً ومُخلصاً لأبيه، أما نحن فنتلهّى بأمورٍ كثيرة، ونخونُ ونتركُ كثيراً ونتصرّفُ كعبيدٍ وننسى أننّا الأبناءُ، فيأتي الأسبوعُ العظيم ليُذكِّرُنا ويوقظُنا كيْ لا ننسى أننّا أبناءُ أبينا. ومع ذلك يبقى عندنا حنينٌ لأن نتصرّفَ معه إمّا كعبدٍ يخشى عقابَ سيِّده، أو كأجيرٍ ينتظرُ أجرةَ عملِه من ربِ العمل. أما الابنُ فلا يبتغي إلا رِضى أبيه، وإن ناله ملِكَ الدُنيا بما فيها، ويسوع قد كشفَ لنا هذا السِرَّ المكتوم منذ الدهور. ولا توجد شروطٌ للأبوّة والبنوّة بين الله وبيننا، إذ لا يُطلب منّا شيءٌ لنكون أبناءَ الله، بل لأننّا أبناءُ الله يُطلَب منّا شيءٌ ، أي أننا قد مُنِحنا البنوّةُ في المعمودية وحَصلْنا على القداسةِ دون أن نجاهِدَ جهاداً روحياً أو نحيا حياةً روحية، إلا أنّنا ننسى أننّا قدّيسّون، فيأتي الجهادُ الروحي والحياةُ الروحية ليُّذكِرانا بقداستِنا. فالمعموديّةُ ليستْ لمغفرةِ الخطايا فقط، بل هي صكُّ ولادةٍ يعترِفُ بموجبِه الله بأنّنا أبناؤه، فيُصبِح لنا وجودٌ وكيان.
فالأسبوعُ العظيم إذاً هو أسبوعُ الفرح، لأنه كشفَ لنا سرَّ الحب. ولأن من يُحِب يدفعُ دوماً الثمنَ الذي يقبُضُه المحبوب، نجِدُ في هذا الأسبوع آخرَ طريقةٍ لدفعِ الثمن، والتي تظهَرُ لنا أن الثمنَ يزدادُ كلّما ازدادَ الحبُ، وعندما يُصبِحُ الحبُّ مُطلقاً يُدفَعُ الثمنُ بالمطلق أيضاً، والتعبيرُ الأكبر عن هذا الثمن هو حياتُنا لذا فإنَّ يسوع قد "أسلمَ الروح" على الصّليب.

إذاً، يبدأ الأسبوعُ العظيم بقيامةٍ وينتهي بقيامة، وما بيْن القيامَتيْن نجدُ إيقاظاتٍ وتنبيهاتٍ لنا، من خلال أشخاصٍ لم يفهموا حبَ الله. على سبيلِ المِثال، عندما سكبتْ المرأةُ الخاطية الطيبَ على أقدامِ يسوع، امتعضَ التلاميذُ من هذا التبذير، فأجابهم: "لأنه غُفِرَ لها كثيراً أحبّتْ كثيراً"، أي أن محبتَها كانتْ جواباً على غفرانِ الربّ لها وليس العكس، لأنه لا يُطلَب منّا شيءٌ لنحصلَ على كلِّ شيء، بل لأنّنا نحصلُ على كل شيءٍ نقوم بفعلٍ مُعيَّن. وكلُّ الأديان تُعَلِّمُ أفرادَها أنّ عليهم أن يبادِروا هم بالأفعالِ ليحصُلوا على النتيجة المرجُوّة، لذا تُوجَد لدِيهم ما يُعرَف بالفَرائض. أمّا في المسيحية فلا توجد فرائضٌ، والحياةُ الروحية وُجِدت فقط لتذكرَنا أنّنا حاصِلون على كل شيء، ومن غير الطبيعي ألا نحّب من يعفينا من كلِّ دُيونِنا، والربُّ قد غفرَ للمرأة الزانية التي تشيرُ أصابعُ الدنيا إلى خطيئتِها مؤكدّة عدمَ براءتِها، فهلْ من حبٍّ أعظم؟ نعم سَنرى حباً أعظم.

في الشَعانين، دخلَ يسوعُ إلى أورشليم راكباً على جحشِ ابنِ آتان، إلا أن إنجيلَ متى يقول: "فذهب التلميذان وفَعلا كما أمرَهما يسوع وأتيا بالأتانِ والجحشِ ووضَعا عليهما ثيابَهما فجلسَ عليهما"، أي أن الربّ قد ركبَ على جحشٍ وأتانٍ في آن معاً، وهو أمرٌ غيرُ منطقّي على الإطلاق! إذاً هناك معنى مبطّن في هذا الإنجيل، إذ أنّ أحدَ الحيوانين يرمزُ إلى الأمم، في حين يرمزُ الآخرُ إلى اليهود، أي أنّ يسوع قد دخلَ إلى أورشليم ليخلِّصَ كلَ الناس من دون تمييز. وقد دخلَهُا ملكاً - إلا أن معاييرَ ملوكيتِه تختلفُ عن معاييرِ البشر- ليُنقذَ العالم، الذين كانوا ينتظرونَه والذين لم يكونوا في انتظارِه، مَن سمِعوا كلامَه ومَن لم يسمعوا. وهنا يبرُزُ أمرٌ جديد، وهو امتعاضُ المؤمنِ من خَلاصِ غير المؤمن، ذلك أنه ينظرُ بعينيِه لا بعينيّ الربّ، فتأتي المعموديةُ لتَستبْدِلَ عيونَنا البشرية بعيونِ الله لنرى مشيئتَه. والحبُّ ليس هيِّنا على الإطلاق، إذ إنَّ كلَّ حبٍّ فيه عطاءٌ، والعطاءُ الحقيقي هو "العطاء الموجِع" بحسَب الأم تيريزا. وإذا أردنا أن نفهمَ فكرةَ الآلام في الأسبوعِ العظيم، علينا أن نربطَها بفكرةِ العطاء. فإن أعطينا فقيراً ما نحنُ بحاجةٍ ملّحةٍ له نشعرُ بوجع ٍكبير، فكيف إذاً عطاءُ الله الكامل؟ حتماً هو مرفقٌ بالألم، وخاصة إذا كان من يُعطيه يجهلُ قيمةَ العطاء. ونحن البشر عندما نُعطي مَن لا يقدِّر قيمةَ العطاء نشعرُ بتألّم، فنمتنعَ عن هذا الفعل تجاهَ هذا الشخص مجدّداً، أما الربّ فيُعطينا، ونحن نجهلُ قيمةَ عطائِه، فيتوجعُ إلا أنّه لا يتوقفُ عن العطاء تجاهِنا، أي وجعٌ على وجعٍ وألمٌ على ألم. وهو يُريدُنا فقط أن نفرحَ بهذا العطاء، لذا فإن الأسبوعَ العظيم هو أسبوعُ الفرحِ لأنه أسبوعُ الحبّ.

وهناك إنسانٌ كان يرى الرَّبَّ يسوع في صورةٍ لا تشبه حقيقتَه، وعندما اكتشف أنَّ الصُّورة التي في خياله ليست حقيقيةً لم يحتمل، كان اسمه يهوذا. ويهوذا كان مُخلِصاً وصادقاً في اتِّباعه ليسوع، إذ كانت في باله صورةٌ ليسوع تبِعَها هو بصدقٍ، وعندما اكتشف أنَّ يسوع لا يشبه الصورة التي في خياله كان أمام خيارَين، إمَّا أن يغيِّر الصورة التي في رأسه ويتَّبِعَ يسوع الحقيقي وإمَّا أن يُلغي يسوع، وقد اختار الثَّانية لأنَّه أسهل على الإنسان بكثيرٍ أن يلغيَ الآخر من أن يغيِّر فكرَه، لأن فكرَهُ هو صنمُهُ ومن الصَّعبِ أن يكسِرَ الإنسانُ صنميَّتَه التي يعبدها. ولكن من كان يهوذا؟ لُقِّبَ يهوذا بالاسخريوطي – والاسخريوطي باليونانية تعني سيكاريوس أي الخِنجر- لأنَّه كان من الحزب أو المجموعة التي تسلَّحت لتُعيد حكمَ إسرائيل ومملكة داود بواسطةِ الخنجر، وتطرُدَ الرُّومان. وعندما رأى أنَّ يسوع يصنعُ العجائب، ويتكلَّم كمن له سلطانٌ وأنه المسيح، اعتقدَ أن الله قد أرسل يسوع المخلِّص لينتشلَهم من العبودية ويُعيدَ إليهم حكم إسرائيل الكبرى. إلَّا أنَّ يسوع، مسيحُ الله، لم يكن كذلك، وفي هذه الحالة فإنَّ أحدَ الثلاثة - يهوذا والله ويسوع - مخطئٌ. وبما أنَّ الله لا يخطئ، ويهوذا نفسه لا يمكن أن يخطئ بنظرِ نفسِه، فإنَّ المسيح برأيه هو من كان المخطئ، فمَسَحَهُ بثلاثين من الفضَّة. أي يهوذا كان يتبع مسيحَه لا مسيحَ الله. وعندما اكتشف أنَّ المسيح يسوع هو مسيحُ الله قرَّر أن يلغيَه لأنه لم يحتمل المحبَّة، لم يحتمل أن يحبَّ عدوَّه وهو تحت نيرِ العبودية، فقتَلَ بخنجَرِهِ محبَّة الله التي لم يحتملْها إذ باعها بالمالِ، لأنَّ الطَّريقة الأسهل للحصول على محبَّة الناس هي شراء محبتِهم، وهذه اللُّغة ليست مسيحيَّةً نهائيَّاً. ويهوذا قد أدركَ قيمةَ حبِّ الرَّبِّ يسوع في اللَّحظة التي أسلمَهُ فيها، وهذه اللَّحظة كانت البداية بالنِّسبة ليسوع لأنَّه لو تابَ يهوذا لصفحَ الرَّبُّ عنه، إلَّا أنَّه لم يفهم وآثر الانتحار. فبطرس قد أنكرَ المسيح ثلاثَ مرَّاتٍ، إلا أنه بكى بكاءً مراً، وكلَّفَه الرَّبُّ بعدَها بتصيُّدِ نفوسِ النَّاس.

وهناك أيضاً الجماهير الذين اجترحَ يسوعُ معهُم العجائِبَ. إنَّ النَّاس الذين مجَّدوا يسوع عندما صنع العجائب وقالوا: "لم يأتِ إنسانٌ مثل هذا قط" هم نفسَهم الذين صرخوا: "ليُصلَب"، لأنَّه لم يكن الذي أرادوه. وصحيحٌ أنَّ من يشعر بحبِّ الآخر له يفرح، إلَّا أنَّه يصبحُ تلقائياً مسؤولاً أمام هذا الحب، لأن المحبَّة تتحوَّل إلى الانتباه إلى الآخر وتلبية حاجاته دون أن يطلب، وهكذا صنعَ يسوع إذ عرف حاجاتنا ولبَّاها دون أن نطلب وبالرغم من رفضنا له. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين تلبيةِ حاجة من نحب وتلبية رغباته، فيسوع قد لبَّى حاجاتنا، أما نحن فنعتبرُ أنَّ على من يحبَّنا أن يلبِّي رغباتنا، وهذا ما أراده يهوذا. والإنسان الرُّوحاني هو الذي يعرف ماهي حاجاته ويفصل بينها وبين رغباته وبالتالي تتغيَّر أولوياته.

ويسوع قد أحبَّ يهوذا، وأحبَّ التلاميذ الذين خافوا، وبطرس الذي أنكره، ولكنَّهم قد اكتشفوا هذا الحب عندما قام وظهر لهم قائماً، لأنهم كانوا بحاجةٍ إلى برهان لأنَّهم بَشر. أما نحن، فما عذرنا؟ إنَّ البرهان قد حدثَ وقام المسيح من بين الأموات، فكيف لنا أن نتصرَّفَ وكأن المسيح لم يحبَّنا أو وكأننا لا نصدق؟ ويببقى يسوع يحبُّنا ويتوجَّع ونحن لا نقبله ولا نفهمه ونستهترُ به، ياله من حبٍّ موجع! ويأتي الأسبوع العظيم لينبِّهنا إلى هذا الحب.

ومن يُحَب ويفهم هذا الحب، يشعر بفرحٍ من جهة، ومن جهة أخرى يصير متمتِّعاً بأمرٍ لا يوصف، وهو القدرة على مسامحة من يخطئ في حقِّه. والقداسة هي أن تتغيَّرَ نظرتنا للأمور بسببِ حالة الحبِّ التي نحياها، بل بسبب حالة المحبوبيَّة التي نعيشها إذ لا يُطلَب مِنَّا شيءٌ سوى أن نتلقَّى محبَّة يسوع. وكلُّ من قبل حب يسوع واقتنع به، يصبح بدوره مُحبّاً للناس، ويتألم ولكن دون تذمُّرٍ وهو ما يزرعه فينا حبُّ الله لنا. ويأتي يومُ الصَّلب الذي لا يُصدَّق، إذ استهزأ النَّاس بيسوع وشمتوا به وعملوا على تذكيره بالعجائب التي صنعَها وأظهرَ سلطانَه من خلالها، وطالبوه بالنزول عن الصَّليب ليصدِّقوا أنَّه ابن الله، فما كان منه إلا أنَّ أجاب بقوله: "اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون"...
ملاحظة : دُوّنَ المضمون من قبلنا بتصرّف
الرياضة الروحية السنوية في دير سيدة البير- بقنايا، السبت 29 آذار 2014



https://www.youtube.com/edit?o=U&video_id=vkZHg5ab2Ak
https://www.youtube.com/edit?o=U&video_id=YcJspLSIhpE
2/3/2013 "الإيمان والأمانة" الإنسانُ المؤمنُ هو إنسانٌ قد قبلَ كلمةَ الرَّبِّ
"الإيمان والأمانة"
للأب ابراهيم سعد
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
مركز سيّدة العناية، بيت المحبة - أدونيس، جبيل

2/3/2013


الأمانةُ هيَ أن يكونَ الإنسانُ أميناً. وأوَّلُ من وُصِفَ بـ"الأمينِ" في العهدِ القديمِ كانَ ابراهيمُ، الذي آمنَ فحُسِبَ لهُ برّاً. أمَّا في العهدِ الجديدِ فقد وُصِفَ يسوعُ بـ"الشَّاهدِ الأمينِ" في سفرِ الرُّؤيا. يعتقدُ النَّاسُ أنَّ من يؤمنُ هو فقط من يُصَدِّقُ أنَّ اللهَ موجودٌ، متناسين أنَّهُ لا فرقَ بين عبارَتَيْ "اللهُ موجودٌ" وَ"اللهُ غيرُ موجودٍ"، فعبارةُ "اللهُ غيرُ موجودٍ" تنطلقُ عمليَّاً من وجودِ اللهِ، وهي تعني أنَّني لا أريدُ أن أقيمَ علاقةً مع اللهِ، ولا أريدُهُ أن يدخلَ تاريخي. إنَّ مشكلةَ الملحدينَ الحقيقيَّةَ ليست مع اللهِ، بل مع النَّاسِ الذين يدَّعونَ الإيمانَ باللهِ وبوجودِهِ، ويتصرَّفونَ بخلافِ ما يتكلمون، بخلافِ كلمةِ اللهِ. وهو ما يؤدِّي بالملحدِ إلى الابتعادِ أكثرَ عن الإيمانِ باللهِ، بحجَّةِ أنَّ المؤمنين بِهِ ينكرُونَهُ بتصرُّفاتهم.

فَأن نُصرِّحَ بإيمانِنَا بصحَّةِ الإنجيلِ أو عدمِ صحَّتِهِ سيَّان، ذاكَ أنَّ كلمةَ "أؤمنُ" في الحقيقَةِ تعني أنَّ الإنسانَ قدِ ارتضَى أن يقيمَ علاقةً معَ اللهِ. وأن يُقيمَ الإنسانُ علاقةً مع اللهِ يعني أن يُدخِلَهُ في تاريخهِ وعقلهِ، ويشركهُ في همومِهِ وأفراحِهِ وتفاصيلِ حياتِهِ، حتَّى تنموَ هذهِ العلاقةُ بالمعرفةِ. يدخلُ الإنسانُ في علاقةٍ معَ اللهِ فيعرفَهُ. يرمي نفسَهُ في هذهِ المغامرةِ بينَ طرفَيْن، اللهُ وهوَ. والتي تنطوي على فعلٍ وردِّ فعلٍ، فينتظرُ ردَّ فعلِ اللهِ على أفعالِهِ، وبذلكَ يكونُ هناكَ تبادلٌ بالمواقفِ والكلماتِ.
تَكمُنُ مشكلَتُنا الحقيقيَّةُ في أنَّنا غالباً ما نتعاملُ معَ اللهِ وكأنَّهُ صنمٌ، فندخلُ مَعهُ في علاقةٍ من جانبٍ واحدٍ، ونقومُ بأفعالٍ تجاهَهُ ونتناسى ردَّ فعلِهِ. ذاك لأنَّنا نعتبرُهُ "فكرةً مقدَّسةً"، وكثرةُ الحديثِ عن قداسةِ اللهِ تجعلُنا نشعرُ بأنَّنا أبعدُ ما يكونُ عنِ الوصولِ إِليهِ، كما هيَ الحالُ عندَ حديثِنا عن القدِّيسِينَ، حيثُ ننسى أنَّهم أناسٌ عاديُّونَ جدَّا مثلنا وأنَّه بإمكانِنا أن نكونَ مثلَهم. فالـ"مقدَّسُ" ليس مصبَّ نهرِ أفعالِنا، بل منبعَهُ. ننطلقُ من المقدَّسِ دوماً لأنَّنا مقدَّسين بالمعموديةِ، فنصلُ إلى علاقةٍ شخصيَّةٍ معَ اللهِ، أساسُها العشرةُ اليوميَّةُ. والعلاقةُ معَ اللهِ رابحةٌ دائماً، أمَّا المشاكلُ التي تتخلَّلُها فهي حتماً ناتجةٌ عن تجاهلِنا لردَّةِ فعلِ اللهِ، أو امتناعِنا عن الردِّ على أفعالِهِ. وبما أنَّهُ من الطَّبيعي أن تمرَّ أيُّ علاقةٍ بين اثنين بفتراتٍ من الصُّعودِ وأخرى من الهبوطِ، فعلَينا ألَّا نخشى هذا التَّأرجُحَ في موضوعِ الإيمانِ. أمَّا التَّشكيكُ في وجودِ اللهِ فينجمُ عن تشوُّهٍ في العلاقةِ نتيجةً لخطأ مرتكبٍ من أحدِ طرفَيْها، وبما أنَّ اللهَ معصومٌ عن الخطأ، فهذا يعني أنَّ التشوُّهَ ينجمُ عن خطأ الإنسانِ.

والإنسانُ المؤمنُ الذي يدخلُ في علاقةٍ مع اللهِ هو إنسانٌ قد قبلَ كلمةَ الرَّبِّ، لأنَّهُ حاضرٌ في كلامهِ وروحِهِ. أمَّا المستوى الأعلى من الإيمانِ فهو أن يقبَلَ الإنسانُ كلمةَ اللهِ ويحياها بمجرَّدِ أن يَعِدَهُ بها، وحتَّى قبْلَ أن تتحقَّقَ. فابراهيمُ كان غنيَّاً وذا عشيرةٍ وأراضٍ وسلطانٍ، إلَّا أنَّ اللهَ سألهُ أن يتركَ مالهُ وعشيرَتَهُ وأرضَهُ وسلطانَهُ، وَوعدَهُ بما هو أفضلَ، فاستجابَ ابراهيمُ دونَ أن يطلُبَ أيَّ برهانٍ أو ضمانٍ، وَ"آمَنَ فحُسِبَ لهُ برَّاً". فالإيمانُ إذا يعني قبولَ كلمةِ اللهِ وكأنَّها قَدْ حدثَت وستحدُثُ، والأمانةُ تَفترِضُ بقاءَنا على ما كُنَّا عليهِ منذُ البدايةِ.

في كثيرٍ من الأحيانِ لا نُدخِلُ اللهَ في تاريخنا بصورةٍ مستمرَّةٍ، بل تكونُ علاقتُنا بهِ أشبَهَ بمحطَّاتٍ، تزدادُ قوَّةً أيَّامَ السَّبتِ والآحادِ بفعلِ الرِّياضاتِ الرُّوحيَّةِ، ثمَّ تَضعُفُ شيئاً فشيئاً خلالَ الأسبوعِ، أي أنَّنا نتعاملُ مع الزَّمنِ على أنَّهُ روزنامةٌ، ممَّا يقتلُ الحبَّ في نفوسِنا. والكاتبُ في سفرِ الرُّؤيا يوجِّه عَتَباً للمسؤولِ عن الكنيسةِ قائلاً: "لَومِي عليكَ أنَّكَ نسيتَ محبَّتَكَ الأولى، لأنَّكَ أصبحتَ تعتبِرُ الزَّمَنَ أوراقاً نمزِّقُها".

تنبعُ أهميَّةُ ابراهيمَ في الحقيقةِ من كونِهِ الشَّخصَ الوحيدَ المتَّفَقَ عليهِ من قبلِ الدِّياناتِ السَّماويةِ الثَّلاثِ، في وقتٍ لم تتَّفقْ فيهِ حتى على اللهِ. فابراهيمُ هو المثالُ الأجلى عندَ حديثِ الدِّياناتِ عن الإيمانِ، وهوَ الجوابُ الأمثلُ على السُّؤالِ الأهمِّ: "كيفَ أُترجِمُ إيماني بسُلُوكي؟". والسُّلوكُ لا يعني الأعمالَ فقط، بل هو المسيرةُ الأشملُ. فالعملُ جزءٌ من السلوكِ، وهوَ ضوءٌ يخفتُ ثمَّ يختفِي فنختَفِي مَعَهُ، أمَّا السُّلوكُ فهوَ التَّرجَمَةُ الأبعدُ للإيمانِ.

تُراوِدُنا أحياناً بعضُ الأسئلةِ مثلُ؛ "هل من ضَماناتٍ لكلمةِ الرَّبِّ؟ وهل من تأكيدٍ على صحَّتِها؟". إنَّ ضمانةَ كلمةِ الرَّبِّ نابعةٌ منها أصلاً. فإذا نظرْنَا إلى الموضوعِ من منظارِ "قصَّةِ حبٍّ بينَ شخصَيْن"- حيثُ لا تخلو علاقةُ حُبٍّ من المشاكلِ- نجدُ أنَّ المحبَّ يصدِّقُ كلَّ كلمةٍ يقولها محبوبُه، ويعتبرُها حقيقةً وواقعاً بمجرَّدِ أن ينطقَ بها دونَ الحاجةِ إلى استفسارٍ أو ضماناتٍ. فكيف بالحريِّ كلمةُ اللهِ؟ فكما الأمطارُ والثُّلوجُ تروي جوفَ الأرضِ فيُزهِرَ سطحُها، كذلك تروي كلمةُ الرَّبِّ قلوبَ المؤمنينَ عاملةً فيهم.
يقولُ الرَّبُّ على لسانِ أشعياءَ النبيّ: "طُرُقي غيرُ طُرُقِكم، أفكاري غيرُ أفكارِكُم، كبعدِ المشرقِ عن المغربِ هكذا طُرُقي بعيدةٌ عن طُرُقِكم وأفكاري بعيدةٌ عن أفكاركم". فهناكَ من النَّاسِ من يُنكِرُ فعلَ كلمةِ الرَّبِّ في بعضِ الأشخاصِ أحياناً. ولكنْ من نحنُ لنقرِّرَ ذلك؟ كيفَ لنا أنْ نعرفَ بمكنوناتِ القلوبِ وخفاياها، لنحكُمَ إنْ فعلَت فيها كلمةُ الرَّبِّ أم لم تفعلْ بعدُ؟ لسنا نحنُ من يقرِّرُ الزَّمنَ الذي تفعلُ فيه الكلمةُ. نحنُ نسقي وردَتَنا واللهُ ينميها، ولا علاقةَ لنا بما يزرعُ ويسقي غيرَنا أو بمتى تنمو غرسَتُهُ.
عندما وصلَ نيوتن إلى نظريَّةِ الجاذبيَّةِ اعتبرَها صحيحةً، والنَّاس لم يُشكِّكوا بمنطقيَّتِها إذ رأوا طائراتٍ تحلِّقُ في السَّماءِ، إلَّا أنَّ نيوتُنَ لم يكن ينتظِرُ منهم برهاناً. كذلكَ البرهانُ على فعلِ كلمةِ الرَّبِّ فينا يأتي من داخلِنا، وليسَ من عندِ اللهِ. فبرهانُ فعلِ الكلمةِ يكونُ جليَّا عندما يراهُ النَّاسُ فينا، وهنا يرتبطُ الإيمانُ بالأمانةِ، أي بكَونِنا أمناءَ. وأكبرُ مثالٍ على ذلكَ هوَ نبوءَةُ أشعياءَ النبيّ "ها هي العذراءُ تحبلُ وتلدُ ابناً وتدعو اسمَهُ عِمَّانوئيل." قَدْ صدَّقَ أشعياءُ نبوءَتَهُ ولم ينكرْها أو يتراجعْ عنها، حتَّى وإن تأخَّرَت 700 عامٍ لكي تتحقَّقَ. إذْ حبلَتْ مريمُ العذراءُ وَولدَت عِمَّانوئيل. وهكذا يبقى الإنسانُ الأمينُ على وعدِهِ وكلامِهِ مهما طالَ الزَّمنُ، لأنَّ الزَّمنَ ليسَ أوراقَ رُوزنامةٍ تتهاوى تباعاً، بل فرصةً لتأكيدِ وجودِ علاقةٍ بيننا وبينَ الرَّبِّ.

يروي لنا الإنجيلُ أنَّ قائداً لجُندِ الرُّومانِ مرضَ غلامُهُ، والتقى بيسوعَ في الطَّريقِ، وسألَهُ أن يشفيَ الصَّبيَّ المريضَ، فأجابه يسوعُ بأن يسبِقَهُ إلى البيتِ. فما كان من الوثنيِّ إلَّا أن قالَ "قُلْ كلمةً فيَشفَى". قدْ أدركَ القائدُ الرُّومانيُّ أنَّ كلامَه مستجابٌ دوماً لأنَّ لهُ منصِبَاً أرضيَّاً، فكيفَ بالحريِّ يسوع المسيح؟ عندئذٍ أجابَ يسوعُ قائلاً "لم أرَ إيماناً كهذا في إسرائيلَ كلِّها سوى إيمانُ ابراهيم". وذَهَبَ القائدُ إلى بيتِهِ ليجدَ غلامَهُ معافى.

هناكَ أمرٌ آخر مهمٌّ، وهوَ الثَّباتُ في الإيمانِ. يقولُ بطرس الرَّسولُ في رسالتِهِ إلى أهلِ قولوسي – مدينةٌ تحوَّلَت لاحقاً إلى كنيسةٍ- "إنْ ثبتُّم في الإيمانِ متأسِّسِينَ، وَراسخِينَ غيرَ حائدِينَ عن رجاءِ الإنجيلِ، تنالونَ ما تنالون". ومشكلةُ من يعاني من تزعزعِ الإيمانِ تنبعُ من داخلِهِ، وليسَ من السَّببِ الذي أدَّى إلى هذا التَّزعزعِ. فالإنسانُ يؤمنُ بالرَّبِّ ليسَ بسببِ تصرُّفاتِ النَّاسِ، التي قد تكونُ أحياناً إشارةً أو دليلاً على فعلِ كلمةِ اللهِ، فتُنَبِّهُنا. لكن إنْ ذَلُّوا هُم، فهذا لا يعني أن نَذِلَّ نحنُ بدورِنا، لأنَّ هناكَ مسافةً بيننَا وبينَ أقربِ المقرَّبينَ إلينا، مسافةً لا يجبُ أن تَنعَدِمَ إلَّا في علاقتِنا معَ الله. لا يقعُ من يثبُتُ في الإيمانِ راسخاً ومُقترِناً بكلمةِ اللهِ، وهنا الأمانةُ. أن نؤمنَ بالرَّبِّ أي أن نأتَمِنَهُ على حياتِنا، ونكونَ أمناءَ على موقفِنا تجاهَهُ. فالإيمانُ إذاً هو أنْ نأتَمنَ ونُؤتَمَنَ.

تَتَخلَّلُ مسيرتَنا اليوميَّةَ دائماً تحدِّياتٌ دائمةٌ مع اللهِ. فالرَّبُّ يتحدَّانا يوميَّاً إمَّا بمواقفَ أو بأشخاص، وتكمنُ المشكلةُ في تغيُّرِنا تجاهَ الرَّبِّ حينها. "لاشدَّةَ ولا حزنَ ولا ضيقَ يفصلني عن محبَّةِ المسيحِ" يقولُ بولس الرَّسول. إذاً نحنُ لم نُمنَح استثناءاتٍ فيما يخصُّ الإيمانَ. تَعامُلُ اللهِ معنا ودخولُهُ في تاريخنا اليوميِّ لا يعني أن يتجلَّى أمامَنا مادِّيَّاً باستمرارٍ، فهوَ يظهرُ لنا من خلالِ النَّاسِ الذين يمرُّون في حياتِنا، والأحداثِ التي نواجِهُها ونحنُ من يقرِّرُ ردةَ فعلِنا على ظهورِهِ. فإذا قرَّرنا أن نُخلِصَ لهُ، وواجهنا شخصاً آخرَ قرَّرَ عدمَ الإخلاصِ، هذا لا يعني أن نُعيدَ النَّظرَ في قرارِنا، فنكون كمن يدخلُ في علاقةِ حبٍّ، ويرى غيرَهُ يعاني ألمَ الهجرانِ والخيانةِ، فينكر وجودَ الحبِّ متناسياً أنَّهُ أصلاً يحبُّ. فبالرَّغمِ من أنَّ البشرَ جميعَهُم يخونون اللهَ باستمرارٍ، الله ُلايُعمِّمُ ولا يفقدُ إيمانَهُ بنا. علينا دائماً أن ننتظِرَ فعلَ اللهِ تجاهَنا لكي نقومَ بردَّةِ الفعلِ. فإذا كانَ فعلُ اللهِ هو أن يتقبَّلَنا ليلاً ونهاراً بالرَّغم من كلِّ خطايانا وسقطاتِنا وذلَّاتِنا ووعودِنا الكاذبةِ تجاهَهُ والتي ننكُثُها دوماً، ويبقى على العهدِ، يكونُ هوَ الأمينُ بنهايةِ المطافِ. ليسَ المهمُّ أن نؤمنَ نحنُ باللهِ، المهمُّ أن يؤمنَ اللهُ بنا، وأن نصدِّقَ دائماً أنَّه مؤمنٌ بنا. يؤمنُ اللهُ بنا لأنَّهُ لم ولن ينسَ محبَّتَهُ الأولى، لذلكَ علينا أن نَثبُتَ فيهِ أمامَ الصِّعابِ والمشاكلِ والشُّكوكِ، لأنَّنا أصلاً لا نستطيعُ شيئاً بدونِهِ.

وكما أنَّ جميعَ الكائناتِ الحيَّةِ تحتاجُ إلى تغذيةٍ ورعايةٍ مستمرَّةٍ لكي تنموَ، كالطِّفلِ الذي يولَدُ صغيراً فيكبرَ بالاهتمامِ والتَّغذيةِ، كذلك علاقَتُنا بالرَّبِّ تحتاجُ إلى غذاءٍ ورعايةٍ، وغذاؤُها هو كلمةُ اللهِ التي تصلُنا محمولةً من الرُّوحِ القدس وحاملةً لهُ. يقول ُبولس الرَّسول: "هل أنتم أخذْتُم الرُّوحَ بالأعمالِ والنَّاموس؟ أم أخذتم الرُّوحَ بسماعِ خبرِ الإيمانِ وقبولهِ؟". وخبرُ الإيمانِ هو الإنجيلُ، كلمةُ اللهِ، الذي يُغذِّي علاقَتَنا باللهِ. من الصَّعبِ جدَّاً أن نتكلَّمَ عن الإيمانِ والأمانةِ دونَ أن تكونَ العلاقةُ مَسقيَّةً بكلمةِ اللهِ يوميَّاً، وبغيرِ ذلكَ تجفُّ العلاقةُ وتبدأُ المشاكلُ. وكلمةُ اللهِ تصلُنا بعدَّةِ أوجهَ، إمَّا مكتوبةٌ ومسموعةٌ في الإنجيلِ، أو متحرِّكةٌ نلتقي بها في حياتِنا على هيئةِ أشخاصٍ، أو على هيئةِ أسرارٍ وقرابينٍ نتناوَلها في القدَّاسِ الإلهيِّ. وكلمةُ اللهِ التي نقرؤها في الإنجيلِ تُظهِرُ لنا بوضوحٍ مفهومَ الفعلِ وردَّةِ الفعلِ بيننا وبينَ اللهِ. ولكن علينا أن نقرأَ الإنجيلَ بتأنٍّ وانتباهٍ كاملٍ، وكأنَّهُ مرسلٌ لأمرِنا وحدِنا شخصيَّاً، ليُخبرَنا عن العلاقةِ التي تربطُنَا بالله، كأيِّ رسالةٍ شخصيَّةٍ وصلَتنا من قريبٍ أو صديقٍ. فإن كنَّا لا نسرقُ ولا نكذبُ وقرأنا عن السَّرقةِ والكذبِ، هذا لا يعني أن نتجاهلَ ما نقرأُ، بل علينا أن نُمعنَ القراءةَ لتصِلَنا كلُّ كلمةٍ. وإذا ما قرأنا في الإنجيلِ قصَّةَ يسوعَ على الأرضِ، لا يكفي أن نكونَ متفرِّجاً خارجيَّاً كمن يشاهدُ فيلماً مصوَّراً، بل علينا أن نحاولَ جاهدينَ أن نحيا معَهُ في القصَّةِ ونكونَ جزءاً منها بقراءَتِنا لها. وبقراءَتِنا اليوميَّةِ للإنجيلِ تُسقَى علاقَتُنا مع الرَّبِّ من خلالِ بحثِنا بين سطورهِ عمَّا يخصُّنا ويخصُّهُ.

وفي النِّهايةِ علينا أن نتعلَّمَ كيفَ نقبلُ محبَّةَ الرَّبِّ. اللهُ لا يطلبُ منَّا أن نحبَّهُ، لأنَّهُ يعرفُ أنَّنا بشرٌ وحبُّنا للآخرينَ مرتبطٌ بتصرفاتِهم تجاهَنا؛ إذا ما أخطأوا في حقِّنا كرهناهم. لذلك يُعفينا الرَّبُّ من دخولِ مغامرةِ الحبِّ المتبادَلِ معهُ، ويطلُبُ منَّا فقط أن نعرِفَ أنَّهُ يحبُّنا ونقبلُ محبَّتَهُ لنا، وعندئذٍ نتعلَّمُ نحنُ كيفَ نحبُّ الناسَ من حولِنا ونتحوَّلُ إلى كائناتٍ مُحِبَّةٍ. هكذا تفعلُ فينا كلمةُ اللهِ وتُغيِّر لنا حياتَنا.

ملاحظة : الرياضة الروحيّة السنويّة 2013 في دير سيّدة العناية، بيت المحبة، جبيل
دُوِّنَت المحاضرة من قِبَلِنا بتصرُّفٍ.