البحث في الموقع

كلمة الحياة

العظات

26/4/2016 إنّ الإنسان المسيحي هو ابن الرجاء الأب ميشال عبود الكرملي
https://youtu.be/GwtScp_SChw

عظة الأب ميشال عبّود الكرمليّ
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الرابعة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
كنيسة مار جرجس – الضبية

26/4/2016

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي، نجتمع اليوم كي نحتفل بالذكرى الرابعة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، في كنيستَي مار جرجس والصعود في الضبية. ونجد ترابطًا كبيرًا بين الانجيل الّذي قُرِئ على مسامعنا اليوم، وبين انطلاقة هذه الجماعة في الرعيّة. "اُذكرني في ملكوتك"، هي عبارةٌ قالها لِصٌ في آخر لحظة من حياته للمسيح. يقول القدّيس أوغسطينوس عن هذا اللّص إنّه تمّكن من سرقة الأرض والسّماء معًا. تمكّن من سرقة السّماء في آخر لحظات حياته عندما طلب ذلك من يسوع المعلّق قربه على الصّليب. إنّ يسوع لم يرفض طلب هذا اللّص رغم أنّه ارتكب السيئات في حياته، ولم يقل له إنّه لا تجدر النّدامة الآن، وإنّه كان عليه أن يتوب قبلاً، لا بل على العكس، فقد رحبّ يسوع بطلب الّلص وقال له إنّه سيكون اليوم معه في الفردوس أو السّماء. وعندما نتكلّم عن السّماء، تتبادر إلى ذهننا صورة الموت المصحوبة بِصُوَر الحزن، ونرفض التكلّم عن الموت والحزن على الرغم من أنّنا نذكر ذلك دائمًا في صلواتنا. فعندما نتلو السّلام الملائكي نقول: "صلّي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا"، إذًا نحن نَذكُرُ الموتَ في كلّ لحظةٍ من حياتنا. وكذلك نذكر السّماء حين نصلّي الأبانا إذ نقول: "كما في السّماء كذلك على الأرض"، إنّ ذلك من شأنه أن يُذّكِرنا دائمًا بأن على قلوبنا أن تكون موجّهة صوب السّماء دائمًا. إنّ الانسان الّذي يرفض أن يُفَكِّر بالموت وبالسّماء يشبه إنسانًا مجروحًا يرفض أن ينظر إلى جُرحِه. إنّ رفض الانسان النّظر إلى جُرحِهِ، سيجعله يستمِّر في التّوجع، ولن يحصل على الشفاء. إذًا على الانسان أن ينظر إلى جرحه، وأن يكشف عنه للطبيب، عندئذٍ، سيتمّكن الطبيب من شفائه، وإن سبّب ذلك له ألـمًا في بداية العلاج.

إنّ دواءنا هو الرّجاء: فنحن لا نعيش من أجل أن نصبح فقط حفنة من التّراب في القبور عند الموت، بل نحن نعلم أنّنا أبناء الله. إنّ الله قد دعانا إليه، نحن البشر، عندما خلقنا، إذ نفخ فينا من روحه، فسكنت روحه فينا، وإنّ روح الله لا تموت فهي خالدة. ونحن نعلم علمًا يقينًا أنّه مهما كَثُرَ عدد أيّامنا على هذه الأرض، فهناك نهاية لا يمكننا الهروب منها، كما نعلم أنّه في كلّ يوم صباحٍ جديد يُعطينا إيّاه الله، لا يشير فقط إلى زيادة في عدد السنين، إنّما يدّل أيضًا على اقترابنا أكثر من النّهاية. إنّ البابا يوحنّا بولس الثاني يدعونا إلى أن نَعبُر إلى الحياة الثانية بعيونٍ مفتوحة.
إنّنا في كلّ مرّة نجتمع في الكنيسة للمشاركة في هذه الذكرى، أي من أجل الصلاة لراحة نفوس أمواتنا، تتحدّ كنيسة الأرض، بكنيسة السّماء. نحن لم ننسَ موتانا وهم ليسوا بغائبين عنّا، فصحيح أنّهم غادروا هذه الأرض، لكنّهم أصبحوا اليوم في السّماء. في زمن القيامة، ظهر يسوع لتلاميذه غير أنّهم لم يعرفوه لأنّ آخر صُوَر يتّذكرونها عنه كانت إمّا على الصليب مُعلّقًا مُهانًا، وإمّا في بستان الزيتون، وإمّا في العشاء السّري، فقد تفاجأ التّلاميذ بظهور يسوع لهم وبقيامته من بين الأموات. إنّ الأمر نفسه يحدث معنا إذ نتذكر دائمًا كلامهم الأخير، وتنطبع في مخيّلتنا صورتهم، فنتذكرهم بحسرةٍ، ونعيش في الماضي باكين على أطلاله.

إنّ الانسان المسيحيّ هو ابن الرّجاء. ونحن نعلم أنّ موتانا يسكنون مع الرّبّ الآن في السّماء. فعلى الانسان أن يُفكِّر بالموت بهذه الطريقة المليئة بالنضارة الروحيّة. وعندما يفكِّر الانسان في السّماء والموت، عندئذٍ يستطيع أن يعيش الحياة بملئِها، فلا يعود يتقوقع على ذاته، وينغلق عليها، إذ يعيش الانسان هذه الحياة مرّةً واحدةً. إنّ الله لا يخلق شيئًا سيئًا، والله خلق الحياة، وأعطاها للبشر، فالحياة إذًا حسنة. إنّ الله خلقنا لكي يكون كلّ واحدٍ منّا هديّة للآخر، وبالتّالي إنّ الله يدعونا لعيش هذه الحياة بملئها على مثال يسوع. وأخلاقية الحياة المسيحيّة هي أن يسعى الانسان للتصرّف كما كان الرّبّ سيتصرّف لو مرّ بالظروف ذاتها. لذا يجب علينا قراءة خريطة السّماء ألا وهي الانجيل. إنّ المسيحيّ مدعوّ ليعيش الانجيل، ويضعه نُصب عينيه. ويقول يسوع: إنّ كلامه نورٌ وحياة، لكن النّور يزعج الانسان الّذي يعيش في الظلمة. إنّ كلمة الله تزعج في بعض الأوقات، وفي أماكن معيّنة، لأنّها تدعونا إلى أن نغيّر مسيرة حياتنا، إلى تغيير الأمور الّتي لا يرضى الله عنّها. إنّ كلمة الله هي حياة: هذا هو إيماننا. إنّ الشيطان حاول أن يستغل نقطة ضعفٍ عند يسوع، فجربّه حين كان جائعًا في البريّة، فطلب منه استخدام كلّ قوّته الإلهيّة، وتحويلها إلى مصلحته الشخصيّة عبر تحويل الحجارة إلى أرغفة خبزٍ. لكن يسوع ردّ عليه قائلاً له إنّه: "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله"، فهذه الكلمة، كلمة الله، تقودنا إلى السّماء.
حين كان يسوع مارًّا، نظر يوحنّا إليه وحدّق فيه. ونحن اليوم، مدعوّون إلى التحديق في يسوع. إنّ الحياة المسيحيّة لا تتميّز بالصلاة، أو بالايمان، أو بالمسامحة، فبقيّة الديانات تقوم على الصلاة، والايمان، وتدعو إلى المسامحة. لكن ما يميّز الحياة المسيحيّة عن سواها هو أنّها ترتكز على شخص يسوع المسيح، وتؤمن به، هو الّذي بشّر به الرّسل بعد قيامته. إنّ المسيحيّة ليست دينًا إنّما هي حياة. إنّ يسوع يعطينا حياة على هذه الأرض، وحياة في السّماء. عندما حدّق يوحنّا إلى يسوع، وأشار إلى التلميذين بأن يتبعاه، ترك التّلميذان يوحنّا على الفور، وتبعا يسوع، ويوحنّا لم يمنعهما من ذلك بحجة أنّه يريد بعض الرّجال معه. وعندما وصل التلميذان إلى يسوع، سألهما: "ماذا تريدان؟" إنّ يسوع يقف أمام كلّ شخص منّا، ويعيد عليه السؤال نفسه الّذي طرحه على هذين التّلميذين، وهو ما الّذي نريده. هل نستطيع أن نعطي الرّبّ يسوع جوابًا؟ إنّ شبيبتنا تعاني من الضياع، لأنّها لا تعرف ماذا تريد. إنّ كلّ ما نقوم به هو محاولة مَلْء فراغ قلوبنا كي ننسى أوجاعنا. إنّ التلميذين لم يطلبا من يسوع، كونه الخالق، أن يعطيهما المال، أو أمورًا أخرى ماديّة، بل طلبا معرفة مكان إقامته: "ربي أين تقيم؟"، أجابهما يسوع بدعوتهما إلى أن يأتيا، وينظرا أين يقيم: "تعاليا وانظرا". إنّ جواب يسوع لكلٍّ منّا إن سألناه أين يقيم، سيكون أنّه: يقيم في قلوبنا، في داخلنا. إنّ الطوباويّة أليصابات الثالوث تقول:"لقد وجدت سمائي على الأرض، لأنّ السّماء هي الله، والله موجود في قلبي، وأريد أن أبوح بهذا السّر إلى أحبائي". إذًا نستطيع أن نتذّوق طعم السّماء، ونحن على هذه الأرض، وذلك من خلال لقاءاتنا الشخصيّة مع الرّبّ، وفي كلّ مرّة ندرك أنّ الله موجود في حياتنا. ومن يجد الله في حياته، يستطيع أن يجده في الآخرين، وعندئذٍ يستطيع أن يحبّ الآخرين، ويرى في الآخرين الرّبّ المتّجسد، وعندما نأتي إلى الكنيسة، فنرى الله في القربان الّذي يعطينا مفاتيح السّماء، هو الّذي قال إنّ من أكل جسده وشرب دمه فله الحياة الأبديّة. إنّه لأمر رائع أن نكون مجتمعين، في كلّ قداديس "اُذكرني في ملكوتك"، كعائلة واحدة لنؤكد أنّنا أولاد السّماء، أولاد الرّجاء، وأنّنا نعيش مع بعضنا البعض. هل تعلمون أنّه في كلّ قدّاس، يتمّ ذكر الموتى في الحساية، أي "صلاة الغفران"، وأيضًا في النوايا، أي في تذكارات المؤمنين؟ نحن لا نستطيع أن نقدِّم لأمواتنا شيئًا سوى ذكرهم في القدّاس: حين كانوا لا يزالون حاضرين معنا على هذا الأرض، كنّا نقدِّم لهم الهدايا الملموسة، أمّا الآن فأكبر هديّة نقدّمها لهم، هي أن نلتقي بهم في القدّاس، فكما نقوم بالزيارات الاجتماعيّة لنلتقي ببعضنا البعض، كذلك، نحن نلتقي بأمواتنا عند المسيح في القدّاس. هذه هي أهميّة الايمان.
نطلب من الرّبّ أن يعزِّز فينا دومًا روح الرّجاء، ويقوّي فينا الايمان كي نعيش كما عاش هو في تجسّده، وأن نعيش حضوره في حياتنا، وأن نعرف كيف نُبقِي عيوننا وقلوبنا موجّهة صوب السّماء حيث هو حاضر، له المجد إلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.

تتمة...
12/4/2016 نحن نُكمل مسيرة الإيمان الّتي بدأها الانبياء والرّسل والقدّيسون الأب عبود عبود الكرملي

عظة للأب عبود عبود الكرمليّ
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
دير يسوع الملك- زوق مصبح

12/4/2016

باسم الآب، والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

المسيح قام!

إنّه لأمرٌ طبيعيّ في حياتنا البشرية، أن نعاني من الصعوبات، لأنّ كلّ واحدٍ منّا له تفكيره وآراؤه ومشاعره الخاصّة به. ولكن في الوقت نفسه، إنّ إيماننا الّذي نستمده من يسوع المسيح وقيامته هو الّذي يعطينا القوّة لنكمل مسيرة حياتنا.
في الأحد المنصرم، قرأت الكنيسة على مسامعنا انجيل تلميذي عمّاوس: كان هذان التّلميذان يسيران على الطريق وقد التحق يسوع بهما. إنّ سَيرَ يسوع مع التّلميذين هو دليلٌ واضحٌ على أنّ الله من خلال ابنه يسوع لا يتركنا وحدنا أبدًا. إنّ الأهل يتركون أولادهم الصّغار يمشون وحدهم لفترة معيّنة غير أنّهم يراقبونهم عن بُعد فمتّى تعرّضَ الأبناء للخطر، أسرع الأهل لنجدتهم. فإن كنّا نحن البشر نعامل أولادنا بتلك الطريقة ولا نتركهم وحدهم، فكم بالحريّ الله الّذي أحبّنا وخلقنا، وضحّى لأجلنا بابنه على الصّليب! لقد أخذ الله عاهاتنا وأوجاعنا وآلامنا، وأعطانا بالمقابل الفرح والسّلام والسعادة. من خلال هذا الانجيل، يقول الله لنا إنّه دائمًا بقربنا ولن يتركنا أبدًا. أمّا من خلال انجيل اليوم، فندرك أنّ يسوع، الّذي هو خبز الحياة والّذي نستمدّه من الافخارستيا، يسكن في قلوبنا، لذا لا يجب أن نَدَعَ مشاعرنا وأحاسيسنا هي الّتي تُسيِّرنا بل علينا أن نسعى كي ندمج بين القلب والفكر فنكوِّن فكرة ناضجة تعطينا نورًا لكيلا نسير حسب رغباتنا.

سار يسوع مع التّلميذين، وفسّر لهما الكتب المقدّسة أي العهد القديم، الّذي يتضمن الشريعة وكتب الانبياء، والعهد الجديد. وهنا أوّد أن أشجّع لقاءات تفسير الكتاب المقدّس الّتي تقام بشكلٍ دوري في مركز جماعة: "اُذكرني في ملكوتك". في عالمنا اليوم، لقد وصل الشعب إلى مرحلةٍ ترك فيها الكتاب المقدّس ونَسِيَه، وبخاصّة العهد القديم. فكما أنّنا نُكمل مسيرة الحياة الّتي بدأها أهلنا كذلك، نحن نُكمل مسيرة الإيمان الّتي بدأها الانبياء والرّسل والقدّيسون الّذين سبقونا أمّا نحن فما زلنا نسير في هذه الحياة والّتي حتمًا ستُوصِلنا إلى الحياة الأبديّة بفضل إيماننا.

في انجيل اليوم نقرأ: "أرنا آيةً لنؤمن بك! ماذا تقدِر أن تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنَّ في البريّة، كما جاء في الكتاب: "أعطاهم خبزًا من السّماء ليأكلوا". فأجابهم يسوع:" الحقَّ الحقَّ أقول لكم: ما أعطاكم موسى الخبز من السّماء. أبي وحده يعطيكم الخبز الحقيقيّ من السّماء."(يوحنّا6/30-32). نحن دائمًا نرمز بالخبز الحقيقيّ إلى الافخارستيا، حيث الخبز يتحوّل إلى جسد المسيح، والخمر إلى دمّ المسيح، إنّه المسيح بالذات، هذا هو إيماننا. كم نحن محظوظون إذ أنّه عندما نشارك بالقدّاس ونتناول جسد المسيح ودمه، يدخل المسيح إلى حياتنا. إنّه الخبز الحقيقيّ الّذي يعطينا الاندفاع والحياة ويقيمنا من اليأس ومن البُغض وعدم الرّجاء، وبخاصّة نحن الّذين ننتمي إلى هذه الجماعة الّتي تقيم الصلوات من أجل أمواتنا، ونتذكرّهم في كلّ قدّاس. في كلّ يوم أحد، نأخذ نفحةً من الرّجاء ونشعر بالأمان إذ أنّ أمواتنا الّذين سبقونا، قد تناولوا كلمة الله أي الانجيل والرسائل، واغتذوا من جسد المسيح ودمّه. إنّ هذا الرابط بيننا وبين أمواتنا يبقى من خلال الصلاة والذبيحة الإلهيّة. هل هناك أجمل من هذا الأمر؟! لا أعتقد أنّ هناك أجمل من ذلك بأن ينال الانسان الله في حياته الداخليّة.
لذلك نحن في هذه الذبيحة الإلهيّة، الّتي نقيمها من أجل راحة أنفس جميع أمواتنا الراقدين، نصلّي لكي يكون لدينا رجاء وإيمان بأن هناك قيامة، كما نصلّي كي نكون مستّعدين لتلك الّلحظة الّتي لا نعرفها، حين يطلبنا السيّد أي المسيح، فلنسعَ كي نكون مستّعدين وفرحين للقائه مع الّذين سبقونا. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرّف.

تتمة...
9/4/2016 إنّ قوّة الرّجاء والإيمان تدفعنا إلى أن نتذكر أمواتنا الخوري جوزف سلّوم
https://youtu.be/AAA5vOiMlEM

عظة الخوري جوزف سلّوم
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الخامسة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
كنيسة مار جرجس– الديشونيّة

9/4/2016

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

نحن اليوم، مع جماعة "اذكرني في ملكوتك"، هذه الجماعة الّتي تذكر أمواتنا، جماعة الرّجاء، جماعة الصلاة من أجل أمواتنا، نحتفل بهذه الذبيحة الإلهيّة. إنّ علاقتنا وشراكتنا بأمواتنا لا تنتهي عند حجر المدفن، بل تذهب إلى أبعد من ذلك. إنّ قوّة الرّجاء والإيمان تدفعنا إلى أن نتذكر أمواتنا، أحباءنا كي نبقى على علاقتنا بهم. نصلّي مع هذه الجماعة الّتي تحوِّل الموت إلى عيد، تحوّل دموعنا وأحزاننا إلى رجاء. إخوتي، إنّ صدمة الموت، هي صدمة كبيرة جدًّا في الحياة. فإن لم يكن للإنسان قوّةَ رجاءٍ بالمسيح الحيّ الناهض من بين الاموات، فسيكون حزننا كبيرًا جدًّا بالتأكيد وسينتهي مشوارنا عند القبر. غير أنّ مشوارنا مع الرّبّ لا ينتهي بالموت فإنّ الرّبّ يغيِّر مشوار حزننا. سوف نتأملّ معًا على أضواء القيامة، بهذا الحدث التاريخيّ والاختبار الرائع، الّذي يعطينا إيّاه الرّبّ لنختبر روح الفرح والغلبة. سوف نتأمّل بثلاثة أحداث لديها أبعاد مهمّة في زمن القيامة.
أوّل حدث وظهور وترائي هو لمريم المجدليّة على باب القبر فجر نهار الأحد. إنّ يسوع قد مات نهار الجمعة ولم تتمكنّ مريم المجدليّة من القيام بما يتوجبّ عليها القيام به للميت. إنّ يسوع مات عند الثالثة من بعد ظهر نهار الجمعة فلم يتمكنّ محبّوه أن يقيموا له دفنًا يليق به، وبالكاد تمكنّ يوسف الرّامي ونيقوديموس من الذهاب إلى بيلاطس لطلب الجثمان قبل حلول الظلام كي لا تبقى أجساد المصلوبين على الصليب ليوم السبت. عند فجر الأحد، ذهبت المريمات ومن بينهنّ مريم المجدليّة ليضعوا الطيوب للميِّت -فإن العادة اليهوديّة كانت تقتضي ذلك-وكنَّ يفكِّرن في مَن سيدحرج لهنَّ الحجر عن باب القبر، وعند وصولهنّ وجدنَ أنّ الحجر كان قد دُحرِجَ. سوف نتوّقف عند النقطة التّاليّة وهي كيف عرفت مريم المجدليّة يسوع القائم من الموت؟ وكيف نحن نستطيع التعرّف عليه اليوم؟ لقد عرفت مريم المجدليّة يسوع من خلال أمرٍ واحدٍ: فهي لم تعرفه من خلال ثيابه البيضاء، بل عرفته من صوته عندما ناداها باسمها "مريم". نحن اليوم، نعرف يسوع من خلال صوته، كلمته، وإنجيله. نحن لم نَرَ يسوع بعين الجسد، إذ أنّنا لم نكن من معاصريه، لكنّنا اليوم، نراه أكثر من التّلاميذ من خلال كلمته في إنجيله. عندما نبتلع هذا الكتاب في بيوتنا وفي حياتنا، سنرى أنّ عائلاتنا كلّها تتغيّر وتتحسَّن.
الحدث الثاني هو توما الّذي لم يُصَدِّق أنّ يسوع قام من بين الاموات، والّذي قال أنّه إن لم يَرَ يسوع الّذي عُلق على الصليب فهو لن يُصَدِّق أنّه قام. إنّ يسوع يحضر عندما تكون أيامنا سوداء. إنّ يسوع جاء ودخل والابواب موصدة، حضر إلى المكان وقال: "السلام لكم." ثمّ نادى توما وقال له: "هاتِ اصبعك، وضعه في جنبي وكن مؤمنًا لا غير مؤمن". إنّ توما لم يضع اصبعه. ولكن من خلال كتابة هذا الاختبار في الانجيل، نتعلّم بأنّ يسوع يريدنا أن نراه في أوجاع إخوتنا، في أوجاع النّاس، في الآمهم وأحزانهم. وفي هذه السنة، يوبيل الرّحمة، لا يمكنني أن أنغلق على ذاتي، ولا أستطيع أن أغضّ النّظر عن جروحات إخوتي البشر. نحن نقول في عيد التجسّد أي في عيد الميلاد "إنّ الكلمة صار جسدًا وسكن بيننا"، أمّا أنا فأتجرأ وأقول إنّ الكلمة صارت أخًا، إذ لا أستطيع أن أرى أخًا من إخوتي البشر، يعاني من الآلام والاوجاع دون أن أحاول المساعدة، فإنّ كلّ أخٍ هو يسوع. ويسوع نفسه يقول لنا في انجيل الدينونة إنّه كان جائعًا وعطشانًا ومسجونًا إذ إنّه يضع نفسه مكان كلّ أخٍ بحاجة إلينا. هذا هو يسوع الّذي علينا أن نبادر إلى لقائه، هذا هو يسوع الحيّ الحاضر في إخوتي المتألمين.
أمّا الحدث الثالث والأخير هو تلميذا عمّاوس. سوف نتوّقف عند أربع أفكار سريعة فيما يخصّ تلميذي عماوس، تلخِّص كلّ مسيرة حياة كلّ إنسان. إنّ هذين التّلميذين قد تعرّضا لصدمة. ونحن أيضًا نتعرّض في خضَّم الحياة إلى صدمات نتيجة فشل، دموع، حزن، موت، مرض، خيانة، غياب، وغيرها من الامور. هذه الصدمات قد تؤدي بنا إلى أن نطرح على ذواتنا السؤال عن السبب في تلك الصدمات. وهذا ما حصل مع التلميذين، فقد تعرّضا لصدمة قويّة وطرحا على أنفسهما هذا السؤال ولأنّهما لم يجدا الجواب قرّرا العودة من حيث أتيا. إنّ أحد التلميذين يدعى كلوبا أمّا الآخر فمجهول الاسم. إنّ لوقا كاتب الانجيل لم يذكر اسم التلميذ الثاني من تلميذي عمّاوس، وبذلك يشير إلى أنّ كلّ واحدٍ منّا يمكن أن يكون التلميذ الثاني المجهول الاسم. إنّ كلّ واحدٍ منّا عليه أن يمشي في هذه الطريق، أي أن يسير في طريق الحزن. إذًا، أنا وكلوبا نسير على هذه الطريق. فلنفكِّر اليوم، كيف نسير هذه الطريق مع أحزاننا والآمنا مع كلوبا؟ هذه أوّل محطة، في هذا اللّيل الطويل الّذي نعيشه، عندما يعيش الانسان صدمة أو جرحًا معينًّا يبدأ بطرح التساؤلات على ذاته، علَّه يعرف السبب. كما يمكن أن تطرح هذه الصدمة شعورًا بالحزن ورغبة بالبقاء وحيدًا. كلّ هذه الأمور عاشها التلميذان في المحطة الأولى.
...

تتمة...
7/4/2016 إنّ الاشخاص الّذين نحبّهم ونقدِّرهم، نتذكّرهم اليوم، ونحن نحملهم في فكرنا وصلواتنا الأب أغابيوس الكفوري
https://youtu.be/otBD3nFM3fI

عظة للأب أغابيوس كفوري
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة سيّدة العناية - البوشرية

"المسيح قام من بين الاموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للّذين في القبور"

7/4/2016

المسيح قام، حقًا قام!
إخوتي، في في كلّ مرّة نجتمع مع جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، نتذكّر أمواتنا. إنّ السؤال الّذي يطرح نفسه علينا وخاصّةً في عيد القيامة، ما هو الموت؟ كيف أستطيع أن أتواجه مع الموت؟ كيف عساي أتعامل بشكلٍ أو بآخر مع هذه الخسارة؟ عمليًّا، إنّ الاشخاص الّذين نحبّهم ونقدِّرهم، نتذكّرهم اليوم، ونحن نحملهم في فكرنا وصلواتنا، في قلوبنا وفي عقولنا. هم أشخاص غادروا هذه الارض وقد وضعناهم في أمانة الله. عندما نفكِّر بهذه الطريقة، نتكلّم عن حالة بيولوجيّة بسيطة هي انفصال الجسد عن الرّوح. والذّي يكوِّن الإنسان هو اتّحاد الجسد والرّوح. إنّ الانفصال بين الجسد والرّوح، نسميّه موتًا. والكنيسة اليوم، من خلال هذا الانجيل الّذي قرأناه منذ قليل، تَلفُت إنتباهَنا إلى موت أخطر وأسرع من الموت الجسديّ. وتعلّمنا الكنيسة أنّ هذا الموت الّذي نخاف منه، الّذي نبكي فيه على أشخاص غادرونا وسنشتاق إليهم، هو حقيقة لا نستطيع الهروب منها. لكنّ يسوع يقول لنا في تعليمه في إنجيل اليوم: "ولكن تأتي ساعةٌ وهي الآن حاضرة، يسمع النّاس صوتي، وقد أتيت لأحكُم". إن يسوع يشجِّع الانسان فيقول له إنّه ابن الحياة وهو أيضًا ابن الموت. وبالتّالي فإنّ يسوع يخبرنا بهذه الطريقة أنّ هذا الموت البيولوجيّ، أي انفصال الرّوح عن الجسد، ليس بشيءٍ. صحيح أنّ فقدان أحدهم يسبّب لنا بكاءً مريرًا وألماً شديدًا صعب التّحمل، ويسبّب لنا حزنًا، ولكنّه يسبب ذلك لفترة وجيزة من الزّمن. إنّ يسوع يقول لنا إنّ بعد هذه الفترة من الحزن، عليّ أن أفهم كمسيحيّ مؤمن أنّ هذا الموت ليس بشيء. إنّ الامر الأخطر من ذلك هو أن أكون ابن الموت، عوض أن أكون ابن الحياة، ابن يسوع المسيح، ابن الايمان بالحياة، أي أن أستسلم وأعتقد أنّ الحياة لا فائدة منها، وأن أعيش في غربة بين الأشخاص الّذين يحبّونني في هذه الحياة، وأن أعيش بعيدًا عن الله الّذي أعطى حياته لأجلي ليقول لي أنّ لي الحياة. إذا نسيتُ حبّ الله لي وحبّ الجماعة أيضًا، نسيتُ أن أعيش بموجب هذه المحبة، يحذّرني المسيح فيقول لي إنّني سأحاسب على ذلك يوم الدينونة. يقول لنا يسوع إنّ هذه الحياة لا تنتهي، فالمشكلة ليست في الحياة. فالحياة، شئنا أم أبينا، هي حياة أبديّة لا تنتهي، والموت هو مجرّد مرحلة. فإمّا أن أنتقل إلى الحياة الحقيقيّة، للمكافأة الحقيقيّة كي أعيش في قلب أحضان أبي السّماوي، في قلب الحبّ، في قلب الرّحمة والرّجاء، باذلاً ذاتي. وإمّا أن أكون قد اخترت أن أنتقل إلى الدينونة حيث البكاء وصريف الاسنان. وهذا البكاء وصريف الاسنان لا يبدأ غدًا أو حين يموت الانسان بل يبدأ من الآن. فإن لم أكن قادرًا على الشعور بأنّني محبوب ، أكون قد بدأتُ جحيمي من الآن، أي بدأت أعيش الموت والدينونة. وإن كنت غير قادرٍ على أنّ أُحِبّ أكون بالتّالي قد بدأت أعيش الجحيم والموت، والدينونة. إذا كنت غير قادر على أن أكون بقرب من هو بحاجة لي، أكون قد بدأت أعيش الجحيم، الدينونة والموت. وفي كلّ مرّة، أزرع الحبّ والبسمة والأمل في قلب أيّ إنسان كان، أصبح من أبناء القيامة والحياة، ويصبح هذا الجسد الّذي أنا أحمله مجرد سفينة تحملني لكي أصِل إلى بَرِّ الأمان، إلى أحضان أبي السّماويّ.

إخوتي، نعيش الرجاء كي نستطيع أن نتحوّل من أبناء هذا العالم إلى أبناء القيامة. فهذه القيامة الّتي نعيشها في كلّ لحظة وكلّ يوم من حياتنا، ونعكسها على كلّ ما نواجهه من مشاكل وصعوبات في حياتنا تنعكس انتصارًا وفرحًا وأملاً ورجاءً، أملاً في أن يكون الغد أفضل من اليوم. هذه القيامة تنعكس أعمال محبّة ورحمة ورجاء في حياتنا.
على هذا الرّجاء اليوم، نرفع صلواتنا ونتذكر كلّ أمواتنا، الأحياء منهم والأموات الراقدين على رجاء القيامة، لكي نصبح عائلة واحدة مقدّسة، عائلة قائمة من بين الأموات لأجل حبّ الرّبّ لنا.
لك المجد يا ألله، أنتَ الّذي أحببتنا، وتحبّنا دائمًا، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.

المسيح قام حقًا قام.

ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.

تتمة...
3/4/2016 "يا يسوع إني أثق بكَ" الشماس بسام عقيقي

عظة للشماس بسام عقيقي
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة مار الياس- زوق الخراب

3/4/2016

المجد لله، دائمًا لله.
المسيح قام، حقًا قام!
إنّ ليتورجيّة نهار الأحد، هي ليتورجية القيامة، ونعيّدها طوال السنّة وليس فقط يوم القيامة المجيدة وفي زمنها المقدَّس. ففي كلّ يوم أحد أحضر فيه إلى الكنيسة لأشارك بالقدّاس، أقول المسيح قام، وأتذكر هذه القيامة وأحتفل بها. إنّ القيامة أمرٌ مهمٌّ جدًّا عند المسيحيّين، ولكنّها أيضًا أمرٌ غامضٌ إذا لا معلومات كافية ووافية عن القيامة، أي عن كيفيّة حصولها. لكن هناك بعض الاختبارات المدّونة في الكتّاب المقدّس، كاختبار النّساء الّلواتي ذهبن إلى القبر لتحنيط جسد يسوع، جسد يسوع الميّت ولكنّهنّ لم يجدنه في القبر؛ كما لدينا أيضًا شهادات الرّسل الّذين ظهر لهم يسوع بعد القيامة وأكل وشرب معهم كأي إنسانٍ كامل: وهذا كلّ ما لدينا في الكتاب المقدّس عن حدث القيامة. وأظنّ أن تلك المعلومات الضئيلة عن القيامة تدفعنا إلى طرح العديد من التساؤلات وقد تدفع البعض إلى عدم تصديق حقيقة حدث القيامة، لأنّهم مثل توما للأسف لم يروا بأعينهم ولم يضعوا أيديهم في جروحات المسيح، جروحات الألم.

في يوبيل الرّحمة، وفي عيد الرّحمة هذه السنة، أتذّكر جملةً واحدة ًهي: "يا يسوع أنا أثق بك". ثمرة عيد القيامة هي الثقة ولكن ليست ثقة عمياء. فالمسيحيّون ليسوا بِعميان ولكنّهم يرون القيامة ليس بعين الجسد، إنّما بعين الإيمان، إنّهم يرون القيامة بالبصيرة الداخليّة وليس بالبصر. حين نرى أمرًا معيّنًا بعين الجسد، لا يعود هناك قيمة لإيماننا به إذ إنّ ما نراه نستطيع تصديقه لأنّه أصبح حقيقة. ولكن عندما نصدّق أمرًا معيّنًا لم نره بعين الجسد ولكن نختبره، فهذا يسمّى الإيمان. إنّ توما هو أكبر دليل على هذه الحالة الإنسانيّة الّتي نعيشها إذ إنّ الجميع يمرّ بمرحلةٍ زمنيّة معينّة يشكّ فيها بالله، فنصبح بحاجة إلى أن يُرينا الله أنّه أقام المسيح فعلاً، وأنّ هذه القيامة هي حقيقة كي نصدِّق ونؤمِن. لا شكّ أنّ الإيمان يرتكز على أنّ يسوع هو حقيقةٌ، غير أنّ الله غير مستّعد ليخرق النّظام الّذي وضعه منذ الخلق كلّما أراد الانسان ذلك أو شكّ بحقيقة وجود الله. إنّ الرّبّ قد تجسّد مرّة واحدة في التّاريخ وعاش أمامنا على هذه الأرض ليقول لنا أنّ حياتنا هي مسيرة حجٍ لما نحن أصلاً فيه. فما تؤكده الكتب المقدَّسة هو أنّنا كنّا في فكر الله قبل أن نوجد على هذه الارض، وعندما خلقنا الله دخلنا في مسيرة حجٍ على هذه الأرض. إنّ الثقة الّتي نتحلّى بها في عيد القيامة هي نفسها تلك التّي نختبرها يوميًّا عندما نستيقظ ونقرِّر مثلاً الذهاب إلى مكان معيّن، كالكنيسة مثلاً، نحن نكون على ثقة أنّنا سنصل إلى المكان المنشود إذ أنّنا نعرف الطريق. لكن عند وجودنا في المنزل لم نكن نرى المكان الّذي نريد الوصول إليه، لكنّنا كنّا على ثقة داخليّة أنّه إذا سلكنا الطريق المعيّن مستعينين بذاكرتنا ومتكِّلين على النّعمة التي نتمتّع بها، سوف نصل إلى المكان المنشود. إنّ حياتنا تشبه هذا المثل، فنحن نسير صوب الملكوت، حتّى وإن لم نره الآن، فنحن لسنا بحاجة إلى أن نرى الملكوت إلاّ في حينه، لكنّنا على ثقة تامّة، أنّنا في كلّ مرّة نسجد ونصلّي، وفي كلّ مرّة نؤمن، ونسلِّم ذواتنا للرّبّ، نحن على ثقة أنّه سيوصلنا إلى الملكوت.

تتمة...
17/3/2016 حياتنا كلّها انتظارات الأب جان عقيقي
https://youtu.be/AmBdAJB7Veg

عظة للأب جان عقيقيّ
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الثامنة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
رعية مار يوسف – المطيلب

17/3/2016

الله معكم، الله هو دائمًا معكم.

حياتنا كلّها انتظارات. إنّ الطفل ينتظر من أمّه أن ترضعه، ثمّ ينتظر الأهل الطفل كي يكبر ليذهب إلى المدرسة، وبعد ذلك ينتظرونه كي يصبح شابًا فيعمل ويتزوّج. كذلك، نرى الشاب ينتظر أن يجد عملاً وأن يؤسس عائلة وينتظر إنجاب الأطفال بعد أن يجد شريكته في هذه الحياة. حياتنا كلّها انتظارات، الأمّ تنتظر أولادها، والعجوز ينتظر أولاده. وعندما يموت الانتظار في حياة الانسان، تموت الحياة. ففي بعض الأوقات، تكون الانتظارات على مستوى الفرد، وفي البعض الآخر، على مستوى الشعوب. نحن في لبنان، ننتظر حلاً لمشكلة النفايات، وحلاً لرئاسة الجمهوريّة، وكلّها انتظارات على مستوى البلد. على مستوى العالم العربي، ننتظر انتهاء الحروب.

إنّ الكتاب المقدّس هو مليء بالانتظارات. ففي العهد القديم، كان الشعب ينتظر مجيء المخلّص. في العهد الجديد، نعيش منتظرين المجيء الثاني. فإن مات الانتظار، حتّى على مستوى الشعوب، لا معنى للعيش. من ضمن الاشخاص في العهد القديم الذّين كانوا ينتظرون مجيء المخلّص، شابٌ اسمه يوسف، وفتاةٌ اسمها مريم. كان هذا الشّاب كبقيّة الشباب يحلم بالزواج والسعادة والعيش الكريم مع شريكة حياته بالأمانة والإخلاص. وكان هذا الشّاب يسير بمخافة الله عمره كلّه. لم يكن ينتظر هذا الشاب أن تكون خطيبته أمّ الله المخلِّص والمنتظر، لم يكن يتوّقع أن يزور الملاك خطيبته لينقل لها البشرى بأنها ستكون أمّ الله، مع العلم أنّ يوسف كان شخصًا متعمّقًا في الكتب المقدّسة، ويعرف الآية القائلة: "إنّ العذراء تحبل وتلد ابنًا"، ولكنّه شكّ ودفع به شكّه للتفكير بالانفصال عن خطيبته. لقد اضطرب، احتار في أمر خطيبته لعلمه أنّها طاهرة عفيفة، غير أنّ الرّبّ لم يتركه في حيرته. إنّ يوسف بالرغم من حدوث هذا الأمر معه، لم يتفوّه بأيّ كلام ضد مريم ولم يُشَهِّر بها، ولم يتكلّم عنها بالسوء، لكنّه فكّر بالانسحاب. ولكنّ الرّبّ أرسل له الملاك ليخبره بحقيقة أمر مريم وشجّعه وأخبره أنّه هو أيضًا قد تمّ اختياره من قبل الرّبّ ليكون أبًا ومربّيًا لابن الله. إنّ الله أخبره بالأمر ولم يسعَ ليؤثّر على حريّة يوسف في قبوله لهذا المشروع ولم يضغط عليه. عندئذٍ، يوسف آمن بهذا السرّ، قَبِلَ هذه المهمّة التّي أوكلت إليه، وأصبح أبًا شرعيًّا أمام جميع النّاس ليسوع الانسان الذّي قِيلَ عنه إنّه ابن يوسف النّجار. إنّه لشرف عظيم لهذا الشاب أن يُربّي ابن الله! لقد تهلّل يوسف بالملائكة عندما جاؤوا عند ولادة يسوع ورتّلوا المجد للّه في العلى، واستقبل الرّعاة والمجوس عندما سجدوا ليسوع، وهرب أيضًا يسوع إلى مصر عندما رأى الخطر يحدق بابنه. لقد عرف معنى التشرُّد، الهرب، الغُربة، الانتظار مع العذراء مريم. وقد نذر حياته كلّها ليكون قُربَ مريم خطيبته ويسوع ابنه. لقد أَطلَقتُ عليه في هذه السنة، سنة الرّحمة، لقب رسول الرّحمة، إضافةً إلى كلّ الألقاب التّي حصل عليها عن جدارة: أشرف قدّيس، بتول، عفيف، زَينُ الابكار، يوسف المختار، كامل بالفضائل، مملوء من الانعام، شاهد لسرّ الفداء، أب ليسوع ومربٍّ له، شفيع العائلة، شفيع الكنيسة، شفيع البتوليين، صديق الله. أنا أريد أن أضيف لقبًا له وأقول عنه إنّه رسول الرّحمة، ذلك لأنّه عندما اكتشف أمر حَبَلِ مريَم، لم يتكلّم عنها بالسوء، ولم يكشف سرّها علنًا لكي تُرجَم وتموت كما كانت تقتضي الشريعة في حينها. إنّ يوسف كان كاتم سرّ مريم. إن ّأكثر خطيئة تزعجني أنا اليوم، ليست الزنى، إنّما النميمة أي قتل صيت الآخر. إنّ الزِّنى هو إساءةٌ إلى شخص واحد، أمّا النميمة فهي قتل الانسان وجعل صيته ينتشر في كلّ مكان. يُخبرون عن امرأة جاءت إلى الكاهن وقالت له أنّها تثرثر وتتكلّم بالسوء على جاراتها. فطلب منها أن تأتيه بدجاجةٍ منزوعة الريش لكي يغفر لها خطيئتها. ففعلت كما أمرها وأتته بها. عندئذٍ طلب منها أن تذهب وتعيد الريش إلى الدجاجة. فاستغربت طلبه هذا واعترضت قائلةً له إنّ ذلك هو أمر مستحيل. فقال لها إنّ هذا ما فعلته بجارتها، إذ أصبح صيتها سيئًا على كلّ لسان وشِفة. وهكذا فإن قتل الصيت والنميمة، هما أكبر من كلّ الخطايا. إنّ موقف يوسف كان موقف رجل الرّحمة إذ لم يُشَهِّر بمريم على الرّغم من تفكيره بالانسحاب، ولكنّ الرّبّ تدّخل وأوضح له أمر مريم أنّ مريم طاهرة وهي حبلى من الرّوح القدس.

إنّ يوسف هو رجل رحمة مع عائلته: مع زوجته وابنه. اليوم، هناك العديد من الرّجال، للأسف، لا يعيشون الأبوّة في حياتهم، وعند أوّل أمر يُطلَبُ منهم القيام به، ينسحبون بكلّ سهولة: كم هناك من الآباء الذّين يتركون أولادهم وزوجاتهم من أجل لعب الميسر ومن أجل الجري وراء غرائزهم وأمور أخرى تافهة، تاركين عبء التربية لزوجاتهم. إنّ يوسف كان يقف جنب مريم في الصعوبات، كان يقف مع مريم ضدّ الدّهر، وليس العكس. في عمق الصعوبة، عندما كان الملك هيرودس يريد قتل يسوع، هرب يوسف مع عائلته من أجل الإبقاء على حياة يسوع. إذًا نلاحظ التّعاون الموجود بين مريم ويوسف، فهو لم يتملّص من المسؤوليّة ولم يترك مريم وحدها في هذه الصعوبة. إنّ يوسف كان يعمل لِيُقيت عائلته من عرق جبينه، بصدقٍ وأمانةٍ. لقد كان رجلُ عملٍ، لذلك نرى أن العمّال اتخذوه شفيعًا لهم للتّشديد على أمانته في عمله. هذا الرّجل كان رجل رحمة في عائلته، في عمله، مع مجتمعه، ومع الكنيسة أيضًا. لقد هرب يوسف مع عائلته إلى مصر ليحمي يسوع من الموت إذ علم أنّه المخلّص، وهنا نرى أنّ الله جعل من يوسف مدافعًا عن الكنيسة إذ دافع عن المخلِّص لكي يتمّ مشروع الخلاص. كان رجل رحمة مع الكنيسة. في هذه السنة، نستطيع أن نقول أنّ مار يوسف هو رجل الرّحمة، لأنّه كذلك حقًّا، على الرغم من أنَّ الكُتّاب والوُعاظ لا يتكلّمون عنه كثيرًا.

إنّه رجل الرّحمة وشفيع الكنيسة. إنّ البابا فرنسيس أعلن أنّ هذه السنة، سنة 2016 هي سنة رحمة، وقال إنّه سيكون يوبيلاً استثنائياً. في القديم، كانت السنّة اليوبيليّة تُعلن كلّ 50 سنة وكانت تقدّم لله: فمن كان له ثأر على أخيه الانسان، يسامحه في هذه السنة. بل أكثر من ذلك، في هذه السنة لم يكن يتمّ قطف الموسم بل كان يبقى على الشجر لكي يسمحوا لمن هو بحاجة وجائع أن يستفيد من ثمار الأشجار، وكذلك كلّ مارِّ على الطريق. وكانت المسامحة بين المتخاصمين تتمّ في هذه السنة. لذلك قال يسوع عندما قرأ في الهيكل من سفر أشعيا: "روح الرَّبِّ عليَّ، مسحني وأرسلني لأبشِّر المساكين، وأهب العميان البصر، وأحرّر المأسورين، ولتكون سنة مرضيّة لله". لقد أراد البابا فرنسيس هذه السنة أن تكون سنة مرضيّة لله، ودعا المسيحيين في العالم كلّه ليعيشوا الرّحمة مع ذواتهم ومع الآخر. وقال إنّ هناك أعمال رحمة جسديّة وأخرى روحيّة. فأعمال الرّحمة الجسديّة هي مساعدة الآخر: الجائع والعطشان والمشّرد والمنسيّ، والمأسور. أمّا أعمال الرّحمة الروحيّة فهي السعي لإرجاع شخص بعيد عن الله، وإرجاع الملحد إلى الايمان أو إرجاع إنسان يعيش مرحلة "دفن الميّت". والسؤال المطروح: كم نحن بحاجة في كنيستنا، إلى أشخاص على مثال مار يوسف، هذا القدّيس الذّي نتّخذه مثالاً لنا وشفيعًا للكنيسة وشفيعا لآبائنا وللبتولييّن، ونسعى للسير على مثاله؟ كم نحن بحاجة إلى أن نكون على مثال مار يوسف، نسعى لعيش الرّحمة الرّوحيّة والجسديّة؟

نحن نصلّي اليوم، مع جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، هذه الجماعة المصليّة، التّي تحمل بعضها البعض من خلال الصلاة، وتصلّي من أجل الخطأة، وتحمل في صلاتها كلّ الذّين رقدوا. نحن اليوم نشكر الله على هذه الجماعة، ونقول لها إنّه ما زال هناك الكثير لتفعله في سنة الرّحمة ونطلب لها شفاعة مار يوسف الذّي سنحتفل بعيده، بعد يومين، ونطلب شفاعته، إذ إنّه شفيع الميتة الصالحة، لكي تكون كلّ نفوس موتانا مع الرّبّ في السّماء، بشفاعة مريم العذراء والقدّيس يوسف. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة من قبلنا بتصّرف.

تتمة...
15/3/2017 لنصلِّ معًا سائلين الله تعالى أن يبارك جماعتَنا الأب فادي سركيس
https://youtu.be/KA492w2J7Cc

عظة للأب فادي سركيس
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذّكرى الثالثة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتِك"
رعيّة القدّيسين عبدا وفوقا – بعبدا

15/3/2016

إخوتي الاحبّاء، نقدِّم هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفوس جميع إخوتنا المدّونة أسماؤهم في سجلّ الحياة مع جماعة "اُذكرني في ملكوتك".

هذه هي السنّة الثالثة على إطلاق هذه الجماعة في رعيّة القدّيسيْن عبدا وفوقا في بعبدا. وفي السنة الثالثة، يُحتفل بهذا القدّاس تذكارًا لكلّ موتانا واعترافًا منّا بأنّهم مع المسيح القائم قائمون، لأنّهم آمنوا به وهو القائل: "من آمن بي وإن مات فسيحيا". وقد أسّسنا هذه الجماعة في زمن الصّوم المبارك، يومها عشيّة عيد القدّيس يوسف، شفيع الميتة الصّالحة. وفي هذا الزمن المبارك، زمن الصّوم، تحتفل الكنيسة بزمن العودة إلى الذّات وإلى الله وإلى القريب، لأنّ القريب هو صورة الله بيننا. وتُذَّ¬¬¬¬¬¬كرنا الكنيسة مع بداية زمن الصّوم بأننّا من التّراب وإلى التّراب نعود.
وفي الأحد الفائت، الأحد السادس من زمن الصّوم بحسب روزنامة الكنيسة المارونيّة، تحتفل الكنيسة أيضًا بذكرى شفاء الأعمى، ابن طيما أي ابن التّراب، الذّي أعطاه الرّبّ نعمة أن يرى ويُبصِر. ويـا جمال ما أبصر، لأنّه أبصرَ يسوع وجهًا إلى وجه. هذا ما تعيشه الكنيسة عندما تصلّي مع أمواتنا وهم يغادرون هذه الأرض، في صلاة المرافقة، متمنيّة أن يروا وجه يسوع. وهذا ما آمَنَتْ به الكنيسة منذ انطلاقتها، أن تصلّيَ للأموات، لا على أنّهم أموات بل على أنّهم أحياء عند ربّهم. وبما أنّهم عاشوا حياتهم مؤمنين بالمسيح، فهم ينتقلون من هذه الحياة ويتّحدون به على ما جاء في رسائل القدّيس بولس: "إن مُتنا معه نحيا معه، وإن حَيينا معه فسنملك معه".
أيضًا هذا هو إيمان الكنيسة التّي تدعونا اليوم للشراكة مع هؤلاء القديسين الذّين سبقونا ونحن على الدرب سائرون. كلّ منّا، يجد ذاته في استعدادٍ لهذا اليوم الأخير، لهذا اليوم الذّي فيه نلتقي بالله الآب والابن والرّوح القدس وبشراكة القدّيسين.
البعض منّا يقول: "لمَ الاستعجال، سوف نصل حتماً، فلنعشْ الآن، بعض الأيّام كما يليق"، وكأنّ تلك الحياة الأبديّة لا تليق فينا، وكأنّ هذه الحياة هنا فقط هي اللائقة، تليق بالنّاس الذّين أعطاهم الله الوجود. وللحال، فإنّ الرّبّ الّذي أعطانا نعمة الوجود، يعطينا أيضًا اليوم، وكلّ يوم، نعمة الوجود الأساسيّة الّتي هي أن نُوجدَ بوجهه، نوجد وجهًا إلى وجهٍ معه. هذا ما يحصل في القدّاس: نكون في لقاءٍ وجهًا إلى وجهٍ مع الربّ يسوع الّذي أحبّ خاصّته فبذل نفسه عنها. وما بالُنا نبحث خارج هذا الإطار عن وجه يسوع! وجهُ يسوع هو وجه الحبّ، وجهُ يسوع هو وجه الغفران، وجهُ يسوع هو وجه الرّحمة، فكيف بنا نبحث عنه خارج هذا الإطار؟ لن نجد وجه يسوع إلاّ في وجهِ كلّ مستضعف. لن نجد وجهَ يسوع إلاّ في وجه الغريب واليتيم والجائع والعطشان، والّذي قسَت عليه الأيّام. هناك نجد وجه يسوع.
وهذا الوجه الذّي يُمَكّنُنا من أن نعبُر معه إلى حالة السّماء. هذا الوجه هو وجهُ العبور، هذا الوجه هو جسر العبور إلى ملاقاة الرّبّ الذّي يقول لنا في اليوم الأخير: "كلّ ما فعلتموه إلى إخوتي هؤلاء الصّغار فليّ قد فعلتموه". في اليوم الأخير، يقول لنا الأباء القدّيسون سوف نُدان على الحبّ وعلى الرّحمة، على الانتباه للآخر، لا على دينونة الآخر ولا على قسوتنا عليه. هذا ما علّمنا إيّاه الآباء القدّيسون، فهلاّ سلكْنا في هذا الزمن المبارك، زمن الصّوم المقدّس، الّذي فيه نعيش ملء الخصب الرّوحيّ، الربيع الرّوحيّ، لنُثمر ويدوم ثمرُنا.

نحن أغصانٌ في كرمة يسوع المسيح، وكلُّ غصنٍ لا يثبت في هذه الكرمة يَيْبَس، فيُقطع ويُلقى في النّار، هلاّ عرفنا أن نكون أغصانًا حاملي ثمرٍ يدوم ويليق بنا وبالرّبّ الّذي جعلنا أغصانًا في كرمته، أي أعضاءً في جسده السّريّ، في الكنيسة. هذا ما يدعونا إليه الرّبّ في هذا اليوم وكلّ يوم. هذا ما صنعه مع لعازر الذّي أقامه من بين الأموات غير أنّ لعازر عاد فمات. لماذا إذًا أحياه؟ ليقول لنا أنّ الرّبّ هو مَن يعطي الحياة، هو معطي الحياة لأنّه هو الحياة، والطريق والحقّ، هو نور العالم من يتبعه لا يمشي في الظّلام بل يكون له نورُ الحياة.

إذًا، فلنُصلِّ معًا في هذا اليوم المبارك، في الذكرى الثالثة لتأسيس جماعة "اُذكرني في ملكوتك" في هذه الرّعيّة المباركة. لنصلِّ معًا سائلين الله تعالى أن يبارك جماعتَنا ويُعطينا نعمةَ الثبات والأمانة والوفاء لمـَن سبقونا فنقدّم الصّلوات ونرفع القرابين راحةً لنفوسهم وأيضًا لإدخالنا جميعًا في شراكة القدّيسين.
للرّب الذّي دعانا للاتّحاد به، كلّ مجدٍ وإكرام، الآن وكلّ آوان وإلى أبد الأبدين. آمين.

ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرف.

تتمة...
9/3/2016 كلام الرّبّ هو الذّي يعزّي الأب ملحم الحوراني
https://youtu.be/BMC5EV7d8pE

عظة الأب ملحم (الحوراني)
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى السابعة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
كنيسة رقاد السيّدة – المحيدثة، المتن

9/3/2016

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم أيّها الإخوّة، في التاسع من آذار، تعيّد الكنيسة عيد الأربعين شهيدًا. إنّهم مجموعة من الجنود الذّين كانوا يحبّون الرّبّ، وكانوا يعيشون إيمانهم سِرًّا، إذ لم يكن المواطن الرّومانيّ يستطيع إلاّ أن يعترف بالإمبراطور إلهًا له. فإن كنتَ تعبد يسوع المسيح كإله، تكون بالنسبة للإمبراطور خائنًا إذ إنّك تعبد شخصًا آخر غيره، وبالتّالي يجب أن تُقتل. عندما اكتشف الامبراطور أمر هؤلاء الجنود، واكتشف إنّهم مسيحيّون، ألقى القبض عليهم، هدّدهم وتوّسل إليهم ليتركوا إيمانهم بالرّبّ، ولكن دون جدوى. فكان قصاصهم أن يُرمَوا في بحيرة جليديّة متجمّدة في سبسطيا التّي تقع في شرق تركيا الحاليّة أي في أرمينيا سابقًا. رموهم في هذه البحيرة الجليديّة ليفجِّر البرد شرايين أجسادهم. ولكنّهم ساندوا بعضهم بعضًا، عندما كانت قوى بعضهم تخور من جرّاء البرد، فاستطاعوا الصمّود إلى النّهاية دون أن ينكروا إيمانهم. وقد أرسل الله إليهم من السماء أربعين إكليلاً، وكانت تلك الأكاليل ظاهرة لجميع الحاضرين، وقد استقرّت فوق رؤوس الأربعين جنديًّا. في اليوم التّالي، اتّضح للقائد العسكريّ الذي تولّى عمليّة الإعدام أنّهم ماتوا في البحيرة، وكان عليه إخراج جثثهم من البحيرة بسحبهم منها. ثمّ، تمّ كسر سيقانهم وإحراقهم لئلاّ يأتي المسيحيّون ويأخذوا بركة من بقاياهم. فلِمنعهم من ذلك قاموا بإحراقهم. وعندما كان الجنود الرومان يضعونهم في عربات الخيل لنقلهم إلى مكان الإحراق، كان أحدهم واسمه ميليتون، وكان أصغرهم سنًّا، ما زال يتنفّس ويئِنُّ، وكانت أمّه حاضرةً حفلة استشهاده. لاحظ الجنود أمر ميليتون، فقرّروا أن يتركوه جانبًا للاستفراد به لاحِقًا. لكن والدته رفضت أن يستفرد الجنود الرّومان بابنِها، فحملته بنفْسِها ووضعته مع رفاقه الشهداء ليُحرَق مع الآخرين، وطلبت منه أن يُكمل شهادته حتّى
النّهاية وألاّ يُزعزّع أيّ شيء إيمانَه بالله، وأَوصّته ألاّ يضعف إيمانُه.

أريد أن أعكس ذلك على حالتنا اليوم، وعلى هذا العيد الذّي نحتفل به، وهي الذكرى السنويّة للإخوة الحاضرين من جماعة "اُذكرني في ملكوتك" الذين اعتدنا أن نصلّيَ معهم أو مع قسمٍ منهم في الاربعاء الثاني من كلّ شهر على نيّة الموتى فنقيم معهم الجنّاز العموميّ للموتى.
هذه الجماعة تأسّست من أجل أن يسنُد بعضُها البعض، وأن يسندوا النّاس ويشدِّدوهم وبخاصّة المحزونين منهم. كم نحن بحاجة، في رعايانا وفي الكنيسة بشكل عامّ، لهذا النّوع من النّاس المتخصّصين. لا شكّ أنّه في حال حصول أيّ وفاة نرى النّاس تأتي لتعزينا وتسندنا، لكن قلائل هم الذّين يستطيعون أن يعزّونا بما يستطيع فعلاً أن يعزّينا. هناك ناس يعجزون عن أن يقولوا أكثر من كلمة "الله يرحمه". وبالتّالي السؤال الذّي يُطرح: كيف يستطيع هؤلاء الإخوة والأخوات أن يُعزّوا النّاس، فالوقوف بالقرب من الآخر، فقط، لا يستطيع أن يعزّي الآخرين تعزيةً كبيرةً. لا يستطيع الإنسان أن يعزّي الإنسان. الله فقط هو القادر على أن يعزّيني. لذلك سَعَتْ هذه الجماعة إلى أن تُوّسع نشاطها وتتعلّم من الرّبّ كيف تعزّي النّاس، وكما قلت فإنّ الانسان لا يستطيع أن يُعزّي إنساناً آخر، إنّما الله وحده هو القادر على أن يعزيّ البشريّة بأسرها من خلال وسائل بشريّة، فهو يضع أناسًا حصلوا على تعزيّات من الرّبّ، يحملون رسالته، ليعزّوا الآخرين المحزونين. إنّ الكاثوليك، بعد أسبوعين تقريبًا، سيحتفلون بالأسبوع العظيم، أمّا عندنا نحن الأرثوذكس فبعد شهر ونصف تقريبًا. فما الذّي فعله المسيح معنا؟ إنّ المسيح جاء إلى أرضنا وعزّى النّاس ووقف قربهم. لكنّ البشر قتلوه، وهو قَبِل الموت على يدهم إذ قال إنّ دمَه الذّي سيُسفك من أجل البشريّة جمعاء سوف يُعزّيهم ويشفيهم من جروحاتهم، وبموته يستطيع شفاءهم من موتهم. صار المسيحُ المعزّيَ الأكبر. وعند صعوده إلى السّماء، ترك لنا الرّوح القدس، المعزّي، الذّي يساعدنا ويُلهمنا لنكون جماعة. هؤلاء الاربعون شهيدًا، لو استُشهد كلٌّ بمفرده، لربّما كانوا ضعفوا وخسروا، غير أنّهم كانوا كتلة واحدة تحبّ الرّبّ، وكان الواحد منهم يحبّ الآخَر ويعزيّه.

تتمة...
8/3/2016 في الذبيحة الالهيّة، الكنيسة كلّها تحضر في هذه القربانة مريم والرّسل والشهداء الأب سليم الرّجي المريمي
https://youtu.be/VedZE4j0Slc

عظة للأب سليم الرّجي المريمي
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
دير يسوع الملك – زوق مصبح

8/3/2016

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

المجد ليسوع المسيح،
لقد أحببنا، أبونا روي وأنا، بعد مرور خمس سنوات، مشاركتكم بإعادة الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة على نيّة الأموات، بأن نحتفل بقدّاس الوفاء لكلِّ من رقد وسبقنا إلى دار الخلود، من أجل الإخوة الذّين سبقونا. ونحن اليوم في هذا القدّاس، نطلب شفاعة كنيسة السّماء، موتانا الذّين سبقونا إلى الملكوت، وهم يتمتّعون اليوم بمشاهدة وجه الله مع مريم والرّسل والشّهداء والقدّيسين آبائنا وإخوتنا ومعلّمينا، من أجل إخوتنا الذّين ما زالوا ينتظرون في (المطهَر)، يعيشون حالة انتظار، حالة انتظار لقاءٍ مع الرّبّ وجهًا لوجه. حالة الانتظار هذه هي حالة سماويّة، ولكنّها لم تكتمل بعد، لأنّ الانسان الذّي اقترف الكثير من الخطايا وعاش في العديد من الأوقات حالات بُعدٍ عن الله، إذ كان لديه الكثير من حالات قلّة المحبّة، عليه أن يتطهّر لكي يلتقي وجه الله يومًا ما في الملكوت السّماويّ. ومن أجل هؤلاء جميعًا، أنتم تُصَّلون وتصّلي معكم الكنيسة جمعاء، من أجل هؤلاء الذّين هم في المطهَر، ينتظرون لقاء الله. إنّني أعلم أنّه في كلّ قدّاس كنتم تشاركون فيه، تذكرون أمواتكم وكلّ الاموات وبخاصّة الانفس المنقطِعَة، التّي لا أحد يذكرها. وكم هناك من أشخاص حصلوا على رتبة دفن رائع وقداس الأربعين على وفاتهم جميل من حيث الزينة والأمور الخارجيّة، ولكن بعد انتهاء هاتين الحالتين في الذبيحة الالهيّة، لا يعود أحد يذكرهم في صلواته، لا بل أتجرأ فأقول إنّه يتّم نسيانهم بالكامل. فمن الممكن أن يتذّكروهم في أقوالهم وأفعالهم لكنّهم يغفلون عن أنّهم لا يستطيعون لقاء ذلك الذّي رقد إلاّ في القربان المقدّس أي في ذبيحة يسوع. في الذبيحة الالهيّة، الكنيسة كلّها تحضر في هذه القربانة مريم والرّسل والشهداء وأيضًا الكنيسة بكلِّ فئاتها: الكنيسة الممجّدة أي كنيسة القدّيسين، وكنيسة المتألمين أي كنيسة (المطهر)، وكذلك الكنيسة المجاهدة أي كنيسة الأرض. إذًا الكنيسة كلّها حاضرة في هذه القربانة البيضاء الطاهِرة لأنّها يسوع بذاته، وحيث يكون الرأس هناك يكون الجسد بأعضائه كلّها. هذه الأعضاء مؤلفة من ثلاث فئات كما قلنا، الكنيسة المنتصرة أي السّماء، الكنيسة المتألمة أي (المطهر)، والكنيسة المجاهدة أي الأرض، ونحن جميعنا فيها.

نحن في هذين الأسبوعين اللذّين يسبقان أسبوع الشعانين وأسبوع الآلام، نتأمّل بالعجائب والآيات التّي صنعها يسوع، لا سيّما الشفاءات، شفاءات البشر وبخاصّة شفاءات الرّوح، إذ عندما يُلمَسُ يسوع، كانت تلك اللّمسة تُسكِّن ضعف الانسان وألمه، وتمحو خطيئة الانسان بكثرة رحمة الله له شرط أن يكون على استعداد ليمشي الطريق مع المسيح. وانجيل اليوم الذّي قرأناه، يبيّن كيف أنّ المسيح، سكّن الرّيح بعد أن قال للتّلاميذ: "ثقوا، أنا هو، لا تخافوا". إنّ المسيح يقول لكلّ منّا: "ثق، ثقي، أنا هو، لا تخف، لا تخافي". إنّه الحاضر فيما بيننا، هو الذّي أتى أرضنا وسكن فيما بيننا، تألمّ ومات وقبر وقام من بين الأموات وصعد إلى السّماء وأرسل إلينا روحه القدّوس، الذّي لا يزالُ ويبقى إلى الأبد في كلّ جماعة. وأنتم تعلمون أنّه كلّما اجتمع اثنان أو أكثر باسم يسوع المسيح، يكون هو الحاضر الأوّل فيما بينهم. إذًا علينا ألاّ نخاف ونعلم أنّ يسوع المسيح هو الحاضر فيما بيننا، وكيف إن ّكنّا نحتفل بذبيحة القدّاس. إنّ المسيح يحتفل من خلال يديّ الكاهن، وهو الذّي يرسل روحه القدّوس من السّماء لكي يقدّس الخبز والخمر فيصبحا جسد ودمّ يسوع المسيح نفسه. إنّ يسوع المسيح ذاته هو الذّي أعطى الكاهن السّلطان وهو الذّي يرسل الرّوح القدّس من عَلُ أي من السّماء ليحوِّل الخبز والخمر إلى جسد يسوع، فلا أحد من الكهنة يستطيع تحويلهما بقدرته لولا السّلطان المعطى له من يسوع نفسه. وفي هذه الأسرار، في الخبز والخمر، في جسد ودمّ الرّبّ تحضُر الكنيسة جميعها، نحن وأهالينا وإخوتنا وكلّ الضحايا البريئة التّي تسقط في هذا العالم، ونخصّ بالذكر أربع راهبات من رهبنة الأمّ تريزا اللواتي استشهدن منذ أيّام في اليمن مع الكثيرين، كلّهم أصبحوا حاضرين في تلك القربانة البيضاء مع كلّ الذّين أحبّوا الرّبّ وعاشوا لأجل الرّبّ، إنّهم حاضرون في تلك القربانة البيضاء، وكذلك الأمر بالنسبة إلينا فنحن أيضًا حاضرون في تلك القربانة البيضاء المقدّسة.

وأريد الآن أن أشدِّد على جملة أخرى قالها الانجيليّ مرقس: "لأنّهم لم يفهموا معجزة الأرغفة لقساوة قلوبهم". فنحن أحيانًا لا نفهم كلام الرّبّ لقساوة قلوبنا، لا نفهم الآيات والشفاءات ولمسة الرّبّ التّي تبدّل الانسان وتغيّره لأجل قساوة قلوبنا، وذلك لأنّنا لا نجعل قلوبنا نقيّة وطاهرة كقلب الرّبّ ولذلك نحن لا نفهمه. علينا أن نسعى لكي تكون قلوبنا كقلوب الأطفال نقيّة وطاهرة وبريئة ولا قساوة فيها، عندئذٍ فقط نستطيع أن نجعل من كلام الرّبّ دستورًا لحياتنا وقانونًا لها. علينا أن نفهم أنّه يجب أن يكون لدينا دستور واحد لحياتنا هو كلام الله، كلام الرّبّ يسوع في الانجيل، وخارجًا عنه لا دستور لحياتنا. غير أنّ كلّ دستور ينبع من الانجيل ومن كلام الله هو دستور لنا وقانوننا لأنّه ينبع من كتاب الحياة هذا، كلمة يسوع المسيح. لذلك نرى أنّ قوانين الرّهبانيّات ترتكز على الكتاب المقدّس وكلام يسوع المسيح. وعلى بيوتنا أن تكون ممتلئة من كلام الله، حتّى نعيش جميعًا حالة الانتظار التّي نُصلّي لأجلها اليوم، أن نلتقي يومًا ما بوجه الله وأن نصلي إليه قائلين: "اُذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك". ولا ننسى أنّ هذه الكلمة هي كلمة نطق بها لصّ اليمين الذّي ربح الملكوت عندما نظر إلى الرّبّ على الصّليب: "اُذكرني يا ربّ متّى أتيتَ في ملكوتك". وكان جواب يسوع له السريع: "اليوم تكون معي في الفردوس". وكأنّ الرّبّ يقول له بطريقة أخرى، الكلمة التّي قرأناها في انجيل اليوم: "ثق، لا تخف، أنا هو، أنا معك"، أنا أخلّصك وأشفيك حتّى في اللحظة الأخيرة من حياتك، من كلّ ماضي الخطيئة، وأجعلك، إن كانت توبتك صادقة، ابن الملكوت السّماويّ اليوم وليس غدًا. هذه هي صلاتنا اليوم.

اسمحوا لي أخيرًا أن أتوّجه بالتهنئة إلى كلّ امرأة بمناسبة عيد المرأة، اليوم في الثامن من آذار. ونحن نفهم المرأة كونها أمّ وأخت. فليبارك الله كلّ أمّ وأخت موجودة في عائلاتنا إذ لهنّ حضور مميّز فيها ونطلب من الله أن يقدّسهنّ. ونذكر اليوم كلّ المعلمّات، غداً عيد المعلّم. وفي بعض الأوقات، نلتقي بأشخاص نتعلّم من تصرّفاتهم دروسًا، ويصبحون معلِّمين لنا. فالمعلّم لا يقتصر على أساتذة المدرسة بل هناك معلمون لنا في الحياة من خلال مثلهم الحسن والطيّب نتعلّم أمورًا كثيرة.
ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.

تتمة...
18/2/2016 إخوتي، علينا الاختيار بين بذرة الموت وبذرة الحياة الخوري جوزف سويد
https://youtu.be/eKqVBotEuE8

تأمّل في إنجيل متى (23:18-35)
للخوري جوزيف سويد
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى السادسة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
رعيّة مار تقلا -سدّ البوشرية

18/2/2016

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي الأحبّة، تحتفل الكنيسة بعد انتهاء كلّ زمن ليتورجيّ بالعيد. وعندما نتكلَّم عن احتفاليّة، يفتِّش الإنسان عن ماهيّة الاحتفاليّة وماهيّة العيد، وماهيّة المناسبة. ويحاول أن يكوِّن أفكاراً معيّنة ليتكلَّم عن أجواء العيد، وعن مناسبة العيد، والفكرة الأساس منه، وكلّ ذلك ضمن إطار إنجيليّ معيّن مُنَسَّق، لكي يصِلَ لكلّ إنسان جواب شافٍ ووافٍ عن العيد. واليوم هناك عيد ومناسبة وهي الذكرى السادسة لتأسيس جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، التّي إنطلقت بذرة صغيرة في حقل رعيّة مارت تقلا، سدّ البوشريّة. هذه البذرة بدأت تنمو في أيّام الخميس من كلّ شهر، وكان من المفترض أن تَقتَصر على قدّاسٍ واحدٍ في الشّهر، لكنّنا رأينا أنّه من الأفضل أن تصبح القداديس بطريقة أسبوعيّة وذلك لما فيه من خير للرّعيّة. وقد لاحظنا أنّ قداسة الحبر الأعظم قد ركزّ في إعلانه عن يوبيل سنة الرّحمة على الفعل السابع الذّي هو كيفيّة زرع الرّجاء في عالم الموت، وخاصّة في قلوب المحزونين، من خلال مرافقتهم ومؤاساتهم والحضور معهم، وزرع بذرة الرّجاء في قلوبهم وفي حياتهم اليّوميّة. إنّ هذه الجماعة تعتمد على الصلاة من أجل إخوتنا الموتى. في الحقيقة، هذه البذرة التي اسمها "اُذكرني في ملكوتك" لم تبدأ هنا، في هذه الكنيسة أو في رعايا أخرى، لقد زُرعت هذه البذرة أوّلاً في جبل الجلجلة، وهناك زُرعت بذرة "اُذكرني في ملكوتك". على هذا الجبل الذّي يسمى"جبل الجماجم"، جبل الجلجلة أو الجمجة، حيث كان يُرمى بالأشخاص الذّين كانوا يُعتَبرون أنجاساً ويستحقون السخريّة، ويتمّ تعريتهم بالكلام الجارح ونظرات الإدانة ثمّ يُترَكون في هذا المكبّ الذّي يدعى جبل الجلجلة. هناك زُرعت البذرة الأُولى للحياة، لذا علينا إخوتي، أن نعي أهميّة هذا الضجيج الذّي بدأ من هذا المكان المنسيّ، البائس، هذا المكان الذّي فيه نرى كلّ حضارة الموت. في هذا المكان، زَرع ملك المجد، سيّد الحياة، خالق الكون، ما يُرى وما لا يُرى، ربّ المجد، بذرة الحياة. والأجمل من ذلك، أنّه من بين صرخات المسيح السَبِع على الصليب، تلك الصّرخة، صرخة المجد التّي سمعناها في أذن المسيح وما زالت تتردّد في آذاننا إلى اليوم على مرّ السنوات: هناك على ذلك الجبل، صرخ المجرم الذّي صُلب عن يمين يسوع قائلاً له: "اُذكرني في ملكوتك"، وأتاه الجواب الرائع من الرّبّ: "اليوم تكون معي في الفردوس". وكم يصرخ الإنسان التعس إلى الرّبّ "أُذكرني في ملكوتك"، وكم من مرّة نسمع صدى صوت الرَّبّ الحنون الرّحوم، محبّ البشر، محبّ الخطأة، يقول لنا "اليوم تكون معي في الفردوس". وانظروا كيف أنّ الرّبّ خضّ وزلزل بعد موته، هذا الجبل البائس، وأعطى أجمل ما يمكن لإنسان أن يحصل عليه، عندما يعرف أنّه لا يستّحق شيئاً، وبالرّغم من ذلك يسمع مع كلّ الذّين سبقوه وكانوا ينتظرون تلك اللّحظة، لحظة الدّخول إلى الملكوت:"اليوم تكون معي في الفردوس". وكم نحن اليوم في حنايا هذه الكنيسة، علينا أن نُرَدِّد هذه الكلمة ونقول من على منبر كنيسة مار تقلا سدّ البوشريّة. هذه الرّعيّة التّي يتواجد فيها عالم الموت بقوّة، والتّي فيها نفوس يائسة، حيث الرّجاء مفقود والتعاسة تسيطر على بعض الأشخاص، وكذلك البؤس والشقاء في حياة إخوتنا العراقيين الموجودين في أرض رعيتنا الذّين مرّوا بأيّام صعبة وكذلك من الإخوة السوريين. هؤلاء الأشخاص الذّين يحبّون الرّجاء، يفتقدونه في العالم اليوم، في زمن مليء بالبؤس. في قلب هذا العالم، تأتي بذرة الحياة، ويأتي يسوع ليسقيها. فعندما تقول للرّبّ "أذكرني يا رّبّ"، يأتي الرّبّ ليسقي صرختك هذه إليه، بذرتك الذّي زرعتها في هذه الأرض، ويقول لك "اليوم تكون معي في الفردوس". اليوم إخوتي، نحن في الاحتفاليّة السادسة، لأنّنا محبوبون، مُفتَقدون، مَرحومون. هذا الشقاء والبؤس اللذّان تعيشهما البشريّة بأسرها، لا نستطيع الاستمرار في تَبَنيهما، بل علينا كسرهما فنقول:"أين شوكَتُكَ يا موت، أين غلبتك يا جحيم؟ موت الرَّبِّ أضحى حياةً، أصبح نصرُنا أكيداً". لماذا؟ لأنّه هكذا رّبُّ المجد أراد.
إنجيل اليوم يضعُنا في هذا الإطار، إطار الرّحمة، إطار الدينونة، إطار الغفران والمسامحة الرّهيبين. أنا، الإنسان، أقف أمام هذا الملك الرحيم، المجنون برحمته. يأتي إليه، في هذا الإنجيل، هذا الشخص المديون له بسِتّين مليون دينار، أي ستّين مليون يوم عمل. مَن يستطيع تجميع مثل هذا المبلغ ليدفعه للملك كَدَين؟ وهنا بالتّالي يريد كاتب هذا النّصّ الإنجيليّ، متّى، أن يقول لنا: اعلم يا إنسان أنّك لن تستطيع دفع دينك بالرّغم من جنى عمرك كلّه، وبالرغم من إستعداداتك كلّها، وبالرّغم من تعبك كلّه، وبالرّغم من عرقك كلّه الذّي سيتساقط في سعيك لتحصيل هذا المبلغ، حتّى وإن عملت ثماني وأربعين ساعة، في الأربع وعشرين ساعة، فأنت غير قادر على دفع هذا المبلغ الكبير، سِتُّون مليون دينار مهما فعلت، فالعمر كلّه لن يكفيك لكي تتمكنّ من دفع دينك. إذاً الدينار هو أجرة يوم عمل واحد. وستون مليون دينار تساوي ستين مليون يوم عمل. نحن الآن، يمكننا أن نتوقّع قوّة هذه الأزمة الكبيرة الموجود فيها هذا العبد: إذ إنّه عبد مسكين، وهو بالتّالي لا يمكنه أن يفي دينه للملك. يقول النّصّ "إذ لم يكن له ما يوفي به دينه، أمر سيّده أن يُباع". أراد السيّد أن يبيع هذا العبد هو وامرأته وأولاده إضافة إلى كلّ ما يمتلكه. في الأساس هو عبد، وهو الآن سيُباع. وما الذّي يمكن أن يمتلكه عبد؟ لا شيء. سيُباع مع كلّ ما يملك لِيَفي دينه. وبالرّغم من ذلك، فهو لن يتمّكن من إيفاء دينه، لن يفي أيّ شيء. لكنّ عندما خرَّ هذا العبد على ركبتيه، وسجد للملك، وتَوَسَلَه وطلب منه مهلةً ليفي دينه، أعفاه سيّده من كلّ دينه. ما أجمل هذه الكلمة المستعملة في النّصّ:"إمهلني"، أعطني وقتاً. كلّنا اليوم نبحث عن وقت. الوقت والعمر كلّهما ليسا كافيين لكي يَفي العبد الدَين للملك حتّى وإن أمهَلَهُ. ترى ما الذّي كان سيحدث لو قرّر فعلاً هذا الملك أن يبيع العبد، ويضعه في السّجن. كيف يستطيع إنسان مسجون أن يفي دينه؟ مَن سيَفي عنه دينه؟ بالطبع لا أحد. لذلك هذا السيّد تحنّن على ذلك العبد، وأطلقه حُرّاً وأعفاه من كلّ دينه، وسامحه بكلّ المبلغ. إخوتي من يقوم بهكذا عمل سوى الإنسان المجنون؟ وحده فاقد الصّواب يفعل ذلك. وعندما أُطلق هذا العبد حرّاً، وعاش الاختبار نفسه الذّي عاشه الملك معه، عِوض أن يكون قلبه مغموراً بالمجد والفرح والنّشوة الروحيّة، وعِوض ألاّ يرى في حياته إلاّ الرّحمة الكُبرى التّي غمَرَهُ بها سيّده أو مَلِكَه، عندما التقى رفيقه العبد، طالَبَه بإيفاء الدَّين. هذا الرفيق يشبهه، إنّه عبد ومديون أيضاً لرفيقه بمئة دينار، وهذا يعني مئة يوم عمل أي ثلاثة أشهر ونَيِّف من العمل. أمسك هذا العبد رفيقه وشدّ على عنقه طالباً منه أن يوفيه كلّ دينه حالاً، غير أنّ الرفيق المديون توَسّل رفيقه العبد الدائن، وقال له الكلام نفسه الذّي تفوّه به العبد الدائن أمام الملك. أنظروا معي إخوتي إلى هذا المثل الرائع الذّي أعطاه يسوع:"أمهلني وأنا أُوفِيكَ." طلب منه مهلةً لكنّ العبد الدائن رفض رفضاً قاطعاً. "ومضى وطرحه في السِّجن حتّى يَفي دينه". أنظروا إلى قساوة قلب هذا العبد، لقد تمكّن من أن ينسى في وقتٍ قصيرٍ جدّاً ما قام به الملك تجاهه. هذا الملك الذّي أعفاه، أحبّه، ورحِمَه وافتداه وسامحه، وحرّره لأنّه توسلّ إليه

تتمة...
13/2/2016 لكي تُدركوا أنّ معركتنا، التّي نعيشها اليوم، واضحة وهي ضدّ الخطيئة الأب رالف طنجر
https://youtu.be/DwyPAqpJQII

تأمّل في الصّوم
للأب رالف طنجر
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الثانية لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
كنيسة مار مارون – الانطونيّة

13/2/2016

في فترة الصوم، هناك ما يُقارب ستّة أحاد، فيها نرى الربّ يسوع يشفي في كلِّ مرّة أحدهم من مرضٍ أو علّة. وعلينا أن نفهم من كلّ شفاء البعد العميق الذّي يطال حياتنا. وإنجيل اليوم يتناول مرض البرص، الذّي لم يعد موجوداً كما كان موجوداً في السابق. في ذاك الزّمان، كان اليهود يعتبرون أنّ الأشخاص المصابين بأمراض لا شفاء منها، ملعونون مِن قِبل الله، لذلك كانت الجماعة تنبُذُهم. وكان لكلّ مرضٍ وضع خاص، فعلى سبيل المثال، الشخص الأبرص كان يجلس في المغاور وحده، لأنّه كما تعرفون، فإنّ عدوى هذا المرض تنتقل باللّمس. وكان يُعَلَّق للأبرص جرس في رجله لكي يصدر صوتاً في حال قرّر الخروج من المغارة، عندئذٍ يكون الجرس بمثابة إنذار في حال تواجد الأبرص في مكانٍ عام، وبالتّالي فإنَّ صوت الجرس يدعو النّاس للهروب من الأبرص. وكان البُرص يتواجدون في وادٍ اسمه وادي يوشافاط الذّي كانت تُرمى فيه بقايا الجِيَف والعظام الناتجة عن ذبائح اليهود وكانوا يحرقونها فيه. وبالتّالي كان هذا الوادي دائم الإشتعال. لكنّ النّار التّي كان يُضرمها اليهود لم تكن قادرة على إحراق كافة أعضاء الحيوانات. فكانت هذه الأعضاء تبقى حتّى تتعَفَّن، فتنبعث رائحتها الكريهة. وكان يتواجد البُرص في هذا الوادي الذّي يُطلق عليه اليوم إسم "كَرّوم"، وتتواجد فيه اليوم مدافن اليهود. فعندما يموت يهوديّ يُدفن في هذا الوادي.

أخبرتُكم بذلك، لكي تُدركوا أنّ معركتنا، التّي نعيشها اليوم، واضحة وهي ضدّ الخطيئة. وسوف تتبيّن لنا في كلّ أحد من آحاد الصّوم، معركة ضدّ خطيئة معيّنة. فما الذّي تقوم به الخطيئة؟ في إنجيل الأبرص، نرى كيف أنّ الخطيئة تجعلنا نهترئ جسداً وروحاً. وفي الأسبوع المقبل، سوف نقرأ إنجيل النّازفة، لنرى كيف أنّ الخطيئة تستنزفُنا، وتقطع عنّا الحياة أيّ الدّم. وفي الأسبوع الذّي يليه، أسبوع الضّال، سوف نفهم كيف أنّ الخطيئة تجعلُنا نشتهي أكل الخنازير بعد أن تفصِلَنا عن بيت أبينا وتُّذِلنا ويصبح الحيوان أهمّ منّا. وفي الأسبوع الذّي يليه، تقرأ لنا الكنيسة إنجيل المخلَّع، لنفهم كيف أنَّ الخطيئة تُشِلُّنا ونُصبح بحاجة لمن يحملُنا، ويأخذنا صوب النّعمة. وفي الأحد الأخير من الصوم، قبل أحد الشعانين، تقرأ لنا الكنيسة إنجيل الأعمى، وهنا سنرى كيف أنَّ الخطيئة تُعمينا، وهذا أخطر ما قد يصِل إليه الإنسان في الحياة الروحيّة، أن يصبح أعمى. عندئذٍ تصبح الخطيئة فضيلة. كيف تصبح الخطيئة فضيلة؟ مثالاً على ذلك، بعض الأشخاص اليوم، وبخاصّة بعض الأهل، يُشجِّعون أولادهم أو الآخرين على الخطيئة، إذ لم تُعد الخطيئة بنظرِهم خطيئة، لم يعد هناك مَن يُذَّكرهم أنّ هذا الأمر المعيّن هو خطيئة. لذلك عندما يقول لنا مار بولس:"لا تملُكَّنَّ الخطيئة بعد في جسدكم المائت"، إنّما هو يُحَذِّرنا من الطريق السّالكين فيه، ويسألنا لِمَ لا نحارب الخطيئة بل نَزيد في تعلُّقنا بها؟

هناك خطايا تُرتكب اليوم، هي سبب عدم وجود البركة في عائلاتنا، وهي سبب كلّ المشاكل العائلية كما أنّها أيضاً سبب في تَّفكُكها، لأنّنا أصبحنا اليوم نحارب أمراً معيّناً على حساب أمرٍ آخر نهمله. أتعلمون أنّ هناكَ أزواج-نعرف ذلك من خلال الاعترافات والإرشاد-يُقْدِمون على سرّ الزواج من دون أن يتوبوا عن خطايا الماضي التّي قاموا بها؟ وهنا نسأل: أيّة بركة ستنالها تلك العائلات اليوم؟ لقد تَوّصلنا في إحصائية، من دون أن نبالغ فيها، إلى أنّ أكثر من نصف العائلات المسيحية فقدت معنى سرّ الزواج. وإليكم إثبات على ذلك، فنحن نحتفل بإكليل معيّن في أوّل الصّيف، ثمّ نرى العروسين في عيد الميلاد يُقَدِّمون أوراقهم في المحاكم من أجل بطلان الزواج. والسبب واحد هو الخطيئة، لأنّ أكثر الأهل والنّاس يغُضّون النّظر عن خطايا معيّنة، ولا يُكفِّرون عنها لكي يسمحوا للنّعمة بأن تعمل في عائلاتهم. فإذ لم يُبْنَ بيتي على صخر، فعلى الرَّمل هو مَبنيّ. إنّ الكلّ مُعرَّض للتّجارب والمشاكل، لكن يجدر القول إنّ البيت المبنيّ على الرّمل، سوف يسقط عند أوّل مشكلة.

ويدعونا مار بطرس قائلاً: "أُصحوا واسهروا لأنّ إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتمساً مَن يبتلع". فإذا قمنا بفتح نافذة صغيرة لإبليس، نكون بالفعل ذاته، قد سمحنا للخطيئة بأن تدخل حياتنا. يقول مار بطرس"اسهروا"، علينا إذاً ألاّ ننسى أنّنا في معركةٍ روحيّة على هذه الأرض، فإن لم نَعِ لذلك، فسننجرف كلّنا، وستكون الخطيئة وعدم البركة، ونحن غير مدركين لوجودها فيما بيننا.
لذلك يقول مار بولس:"لا تجعلوا أعضاءكم سلاح ظلم للخطيئة"، وهو يقصد بالأعضاء الجسد. ويقول مار يوحنّا في رسالته إنّ أعداء المسيحيّ ثلاثة: الشيطان الذّي، وبحسب تعليم الكنيسة هو كائن موجود، وهو سبب في كلّ ما يحصل على الأرض، ويُسميّه يسوع سيّد هذا العالم الموجودين فيه نحن اليوم. أمّا العدوّ الثاني فهو العالم. والمقصود بذلك: كلّ ما هو حولنا، من روح العالم، من شهواته، من مغرياته، وكلّ ما نرى فيه سبب عثرة لنا، إنّه عدّو الإنسان، إنّه عائق أمام خلاص نفسي. أمّا العدوّ الثالث فهو جسدي. اليوم قمع الجسد أصبح ضعيفاً جدّاً، وعلاجه هو الصوم.

فإن نظرنا اليوم إلى الصوّم، رأينا أنّ الكنيسة تُشَدِّد على الصّوم عن الطعام. لكنّ بعض النّاس يبرِّرون عدم صومهم عن الطعام قائلين لنا إنّ الصّوم هو القيام بأعمال خير، أعمال رحمة. فهل أعمال الرّحمة وأعمال الخير تتوقّف في باقي الأيّام وتنشط فقط في فترة الصّوم؟ فهل الصّوم يأتي ليُذَّكرني أنّه عليّ، أنا كمسيحيّ، القيام بأعمال حسنة؟ هذا أمرٌ خاطئ، فأعمال الخير مُتاحة في كلّ وقت ويجب القيام بها. لكن في فترة الصّوم، وقبل كلّ شيء، عليّ العمل على جسدي، وذلك لأنّه أوّل عدوّ لي، أوّل عائق أمام خلاصي، وذلك على صعيد الأفكار الشّريرة، في القلب، والحواس أو في الأعضاء، وخاصّةً الخطيئتان الأكثر انتشاراً: خطيئة شراهة الأكل، وخطيئة الزنى، أكان بالفكر أو بالفعل. واليوم عندما أُقرّر أن أصوم، هذا يعني أنّني قد اتخذت قراراً أن أجعل جسدي يتألّم، وذلك من أجل غاية معيّنة. إنّنا نرى اليوم أشخاصاً لا يتكلّمون مع أشخاص آخرين يعيشون معهم في المبنى نفسه، ويريدون المصالحة، لكنّ ذلك يبدو لهم صعب التّحقيق لأنّ الجُرح كبير. إنّ الدّواء يكون من خلال الصّوم على هذه النّية. إنّ الصّوم لا نفع له. أتصومون لأنّ الصّوم فرض ووصيّة كنسيّة؟ إن كان كذلك فلا ضرورة لصومكم. إنّ لفترة الصّوم، غاية وهي سعي الإنسان خلاله للتّحرّر من أمر معيّن مثلاً لعب الميسر، الحقد... إنّني أصوم لمعرفتي أنّي ضعيف، وغير قادر على التّحرّر من نقاط ضعفي وحدي. الصّوم هو من أهمّ الوسائل للتحرّر. وقول يسوع لنا في الإنجيل هو دليل على ذلك: "هذا النّوع لا يخرج إلاّ بالصّوم والصلاة". إنّه يتكلّم عن الشّر اليوم الذّي يكبِّلني ويأسرني ولا يجعلني أتحرّر.

والمسيرة نفسها التّي قام بها يسوع في بداية رسالته أقوم بها أنا اليوم في مسيرتي الروحيّة خلال الصّوم. إنّ يسوع قد صام أربعين يوماً وعليّ أن أقتديَ به. وفي هذه المسيرة سوف أتعرّض للتّجارِب كما تعرّض هو أيضاً، وأهمّ ثلاث تجارب تعرّض لها يسوع، نحن نتعرّض لها. فبعد مسيرة أربعين يوماً، أتى إبليس وجرّب يسوع قائلاً له:" قل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً". في هذه المرحلة، كان يسوع قد وصل إلى مرحلة من الجوع القاتل. لكنّ يسوع قال لإبليس إنّه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله". وبالتّالي يقول يسوع لنا اليوم، إنّه قبل التفكير في حاجات جسدنا علينا تغذية روحنا من كلمة الله. أمّا اليوم فعندما نسأل النّاس ماذا يعرفون عن الإنجيل الذّي يسمعونه نهار الأحد في القدّاس، يأتينا الجواب التّالي:"اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم" ويُطبِّقونها على الكهنة. لكنّي اليوم أُذكرك يا أخي الإنسان بما هو موجود في الإنجيل فأتلو عليك بعض آياته:"من طلب منك ثوباً أعطِه رداءك"، "لا تبادلوا الشّر بالشّر، بل بادلوا الشَّر بالخير"،"من ضربك على خدِّك الأيمن دُر له الآخر". وهنا أدعو النّساء أن يتذكّرنَ هذه الآيات عندما يتشاجرنَ مع إحدى الجارات، أو عند وجود نفور مع أزواجهنَّ. كذلك، عندما تصِل إلى استحقاق ما وتريد جواباً، افتح يا أخي الإنجيل، فبالتأكيد إنّ الرَّبَّ سيُعَزِّيك ويعطيك آية مناسبة لحالتِك. عندنا جهل لكلمة الله لكننّا بارعون بالتُقوِّيات، ولا أنكر أنّ التقوِّيات عمود أساسيّ في كنيستنا، لكنّنا نهمل عموداً آخر هو الإنجيل باهتمامنا المبالغ به بالتقوِّيات. إذا قرع أشخاص من شهود يهوه بابك، طبعاً عليك ألاّ تستقبلهم، ولكن في حال جادلوك في آية كتابية، أتستطيع مجابهتهم بكلمة الله؟ نحن غير قادرين على ذلك لأنّنا لا نقرأ الكتاب المقدّس كما يجب. إذاً الغذاء الأوّل لنا في الصّوم هو كلمة الله، علينا فتح الإنجيل وقراءته. فإن لم نفتح الإنجيل الآن، فمتى سنفتحه؟ فعندما نكون في ألفة مع الكتاب المقدّس، نصبح عند وقوعنا في مشكلة ما، نتذكّر الآيات تلقائياً، وتصبح تعزية لنا وللآخرين. كذلك، عند وقوع زميلتِكِ في العمل في صعوبة معينّة، تستطيعين أن تبادري إلى مساعدتها عبر تذكيرها ببعض الآيات الإنجيليّة مثل:"تعالوا إليّ أيّها المتعبين وأنا أريحكم". وبهذه الطريقة تكونين قادرة على تذكريها بالآيات التّي قد تحرّك قلبها وتدعوها للنّهوض من جديد.

في تجربة إبليس الثانية ليسوع، يعود إلى المسيح ويُريه جيشاً ومُدناً وممالك وسلطاناً ويقول له إنّه سيعطيه هذا كلّه إن سَجَدَ له، وهذا ما يُريده إبليس:"أن نسجد له". فيقول له المسيح: "للرَّبِّ إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد. وليس لأحدٍ سواه". أمّا بشريّة اليوم، وخاصّةً مسيحيّو اليوم، فقد عادوا إلى الوثنية القديمة. صحيح أنّه ليس هناك تماثيل حجريّة أمامنا نسجد لها، لكن دَعُونا نتأمّل في واقعنا. أليس التلفزيون صنماً آخر؟ عندما تكون العائلة كلّها مخّدرة أمامه، ويبقى مشتعلاً أربعاً وعشرين ساعة، بسببه، لا حوار بين أفراد العائلة. ومثال آخر هو المال: ألا نرى كيف أنّنا أصبحنا نسعى وراء المال وتجميعه، لنشتري أموراً أكثر ونبني أكثر، ألا يكون المال بالتّالي إلهاً نسجد أمامه؟ نحن الذّين نقول لله كلّ يوم في صلاة الأبانا:" أعطنا خبزنا كفاف يومنا"، ونحدِّد للرّبّ أن ما يهمنّا هو أن يَستُرَنا وألاّ نكون في حالة عوز. ألا نسجد اليوم أمام الموضة والجسد؟ ألا نسجد لأمورٍ أخرى كثيرة؟ ومع ذلك نقول إنّ الوثنية قد ولّت، أقول لكم إنّنا قد عدنا إليها وبقوّة أكثر. تقول العذراء في إحدى رسائلها:"لماذا لا يأتي النّاس ويسجدون لابني الموجود في القربان، بينما هم يسجدون لعدّو ابني الموجود في التلفاز؟". وإليكم مثال آخر: الهاتف الخليويّ. ألا يشكل التلفون اليوم لنا إلهاً؟ فنحن نمسك به أينما تواجدنا في غرفة النّوم، في الكنيسة، في المدرسة، وفي العمل. غريب كم أنّ الأمور تتغيّر، ونحن نصبح مأسورين من دون أن نشعر بذلك. وهذه كلّها خدعة من إبليس لنا.
وفي التجربة الثالثة ليسوع، عاد إبليس من جديد إلى الرّبّ ليجرّبه، ويضعه على مشارف الهيكل. إنّ إبليس يستشهد دائماً بكلمات من الكتاب المقدّس، فيطلب من الرّبّ أن يرمي بنفسه من على مشارف الهيكل، ويقول له إنّه مكتوب في الكتاب:"إنّ الله يوصي ملائكته بك كي لا تصدم رِجلك بحجر". فيجيبه يسوع:"لا تُجَرِّب الرّبّ إلهك". كيف نحن نُجَرِّب الرّبّ اليوم؟ بكلّ بساطة أقول لكم، عندما نشّك بالعناية الإلهيّة، نجَرِّب الله. فعندما أُصابُ بمرضٍ معيّن، أتساءل لماذا لا يشفيني الرّبّ. ونحن دائماً نسعى لكي نُظهر لله أننّا نصلّي، ونصوم، ونسجد ونقوم بما هو مطلوب منّا، لكن عند المحنة، لا نسمح لله بأن يتدخّل. هذا هو الشكّ بالعناية الإلهيّة، من المفترض أن نتحلّى بالرجاء أنّ ربّنا سيغيّر كلّ الأمور التّي أعيشها وسوف ينتشلني من المحنة التّي تعصف بي. واليوم كلّنا نجرِّب الله، ونشكّ به عندما نضعه خارج حياتنا اليوميّة ونقع بالخوف ونفكّر بالمستقبل الّذي غالباً ما يكون سوداويّاً. ويقول لنا الرّبّ أن لا نفكّر بالغد. كلّنا نفكّر بالغد، لكنّه يعود ويقول لنا إنّه يكفي لكلّ يوم شرّه.

تتمة...
11/2/2016 الطريق الضَيِّق الأب جوزف بو رعد الأنطوني
https://youtu.be/y8rOr9aNhLc

"أُدخلوا مِنَ الباب الضيّق...." (متى 13:7-21)
تأمّل للأب جوزيف بو رعد الأنطونيّ
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الثامنة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
رعيّة مار الياس -أنطلياس

11/2/2016

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين

إنجيل اليوم، الطويل والغنيّ والمتنوِّع، هو في الواقع خاتمة العظة الأولى للرّبّ يسوع، الموجودة في إنجيل متّى والتّي تبدأ بالتّطويبات وتنتهي فعليّاً بهذه الكلمات التّي سمعناها اليوم. إنجيل اليوم هو إنجيل مُركَّب من عِدَّة أمثلة تُشَكِّل تعليم يسوع لنا. فتعليم يسوع يطال نواحي عِدَّة مِن حياة المؤمِن. إنّ هذا النّصّ الإنجيلي يُقسم إلى ثلاثة أقسام. في القسم الأوّل يستخدم يسوع في تعليمه صورة "الباب"و صورة "الطريق": الباب الرَحِب، والباب الضَيِّق، الطريق الرَحِب والطريق الضَيِّق. في القسم الثاني مِن النّصّ الإنجيليّ، يتكلَّم عَن الأنبياء الكذابين، الذّين هم حِملان مِن حيث الظّاهِر أمّا في الباطِن، فهم ذئاب خاطفة. وفي القسم الثالث، ينتقل إلى موضوع آخر، من الممكن أن لا يعنينا في حياتنا اليوم بشكلٍ مباشر، وهو عن الدينونة. ويُعالج مسألة الدّخول إلى الملكوت، ونيل السعادة الأبديّة: هل الإنسان الذّي يعترف أنّ يسوع هو الرَّبّ ويؤمن به، هو من يدخل الملكوت؟ أم المطلوب لدخول الملكوت أكثر من ذلك؟ في القسم الأوّل، نرى أنّ الصورة عامّة وتشمل كلّ حياة الإنسان، وكلّ خياراته الأساسيّة في الحياة. لقد انطلقت من سفر الاشتراع فكرةٌ أساسيّة، طبعت كلّ الكتاب المقدَّس في ما يخصّ الخيارات الأساسيّة الحياتيّة، ترتكز على أن يرى المؤمن في الحياة طريقين عليه الاختيار بينهما: طريقاً يؤدي إلى الهلاك وطريقاً يؤدي إلى الحياة. ونجد هذه الفكرة أيضاً في المزمور الأوّل من سفر المزامير.

وفي هذا الإنجيل أيضاً، نرى يسوع يتكلّم عن بابين: الأوّل رَحِب وواسع والآخر ضيّق، وكذلك عن طريقين الأولى رحبة وواسعة والثانية ضيِّقة. وهنا يُشبِّه يسوع، في كلامِه وبشكلٍ عامّ، حياة الإنسان بالطريق، فإنّ حياة الإنسان ترتكز على سلوكه ومسلكه. هذه هي النقطة التّي تحبُِك الإنجيل كلّه، وهي مسألة المسلك. فالأمور، لا تُحَدَّد لا بهويتنا ولا بإيماننا ولا بأقوالنا وإنّما، تُحَدَّد بما نقوم به، أي بمسلكنا الأخلاقيّ. فالأخلاق تعني بالتّحديد علاقتنا مع الآخرين، تصرّفاتنا معهم ومسلكنا معهم. ونحن نجد سهولة في الانجرار نحو إختيار الأسهل دائماً، وهذا هو الخطر الأوّل الذّي يُنبّهنا إليه الإنجيل، ويقول لنا إنّ الطريق الأسهل هو الطريق الواسع التّي يسلك فيها الكثيرون.

ومِن حيث المبدأ، غالباً ما نتأثر بما يفعله الجميع، وما يقومون به وخاصّة في لباسِنا. فنحن نتقيّد بما يلبسه الآخرون وهذا ما يُسّمى بالموضة. فهل سنقبل ونسمح للموضة بأن تتحكّم بمسلَكنا؟ إليكم مثل عن ذلك: عندما نقول إنّ الجميع يفعل هذا الأمر المعيّن، فنفكِّر قائلين إنّ الأمور لا تقف عندي، فهل تُراني أنا من سيُقوِّم كلّ ما هو معوَّج؟ إنّ مثل هذا الحديث، يجعلنا نفكِّر مثل الجميع، ونقوم بما يقوم به الجميع، ونتصرّف كالجميع، وفي أغلب الأحيان نعتقد أنّنا "إكتشفنا البارود". وإليكم مثلٌ آخر، فعندما تتحادث مجموعة من النّاس، وتتعصّب لفِكرَةٍ ما، نرى الحديث يبدأ، ويطول حول سيئات الفكرة التّي يرفضونها. وعندما يعترض أحدهم، ويلفت نظر الحاضرين إلى حسنات الفكر الآخر المختلف، يُخوَّن، ويتعرَّض هذا الأخير إلى سَيْل من الانتقادات الهدّامة (من الممكن أن يكون هذا الآخر المختلف عنّا: حزب ما، طائفة، عائلة ما أو فكر ما)، فيضطّر إلى الدّخول في الحديث معهم، ومجاراتهم فيما يقولونه حتّى وإن كان خاطئاً. فهذا ما يفعله الآخرون وهذه هي الموضة السائدة، وعليك أن تتحدّث مثل الجميع وإلاّ تُنبَذ منهم. لكن نحن كمسيحيّين، على خيارنا أن يكون اختيار الطريق الضيّق والباب الضيّق. فهذا الطريق هو الّذي سيُوصِلنا إلى الحياة وسندخل من خلاله إلى الملكوت. فإنّ دخول الكثيرين من الباب الواسع والرَحِب، لا يعني أبداً أنّ هذا هو الباب الصحيح الذّي علينا دخوله، إذ إنّه يمكن أن يؤدي إلى الهلاك.
وفي القسم الثاني، ينتقل يسوع إلى تحذيرنا من الإنبياء الكذبة، الذّين يأتون إلينا بشكل حِملان. من المتعارف عليه عموماً، أنّ الخروف مُطيع ولا يؤذي، دوماً رأسه منخفض صوب الأرض، صُوفه أبيض عموماً، وكلّ ما يُوحي به هو الوداعة والطاعة والطيبة. أمّا الأنبياء الكذبة، فيقتربون من القطيع لابسين ثياب الحملان، لكن لا يلبث أن يكتشفَهم القطيع على حقيقتهم وهي أنّهم ذئاب كاسرة، ويريدون تبديد القطيع والقضاء عليه. إنّ هؤلاء يُشكِّلون خطراً كبيراً جدّاً على القطيع. ويجدر بنا الانتباه إلى أنّ كلام الإنجيل هذا، هو صُوَر مجازية، فنحن بشر، ولسنا بخراف. فعندما يقول لنا أحدهم إنّه يسوقنا كما تُساق الخراف، ننتفض ونعترِض قائلين إنّ لكلّ فردِ منّا رأيه الخاص وتفكيره الخاصّ ولا نقبل بأن يسوقنا أحد. ولكن المسألة الملفتة هنا التّي يعرضِها علينا الإنجيل هي، ألا نُغَشَّ بالظاهر وألاّ نسمح لأحد بأن يَغِشَنا. وهذا ما يُسَّمى بالمنطق النبويّ. فما هو المنطق النبويّ؟ المنطق النبويّ يقوم على عدم التّوقف عند الظاهر. فقد كان الأنبياء في العهد القديم، يتكلّمون بعنف وبقسوة شديدة مع الأشخاص الذّين كانوا لا يُبارحون الهيكل، مع النّاس الذّين هم من حيث الظاهر يُطبِّقون الشريعة، لكنّهم لا يسلكون بموجبها في حياتهم، فهؤلاء يُطبّقون من الشريعة ما يحلو لهم.

وفي هذا الإنجيل، الذّي يشّكل ختام عظته على الجبل، يتكلَّم يسوع عن ثلاثة أمور ترتكز عليها العبادة: الصلاة، الصّوم والصدقة. ويقول لنا يسوع في هذا الإنجيل إنّ ليس كلّ مَن صلّى قد صلّى حقّاً، وليس كلّ مَن صام قد صام حقّاً، وليس كلّ من تصدّق قد تصدّق حقّاً. إنّ كلّ هذه الأعمال هي أعمال خير، وأعمال تطلبها الشريعة. لكنّ الإنجيل يُلقي الضوء على مثل تلك الأعمال، ويدعونا لكي نكون حذرين منها. فالإنجيل يدعونا إلى أن نكون حذرين من الأمور التّي تُحرِّمها الشريعة، والتّي يتعارف عليها الجميع على أنّها خطايا مثل الكذب والسرقة والزنى وغيرها، فهذه كلّها علينا تجنُبها لأنّها خطايا. إنّ كلام الأنبياء لم يكن يطال مباشرة الذّين يرتكبون الخطايا، بل أولئك الذّي يقومون بأعمال خير وجيّدة ظاهريّاً، لكنّها تخفي نوايا سيئة ومرفوضة. لذلك من صلّى كي يراه النّاس فهذا الإنسان لا يُصليّ، والإنسان الذّي يقوم بالصدقة من أجل أن يُصفّق له النّاس، فإنّ أعماله غير مقبولة عند الله، ومَن يصوم لكي يقول للنّاس إنّه صام، ويقول لله إنّه يتمّم واجباتِه الدينيّة، فإنّ صومه غير مقبول وحرِيٌّ به ألاّ يصوم.

فالموقف النبويّ يتطلّب منّا أن نبقى صامدين في إيماننا في وجه هؤلاء الذّين يحاولون خداعنا، وعلينا أيضاً أن نحذر منهم. فليس كلّ من يقف أمامنا طالباً منّا أن نصلّي، يكوم مُرسَلاً من الله. وليس لأنّ الكاهن طلب منّا القيام بأمر معيّن فعلينا تصديقه، والقيام بما طلبه منّا من دون تفكير بذلك، متخلّيِن عن ثقاقتنا الدينيّة، وما تعلّمناه. علينا أن نكون يقظين، فنحن لا نستطيع أن نكون خرافاً. فعلينا أن ننظر إلى كلّ من يأتينا كمرسل من عند الله، ونميّز إن كان راعياً حقيقيّاً أم راعياً مُزَيَّفاً يريد إيصالنا إلى الهلاك. إنّ كلام يسوع في هذا الإنجيل لا يُقدِّم إعفاءً للرعيّة من مسألة التمييز هذه، بل على العكس إنّه يدفعها لكي تكون حذرة وتتحلّى بالتمييز الضروريّ لمن يأتيها راعياً من عند الله ومُرسلاً. إنّنا لا نستطيع التعرّف إلى هؤلاء الأنبياء الكذبة من خلال تعاليمهم بل من خلال أعمالهم، فمن الأعمال اليوميّة البسيطة الأساسيّة نميّز ونعلم هل هم يكذبون علينا؟ وهل هم أصوليّون؟ وما هي الغاية من كلامِهم؟ هل هم سبب شرخ في الجماعة أم يسعون إلى توحيدها؟ ما الغاية من أعمالهم؟ هل يسعون لكي يظهروا هم أم يسعون لكي يظهر الله من خلالهم، ويسعون لخدمة الجماعة؟ إنّ على المؤمنين طرح كلّ هذه الأسئلة وغيرها على الشخص الذي يأتيهم راعياً. فليس كلّ من تكلَّم بكلمة الله هو بالضرورة مرسل من عند الله. أريد أن أُذكّركم أنّه في نصّ تجارب يسوع، جرَّب الشرير يسوع مستشهداً بالكتاب المقدّس. وبالتّالي ليس كلّ من تكلّم بكلام الكتاب المقدّس فهو يتكلّم بروح الله، هذا الروح الذّي به كُتب الكتاب المقدّس. ما المقصود إذاً؟ المقصود أنّه يجب علينا ألاّ نستريح، وألاّ نستسلم، وألاّ نندهش أمام كلّ ما يُقال لنا، بل علينا أن نتساءل حول كلّ ما نراه أو نسمعه، وعلينا بكلّ بساطة أن نميِّز. علينا بالسهر وعدم السماح لأحد بأن يَغِشَنا بالكلام أو بالفعل، علينا تمييز الخراف من الجداء. فليس كلّ من قال لنا صوموا، صلّوا، تصدّقوا يكون إنساناً مرسلاً من عند الله. فالكتاب المقدّس يتكلّم عن يوم الدينونة ويقول إنّه
في ذلك اليوم، كثيرون سيقولون ليسوع إنّه باسمه تكلّموا وقاموا بالأعاجيب، ولكننا أيضاً نقرأ في الكتاب، أنّ الرّبّ نظر إليهم وقال لهم إنّه لا يعرفهم. لذلك علينا إعادة النظر في المقاييس التّي نتبعها للحكم على إنسان إذا كان مؤمناً
أم لا. فنحن حين ننظر إلى إنسانٍ مؤمن، هل ننظر إلى أقواله وعجائبه، أم إلى أقواله والغاية التّي تكمن خلفها؟ إذاً وبكلّ بساطة، يختتم يسوع تعليمه في الإنجيل بهذا القول إنّه ليس كلّ من يقول له يا ربّ يا ربّ يدخل ملكوت السّماوات، بل يدخله كلّ إنسان يسمع كلمة الله ويعمل بها، أي أنّ من يدخل ملكوت السّماوات هو الإنسان الذّي تكون كلمة الله نوراً لسبيله، كلّ من تكون خطواته ومسلكه في النّور. فالظلمة، التخبئة، الحزن، التقسيم، الكآبة، هذه الأمور بالتأكيد ليست من روح الله. فروح الله يُنير، يعطي الحياة والفرح والبركة حيثما حلّ.

إخوتي، إنّ كلام يسوع هذا موجّه لنا اليوم. من المهمّ جدّاً أن يكون لدينا أباء روحيّون في حياتنا، نتّخِذهم مثالاً لنا، نسمع لهم، ولكن علينا التذّكر دائماً أننّا لسنا خرافاً. وفي هذا الإنجيل لا يلقي يسوع المسؤوليّة على الرعاة إنّما على الرعيّة. فيسوع يدعونا ويقول لنا إنهّ على كلّ مؤمن أن يستمع هو بنفسه لكلام الله يخاطبه، وذلك من خلال قراءته للكتاب المقدّس. عندئذِ يستطيع أن يميّز الأصوات، فلا يعود ينقاد لهذا الصوت أو ذاك، إذ صار يعرف صوت الله جيّداً. علينا أن نكون أشخاصاً مؤمنين ثابتين في الإيمان، بانين بيتنا على الصّخر الذّي هو كلام الله الذي يظهر من خلال سلوكنا وقيمنا الأخلاقيّة، وفي تعاملنا مع بعضنا البعض.

ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبلنا بتصرّف.

تتمة...
9/2/2016 تشبّه بمعلّمه المسيح فتمجّد الأب بنوا ريشا الكرملي
https://youtu.be/5S9oVIyAslg

"حياة القدّيس مارون"
عظة للأب بنوا ريشا الكرمليّ
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الثامنة لانطلاقة جماعة" أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة الكرمل-الحازميّة

9/2/2016

في هذا اليوم نحتفل بعيد القدّيس مارون أبي الكنيسة المارونية، الّذي على اسمه بُنيت، وامتَدَّت عبر التّاريخ منذ وفاتِه سنة 410، واستمرّت إلى اليوم. لقد قرأنا اليوم في الإنجيل عن يسوع الّذي كان يُخاطِبُ الآب ويقول له: "مَجِّد اسمك"، وقد أتاه الجواب: "قد مَجَّدتُ وسأُمَجِّد أيضاً". إنّ الكنيسة المارونيّة تقرأُ على مسامِعنا هذا النّص لتقول لنا إنَّ مارون كان في حياتِه يَقرأُ الإنجيل، ويُحاول التشَّبه بمُعلِّمِهِ المسيح، لذلك تمَجدَّ مارون: تمجَّد بأبنائه، وبكنيسته عبر التّاريخ. وقد أصبح مارون معروفاً في العالم كلِّه على أنّه أبو الكنيسة المارونيّة. ومجدُ مارون لم يكن عندما كان حيّاً على الأرض.

كما نقرأ أيضاً مِن رسالة مار بولس إلى تلميذه تيموتاوس، وفيها يُعدِّد القدّيس بولس الآلام والصعوبات التّي عاشها. ويمكننا القول إنّ كاتب هذه الرسالة هو أيضاً مار مارون، يكتبها إلى أبنائه في الكنيسة المارونيّة، وهو يُخبرهم فيها بما عاشه. سأقرأ من جديد الآية التّي كتبها بولس وتكلَّم فيها عن عذاباتِهِ: "لقد تَبِعْـتَ تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأنّاتي ومحبّتي واضطهاداتي وآلامي كالتّي أصابتني في إنطاكية". إنّ مار مارون كان مِن مدينة إنطاكية، تَنَسَّكَ في حَلَب وعاش كلّ هذه الصُعوبات التّي عاشها بولس، لذلك كافأهُ الله، وأعطاه المجد الإلهيّ لا المجد الأرضيّ. فصحيح أنّه عندما كان القدّيس مارون حيّاً كان يتقاطر إليه النّاس مِن رُهبان وعلمانيين طالبين الشفاء، غير أنّ المجد كان أكبر بعد وفاتِهِ. وهنا أُشَجِّعُكم على قراءة كتابٍ كتبه الأسقف تيودوريتوس القورشي الّذي خَلَفَ مار مارون، وفيه تستطيعون قراءة حياة العديد مِن القدّيسين الّذين عاشوا في قورُش، ومِن بينِهم القدّيس مارون. وهذا الكتاب يُخبِرُنا أنّه بعد وفاة القدّيس مارون، تحاربت مدينتان مِن أجل الحصول على جُثمانه، وقد احتفظت به المدينة التّي غلبَتْ في هذا الصراع.

خلال حياة القدّيس مارون كان يتقاطر إليه النّاس مِن كلِّ مكان طالبين الشفاء مِن أمراضٍ عديدة ومتنوعة. وقد كان مارون بوجوده على الجبل مثل ذلك العمود الحديد الّذي يُوضع ضِدَّ الصواعق para-tonnerre، وقد كان وجود مارون يَرُدّ الضربات عن شعبِهِ ويَرُّد الحروب. وقد أصبح مارون كذلك بفضل صلواتِهِ وعيشه للإنجيل بحذافيره. وعندما تَنَسَّك مارون، زَهَدَ بكلِّ شيء، وترك كلَّ شيء، وعاش على الجبل يقتاتُ ممّا يتوَفَّر له مِن الطعام. ويُقال أيضاً عن مار مارون إنّه عاش تحت المطر والبرد، تحت الشمس، بدون بيت أو سقف. وهذا ما يُسمّى بالعيش في العراء. وبعد مار مارون، خَلَفَهُ تلميذه، سمعان العموديّ، الّذي عاش على العمود كمار مارون. وكأنّ هذه الطريقة التّي اختارها مارون أصبحت طريقة واضحة، يعيش من خلالها فقط مِن نعمة الله، أكان بالأكِل أو بالشُرب أو مِن خلال صِحَتِهِ، أو مِن خلال ممارساتِهِ، ومِن خلال صُمودِه بالرّغم مِن صعوبات الطبيعة. وبهذه القوّة التّي أفاضها الله عليه إستطاع أن يُبَشِّر الوثنيين في المدُن أو في القرى. وقد أرسل مارون رُسُلاً إلى لبنان ليبشِّروا، ومنهم ابراهيم، أحد أبنائه الّذي بشَّر في منطقة نهر إبراهيم، ومنطقة جبل لبنان. وفي هذا الوقت الّذي كان قد بدأ بناء الكنائس على الساحِل، بَشَّر رُسل مار مارون القُرى التّي كانت ما زالت تُحافِظ على وثنيتها، وهناك أُسِّسَ تلاميذ مار مارون. ونحن نعلم اليوم أنّ الموارِنة هم أبناء الجبال، يُفتّتون الصَّخر، أي أنّهم يعملون في الأرض. وبالتّالي هم يتمتعون ليس فقط بِبُنية جسديّة قويّة، وإنّما أيضاً يتمتعون بإيمانٍ قويّ، إيمان ثابت، قادر على الصمود. وهذا الصمود في الإيمان كان وما زال يُرافِقُهم أينما وُجِدوا في لبنان، وفي العالم بأسرِه.

مِن المؤكد أنّ ما عاشه مارون، عاشه بولس وأخبر عنه تلميذه تيموتاوس. فتوَّجه بولس في رسالته إلى تيموتاوس قائلاً له ومُذَّكراً إيّاه أنّه قد نال الإيمان منذ طفولته، ولكن هذا الأمر لا يكفي. وشَجَّعه على هذا الإيمان وقال:"إنّك منذ الطفولة تَعرِف الكُتُب المقدَّسة القادرة أن تُصَيِّرَك حكيماً في سبيل الخلاص". إنّ هذا الكتاب يُعوِزُكَ عندما تكون مسؤولاً في الكنيسة وأسقفاً، إنّه كتاب مُفيد للتّعليم. على تيموتاوس أن يَتَعَلَّم ويُعَلِّم، أن يُوَبِّخ، وأن يُؤدِّب وأن يُقَوِّم المعوَّج.كلّ هذه السلطة التّي أعطاها بولس لتلميذه تيموتاوس، سبق أن أخذَها بولس نفسه مِن الله. إنّ هذه السلطة يُعطيها الله لكلّ مَن يتبعونه وخاصّةً إلى النّساك وإلى كلِّ الّذين يحفظون كلمة الله في الإنجيل حرّفيّاً ويسيرون بحسب تعاليمِه. وهذه السلطة حَصَل عليها مارون وأَلهمَ أجيالاً وأجيالاً من الرُّهبان، وأَلهمَ الكنيسة المارونيّة.
نحن نقول أنّنا أبناء الكنيسة المارونيّة. لكن إن وَعى كلٌّ منّا، ليس فقط تاريخه الشخصيّ القديم، بل كلَّ التّاريخ ودروسَه، لأَدرَك كم أنّ الكنيسة مَرَّت باضطهادات وحروب، مآسٍ، وشهود واستشهادٍ. فإنّ الكنيسة عاشت حروباً مباشرة، ومجازر قبل عهد الأتراك وفيه وبعده، وما زالت حتّى اليوم، تُعاني وتعيش في وسط الاضطهادات. ولكنَّ إيمان الكنيسة ما زال صامِداً في أبنائها، أساقفتها، كهنتها، رهبانِها وراهِباتها، وكافة المؤمنين المنتشرِين في كلِّ العالم. ولكننّا نَعلَمُ أيضاً أنّ هناك بعض المؤمنين الّذين يسعون إلى عصرَنَةِ إيمانِهم، حسب الجوِّ الحديث والظرف الحديث المليء بالعجائب والغرائِب. إنّ التَمَسُّك بالإيمان يَحفَظُ المؤمِن. إنَّ الله، مِن خلال صلاة رئيس الطائفة وشفيعها، مِن خلال صلاتهِ عندما كان حيّاً، يُعطيه النِّعمة للمحافظة على كنيسته وأبنائه.
لذلك عندما ننسى هذه الحياة التّاريخيّة، نعتقد أنّ كلَّ شيء سوف ينتهي مع الوقت وينطفئ، وأنّ الحديث سيَحُلّ محلّ القديم بينما المثل الشائع يقول:"حافظ على قديمِك، فجديدك لن يدوم لك". كذلك عندما يُعصرِن الإنسان إيمانه، سيكتشف فيما بعد أنّ كلّ النظريات والأخلاقيات الحديثة لن تؤدي إلاّ إلى الخراب النّفسي، الشخصيّ، العائليّ وحتّى إلى خراب الكنيسة.
إنّ الرّبّ أعطى هذه الأرض وهذا الشعب، مارون، إنساناً متمسِّكاً بالإيمان، وهو سيكون دعامة عبر القرون ليحمِل غيره.كما هي الحال مع مار بطرس الّذي حمل على أكتافِهِ كنيسة روما وما تعنيه كنيسة روما. وذلك ليس لأنّ اسمُه بطرس، وليس لأنّه عبر التّاريخ قد وجدوا نظريّات وحلولاً ليُحافظ الرّسل على ذاتهم، بل لأنّ الرّبّ أراد أن يُحافِظَ على بطرس وقال له: "أبواب الجحيم لن تقوى عليكَ". أبواب الجحيم لن تقوى على بطرس، هذه الصخرة التّي بنى المسيح عليها كنيسته. لذلِك أرسل الله مارون وبنى عليه كنيسته.
وهذه الكنيسة المارونيّة لن تزول ولن تُدَّمَر، لكن المطلوب أن يُدرِك أبناؤها قيمة هذا البناء الّذي أعطاهم إيّاه الله، وثبَّتَهم بإيمانٍ صلبٍ. نحافِظ على إيماننا عندما نعيشُه في صِغَرِنا كما في كِبَرِنا، لكي نثبت نحن، ولكي نكون مثالاً لأولادِنا ليَرَونا ثابتين. فإن ضاع أولادنا في مرحلةٍ معينة، أو في فترة مُعينة، عادوا ليكتشفوا بعد انقضاء تلك المرحلة الثبات في الإيمان، فيعيشوه من جديد، ويعرِفوا أنّهم أبناء هذا الشعب، هذه الكنيسة، أبناء المسيح الّذي ثَبَّتَنا في هذه الأرض، فنثبُت ويثبت أولادنا ويثبت مستقبل الكنيسة. آمين.
ملاحظة: دوِّنت العظة من قِبلنا بتصرّف.

تتمة...
10/1/2016 وتعزيتنا اليوم لهؤلاء الأبطال الذين انتقلوا إلى الرّبّ تكون بالصلاة لأجلهم الأب جورج نخول

عظة للأب جورج نخول
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة مار الياس – زوق الخراب، ضبيه

10/1/2016

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نُقدِّم هذه الذبيحة الإلهيّة في مطلع هذا العام الجديد، على نيّة كلّ ذكرى من جماعة "اذكرني في ملكوتك"، ونحملها بشوق وحبّ وحنين وإيمان للرّبّ يسوع المسيح، على نيّة الراقدين الذين سبقونا إلى الملكوت السّماوي.
أحبّ أن أتكلّم عن الرجل العظيم، يوحنّا المعمدان، هذا الرّجل الجريء الشجاع، الواثق من نفسه، الذي يعيش دعوته بكل معنى الكلمة؛ والذي يختم العهد القديم بشخصه، ويقودنا إلى العهد الجديد وإلى مسيرة جديدة؛ ويتساءل يوحنا في مسيرته عن هويّة الآتي من بَعده.... وقد استعمل يوحنّا أجمل تعبيرين وهما:حمل الله، وابن الله...

و"حمل الله" تعني، أنّه الفصح الجديد والذبيحة الجديدة، وأنّه الحمل الذي سِيق إلى الذبح، وقدّم ذاته من أجل خلاصِنا. ويَرُدُّنا يوحنّا إلى نبوءة أشعيا، الذي تنبأ قبل المسيح بسنواتٍ عديدة حول الفصح والذبيحة، والحمل الذي سوف يكون التّقدمة في سبيل خلاص نفوس البشر.

وقد صرَّح يوحنّا في الوقت ذاته عن هويّة أُخرى ليسوع المسيح، أنّه هو ابن الله. ويَعتَرِف أنّه يُعمِّد بالماء، أمّا يسوع فسيُعَمِّد بالروح القدس، أي أنّه يُشير إلى التغيير الذي جرى قبله وبعده. فكان يُحضِّر في عهده لمعموديّة غفران التوبة، ويُحضِّر الشعب لمجيء المخلّص المنتطر، لأنّ مجيئَه حدثٌ عظيمٌ، حيث ننال ولادة جديدة بنعمة الروح القدس. وهنا تظهر عظمة هذا الإنسان: فقد كان همّه أن يحقق مشيئة الله الآب من خلال شخصه، ليُحضِّر لمجيء المخلِّص يسوع المسيح. وهذه التضحية الكبيرة عاشها أمواتنا وأحبّاؤنا، ونتذكّرهم اليوم في وقفة مميّزة وخاصة، إذ إنّهم لم يعملوا من أجل ذواتهم في هذه الحياة، وإنّما من أجل إسعاد الآخرين أكثر من إسعاد ذواتهم. فقد بذلوا أنفسهم على مِثال معلّمهم يسوع المسيح، وأصبحوا تقدمة حقيقيّة، إيمانيّة وروحيّة، في سبيل كلّ إنسان التقى بهم. وتعزيتنا اليوم لهؤلاء الأبطال الذين انتقلوا إلى الرّبّ تكون بالصلاة لأجلهم .

وأحبّ أن أختم اليوم بهذه الكلمة الرّوحيّة: كما نلنا الولادة الروحيّة بجرن العماد، كذلك، تنتظرُنا ولادة ثانية ننالها في الحياة الأبديّة، في السماء، مع الرّبّ يسوع المسيح. فقد لبسنا المسيح، وأصبح المسيح فينا بواسطة هذه المعموديّة، ومن خلال هذه الولادة الروحيّة سوف ننال ولادة عظيمة، خارج إطار الزمان والمكان، حتّى نصبح في إطار زمان ومكان الله، فقد أصبح موتانا في نعمة وأجواء وفلك الرّبّ يسوع المسيح. وعلينا أن نقتدي بهم، ونكون على صورتهم ومثالهم بأعمالهم الصالحة، وبإيمانهم الكبير، لنصل إلى حضن الآب السماوي، ونفتح قلوبنا وأيدينا إلى الرّبّ يسوع المسيح، هو الذّي قال لنا: "تعالوا إليّ يا أحبّائي رثُوا الملكوت الأبدي، المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم". فهنيئًا لأحبّائنا الذين انتقلوا إلى جوار الله الآب، وأصبحوا في دياره ونعمته. وهم اليوم تعزيتُنا، نحن أبناء البشر، لنستطيع أن نعيش هذا الرجاء والإيمان. ونقدّم هذه الذبيحة على نيّتنا نحن الأحياء على الأرض، وعلى نيّة كلّ الأحياء الذين سبقونا إلى الرّبّ. آمين.

ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.

تتمة...
13/12/2015 حبة الخردل الأبّ إيلي خنيصر
https://youtu.be/mHwDvxvBtVM

"حبّة الخردل"
عظة الأبّ إيلي خنيصر
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى الأولى لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
رعية القدّيسة بربارة - زحلة

13/12/2015

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

أيام قليلة تفصلنا عن عيد الميلاد، سنتحدّث عن حبّة الخردل التي نَمَت في حقل الزارع وأصبحت شجرة، وسوف نرى في آخر العِظة، كيف تتهيَّأ المغارة لقبول مريم العذراء ويوسف. لقد ذُكِرَ في الإنجيل أنّ حبّة الخردل، الصّغيرة جدًّا قد أصبحت شجرة، وهي تشبه إيماننا الذي كان صغيرًا وكَبِرَ، فإيماننا بالمسيح يُنمّينا، وما نزرعه نحصُده. في إنجيل اليوم حديثان فقط: الأول، حديث مَثَل الزارع: حيث خرج الزارع ليزرع زرعه، فسقط الزرع جانب الطريق على الصخر والشوك، وعلى الأرض الجيّدة. ويُخبرنا يسوع عن مَثَلٍ ثانٍ، الزارع الذي أخذ حبّة الخردل ورماها في بستانه الخاص، وبستانه عبارة عن أرض جيّدة، لأنّ الزارع الذي يُصَوّر بالله الآب، يكون بُستانه أشبه بالفردوس، ونمو الشّجرة وكبرها، يدلانّ على جودة نوعيّة التربة وعلى اهتمام الزارع بأرضه.

كان الرُعاة في فاطيمة، ميديغوريه، غير قادرين على وصف السّماء، فطلبوا من بولس أن يصِفَها لهم، فأجابهم: "ما لم ترَ عينٌ ما لم تسمعْ أُذنٌ ولم يخطر على بال إنسانْ، ما أعدّه الله للذين يحبونه" (اكور 9:2)، ولكنّ الله وصفها لهم عند النبع قائلًا: "يُشْبه ملكوت السماوات إنسانا زرع زرعًا جيدًا في حقله"(متى 24:13).

عندما بدأ يسوع رسالته، قال: "توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت الله" (متّى17:4)، ولكنّ اليهود احتقروا الحديث عن هذا الملكوت، الذّي بشّر به يوحنّا المعمدان، والرّبّ يسوع، فعندما تحدّث الله عن ملكوت السّماوات في البدء، كان حديثه أشبه بحبّة الخردل، ولكن يسوع عندما بدأ برسالته، وبصنع المعجزات، وظهرت قدرة الله فيه، عندها بدأ الملكوت بالتوسّع، وبدأت الجماعات تأتي لسماع كلمة يسوع بكُلِّ حبّ وشغف، وبدأ الملكوت بالنُمو، وأصبح شجرة عظيمة. عندما مات يسوع وقام مِن بين الأموات، أصبح الملكوت يُشبه هذه الشجرة، التي بسطت أغصانها وجذورها في كل أقاصي الأرض، ووصل رأسها إلى أعلى السّماوات، فسجدت له الملائكة ومجَّدَهُ البشر، وارتعدت الشّياطين من هذا الملكوت.

ترمز الشجرة في الإنجيل إلى السّلام والحيويّة، فهي نبض الحياة للأرض. ويقول الرّبّ يسوع في الإنجيل: "الشجرُ قال عنه الله، لتُنبِت الأرضُ نباتًا، عُشبًا يُبذرُ بذرًا، وشجرًا مُثمِرًا، يحملُ ثمرًا بذره فيه من صنفه على الأرض، فكان كذلك، فأصبح الشجر هو علامة الوجود" (تك 11:1)، لأنّ الأرض مِن الباطن تحتوي على المياه، وحيث المياه، هناك الحياة. ثانيًا: الشّجر في الكتاب المقدّس يدلّ على التبدّل في الطّقوس والمناخ، واستشهد يسوع على ذلك في الكتاب المقدّس: "إذا رأيتم بأنّ التينة مالت أغصانها وأورقت، تعلمون أنّ الصيف قريب" (متى 32:24).

ومَثَل حبّة الخردل، موجود في العهد القديم، في أسطورة نبوخذ نصّر الذي استدعى دانيال ليُفسِّر لهُ الرؤيا، وعبَّر عمّا رأى قائلًا: "رأيتُ وأنا نائم في فراشي، شجرة في وسط الأرض مُرتفعة جِدًّا، فرَبيَت الشجرة وقَويَت، وبلغ ارتفاعُها إلى السّماء، ومَرآها إلى كل أقاصي الأرض، وأوراقُها بهيّة، وثمرُها كثير، وفيها غذاءٌ للجميع، وتحتها تستظلُّ وحوش البريّة، وفي أغصانها تُقيم طيورُ السّماء، ومنها يقتات البشر". وقد تكلّم الكتاب المقدَّس عن عدّة أشجار: الشجرة الأولى: شجرة الحياة المغروسة في الفِردوس، الشجرة التي قطفت منها حواء، ولكنّ الله أقام الشجرة في قلب الفِردوس، ومِن هنا نلاحظ قيمة القلب في الطبيعة والحياة الإنسانيّة، فالقلب هو نبض الحياة، والقلب هو نبض الفردوس، فكانت شجرة الحياة في قلب الفردوس. الشجرة الثانية: الغالب معي، يأكل من شجرة الحياة المغروسة في السّماء، وصفات هذه الشجرة، أنّها تُثمر لاثني عشر شهرًا، وتُطعم كل أهل السّماء مُدّة اثني عشر شهرًا، الثمر الذي لا ينفذ. الشجرة الثالثة: لوّح لها نبوخذ نصّر، وارتفعت إلى السّماء بحيث يراها كلّ العالم من أقطار الأرض الأربعة ، وهي عود الصّليب. فعندما ارتفع يسوع على الصليب قال: "ومتى رُفعت، جذبتُ إليّ كثيرين"(يو 32:12)، وهذا الجذب لا يتم إلّا عندما ينظر الكثيرون من أقاصي الأرض إلى هذه الشّجرة في شموخها إلى العَلاء.
هذه الحبّة تُشبه مريم العذراء، المتّجهة الآن إلى المغارة، ونحن ننتظر نمو ملكوت الله من باطن الأرض، لأنّ مريم سوف تُلقي البذار في داخل الأرض، داخل المغارة. فمريم هي حبّة الخردل التي أخذها الله الآب وزرعها في بُستانه والذي هو الفردوس، الجنة الخضراء التي تتفجّر منها ينابيع المياه، ولكي تُعطي مريم العذراء الحياة لابن الله، يجب أن تنمو الحبّة في أرض الله، وتستقي من مياه الله التي يُفجّرهُا مِن فِردَوسه. ومريم العذراء هي حبّة الخردل التي زرعها الله في أحشاء حنّة، فقد كانت صغيرة، وعندما ولِدَت بدأت تنمو، إلى أن جاءها الملاك وقال لها: "السّلام عليك أيّتها الممتلئة نعمة"(لوقا28:1). وقد بدأ الملكوت معها، كما بدأت هي صغيرة، وستصل إلى مرحلة تُصبح فيها شجرة إلهيّة مُعظّمة. فهي الشجرة التي تنبض بالحياة، وتُشير إلى أنّ فصل السّماء ليس بشتاء أو خريف، بل هو ربيعٌ مُزهِر، وصيفٌ مُثمر، إلى أبد الدهور. فهي الشجرة التي لن يتساقط لها ورق، لأنّها تتغذّى مِن مياه الله الآب، مياه الفردوس، وتدعو الجميع إلى أن يحتموا تحت أغصانِها، ويشربوا من مياه الفردوس التي شربتْ مِنها هي.

تتمة...
20/11/2015 ما معنى أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله؟ الأب عبدو مسلم

عظة الأبّ عبدو مسلّم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى الثالثة لانطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك"
رعيّة مار ضوميط – عين الخرّوبة

20/11/2015

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم نعيش نعمة كبيرة، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على انطلاقة جماعة "اُذكرني في ملكوتك".في رعيّتنا كُنّا في مثل هذا اليوم مُجتمعين مع هذه العائلة لنحتفل بالعيد الكبير، زمن التجسّد. وكانت في ذلك اليوم لحظة لقاء، لحظة فرح، لحظة اكتشاف جمال الإنسان في بُعده الإلهيّ. لأنّني عندما أريد أنظر إلى الأشخاص الذين سبقوني إلى ملكوت الله، علّي أن أنظر في الوقت نفسه إلى ذاتي وإلى داخلي لأكتشف هذا الجمال الذي خلقني الربّ فيه، لأنّ للإنسان جمال مميّز يبدأ باكتشافه عندما يبدأ بالتأمّل والإصغاء، ولا يمكنه أن يكتشفه إلّا إذا تمكّن من أن يتعرّى من كلّ مغتنيات العالم التي يتعلّق بها، عندئذٍ يستطيع أن يدخل إلى جماله الإنساني ويكتشفه ببعده الإلهيّ وبكل أبعاد الجمال...وكم يكون الإنسان رائعًا في فعل الخَلِقْ، لأنّ الله خلقه على صورته ومثاله!.

ما معنى أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله؟...هذا يعني أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله حتّى بإنسانيّته، وبفعل الخَلِقْ الذي قام به الله، أصبح الإنسان قادرًا أن يتواصل مع الله، ويشاركه بألوهيّته. وعندما نقول إنّ الإنسان قادر على أن يشارك الله في ألوهيّته، فهذا يعني أنّ الإنسان، بفعل الخلق: "هو إنسان مقدّس"، ولديه قدسيّة، ولكنه أضاعها في الخطيئة التي دخلت حياته الشخصيّة. فالقُدسيّة التي يكون الإنسان موجودًا فيها،كلٌّ مِنّا بحاجة لعيشها واكتشافها...وكي نكتشفها علينا أن ننظر إلى القدّوس، الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم، الذي هو الربّ يسوع المسيح. فعندما أريد أن أنظر إلى جمالي، عليّ أن أنظر إلى جمال الإنسان الذي اختاره الربّ. فالربّ اختار البشريّة والإنسانيّة، حتّى يفتدي البشريّة بالبشريّة، وتَجسّد من أجل البشريّة بإنسان، فأصبح الربّ يسوع المسيح هو الإله الكامل والإنسان الكامل.
إذا نظرنا إلى الربّ يسوع المسيح وتساءلنا: كيف عاش؟. رأينا أنّه وُلد بفرح في مغارة فقيرًا وعُريانًا، وكلّ الملائكة والملوك والرعاة من أقاصي الأرض أتوا ليمجّدوا الطفل الموجود في المغارة، لأنّ جمال الله موجود في هذا الإنسان القائم بيننا، وعندما يغتني الإنسان يبدأ بفقدان إنسانيّته وجمالها. فإذا نظرنا إلى الإنسان الذي سبقنا إلى الملكوت، وجدنا أنَّه لم يأخذ معه أيّ شيء من الممتلكات والأموال التي جمعها على الأرض، وإنّما أخذ ذاته، فدخل فقيرًا إلى الملكوت لأنّه يغتني بالبُعد الإلهيّ والبصمة الإلهيّة الموجودة فيه...

عاش الربّ يسوع المسيح في مسيرته على الأرض بعطاءٍ مستمرّ، وغمر كلّ من يقصده بالعطف والرحمة والغفران، وبإنسانيّته بكلّ أبعادها. فنرى أنّ البشريّة تبعت الربّ يسوع المسيح، لأنّه يعطيها ما ينقصنا اليوم...فما ينقصنا اليوم في مجتمعنا وعائلاتنا هو أن يقف الإنسان إلى جنب أخيه الإنسان، ويعطيه كامل إنسانيّته. فعندما يقدّم الإنسان كامل إنسانيّته، يبتدئ الفرح الإلهيّ بالتجسّد في قلب البشريّة. فيمكن أن نرى البُعد الّذي يصل إليه الإنسان بجماله الإنسانيّ من خلال معرفة ما كان يفعله المسيح، وهو على الصليب... فالله افتدى البشريّة من خلال إنسان صُلب على الصليب. الإنسان إذًا، بجماله قادر أن يفتدي أخاه الإنسان، وعندما ينتقل الإنسان إلى ملكوت الله يكمل رسالة الفداء مع الرّب يسوع المسيح...فالقدّيسون الموجودون اليوم في السماء يتشفّعون ويصلّون، لأنّهم يعيشون إنسانيّتهم بكمالها، ببعدها الإلهيّ في قلب الله، لذلك أصبحوا قادرين أن يتشفّعوا للبشريّة جمعاء ويخلّصوها من عمق الخطيئة.
فالأشخاص الذين سبقونا إلى ملكوت السماوات، مِن المؤكّد أنّهم بحاجة إلى صلواتنا إذا كانوا موجودين في (المطهر)، ولكن إذا كانوا موجودين في السماء فهم بدورهم يعلّموننا أن نتوب توبة جذريّة. وعندما نصل إلى اللحظة التي نتعرّى فيها من الجسد، ندخل إلى عمق المحبّة، وهنا تكمن إنسانيّتنا، وهذا هو جمالنا.

تتمة...
14/11/2015 فإنّ رحمة ربّنا لا تعرف الحساب ولا تنتظر المقابل الأب فرنسيس جرماني

عظة الأبّ فرنسيس جرماني
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
رعية مار مارون - الأنطونيّة

14/11/2015

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نعيش اليوم لقاءً مُميّزًا كما في السبت الثاني من كلّ شهر مع جماعة "اذكرني في ملكوتك"، ليتنعّم موتانا الذين رقدوا على رجاء القيامة مع الربّ يسوع القائم من الموت في مملكة الحُبّ. فإنّها جماعة روحيّة تتمتّع بالتّعزية وبرجاء القيامة، والانتصار على الموت والخطيئة، لننال رحمة الله الواسعة غير المتناهية، خاصة أنّ رحمة الله تصبّ في كلّ نفس بشريّة (أحياء أو أمواتًا)، فتغمر كلّ الناس، وتُشبه المطر، الذي عندما يهطل، يستفيد منه الإنسان والنبات وكلّ الخليقة على وجه الأرض. فرحمة الله مثل الشتاء، تهطل علينا فتغسلنا وتُطَهِرنا، لنشعر بأنّنا مغمورون بحنان الله، خاصة أنّ رحمة الله غير المتناهية بدأت من تأسيس الكون والإنسان. فنرى أنّ الرّبّ يسوع غمر كلّ الناس برحمته، ابتداءً من ابراهيم أب المؤمنين. ونحن أيضًا نعيش التحضير لهذه النبوءة التي بدأت من ابراهيم وصولًا إلى موسى حامل شرائع الله التي على الإنسان أن يستفيد منها، وتكون شرائع توجيهيّة لحياته، ليرجع إلى إيمانه المستقيم، وبالرغم من كلّ الصعوبات والتجارب، تبقى رحمة الرّبّ هي المسيطرة على كل ّالتجارب القاسية المهيمنة على حياتنا...ولكنّنا استطعنا أن نلمس رحمة الله من خلال تجسّد ابنه الوحيد، بحيث أرسل الله الملاك جبرائيل ليحمل بشارة السّماء إلى العذراء مريم، ومن خلال هذه البشارة تكوّنت الرّحمة الإلهيّة. فإنّ رحمة ربّنا لا تعرف الحساب ولا تنتظر المقابل، وأحيانًا نُفكّر أنّ الله هو إله القداسة، هو إله الصلاح، إله البرارة، ولكنّنا ننسى أنّه إله رحيم.

ماريا فوستينا، هي رسولة الرّحمة الإلهيّة. فعندما ظهر لها يسوع المسيح، أوصاها أن تُبشّر كلّ الناس أنّ قلبه الواسع يغمر كلّ العالم، وأنّه ليس فقط إله القدّاسة، وإنّما إله الرحمة والمحبّة أيضًا. ومن الضروري أن نتأمل برحمة الله، فنحن على رجاءٍ كبيرٍ، وإيمانٍ واثقٍ، أن كلّ موتانا مغمورون برحمة ربّنا في ملكوت الحبّ، فنحن نقول "اذكرني في ملكوتك"، ولكنّنا أيضًا نقول "اذكرني في رحمتك"، لأنّ ملكوت الله هو ملكوت الحبّ والرحمة. فعندما نكون رحومين على بعضنا البعض، ونلمس هذه الرحمة عند الآخرين، نعيش السّلام والرّاحة والهدوء. وما أجمل هذه الرّاحة، عندما تكون الرّحمة من يسوع المسيح! تأكّدوا إخوتي أنّ إخوتنا الذين رقدوا على رجاء القيامة، تغمرهم رحمة الله. فإنّنا مدعوون في ضوء الإنجيل، للإعلان والكشف عن سرّ الله. سِرّ البرارة (كما يقول الكتاب المقدّس)، فكلّ إنسان بار، هو إنسان قريب من الله، ويوسف النّجار هو شخص قريب من الله، لأنّه استطاع أن يُبدّل شريعة القساوة والحكم إلى شريعة الرّحمة وتقبّل الآخر، فتخيّلوا لو لم يكن شخصًا بارًا ماذا كان ليفعل بمريم العذراء، وخاصة أنّه كان في العادات والتقاليد اليهودية أن تُرجم المرأة حتّى الموت، إذا اتُخذَتْ في الزّنى. فبالرغم من أنّ يوسف كان رجل الشريعة والله، ولكنّ برارته فاقَتْ هذه الشّريعة: "لم يُرِد أن يشهَرَ أمرَها، فعَزَمَ على أن يُطلِّقَها سِرًّا" (متّى19:1). فأخذ يوسف موقف "مسيحيّ" قبل ولادة يسوع المسيح، وهذا يدلّ على انفتاح يوسف على رحمة المسيح قبل ولادته، فقد استبق رحمة يسوع من خلال موقف القوّة الذي عاشه أمام مريم العذراء. ولأنّ يوسف إنسانٌ بارٌ، ولم يُرد أن يعيش في حالة حيرة واندهاش أمام هذا اللغز الكبير، كشف له الله سِرّ السّماء قائلًا: "لا تخفْ أن تأتي بامرأتك إلى بيتك. فإنّ الّذي كُوِّنَ فيها هو مِن الرّوح القُدس" (متّى20:1). وهذا هو سِرُّ إيماننا المسيحيّ، بمعنى أنّ مريم زُرع في أحشائها طفلٌ بفعل إلهيّ، هو الروح القدس. فيقول النبيّ أشعيا: "ها إنّ العذراءَ تحمِل فتَلِدُ ابنًا يسمونه عِمَّانوئيل، أي (الله معنا)" (متّى23:1). وكيف نترجم جملة "الله معنا" في حياتنا ؟...فكلّ إنسان يحمل بداخله قلبًا مُمتلئًا بالرّحمة والمحبة، يكون مع الله.

فلمّا ذهبت ماريا فوستينا إلى الدّير عند الراهبة، وكلّمتها بشأن التَّرَهُّب، وأنّها أصبحت مُستعدّة، طلبت منها الراهبة أن تتوجه إلى الكنيسة وتسأل الرّبّ يسوع ماذا يُريد منها، وعندما تجد الجواب تعود إليها...فركعت أمام المصلوب في الكنيسة، وسألته: ماذا تُريد منّي يا ربّ في هذه اللحظة؟ فأجابها: أريد أن تكوني في قلبي. فكلّ إنسان يكون في قلب الله، ينشر الرّحمة لمن حوله. لأنّ الله إله رحمة. فالرّحمة التي تجسّدت في حياة المسيح بلغت ذروتها وهو على الصّليب. ويقول لنا بولس: "وقد اتخذ ذاته، مُتّخذًا صورة العبد، وتشبّه بالإنسان وأطاع حتى الموت موت " (في 7:2-8). فرحمة يسوع تكمن بِبَذل ذاته على الصليب من أجل البشريّة.
وقريبًا في كلّ أبرشيات روما، وخاصًة في الفاتيكان، سوف يتم تكسير الباب الذهبيّ، أي باب اليوبيل الذهبيّ، الذي يُكْسَر كلّ مئة سنة، ويرمز إلى العبور من الموت إلى الحياة، ومن حياة الخطيئة إلى حياة النعمة. فهذه السنة سنة يوبيليّة، ومِن الجميل أن تتنعَّم البشريّة برحمة الله، وتتكسّر كل هذه الأبواب اليوبيليّة، لتَعبُر كلّ الكنائس وكلّ البشريّة مع الرّبّ يسوع، إلى حالة الفرح والسّلام الدائم.

وأتمنّى إخوتي مع هذا العبور، أن تَعبُروا من حالة الجفاف إلى حالة الفرح والقيامة، ولُيحاول كلّ واحدٍ منّا أن يَعبُر مِن ذاته إلى الآخر من خلال إعطاء قلبه وذاته للكنيسة وللآخر، ومُمارسة فعل الحبّ تجاه الآخرين، وعدم انتظار المبادرة مِن الفقير أو المجروح، وإنَّما أن يُبادر هو كما كان يفعل المسيح، وهذا هو العبور إلى الحُبّ والرحمة. وكما عبر موتانا من الأرض إلى السّماء، فنحن مدعوون للعبور إلى حُبّ العطاء وحُبّ الآخر. آمين.

ملاحظة: دُوّنت العظة من قبلنا بتصرّف.

تتمة...
13/11/2015 فهدف حياتنا أن نَصِلَ إلى ملكوت الله، مِن خلال مَحبّة الله والقريب الأب أيلي مظلوم
https://youtu.be/tvxXk9uel0o

عظة الأبّ إيلي مظلوم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى الثانيّة لانطلاقة جماعتنا
رعية كاتدرائية مار عبدا – بكفيا

13/11/2015

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نَحتفِل اليوم سويًّا بذكرى مُرور سَنتَين على تأسيس جماعة "اذكرني في ملكوتك". هذه الجماعة التي تعيش رُوحانيّة مُرافقة الإنسان الذي يتحضّر للموت، أو الإنسان الذي فَقد قريبًا له. لذلك نٌركِّز اليوم على نُقطين مُهمّتَين جداً وهُما: مَا هو الهَدف مِن حَياتنا، وكيف نُحقّقه؟؟...ومَا هي رسَالتُنا ؟؟

عندما تَعمَّد كُلّ واحدٍ منّا، تَبنّاه الله، فأصبح ابن الله وأخَ المسيح بفعلِ الروح القدس، وكلُّ ابنٍ يعيش في بيت أبيه. وبالتالي صَعِد المسيح إلى الآبِ السماويّ ليُعِدّ لنا مكانًا في الملكوت. لذلك كلّ إنسانٍ مسيحيٍّ مُعَمَّد، مَدعُو للذهاب إلى بيت أبيه السماويّ لتكون له الحياة الأبديّة، وعليه أن يعرف هدفه في هذه الحياة...وحتّى نصل إلى ذلك الملكوت المعدّ لنا علينا أنّ نحقق هَذَين البُعدَين: مَحبّة الله ومَحبّة القريب.
ولأعيش هذا الهدف، عليَّ أن أسأل نفسي: ماذا أفعل لكي أُحِبَّ الله أكثر؟...فمحبّة الله تَأتي من الإصغاء لكلمة يسوع وتعاليم كنسيته، التغذية من جسده ودمِه، والتقرّب من الكنيسة، وبالتالي هذا البُعد العَمودي لعلاقتي مع الله، يكون كزُّوادة للتَقَدُّس مِن مَحبة القريب، أخي الإنسان. وإذا كُنتُ أعيش هذا البُعد أكون قد بَدأتُ بالعيش لخدمة هذا الهدف...وإذا لم أعشه بعد، فعليّ أن أطرح على نفسي مِن جديد هذا السؤال: ماذا أفعل بنفسي، وكيف أتهيّأ لأعيش هذه المحبّة وأُوصِل المسيح إلى قيامته؟.

ويُقال في إنجيل القدّيس متّى: "أنتُم مِلحُ الأرض" (متّى13:5)، فالملح يُنكّه الطعام ويذوب فيه. وأنتَ أيّها الإنسان المسيحي الملتزم، مدعو لأن تكون كالمِلح في هذا العالم. فهذه هي الرسالة التي نحن مدعُوون إليها، لأنّ الموت لم يَعُد نهاية، وإنّما جسر عبور للحياة الثانية، لأنّنا نؤمن بقيامة يسوع المسيح. ورسالة كلّ واحدٍ مِنّا، نحن المؤمنين، أن نؤمن بقيامته، ونُبشّر كلّ إنسان حزين فَقَدَ له حبيبًا، قريبًا، أو صديقًا، ونقول له: "المسيح قام..حقًّا قام"، وأنّ هناك حياة أبديّة وعدنا بها يسوع القائم من بين الأموات.

ونعيش هذه الرسالة بالصَلاة، أي الصلاة على نيّة أمواتنا، والمرافَقة - أي مُرافقة الإنسان الحزين - لأنّنا بذلك نُريه وجه يسوع الرَحوم، العَطوف، والمحبّ الذي يَحِنُّ على الإنسان المتألم. مِثلمَا فعل الربّ يسوع مع مريم ومرتا عندما فقدتا أخاهما، فقد نَصَحَهُما أن تؤمنا بأنّ أخاهما موجود في الحياة الأبديّة، قائلًا: "مَن آمن بيّ وإن ماتَ يحيا" (يو25:11).

وهناك قصّةٌ تُخبر أنّ حنّة، امرأة كبيرة في السِنِّ، تُوفيت وصعدت إلى السّماء. وبينما هي واقفة أمام بطرس (الذي يمتلك مفتاح السموات) بانتظار دورها، رأت الأشخاص الذين قبلها كيف تُجْرَد أعمالهم الصالحة ويدخلون الملكوت... كيف فعل الأوّل الأعمال الصالحة، والثاني بنى كنيسة، والثالث خلّص الناس لأنّه يعمل في الصليب الأحمر...فخافت لأنّها لم تفعل أيّ شيء من ذلك، فبدأت بالتراجع، فصرخ لها بطرس وأمرها أن تعود إل الصفّ، وعندما وصلت إليه، قال لها: أنت أطعمتِني، وغسلتِ ثيابي، واهتمَمْتِ بي في مرضي، وعرفتِ كيف تكونين قديرة وصبورة، فالسّماء كلّها لك.

فهدف حياتنا أن نَصِلَ إلى ملكوت الله، مِن خلال مَحبّة الله والقريب، مِن خِلال عَيش البساطة في حياتنا، والشَهّادة أمَام الآخرين على قيامة المسيح. "فالمسيح قام، حقّاً قَام". آمين.

تتمة...
8/11/2015 لقاؤنا بيسوع المسيح شخصيًا وعلاقتنا به، هو وحده الذي يجدّد الإنسان الأب عمانوئيل الراعي
https://youtu.be/yk34CWoj9iE

عظة للأب عمانوئيل الراعي
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى الثانية لانطلاقة جماعتنا
رعيّة مار ضوميط - ساحل علما

8/11/2015

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

نحتفل اليوم بأحد تجديد البيعة في مطلع الزمن المبارك، وندخل يوم الأحد المقبل في أسبوع البشارات، فنتحضّر لمجيء ابن الله، وتجسّد الربّ يسوع لخلاص كلّ البشرية. وفي الوقت ذاته، نحتفل مع بعضنا البعض بالذكرى الثانية لإطلاق الصلاة من أجل موتانا مع جماعة "اُذكرني في ملكوتك"، ونصلّي من أجلهم في الخميس الثاني من كلّ شهر، وهم بدورهم يذكروننا في ملكوت الآب السماويّ، في شراكة حقيقيّة بين أهل السماء وأهل الأرض .
نتأمّل اليوم في الرسالة الى العبرانيين، كيف كان شعب الله يشعر بأنه مدعوّ للتوبة، وماذا كان يستعمل ليتخلّص من الشرّ.
في العهد القديم كان الشعب يذبح خروفًا ليحصل على هذا اللقاء مع الله وعلى توبته، ويرشّ على الأعتاب وعلى قائمتيْ الأبواب الدماء ليبعد الشرّ عنهم وليبقى الفرح والسلام سائدًا عليهم، فبهذه الطريقة كان شعب الله الذي يتحضّر لمجيء المخلّص، يتنقّى ويتطهّر بدماء الحيوانات .
ثمّ أتى يسوع في العهد الجديد ليطهّرنا ويخلّصنا بدمه الطاهر، فهو الحمل الذي قدّم ذاته ذبيحة من أجل خلاص كلّ البشر... فهذا هو الله الذي سيجدّد وجه الأرض، ودمه القدّوس هو الذي سيجعلنا أحياء ومقدّسين بنعمته.

سمعنا بطرس عندما سأل يسوع في الأسبوع الماضي: "مَن ابن الإنسان في قول الناس؟" فقالو: "بعضهم يقول: هو يوحنّا المعمدان، وبعضهم الآخر يقول:هو إيليا، وغيرهم يقول: هو إرميا أو أحد الأنبياء"، فقال لهم: "ومَن أنا في قولكم أنتم؟" (متى 13:16-15). إنّ الرّوح القدس كان يتحدّث بصوت من السماء، بصوت من الله، وأعلنه: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16:16). وقال نثنائيل: لفيلبّس "أيخرج من الناصرة شيء حَسن؟" (يو46:1). ولما التقى نثنائيل بيسوع وجهًا لوجه، قال: "ربيّ أنت هو ابن الله، أنت هو ملك اسرائيل" (يو49:1).

لقاؤنا بيسوع المسيح شخصيًا وعلاقتنا به، هو وحده الذي يجدّد الإنسان، وليس ما ينقل ويقال عنه، لقاؤنا به يجعلنا نقول له: أنت يسوع المسيح الملك على حياتنا، الملك على كلّ البشرية، فتدخل هذه البشرية بفرحك الإلهيّ. وهذا ما يجب أن نعيشه ونختبره في

حياتنا لنعيش ملكوت الله على الأرض. نستطيع أن نقول للربّ كلّ يوم مع لصّ اليمين: "اذكرني متى أتيت في ملكوتك"(لو 43:23)، لأنّ الملكوت ليس فقط بعد الموت، وإنمّا الملكوت يبتدىء على الأرض ويكتمل في السماء.

تتمة...
6/11/2015 "وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله..." ( لو2:9) الأب أنطونيوس بيطار
https://youtu.be/zV0WOLRcEEA

عظة للأب أنطونيوس بيطار
في القدّاس الإلهي من أجل الراقدين على رجاء القيامة
رعية القدّيس ديمتريوس/ كنيسة القدّيس باسيليوس-الزوق
الذكرى الرابعة لانطلاقة جماعتنا

6/11/2015

.باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين

يُقال في الإنجيل: "وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله..." (لو 2:9)، فما هو ملكوت الله سوى الحياة الأبديّة؟ وماهي الحياة الأبديّة ؟. بحسب إنجيل يوحنا: "أن يعرفوك أنت وابنك الوحيد، تلك هي الحياة الأبديّة" (يو 3:17). نحن نرقد على رجاء الحياة الأبديّة، وإذا نحن لم نتعرّف بربنّا في هذه الحياة فلن نعرف المعنى الحقيقي للحياة الأبديّة. إنجيل اليوم يخبرنا كيف أرسل الربّ تلاميذه ليكرزوا بالملكوت، فأنتم اليوم تلاميذ الربّ، ولكلّ منّكم اُعطيت النعمة، وكلّكم مدعوّون للبشارة بالملكوت وبالحياة الأبديّة.

منذ أربع سنوات بدأت الصلاة من أجل الراقدين على رجاء الحياة الأبديّة في هذه الرعية."اذكرني متى أتيتَ في ملكوتك" نقولها كلّ أحد قبل المناولة، وكلّ يوم قبل الخلود إلى النوم من دون أن ندرك إذا كان الصباح سوف يشرق، ومن دون أن نعلم لمن نوجّهها، فإنّنا نوجّهها للربّ الذي هو الآب والابن والرّوح القدس. إننا نصلّي للراقدين، ولكن يجب أن نعلم لمن نوجّه صلاتنا، فإننا نوجّهها لله الحيّ، الذي قال عن نفسه "أنا هو الطريق والحقّ والحياة"(يو 6:14)، "اذكرني في ملكوتك"، إن لم نوجّه صلاتنا للربّ، واكتفينا بذكر موتانا، فلن نستفيد من هذه الصلاة. فرسالتنا نحن الأحياء أن نصليَ لكي يرحمهم ربّنا، يتحنّن عليهم، ويعطينا القوّة، لكي نكمل هذه البشارة التي هي البشارة بربّنا وليس بالموت، بشارة بالحياة، وليس باليأس، بشارة تؤكد القيامة. فنحن الآن نعيشها إذا آمنّا بالله الحيّ. فالأموات موجودون منذ بدء الحياة بسبب بعد الإنسان عن ربّنا، والموت دخل إلى الطبيعة البشرية بالخطيئة. لذلك يكون مباركًا ذكرى موتانا، عندما لا ننسى الله والتعزية التي تأتينا من ربّنا الذي غلب الموت، إذ علّمنا أننا باتّحادنا به نتغلّب على الموت ولا نخاف منه، "أين شوكتك يا موت" ونصبح مفعمين برجاء القيامة الذي يأتي فقط من الله.
فنحن مدعوون اليوم وكلّ يوم للتعرّف إلى ربّنا مثل ما هو وليس مثل ما نحن نريده، مثل ماهو علّمنا وأخبرنا عن نفسه، ليس مثلما نحن نتصوّره ونريده أن يكون. فهو إله رحمة، محبة وتواضع

تتمة...