البحث في الموقع

لقاءات و نشاطات


رياضات روحية

24/3/2012 الرياضة السنوية في في دير الراهبات الأنطونيات - بكفيا نجعل من قلوبنا بيوتَ صلاة
" إجعل من قلبك، بيت صلاة"
مع الخوري إيلي غزال
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "اُذكرني في ملكوتِك"
المجد لله، دائمًا لله.

24/3/2012

صيام مبارك للجميع.

في هذه الفترة، التّي نتحضّر فيها للقيام بمسيرة الصّعود صوب أورشليم فنعيش القيامة مع الرّبّ يسوع المسيح، نقوم معه من نزف جروحاتنا وآلامنا، ونقوم من ذواتنا، فنعيش معه حقيقة القيامة، تستحقّ كلّ كلمة من كلمات. عنوان موضوعنا، شرحًا مفصَّلاً:"إجعل من قلبك، بيت صلاة".
إنّ كلمة "اجعل" هي فعل أمر وماضيه "جَعَلَ"، وتشير إلى وجود شيءٍ معيّنٍ بين أيدينا وعلينا أن نصنع منه شيئًا آخر نحن في حاجةٍ إليه. نحن لا نصنع أمورًا نحن بِغِنى عنها، أو لا معنى له، فمثلاً إن كنّا نملك خشبًا ونحن بحاجة إلى طاولة في منزلنا، نستخدم هذه القطع الخشبيّة لصناعة ما نحتاجه. وبالتّالي كلمة "اجعل" تشير إلى وجود حاجة معيّنة.

إنّ عبارة "اجعل قلبك" تعني أنّه علينا الذهاب إلى مهندس القلب فهو يعلم ما يحتاج إليه القلب كي يعمل بشكلٍ صحيح إذ إنّه هو الّذي صنعه. إنّ كلمة القلب تشير إلى الداخل، إلى الباطن. يقول الكاردينال جوزيف راتزينغر عن القلب إنّه محور وجود البشر، أي أنّ الانسان يعمل ويتحاور ويفكّر نتيجة العمق الموجود في داخله، وبالتّالي، يندمج القلب مع الفكر والمشاعر. فإن لم يَدمُج الانسان فكره ومشاعره ليشكِّلا عمقه وقلبه وشخصيته، يحصل شرخًا فيه، ويصبح الأمر مقتصرًا إمّا على المشاعر فقط، وإمّا على المعرفة فقط. فعلى العقل والأفكار والمشاعر أن تُدَوزَن من قِبَل الانسان فيصدر عنه أمورًا ذات معنى وفائدة، عميقة ودائمة. إن ثمانين بالمئة من المشاعر هي خاطئة. هناك تقريبًا أربعين في المئة من كلامنا يحتوي على مشاعر:"أشعر أنّ"، وإنّ استخدام هذه الكلمات تدلّ على أنّ المشاعر والغرائز هي الّتي تسيّرنا. أريد أن أنصحكم بأمر هو نتيجة اختباري الشّخصيّ مع كلمة الله: أَدخِل كلمة الله إلى عقلك واجعلها تدوزن مشاعرك، فتُصلح أمورَكَ. إنّ ذلك قد تطلب منّي مجهودًا وتعبًا لكنّني وصلت إلى مبتغاي في النّهاية. عليك أن تدوزن عقلك بما أنتَ مرتبط فيه أي بكلمة الله فهي تراقب المشاعر وتُدوزِنها. إنّه لأمر خاطئ أن تستند علاقة حبٍّ بين اثنين على النّظرة الأولى إن كان الشخص فارغًا من الداخل،كما أنّه من الخطأ السير خلف مشاعري من دون الاستعانة بعقلي. لذلك على عقلي أن يسيطر على مشاعري، وإن تمّ الانسجام بين العقل والمشاعر في علاقة حبّ فتوّقعوا الخلق والابداع في الحبّ، والعظمة والنّعمة الّتي يسكبها الرّبّ في هذه العلاقة. إذًا القلب عند راتزينغر يشير إلى شخصيّة الانسان العميقة. أمّا بحسب توما الأكويني، فالقلب هو غريزة إلهيّة، وبالتّالي فهو يتفق مع ما قاله الكاردينال راتزينغر. أمّا القلب بالنسبة إلى أوغسطينوس فهو مسكن الله في داخلنا. أمّا نحن الشرقيين، في البلاد العربيّة وفي لبنان، فنتكلّم كثيرًا عن المشاعر ولدينا غزارة في الدّموع والأحاسيس، ومن الأفضل أن ندوزنها فتصطلح. أمّا الآن، فننتقل إلى مفهوم القلب عند اليهود. بالنسبة إليهم، إنّ القلب لا يُقصد به المشاعر أبدًا بل يشير إلى العمق المتعلّق بالله، هذا ما تعلّموه منذ أيّام إبراهيم، وبالتّالي أصبحنا نفهم الآن، قساوة اليهود على المسيح، إذ إنّهم لم يُدخِلوا المشاعر في قضيّته وفكّروا فيها فقط بطريقة عقليّة ومعرفيّة بحتة، فلو أدخلوا بعض المشاعر إلى هذه القضيّة لشابهوا العذراء مريم. الأساس والمهمّ عند اليهوديّ هو سيطرة الإيمان، لذلك نقرأ في الكتاب أنّ الله يطلب من المؤمن أن يعطيَهُ قلبه، ويقصد بها الله أن ينتبه المؤمن إلى حضور الله، أي: ليكن قلبك موجّهًا صوب الله وعيناك أيضًا. القلب المتحجر والجامد يشير إلى فكر منغلق. إذًا القلب عند اليهوديّ يعني الفكر والعمق، وبالتّالي يقتصر فيه الكلام على الجانب العقليّ، ويَظهر هذا الأمر في كلام يسوع. فعندما كان يسوع يقوم بأمر ما أو يقول شيئًا، كان يقول لليهود، عندما كانوا يعتبرون تصرّفه خاطئًا: لماذا تفكرّون هكذا في قلوبكم؟ وكان يسوع أكثر قسوةً في كلامه مع اليهود حين قال لهم: يا قساة الرّقاب والقلوب، يا صُمَّ الآذان. أمّا في ما يتعلّق بالجانب النفسي الّذي يكمن خلف تطبيق اليهود للشريعة، فقد كانوا ينظرون إلى الأمور انطلاقًا من نفسيّاتهم، ويتّخذون القرارات ويسيرون وفقها منغلقين عليها. إنّ القلب هو مركز الذّات أي أنّ الانسان يتحاور مع نفسه، ويتحمّل مسؤوليته، وينفتح على الله، أو ينغلق على ذاته. قال إبراهيم في نفسه: أيولد ولدٌ لابن مئة سنة، بهذا الكلام عاد ابراهيم إلى عمقه، إلى ذاته، إلى قلبه. إنّه يفكِّر بالموضوع إذ إنّ الله قد وعده أنّه في السنّة المقبلة سيكون لديه وَلَد. لذا عندما يعود الانسان إلى ذاته، عليه أن يقرّر ما الذّي سيقوم به. إنّ الانسان هو مصدر شخصيّته الواعية. إنّ قلب الانسان هو شخصيّته الّتي تظهر للعلن والتّي تتخّذ القرارات وينفذّ من خلالها القرارات الّتي اتّخذها، العاقلة والحرّة. إنّ القلب هو موطن اختيارات الانسان الحاسمة أي قراراته، موضع النّاموس غير المكتوب. إنّ غير اليهود، أي الامم الّتي بلا الشريعة، تعرف بالفطرة ما تأمر به الشريعة وتطلبه. هنا نتكلّم عن الضمير، الّذي هو أيضًا يشكّل قلب الانسان، أنّه وعي الانسان لما يقوم به. هل يعي الانسان ما يقوم به أم لا، أي هل أنّ ضميره واعٍ أم لا؟ إذًا في العهد القديم كما في العهد الجديد، القلب هو الموضع الّذي يلتقي فيه الانسان بالله. هذا اللقاء بيسوع ابن الله يصبح كاملاً وبطريقة فعليّة في القلب البشريّ. جاء يسوع وعلّمني كيف يسير قلبي ضمن تعليم الرّبّ ووصاياه.

إنّ كلمة بيت تحمل عدّة معانٍ. أوّلاً البيت هو البناء: أرضيّة، جدران وسقف، إنّه يتألف من غُرف ويسكنه النّاس أي العائلة. ثانيًا البيت هو العائلة الانسانيّة أي رجل وامرأة وأولاد تجمعهم المحبة والتّضامن، إنّهم يؤلفون كنيسة صغيرة. عادة يجمع البيت كلّ أفراد العائلة بالحبّ. إنّ البيت هو مملكة العائلة حيث الطمأنينة، وراحة البال. أحقق ذاتي في البيت، أو من خلاله، ونحن نقول أنا أشبه عائلتي، أبي، أمّي، أقربائي. إذًا البيت هو مِن بشر وليس من حجر. ثالثًا، البيت هو الرّحم فيه نجد أشخاصًا لبناء الحياة. إنّ الانسان يقوم بتغيير رعايا كثيرة غير أنّ البيت يبقى رعيّة ثابتة، لا تتغيّر. منازلكم هي هياكل للرّوح القدس، قدِّسوها بالحقّ والرّحمة والصلاة. إنّ صوت الله حاضر في منزلي وفي عائلتي. خلق الله الانسان على صورته ومثاله ووضع صوته في قلبه، أي في ضميره كي ينشر الانسان فكر الله، صوت الله، كينونة الله البشريّة. الله روح لكنّ الله قال لنخلق الانسان على صورتنا كمثالنا. إنّ صورة الله هي الثّالوث، وصورة الثالوث هي العائلة: الرّجل والمرأة والبنون، ثلاثة أقانيم، أيّ ثالوث. ومثال الله هو الوحدة والحبّ. إنّ العروسين، الرّجل والمرأة يصبحان واحدًا في الزّواج. إنّ الرّبّ يقول: تصيران جسدًا واحدًا لا اثنين. كي يصيرا واحدًا، على الرّجل أن يموت من أجل إمرأته، وعلى المرأة أن تموت من أجل زوجها. وعندما يكون الزوجان برأي واحد وكلمة واحدة وفكرٍ واحد، يختبران معنى أن يكونا واحدًا وعندئذٍ يتمكنان من فهم وحدة الله. إنّ الله هو عائلة، وليس فكرة فلسفيّة أو عدديّة. إنّ الله هو عيش ولكي تستطيع أن تفهم الله عليكَ أن تعيشه، لذلك فالعائلة الموّحدة تعيش الفرح، السلام والطمأنينة، القوّة، القرار، الشجاعة لا الخوف والشجار والضعف والتردّد. بهذه الطريقة، يباركنا الله، والله يُولد فينا وفي عائلاتِنا، وبالتّالي نصبح جسد الله على هذه الأرض. إنّ الرّبّ يتجَسّد فينا، لأنّنا منه خُلقنا ونحن على صورته ومثاله وإنّ روحَهُ فينا، شخصيّته فينا. قيل في قصّة الخلق: في البدء خلق الله الرّجل وحيدًا لكنّه عاد وأخذ ضلعًا من الرّجل وخلق له المرأة، فقال آدم عندما رآها: "هذه المرّة هي لحمٌ من لحمي وعظمٌ من عظامي. إنّها تُدعى إمرأة لأنّها من امرئٍ اُخِذت"، قال هذه المرّة لأنّه في المرّات السابقة عند استيقاظه، كان يرى الطبيعة. كلّ آدم، يولد على هذه الأرض يبحث عن ضلعه حتّى يجده. خلف الضِلِع يوجد القلب، إذًا المرأة هي قفص قلب الرّجل وبالتّالي على المرأة أن تُبقي الرّجل دافئًا إذ إنّها قفص قلبه. إنّها نعمةٌ كبيرةٌ أن أعيش أنا وعائلتي على هذا النحو في علاقة وحدة وحبّ. إذًا، عليّ أن أعيش الوحدة في البيت، والمثال هو الحبّ. هذه هي صورة الله الثالوث، مثاله الحبّ الذي يوحدّ. وأنا أدعو العروسين يوم إكليلهما كي يقولا لبعضهما البعض في كلّ يوم:"أنا أحبّك"، وعليهما أن ينمّيا هذا الحبّ لكي يعيشا الوحدة فيتعلّم منهما أولادهما التضحيّة والحبّ فيعيشا على مثالهما فيما بعد في عائلاتهم. إنّ الكنيسة تقوم بدورات إعداد للزّواج لكي يدرك الزّوجان مسؤولياتهما، غير أنّ البيت هو المدرسة الأولى والأخيرة لهكذا أمور.كانت امرأة قبل الخطيئة، لكن بعد الخطيئة أصبح اسمها حوّاء. لذلك نرى يسوع يقول لأمّه يا امرأة وكأنّه يقول للعذراء أنت حوّاء الجديدة، أي أنّها المرأة الأولى. أمّا شهود يهوه، فيأتون إلينا قائلين لنا إنّ يسوع لم يحترم والدته، إذ ناداها يا امرأة، إنّ ذلك غير صحيح. إنّ الرّبّ بمناداته لأمّه يا امرأة، يقول لها إنّها المرأة الطاهِرة إذ إنّ الله عندما خلق المرأة كانت طاهرة وقديسة لكنّ عندما أخطأت أصبح اسمها حوّاء. إذًا كلمة "يا امرأة" تعني الطّاهرة والقدّيسة. إنّ البيت المبني على صخرة المحبة كون يسوع في وسطه وأساسه وصخرته، يُنتج رسلَ المحبة أي أولادنا ليبشِّروا العالم. نشكر الله على هذه الشبيبة الحاضرة معنا اليوم، ونشكر الله على جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، إذ يزرعون كلمة الله من خلال هذه الرياضات ولقاءات التنشئة في بلدنا لكي يبقى لبنان بلد القداسة، بلد شبيبة مار شربل والحرديني ورقفا وبلد القديس يعقوب.كم أتمّنى أن نُكمل هذه الطريق بالقداسة. قال يسوع للسامريّة إنّه سيأتي يوم فيه يعبد المؤمنون الله لا في هذا الجبل ولا ذاك، إنّما أينما كان. لذلك عندما نزرع الله في قلوب أولادنا، نراهم يزرعون كلمة الله أينما حلّوا في بلادهم وفي بلاد الاغتراب أيضًا. لذلك حيث يوجد لبنانيّ، نرى الايمان، القوّة والازدهار، من حيث الاختراعات والنّمو، وحتّى أنّ رؤساء البلدان يفتخرون باللّبنانيين الموجودين في بلادهم. إنّ هؤلاء الشباب هم فخر لبنان، هذه هي نعمة لبنان، نعمة شبابنا، هذه هي نعمة ايمان أهالينا وتربيتهم المسيحيّة لنا، في هذه الارض المقدسة. إن الألفة بين الرّجل والمرأة إنّما هو بيت الحقيقة. إنّ البيت يجمع شمل العائلة، جماعة الصلاة، إنّه بيت يجعلنا نشعر بالحنين إليه. إنّ البيت هو ملجأ ومأوى، إنّه كفّ أمان وديمومة ضمن العائلة ويحميها أيضًا. لا أحد يرتاح إلاّ في بيته. في هذه المملكة الصغيرة، أي البيت، الأب هو الملك، الأمّ هي الملكة والأولاد هم الأمراء فيها.

إنّ أوّل منزل للإنسان هو حشا والدته. وكم أنّ هذا الحشا قادر على العطاء. عندما كنت صغيرًا، قرأت تقريرًا عن أمّ إلمانيّة أنّها عندما علمت أنّها حامل، غيّرت نظام حياتها ونظمّت وقتها وأصبحت تخبر جنينها عن كلّ ما تقوم به متحدثةً معه بصوتٍ مرتفع. وعندما كانت تجلس على كرسيّها الهزاز وقت قيلولتها، كانت تقرأ الإنجيل بصوتٍ مرتفع، وترتّل أيضًا، وقبل أن تُغمض عينيها، كان تلمس بطنها، وتنام.كان الجنين أيضًا ينام، وكان الجنين يصحو عندما تصحو والدته، فقد أصبح هناك وحدة بين الأمّ وجنينها في هذا البيت، على الرغم من أنّه ما زال جنينًا. وقالت له لا أدري إن كنت صبيًا أم بنتًا إذ في أيّامها لم تكن الآلات الحديثة والمتطوِّرة قد وُجِدت، لكنّي أنا أحبّك جدًّا وسوف أسعى وأقوم بكلّ ما يلزم كي تأتي بسلام إلى هذا العالم، وسوف أسعى لكي تأتي بصحة سليمة. وقبل أن يحين موعد الولادة ذهبت إلى المستشفى، طلبت من الطبيب أن يشرح لها كيف ستتمّ ولادتها وفي أيّ غرفة سيتمّ ذلك، وأين سيوضع الجنين، فأراها كلّ ما سألته وعند دخولها إلى غرفة حضانة الـمَولود حديثًا ، رأت أنّ كلّ الأولاد يَبكون مع أنّ كلّ شيء مجهزّ لهم. وعندما عادت إلى منزلها، أخذت تفكرّ في سبب بكاء هؤلاء الأطفال، فتوّصلت إلى ما يلي وهو أنّ هؤلاء الأطفال كانوا صامتين في أحشاء أمهاتهم لأنّهم كانوا يسمعون دقّات قلوب والداتهم. فعادت إلى المستشفى وتكلّمت مع الطبيب، وطلبت منه وضع صوت دقّات قلب في غرفة الحضانة عوض الموسيقى الهادئة. عندئذٍ، سكت الأطفال جميعًا إذ إنّهم شعروا بأمان وبسلام، إذًا كي لا يبكي أولادنا في معترك الحياة، وكي لا يخافوا ويصرخوا، علينا أن نعرف كيف نُنمّي لهم شخصيّاتهم، علينا أن نعطيهم من ذواتنا. فعندما أعطي أولادي القوّة والشجاعة، يكون ابني مثلي، شجاعًا وقوّيًا، قادرًا على مواجهة الصعوبات في الحياة. وكم أنّ هناك أولادًا مدلّعين أكثر من اللّازم، إذ نجدهم غير قادرين على إتخاذ القرارات وذلك يعود إلى أنّهم حصلوا على أمور لا حاجة لهم إليها ولم يحصلوا على ما يلزم و على ما هو ضروريّ. وقد شكى لي أحد الآباء في الرّعيّة عن ابنه المراهق والّذي ما زال يدرس، بأنّ زوجته اشترت لابنهما هاتفًا خليويًا من دون أن يكون له حاجةً فيه، اشترته له لأنّه بكى أمامها وهكذا تمّ كسر كلمة الأب. إنّ أولادنا ليسوا بحاجة ماسّة للهواتف الخليوية، إذ لا مسؤوليات كبيرة على عاتقهم، فيجب عدم شرائها لهم تمثلاً ببقيّة الرّفاق، فليس الآخرون دائمًا على حقّ. إنّ الرّبّ يسوع قال لنا إنّنا من هذا العالم ولكنّنا في الوقت نفسه لسنا من هذا العالم، فعلينا إذًا أن نُجيد اتّخاذ القرارات الصائبة. وكم هناك من نساء حوامل يتصرّفن كيفما كان، ويقمن بأعمال كيفما كان، وهنّ بالتّالي يعطين السّموم لأولادهنّ الأجنّة فيصبح الأولاد بعد ولادتهم، أولادًا غير مطيعين متصلبين في أرائهم.

إذًا قلبي هو بيت صلاة. كيف نصلّي وماذا نصلّي؟ نشكر الله في كلّ يوم على نعمة الحياة، نسبّحه ونمجدّه على كلّ نِعَمه، نحاوره كأنّنا أمامه وجهًا لوجه، نتكلّم معه، علينا أن نؤمن أن الله يسمع كلّ كلمة ننطق بها، ويفرح لحضورنا أمامه. نصغي في الصمت لله فيُطلعنا على كافة أسراره، ونحترم حضوره المليء بالبركات. إنّ الله يحترم هوّيتي وضغفي ومحدوديتي ومعرفتي مهما كانت، إنّه يحبني كما أنا، شرط أن أسير معه وفق مشيته. فإذا عاشرت الرّبّ وأصغيت له، سأغدو مثله لا محالة، والمثل يقول: "عاشر القوم أربعين يومًا، فإمّا أن تصبح مثلهم أو ترحل عنهم"، لذا أدعوكم إلى معاشرة الله أكثر. وعلينا أن لا نعيش كبقيّة النّاس، فعلينا أن نتذّكر يوميًّا كلام الرّبّ:"أنتم من هذا العالم، لكنّكم لستم من هذا العالم"، علينا أن نعيش بطريقة مختلفة عمّا يعيشه الآخرون. ففي سماء مسودّة ومظلمة، نستطيع دائمًا رؤية النّجوم الصغيرة المضيئة، فلنكن دائمًا هذه النّجوم المضيئة في هذه السّماء السّوداء الواسعة. علينا أن نتنوّر بالنّور، فلا يجب أن يشرق النّور، وأن نكون نحن غير مضيئين وغير ساطعين. فإذا سطع نور الرّبّ علينا يجب أن نكون مناراتٍ مضيئة. فكما تضيء الشمس على القمر، كذلك على روح الرّب أن يضيء علينا، فعلينا أن نتنوّر، وننير من حولنا، فلا يجب أن نكون بلا زيت، بل على زيتنا أن يفيض. علينا أن نلتقي يوميًّا بالرّب، أن نجدِّد موعدنا معه، وأن نتجدّد به. بالرّغم من كلّ أصوات العالم، والصور في هذا العالم، علينا أن نلتقي بعيدًا عنها مع الرّبّ. وكذلك بعيدًا عن هموم العمل وهموم النّاس، علينا أن نلتقي بالرّبّ. أبدأ لقائي معه برسم إشارة الصليب على وجهي. هناك صلاة نصلّيها في عيد الصليب في صلاة الغفران "الحسايّة"، وهناك أيضًا ترتيلة تقول بإنّه قبل أن أنام، أصلّي وأرسم إشارة الصليب، وأخلد للنّوم. عندئذٍ يأتي الشرّير، ليزرع في داخلي الافكار الشريرة، وأحلامًا سيئة، غير أنّه عندما يرى الصليب مرسومًا يهرب منّي حتّى وإن كنت نائمًا. إنّ إشارة الصليب، تجعل كلّ ما هو شرّير يهرب منّي أنا المؤمن. علينا التّرحيب بيسوع يوميًّا، وعلينا قراءة الانجيل يوميًّا، فنتأمّل بالآية التّي تستوقفنا وتنطبق على حياتنا. لنصغي إلى كلمات الرّبّ في قلوبنا ولنتركها تتسرّب إلى أعماقنا ولنعبّر له عن مدى شكرنا ومحبتنا له، ولنقطع له وعدًا وقصدًا لتجديد حياتنا على ضوء كلمته. وهكذا يأتي الرّبّ ويسكن قلوبنا، ولكن ليس في قلوبنا اللّحميّة. إنّ العهد القديم يقدّم لنا صورة رمزية فيقول لنا إنّ الوصايا كُتِبَت على لَوحَي حجر: كُتِبَت الوصايا على قلوب اليهود الحجريّة لذلك، قال الله لموسى إنّه سيجعل قلوب اليهود قلوبًا من لحم، أي قلوبًا لينةً. ونطرح السؤال على ذواتنا هل قلوبنا قاسية أم ليّنة؟ إنّ الرّبّ يريد أن يسكن في أعماقنا، في إنساننا، في كياننا. إنّ الرّبّ يقول لنا إنّه سيأتي إلى كلّ من يحفظ كلامه ويعمل به، وسيجعل فيه مسكنه، وسيتعشّى عنده برفقة الله الآب. ما أجمل أن يسكن الله فينا، وكم نحن محظوظون بذلك! فما أجمل تلك النّعمة! إنّ كلّ ما يطلبه الرّبّ مقابل ذلك هو أن نحفظ كلمته ونعيشها. عندما تجسّد الرّبّ، حضر إلى الهيكل وقام بقلب كلّ شيء وتغييره: فقد كسّر الطاولات، وطرد التّجار، وقال لهم: "بيت أبي بيت صلاة، جعلتموه بيت لصوص". إنّ هذا الهيكل تمّ هدمه ولم يتمّ إعادة إعماره. هُدِمَ الهَيكَل، وقد قال الرّبّ عن هذا الهيكل إنّه لن يبقى فيه حجر على حجر. بقيت الحجارة المدّمرة من هذا الهيكل وقد أصبح ذلك المكان يسمّى اليوم بحائط المبكى، يذهب إليه اليهود، ليبكوا دمار الهيكل. لكن العبرة الّتي نستنتجها من هذا الأمر، أنّ الرّبّ لم يعد يريد بيتًا من حجر إنّما يريدنا نحن كبشر. إذًا نحن بيت الرّبّ، لذا علينا أن نفتح له قلوبنا وكلّ كياننا، فلنفتح كلّ حياتنا للرّبّ فيسكن فيها، ولننظر إلى الفرح والسّلام والقوّة الّتي ستغمرنا، وسيكشف لنا الرّبّ عن أمور في أعماق كياننا نحن لا نعرفها. لقد تكلّم الرّبّ في الإنجيل عن مثل الوزنات، وأنا كنت أعتقد أنّ الرّبّ قد سلّمني وزنة أو اثنتين وكنت أتاجر بهما، غير أنّه مع الوقت، بدأت أكتشِف وزنات أخرى موجودة في داخلي لم أكن أعلم بوجودها فيّ لكنّ الرّبّ كشف لي عنها وهو الآن يطالبني بالمتاجرة بهذه أيضًا. ففي بعض الأحيان، عندما تقع في مشكلة تجد نفسك غير قادر على حلّها، فتضطر للقيام بأمور ترى نفسك غير قادر عليها، لكنّك تكتشف قدرتك عليها لاحقًا. إنّ الرّبّ واثقٌ بك أنّك قادر على ما تقوم به. لقد زرع الرّبّ فينا وزنات لا تُحصى ولا تُعَدّ، والرّبّ يكشفها لنا ويدعونا للمتاجرة بها.
من هنا عندما نجعل من بيتنا بيت صلاة بهذا الشكل الذّي تكلّمنا عنه، نصبح بيتًا لله ومسكنًا له. نحن نعلم أنّ بيت الله هو السّماء وبالتّالي أُصبح أنا سماءً، فلنكن سماءً للرّبّ كي يسكن فينا. نعم، أحبائي، يصبح بيتنا سماءً، أي بيتًا لا من حجارة إنّما من صنع الرّبّ. إنّ داوود النبيّ، عندما انتصر في الحروب التّي خاضها ووحّد مملكته، تذكّر تابوت العهد الّذي يحوي عصا هارون الّتي أفرخت، ولوحي الوصايا، والمنّ والسلوى. وهذه كلّها تعبِّر عن حضور الله، أي أنّها تعبِّر عن الله الكلمة من خلال لوحي الوصايا، وعن كهنوت الله إذ أنّ يسوع هو كاهن الله من خلال عصا هارون، وأنّه الخبز النّازل من السّماء أي المنّ والسلوى. إذًا تابوت العهد يعبِّر عن يسوع. وقرّر داوود أن يصنع له كنيسة أو قصرًا أو بيتًا، غير أنّ تابوت العهد كان يُوضع في خيمة كما قال الله لموسى. عندئذٍ أرسل الله لداوود، النبيّ صمؤيل طالبًا منه ألّا يصنع لله مسكنًا، إذ إنّ الله سيصنع مسكنه المختلف عن سائر البيوت. ونحن اليوم نشكِّل بيت الله. في المعموديّة، أعاد الله جبلَنا من جديد، ففي المعموديّة لا تعود مصنوعًا من تراب، ولن تعود إلى التّراب، إنّما تصبح من السّماء وإلى السّماء تعود. قبل المعموديّة كنت من التّراب غير أنّك بعد المعموديّة أصبحت من السّماء، إذ إنّ الله أعاد جبلِك من الرّوح القدس، الذّي سكن فيك. هذا هو العهد الجديد، وهذا ما علينا عيشه في هذا الزمن حتّى زمن النّهاية، إلى حياة الأبد. وهنا يقول النبيّ صمؤيل للملك داوود، ألّا يبني للرّبّ منزلاً، فهو، أي الرّبّ، يعرف متى يريد بناء هذا البيت. إنّ البيت الّذي يسكن الله فيه ليس من صُنع أيادٍ بشريّة، بل من صُنع الرّوح القدس. عندما نصلّي التبشير الملائكي نقول "الكلمة صار جسدًا، وسكن بيننا أو فينا"، من هنا نُدرك أنّنا أصبحنا مسكنًا لله فهو لم يعد يريد أن يسكن في سمائه كما كانت الفكرة سائدة في العهد القديم، فقد أصبحنا نحن سماءه. إنّ يسوع بموته وقيامته، جاء ليطرد الصيارفة والباعة الموجودة في داخلنا، كما فعل عندما كان في هيكل سليمان. فإن كنتُ تاجرًا، فسوف يطرد يسوع التجارة من داخلي؛ وإن كنتُ منافقًا، فيسوع سوف يطرد النِّفاق من قلبي لكي يستطيع أن يسكن هو فيّ. فإن لم أطرد هذه الأمور، فهو لن يسكن فيّ. فإنّ الله لا يحبّ الوسطيّة إذ قال إنّ مَن ليس معي فهو ضدّي، إنّه لا يقبلني إن كنتُ فاترًا بل سيتقيؤني. إن كنت باردًا فهو يقبلني لأننّي أصارح الرّبّ بأنّي لا أحبّه، عندئذٍ سيسعى الرّبّ كي يجعلني أحبّه، لكن أن أكون وسطيًّا فالله لا يستطيع قبولي حينها. على قراري أن يكون جديًّا، إمّا حارًّا فأكون مع الله، أو باردًا أي ضدّه، فالله لا يستطيع أن يفهم الوسطيّة عند الانسان. قرأنا، منذ أسبوعين، في إحدى رسائل مار بولس أنّ هناك أشخاصًا أعمالهم تسبقهم، وبذلك يقصد الرّسول الصالحين، وهناك أشخاص لن تبقى خطيئتهم مخفيّة بل ستظهر، مثالاً على ذلك، المخلّع. علينا أن نسعى لكي تسبقنا أعمالنا إلى أمام وجه الله، فنسمع في ذلك اليوم، صوت الرّبّ الّذي سيقول لنا:"أدخل إلى فرح سيِّدك، انت ابني، انت لي".
لا تسعوا إلى البيت الحاضر بل اسعوا من أجل البيت الباقي في الحياة الأبديّة. "أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم لكي أُهيّئ لكم مكانًا". في الملكوت، البيوت ليست مصنوعة من أيدٍ بشريّة، إنّما مصنوعة من نورٍ وسلام بالرّوح. إنّ أبواب الملكوت لا تُقفل أمام أيّ إنسان، إنّما هي مفتوحة ليل نهار، لذلك تعالوا واعترفوا وأكملوا حياتكم. وحده الانسان الخاطئ والشرير لا يستطيع الدخول إلى الملكوت لأنّه رفض الله ورفض كلمته. إنّ يسوع يقول: "ها أنا واقف على الباب أقرع، إن سمع أحدهم وفتح لي، دخلت أنا وأبي"، يسوع يدعونا إلى أن نفتح له قلوبنا، فيدخل ويُجدِّدنا. إذا سمحنا للرّبّ بالدّخول، فهو سيطرد منّا الأرواح الشريرة الّتي تخالفه، كالتكاسل في الذهاب إلى الكنيسة، واللامبالاة في الصلاة، وسيعلّمنا الاستسلام الدائم لمشيئة أبيه السّماويّ، والحوار الدائم مع الرّبّ، وسيفتح قلوبنا بالحبّ تجاه كلّ انسان، وسيعلّمنا أن نكون مستعدّين للعيش بنور الرّبّ وبكلمته المحيية، وسيعلّمنا أن نتذكّر محبة الرّبّ.
إن تأشيرة الدخول إلى الملكوت، والحياة الأبديّة، هي لأنقياء القلوب لأنّهم سيدخلون إلى بيت الآب، للمساكين بالرّوح لأنّهم أمضوا حياتهم يترجّون السكن في ملكوت الله، للحزانى على خطاياهم لأنّهم سوف يتعزّون في بيت الآب، للودعاء لأنّهم سيرثون أرض أورشليم السّماويّة، للعطاش إلى البّرّ والحقّ لأنّهم لن يجوعوا بعد الآن، إذ إنّهم في بيت الآب سيشبعون، للرّحماء لأنّهم سيسكنون في بيت الرّحمة الإلهيّة، لصانعي السّلام لأنّهم نشروا سلام الله للبشريّة، للمُضطَهَدين من أجل الحقّ لأنّ لهم بيتًا في الملكوت. إنّ باب بيت الله ضيّقٌ، لذلك يجب القيام بـِحِمْيَة من أجل تنحيف القلب لنتمكّن من الدّخول من باب بيت الرّبّ الضيّق، وذلك يتطلب عملاً ومجهودًا، إذ علينا حرق الدّهون في قلبنا عبر استعمال كلمة الله، فإنّها تخفِّف من وزنكم بسرعة كبيرة وتجعلكم تتركون حبّ المال، حبّ الذّات، التكبّر والغرور، وحبّ السيطرة، الغشّ والكذب.
تعالوا لنجعل من قلوبنا بيوتَ صلاة، مغائر يُولد فيها الرّبّ على الدّوام، آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلِنا بتَصرّف. تتمة...
25/3/2012 "حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب" (لو 45:24) شراء الكتاب المقدّس بِعَهديه، ليكون خاصّتكم،
"حينئذٍ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب" (لو 45:24)
مع الخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "اُذكرني في ملكوتِك"

25/3/2012

الله معكم.
إنّ موضوعنا هو عن الكتاب المقدّس لأنّ السينودس، سينودس الأساقفة للشرق الأوسط قد أعلن هذه السنة سنة الكتاب المقدّس، وذلك لوجود حاجة ماسّة للعودة إلى كلمة الله الّتي ما زالت مجهولة من قِبَل كثيرين. إنّ كلمة الله هي المحور الأساسيّ لحياتنا وهي الّتي تعمل فينا. إنّني أتمّنى أن يكون لدى كلّ فردٍ منّا الكتاب المقدّس الخاصّ به، إذ يجب أن يمتلكه الجميع وعلينا أن نعتبره كأحد أغراضنا الخاصّة التّي لا غِنى عنها، وعلينا القراءة فيه بشكلٍ يوميّ. وإذا سألنا أحدهم أن نُعرِّف بكتابنا المقدّس بكلمة واحدة، فبماذا نجيبه؟ إنّ الكتاب المقدّس هو طريق، حياة، غذاء، بُشرى، نور، محبّة، الله، عطاء، كلمة، قصّة، رسالة، رحمة، ضرورة. هذه الكلمات تشكلّ باقة جميلة تُعرِّف بالكتاب المقدَّس.
أريد منكم أن تحاولوا إيجاد جوابكم الشخصيّ على السؤال: أين أنتم، أي من أيّ واقعٍ أتيتم قاصدين هذا المكان للصلاة، والمقصود بذلك أن تحدِّدوا ما هي أوجاعكم، أي ما هو موجود في داخلكم والّذي لا يظهر للملأ. من الضروريّ أن تكتشفوا ما في داخلكم من قرف ووجع، وتعب، وخوف. فهناك أشخاص قد جاؤوا إلى هذه الرياضة مثلاً لأنّهم قد تعبوا من أوضاعهم الحياتيّة العمليّة، ومن أوضاع حياتهم المنزليّة. إذًا بدايةً علينا تحديد مواقعنا. وهذا السؤال يدفعنا إلى طرح سؤال آخر، وهو إلى أين نحن ذاهبون؟ لأنّه متى أدركنا إلى أين سنذهب، فمن المؤكدّ أنّ أمورًا عديدةً سوف تتغيَّر في حياتنا من خلال نظرتنا إليها. فإذا كان الكلام عن طريق، فنحن بحاجة إذًا إلى كلمة الله لتكون لنا غذاء، ونور، وطريق، فنصل إلى الرّبّ من خلال كلمته، فنكون معه ونفرح ونصل إلى السعادة، إلى السّماء، إلى "اُذكرني في ملكوتك". إذًا علينا في كلّ صباح أن نطرح هذين السؤالين على ذواتنا: أين أنا، وإلى أين أنا ذاهب؟ إذًا بعد أن عرف كلّ واحد منّا من أين أتى وإلى أين يذهب، ها نحن قد تجمّعنا ونحن نشكّل العروس اليوم، إذ إنّنا نحن البيعة والكنيسة. تبحث العروس عن العريس وتنتطر قدومه. إنّ اللّيتورجيا البيزنطيّة تتوجّه إلى البيعة قائلةً لها: "هوذا عريسك" وتُقدِّمه للبيعة على أنّه متألم ومصلوب. إذًا هذا هو عريسنا، ونحن ذاهبون معه وبرفقته، والعرس سيتمّ عند لقاء البيعة بالعريس ألّا وهو يسوع المصلوب.

هناك فرق بين أمرين:كلام الله وكلمة الله. فكلام الله هو كلام الانبياء، وكلام الرّسل والتّلاميذ، إنّه كلام يَروي كلّ قصّة تاريخ الله مع شعبه. إنّ الكتاب المقدّس يروي لنا أمرًا واحدًا وهو رحمة الله لشعبه. إنّنا نجد ثلاثة أمور في الكتاب المقدّس العهد الجديد: حياة يسوع (أين ولد؟، أين تعمّد؟،كيف مات؟)، كلام يسوع (أنا نور العالم، أنا الطريق والحق والحياة، أنا القيامة) وأعمال يسوع (شفاءاته للمرضى، عرس قانا، تهدئته الموج، إطعام النّاس سمكًا وخبزًا). أمّا كلمة الله فنقصد بها الأقنوم الثاني أي: يسوع المسيح. فإذًا نحن مدعوّون لا للقاء، مع كلمات ككلّ الكلمات، إنّما نحن مدعوّون للقاء الكلمة أي: يسوع المسيح. أريد أن أخبركم أمرًا وهو أنّ هناك يسوعين: يسوع التّاريخي، وهو معروف من كلّ النّاس أي من البوذيين والمسلمين أيضًا. الكلّ يعرفون يسوع الّذي وُلِد في بيت لحم وعاش في النّاصرة وتعمَّد في نهر الأردن على يد يوحنّا المعمدان، والّذي ذهب إلى عرس قانا الجليل، ومات ودفن ويقولون إنّه قام في اليوم الثالث. التقى الجميع بـــ"يسوع" التاريخيّ هذا. أمّا يسوع الثاني فهو يسوع الحقيقيّ، كلمة الله الّتي أظهرت رحمة الله ومحبته، هذا هو "يسوع" الحقيقيّ الّذي يجب أن نلتقي به.

أريد اليوم أن أعرّفكم بهوّية يسوع. كلمة "يسوع" تعني الّذي يُـخلِّص شعبه من خطاياه. هذا هو "يسوع" الّذي يجب أن نلتقي به، وهو ليس مخلِّص البشر بشكل عام، بل إنّه مخلِّصي الشخصيّ، إنّه يسوعي أنا. إنّ هذا الـ" يسوع" الذّي خلَّص النّاس من خطاياهم، هو أيضًا "عمانوئيل"، وهي كلمة تعني أنّ الله معنا. وبالتّالي يسوع الّذي هو مخلِّصي أنا، هو معي كلّ يوم: الأمس، اليوم وغدًا، أمّا نحن فما زلنا في حالة خوف على الرغم من ذلك. غريب هو الانسان! إنّ هذا الخوف هو دليل على أنّي لم ألتقِ بالرّبّ بعد. فإن كنّا نعرف هذا الله، هذا الأقنوم الثاني، كلمة الله، الّذي أحبّنا هذا الحبّ كلّه، لا نستطيع أن نُكمِل حياتنا والخوف وهموم الحياة اليوميّة تسيطر علينا. ففي ظلّ كلّ الهموم المعيشيّة وفساد كلّ المأكولات، لقد وجدت أنّ قلب الانسان فاسد، وكذلك ضميره. وقد اكتشفت أنّ هناك لحمٌ واحد غير فاسد هو جسد الرّبّ: "خذوا كلوا هذا هو جسدي"، إنّه يغذينا، ويعطينا مناعة ضدّ كلّ الأمراض. إنّ القديسة رفقا الّتي احتفلنا بعيدها منذ أيّام، هذه القديسة الّتي عانت من تفكّكِ عظامها، ومن العديد من الآلام في جسدها، قامت بالزحف من أجل الوصول إلى الكنيسة لأنّ رغبتها كانت كبيرة جدًّا في تناول جسد المسيح. إنّها مثالٌ لنا فلنأتِ إلى يسوع زاحفين لكي نتناوله، من دون أن نكون مكبّلين بشيء، فلنأتِ إليه بشغف، ومن كلّ قلوبنا ونلمسه، ولنلتقِ به. إنّه الشخص الوحيد القادر على نزع كلّ فسادٍ من قلوبنا، من ضمائرنا. إنّه "كلمة الله" الّذي يطلب منّا ألّا نخاف، ويطلب منّا أن نتحلّى بالشجاعة والقوّة لنسعى ونجاهد ونناضل فنستطيع أن نغيِّر العالم."يسوع" هذا، الذّي يخلّص شعبه من خطاياه هو عمانوئيل أي دائمًا معي ويخلِّصني يوميًّا. وهنا أسمع الكثيرين من المسيحيّين يتأفّفون ويقولون إنّ وَضعَنا في الشرق يتدّهور ويتحوّل من سيئٍ إلى أسوأ، وإنّ شبابنا يهاجرون. إنّ هاجس الخوف على المصير هو هاجس المسيحيّين جميعًا وهو حديثهم الدائم. هنا أريد أن أذكرّكم بكلمة يسوع الّذي قال لنا :"لا تخافوا". إنّ عدد المسيحيين في الشرق كلّه يقارب الخمسة عشر مليونًا، وهذا يعني أنّ عددنا لا بأس به. وإن اعترضنا قائلين إنّ المسلمين يفوقوننا عددًا، وأمّا نحن فلا نتجاوز سبعة بالمئة من سكان الشرق، أذكّركم أنّه منذ ألفي سنة، استطاع اثني عشر رجلاً مسيحيًّا من تغيير العالم، ولم يكونوا خائفين. ما أريد قوله هو أنّه يجب ألّا نخاف، فنحن بمثابة ملح لهذا الشرق، فالعدد غير مهمّ إنّما ما يهمّ هو نوعيّة الاشخاص. لذلك يُمنع على المسيحيّ أن يتراجع، أو أن يتكاسل أو أن يكون متفرِّجًا. فمن يتعرّف إلى المسيح، عليه الذهاب في المسيرة إلى النّهاية تمامًا كما فعل المسيح.

انتقل الآن، إلى دعوة حزقيال في تفسيري لفكرة لقائنا بيسوع. سوف أعرض عليكم الإطار الّذي كان موجودًا أيّام النبيّ حزقيال: لقد كانت المملكة الشماليّة منقسمة ومنفصلة عن المملكة الجنوبيّة، وكان هناك انحدار وفساد في السياسة وتحالفات سياسيّة، فالمملكة الجنوبيّة تحالفت مع بلاد ما بين النّهرين، أمّا المملكة الشماليّة فتحالفت مع مصر. إنّ الوضع آنذاك كان سيئًا جدًّا، ويشبه وضعنا اليوم في الشرق، غير أنّ الرّبّ نادى حزقيال مطلقًا عليه لقب ابن الانسان، وطلب منه أن يفتح فمه ليتناول السفر. لقد كرَّر الرّبّ لحزقيال هذا الأمر سبع مرّات، وكأنّ الله يدعوه إلى التّروي قبل الكلام، إنّه يدعوه إلى الطعام. في عالمنا اليوم، نتكلّم كثيرًا وإنّ بعض الأحاديث هي مصدر لتعب الانسان. إذًا في بادئ الأمر، علينا أن نفتح أفواهنا لنأكل الكلمة، أي أن نتأمّل في الكلمة، وأن نصلّي، وأن نعود إلى الداخل، وبعد مرور فترة من الزّمن على ذلك، نستطيع عندئذٍ أن نتكلّم ونعلن البشرى. فهل يجوز أن يخاف الانسان الّذي يسير مع الله؟ هل يخاف من يصلي؟ إنّ الانسان الّذي يصلّي يجب ألاّ يخاف. إذًا، الدعوة الثانية لنا اليوم هي أن نأكل الكلمة، ونتأمّل بها، وبعد ذلك علينا أن ننقلها إلى الآخرين. ثمّ يتابع حزقيال فيقول: "فنظرت فإذا بيدٍ". إنّنا لا نعمل وحدنا بل إنّ يد الرّب هي دائمًا معنا، وهي تساندنا في أعمالنا، غير أنّنا نرى في بعض الأوقات، أنّ البعض يتفاخرون بأنّهم يقومون بأعمال معيّنة. إن كلّ من سبقونا إلى الحياة الثانيّة، لم ينتهوا من أعمالهم فلا داعي للتفاخر، فالأمر لا يتوقف عندك. فالبعض يعتقدون أنّهم إذا رحلوا، توقّفت الدّنيا غير أنّ الحياة تستمّر، فلا يَعتقِدَنَّ أحدٌ نفسه أنّه مركز هذه الحياة، وأنّ الأمور تتوقف عليه، ولا نحمِلَنَّ هموم البشريّة بأسرها على أكتافنا. إنّ اليد ترمز إلى المساعدة والبركة، السند والعطاء. لكن إخوتي، علينا التركيز على اليد المفتوحة. إن اليد المغلقة لا تستطيع لا العطاء ولا الأخذ. إن اليد الّتي تعطي هي دائمًا مفتوحة والرّبّ يرى هذا العطاء ويفيض من عطائه فيها. فإذا كانت يدنا مفتوحة استقبلنا عطايا الله، وإن لم تكن كذلك، فهي غير قادرة على استقبال عطاءات الله لها. إذًا فلنُبقِ أيدينا مفتوحة للعطاء، ولتكن أيماننا بيمين يسوع، الّذي هو الضمانة الوحيدة. إن شركة التأمين الوحيدة الّتي لن تتعرّض للإفلاس وهي صادقة ولا تقوم باستثناءات، هي يسوع، فهو الضمانة الوحيدة. هل أنا مستعدّ لأنتسب إلى هذه الشركة فأجعل يسوع ضمانتي الوحيدة، يسوع الّذي يخلِّص شعبه من خطاياه، يسوع "عمانوئيل"، الّذي هو معي ومع أبنائي وكلّ عائلتي كلّ يوم؟ إذا كان الأمر كذلك، فلا داعي للخوف من أيّ شيءٍ كان، فالمسألة ليست متعلّقة بعددنا كمسيحيّين في الشرق. فكما خلق الله بلحظة وبكلمة هذا الكون كلّه، فإنّه قادر أن يحوّل قلوب البشر أجمعين ويغيِّرها ويعيدها إليه. إنّ شرط الله الوحيد هو أن نحيا معه ولكنّ ذلك لا يعني أن نتّكل عليه ونتفرّج، فواجبنا أن نشهد بأنّنا أكلنا الكلمة وشهادتنا هذه، هي للعالم بأسره.

يقول الرّبّ في سفر حزقيال ويكرّر الأمر في سفر رؤيا يوحنّا "افتَحْ فمك وخُذِ الكتاب وابتلعه". رأيت في إحدى المرّات يافطةً كُتِبَ عليها:"دورةٌ لتحفيظ القرآن"، كم هو رائع هذا الأمر أن نحفظ كلمة الله. لكن هل نحن نحفظ كلمة الله؟ إن ما يطبع فيك تحفظه غيبًا، وهنا لا أقصد بكلامي حفظ الكلمة حرفيًا. وعندما أتكلّم عن حفظ كلمة الله، لا يسعني إلاّ أن أتكلّم عن مريم الّتي "كانت تحفظ كلّ هذه الأمور في قلبها"،كانت تحفظ كلمة الله في قلبها. عندما نقول "حفظ"، فهو يعني أمورًا أربعة هي: أوّلاً، معرفة الكلمة: علينا أن نعرف كلمة الله ونتعرّف بها أكثر، أي معرفة تفاصيل الأحداث المرويّة في الكتاب المقدّس. ثانيًا: عيش الكلمة، إذ لا يكفي أن نعرف الكلمة بل علينا أن نعيشها، فالعيش هو الّذي يؤثر ويبقى شهادة عند الآخر. ثالثًا: علينا أن نصلّي الكلمة، فلنأخذ الكتاب المقدّس ولنصلِّ به، ولنقرأ الكلمة ونصلِّها. بعد خبرتي في الحياة، أعلم أنّ هناك أنواعًا عديدة ومتنوعة من الصّلوات، لكن الصّلاة الأعظم والأبهى هي الصّلاة في الكتاب المقدّس. وأخيرًا، إعلان الكلمة: علينا أن نخبر عن الكلمة وأن نوصلها للآخرين وذلك من خلال شهادتنا السلوكيّة والكلاميّة أيضًا، فلا يكفي أن نعرف الكلمة وأن نعيشها وأن نصّليها. لا يجب أن نحتفظ بها لأنفسنا بل علينا نقلها للآخرين، إذ لا شيء يستطيع أن يغيّر النّاس سوى كلمة الله، وكلمة الله لن تعود فارغة على الإطلاق إذ إنّها تعمل فينا حتّى نتغيّر ونتقدّم. إنّ مار يوسف الّذي نحتفل بعيده هذا الاسبوع، هو قديس متعدّد الشفاعات. يقال إنّ مار يوسف مات قبل أن يبلغ يسوع الثلاثين من عمره ويتعمّد ويبدأ بحياته العلنيّة، وعلى الأرجح مات مار يوسف حين كان عمر يسوع بين الاثنتي عشرة سنة والثلاثين سنة من العمر إذ لا نجد أيّة تفاصيل عن مار يوسف في هذه المرحلة، في الإنجيل. وبناءً على هذا الافتراض، يمكننا القول إنّ مار يوسف لم يشهد على معموديّة يسوع، ولا على العشاء السرّيّ حين أعطانا يسوع الاسرار، فهو بالتّالي لم يأخذ أي سرّ من الأسرار. ما يميّز مار يوسف أنّه عاش فقط مع الكلمة.كم هو مهمّ إخوتي، أن نحيا مع الكلمة كما فعل مار يوسف. إنّ العيش مع الكلمة أي مع يسوع، الأقنوم الثاني، هو الّذي سيدفعنا لنأخذ الانجيل ونعيش مسيحيّتنا عمليًا في الحياة. وكم هناك من الاشخاص الّذين يحفظون كلمة الله لكنّهم لا يعيشونها في واقع حياتهم مع الآخرين أي في عملهم، في حياتهم العائلية. علينا ليس فقط أن نحفظ الإنجيل بل علينا أن نترجمه في حياتنا العمليّة.

سوف أقرأ نصًّا من العهد القديم وتحديدًا من سفر تثنية الاشتراع (تثنية 11/ 18-23)، فنُدرك ما الّذي يقوله لنا عن كلمة الله، ثمّ نقوم بتأويل ذلك الكلام محاولين أن نحدّد دور كلمة الله في حياتنا اليوميّة: "فاجعلوا كلماتي هذه في قلوبكم وفي نفوسكم، واعقدوها علامةً على أيديكم ولتكن عصائب بين عيونكم وعلّموها بنيكم مُكمِّلين إيّاهم بها، إذا جلست في بيتك، وإذا مشيت في الطّريق، وإذا نمت وإذا قمت. واكتبها على دعائم أبواب بيتك، لكي تَكثُر أيّامكم وأيّام بنيكم على الأرض الّتي أقسم الرّبّ لآبائكم أن يعطيهم إيّاها، كأيّام السّماء على الأرض. فإنّكم إن حفظتم كلّ هذه الوصيّة الّتي أنا آمركم بها عاملين بها، ومحبّين الرّبّ إلهكم وسائرين في سُبُلِه كلِّها ومتعلّقين به، يطرد الرّبّ هذه الأمم كلّها من أمامكم، فترثون أممًا أعظم وأقوى منكم". إذًا علينا وضع كلمة الله في قلوبنا ويقول الله في سفر الأمثال إنّ وضع وصاياه يجب أن يكون في قلوبنا، في صميمنا. علينا أن نحفظ كلمة الله ونضعها أمام عيوننا لنراها أينما ذهبنا وكيفما تحرّكنا، وعلينا أن نعلّمها لأولادنا إذ إنّ أولادنا لا يصبحون ناضجين من دون كلمة الله. إنّ تصرّفات أولادنا وأبنائنا تدلّ على أنّهم لا يعرفون كلمة الله، لكن عندما يتعرّفون بكلمة الله فإنّهم سيتغيّرون حتمًا إذ إنّ كلمة الله وحدها هي القادرة على ذلك. فأينما كنّا، فلتكن كلمة الله معنا، في عملنا، في بيوتنا؛ ومهما فعلنا، إن أكلنا أو شربنا وإن نمنا، فلتكن كلمة الله همّنا. فلنكتب كلمة على دعائم بيوتنا، فنتذكّرها وتكون دائمًا أمام عيوننا، ولنجعل إذًا كلمة الله أساسًا لكلّ حياتنا. فما يقصده كاتب سفر تثنية الاشتراع بأن نضع كلمة الله علامةً على أيدينا هو أن تكون كلمة الله في كلّ حياتنا وفي كلّ مكان، في قلوبنا، في كلّ تصرّفاتنا، وفي كلامنا أيضًا.

إنّ كلمة الله لها مفاعيل عدّة في حياة المؤمنين بها. فهي أوّلاً تشفي، فإن كنت تطلب الشفاء فَعُدْ إلى كلمة الله:"قم، واحمل فراشك وامشِ". إنّ الرّبّ شفى المخلّع من دون أن يلمسه، شفاه بقوّة الكلمة. إنّ الأعمى قد حصل على الشفاء من الرّبّ بقوّة الكلمة "ايمانك خلّصك، اذهب بسلام". إذًا الكلمة تشفي.
ثانيًا، إنّ الكلمة تغفر الخطايا. فبالعودة إلى نصّ المخلّع، نرى ازدحام النّاس عند الأبواب الّتي أعاقت دخول المخلّع، أمّا نحن فعلينا ترك الأبواب مفتوحة، وترك ممرٍّ ليستطيع النّاس الدخول والاقتراب من يسوع. إنّ رفاق المخلّع لم يستسلموا أمام هذا الازدحام فدلّوا المخلّع من السقف ووضعوه أمام الكلمة. إنّ أوّل كلمة قالها يسوع للمخلّع عندما رآه أمامه:"مغفورة لك خطاياك"، غير أنّ اليهود انزعجوا من كلام يسوع هذا وكان ذلك من الأسباب الّتي دفعتهم للتآمر عليه وقتله إذ اعتبروه مجدِّفًا. إذًا، كلمة يسوع قادرة على غفران الخطايا.
ثالثًا، إنّ كلمة يسوع تُحرِّرنا من عبوديّات كثيرة ومن قيود عديدة. فمثلاً، يتفرّد الانجيليّ يوحنّا في الفصل الثامن من إنجيله بسرد رواية حادثة المرأة الّتي ضُبِطَت وهي تزني. ويقول النّص إنّ اليهود قد أتوا بهذه المرأة ووضعوها أمام يسوع، في وسط دائرة قد شكّلوها حولها، واستعدّوا لرجمها بالحجارة. إنّ قلوبنا تشبه تلك الحجارة الباردة والقاسية. أمّا يسوع فقد كان يخطّ على الرّمل بإصبعه، وانحنى على التّراب، كما انحنى على آدم وحوّاء في الخلق، وها هو الآن يأتي ليخلق المرأة من جديد. حرَّر يسوع تلك المرأة بكلمة إذ جعل كلّ الموجودين ضمن الحلقة بكلمة واحدة منه يتراجعون عن رجم المرأة، ويعودون من حيث أتوا: "من منكم بلا خطيئة فليرجمها بأوّل حجر". إذًا، إنّ كلمة يسوع فقط هي القادرة على تحرير الإنسان.
رابعًا،إنّ كلمة يسوع تُقَدِّسنا، إنّها تعطينا دفعًا لنتقدَّم ونتغيَّر:"كونوا كاملين، طوبى للفقراء، طوبى للجياع والعطاش إلى البِّر، طوبى للساعين إلى السّلام، طوبى للمضطهدين". إنّ يسوع يعطينا منطقًا جديدًا يقدِّسنا.
خامسًا، إنّ كلمة يسوع تدعو الإنسان.كان يسوع مارًّا أمام دار الجباية حين رأى متّى وقال له:"اتبعني"، فإنّ كلمة واحدة من يسوع كانت كافية لتجعل متّى يترك كلّ شيء ويتبع يسوع: الوظيفة والمال والمركز. وكذلك عندما التقى يسوع بابنَي زبدى وهما يُلقيان الشّباك في البحر وقد كانا مع أبيهما زبدى، دعاهم قائلاً لهما :"اتبعاني"، فتبعاه وتركا أباهما والشِّباك. وكذلك الأمر مع بطرس الّذي كان مع أخيه اندراوس، تركا السفينة وتبعا يسوع عندما دعاهما قائلاً لهما:"اتبعاني". إنّ كلّ دعوة تتطلب تخلّيًا، فهذا ما حصل مع القدّيسين أيضًا، وعلى سبيل المثال مار انطونيوس الكبير الّذي كان داخل الكنيسة عندما سمع كلمة الله في الإنجيل:"ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟". سمع القدّيس انطونيوس كلمة الله في الإنجيل: "إذا أردت أن تكون كاملاً اذهب وبع كل ما تملك واتبعني"، فذهب وقَسَمَ أمواله بينه وبين أخته فوزّع حصتّه على الفقراء، وذهب إلى الصحراء تابعًا الرّبّ، وأصبح فيما بعد مؤسِسًا للحياة الرهبانيّة. إذًا يسوع يدعو بكلمة منه.
سادسًا، إنّ كلمة يسوع تُرسِل إلى العالم، إنّها ترسلنا في وسط العالم. قمت مرّة ببحثٍ صغير في الكتاب المقدّس عن تواتر فعل "اذهب" في العهد الجديد:"اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة"،"اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم"،"اذهب واصنع أنتَ أيضًا هكذا"، في مثل السامريّ الصالح،.... إنّ يسوع يُرسلك إلى العالم حين تلتقي به. وإن أكملنا عرض مفاعيل كلمة يسوع لما انتهينا، فكلمة يسوع هي فاعلة وقديرة وقويّة وثابتة ولا تزول. إنّ كلمة يسوع هي الأساس فهي الوحيدة القادرة على أنّ تغيّر كلّ حياتنا.
إنّ الكلمة تحوِّل حياة الإنسان، وتغيّر مسيرة حياته، من السّيّئ إلى الأفضل والأفضل، ومثالاً على ذلك زكّا العشّار، الّذي غيّرت حياته كلمة واحدة من يسوع الّذي طلب منه النّزول من على الجمّيزة لأنّه سيقيم عنده في ذاك النّهار. تحوّلت حياة زكّا من الغِشّ والسرقة، من حياة مليئة بالأفعال السيئة، إلى حياة مليئة بالأفعال الّتي يرضى عنها الرّبّ.كذلك هي الحال مع مار بولس الّذي تحوّلت حياته. وبالتّالي نحن نرى كم أنّ هذه الكلمة هي فاعلة في حياة هؤلاء النّاس، وسواهم من البشر.

هناك نوعان من الكلام: هناك كلمات تعطي الموت وتنشر حضارته وهناك كلمات تعطي الحياة وتنشر حضارتها. في بعض الأحيان، يكون كلام النّاس جارحًا ومؤذيًا لي، ولكنّني أنا أيضًا أجرح الآخرين بكلمتي، فأنا من النّاس ولست مختلفًا عنهم بشيء. إنّ كلام يسوع يَبني، فكلامه هو روح وحياة كما ورد في الإنجيل. لذلك في كلّ مرّة نقبل كلمة الرّبّ، كلمة التشجيع الّتي يقولها الرّبّ لنا، وننقلها للآخرين، تثمر فيهم وفينا فرحًا كبيرًا، والدّنيا عندئذٍ تستطيع أن تتغيّر. لنكن إيجابيين في الحياة، ولنَقُل كلمة تشجيع للآخرين، لنَقُلْ للآخرين الكلمات الجيّدة والصالحة والّتي تبني، ولنَرمِ خارِجًا وبعيدًا عنّا كلّ الكلمات الّتي تجرح وتؤذي الآخرين، ولننتبه إلى آذاننا فلا ندعها تستقبل سوى الكلمات الّتي تبني، ولنَدَعْ خارجًا الكلمات السيئة، فلا نُعِرها أيّ اهتمام .
ختامًا، أريد منكم أن تأخذوا قرارات عديدة وهي: أوّلاً، شراء الكتاب المقدّس بِعَهديه، ليكون خاصّتكم،كما أطلب منكم أن تضعوه في مكان قريب منكم. ثانيًا، أطلب منكم أن تأخذوا قرارًا هامًّا وهو القراءة اليوميّة في الكتّاب المقدّس بالرغم من كلّ حالاتكم النّفسيّة والجسديّة والروحيّة، وأنصحكم بالبدء بقراءة العهد الجديد، إذ إنّكم قد تجدون صعوبة في فهم العهد القديم بطريقة صحيحة، على الرغم من أن العهد القديم رائع. ثالثًا، القيام بدراسات في الكتاب المقدّس وأبحاث فيه قدر استطاعتكم، وقراءة عن أبحاث في الكتاب المقدّس الموجودة عبر الانترنيت. إنّني أعتقد أنّ الانترنيت هو وسيلة مهمّة نستطيع من خلالها إيصال كلام الله. وكم هو مهمّ أن نُدخِل إلى هذه الوسائل الّتي يستخدمها شبيبتنا بكثرة "البشارة الجديدة". فهي تشكّل لنا وسيلة جديدة من أجل الأنجلة في عصرنا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
26/3/2011 " مَن يزرع في الرّوح، يحصد من الرّوح حياة أبديّة" (غلا 8:6) ماذا أفعل كي أزرع في نفسي وفي الآخرين ما ينتج ثمر الرّوح؟
" مَن يزرع في الرّوح، يحصد من الرّوح حياة أبديّة" (غلا 8:6)
مع الأب أيوب شهوان
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع - القليعات

26/3/2011

إذا عدنا إلى الكتاب المقدس، في الرسالة إلى أهل غلاطية تحديداً، سنجد العبارة التالية في الفصل السادس: "الذي يزرع في الرّوح يحصد من الرّوح حياة أبدية"، وعلى القارئ الجيد أن يدرك أن هذه العبارة لها امتداد على ما يسبقها وما يليها، ضمن إطار يتحدث فيه بولس الرسول عن أمور كثيرة.
ورسالة بولس إلى أهل غلاطية هي الأصعب من حيث لهجة الخطاب، إذ كان فيها الكثير من الكلام الواعي والقاسي، لدرجة أنه يقول لهم: "أيها الغلاطيون الأغبياء". وذلك لوجود مشكلة ليس بينه وبين اليهود فحسب، بل أيضاً مع المسيحيين الذين هم من أصل يهودي، والذين اعتنقوا المسيحية، ولكنهم يريدون الحفاظ على شريعة موسى على جميع الأصعدة كالسبوت، والختان، وكل ما يتعلق بمنع الأطعمة، إلخ.. فرد بولس عليهم بأنه قد بشرهم بالإنجيل الذي من فوق من عند الله، وليس من أصل بشري، فكيف لهم أن يقابلوه بشرائع بشرية؟ وأن يقابلوا النعمة بأعمال الشريعة الأرضية؟
ومن هنا ينتقل للحديث عن موضوع آخر غاية في الأهمية وهو "الحرية"، فيعاتبهم لأن الإنجيل حررهم فكيف لهم أن يعودوا لتكبيل أنفسهم بسيور الشريعة؟ ويستطرد مشدداً على أن الشريعة سبَّبت غضب الله، لأنَّ أحداً لا يستطيع أن يحفظها بأكملها، يل يحفظ جزءاً ويخالف آخر، وبالتالي يبقى دوماً رازحاً تحت سلطة الخطيئة. ويقول القديس يعقوب في رسالته بأن من يحفظ الناموس ويخطىء بأحد بنوده فقد أخطأ به كله، ويؤكد بولس الرسول أنَّ المسيح قد رفع عنا عبء الشريعة وأعمالها، ولا يجب علينا العودة إلى عبوديتها مجدداً.
إذا فبولس الرسول ينطلق من نقاط ثلاثة:
1- يبشرنا بالإنجيل الذي هو من عند الرب.
2- الشريعة ليست أكثر أهمية من الإنجيل، بل هو الأعظم.
3- بالرغم من أهمية الشريعة، فإن دورها كان عابرا، قام على التحضير والإعداد، فهي كمن يربي طفلا لسنوات قلة، وبعدها يصبح الطفل رجلا مسؤولا عن نفسه. وجاء يسوع ليكمل كل شيء بعد انتهاء دور الشريعة.
وهنا نعود إلى فكرة الحرية عند المسيحي الذي يعيش بحسب الروح، لا بحسب الحرف. والروح هو روح يسوع والروح القدس، أما الحرف فهو الشريعة. اعتاد اليهود الاعتقاد بأنَّ تقدمة الذبيحة في الهيكل تؤدي إلى تلبية طلباتهم جميعها، وفي هذه الحالة يصبح الله خاضعاً لأعمال الإنسان. وقد تحدث مارتن لوثر عن هذا
– وقد شهد انقسام الكنيسة بين البروتستانت والكاثوليك عام 1521 – شارحا قصة الراهب أوغسطين الذي كان ملتزما جداً يسهر الليل ويصلي ويصوم، ومع ذلك استمر بالوقوع في التجربة ذاتها إلى أن أيقن أنَّ نعمة الرب الحرة وحدها تؤدي بنا إلى العيش بحرية. ومن هنا، من يحيا ألم الروح يحيا الحرية، ومن يعش ألم الحرف يعش عبداً.
النقطة الهامة في رسالة بولس إلى أهل غلاطية هي أنها مليئة بالانتقادات المضادة والتقابلات؛
الجسد – الروح، الإنجيل – الناموس، الحرية – العبودية، الصليب – العالم. وإذا قرأنا كتب التعليم الحكميّ، كسفر الأمثال وسفر يسوع بن سيراخ وسفر الجامعة، لوجدنا أن الكاتب يستخدم دوماً أسلوب "الحَسَن يُظهِر حُسنَهُ الضِّدُّ"، وهو ما استخدمه بولس الرسول ليوصل رسالته بأفضل الطرق الممكنة. وبالعودة إلى عبارة "من يزرع في الروح يحصد من الروح" نجد أن بولس الرسول يقابلها مع عبارة أخرى "من يزرع في الجسد يحصد من الجسد"، وهذه المقابلة هامة جداً لنفهم ما يريد الرسول أن يقول لنا.

إذاً، رسم بولس في هذه الرسالة مقابلات بين أعمال الجسد وثمار الروح، حتى يبيِّن أنَّ المسيحي ينقاد للروح وغير المسيحي ينقاد لغير الروح - غير المسيحي الغير مؤمن ينقاد للجسد – ونجد الفرق بين الروح والجسد في كل من العقلية اليونانية وفي أفكار بولس الرسول، فالروح دائماً فوق والجسد في الأسفل، الروح خالد والجسد فانٍ. وهنا يحاول بولس الرسول أن يبيِّن أنَّ أعضاء الجماعة المسيحية يرتقون إلى الروح، والأجمل أن هذا الروح ينعشهم. وهنا يجب أن نفهم السبب وراء قول الرسول بولس لهذه العبارة "من يزرع في الروح يحصد من الروح حياة أبدية".
إننا بطبيعتنا ننقاد إلى الروح وننتعش به، ولكنَّ المشكلة أننا في بعض الأحيان نضع الروح جانباً ولا نصغي إليه ولا ننقاد إليه، بل نصغي إلى وسوساتٍ خارجية وننقاد إلى أوامر تأتينا من حية هنا ومن إبليس هناك. وهنا يشرح الرسول بولس أن من لا ينقاد للروح ينقاد لغيره، إلى الشهوات. وعلينا أن نتذكر أن الشهوة أمر مقدس وليست خطيئة، وهي جزء من شخصيتنا وكياننا إن أحسنا استخدامها كانت للخير وللحياة، "شهوةً اشتهيت أن آكل معكم الفصح" قال يسوع، ولكن تبدأ المشكلة عندما تتحول الشهوة إلى فوضى. والذي ينقاد للروح يكون سيد نفسه ويثمر ثمارا تليق بالروح، ومن ينقاد للجسد ينقاد للشهوة الغير منضبطة والغير منظمة، فلا تأتيه إلا بالموت.

وأعمال الجسد هي القتل والزنى والخيانة والغدر والسكر والكذب والمكر وغيرها الكثير، ومصير أي إنسان يأتي بهذه الثمار أن يحصد الهلاك، على عكس من يحصد من الروح حياة أبدية. بينما ثمر الروح هو المحبة والصفح والتعاون والتسامح والتعاضد والأخوة والإصلاح الأخوي وغيرها الكثير، وبولس الرسول يقابلها مع أعمال الجسد لأن الإنسان العاقل لايمكن إلا أن يميز بينهما، ونتيجة لهذا التمييز سيختار. وعدم التمييز هو الدخول في عالم الفوضى، حيث يصبح الخير رديفا للشر، وتكون هناك عودة إلى بداية سفر التكوين "وكان خواء وخلاء وكان عدم"، والله لا يريد لنا العدم. بل أراد النظام في الخلق، ففصل بين الليل والنهار، وبين البحر واليابسة، القمر والشمس، وذاك كله ليجلب لنا الحياة، لأن في الفوضى موت. لذلك وضع أمامنا بولس الرسول هذا التقابل الجميل في الآية 8، الفصل 6 من الرسالة إلى أهل غلاطية: " من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادا ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية ". أي إما أن نزرع بذار تؤدي إلى الحياة الأبدية، أو نزرع ما لا يفيد شيئا إلا الهلاك. فالجسد يتلازم مع الفساد، في حين يتلازم مع الروح الخلود. وأجمل اكتشاف ورد في "سفر الحكمة" - الذي دون سنة 50 قبل الميلاد- هو الخلود، أي عدم الموت.
اعتاد يسوع أن يعلم باستخدام الأمثال، أما مار بولس فقد كان يستخدم كلّ الوسائل الأدبية الممكنة، كالاستعارة والرمزية والتشبيه وحتى الأمثال أحياناً. وقد كان يستخدم نظرية فلسفية يوناينية تقول بأن الجسد يبلى بالأعمال السيئة والرّوح يخلَّد بالأعمال الصالحة. وقاد عاد ليقولها بأسلوب جميل جداً "من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً". والزراعة هنا هي صورة مستلَّة عن الزراعة الأرضية. وتبدأ الزراعة بالعمل الإيجابي. والإنسان المسيحي المنقاد بالروح هو بذاته بذار مقدس لأنه ولد بيسوع المسيح وبالروح القدس. عندما يئس أشعياء النبي من بني إسرائيل أنبأهم أن الربّ سيهلكهم، ولن يبقيَ من هم إلا قلة من الخيرين ليكونوا زرعا مقدّساً ينطلق منه شعب جديد.

نحن إذا زرع مقدس أولاً، وثانياً، قد زرع فينا كلام يسوع، فكياننا زرع مقدس. وإذا زرع الكلام فينا، فهذا يعني أننا أنتجنا. وكلام يسوع الذي زرع فينا هو كلام حياة وليس نظرية. ويقول الآباء في الكنيسة أن كلمة الله التي تزرع فينا تعادل القربان المقدس. فكلمة الله والقربان يدخلان فينا ويتغلغلان في حياتنا، فنكون إذاً زرع مقدس وأنبت أيضا ما هو مقدس، وهذا ما يشدنا ويعيدنا إلى الحياة الأبدية.
كما أننا نحن حاملو هذا الزرع العظيم، نصبح زارعين لما هو مقدس في نفوس الآخرين. وكما نأخذ مبدأ للحياة الأبدية علينا أن نعطي هذه الإمكانية للآخرين أيضا، لذلك نصبح شركاء ليسوع المسيح في الزرع المقدس وفي تأمين الحياة الأبدية، وهذه نقطة جوهرية جدا. وقد ركزت الرسالة إلى أهل غلاطية على البعد الجماعي، إذ أننا لسنا مسيحيين لذاتنا ولخلاصنا وحدنا، بل نحن مسيحييون لغيرنا قبلا ومن ثم لأنفسنا، ونعمل لخلاصنا ولخلاص الآخرين. ومن هنا يصبح المسيحي الذي يزرع في الروح شريكا مع الرب ورسولا له، ويكون مستعدا في كل يوم أن يلقى مصير بولس ومصير يسوع "أيُّ نبي من الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟"، يسوع صلب، بطرس صلب، وبولس قطع رأسه؛ استشهد الرسل جميعهم ما عدا يوحنا. وفي القرون الأولى للمسيحية، في زمن الملك قسطنطين عام 313 م قُتل الآلاف من المسحيين، لأنهم كانوا يبشرون بيسوع المسيح. ونحن أيضا سنعاني الاضطهاد وسنُتَّهم بالهذيان عند حملنا للزرع المقدس وتبشيرنا به، لذا يجب أن نكون أقوياء. أقوياء بقوة من يقوينا، وليس باضطهاد الآخرين والتعالي عليهم، لأن من يحمل رسالة عليه ألا يكون ضعيفا وسط مجتمعه. ورد في الفصل الأول من رسالة بولس إلى أهل رومية، آية 17: "الإنجيل هو قوة الله لكل من يؤمن". علينا أن نكون أقوياء كقوة الرسول بولس وصديقه سيلا، اللَّذين سجنا في الظلام، وأغلقت عليهما أبواب سبعة، وقُيِّدت أيديهما وأرجلهما ومع ذلك أمضيا وقتهما في الصلاة والتسبيح، فانفكَّ قيدهما وفتحت أبواب السجن وتصدعت جدرانه وتمكنا من الهرب، أي أنهما كانا قويين جدا، توشحا بالروح القدس فانتصرا.

ونحن لا نسعى لتأمين الحياة الأبدية لذواتنا فقط، بل للآخرين من حولنا، فيسوع اعطى جسده ودمه عنا جميعاً. ومن هنا يخطر ببالنا سؤال: "ماذا أفعل كي أزرع في نفسي وفي الآخرين ما ينتج ثمر الروح، ثمرا للحياة الأبدية؟ والجواب هو أننا أُعطينا الحكمة بالروح القدس، الذي يقودنا ويعرفنا الطريق الصحيح الذي يجب أن نسلكه وينهانا عن ارتكاب ما هو من الخطيئة والباطل والشرير، فنحن نعرف مسبقا زرعنا وثمنا وحصادنا لأنها جميعها مرتبطة بالروح القدس. ويقول بولس في الفصل الخامس، الآية 19: "فإذا كان الروح القدس يقودكم فما أنتم في حكم الشريعة"، وفي الآية 22: "أما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان"، نتيجتها الحياة الأبدية، أما أعمال الجسد فنتيجتها الهلاك.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم في معرض حديثه عن هذا الأمر: "إن كنا نخضع للروح نحصد ثمرا روحيا، وإن كنا نخضع لشهواتنا الخاطئة نحصد ضعفاً". عندما نزرع بالجسد نحصد الضعف وتختفي قوتنا. لأن المعصية تكسر القوة، كما يكسر زرع الجسد الإنسان المؤمن. لذلك يقول فم الذهب: "يليق بنا أن نزرع بذار حياتنا في تربة الروح"، مستخدما صورة الزراعة أيضاً، لأن العمل المسيحي ليس بيعاً وشراءً بل زراعة وحصاد للكلمة الحية يسوع المسيح، أي تعب وجهد، لا راحة كما في التجارة.
وكمثل يوحنا الذي "قبل مريم في خاصته" بعد أن أوصاه يسوع بها على الصليب، كذلك علينا أن نقبل كلمة الله في حياتنا فنزرعها كما يريد يسوع. ومرة جديدة يقول الذهبي الفم: "لا يكون الحصاد حسب ما يكون لدينا من معرفة، بل حسب ما نزرع. قد يكون لدينا قدر كبير من البذار في ذهننا، ولكن إن لم نزرعها في تربة ملائمة لا نأتي بثمر" لذا فعدم استخدام قدراتنا وإمكانياتنا هو بحد ذاته خطيئة، "ومن خلّص نفسا، خلَّص نفسه أيضاً"، ويتابع يوحنا الذهبي الفم قائلا: "من يزرع في الجسد شهوة يحصد ثمارا لا تدوم"، وهذه الثمار هي العقوبة والجزاء والخزي، إلخ..
إن بذرنا صدقات، تنتظرنا كنوز السماء، وإن بذرنا الاعتدال، تنتظرنا الكرامة والمكافأة وتكليل الملائكة وإكليل من الديان. يجعل بولس حديث عامًا فاتحًا باب الغيرة المملوءة حبًا نحو الجميع، مرتفعا بها إلى علو، موصيا إيانا أن نظهر رحمة لليهودي واليوناني بدرجات لائقة بحق، ولكن يلزمنا إظهار الرحمة للبشرية جمعاء.

ملاحظة: الرياضة الروحيّة السنويّة 2011 لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع - القليعات
دوّنت المحاضرة مِن قِبلنا بِتصرف.
26/3/2011 "أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6:6) كيف نحيا الرحمة
"أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6:6)
الخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع - القليعات

26/3/2011

أثناء بحثنا عن معنى كلمة "رحمة" في الشُّروحات والمصطلحات اللاتينية الموجودة، نجدُ أنَّه ليس هناك من تمييزٍ بين الرحمة والرأفة والصُّفح. أما في مصطلحات بني اسرائيل (أي اليهود)، فيلتقي تياران أو فكرتان ببعضهما مكمِّلَين للمعنى. الفكرة الأولى هي "الرأفة"؛ الرَّبُّ رؤوف. والفكرة الثانية هي الأمانة؛ الرَّبُّ يرحمنا وأمينٌ لنا. والإنسان قد لا يكون رؤوفاً أو أميناً أو حتى رحوماً ولكنَّ الرَّبَّ حتماً كذلك. والرَّأفة بالعبريَّة تعني "رحاميم"، وفي الذِّهنيَّة السَّامية – أي في بلاد ما بينَ النَّهرين وعند جماعة بني اسرائيل- نجدها ببعدَين أو ثلاثة أبعاد؛ الرَّأفة – الرَّحمة – والقلب (الأحشاءُ رحيمٌ: ملوك 3/26). أي أنَّ القلب رحيمٌ، وقد تعني الحنانَ الذي يظهرُ في تصرفاتنا. وهذه المعاني لا تتجلى إلا بالعمل، فالصُّفح عن الإهانات يقرِّبُ القلوبَ مجدَّداً. وللرأفة بُعدٌ آخر بالعبرية وهو "حسي"، وتعني التقوى أو العلاقة الروحية التي تربط شخصَين ببعضهما البعض، حتى أنها تتنامى لتحتمل أحيانا معنى الأمانة. والأمانة التزامٌ داخليٌّ تجاه الذَّات أولاً، ورحمةٌ ومحبَّةٌ.
الله يظهرُ اهتمامَه تجاه الشَّقاء البشريِّ، والإنسان أيضاً مدعوٌّ أن يبادل قريبه رحمةً، على مثال تلك التي أُعطيَت له. هناك ثلاثةُ أفكارٍ أساسيَّةٍ ينطوي عليها موضوعنا هذا:
1- هويَّةُ الله: الله هو الرَّحمة والرَّأفة.
2- الله يطالبُ بالرَّحمة.
3- كيف نحيا الرحمة؟ هل نحن في واقع حياتنا وممارساتنا تجاه الآخرين نحيا الرَّحمة؟ هل نحن رحماء ومحبون للبشر؟
وتظهر رحمة الله ورأفته على النَّاس البائسين أولاً، ثم على الخطأة وأخيراً على الناس أجمع، أي أنَّ رحمته شاملة. وإذا قرأنا المزامير، وجدنا أنَّها مفعمةٌ بالرَّحمة؛ "ارحمني يا اللهُ كعظيمِ رحمتِكَ"، "احمدوا الرَّبَّ فإنَّ رحمته إلى الأبد".
ولكن، متى يُظهِر الله رحمته؟ ولمن؟ للنَّاس الذين يصرخون إليه وهم متألمين، لمن هم في الضِّيق ولا يُظهرون ضيقَهم إلَّا أمام اللهِ صارخين إليه كما في المزامير "بالدُّموع أبلُّ فراشي" و "تفكَّكَت عظامي". أي لا يدرك أسرَارنا إلا وسادتنا، ولا يعلم بدواخلنا سوى الله وحده.
يدافعُ الله في الكتاب المقدَّس عن المساكين والأرامل والأيتام، لأنَّه الحافظ لهم. يروي لنا العهد القديم قصَّة عبور الشَّعب في مصر لمدة 40 عاما، وقد تذمَّروا ولاموا وعتبوا عطاشى، فضرب موسى على الصَّخر وأخرج لهم المياه، فكَفُّوا عن التَّذمر، إلا أنهم عادوا وامتَقَعُوا بعد فترةٍ، فأرسل الرَّبُّ لهم المن والسلوى، فكفُّوا مجدَّداً ولكن لفترةٍ وجيزةٍ فقط. فخرجت حيَّاتٌ صغارٌ من أوكارها وراحت تلدغ الشَّعب، فمات كلُّ من آذاهُ سُمُّها، وامتعضَ الشَّعب. ولأنَّ اللهَ أمينٌ، أرسلَ لهم الحيَّة النُّحاسيَّة وقال لهم: "كلُّ من ينظر إلى هذه الحيَّة يشفى". ولم تُذكر في رواية العبور، أو الوصول إلى أرض الميعاد كلمة "رحمة" على الإطلاق، إلَّا أنَّ هذا كلَّهُ فعلُ رحمة. فالرحمة إذا ليست بالقول بل بالفعل "المسوا الرَّبَّ، واقتربوا منه ولا تخافوا" فيقلُّ التَّذمُّر.
يقول الرَّبُّ لموسى: "إنِّي نظرتُ إلى مذلَّةِ شعبي". فما يحنِّن قلب الله علينا هو ضعفنا، خطيئتنا، ألمنا و بؤسنا "نظرتُ وسمعتُ صراخه"، إذا فلنصرخ! فالرَّبُّ عاهد شعبه أن يسمعَ صراخَ من هو بائسٌ ومتألم، وما الصُّراخ إلا صلاةٌ حارَّة.
وبهذا نكونُ قد رأينا الوجهَ الأوَّلَ لله؛ إلهَ الرَّحمة للبائسين. أما وجهه الثاني فهو خلاص الخطأة. والخطيئة العظمى هي فساد القلب، ولا خطيئة أعظم من هذه إذ أنها والخيانة توأمان، ثالثهما قساوة القلب. ولكن رحمة الله تغلبُ، فالرَّبُّ يرحم من يشاء لأنَّهُ حنونٌ، والشَّعب الذي أخطأ قديماً كانت خطيئته عظيمةً، واستحقَّ عليها أشدَّ العقاب، إلَّا أنَّ الله أخذتْه الشَّفقة علينا لأنَّنا صرخنا إليه من عُمقِ شقائنا، فتغلغلَت ابتهالاتنا في فؤاده واضطَّرَمَت مراحمه. فأتى يسوع المسيح ورفع عنَّا آثامَنا برفعِهِ على الصَّليب. والله عادلٌ أيضاً، يرى خطايانا ويدركُ نوايانا، إلا أنَّهُ يرحمنا بالرَّغم من ذلك وهنا تكمنُ عظمتَه تعالى.
ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، أنَّه في زمنِ الملك يربعام ( 753 ق.م) اشتُهِرت المملكة الشَّمالية في إسرائيل بالرَّخاء والغنى والفسق والانحدار والضَّياع والخطيئة، ومن المعلومِ أن نشرَ البشارةِ في بيئةٍ مترفةٍ كهذه أمرٌ صعبٌ جدَّاً. فكلَّم الله "هوشَع" ، ومعنى اسمه "خلاصٌ" ليُرسله في مَهمَّة، وطلب منه قبلاً أن يتزوَّجَ بامرأةٍ زانيةٍ تدعى "جوما"، وينجبَ منها ثلاثة أولاد. أنجبوا في البدء صبيَّاً دُعِيَ "يزرعيل" ومعنى اسمه الله يزرع زرعاً جيداً من الروح، إلَّا أنَّ "جوما" عادت إلى الزنى ووضعت فتاةً دُعِيَت "لورحامة" ومعناه لا رحمة، ولم تتبْ أمها، وولدَت صبيَّاً أسمَوهُ "لوعماري" أي ليس من شعبي. و"جوما" هنا تمثِّل الشعب، فالله يعرفُ أنَّ شعبَه سيخونه باستمرار، ومع ذلك دخل معنا في عهد. "تقول المرأة الزَّانية: أسعى وراءَ عشَّاقي، يقدِّمون لي الماء والخبز والكتَّان والصوف.. هي تسعى وراء عشاقها لكنَّها لا تُدرِكهم، تلتمِسُهم ولا تجدهم، إنَّها لا تعرفُ أنَّني أنا الذي أعطَيْتها القمحَ والخبزَ والزيتَ وأغدقتُ عليها الفضَّة والذَّهب التي قدَّموها للبعلِ، لذلك أستردُّ حنطتي في حينها وأنتزعُ صوفي وكتَّاني اللَّذين تسترُ بهما عريها أمام عشاقها. ومع ذلك تسجدُ للبعل، أكشف عريها أمام عشاقها ولا ينقذها أحدٌ من يديَّ وأبطلُ كلَّ أفراحها وأعاقبها على أيام احتفالاتها بالبعل، عندما أحرقت بخورها وتزيَّنت بخواتهما وحليها جاريةً وراء عشاقها ونسيت أنَّني أنا الرب". نحن أيضا نسينا الرَّبَّ وبتنا نتتبَّعُ مصالحنا فقط متناسين الصَّلاة. ومن هنا أرادَ الله أن نمرَّ باختباراتٍ سلبيَّةٍ كي نعودَ إليه، لا كي يُهلكنا. ورد في الفصل الثاني من هوشع "آخذُها إلى البريَّة، إلى الصحراء، أُخاطبها بحنانٍ، فهناكَ أخاطب قلبَها". فالقلبُ إذا هو الأساس والأصل، والرَّبُّ يريد أن يحاكي قلوبنا ويحييها، لذلك عينا أن نُبدِّد قساوتها فيرحمنا الله.

ويقول أيضاً: "لأنِّي أنزعُ أسماء البعل من فمكِ وأبرم في ذلك اليوم عهداً، وأخطبكِ من جديد لنفسي إلى الأبد بالأمانةِ والعدلِ والمراحمِ.." وعندها يُعادُ زرع الأرض فتُعطي خيراتها لـ"يزرعيل"، وتُرحَم "لورحامة" ويقول الرَّبُّ لـ "لوعماري" أنتَ شعبي، أنتَ لي فيُجيبُه وأنتَ إلهي.
فالرَّبُّ إذا يريد أن يُظهرَ لنا رحمتَه ويغفر خطايانا بالرَّغم من عدم استحقاقنا، قائلاً "أريدُ رحمةً لا ذبيحة". فالطَّاعة ومعرفة الله أفضلُ من المحرقات، والأهم حتماً هو عودتنا إلى الرب من جديد خالعين ثوب الكبرياء والغرور وقساوة القلب، مُرتدين قلبا منكسراً متواضعاً رحيماً لا يقدِّم محرقةً، بل يخدم الرَّبَّ مدى الحياة. يقول الله على لسان أشعياء النبي "ليَتُبِ المنافقُ إلى الرَّبِّ فيرحمه" ويقول في مكانٍ آخر "الله لا يُمسِكُ غضبَهُ إلى الأبدِ"، فهو يحبُّ الرحمةَ، يرأف بنا ويدوس آثامنا ويرمي في أعماق البحر خطايانا. "ارحمني يا الله كعظيم رحمتِكَ وكمثل كثرة رأفتِكَ امحُ مآثمي" (مز:50). وفي المسيحيَّةِ يُمنعُ تبرير الخطيَّة كما يُمنع التَّذنيبُ، أي عقدة الذَّنب.
أمَّا الفكرةُ الثَّالثةُ فهي الرَّحمة الشَّاملة. ما الذي يضع حدَّاً لرحمة الله؟ إنَّه في الحقيقة القلب الخاطئ القاسي. يقول يشوع بن سيراخ: "رحمةٌ لقريبكَ"، أما رحمة الله فهي لكل إنسان. "الرب رؤوفٌ رحيمٌ طويل الأناة جزيل الرحمة لا يسخطُ على الدَّوام ولا إلى الأبد يحقدُ، لا على حسب خطايانا عادانا ولا على حسب آثامنا جازانا، كرأفةِ أبٍ على بَنيه رأف الرب بالذين يتَّقونه لأنَّهُ عالم بجبلَتِنا". يقول أشعياء النبي: "طوبى للَّذين ينتظرونَه لأنَّه يترأف بهم"، فرحمةُ الله إذا شاملة.

هناك أمر آخر، وهو أن الله يطالب بالرحمة. فمنطقُ النَّاس اليومَ قائمٌ على أساسٍ وثنيٍّ "إن لم تكن ذئباً، أكلتكَ الذِّئاب"، إلا أنَّ الله قد وبَّخ الوثنيِّين لأنَّهم أفسدوا كلَّ المراحم.
وبالعودة إلى أهميَّة صراخنا إلى الله، نستشهدُ بما وردَ في الكتاب المقدَّس، حيث يُروى أن يسوع التقى بأرملةٍ تسير في موكب جنازة ابنها، فأخذَته الشَّفقة عندما رأى دمعتها، فقال لها كلمة واحدة فقط: "لا تبكي"، ثم أوقفَ الموكب ولمس النعش وقال: "أيها الشَّاب لك أقول قم"، وهذا ما كان. فدموعنا وآلامنا تُحرِّكُ قلبَ الله. ويروي لنا الإنجيل حادثة أخرى عن أعمى أريحا الذي عرفَ يسوع من دعسات موكبِه وأخذَ يصرخُ من صميمِ بؤسه وظلامِ حياتِهِ وذاكرتِهِ المفقودة "يابنَ داود ارحمني"، فأسكتَته الجموع، إلا أنَّه راحَ يصرُخُ بصوتٍ أعلى، بالرَّغم من كلِّ الضَّجيج المحيطِ بيسوعَ، فسمعَهُ وشفاه. يسوع يسمعُ أنينَ كل إنسانٍ ووجعهُ أينما كان.

أمَّا الخطأة، فلا أنسب للحديثِ عنهم من مَثَلِ "الفرِّيسيِّ والعشَّار". فالفريسي اقتربَ إلى الأمامِ وراحَ يعدِّدُ فضائلَهُ أمامَ الله شاكراً إيَّاه لأنه ليسَ كبقيَّةِ النَّاس، بل عظيمٌ مهمٌّ يصوم ويصلِّي. أمَّا العشَّار فركعَ أمامَ الرَّبِّ يلتمسُ أمراً واحداً وهو الرحمة، ويصرخ تائباً "ارحمني يا الله أنا الخاطئ". والنتيجَةُ كانت أن قبلَ الرَّبُّ صلاةَ العشار، وسامحَهُ، أمَّا الفريسي فحرمهُ كبرياؤه وقلبهُ القاسي من رأفةِ الرَّبّ.
ويتجلَّى وجهُ الله الرحوم في إنجيل لوقا، الإصحاح الخامس عشر، في ثلاثةِ مواضعَ؛ مَثَلُ "الدِّرهم الضَّائع" و"الخروفِ الضَّال" و"الابن الشَّاطر". ويسوعُ أطلق على الله صفة "أبي المراحم"، أي الآبُ الذي يرحم.وفي موعظة الجبل يقول يسوع عندَ سردِهِ للتطويبات: "طوبى للرُّحماء فإنهم يُرحَمون" وهذه أعظمُ شريعةٍ لملكوتِ السَّماوات. "كونوا رحماءَ كما أنَّ أباكم السَّماويَّ رحيمٌ" (لو: 6/23). أن نكون مسيحيِّين يعني أن نكون رحماء. ويعلِّمُنا البابا يوحنا بولس الثاني ذلك عندما أطلق عليه تركيٌّ النَّار، حينها تساءل في البداية لماذا؟ إلا أنَّه بعد أربعةِ أيَّامٍ زارهُ في السِّجن وغفرَ له، فصار عليٌّ في كلِّ سنة يخرج من السِّجن في ذكرى إطلاق النار، ويقضي يومه برفقةِ البابا.

يُحكى أنَّ فتاةً فرنسيَّةً جميلةً وذكيَّة، تُتقنُ العزفَ على البيانو وتبلغُ من العمر 18 سنة كانت تسكنُ على ضفاف النَّهر الفاصل بين فرنسا وألمانيا، وفي عام 1939 اجتاح الألمان جزءاً كبيراً من فرنسا، وتمركز بعضهم في منزل الفتاة.كانت تتكلَّمُ الألمانيَّة بطلاقةٍ فظنوا أنها ألمانيَّةٌ ولم يخشَوها، بل ائتَمَنوا لها وباتوا أصدقاءَ معها، وفي الحقيقةِ كانت إحدى أهمِّ الجاسوسات اللواتي كنَّ ينقُلنَ معلوماتٍ سريَّةٍ للجنرال ديغول عن الألمان. حتى أنَّها بعدَ فترةٍ أخذت تنقل أفراداً إلى الضِّفة الألمانيَّة في مركبها، وتمكنَّت من سرقةِ وثائق سريَّة للغاية وخرائط الحرب جميعها، واستمرت كذلك لمدَّة تُقاربُ السنواتِ الأربعة. بعدها اكتُشِفَ أمرُها، واعتُقِلت. وبما أنَّ هتلرَ كانَ فنّانٌ في ابتكارِ طُرُق التَّعذيب –إذ كان يأخذُ الأولاد من منازلهم بعمر الثَّمانية سنواتٍ ويُدرِّسهم الطِّبَّ ليتفنَّنوا في إيجادِ طرقِ تعذيبٍ طبيَّةٍ- أمرَ أن تُعذَّبَ الفتاة بأبشعِ أنواعِ العذابات، ولم تشفعْ لها دموعها واسترحاماتها وصرخاتها الحارَّة، فتعطَّلَ جهازها العصبي، ولم تتمكَّن من عزف البيانو بعدها. وبعد فترةٍ تراجعَ الألمان، وأُسعفَت الفتاة بعد أن أوشكت على الموت. مرَّت السنون، وبعد 40 عاماً، أصبح الطبيبُ المشرفُ على تعذيبها رئيسَ بلديَّةٍ في ألمانيا، معتدَّاً بنفسه، إلَّا أنَّه أُصيبَ بمرضٍ، وراح يُراجع ذاكرتَهُ وصمَّمَ على مقابلةِ الفتاةِ. ووجدَها، فساعدتهُ على اكتشافِ خطئِهِ بأسئلةٍ ذكيَّةٍ، ثم أعلنت له أنَّها رحمَتْهُ وغفرَت له من كلِّ قلبها. وعندما عادَ إلى ألمانيا أخبرَ عائلته، واجتمع بمعارفِهِ وأصدقائهِ الجدد والقدامى مخبِّراً إياهم بأنَّ هذه هي المسيحيَّة الحقيقية، وهكذا تستمر، ونما بالنِّعمةِ الإلهيَّةِ.
وإذا عدنا إلى علمِ النَّفسِ نجدُ أنَّ هناكَ فرقاً بينَ الإنسانِ "الأنا" نفسه وبين مايملكه. فهناك ثلاث مراحل في "المــُلكيَّة" ومرحلةٌ واحدةٌ فقط في "الأنا".

المرحلة الأولى في المــُلكيَّة هي على سبيل المثالِ امتلاكُ الأموالِ والسَّيَّارات والجمال، وهي جميعها زائلة. والمرحلةُ الثَّانية هي امتلاكُ ما هو أهم كالذكاء والمواهب، وهي أيضاً إلى زوال، فمرضُ الألزهايمر مثلاً يقضي على الذكاء، والمواهب تشيخ وتفنى. أمَّا المرحلةُ الثَّالثة فهي "الكرامةُ"، والإنسانُ في الغالب غير مستعدًّ لمسامحةِ من يتحدَّث عنه بسلبيَّةٍ أو يؤذي كرامته، فيقيم الحواجزَ والعداوات، وما ذاك إلا لاقترابِهِ من الأمرِ الأهم بالنِّسبة لنا وهو"الأنا"، وللأسف لم نتمكَّن حتى الآن من فهمِ أنَّ من يتحدَّثُ علينا بسوءٍ لا يؤذينا، كما أنَّ من يتحدَّثُ عنا بكلامٍ جميل لا يمنحنا شيئاً. من حقِّنا أن نحزن ونفكِّرَ بما قيل، ولكن علينا أن نسامحَ لأنَّهُ في الحقيقةِ لم يؤذنا من الدَّاخل، وفي علم النَّفسِ لا أحدَ يصلُ إلى "الأنا".

يسوع على الصليب علَّمَنا كيف نرحمُ الآخرين، وهناك بُعدَين لهذا الأمر. الأوَّل مع الله، ويتمثَّل في لصِّ اليمينِ "اذكرني يا ربُّ متى أتيتَ في ملكوتِك" وقد غفرَ له يسوع. علينا إذاً أن نطلبَ الرَّحمة في كل دقيقةٍ وحتى نهايةِ حياتِنا صارخين "اذكرني في ملكوتك". أمَّا البعد الثاني فهو مع الإنسان، ونراهُ جليَّاً في مثَل "السَّامري الصَّالح". يقول يسوع في متى 25: "كنت جائعاً فأطعمتموني، كنت عطشاناً فسقيتموني، وكنت مسجوناً فزرتموني... الحقَّ الحقَّ أقول لكم: في كل مرة تفعلون هذا لأخوتي الصِّغار هؤلاء فلي فعلتموه". وهناك أيضاً مثَلُ الدَّائن الذي رحمهُ صاحب الدَّيْنِ، في حين لم يرحمْ هو صديقه.
وفي النِّهاية، علينا أن نفكِّرَ بأبعادٍ ثلاثةٍ:
الأول: علاقتي بالربِّ علاقةُ توبةٍ واعترافٍ صادقٍ وكامل. الثَّاني: ألا نُغلقَ أيدينا، بل نعطيَ الآخرين ونسامحَ بعضنا البعض بالرَّحمة والمساعدة. الثَّالث: الصُّفح، ولو كان من العدل ألا نسامحَهم، ولكن من العدلِ أيضا أن نرحَمَ.
لا تُقسوا قلوبكم، اليوم إن سمعتم صوتَهُ لا تُقسوا قلوبكم..
ملاحظة: الرياضة الروحيّة السنويّة 2011- دير دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع – القليعات، دُوِّنت المحاضرة من قبلنا بتصرُّف. تتمة...
7/3/2010 "العودة الى حضن الآب" لأنّهم يقفون حاجزاً بين رحمة الله والخاطئ
"العودة الى حضن الآب"
الأب دومينيك العلم المريمي
الرياضة الروحيّة السنويّة 2010
المقرّ الروحي لجماعة "أذكرني في ملكوتك"

7/3/2010

استُهِلّت الرّياضة بصلاة، وتلاوة مزمور، وترنيمة، قبل الانتقال إلى قراءة من القدّيس باسيليوس الكبير، تلتها الأبانا ومباركة الأب دومينيك للجماعة بصلاة خاصّة وترنيمة، تمنّى بعدهما للجميع رياضة مميّزة، لغسل القلوب والأفئدة بالتّوبة والصّوم والمصالحة مع الله ومع النّفس. ثمّ نوّه الأب دومينيك بكون مركزنا علّيّة صهيون، وعلّيّة البشارة الدنيويّة، فيها نستعدّ للانطلاق إلى بيت الرّب، وهي استمراريّة لجبل التّجلّي حيث اكتشف التّلاميذ حقيقة الثّالوث فأمرهم المسيح بالسّكوت عنه حتّى قام بالمجد من الموت؛ وتمنّى الأب دومينيك ان نعيش حقيقة هذا التّجلي في هذا اللّقاء الرّوحي.

انتقل الأب دومينيك إلى صلب موضوع اللّقاء المستقى من أحد الابن الضّال، أو الابن الشّاطر، وهو: "العودة إلى الآب"، واستطرد نحو آحاد زمن الصّوم والآلام، والتي تتجلّى بتواترها وتواليها بحدث الصّلب والموت، فمن أحد الأبرص ذي الجسد المهترئ المرذول من النّاس، إلى أحد نازفة الدم، إلى أحد المخلّع المُسمّر على سرير الألم، وذلك كجسد الرب يسوع المسّمر على الصّليب والذي نزف دماً وماءً حين طعن بالحربة؛ وعلى رأسه إكليل الشّوك، غير قادر على الحراك؛ وصولاً إلى أحد الأعمى الذي أراد يسوع - نور العالم- أن يعيد له النّور، كما أظلمت الدّنيا عند موته على الصّليب ليشرق نوره في القيامة. هكذا امتصّ يسوع تاريخ ألم البشريّة وتمّ عمل الفداء. فالخلاص نعمة إذا اقتبلناها نلنا السّماء.

ثمّ تلا الأب دومينيك القسم الأوّل من إنجيل الابن الضّال، متوقّفاً عند تعابيره الدّقيقة، فالأب يعني الآب السّماوي والابنان الأصغر والأكبر يرمزان إلى كلّ منّا، وقد طلب الأصغر حصّته من مال أبيه، و"بعد أيّام قليلة جمع الاموال وسافر إلى بلد بعيد"، دليل على أنّه ضاق ذرعاً من العيش في بيت أبيه، فتركه وابتعد عنه قدر الإمكان، وهذه هي الخطيئة الكبرى في الابتعاد عن الآب نهائيّاً، ورفض أيّ وجود له في حياته. وبدّد الابن أمواله في حياة الطّيش الذي يعني مختلِف أهواء هذه الدّنيا، ممّا أوحى به الإنجيل. ثمّ حدثت في ذلك البلد مجاعة، فبدأ يشعر بالعوز، فلجأ إلى أحد سكّان ذلك البلد ، فأرسله إلى حقل ليرعى الخنازير؛ والخنازير في الكتاب المقدّس كلمة-مفتاح، تعني الحيوان الأكثر لعنة، وهذا تنويه إلى أنّ هذا الابن الذي كان سيِّداً، في بيت الجاه والعزّ والمال، يخدمه الجميع، صار خادماً لأدنى مخلوقات الله وأكثرها لعنة، وأحقر منها. وصار يشتهي ما تأكله الخنازير، وتتنعّم به ولا يعطيه منه أحد. وهنا، قام الابن بالخطوة الأولى من خطوات التّوبة وهي فحص الضّمير، عندما عاد إلى ذاته، وقال: " ... أقوم-وفيها حدث القيامة من الموت- وأمضي- وفيها مسيرة مع الكنيسة- إلى أبي وأقول: يا أبي خطئت إلى السّماء وأمامك..."، وكلّ هذا هو فحص للضّمير وأخذ للقصد الصّالح، وندم. " فقام، وجاء إلى أبيه، وفيما كان لا يزال بعيداً، رآه أبوه، فتحنّن عليه..."، وهذا دليل على رحمة الله الواسعة وحبّه لأبنائه الذين مهما ابتعدوا عنه، يترقّبهم من بعيد، وينظرهم مهما نأوا. "فأسرع الأب نحوه وضمّه وقبّله طويلاً، فقال له ابنه..."، وفي هذا العمل إقرار عند الآب بالخطيئة، وفي مسامحة الأب لابنه، واحتفاله بعودته، وخلاصه من ضلاله وموته، تمّت عناصر التّوبة.
بعدها انتقل الأب دومينيك إلى القسم الثّاني من إنجيل الابن الضّال، ومحوره الابن الأكبر، الذي كان في الحقل يعمل أثناء عودة أخيه، فاستغرب من أصداء الاحتفال في البيت فتساءل عن السّبب، وعرفه، فغضب ورفض الدّخول، فخرج أبوه يتوسّله، عندها صرّح له الابن الأكبر بسبب غضبه، وهو أنّه كان أميناً له طوال الوقت، وساعده دائماً، ولم يُعطه يوماً نعجة يتنعّم بها مع أصدقائه، بينما، ذبح والده العجل المسمّن لأخيه الذي بدّد الثّروة على الزّانيات. عندها أوضح له الوالد أنّه معه دائماً، وأنّ كلّ ما يملكه هو له، وأنّه كان لا بدّ من الاحتفال بالأخ الأصغر الذي كان ميتاً فعاش، وضالاًّ فوُجِد.

ثمّ راح الأب دومينيك يشرح أصل الخطيئة وجوهرها الكامن في البعد عن الله، وهي الاستقلاليّة الأنانيّة، آفة الآفات منذ القدم، إنّها عمليّة التّخيير التي أنعم الرّب بها على آدم وحوّاء فعصيا أمره، وجاءت خطيئتها ثلاثيّة الابعاد: فقد عصيا أمره اوّلاً، ثمّ خافا منه عندما نزل يتمشى معهما، (وإحدى مفاعيل الخطيئة، هي الخوف من الله)، بعدها تخاصما، وتراميا المسؤوليّة (من مفاعيل الخطيئة، خلق الخصومة بين البشر)، حتى تبلورت العداوة إلى عهد قايين الذي قتل أخاه هابيل، أمّا ثالثاً وأخيراً فقد خلقت الخطيئة انفصال وعداوة بين الطّبيعة والإنسان، بعدما كانت الطّبيعة ملكاً لهذا الأخير.

إنّ ما حدث مع الابن الشّاطر، يمكن أن يحدث مع كلّ منّا إذا ما طلب من الرّب نعمة الزّواج، والإنجاب، وراح وبذّرها في أعمال الطّيش كالخيانة والإهمال وغيرها، أو إذا ما طلب الغنى وبذّره على شراء آلات الحرب والطّمع... ولكنّ هذا الابن ندم وتاب وعاد إلى أبيه، طمعاً برحمته الواسعة، إذ أعاد له هذا الأخير الملك في الثّياب الفاخرة، والسّلطة في الخاتم، ودعاه إلى مسيرة جديدة في الحذاء، وفرح به من خلال ذبح العجل المسمّن.

ولكنّ المشكلة في هذا النّص لا تكمن في الابن الضّال بل في أخيه؛ فالأوّل أخطأ ككلّ البشر، وكان صادقاً مع نفسه ومع أبيه، لكنّ أخاه الذي ينعم بملك أبيه، ويخدمه، كما ينعم المسيحيّون اليوم بملك الله، ويطبّقون شريعته بحذافيرها كوثنيّين، وتنقصهم النّعمة، لأنّهم يقفون حاجزاً بين رحمة الله والخاطئ، ويحكمون على الآخرين ظلماً، ويرفضون خلاص إخوتهم.

وختم الاب الرّياضة بالتّذكير بانّ زمن الصّوم والتّوبة، لحظة ودقيقة عند الرّب، اللاّزمني، الذي يمكن له أن يغفر لأكثر النّاس خطيئة إذا ما تابوا وآمنوا، تماماً كما حدث مع لصّ اليمين. ودعانا في هذا الزّمن إلى فرز إيجابيّات حياتنا وسلبيّاتها، حتّى نقوّي الأولى، ونحاول التّخلّص من الثّانية، بفحص الضّمير، وصفاء النيّة، والتوبة وطلب المغفرة ، وبقوّة الإرادة والبدء بالمسيرة الخلاصيّة. كما أنّه علينا أن نجهر بإيماننا بالله أمام النّاس، من خلال تناولنا ليسوع المسيح كجماعة، إذ نصبح مساكن له، وإخوة به، وبالاتّحاد بيسوع المسيح في تناول القربان، نعبر به ومعه وإليه.

ملاحظة : كتُب مضمون المحاضرة من قبلنا بتصرّف
26/7/2009 "ليأتِ ملكوتك" (مت 10:6) ّإنّ في مملكة الله لا موت ولا عمى ولا أسر
ليأتِ ملكوتك" (مت 10:6)
الخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة العناية، بيت المحبة - جبيل

26/7/2009

يستهلّ الخوري سلّوم حديثه عن الملكوت بالتّاكيد أنّه لا يحدّه مكان ولا زمان، وأنّه شامل ومطلق، وأنّه أشمل من أن نتحدّث عنه لأنّه سوف يستغرقنا زمناً. ثمّ ينتقل إلى إخبارنا أنّ يسوع المسيح علّمنا صلاة الأبانا على جبل الزّيتون خلال ثلاثة أشهر، وأنّه بعد بيت عنيا، يطلّ على أسوار أورشليم وفيها سبعة أبواب، كالأبانا المحتوية سبع طلبات، ومنها " ليأتِ ملكوتك "؛ وفيها تمنٍ أن يأتي، وهو يأتي من خلالنا؛ ولله دوره الأساسي فيه ونحن بدورنا نساهم في ملكوته.
واستطرد ليخبرنا أنّه على ذاك الجبل ذهب ليصلّي الأبانا، هناك اليوم خمساً وثمانين لوحة للأبانا بلغات مختلفة، وأنّ هناك كنيسة ضخمة بلا سقف يصلّي المؤمن فيها فتصل صلاته إلى أذن الرّبّ مباشرة.
وملكوت الله أو مملكته كانت مشروع مملكة في طفولة يسوع الذي كان مشروع ملك، والذي منذ طفولته قد أخاف ومملكته الملك هيرودوس الذي أمر بقتل كلّ أطفال تلك المملكة خوفا من مُلك الطّفل يسوع. منذ مجزرة أطفال بيت لحم، والمملكات تُزَعزع.
ثمّ بدأ مُلك يسوع بالتّحقّق للنّاس لدى دخوله أورشليم، أرض السّلام، على الآتان، كملك سلام، لا كملك حرب، فتجمّع النّاس حوله يعطونه المفتاح، لكنّ المفتاح كان معه...أتوا ليتباركوا:"إذن افلشوا قلوبكم للرّب"، وحملوا أغصان الزّيتون، فتداعت الممالك كلّها. كلّهم ساروا وراء يسوع! يسوع الذي ما خاف أحدا، حتّى وقف أمام بيلاطس البنطي واليهود جميعهم تآمروا عليه، فأعلن له أن مملكته ليست من هذا العالم، بعدما أجابه بتأكيد لسؤاله: "أنت ملك اليهود" ب: "أنت قلت".
وأشار الخوري سلّوم إلى إعلان آخر ليسوع عن مملكته، في إجابته لتلميذي "يوحنّا" : "العمي يبصرون، والموتى يقومون، والأسرى يُطلقون، والمساكين يُبَشّرون"، إذ إنّ في مملكة الله لا موت ولا عمى ولا أسر...مملكة الله في داخل كلّ منّا، وعلى كلّ منّا أن يعيش الملكوت على الأرض. هذه هي فلسفة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، وروحانيّتها، فالموت عبور، ونحن مع مشروع الملك. ولهذا الملك أربعة قصور:
*القصر الأوّل: مذود بيت لحم، الفقر والتّخلي، وكلّ الملوك أتوا إليه.
*القصر الثّاني: الصّليب؛ فقد جلس يسوع على العرش الحقّ.
*القصر الثّالث: المذبح.
*القصر الرّابع: الإنسان؛ إذ إنّك متى فتّشت عن يسوع، فتّشت عن الإنسان :"كنت جائعاً فأطعمتموني، كنت عطشاناً فسقيتموني، كنت عرياناً فكسوتموني...كلّما صنعتم لإخوي الصّغار، فلي قد صنعتموه".
هذه المملكة نزور قصورها بلا مواعيد، ولكن لها نظاماً وشرائع وقوانين، تُختَصر بال "إنجيل" ، أي سماع كلمة الرّب والعمل بها، وهو مشروع المملكة؛ وهذه السّنة هي سنة الكهنة والكهنوت، وعمل الكاهن يتجسّد بعين إلى الله، وعين على الإنسان. ومشروع المملكة مشروع صعب، إذ إنّ يسوع لا يقبل بالجزء:
"أحبب الرّب من كلّ قلبك"، ولكنّ يسوع يستقبلنا في مملكته دائما ومهما تأخّرنا، كما فعل مع لصّ اليمين: "اليوم تكون معي في الفردوس"، لدى طلبه أن " يذكره في ملكوته ".
وقد أنهى الخوري حديثه بأنّه علينا أن نجسّد الملكوت بالفقر والفقير، وأن نبقى مستعدّين وقناديلنا ملأى بالزّيت لاستقبال العريس.

ملاحظة: دُونت المحاضرة من قبلنا بتصرّف
25/7/2009 "حياتي هي المسيح" (في 21:1) الإنسان العاقل، هو الذي اكتشف الحبّ
"حياتي هي المسيح" (في 21:1)
الأب ابراهيم سعد
لرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة العناية، بيت المحبة - جبيل

25/7/2009

بعد شرح مفهوم "الحياة"، وهي "الحضور"، أي الوجود كشخص حيّ في الدّنيا، و"التّأثير"، و"الحركة"، إذ إنّ حركة الإنسان تدلّ على أنّه حيّ؛ أعلن الأب سعد، أنّ حياتي ممكن أن تخلو من المسيح ، لكنّ المسيح لا يمكن أن يُخلي ذاته من حياتي؛ وإذا ما كنت مؤمناً بالمسيح، فلن تعود معادلة أن أكون حيًّا بالحضور، والتّأثير، والحركة، وحضور المسيح فيها- إذا أردت-، ولكنّ المعادلة ستنقلب إلى أن يصبح حضوري وتأثيري وحركتي في المسيح وبالمسيح وللمسيح، وهكذا تتمّ مقولة القدّيس بولس وهو مقيّد بالسّلاسل في السّجن: "حياتي هي المسيح، والموت لي ربح".
والقدّيس بولس، في مقولته هذه، يقيم مقارنة بين أن يحيا في الجسد مقيّداً من أجل النّاس، وبين أن يموت فيكون مع المسيح ويربح الحياة الثّانية. ثمّ انتقل الأب سعد ليشرح شقّي الموضوع أو النّقطتين الأهمّ فيه :

- الشّق الاوّل: ويسأل عن معنى الحياة، فتأتي الإجابة أنّ بين الحياة والحبّ ارتباطاً وثيقاً.
فالحبّ هو ما يميّزنا عن الحيوانات والنّباتات التي تعيش بالغريزة من أجل حفظ وجودها، وهذا الحبّ نفسه، المرتبط بالنّاس، هو الذي يمكن أن يكون سبب فرحنا او سبب حزننا في حياتنا؛ من هنا نستنتج أنّ الحبّ الحقيقي، المتمثّل بالعطاء اللامحدود، المطلق- كعطاء الرّب عبر معجزاته تعبيراً عن الحبّ-، وبالتّضحية من أجل الآخرين، هو، وهو فقط الذي يمكن أن يجعل من الإنسان الآخر : "حياتك"."حياتي هي المسيح"، ولا معنى لها من دونه، هو الحاضر فيها بالوجود، في القربان، جسده الذي يعبّر عن "حضوره"، وفي الخمر، دمه، ويرمز إلى "الحياة".
وإذا ما أردنا أن نعرّف بالحبّ فهو أن تهتمّ لمن تحبّ وتلبّي حاجاته لا رغباته. "فالله محبّة"، لأنّه يهتمّ لنا وبنا ويلبّي حاجاتنا التي يدرك أنّها الأفضل لنا، لا رغباتنا التي يمكن أن تدمّرنا ، ومن ينتحر فهو لا يكره الحياة بحدّ ذاتها، بل يكره الحياة الخالية من الحبّ، من حبّ الله. الله أحبّ، فخلق، وأينما يكن الحبّ، يكن العطاء. وبالتّالي فمعنى حياتي كإنسان هي " لمسة الحبّ، الحبّ، الحبّ.

- الشّق الثّاني: ويؤكّد فيه الأب سعد أن لا حبّ بدون عطاء، وبأنّ العطاء يجب أن يكون متبادَلاً.
ميزة الله أنّه ما توقّف يوما عن الحبّ، وأنّ يرى كلاًّ منّا: "الحبيب الأوّل"، ويعاملنا كما يعامل الأب اطفاله، ومن هنا الآية: "إن لم تعودوا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السّماء".فمحبّة الله المطلقة، لا يمكن أن تُكشف لنا، إلا إذا فكّرنا كأطفال. ومحبّة الله غير مشروطة، فهو الإله الذي يحبّني حتّى لو لم يجدني، لأنّه محبّة، ومتى أحبّني، وجدني، ومن بحث عن الله، أي أحبّه، وجده؛ والمؤمن المؤمن هو الذي يستشهد في سبيل الله لأنّه فهم معنى الحياة كمعلّمه، والإنسان العاقل، هو الذي اكتشف الحبّ. على هذا الرّجاء نتابع حياتنا، حتّى تتحوّل وتصبح المسيح.

وقد ختم الأب سعد حديثه ببعض الملاحظات والتّوصيات، وذكّرنا أنّه من المهمّ أن نتيقّن أنّ المسيح يحبّنا، وألاّ نجهد في محبّة النّاس لأنّ المحبّة طبيعة وليست فعلاً، والتّعبير عنها هو فعل عطاء وخدمة، وحبّ الله نار لا تُطفأ، والجهاد الرّوحيّ هو المحافظة على الكنز الرّوحي الذي وهبنا الله إيّاه.

ملاحظة: دُونت المحاضرة من قبلنا بتصرّف
13/4/2008 على ماذا ترتكز روحانيّة جماعة "اذكرني في ملكوتك"؟ نحن لا نحزن، بل نتوب، ونتمسّك بالرّجاء والإيمان
على ماذا ترتكز روحانيّة جماعة "اذكرني في ملكوتك"؟
الخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة العناية، بيت المحبة – أدونيس، جبيل.

13/4/2008

شدّد الخوري جوزف سلوم في البداية على أهميّة الأصول والأساس ونقطة الانطلاق في كلّ ما في الحياة: من علاقات اجتماعيّة على مختلف أنواعها، إلى انطلاقة الجماعات المختلفة، إلى ساعة الدّعوة والقبول عند الأب أو الخوري أو الرّاهبة...إذ إنّ هذه البداية، تحيي فينا روحًا مغيّرةً، محرّرةً ،أصيلةً، قادرة على لمّ فتات المتناقضات النّاجمة عن تأثيرات الزّمن والحياة بين الجماعات، أو حتى في نفوس الأفراد أنفسهم...
ثمّ انتقل مباشرة إلى أصول ومصادر وأسس الملكوت المتعدّدة في الإنجيل المقدّس، شارحا إيّاها:

- المصدر الأوّل: هو صلب يسوع في الجلجلة بين لصّ اليمين ولصّ الشّمال أي اليسار.
ويمثّل لصّ اليسار الّذي قال ليسوع: "إن كنت حقّا ابن الله، فخلّص نفسك وخلّصنا"، الشّيطان الذي طالما جرّب المسيح؛
أمّا لص اليمين فقوله: "أذكرني متى أتيت في ملكوتك"، ليس إلا صرخة توبة وإيمان لأنّه رأى في يسوع: "المخلّص". فيسوع لم يؤجّل خلاص اللّص، ولم ينتظر ريثما يدرس وضعه وحالته، بل قال له: "اليوم تكون معي في الفردوس".
تماما كما في بشرى الملاك: " اليوم ولد لكم مخلّص"؛ وفي الإنجيل ورد: "اليوم إذا سمعتم صوته ،فلا تقسّوا قلوبكم"؛ فالخلاص مع يسوع إذا حاليّ وآنيّ، لا تلكّؤ فيه، ولا مماطلة. كذلك قال يسوع للصّيّادين: "ارموا الشّبكة عن اليمين"، فطفحت سمكًا. وعندما يأتي الملك يفرز الخراف، آل اليمين المخلّصين عن اليمين، من الجداء عن اليسار؛ وبذلك لم تعد "اليمين" مجرّد جهة أو مكان، بل صارت حالة إيجابيّة، إيمانيّة، إلهيّة.

أمّا المصدر الثّاني: فهو قيامة يسوع المسيح من بين الأموات، والتي عليها بني إيماننا وهي الأصل والأساس:" لو لم يقم المسيح من بين الأموات، لكان إيماننا باطلا"،على حدّ قول القدّيس بولس.
فبموته نزل يسوع إلى أعماق الجحيم، وداس الأبواب والأقفال، وأمسك بأيدي موتانا، ونشلهم من عذابهم؛ وهذا ما تصوّره أيقونة القيامة. فالعهد الجديد ليس إلا متابعة للعهد القديم، وما جوهر روحانيّتنا وإيماننا، إلا القيامة والحياة الأبديّة.

أما المصدر الثّالث: فهو إنجيل "الغنيّ ولعازر"، اللّذين ماتا، وللموت حقّ على الجميع، فهو حصّاد يجمع الكلّ، فقراء وأغنياء، ويساوي الجميع تحت منجله في الغياب. إلا أنّ مصير ما بعد الموت، هو بيد الموتى وحدهم. فالغنيّ ضاع اسمه بين ممتلكاته وأمواله، فنزل إلى الجحيم ومكان العذاب؛ أما لعازر، فقد حفرت أعماله الصّالحة اسمه بماء الذّهب، فحملته الملائكة، ووضعته في أحضان ابراهيم، لذا فمن أراد الوصول إلى السّماء ، فليؤمن، وليعمل الصّالحات وسط عذابه، ترجّى الغنيّ الربّ أن يخبر إخوته الخمسة، بما ينتظرهم من عذاب، ربّما يغيّرون مسار حياتهم، لئلا ينتهوا في الجحيم؛ وهذا أساس رسالتنا التي نرسلها إلى إخوتنا الخمسة في أربعة أقطار العالم.

وقد ركّز الأب جوزف، في الشّقّ الثّاني، من الرّياضة على جماعة "اذكرني في ملكوتك"، المنطلقة من الكنيسة، الحضن الذي يدفئ، ويشفي، ويساعد. فنحن إذا، جماعة كنسيّة ترتكز روحانيّتها وأهدافها على خمس ركائز مهمّة وهي:
- المواظبة على تعاليم الرّسل.
- التّعرّف بإنجيلنا، كلمة الربّ، وعيشه بعمقه.
- كسر الخبز في سرّ الإفخارستيا أو القدّاس،لأنّه علامة الوحدة، وهو لا يقام فقط من أجل موتانا، بل من أجل كلّ واحد منّا، لخلاص نفوسنا ونفوسهم، ولتحقيق شراكة الموتى مع القدّيسين؛ أفلم يقل الرّب:"وأنا أقيم في اليوم الأخير كلّ من يتناول جسدي؟".فالقربان المقدّس هو أهمّ ما في الجماعة، هو نبع الينابيع، هو ذروة القيامة.
- الصّلاة الفردية أو الجماعية؛ "فمن يعش في الصّلاة، يعش مع الرّب".
فالصّلاة من أجل راحة أنفس موتانا، مع الأبانا والسّلام وصلاة الجماعة، هي ما يجمعنا، ويوحّدنا، ويقوّينا، ويقدّسنا.
- الحياة المشتركة:" إن أحبّ بعضكم بعضا، بهذا يعرف العالم أنّكم تلاميذي". لذا، فشراكة المحبّة التي تجمعنا على تعدّديّتنا واختلافاتنا، هي ما يجعلنا علامة على كنيسة يسوع، نتعلّم الصّفح والغفران والعطاء، فلا يعود بيننا محتاج.
المشروع ليس ملكنا، بل هو مشروع السّماء، مشروع الله فينا، ممّا يجعلنا جماعة إلهيّة لا ترضى بأن يكون أفرادها إلا قدّيسين، يحيون بالنّعمة الإلهيّة التي توحّد بينهم.
فنحن جماعة روحانيّتها مسكونيّة موحّدة بين الفئات والأعمار والطّوائف: فلنعش الملكوت إذا، ولنترك الباقي لله.
ونحن قياميّون، نؤمن بالقيامة، بالحياة الثّانية، صخرة إيماننا وأساس بشرانا. كما أننا جماعة فصحيّة في عبور دائم وولادات مختلفة. وجماعة بشارة بالخلاص، بالسّماء؛ نصرّ على وضع موتانا في أحضان مريم، ونبقى برجاء عند أقدام الصّليب منتظرين الخلاص. كما أنّنا جماعة رجاء نعيش، ونعوّد الآخرين عيش القيامة بالرّجاء بالمسيح يسوع، حاضرين مع بعضنا البعض من أجل بعضنا البعض، إذ إنّنا لسنا جماعة كلام، بل جماعة تصميم وعمل.
وأنهى الأب كلامه بالتّشديد أخيرا على أنّنا قياميّون، ولا نركع، ولا نحزن، بل نتوب، ونتمسّك بالرّجاء والإيمان والتّوبة، حتى نرتفع مع مريم والتّلاميذ إلى السّماء يوم العنصرة.

ملاحظة: الرياضة الروحيّة السنوية 2008 لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة العناية، بيت المحبة – أدونيس، جبيل.
دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.
12/4/2008 "الحياة بعد الموت" الإنسان مدعوّ إلى ما بعد الموت
"الحياة بعد الموت"
الأب ميشال عبود الكرملي
الرياضة الروحيّة السنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة العناية، بيت المحبة – أدونيس، جبيل.

12/4/2008


يستهلّ الأب ميشال عبّود محاضرته بالإشارة إلى تاريخ يوم هذا اللقاء، منوّهاً إلى أنّ اللحظة التي تمرّ لا عودة إليها بل نتحضّر بعدها للحظة التّالية. وأشار إلى أنّ لحظة أو ساعة، أو يوماً واحداً، أو يومين يكفيان لتغيير حياة كاملة إذا ما سمعنا كلمة تلمس عمق كياننا؛ لأنّ للكلمة تاثيرها الفعّال، فهي قد تفرح وتنمّي اللّحمة بين النّاس، كما قد تجرح وتقطع وسائل الاتّصال بينهم، الكلمة تحيي، وتميت.
وكلامنا اليوم يدور حول: "الحياة ما بعد الموت". وقد أشار إلى أنّ أولى مصادر معرفة ماذا يوجد بعد الموت، هي الإنجيل المقدّس الذي بقراءتنا المتأنّية له، نستطيع أن نسبر أغوار ما بعد الموت أو أن نتخيّلها على الأقلّ،
مستشهداً بتجربة الرّئيس الفرنسي الرّاحل "فرانسوا ميتيران"، التي جاءت في كتاب:"سرّ موت فرانسوا ميتيران"، حين أعياه المرض في أشهره الثّمانية الأخيرة، فذهب إلى "جان كيتان"، الفيلسوف المسيحيّ الملتزم، يسأله عمّا يخبّئه الموت، فطلب منه أن يقرأ الإنجيل حتّى يعرف؛ وهذا ما أمضى أيّامه الأخيرة يفعله بشهادة كاتب الكتاب.
وبما أنّ لا أحد يعرف عن السّماء إلاّ من نزل من السّماء، أي يسوع المسيح، فقد ترك لنا الإنجيل حتى نعرف ذلك؛ وهذا ما توصّل إلى إدراكه القدّيسون الأبرار.
وكما أنّ طبيب التّجميل يشرح للمريض التّحوّل الذي سوف يطرأ عليه، وكيف سيبصبح شكله بعد العمليّة، ولا يتطرّق لتفاصيل العمليّة بحدّ ذاتها، وكما أنّ الأهل عند استعداد أولادهم للسّفر إلى مكان ما، لا يهتمّون بتفاصيل ما قبل السّفر، بل يطلعونهم عمّا ينتظرهم هناك بعد السّفر، كذلك نحن في سفر دائم على حدّ قول القدّيس أوغسطينوس. وكما أنّ المسافرين، قديماً، كانوا يبعثون بسلاماتهم إلى ذويهم، وبرسائلهم التي لا يجيدون قراءتها أحياناً فيفسّرها لهم آخرون، كذلك نحن نتلقّى السّلامات والرّسائل ممن سبقونا عند يسوع- فصاروا مثله، هو القائل: من آمن بي، يعمل أعمالي"- عبر الكتاب المقدّس.

وانطلاقتنا ستكون مع الكتاب المقدّس المقسوم إلى عهد قديم وعهد جديد، وفي هذا الأخير وبخاصّة في إنجيل "متّى" نذكر "الملكوت" جدّا، ونذكرها في الأبانا وحدها مرّتين.
وفي كتاب "سفر الرّؤيا" كلام كثير من لا يدركه يعتقد أنّه يدور حول الكواكب إلاّ أنّ كل ما جاء فيه قد تمّ لأنّه يتكلّم عن الرّجاء، بعد الوجع والألم والاضطهاد الذي عاشه المسيحيّون باسم من آمنوا به من دون أن يروه. وقد أتى في سفر الرّؤيا الفصل 21 ما يلي:
" وقد رأيت سماء جديدة لا بحر فيها"، والبحر يعني الموت عند العبرانيين لأنّهم لم يروا فيه إلاّ الموت: من الطّوفان، إلى عبور البحر نحو أرض المعاد، ما قتل كثيرين منه. أمّا السّماء الجديدة فدليل إلى تغيّر النّظرة إلى مفهوم السّماء والأرض، ومفهوم الحياة ككلّ. ويتابع ليقول: "وأنا رايت مدينة أورشليم الجديدة نازلة من عند الله مجهّزة كأنّها عروس مجهّزة لعريسها، وسمعت صوتاً هاتفاً من العرش: الآن صار مسكن الله بين النّاس، هو يسكن بينهم، وهم يصيرون شعباً له؛ الله نفسه يكون معهم، إلهاً لهم، وسيمسح كلّ دمعة من عيونهم، إذ يزول الحزن والصّراخ والألم، لأنّ الأمور القديمة كلّها قد زالت".

كثيراً ما يتساءل الإنسان تجاه حتميّة الموت عن سبب ولادته بالأصل، لأنّه يرى في الموت ألماً وفراقاً، لذا سنقوم بمقارنة سفر التّكوين بسفر الرّؤيا. الأوّل ويختصر بالخلق ونفخ روح الله في الإنسان مما جعله أبديّاً مثله، وتمشّى معه في الجنّة، وسلّطه على كلّ شيء، في علاقة حميمة، ولكنّه حرّم عليه شجرة معرفة الخير والشّر التي استباحها الإنسان مخالفاً وصيّة الرّب، عند دخول الشّيطان، الطّرف الثّالث. ويُعرّف الشّر أو عدوّ الإنسان بالجسد، كما يقول مار بولس، والعالم الذي لم يفهم قصد الله، على حد قول مار بطرس، والشّيطان الذي يوقف مشروع الله الخلاصي ويسقطه من الجنّة بعد أن تنصّل كلّ من آدم وحوّاء من مسؤوليّة الخطيئة، فجاء يسوع ليحمل معاصينا وخطايانا.
في سفر التّكوين تدخل الخطيئة إلى الإنسان، أمّا في سفر الرّؤيا فتخرج الخطيئة منه. في سفر التّكوين هروب للإنسان من وجه الله، أمّا في سفر الرّؤيا فلقاء بين الله والإنسان، كما أنّه في سفر التكوين ينال الإنسان اللّعنة، ويعيش في حزن وندم وتسود الخطيئة ويضيع الفردوس، أمّا في سفر الرّؤيا فتزول اللّعنة وينال الإنسان النّعمة، ويُمّحى الحزن ويضمحلّ الألم والنّدم وتختفي الخطيئة ويستردّ الفردوس. في سفر التّكوين، الموت نهاية الإنسان، ولكنّ المؤمنين يحيون إلى الأبد مع اللّه في سفر الرّؤيا.

ويسرد الاب عبّود تجربة فتاة كانت محاربة ومناضلة ضدّ الدّين المسيحي، ودفعها موت أخيها إلى التّساؤل حول ماهيّة ما بعد الموت، وبخاصّة أنّها كانت قد دفنت هرّتها التي ماتت قبل أخيها بأيّام، فتأكّدت أنّه من غير المعقول أن تتساوى الهرّة وأخوها في هذا السّر! لا بدّ أن يكون هناك تفسير! فراحت تقرأ الإنجيل والقرآن وكتاب بوذا حتّى ارتدّت إلى المسيحيّة بمساعدة كاهن مرشد. وبالتّالي، هذا الفرق بيننا والكائنات هو ما يؤكّد بأنّ الإنسان هو كائن البعد، لأنّه خُلق على صورة الله ومثاله، لا بالشّكل بل بكونه السّاعي الوحيد إلى السّعادة ومعرفة خفايا ما بعد الموت وإلى تحقيق وجوده.
والإنسان مدعوّ إلى ما بعد الموت، وخريطته في سبيل ذلك هي الكتاب المقدّس، الذي بدأ ببشارة الفرح لمريم من قبل الملاك: "افرحي"، ولزكريّا: "لا تخف"، وللرّعاة: "ها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون للشّعب كلّه". أيّ فرح وأطفال بيت لحم يقتلون، وراحيل تبكي على بنيها وتأبى أن تتعزّى لأنّهم زالوا من الوجود، وبدأ التّناقض في الحياة؛ فالبشريّة بدأت بالألم مع قتل قايين لهابيل. ثمّ يأتي الميلاد أي سرّ الخلاص، وسط بكاء الأطفال؛ ومن هنا يتبيّن بأنّ الفرح الذي بشّر به الملاك كان فرح السّماء الرّوحي لا فرح الأرض الجسدي. ثمّ يأتي يسوع ليبشّر بملكوت السّموات: "توبوا فقد اقترب ملكوت السّموات"، الذي حلّ بمجيئه، والذي انتظرته الشّعوب قبله. وقد أعطى يسوع لتلاميذه علامات مجيء الملكوت، من شفاء المرضى وغيرها، حتّى ذهلوا وسألوه ماذا تعطينا بعد؟ وشدّ أنظارهم إلى فوق قائلاً: "إنّ أسماءكم مكتوبة في السّماء". وكلّ من آمن بيسوع، يكتب اسمه في سجلّ الحياة؛ ثمّ يطلعنا الأب عبّود عمّا جاء في سفر الرّؤيا عن سجلّ الحياة، بما اختصاره وقوف الأموات أمام سجل الحياة المدوّنة فيه أسماؤهم، وأعمالهم، ومن غاب اسمه عن السجل طرح في بحر من نار.
ويستطرد الأب عبّود للكلام عن نار جهنّم المُعَدَّة لإبليس وشياطينه، لا للإنسان! والله كأب لا يرمي أبناءه في النّار.
ثمّ ينقل عن قداسة البابا يوحنّا بولس الثّاني قوله:" نعبر الى الحياة الثانية واعيننا مفتوحة" ، فنحن أبناء السّماء، وإخوة المسيح، وشركاؤه في الميراث، أي الملكوت. وهو عندما دعانا لنتبعه وعدنا بالصّليب لا بالحياة السّهلة الخالية من أيّ صعوبة! والله لا يحرم من الميراث من أولاده إلاّ من يترك الآب بكامل إرادته، لأنّ رحمة الرّب واسعة جدّاً، وهو مسامح إلى أبعد الحدود، لكن "المحبّة لا تستغلّ المحبّة"، فعلينا بدورنا أن نبادله الخير وأن نتربّى على المحبّة. ويقول "يوحنّا الصّليب": "في مساء حياتنا سنُدان على المحبّة"، لأنّ الله محبّة، والسّماء عي لمن أحبّ الرّب وعاش بنوّته. كما أنّه يسمح للبعض أحيانا بتذوّق السّماء على الأرض، واعداً إيّانا جميعاً بالتّجلّي في السّماء.
وختم بالتّذكير بأنّ العابر إلى السّماء، والموعود بالملكوت، لا يخاف الموت، بل يصبر، ويعيش حياته الأرضيّة هذه واضعاً المشاكل تحت رجليه لترفعه، لا فوق رأسه فتوقعه وتغرقه؛ كما أوصانا أن نعيش هذه الحياة بحبّ وفرح، حتّى مع عقبات الألم، لأنّ الألم لا يولّد الحزن إنّما الحزن هو مولِّد الألم.

ملاحظة: دُونت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.
3/3/2007 الرياضة الروحيّة السنويّة من أنتَ يا الله؟ من أنت أيها الإنسان؟
مَن أنت يا الله؟
مَن أنت أيها الإنسان؟
دير سيّدة العناية – بيت المحبة، أدونيس

3/3/2007

كان اللقاء الأول مع الأب ميشال عبود الكرملي، حول موضوع: " من أنت يا الله؟"، وحاول الأب الإجابة عن هذا السؤال مستندا إلى أقوال القدّيسين، والكتاب المقدّس في عهده القديم، وكلام المزامير، وخبرته الشّخصيّة...فقد قال القدّيس أغسطينوس في هذا المجال: "لو كنت تفهمه، لما كان الله"؛ كما قيل في العهد القديم إنّ الله "كشف ذاته لموسى"، وأنّ له صفات عدّة؛ فهو "إله الرّحمة، طويل الأناة...". كما جاء في المزامير إنّ رحمته عظيمة: "إرحمني يا الله، كعظيم رحمتك"، "الله محبّة"، "الله رحمة"، وأنّه الرّاعي الكافي: "الله راعيّ قلا يعوزني شيء"، والأب المنتظر الابن الضّال أبدا: "الله ينتظر الابن الضّال"،"عندما كنت أبحث عنك، وجدتك تبحث عنّي"، القدّيس أغسطينوس؛ فهو الصامت امام خطيئتنا، ينتظرنا كأب لنا.
كما أنهى الأب كلامه بالتّذكير بأنّ الله خلق الإنسان وسلّطه على كلّ شيء، وشدّد على أنّ الله يُفهم بالاختبار، وأنّه هو الآب المحبّ.

امّا اللقاء الثاني فكان مع الخوري جوزف سلوم، حول موضوع: " اين أنت ايها الإنسان؟"، الذي أجاب عن هذا السّؤال مستشهداً بإجابة المسيح: "أنا ابن الله"، ومستنتجاً أنّ الإنسان هو "عطاء ذات" مستمرّ، يتسلّح بالإيمان حتى يحمي المجتمع، كما أنّه حارس على حياته، وعلى كرامته الشّخصيّة.
ودعا الخوري سلّوم في نهاية اللقاء إلى خروج الإنسان من سياسة "بين بين"، إلى اتّخاذ موقف، وإلى عيش الإيمان المسيحي بقلب مفتوح على حاجات الّناس، والتّشبّث بثقافة العطاء.

وختم اللقاء بشهادة حياة وتبادل الخبرات الروحيّة.