البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
20/1/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الثاني عشر الإخلاص لشهادة الربّ
https://youtu.be/7kK_UmfIgBk

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الثاني عشر
الأب ابراهيم سَعِد

20/1/2021


في هذا الإصحاح، نلاحظ تَحَوُّلاً في المشهد عند كاتب السِّفر، إذ يُخبرنا عن امرأةٍ حُبلى، اعتقد الكثيرون أنّها العذراء مريم، ولكنَّها في الحقيقة ترمز إلى الكنيسة الأولى، الّتي نشأت في البيئة اليهوديّة الّتي فيها وُلد المسيح يسوع.
"وظَهرَتْ آيةٌ عَظيمةٌ في السَّماء: امرأةٌ مُتَسَربِلةٌ بالشَّمسِ، والقَمَرُ تَحتَ رِجلَيْها، وعلَى رأسِها إكليلٌ مِن اثْنَي عَشَر كَوكَبًا. وَهِيَ حُبلى تَصرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعةً لِتَلِد". إنّ عبارة "امرأةٌ مُتَسربلةٌ بالشَّمس والقمر تحت رِجلَيها"، تُشير إلى أنَّ هذه المرأة قد حَظِيت بالـمَجد والعَظَمة. وهذا ما كانت عليه الكنيسة الأولى. عندما نقول "الكنيسة" في تفسير هذا الإصحاح، فَنحن لا نقصد الكنيسة كما نَعرِفها اليوم، بما فيها مِن زؤانٍ وقَمح، بل نقصد بهذه العبارة، جماعة المؤمنِين الـمُخَلَّصِين بِشهادة يَسوع المسيح، الثّابتون في إيمانهم بالربّ على الرُّغم من اشتداد الصِّعاب عليهم. في العهد القديم، كان هناك اثنا عشر سبطًا لإسرائيل، أمّا الاثنا عَشَر كوكبًا في الكنيسة، فَهُم الرُّسل الاثني عَشَر.
"وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخرى في السَّماءِ: هُوَذا تَنِّينٌ عَظيمٌ أَحمَرُ، لَهُ سَبعةٌ رؤوسٍ وَعَشرَةُ قُرونٍ، وعَلى رؤوسِه سَبَعَةُ تِيجانٍ. وَذَنَبُهُ يَجُّرُ ثُلثَ نُجومِ السَّماءِ فَطَرَحَها إلى الأرضِ". إنَّ اللَّون الأحمر يرمز إلى الدَّم، وبالتّالي هذا اللَّون يُشير إلى الاضطهاد الّذي سَيُعاني منه المؤمِنون بالربّ، والّذي سَيَقودهم إلى الاستشهاد، أي إلى سَفك دِمائهم في سبيل المحافظة على إيمانهم. إنّ التِّنين يرمز إلى إله روما، إله الامبراطور. وبالتّالي، ما أراد كاتب هذا السِّفر أن يَقوله للمؤمِنِين هو أنّ روما، الّتي تَعبُد الأوثان وعلى رأسها الامبراطور، ستُحارِب كلَّ مَن يؤمِن بالمسيح. إنَّ الحرب الّتي سَتَقودها روما ضدَّ المؤمنِين بالربّ، مَبنيّة على اختيار المؤمِن ما بين أمرَين لا ثالث لَهما، وهما: إمّا الخضوع للامبراطور وإلهه، أي إنكار إيمانه بالربّ يسوع، وإمّا الموت قَتلاً. إنّ الوَحش الّذي سَيُخبرنا عنه كاتب هذا السِّفر يَرمز إلى الامراطور نَيرون، الّذي اضطهد المسيحيِّين. إنّ الحرب الحقيقيّة هي حَربٌ بين عبادة الأوثان وعبادة الإله الحيّ؛ والطرَف الأوّل يُمثِّله الامبراطور، أمّا الطرف الثّاني فيُمثِّله المؤمنون الثَّابتون في إيمانهم بالربّ. وهذا ما يُخبرنا به كاتب هذا السِّفر حين يقول لنا إنّ حرَبًا استباقيّة وَقَعت في السَّماء، بين ميخائيل وجنوده، والتِّنين وجنوده. إنّ سلوك الإنسان يُعبِّر عن أفكاره: فإذا كانت أفكاره الإيمانيّة واضحةً، فهذا يُشير إلى كونِه إنسانًا مُنفَتِحًا ومُحِبًّا وَخَدومًا؛ أمّا إذا كانت أفكارُه تعكسُ تَعصُّبًا إيمانيًّا، فهذا يشير إلى كونه إنسانًا ذات مَنْحى إلغائي للآخَر باستعماله أساليب التَّرهيب أو التَّرغيب مَعه.
"والتِّنينُ وَقَفَ أمامَ الـمَرأةِ العَتيدَةِ أن تَلِدَ، حتّى يَبتَلِعَ وَلَدَها مَتى وَلَدَتْ. فَوَلَدَتْ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أنْ يَرعى جَميعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِن حديدٍ". إنَّ هَدفَ التِّنين هو إلغاء الكنيسة، إلغاء وجود المؤمنِين بالربّ يسوع؛ ولكنّه لم يَفلَح في تحقيق هَدَفِه لأنّ المرأة بِحَسَب هذا النَّصّ قد وَلَدَتْ ابنها. إنّ العصا الحديديّة ترمز إلى الملوكيّة. إنَّ الربَّ يسوع قد وُلِد في البيئة اليهوديّة الّتي وُلِد فيها الرُّسل. وقد انتشر الإيمان المسيحيّ في العالم كُلِه، ووصل إلى روما، أي إلى أقاصي الأرض، في ذلك الوقت، بِفَضل الرُّسل، على الرُّغم مِن كلّ الاضطهادات الّتي عانوا مِنها، وهذا دليلٌ على أنّ الحرب بَين العِبادَتين قد انطَلَقَتْ.
"واخْتُطِفَ وَلَدُها إلى الله وإلى عَرشِه، والمرأةُ هَرَبَتْ إلى البَرِيّة، حَيْثُ لَها مَوضِعٌ مُعَدٌّ مِنَ اللهِ لِكَي يَعُولُوها هُناكَ ألفًا وَمِئَتَينِ وسِتِّينَ يَومًا". إنّ المسيح صَعِد إلى السَّماء وَجَلَس على العرش، وهذا يبعث في المؤمِنِين تعزيةً في نفوسِهم، إذ يَحُثُّهم على الثَّبات في إيمانهم رُغم كلّ الصُّعوبات كي يتمكَّنوا من الجلوس إلى جانب يسوع المسيح على العرش السماويّ. إنّ الله هو الّذي يَجلس على العرش السَّماويّ، وبالتّالي جلوس الربّ على هذا العرش يُشير إلى ألوهيّته، هو الحَمل الـمَذبوح، كما وَصَفه كاتب هذا السِّفر في الإصحاحات السَّابقة. في زمن الاضطهاد، كان الرُّسل والمؤمنون يهربون من الموت، إلى البريّة أي إلى أماكن آمنة. وهنا يجب الإشارة إلى أنَّه ليس المطلوب مِن المؤمن أن يُقدِّم نفسَه للامبراطور فيَقتُله هذا الأخير، بل المطلوب أن يحاول المؤمن الهرب من الموت قَدر المستطاع، ولكن إنْ كان لا مَفَرَّ له من الموت شهيدًا أو نكرانَ إيمانه، فَعَليه حينها أن يَختار الموت على أن يُنكِر إيمانه. إنَّ الرَّقم "ألفًا ومِئَتَين وسِتِّين يومًا" يُساوي ثلاث سِنين ونِصف السَّنة، وهذا يعني أنَّه مهما طال زمن الاضطهاد فإنّه لن يكون زمنًا أبديًا بل زمنًا قصيرًا وَقتيًّا، إذ سينتهي عند مجيء المسيح الّذي سيمسَح كلّ دَمعةٍ من عيون المؤمنِين به. إنَّ الاضطهاد مهما طال، فلا بُدَّ مِن أن يكون له نهاية، أمّا الجلوس على العرش السماويّ مع الربّ، فهذا لا نهاية له.
"وَحَدَثَتْ حَربٌ في السّماء: مِيخائيلُ ومَلائِكَتُهُ حاربوا التِّنينَ، وحاربَ التِّنينُ وملائكَتُهُ ولَم يَقوَوا، فَلَمْ يُوجَد مَكانُهم بَعدَ ذَلِكَ في السَّماءِ. فَطُرِحَ التِّنينُ العَظيمُ، الحَيَّةُ القديمةُ المدعُوُّ إبْلِيسَ والشَّيطانَ، الّذي يُضِلُّ العالَم كُلَّهُ، طُرِحَ إلى الأرضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ ملائكَتُهُ". إنَّ ميخائيل وملائكته حاربوا التِّنين، وقد انتصروا عليه إذ أوقعوه أرضًا، خائر القِوى، وهذا يعني أنّ الإيمان المسيحيّ سَيُحارِب العبادة الوثنيّة. بهذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا تشجيع المؤمنِين على التحلِّي بالمزيد مِن الصَّبر على شدائدهم، لأنّ الكلمة الأخيرة سَتَكون للربّ، الّذي انتصر على الشِّرير على الصَّليب، وسينتصر عليه أيضًا في اليوم الأخير. في هذا الإصحاح، نلاحظ ذِكر أربعة أسماء تُشير إلى الشِّرير: التِّنين العَظيم، الحيَّة القديمة، إبليس، والشيطان.
- إنّ التِّنين العَظيم هو إله الامبراطور، أي العبادة الوثنيّة، فعلى الرُّغم مِن عدم وجود إلهٍ آخَر سِوى الله، إلّا أنَّ الوثنيِّين لا يزالون يؤمنون بوجود إلهٍ آخَر، وهو الّذي يَعبُدونه. إنّ التِّنين قد سَقَط إلى الأرض، وبالتّالي عليه تقديم أسبابٍ لله على اضطهاده للمسيحيِّين. بوقوعه على الأرض، يُعلِن الشِّرير خِسارته مشروعه في الحصول على السَّماء، كما يُعلِن انتصار الربِّ عليه وانتصار مشروع الله الخلاصيّ. ولكنَّ الشِّرير لن يَقِف مَكتوفَ الأيدي بَعد سُقوطه إلى الأرض، بل سَيُحاول الانتقام لِتلك الخِسارة من خلال اضطهادِه للمؤمِنِين، وما على المؤمِنِين بالمسيح إلّا الصَّبر حتَّى يُعلِن الله في اليوم الأخير انتصاره على الشَّرير.

- إنّ الحيّة القديمة تُذكِّرنا بقصَّة آدم وحوَّاء: إنَّ هَدَف الحيّة هو إبعاد الإنسان عن الله، بِمَعنى آخَر حثُّ الإنسان على قَطعِ علاقته بالربّ. وهذا هو أيضًا عَملُ التِّنين.
- إبليس: إنّ عبارة "إبليس" تعني الـمُفرِّق. وهو يعمل على التفريق بين المؤمِن وربِّه.
- الشَّيطان: إنّ هذه العبارة في العِبريّة تعني الـمُدَّعي العام. وعَملُ الـمُدَّعي العام يقوم على إقناع القاضي أي الله، بارتكاب الـمُتَّهم، أي الإنسان، ما يستوجِب إدانته بأشَدِّ العقوبات. في هذا الإطار، نتذكَّر قصَّة أيُّوب الصِّديق. ففي هذه القِصَّة، نجد أنَّ الشَّيطان قام بتقديم شكواه إلى الله بِحقِّ أيّوب، إذ اعتبر أنَّ هذا الإنسان البارّ الّذي يملِك خَيراتٍ كثيرة على هذه الأرض، سَيَترك الله حين يتعرَّض للشَّدائد والضِّيقات. إذًا، أراد الشَّيطان اتِّهام أيّوب أمام الله في محاولة مِنه لِقَطع العلاقة بين الإنسان والله وحثِّ الله على إصدار حُكمٍ صارمٍ تجاه الإنسان المؤمِن. إنّ هَدَفُ الشَّيطان هو خرابُ الملكوت. إنّ همَّ الشِّرير هو إنهاء الله مِن فِكر البَشَر، إنهاء العبادة الحقيقيّة مِن سلوك البشر، فيَسود على العالَم ويَحكمه، لذا يعملُ الأشرار في هذا العالَم على قَتلِ الأبرار والصِّديقِين، مُعتَقِدين أنّهم بِذَلك سيتمكَّنون مِن السَّيطرة على هذا العالَم وإخضاعه لَهم. وفي هذا الإطار، في إنجيل يوحنّا، يقول الربُّ يسوع عن الشِّرير بأنّه رئيس هذا العالَم. إنَّ رئيس هذا العالَم قد خَسِر مَعرَكته الأولى مع الربّ، على الصَّليب، وسَيَخسَر الحرب في مجيء الربِّ الثّاني أي في اليوم الأخير. إذًا، إنّ الحرب بين الشِّرير والله، ستتحقَّق فينا، وما على المؤمنِين إلّا المحاربة بسلاح الربِّ يسوع، أي بالإيمان والإخلاص لشهادة الربّ يسوع، فنتمكَّن مِن رِبح الحَرب، إذ سنَغلِب كما غَلب الربُّ يسوع، بحسب تعبير الملاك في الإصحاحات الأولى مِن هذا السِّفر. إنّ الربَّ يسوع قد غلَبَ الشِّرير على الصّليب مِن خلال إخلاصه للآب السّماويّ، فرَفَضه البشر ولذا قَتلوه. إذًا، القتل هو مشروع الشيطان، أي مشروع الشِّرير، فالشِّرير لا يَقتُل الإنسان المؤمِن مِن أجل القتل، إنّما يقتُله بِهَدف إبعاده عن إيمانه بالربّ. في زمن اضطهاده للمسيحيِّين، كان الامبراطور نَيرون، أي الوَحش، يعفو عن المؤمِنِين حين يُنكِرون إيمانهم بالربّ. في هذا الإصحاح، عندما قال كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين إنّ الشَيطان قَد طُرِح أرضًا هو وملائكَتُه، أراد أن يزرع في قلوب المؤمنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد تعزيةً، إذ إنَّ وقوع الشِّرير أرضًا يؤكِّد خسارته الحرب، وما على المؤمنِين إلّا انتظار إعلان الربّ انتصاره.
"وسَمِعْتُ صَوتًا عَظيمًا قائلاً في السَّماءِ:"الآنَ صارَ خلاصُ إلهِنا وَقُدرَتُهُ وَمُلكُهُ وسُلطانُ مَسيحِه، لأنَّه قَد طُرِحَ الـمُشتَكي على إخوَتِنا، الّذي كان يَشتَكي عَليهم أمامَ إلَهِنا نَهارًا وَلَيلاً. وَهُم غَلبُوهُ بِدَمِ الخَروفِ وبِكَلِمَةِ شهادَتِهم، ولَم يُحِبُّوا حياتَهم حتّى الموتِ. مِن أجلِ هذا، افْرَحي أيَّتها السَّماواتُ والسّاكِنونَ فيها. وَيلٌ لِساكِنِي الأرضِ والبَحرِ، لأنَّ إبليسَ نَزَلَ إليْكُم وبِهِ غَضَبٌ عَظيمٌ! عالِمًا أنّ لَهُ زَمانًا قَليلاً". إنّ هذا الصَّوت الّذي سُمِع من السَّماء، هو إعلانُ انتصارِ الربّ في المعركة، وبالتّالي إعلان خلاصه للبشر. إنّ عبارة "الـمُشتكي" تعني الشيطان، فَهَدَفُ الشَّيطان هو إحداث فِتنَة بين المؤمِنِين والله. لم يَكن هَدَفُ المؤمِنِين المحافظة على حياتهم الأرضيّة وخسارة إيمانهم، لذلك كانوا يُفضِّلون خسارة حياتهم الأرضيّة ورِبح الملكوت. وهنا نتذكَّر قول الربّ: "ماذا ينفع الإنسان لَو رَبِح العالَم كُلَّه وخسِر نفسَه؟ (متى 16: 26). في هذا الإصحاح، يُخبرنا كاتب هذا السِّفر عن العِرس السَّماويّ في اليوم الأخير، الّذي سيُشارِك فيه كُلُ مَن بَقيَ ثابتًا في إيمانه بالربّ يسوع. إنَّ عبارة "السَّاكنون فيها" تُشير إلى المؤمِنِين بالربّ الّذين سبَقونا إلى الملكوت إذ استشهدوا في سبيل إيمانهم بالربّ. إنّ الشِّرير الّذي خَسِر معركته مع ميخائيلَ وملائكته، وسَقَط إلى الأرض، لن يرضى بهذه الهزيمة، لذا سيحاول التعويض عن تلك الخسارة من خلال إنزال الويلات بالمؤمنِين بالربّ السَّاكِنين على الأرض. مهما كان الشِّرير قوِّيًا في نَظَر البشر، بسبب قوّة الاضطهادات، إلّا أنَّ قوَّته هذه، بالنِّسبة إلى الربّ، تُعبِّر عن رَفضِه إعلان خسارته في حَربِه مع الله. من خلال هذا الكلام، أراد كاتبُ السِّفر حَثَّ المؤمِنِين على التحلِّي بالصَّبر واحتمال الشَّدائد، فيتمكَّنوا من اجتياز تلك المرحلة وَهُم ثابتون في إيمانهم بالربّ. لا يحتاج الإنسان إلى الصَّبر في وقت الراحة والبَحبوحة، بل يحتاج إليه عندما يكون الإنسان "تَحت الضِّيق". إنّ الاضطهادات الّتي يتعرَّض لها المؤمِن قد تكون بِسَبب عاملٍ بشريّ طبيعيّ، ولكنّها قد تكون أيضًا تعبيرًا من الشِّرير عن خِسارته الحرب مع الله.

"ولَمَّا رأى التِّنينُ أنَّه طُرِحَ إلى الأرضِ، اضْطَهَدَ المرأةَ الّتي وَلَدَتْ الابنَ الذّكَر، فأُعطِيَتِ المرأةُ جَناحَي النِّسرِ العَظيمِ لِكَي تَطيرَ إلى البريَّةِ إلى مَوضِعِها، حَيثُ تُعالُ زَمانًا وزَمانَين ونِصفَ زمانٍ، مِن وَجهِ الحيّةِ. فألقَتْ الحَيَّةُ مِن فَمِها وَراءَ المرأةِ ماءً كَنَهرٍ لِتَجعَلَها تُحمَلُ بالنَّهرِ. فأعانَتْ الأرضُ المرأةَ وفَتَحَتِ الأرضُ فَمَها وابْتَلَعَتِ النَّهرَ الّذي ألقاهُ التِّنينُ مِن فَمِه. فَغَضِبَ التِّنينُ على المرأةِ، وذَهَبَ لِيَصنَعَ حَربًا مَعَ باقي نَسلِها الّذين يَحفَظونَ وصايا الله، وعِندَهُم شهادةُ يسوعَ الـمَسيح". عندما رأى التِّنين أنّه طُرِح إلى الأرض، أي حين أدرَك أنّه خَسِر كلَّ قوَّته إذ خَسِر الحرب مع الله، حاول الشِّرير التعويض عن تلك الخِسارة باضطهاده للكنيسة، أي اضطهاده للمؤمنِين. إنّ عبارة "الابن الذَّكَر" تُشير إلى الربِّ يسوع. إنَّ النِّسر يرمز إلى الحماية. عند عبورهم البحر الأحمر، قال الربُّ لِشَعبِه، إنّه عبَّرهم ذلك البحر على أجنحة النُّسور، وهذا يعني أنّه حماهم من خَطر البَحر، لأنَّ البَحر قد تحوَّل إلى أرضِ يابسةٍ، فلَم تُلامس أرجُلُ الشَّعب المياه، وبالتّالي فقَدَ البَحر كلَّ قُدرةٍ له على إهلاك الشَّعب اليهوديّ عند عُبورِهم فيه. إنَّ صُورَةَ البَريّة أو الصَّحراء هي مُهمَّة جدًّا، بِخَاصَّةٍ في العهد القديم. إنّ البَريّة ترمز إلى اللّاحياة، لأنّها مكانٌ لا طعامَ فيه ولا ماء، إذ لا يُوجَد فيه أيُّ مَعلَمٍ من معالِمِ الحياة. إنَّ الإنسان لا يستطيع الصُّمود في البَريّة إلّا إذا كانت لديه حمايةٌ من الربّ. إنّ مُشكلَة الربِّ مع شَعب اسرائيل تكمن في أنَّ الشَّعب أراد عبادة الآلهة الوثنيّة مع الإبقاء على عبادتهم لله، فكانوا يلجأون إلى الآلهة الوثنيّة في بعض الأحيان كإله الـمَطَر أو إله الخِصب، مُعتَقدِين أنَّ هذه الآلهة قادرة على حلِّ مشاكِلهم. لذا، أخَذَ الربُّ شَعبه إلى البَريّة، حيث اللَّاحياة، كي يتمكَّن الشَّعب مِن معرفة قيمة الله في حياته ويَفهم أنّ لا خلاص له إلّا بالله وَحده، فالآلهة الوثنيّة لها آذانٌ ولا تسمع، لها عيونٌ ولا تنظر، لها أفواه ولا تتكلَّم. بذلك، أراد الله دَفع الشَعب إلى التوقُّف عن القيام بمساوامات بينه وبين الآلهة الأخرى، لأنّ مِثل تلك المساوامات لا نَفعَ منها. وهذا الأمر قد شدَّد عليه أيضًا بولس الرَّسول في رسائله إلى المؤمنِين إذ قال لهم إنّه لا يَجوز لهم تقديم الذبيحة لله ثمّ الانصراف بعد ذلك إلى مشاركة الوثنيِّين ذبائحهم. وهنا نتذكَّر مشكلة آدم وحوّاء مع الحيّة، فهذه الأخيرة أقنعتهما بعُصيان كلام الله الّذي مَنعهما مِن تناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشَرّ. إنَّ عبارة "معرفة الخير والشَّر" تعني إقامة علاقة في آنٍ معًا بين الخير والشَّر، وهذا يُسَّمى شِركًا، لأنَّ الإنسان في هذه الحالة يمزج بين العبادة الحقَّة لله والعبادة الوثنيّة، خالقًا بِذلك عبادة جديدة، لن تَمنح الإنسان إلّا الموت. إذًا، السُّؤال المطروح علينا اليوم هو: ماذا سَيكون قرارنا عندما نتعرَّض للضِّيقات والشَّدائد؟ هل سنَخضع لعبادة إله الامبراطور ونترك الله، أم سنفضِّل الموت على كلِّ عبادة وثنيّة؟ هذا هو التحدِّي الّذي نواجهه في كلِّ يومٍ من حياتنا. فعلى سبيل المِثال: أمام هذا الوباء الّذي يجتاح العالَم، هل سنَخضَع للسُّلطات والحكومات والدُّول العالَميّة الّتي تَسعى إلى زرع الخوف فينا قَصدًا، من أجل حثِّنا على القبول بشروطها للتَّخلُّص من هذا الوباء، أم سنضَع ثِقتنا بالله، مَرجعيّتنا الوحيدة، لأنّه الوحيد القادر على حمايتنا من كلِّ شرٍّ يُصِيبنا؟ هذا ما يُخبرنا به سِفر الرُّؤيا.

قد يتساءل البعض: هل ما نمرُّ به هو علامة على أنّنا أصبَحنا في زمن سِفر الرُّؤيا؟ إنّ ما يُخبرنا به سِفر الرُّؤيا نعيشه بِشَكل يوميّ في حياتنا. فَبِغضِّ النَظر عن الصُّعوبات الّتي نمرُّ بها في هذه الآونة الأخيرة، فإنّه حين نكون أيضًا في أفضل أحوالِنا، نتعرَّض للإضطهاد إذ قد يُطلَب إلينا في العَمل تقديم استقالِتنا من العَمل أو القبول بالسَّير في طُرقٍ معوَّجة كالغِشّ. وهنا تجد نفسَك من جديد أمام هذا التحدِّي: هل تقبَل بالبقاء دون عَملٍ عُرضَةً للجوع، أو تَقبل بالعمل بِطُرقٍ غير مستقيمة؟ إنّ سِفر الرُّؤيا هو حالةٌ يوميّة تعترض حياة الإنسان، لا حالة موسميّة. في هذه الآونة الأخيرة، سَمِعتُ البعض يقول: إنّ هذه الأيّام هي آخر الأزمنة، أي أنّ نهاية العالم قد أصبَحت وَشِيكة. إخوتي، لن يكون هناك مِن علامات تُنبِّئُنا بِنِهاية العالَم. لن يَكون هناك مِن علاماتٍ زمنيّة تُحضِّر لـمَجيئه: فَحِين يأتي الربّ، تَظهرُ في الوقت نفسه علاماتُ مَجيئه. فإذا رأينا علامات مجيء الرّبّ، مِن دون أن نراه آتيًا، تكون هذه العلامات مجرَّد علاماتٍ موسميّة، صغيرةً كانت أم كبيرة. إنّ تعرُّض المؤمِن للجوع أو الحرب بسبب فساد مسؤوليه، هي أمورٌ تَزرع فيه اليأس والإحباط، وتنزع منه كلّ أملٍ، فلا يجد له ملجأً إلّا الصُّراخ إلى الله قائلاً له:"إلهي، إلهي، لماذا ترَكتَني؟". إنّ صَرختَك هذه تُعبِّر عن دُخولِك في زَمن سِفر الرُّؤيا، إذ تَجد نفسَك مُجبرًا على الاختيار ما بين تَرْك الله للحصول على احتياجاتك، وما بين الثبات في إيمانك ورَفض كلّ الاغراءات، متسلِّحًا بِصبر القدِّيسين، فَتَجتاز هذه المرحلة وأنت ثابتٌ في إخلاصِك للربّ. إنّ عبارة "زمنًا وزَمنَين ونصف الزَّمن" هو وقت الاضطهاد. في وقت الاضطهاد، يستمرُّ الربُّ في رعاية كنيسته. إنّ الحيّة تسعى إلى إغراق هذه المرأة، أي الكنيسة؛ بِمعنى آخَر، تريد هذه الحيّة إنهاء وجود المؤمِنِين، لأنَّ وجود المؤمِن هو مُعْدٍ. إنْ كان إيمان الإنسان بالربّ، إيمانًا واضحًا بالنِّسبة إليه، ومؤسَّسًا على الفَهم وعلى القداسة، فإنَّ وجود هذا المؤمن في مدينة غير مؤمنة قادرٌ أن يدفع كلّ المدينة إلى أن ترتدُّ إلى الإيمان الصَّحيح. وهذا هو خَطرُ المؤمِن على مملكة الشِّرير، لأنّ وجود إنسانٍ شرير في مدينةٍ غير قادرٍ أن يجعل مدينةً تبتعد عن الإيمان. إنَّ مؤمنًا واحدًا يستطيع أن يَخرُب مملكة الشَيطان، ولكنّ وُجودَ شريرٍ واحد لا يستطيع أن يَخرُب مملكة الله. في هذا الإصحاح، نجد أنّ الامبراطور المتمثِّل في التِّنين أعلن الحربَ على كلِّ "نسل المرأة"، أي على المؤمنِين بالربّ، أبناء الكنيسة، وهذه الحرب هي على المؤمِنِين في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكانٍ. ونحن اليوم، من أبناء الكنيسة، يرعانا الله أينما حَلَلنا: هو يرعانا في بريّة هذا العالَم، وما علينا إلّا الصَّبر وَقت الشِّدة، كي نستحقَّ أن تكون أسماؤنا مكتوبة في سِفر الحياة، إنْ بَقينا ثابِتين على الإخلاص لشهادة الربّ، أي للإنجيل، والاستعداد للموت في سبيل كلمة الله.
ملاحظة: دُوِّنت المحا
16/12/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الحادي عشر التحلِّي بِصَبر القدِّيسين
https://youtu.be/ezZLxWKC0fI

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدّيس يوحنّا
الإصحاح الحادي عشر
الأب ابراهيم سعد


16/12/2020

"ثُمَّ أُعطِيتُ قَصَبَةً شِبهَ عَصًا، ووقَفَ الملاكُ قائلاً لي: قُمْ وَقِسْ هَيكلَ الله والـمَذبَحَ والسَّاجِدِينَ فيه. وأَمَّا الدَّارُ الّتي هِيَ خارِجَ الهيكَلِ، فاطْرَحْها خَارجًا ولا تَقِسْها، لأنَّها قَدْ أُعطِيَتْ للاُمَمِ، وسَيَدوسُونَ الـمَدينةَ المقدَّسَةَ اثْنَينِ وأربَعينَ شَهرًا. وسَأُعطي لِشاهِدَيَّ، فَيَتَنَبَّآنِ ألفًا ومِئَتَينِ وسِتِّينَ يومًا، لابِسِينَ مُسوحًا. هَذَانِ هُما الزَّيتُونَتانِ والـمَنارَتَانِ القائمَتانِ أمامَ ربِّ الأرضِ. وإنْ كانَ أَحَدٌ يُريدُ أن يُؤذِيهُما، تَخرُجُ نارٌ مِن فَمِهما وتأكُلُ أعداءَهما. وإنْ كانَ أحدٌ يُريدُ أن يؤذِيَهما، فَهَكذا لا بُدَّ مِن أنّه يُقتَل. هذانِ لَهُما السُّلطانُ أن يُغلِقا السَّماءَ حتّى لا تُمطِرَ مَطَرًا في أيّامِ نُبُوَّتِهِما، ولَهُما سُلطانٌ على الـمِياهِ أن يُحوِّلاها إلى دَمٍ، وأنْ يَضرِبا الأرضَ بِكُلِّ ضَربةٍ كُلَّما أرادا. مَتَى تَمَّما شَهادَتَهُما، فالوَحشُ الصَّاعِدُ من الهاويةِ سَيَصنَعُ مَعَهما حربًا ويَغلِبُهما ويَقتُلُهما. وتَكونُ جُثَّتَاهُما على شارِعِ الـمَدينةِ العَظيمَةِ الّتي تُدعى رُوحيًّا سَدومَ ومِصرَ، حيثُ صُلِبَ ربُّنا أيضًا. ويَنظُرُ أُناسٌ مِنَ الشُّعوبِ والقَبائِلِ والألسِنَةِ والأُمَمِ جُثَّتَيْهِما ثلاثةَ أيَامٍ ونِصفًا، ولا يَدعُونَ جُثَّتَيهِما تُوضَعانِ في قبورٍ. ويَشْمَتُ بِهما السَّاكِنونَ على الأرضِ ويَتَهلَّلونَ، ويُرسِلونَ هدايا بَعضُهم لِبَعضٍ لأنَّ هَذَينِ النَّبِيَّين كانا قد عذَّبا السَّاكِنِينَ على الأرضِ. ثُمَّ بَعدَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ والنِّصفِ، دَخَلَ فِيهِما رُوحُ حياةٍ مِنَ اللهِ، فَوَقَفا على أَرجُلِهما. ووَقَعَ خَوفٌ عَظيمٌ على الّذينَ كانوا يَنظُرُونَهما. وسَمِعوا صَوتًا عَظيمًا مِن السَّماءِ قائلاً لَهُما: إصْعَدا إلى هَهُنا. فَصَعِدا إلى السَّماءِ في السَّحابَةِ، ونَظَرَهُما أعْدَاؤهُما. وفي تِلكَ السَّاعَةِ حَدَثَتْ زَلزَلَةٌ عَظيمةٌ، فسَقَطَ عُشْرُ الـمَدينةِ، وقُتِلَ بالزَّلزَلَةِ أسماءٌ مِنَ النَّاسِ: سَبَعَةُ آلافٍ. وصَارَ الباقُونَ في رَعبةٍ، وأَعْطَوا مَجْدًا لإلهِ السَّماءِ. الوَيلُ الثَّاني مَضَى وهُوَذَا الوَيلُ الثَّالِثُ يأتي سَريعًا. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ السّابِعُ، فَحَدَثَتْ أصواتٌ عَظيمَةٌ في السَّماءِ قائلةً: قَدْ صارَتْ مَمالِكُ العالَمِ لِرَبِّنا ومَسيحِه، فسَيَمْلِكُ إلى أبدِ الأبِدينَ. والأربَعَةُ والعِشْرونَ شَيْخًا الجالِسونَ أمامَ اللهِ على عُروشِهم، خَرُّوا على وُجُوهِهم وسَجَدوا لله قائِلِينَ: نَشكُرُكَ أيُّها الربُّ الإلَهُ القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، الكائنُ والّذي كانَ والّذي يأتي، لأنَّكَ أَخَذْتَ قُدرَتَكَ العظيمةِ ومَلَكْتَ. وغَضِبَتِ الأُمَمُ، فأتى غَضَبُكَ وزَمانُ الأمواتِ ليُدانوا، ولتُعطى الأُجرَةُ لِعَبيدِكَ الأنبياء والقدِّيسِينَ والخائِفينَ اسمَكَ، الصِّغارِ والكِبارِ، وليُهلَكَ الّذين كانوا يُهلِكونَ الأرضَ. وانْفَتَحَ هَيكَلُ الله في السَّماءِ، وظَهَر تابوتُ عَهدِهِ في هَيكَلِه، وحَدَثَتْ بُرُوقٌ وأصواتٌ ورُعودٌ وزَلزَلَةٌ وبَرَدٌ عَظيمٌ."

في هذا النَّص، يُخبرنا الكاتب عن شاهِدَين، وقد أعطاهما صُوَرًا تدفع السّامِع إلى الاعتقاد بأنَّ هذين الشاهِدَين هما النَبيَّين موسى وإيليّا: فالنبيّ إيليّا هو الّذي صلّى إلى الله فانحبَست السَّماء، ثمّ صلَّى فَنَزِل المطر؛ والنبيّ موسى هو الّذي حوّل الماء إلى دَم، عندما ضَرب الصَّخرة. ولكن الغريب في كلام الكاتب عن هذين الشَّاهِدَين، هو أنّه قال عنهما إنّهما قُتِلا، والنبيّ موسى وكذلك النبيّ إيليّا لم يُقتَلا. هذا الأمر دَفعنا إلى البحث عن شاهِدَين آخَرين ماتا قتلاً، لذلك يرجِّح المفسِّرون أن يكون هذان الشّاهِدان اللّذان أخبرنا عنهما يوحنّا الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا، الرَّسولَين بطرس وبولس، فَهَذان الرَّسولان هما نبيِّان، بحسب مفهوم الكِتاب المقدَّس. إنّ النبيّ بحسب مفهوم الكِتاب المقدَّس، هو الّذي ينقل كلمة الله وإرادته إلى الآخَرين، الآن وهُنا. إنّ هَذَين الرَّسولَين ماتا قتلاً لأنَّهما بشَّرا بكلمة الله إذ أعلنا للشُّعوب مشيئة الله وإرادته، وقد استشهدا في عاصمة الامبراطوريّة الرُّومانيّة، روما، تلك "المدينة العظيمة الّتي تُدعى روحيًّا سَدوم ومِصر". إنَّ سَدوم ومِصرَ هُما مدينتان عدوَّتان لله: فَفِي سَدوم لم يَجِد الله شَخصًا صالحًا، فيغفر الله بسببه لهذه المدينة الآثمة، أمّا مدينة "مِصر"، فَهِيَ صورةٌ عن فِرعون الّذي كان يَضطهِد شعب الله لأنّهم يريدون عبادة الله الحيّ.

ثُمّ تابع يوحنّا الرَّسول كلامه عن هذَين الشَاهِدَين النَبِيَّين، فقال فِيهما: "هَذَانِ هُما الزَّيتُونَتانِ والـمَنارَتَانِ القائمَتانِ أمامَ ربِّ الأرضِ. وإنْ كانَ أَحَدٌ يُريدُ أن يُؤذِيهُما، تَخرُجُ نارٌ مِن فَمِهما وتأكُلُ أعداءَهما. وإنْ كانَ أحدٌ يُريدُ أن يؤذِيَهما، فَهَكذا لا بُدَّ مِن أنّه يُقتَل." إنّ اللّهيب الّذي يَخرُج مِن فَمِهما هو كلمة الله، وقد سمّاها بولس الرَّسول في رسائله:"سيف الرّوح"، لأنّ كلمة الله هي كالسَّيف تفصُل بين الحقّ والباطِل. وبالتّالي، فإنَّ السّاكِنِين على هذه الأرض الّذين لم يَقبلوا كلمة الله الّتي يبشِّر بها هذان الرَّسولان، سيكونون أعداءً لها. في الامبراطوريّة الرُّومانيّة، يَموت صَلبًا مَن يَخضَع للحُكم الرُّوماني، لأنّه يُعَدُّ بالنِّسبة إليها مِن العَبيد، أي مِن الخاضِعين للاستعمار، لذلك استُشهِد بطرس مصلوبًا، وقد رَفض أن يُصلَب كما صُلِب ربُّ الـمَجد، فطَلبَ أن يُصلب مقلوبًا رأسًا على عَقب، فكان له ما أراد؛ أمّا الصَّلب فهو ممنوعٌ على الّذين يَملِكون الجِنسيّة الرُّومانيّة، لذا استُشهد بولس الرَّسول بقَطع الرّأس. وقد مات هذان الرَّسولان في السَّنة نفسِها، ويُرجَّح أن تكون هذه السَّنة هي سنة 67 ميلاديّة. إنّ كلمة "شاهد" في اللُّغة اليونانيّة تعني أيضًا شَهيدًا.
ويتابع يوحنّا الرَّسول كلامه فَيُخبرنا أنَّ السَّماء قد فُتِحت لهذَين الشّهِيدَين عندما قُتلا، وقد صَعِدا إلى السّماء في سحابة. في هذا الإصحاح، نلاحظ أن الرَّسول يوحنّا قد لجأ إلى استخدام صُوَرٍ متعارَفٍ عليها في التّقليد الإنجيليّ؛ فالربُّ يسوع، كما يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل، قد صَعِد إلى السّماء في سحابةٍ. وبالتَّالي، أراد الكاتب أن يُشبِّه استشهاد الرَّسولَين باستشهاد الربِّ يسوع مُعلِّمهما، ليُخبرنا أنّهما نالا المصير نفسه: الموت على الأرض، والعرش في السّماء. ثمّ تابع يوحنّا الرَّسول كلامه، فسَعى إلى المشابهة بين موت هذَين الرَّسولَين بِمَوت الربِّ، فأخبرنا أنّه عند موت هذَين الشَّاهِدَين حَصَلَت زلزلةٌ عظيمةٌ، وقد مات عُشْرُ المدينة، في هذه الزَّلزلة، بِحسب يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، "وقُتِلَ بالزَّلزَلَةِ أسماءٌ مِنَ النَّاسِ: سَبَعَةُ آلافٍ. وصَارَ الباقُونَ في رَعبةٍ، وأَعْطَوا مَجْدًا لإلهِ السَّماءِ." هذا المشهد، يُذكّرنا أيضًا بما حَدث على الصّليب، إذ بعد موت الربِّ، اعترف قائد المئة، هذا القائد الوثنيّ، بالربِّ يسوع إلهًا، في حين أنَّ أهلَ أورشليم قد رَفضوا الإيمان بالربّ، فَحَدَثتْ زلزلةٌ عَظيمةٌ في كلِّ أورشليم، ودُمِّرت. هذا هو الوَيلُ الّذي سيُصيب كلّ الّذين يرفضون الإيمان بكلمة الله.

"ثُمَّ أُعطِيتُ قَصَبَةً شِبهَ عَصًا، ووقَفَ الملاكُ قائلاً لي: قُمْ وقِسْ هيكلَ الله والـمَذبَحَ والسَّاجِدِينَ فيه". حين يلجأ الإنسان إلى قِياسِ مساحةٍ معيّنة، فهذا يعني أنَّه يُحدِّد مجالَه، أي المساحة الّتي تخصُّه. من خلال كلام الملاك، يدعونا يوحنّا الرَّسول كي نكون من الموجودين في داخل الهيكل، أي مِن الثَّابتِين في إيماننا بالربّ، لأنّ مَن هو خارج الهيكل هو إنسانٌ قد خَرَجَ عن كنفِ الله، بمعنى آخَر قد رَفَضَ رَحمة الله وعنايته.
"وأَمَّا الدَّارُ الّتي هِيَ خارِجَ الهيكَلِ، فاطْرَحْها خَارجًا ولا تَقِسْها، لأنَّها قَدْ أُعطِيَتْ للاُمَمِ، وسَيَدوسُونَ الـمَدينةَ المقدَّسَةَ اثْنَينِ وأربَعينَ شَهرًا". إنَّ الأشهر الاثنين والأربعين، تساوي ثلاث سِنين ونِصف السَّنة، والرَّقم ثلاث ونصف يعني نِصف الزَّمن لا الزَّمن بِكامِله. وبالتّالي، مِن خلال هذا الكلام، أراد الكاتب أن يُخبر المؤمنِين أنّ اليوم الأخير لم يأتِ بَعد، أي أنّه مَهما شاهَدوا مِن علامات تُشير إلى نهاية الأزمنة، لا تؤكِّد على حلول اليوم الأخير، إذ إنّ كلَّ الأرقام المستخدمة في هذا الإصحاح هي أصغر مِن الرَّقم سبعة الّذي يرمز إلى الكمال أو الـمِلء.
"وإنْ كانَ أحدٌ يُريدُ أن يؤذِيَهما، فَهَكذا لا بُدَّ مِن أنّه يُقتَل. هذانِ لَهُما السُّلطانُ أن يُغلِقا السَّماءَ حتّى لا تُمطِرَ مَطَرًا في أيّامِ نُبُوَّتِهِما، ولَهُما سُلطانٌ على الـمِياهِ أن يُحوِّلاها إلى دَمٍ، وأنْ يَضرِبا الأرضَ بِكُلِّ ضَربةٍ كُلَّما أرادا". إنّ كاتب السِّفر يُسقِط صورةَ النبيّ موسى والنبيّ إيليّا على الرَّسولَين بطرس وبولس، إذ قال فِيهما:" هذانِ لَهُما السُّلطانُ أن يُغلِقا السَّماءَ حتّى لا تُمطِرَ مَطَرًا في أيّامِ نُبُوَّتِهِما". إنّ هذا الكلام يُذكِّرنا بأنَّ الربَّ قد أعطى الرُّسل وبخاصَّة الرَّسول بُطرُس مفاتيح السّماء، قائلاً لهما: "مَا تحلانَه في السّماء يكون محلولاً في السّماء، وماتربطانه على الأرض، يكون مربوطًا في السّماء"(متى 18: 18). إنّ هذا السُّلطان الّذي أُعطِي للرُّسل لا يُشكِّل امتيازًا لهم إنّما مسؤوليّة أعطِيَت لهم وسَيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. ولكنّ بولس الرَّسول لم يكن مِن ضِمن الرُّسل الاثني عشَر، بل التَحق بهم بعد ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، لذا كان أهل كورنثوس يعترضون على رسوليّته، أمّا هو فكان يُدافع عن رسوليّته، حتّى إنه تجرّأ على القول بأنّه في بعض الأحيان، فاق بعض الرُّسل رسوليّةً إذ أخبرَ أهل كورنثوس أنّه تعرَّض للضرب والخطر من أجل البشارة بكلمة المسيح مرّاتٍ عديدة (1 كور9). إنّ هذا السُّلطان الـمُعطى للرَّسول لا يمنحه الحقّ في التسلُّط على الآخَرين وإدانتهم، فالكلمة الّتي ينطق بها الرَّسول هي الّتي تُبكِّت الإنسان السَّامع لها وتَحثُّه على تصحيح مسارِه، ولكن هذا لا يعني أنّ الفَضلَ في ذَلِكَ يعود إلى الرّسول، فَهُو، أي الرَّسول، لا يشترِك في دينونة الآخَرين على أعمالِهم.

إنّ سِفر الرُّؤيا ليس سِفر التوقُّعات المستقبليّة، إنّما هو سِفر التَّنبؤات، بحسب مفهوم الكتاب المقدَّس لهذه الكلمة، فالنبيّ بحسب الكِتاب المقدَّس هو الّذي يَنقُل للآخَرين كلمة الله. إنّ سِفر الرؤيا قد كُتِب ووُجِّه إلى كلّ البشر: إلى المؤمنِين لحثِّهم على الثَّبات في إيمانهم بالربّ، هُم الّذين تعرَّضوا في أيّام كتابة هذا السِّفر إلى الاضطهادات؛ وإلى غير المؤمنِين لإخبارهم بمصيرهم إنْ لَم يتوبوا إلى الله. إنَّ الذي يؤمن بالربّ لا بُدَّ له مِن أن يدفَع ثمن إخلاصِه وأمانته للربّ، فيكونَ شاهدًا له في حياته، وقد تؤدِّي به شهادته إلى استشهاده، فيَجلس مع الله على العرش السّماويّ، لأنّه غلبَ الشَر كما غَلب الله.
إنَّ هذين النَبِيَّين قد تممَّا شَهادَتِهما لله، بموتهما؛ وفي هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ على لسان القدِّيس لوقا في سِفر أعمال الرُّسل: "تكونون لي شُهودًا في أُورشليم، وكلّ اليهوديّة، والسّامرة حتّى أقاصي الأرض"(أعمال 1: 8). إنَّ "أقاصي الأرض" في أيّام الرُّسل،كانت روما. في التَّقليد الشَرقيّ، يُحتَفل بِعِيد الرَّسولَين بطرس وبولس في التّاسع والعِشرين مِن شهر حزيران. وفي هذه الفترة من السَّنة، تعيش الكنيسة الشَّرقيّة صَومًا، تُطلِق عليه اسم "صَوم الرُّسل"، ويبدأ يوم الاثنين الّذي يلي أحد العنصرة، وينتهي يوم عيد الرَّسولَين بطرس وبولس. مِن خلال هذا الصَّوم، أرادَتْ الكنيسة أن ترافق مسيرة هذَين الرَّسولَين التبشيريّة بعد حلول الرُّوح القدس عليهما: فالرّسول بطرس حلَّ عليه الرُّوح القدس في العليّة مع بقيّة الرُّسل، أمّا بولس الرَّسول فقد حلَّ عليه الرُّوح على طريق دِمشَق؛ وقد تكلَّلت مسيرة هذَين الرَّسولَين التبشيريّة بكلمة الله بالاستشهاد في سبيلها. إنّ عبارة "تمّما الشَّهادة"، لا تعني أبدًا أنَّ هذَين الرَّسولَين قد أنهيا البشارة بكلمة الربّ، بل تعني أنّهما استشهدا بسبب إخلاصِهما لهذه الكلمة الإلهيّة.
"مَتَى تَمَّما شَهادَتَهُما، فالوَحشُ الصَّاعِدُ من الهاويةِ سَيَصنَعُ مَعَهما حربًا ويَغلِبُهما ويَقتُلُهما". بحسبِ الدِّراسات الكتابيّة، المقصود بالوحَشِ هنا، ليس الشَّيطان كما يعتقد الكثيرون، بل الامبراطور نَيرون الّذي كان حاكمًا لروما سنة 67م.، أي حين استشهد الرَّسولان بطرس وبولس. والرَّمز "666" الذي تكلَّمنا عليه في السّابق، هو رَمزٌ لاسم "نَيرون". إذًا، ليس المقصود هنا بعبارة "الوَحش" الشَّيطان، لأنّ الشَّيطان يأتي متخفيًا لِيَغشَّ المؤمن، فيأتيه بصورة مسيحٍ، ولن يتمكَّن من اكتشاف حقيقته بأنّه مسيح دجّال إلّا المؤمِن الّذي انكَبَّ على معاشرة كلمة الله. في هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع على لسان يوحنّا الإنجيليّ إنّ الشَّيطان هو "كذّابٌ وأبو كلّ كَذّاب" (يو8: 44)، إذ يأتي الشَّيطان إلى المؤمِن بشكلٍ مسيحٍ دجّال، فيوقعُ المؤمنَ في الخطيئة من خلال اعتماده أساليب الإغراء والترهيب. يَعمد الشيطان إلى خَلقِ شعورٍ عند الإنسان بأنّه كان على حقّ عند ارتكابه الخطيئة، لذا يلجأ الإنسان إلى تبرير خطاياه، بدلاً من الاعتراف بها والتوبة عنها، وهنا تكمن خطورة الشَّيطان. إنّ عبارة "الشَّيطان" في اللُّغة العبريّة تعني الـمُدَّعي العام، وهذا هو دَور الشَّيطان، إذ يسعى إلى توجيه التُّهَم إلى المؤمن حين يقف هذا الأخير أمام العرش السّماويّ، في اليوم الأخير، محاولاً حثَّ القاضي، أي الله، على إصدار أقصى العقوبات بِحَقّ المتَّهم أي المؤمن. يُقدِّم لنا سِفر أيُّوب صورةً واضحةً عن دور الشَّيطان، إذ يُخبرنا الكاتِب عن تحدّي الشيطان لله في صَفيِّه أيّوب، إذ طَلبَ الشيطان إلى الله أن يسمح له بأن يُنزِل البلايا بأيُّوب، فيتراجع هذا الأخير عن إيمانه بالله، إذ بحسب الشَّيطان، أيُّوب يتقِّي الله لأنّه نال العطايا منه. فقَبِل الله هذا التحدِّي، وكان الشَّيطان هو الخاسِر الأكبر لأنّ أيُّوب بَقيَ متمسِّكًا بإيمانه رُغم كلِّ المصائب الّتي حلَّت به. إنّ الهدف مِن هذه القصَّة في سِفر أيّوب، هو الثَّبات في الإيمان بالله، رُغم كلّ الصُّعوبات. يدعونا سِفر الرُّؤيا إلى العودة إلى العهد القديم المذَّخَّر بأمثلةٍ حيّةٍ، تُشجِّعنا على الثَّبات في الإيمان بالله، وأيُّوب هو أحد هذه الأمثلة الحيّة؛ كما يُقدِّم لنا سِفر الرُّؤيا أمثلةً حيّة من العهد الجديد، عن الثَّبات في الإيمان، وأهمَّهما الرَّسولين بطرس وبولس اللّذان تمسَّكا بالشَّهادة لكلمة الله، إلى أنْ قادهما إخلاصهما لها إلى الاستشهاد. في هذا السِفر، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن مَعرَكتَين يخوضُهما الله ضدَ الشَّيطان: المعركة الأولى يقودها الله من خلال المؤمن، فحين يثبت هذا الأخير في إيمانه، يكون الله قد انتصَر في هذه المعركة؛ أمّا المعركة الثّانية فيقودها الله شخصيًّا ضدَّ الشيطان، في اليوم الأخير ويربحها، إذ يقول لنا الكِتاب المقدَّس، بما معناه إنّ الله قد انتصَر على الشَّيطان وأباده، راميًا به في الأتُّون.
في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا الكاتب مشهدًا مُسبقًا لمعركة الله مع الشِّرير في اليوم الأخير، ويدعونا إلى الثَّبات في إيماننا بالله على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات، مُتَمثِّلِين بالرَّسولَين بطرس وبولس، "الشّاهِدَين النَبِيّين، والزيتونتين، والمنارتين"، بحسب تعبير يوحنّا الرّسول، في هذا الإصحاح، فيكونان لنا نماذِج حيّة نقتدي بها للوصول إلى الملكوت. بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس سنة 67م.، واجه الرُّسل في الكنيسة الأولى مشكلةً كبيرة تكمن في حثٍّ المؤمنِين على الثبات في البشارة الّتي قَبلاها مِن الرَّسولَين، خصوصًا بعد التأخُّر في تحقيق مجيئه الثَّاني، وازدياد الاضطهاد على المؤمنِين، لذا حاول الرُّسل تثبيت المؤمِنِين قائلِين لهم الحقيقة، وهي أنّ الربَّ سيأتي حتمًا ولكنْ في الوقت والزَّمان اللّذين يختارهما هو. ولضمان استمرار البشارة، خصوصًا بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس، اللّذين كانا مَصدَر قوّة ودَعمٍ للمؤمنِين للثّبات في إيمانهم، وَجد الرُّسل ضرورةً لكتابة الإنجيل، فكان إنجيل مرقس أوّل الأناجيل الّتي كُتِبَت وكان ذلك سنة 67م. إنّ سِفر الرؤيا قد كُتِب لا في أيّام الامبراطور نيرون، حين كان الاضطهاد للمسيحيِّين عشوائيًّا إنّما في أيّام الامبراطور دوميتيانوس، الّذي اعتمد اضطهادًا ممنهجًا عقائديًّا لِدَفع المؤمنِين إلى تركِ إيمانهم بالربّ، وكان هذا الاضطهاد أخطر من اضطهاد نيرون المزاجيّ.
في هذا السِّفر، أخبرنا يوحنّا الرّسول عن موت النَبيّين الشَّاهِدَين لكلمة الله، كما أخبرنا أنّ جثَّتيهما قد عُرِضت مدّة ثلاثة أيّام ونِصف، أي مدَّةً زمنيّة قصيرة، لا الزَّمن كلِّه، وهذا يعني أنّ الشِّدة مَهما طالَت لا بُدَّ لها مِن أن تنتهي، ولذلك "مَن يَصبُر إلى المنتهى يَخلُص".
"ويَشْمَتُ بِهما السَّاكِنونَ على الأرضِ ويَتَهلَّلونَ، ويُرسِلونَ هدايا بَعضُهم لِبَعضٍ لأنَّ هَذَينِ النَّبِيَّين كانا قد عذَّبا السَّاكِنِينَ على الأرضِ. ثُمَّ بَعدَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ والنِّصفِ، دَخَلَ فِيهِما رُوحُ حياةٍ مِنَ اللهِ، فَوَقَفا على أَرجُلِهما." هذا ما قالته الأرواح الشِّريرة للربّ يسوع، عندما طَردها من الممسوس وشفاه منها: "أَجِئْتَ إلى هنا قَبْل الزَّمان لِتُعذِّبنا؟"(متى 8: 28) إنّ كلمة الله تُعذِّب كلَّ مَن كان تحت حُكم الشَّر، وكلَّ مَن اتَّخذ الشَّر نَهجًا له، فالشيطان هو رمزُ كُلِّ الشّرور. وبعد ثلاثة أيّام ونِصف اليوم، "دَخل فيهما رُوحَ حياةٍ من الله"، أي أنّهما أُقيما من الموت، فالاضطهاد يُعلِن انتهاء مرحلةٍ أرضيّة يعيشها المؤمِنون وبداية مرحلةٍ جديدة، هي حياة للمؤمنِين مع الله في السّماء.

"ووَقَعَ خَوفٌ عَظيمٌ على الّذينَ كانوا يَنظُرُونَهما. وسَمِعوا صَوتًا عَظيمًا مِن السَّماءِ قائلاً لَهُما: اصْعَدا إلى هَهُنا. فَصَعِدا إلى السَّماءِ في السَّحابَةِ، ونَظَرَهُما أعْدَاؤهُما." إنّ الكاتب يستخدم العبارات نفسها الموجودة في التَّقليد الإنجيليّ عن يسوع، مِن وقت الصَّلب. إنّ الجائزة أو المكافأة الّتي أُعطيَت للشَّهيدَين هي الجلوس على العرش. ونحن اليوم، نستطيع أن نفَهَم هذا النَّص أكثر من ذِي قَبْل، لأنّنا نعاني من الشِّدة، ومِن مواجهتنا لمرضٍ فتّاك، ومِن تحدٍ كبيرٍ لإيماننا في ظلّ هذه الصُّعوبات الّتي نعيشها. ففي ظلّ هذه الظروف الصَّعبة، نجد ذواتنا أمام هذا التحدِّي: هل نَثبتُ في إيماننا بالربِّ ونبقى معه، أم نتركُه، ونحافظ على حياتنا الأرضيّة؟ وهنا يَطرَح مؤمِنون كثيرون السُّؤالَ على ذواتِهم: ما فائدة إيماننا إنْ لم يتدخَّل الله ليُخلِّصنا؟ بمعنى آخر: لماذا الربُّ يسوع، المخلِّص، لا يُخلِّص؟ هذا السُّؤال يعكِس عتَبَ الكثير من المؤمنِين على الله، ويُلخِّص الصِّراعَ الّذي يختبره المؤمنون الأبرار. في هذا الإطار، يدعونا كاتب هذا السِّفر إلى التحلِّي بِصَبر القدِّيسين في انتظار مجيء الربِّ الثّاني، لأنّه مهما تعاظمت الشِّدة فإنّه لا بُدَّ لها مِن أن تنتهي.
نحن اليوم، نواجه الصّعوبات في حياتنا اليوميّة، كما نستعدّ لمواجهة الطِّفل المولود، الإله الـمَلِك. نحن نواجِه حَدَثين متناقِضَين: الأوّل حدثٌ أرضيٍّ موجِعٌ، والثّاني حَدَثٌ سماويّ، إذ نستعدُّ لاستقبال الله الّذي نَزَل منِ عليائِه ليُفرِّحنا بخلاصِه لنا. وهنا يُطرَح السُّؤال علينا: نحن إلى أيِّةِ دَفَّةٍ نَميل: هل تساعدنا هذه الولادة الإلهيّة على امتلاك القوّة لمواجهة الشِّدة الأرضيّة الّتي تعترِض حياتنا، أم أنَّ الشِّدة الأرضيّة الّتي نواجهنا تمنعنا من الشُّعور بالفرح لولادة الله في أرضِنا؟
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
9/12/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح العاشر العودة إلى الله وانتظار لمجيء الربّ
https://youtu.be/4D9pjPAPozs

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح العاشر
الأب ابراهيم سَعِد

9/12/2020

"ثُمَّ رأيْتُ ملاكًا آخَرَ قَويًّا نازلاً مِن السَّماءِ، مُتَسَربِلاً بِسَحَابةٍ، وعلى رأسِه قَوسُ قُزَحَ، ووَجهُهُ كالشَّمسِ ورِجلاهُ كَعَمودَي نارٍ، ومَعَهُ في يَدِهِ سِفرٌ صَغيرٌ مَفتوحٌ. فَوَضَعَ رِجْلَهُ اليُمنى على البَحرِ واليُسرى على الأرضِ، وصَرَخَ بِصوتٍ عَظيمٍ كما يُزَمجِرُ الأسَدُ. وبَعْدَ ما صَرَخَ، تكلَّمَتِ الرُّعودُ السَّبعةُ بأصواتِها. وبَعدَ ما تَكَلَّمَتِ الرُّعودُ السَّبعةُ بأصواتِها، كُنتُ مُزمِعًا أنْ أَكتُبَ، فَسَمِعْتُ صَوتًا مِنَ السَّماءِ قائلاً لي: "اخْتِمْ على ما تَكلَّمَتْ به الرُّعودُ السَّبعةُ ولا تَكتُبْهُ". والملاكُ الّذي رأيْتُهُ واقفًا على البَحرِ والأرضِ، رَفَعَ يَدَهُ إلى السَّماء، وأقسَمَ بالحيِّ إلى أبَدِ الآبِدِينَ، الّذي خَلَقَ السَّماءَ وما فِيها والأرضَ وما فِيها والبَحرَ وما فِيه: أنْ لا يكونَ زَمانٌ بَعدُ! بل في أيّامِ صَوتِ المَلاكِ السّابِعِ مَتَى أزمَعَ أن يُبوِّقَ، يَتِمُّ أيضًا سِرُّ اللهِ، كما بشَّرَ عبيدَهُ الأنبياءَ. والصَّوتُ الّذي كُنتُ قَدْ سَمِعْتُه مِنَ السَّماءِ كَلَّمَني أيضًا وقالَ: "اذْهَبْ خُذِ السِّفرَ الصَّغيرَ المَفتوحَ في يَدِ الملاكِ الواقِفِ على البَحرِ وعلى الأرضِ". فَذَهبْتُ إلى الملاكِ قائلاً لَهُ: "أعْطِني السِّفرَ الصَّغيرَ". فقال لي: "خُذْهُ وَكُلْهُ، فسَيَجعَلُ جَوفَكَ مُرًّا، ولَكِنَّهُ في فَمِكَ يكونُ حُلوًا كالعَسَلِ". فأَخَذْتُ السِّفرَ الصَّغيرَ مِن يَدِ الملاكِ وأَكَلْتُهُ، فكانَ في فَمي حُلوًا كالعَسَلِ. وبَعدَ ما أَكَلْتُهُ صار جَوفي مُرًّا. فقال لي: "يَجِبُ أنَّكَ تتنبَّأ أيضًا على شعوبٍ وأُمَمٍ وألسِنَةٍ وملوكٍ كَثيرينَ".

في الإصحاح التّاسع، رأيْنا أنّه على الرُّغم من كلّ الضربات والأمور الّتي تحصل، لَم يَـتُبْ الشَّعب إلى الله. لذا، كَتَب الرَّسول يوحنّا هذا الإصحاح العاشر، ليَحُثَّ الّذين لم يتوبوا بعد إلى الله، إلى التَّوبة قَبْل فوات الأوان.

بدأ الرَّسول يوحنّا هذا الإصحاح بالكلام على الملاك السّابع، وأعطاه صفاتٍ لم يُعطِها لأيّ ملاكٍ من الملائكة السّابِقِين: "قويًّا، نازلاً مِن السَّماءِ، مُتَسَربِلاً بِسَحَابةٍ، وعلى رأسِه قَوسُ قُزَحَ، ووَجهُهُ كالشَّمسِ ورِجلاهُ كَعَمودَي نارٍ". اعتبر أغلب المفسِّرِين للكتاب المقدَس أنَّ المقصود بهذا الملاك هو الربُّ يسوع، إذ كلَّمنا في السَّابق عن هذا الملاك قائلاً لنا إنَّ رِجلَيه من نُحاسٍ، أي أنَّ رِجلَيه حمراوان، وهذا الوصف يُشير إلى أنّ رِجلَيه هما كالنّار. وأضاف الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح قائلاً لنا عن هذا الملاك إنَّ وَجهَه مُضيءٌ كالشَّمس، وأنّ على رأسِه قوسَ قُزَح، وكلّ هذه الصِّفات تُشير إلى أنّه مُرسَل من الله، لأنّ كلمة "ملاك" في العِبريّة تعني الـمُرسَل مِن عند الله. وفي إنجيل يوحنّا، قال لنا الرَّسول إنَّ الربَّ يسوع هو الـمُرسَل مِن عند الله.
ويتابع يوحنّا في هذا الإصحاح، فَيَقول لنا إنَّ "في يده سِفرٌ صَغيرٌ مفتوح". في الإصحاحات الأولى من سِفر الرُّؤيا، قال لنا يوحنّا الرَّسول إنّ هناك سِفرًا مختومًا بسبعة ختوم، ولم يتمكَّن أحدٌ مِنَ الاقتراب مِنه لِفَتحِه إلّا واحدٌ، هو الحَمَل المذبوح. وكان المقصود بهذا "السِّفر المختوم بِسَبعة ختوم"، الكَشفَ عن السِّر الخلاصيّ، أي الكَشفَ عن خلاص البشر وما كان في فِكر الله. أمّا المقصود بـ"السِّفر الصَّغير المفتوح"، فهو الإنجيل، إذ إنّه مِن أصغر الأسفار مقارنةً بِكُتبِ العالَم، كما أنّه أصغر الأسفار مقارنةً بالسِّفر المختوم بِسَبعة أختام، وهذا السِّفر متاحٌ للجميع قراءته. ويُخبرنا يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح أنَّ هذا الملاك يَضع رِجلَيه واحدةً في البحر والأخرى على الأرض، وأنّ رأسَه في السَّماء، وهذا دليلٌ على أنَّ هذا الملاك هو ضابطُ الكُلّ. إنّ وَضْع الملاكِ رِجلَيه: واحدة في البحر والأخرى على الأرض، هو دليلٌ على السُّلطة والسِّيادة. إنّ زَمجَرةَ الأسَد هي صِفةٌ أعطِيَت للربّ.
"وبَعْدَ ما صَرَخَ، تكلَّمَتِ الرُّعودُ السَّبعةُ بأصواتِها": إنّ الرَّقم سبعة يتكرَّر هنا أيضًا، بعد أنْ تَكرَّر في الإصحاحات السّابقة، حين كلَّمنا الرَّسول على المنائر السَّبعة، والكنائس السَّبعة، والختوم السَّبعة، والأبواق السَّبعة، والملائكة السَّبعة. والمفارقة هنا، هي أنّ الرَّسول يوحنّا سِمَع صوتًا من السَّماء، طَلَب إليه عدم تدوين ما سَيَراه أو سَيَسمعه، على عكسِ ما كان يحصل في الإصحاحات الماضيّة. لا أحد يعرِف سَببَ ذلك، فالكاتب لم يَشرح لنا السَّبب في هذا الإصحاح، وبالتّالي يبقى في هذه الرُّعود سِرٌّ لم يتمّ الكشَفُ عنه.
"وأقسَمَ بالحيِّ إلى أبَدِ الآبِدِينَ، الّذي خَلَقَ السَّماءَ وما فِيها والأرضَ وما فِيها والبَحرَ وما فِيه: أن لا يكونَ زَمانٌ بَعدُ!" إنّ هذا الملاك الواقِفَ ورِجلاه واحدةٌ في البحر والأخرى على الأرض، قد رَفَع يَدَه إلى السّماء، للدلالة على أنّه يقوم بالقَسَم. في العهد القديم، أقسَم الله بِذاته بعد الطُّوفان أنّه لن يُكرِّر ذلك، فَظَهر قوسُ القزَح آنذاك مُعلِنًا نهاية الطُّوفان. إنّ قوسَ القُزَح يُشير إلى العَهد، وبالتّالي يقوم هذا الملاك بِعَهدٍ جديد. إنّ هذا الملاك قد أقسَم بالحَيِّ إلى أبَدِ الآبِدِين، وبما أنّ هذا الملاك كما قُلنا هو الربُّ يسوع، فيكون الربُّ يسوع قد أقسَم بذاته، لأنّه هو الله، وهو أي الربُّ يسوع مشاركٌ لله في عمليّة الخَلق. وبالتّالي، إنْ كان القَسَم يقوم به الله، فهذا يعني أنّ ما سيقوله لنا سيتحقَّق بالفِعل. إنّ عبارة "لا يكون زمانٌ بَعد"، تعني أنّ هذا الزَّمان سوف ينتهي، ولن يكون دائمًا. إنّ هذه العبارة تعني للمؤمِن أنَّ زمن الاضطهاد والشِّدة الّذي يعاني منه، سينتهي ولن يدوم، وبالتّالي عليه بالمزيد مِن الصَّبر على الضِّيقات إلى أن يتحقَّق المجيء الثاني للربّ؛ ولكنَّها في الوقت نفسه تَعني لغير المؤمِن ضروررة التَّوبة قَبْل انتهاء هذا الزَّمان.

"بل في أيّامِ صوتِ الملاكِ السّابِعِ مَتَى أزمَعَ أن يُبوِّقَ، يَتِمُّ أيضًا سِرُّ اللهِ، كما بشَّرَ عبيدَهُ الأنبياءَ". كلَّمنا الرَّسول يوحنّا، عن ستَّة ملائكة في السّابق، وها هو اليوم يكلِّمنا عن الملاك السّابع الّذي مِن الـمُفترَض أن يُعلِن لنا النِّهاية. عند تبويق الملاك السَّابع، سيُعلَن لنا سِرُّ الله، وهو أنَّ المجد سيكون مِن نصيب المؤمنِين الصّابرين على الضِّيقات، إذ إنّهم سيكونون جالِسين على العرش مع الربّ في الملكوت بعد انتهاء هذا الزَّمان. إذًا، هذا الإصحاح مليءٌ بالتَعزيات الرُّوحيّة للمؤمنِين الّذين يُعانون مِنَ الضِّيقات والشِّدة. إنّ جميع أنبياء العهد القديم، تكلَّموا على خلاص الله. إنَّ خلاص الربِّ سيأتي، وهو وَجهَان لِعُملةٍ واحدة: خلاصٌ للتائبين وخلاصٌ للمؤمنِين، الـمُنتَظِرين مجيء الربّ، من جهة؛ ودينونة لغير المؤمِنِين الَّذين رَفَضوا الله، من جهةٍ أُخرى.
"والصَّوتُ الّذي كُنتُ قد سَمِعْتُه مِنَ السَّماءِ كَلَّمَني أيضًا وقالَ: "اذْهَبْ خُذِ السِّفرَ الصَّغيرَ المَفتوحَ في يَدِ الملاكِ الواقِفِ على البحرِ وعلى الأرضِ. فَذَهبْتُ إلى الملاكِ قائلاً لَهُ: "أعْطِني السِّفرَ الصَّغيرَ". فقال لي: "خُذْهُ وَكُلْهُ، فسَيَجعَلُ جَوفَكَ مُرًّا، ولَكِنَّهُ في فَمِكَ يكونُ حُلوًا كالعَسَلِ. فأَخَذْتُ السِّفرَ الصَّغيرَ مِن يَدِ الملاكِ وأَكَلْتُهُ، فكانَ في فَمي حُلوًا كالعَسَلِ. وبَعدَ ما أَكَلْتُهُ صار جَوفي مُرًّا": مِن خلال هذا الكلام، يريد الله أن يقول ليوحنّا الرَّسول وبالتّالي لجميع المؤمِنِين به، الّذين يعانون من الضِّيقات والشِّدة، إنَّ هذا الزَّمان قد شارَف على النِّهاية. لذلك، طلبَ الربُّ من يوحنّا أن يأخذ الإنجيل ويأكُلَه، لأنَّ طَعمَ كلمة الله سيكون لذيذًا ما دام الإنسان موجودًا أمام الله وفي حضرته، ولكن ما إنْ تَصِل كلمة الله إلى جوف الإنسان حتّى يُصبح طَعمُها مرًّا. عادةً، يقرأ الإنسان السِّفرَ ولا يأكلُه؛ ولكن بما أنَّ الربّ طَلبَ إلى يوحنّا أن يأكُلَ هذا السِّفرَ، فهذا يعني أنّه على الرَّسول، وبالتّالي على المؤمنِين، أن يتعاملوا مع كلمة الله كما يتعاملون مع طعامِهم الأرضيّ: فكما أنَّ الطَّعام الأرضيّ يُصبح جزءًا مِن الإنسان حين يتناوله، كذلك على كلمة الله أن تُصبح جزءًا مِن الإنسان حين يُثابر على قراءتها ومعاشرتها. حين تُصبح كلمة الله في جَوفِ الإنسان، يشعر هذا الأخير بالمرارة، لأنّ كلمة الله لا تسكن إلّا في الطَّهارة، لذا هي تحرقُ كلّ ما في داخل الإنسان من سيئاتٍ، وتوبِّخه وتضرب كبرياءَه وتسحق أنانيّته، فيَشعر الإنسان بالتَّعب نتيجة تخلِّيه عن أمورٍ في حياته لا تُرضي الله. كما أنَّ كلمة الله تُشعر الإنسان بالمرارة حين ينكَبُّ هذا الأخير على إعلان كلمة الله، فيواجَه بالرَّافِضين لها، فيهزؤون به وبالكلمة الّتي يُعلِنها لهم. إذًا، إنَّ كلمة الله طيبّة الطَّعم عندما يعاشرها الإنسان، ولكنَّها تتحوّل إلى مرارةٍ في جوفِ الإنسان لأنّها تَطرد كلَّ ما هو ترابيٌّ فيه، لأنَّ التخلِّي عن أمورٍ دُنيويّةٍ ليس بالأمر السَّهل على الإنسان، كما أنّه ليس من السَّهل عليه أيضًا أن يكون مؤمِنًا بالله وَسَط مجموعةٍ رافضةٍ لِتِلك الكلمة الإلهيّة. إنّ الله طَلبَ مِن أنبياءَ كثيرين في العهد القديم أن يتناولوا السِّفر، أي كلمة الله، ومِن بَينِهم النبيّ حزقيال.
"فقال لي: "يَجِبُ أنَّك تتنبَّأ أيضًا على شعوبٍ وأُمَمٍ وألسِنَةٍ وملوكٍ كَثيرينَ": بعد أن يأكل الرَّسول السِّفر، يُمنَح دَورًا في المجتمع، وهو التَّنبوء. التنبُّوء لا يعني إعطاء توقُّعاتٍ حول المستَقبل، إنّما إعلان كلمة الله للآخَرين، الآن وهنا، فيُدرِكون ما هي مشيئة الله لهم. على المؤمِن أن يُعلِن كلمة الله للبشريّة بأسْرِها. يُخبرنا سِفر إشعيا، أنَّ الله طَلَب إلى النبيّ الذّهاب للبشارة به، ولكنَّ هذا الأخير حاول التهرُّب من تلك المسؤوليّة بحجَّةِ أنَّه دَنِس الشّفَتَين، فما كان مِن الله إلّا أن أرسَل ملاكه إلى المذبح ليلتقِطَ جمرةً من المذبح ويضَعها على شِفَتَي النبيّ فيُطهِّرهما. إنَّ الجمرة هي كلمة الله، لذا تمكَّنَتْ مِن تطهير النبيّ إذ حرَقَتْ كلّ ما هو موجود في جوفه ولا يتناسب مع كلمة الله، وبالتّالي أصبح على استعداد لإعلان البشارة. إنّ السِّفر يشكِّل مائدةً لكلِّ مؤمِنٍ، وعلى المؤمِن التناول من هذا السِّفر ليتمكَّن من إعلان البشارة للآخَرين الّذين قد يرفضون كلمة الله، أو قد يَقبَلون بها فيتوبون عن خطاياهم ويعودون إلى الله. فإذا قَبِل الآخَرون كلمة الله، أصبحَتْ مصَدر حلاوةٍ للمؤمِن، أمّا إذا رَفضها الآخَرون فتتحوَّل إلى سببِ مرارةٍ لدى المؤمِن.

إذًا، هذا الإصحاح، هو فرصةٌ مِن الفُرَص الأخيرة، المعطاة للإنسان؛ فإمّا أن يكون هذا الأخير مؤمِنًا بكلمة الله، ثابتًا فيها رُغم كلّ الصُّعوبات، فلا يتهرَّب من مسؤوليّته في نقل ِالبشارة ولا يتزعزع إيمانه عندما تواجِهُه الاضطهادات، ولا يخضع لأيِّ ترهيبٍ أو ترغيبٍ هَدَفه إبعاده عن كلمة الله؛ وإمّا أن يكون الإنسان بعيدًا عن الله، فيَسمع كلمة الله ويَقبَل بها ويتوب عن خطاياه، ويعود إلى الله، ويكون في حالة انتظار للربّ الآتي. إذًا، نحن في حالةِ ما قَبْل الزَّمن الأخير، أي ما قَبْل مجيء الربّ، الّذي وَعدنا بالمجيء ثانيةً. في هذه الفترة، أي فترة ما قَبْل المجيء، ستَحدثُ أمورٌ كثيرة، سَنَراها في الإصحاحات القادمة: تحدٍّ بين الربِّ والشّيطان من أجل الوصول إلى مُنتَصرٍ واحدٍ، بعد سِلسلةٍ مِن المعارك تدور بين الخير والشَّر، أي بين الربِّ والشَّيطان، بين الربِّ والتِّنين. وفي هذه الفترة، أي ما قَبْل الزَّمن الأخير، سيُعطي الربُّ المؤمنِين به، قوَّة للثّبات في إيمانهم، كي لا يتزعزعوا عند مواجهَتِهم للصُّعوبات. إذًا، يُخبرنا سِفر الرُّؤيا عن الحرب الرُّوحيّة. اليوم، أمام كلِّ ما يحدث أمامَنا في وَطننا وفي العالَم، نجد نفوسَنا فاقِدةً لكلِّ بصيصِ نورٍ أو أمَلٍ من هذا العالَم، فالنُّور والرَّجاء لا يأتيان إلّا من كلمة الله. وإليكم مَثلٌ بسيطٌ: اليوم في زمن الاستعداد لاستقبال عيد ميلاد الربِّ يسوع، نلاحظ فقدانًا لكلِّ مباهج العيد الّتي كنّا معتادِين عليها، والّتي تُدخِلنا في أجواء العِيد، بسب الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها في وَطنِنا. اليوم، نحن نعاني من العُري من مباهجِ الدُّنيا في هذا العيد، بسبب الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها في وَطَنِنا، ولكن هذه الظروف هي الفرصةُ الفُضلى لنا للتَّفكير في جوهر العيد، أي في صاحِب العيد. اليوم، نحن نستعدُّ لرؤية نمطٍ جديد في سِفر الرُّؤيا: إذ في الإصحاحات العَشر السّابقة، أدرَكنا أنّ الفَرَسَ البيضاء هي التّي ستغلب في هذه المعركة الرُّوحيّة، كما أدرَكنا ما هي التحدِّيات الّتي سيعاني منها المؤمنِون مِن قِبَل غير المؤمنِين في سبيل إبعادهم عن الربِّ وزعزعة إيمانهم به. نحن اليوم، في منتصف سِفر الرُّؤيا، والحياةُ الّتي نعيشها اليوم تَضَعنا في قلب سِفر الرُّؤيا، إذ نجدُ أنفسَنا على حافَّة هذا الزَّمان، لا الزَّمان الأرضيّ، إنّما زمانَنا الرُّوحيّ، إذ إنّنا مدعوون إلى الثَّبات في إيماننا حتّى نهاية هذا الزَّمان المليء بالشِّدة والصُّعوبات كي نتمكَّن مِن الفوز في هذه المعركة والحصول على الملكوت الّذي ننتظر تحقيقه. في الآونة الأخيرة، للأسف، نلاحظ أنَّ الكثير من المؤمنِين قد اعتادوا على إلقاء اللَّوم على الله، والتذمُّر إليه. إخوتي، إنّ التذمُّر إلى الله، هو إحدى علامات تَركِ الإنسان لله. إنّ الإنسان يُصبح قوِّيًا حين يكون مستسلمًا لإرادة الله ومشيئته. إنّ كلمة "استسلام" تدلُّ على الضُّعف، ولكن حين يستسلم الإنسان لمشيئة الله وإرادتِه، يُصبح قويًّا لأنّه رَفَضَ كُلَّ ما يُعرَضُ عليه من إغراء وخوف وإلتجأ إلى كلمة الله في الوقت الّذي يتعرَّض فيه للتَّرهيب والتّرغيب في سبيل الابتعاد عن الله.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
25/11/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح التاسع مواجهة صور الموت
https://youtu.be/NuAlI2mtGFU

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح التاسع
الأب ابراهيم سعد

25/11/2020

"ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الخامِسُ، فَرأيتُ كَوكَبًا قَدْ سَقَطَ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، وأُعطِيَ مِفتاحَ بئرِ الـهاويَةِ. فَفَتَحَ بِئرَ الـهاويةِ، فَصَعِدَ دُخانٌ مِنَ البِئرِ كَدُخانِ أَتونٍ عَظيمٍ، فأَظْلَمَتِ الشَّمسُ والجَوُّ مِن دُخانِ البِئرِ. ومِنَ الدُّخانِ خَرَجَ جَرادٌ على الأرضِ، فَأُعطِيَ سُلطانًا كَما لِعَقارِبِ الأرضِ سُلطانٌ. وقِيلَ لَهُ أنْ لا يَضُرَّ عُشبَ الأرضِ، ولا شيئًا أخضَر ولا شَجرةٍ ما، إلّا النَّاسَ فقطِ الّذينَ لَيسَ لَهم خَتمُ اللهِ على جِباهِهِم. وَأُعطِيَ أَنْ لا يَقتُلَهم بلْ أن يَتَعَذَّبوا خَمسَةَ أَشهُرٍ. وعذابُهُ كَعَذابِ عَقرَبٍ إذ لَدَغَ إنسانًا. وفي تِلكَ الأيّامِ سيَطلُبُ النَّاسُ الـمَوتَ ولا يَجِدُونَهُ، ويَرغَبُونَ في أن يَموتوا فيَهرُبُ الموتُ مِنهم. وشَكلُ الجَرادِ شِبهُ خَيْل مُهيّأةٍ للحربِ، وعلى رؤوسِها كأكاليلَ شِبهِ الذَّهَبِ، ووُجوهُها كَوُجوهِ النَّاسِ. وكانَ لها شَعْرٌ كَشَعرِ النِّساءِ، وكانَتْ أسنانُها كأسنانِ الأُسُودِ، وكانَ لَها دُروعٌ كَدُروعٍ مِن حديدٍ، وَصَوتُ أَجنِحَتِها كَصَوتِ مَرْكَباتِ خَيْلٍ كَثيرةٍ تَجري إلى قِتال. ولَها أذنابٌ شِبْهُ العَقَاربِ، وكانَتْ في أذنابِها حُماتٌ، وسُلطانُها أنْ تُؤذيَ النَّاسَ خَمسَةَ أَشهُرٍ. ولَها مَلاكُ الهاوِيَةِ مَلِكًا عليها، اسْمُهُ بِالعِبرانيّةِ "أَبَدُّونَ"، وله باليونانيَّةِ اسْمُ "أَبولِّيُونَ". الوَيلُ الواحِدُ مَضَى، هُوَذا يأتي وَيْلانِ أيضًا بَعدَ هذا. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ السَّادِسُ، فَسَمِعْتُ صَوتًا واحِدًا مِن أربَعَةِ قُرونِ مَذبَحِ الذَّهَبِ الّذي أمامَ الله، قائلاً لِلمَلاكِ السَّادِسِ الّذي مَعَهُ البُوقُ: "فُكَّ الأربَعَةَ الملائكةَ الـمُقيَّدِينَ عِندَ النَّهرِ العظيمِ الفُراتِ". فانفَكَّ الأربعةُ الملائكةُ الـمُعَدُّونَ للسَّاعَةِ واليَومِ والشَّهرِ والسَّنةِ، لِكَي يَقتُلوا ثُلثَ النَّاسِ. وعَدَدُ جُيوشِ الفُرسانِ مِئَتا أَلْفِ أَلْفٍ وأنا سَمِعتُ عَدَدَهُم. وهَكَذا رأيْتُ الخَيْلَ في الرُّؤيا والجالِسِينَ عَليْها، لَهُم دُروعٌ ناريَّةٌ وأَسْمانْجُونيَّةٌ وَكِبريتِيَّةٌ، ورؤوسُ الخَيْلِ كَرؤوسِ الأُسُودِ، ومِنْ أفواهِها يَخرُجُ نارٌ ودُخانٌ وَكِبريتٌ. مِن هذه الثلاثَةِ قُتِلَ ثُلثُ النَّاسِ، مِنَ النَّارِ والدُّخانِ والكِبْريتِ الخارجةِ مِن أفواهِها، فإنَّ سُلطانَها هُوَ في أفواهِها وفي أذنابِها، لأنَّ أذنابَها شِبهُ الحَيَّاتِ، ولَها رؤوسٌ وبِها تَضُرُّ. وأمّا بَقيَّةُ النَّاسِ الّذينَ لَمْ يُقتَلوا بِهَذِهِ الضَّرباتِ، فَلمْ يَتُوبوا عن أعمالِ أيدِيهمْ، حتّى لا يَسجُدوا للشَّياطِينِ، وأصنامِ الذّهبِ والفِضَّةِ والنّحاسِ والحَجَرِ والخَشَبِ الّتي لا تستطيعُ أن تُبصِرَ ولا تَسْمَعَ ولا تَمشي، ولا تابُوا عَنْ قَتلِهم ولا عَنْ سِحرِهم ولا عَنْ زِناهُم ولا عَنْ سَرِقَتِهم."


في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا يوحنّا الرَّسول مشهدًا مُخيفًا، يُخبرنا فيه عن اضطهاد الامبراطور للمؤمِنِين بالربّ، مستَعينًا بكلِّ قوّته وكلِّ آلهته، لحثِّهم على تَرك الله وجذبهم إلى عبادة الأصنام. وفي هذا الإصحاح، يخبرنا يوحنّا الرَّسول أنَّ المؤمِنِين بالربِّ سيتعرَّضون للاضطهاد، لمدَّة "خمسةَ أشهر"، أي لفترةٍ من الزَّمن ليست كاملة، إذ لا بُدَّ للاضطهاد أن ينتهي؛ ويُخبرنا أيضًا أنّ بَعض المؤمنِين سيتراجعون عن إيمانهم بسبب تعرُّضهم للاضطهاد، وَهُم الّذين قَصَدهم بِقَولِه: "الّذينَ لَيسَ لَهم خَتمُ اللهِ على جِباهِهِم". لذلك سعى يوحنّا الرَّسول إلى تشديد المؤمنِين وحثِّهم على الثَّبات في إيمانهم وسطَ الاضطهاد، داعيًا إيّاهم إلى رَفض الخضوع للأصنام، لأنّ "مَن يَصبُر إلى المنتهى، فذاك يَخلُص".
يقول لنا يوحنّا الرَّسول: "وأمّا بَقيَّةُ النَّاسِ الّذينَ لَمْ يُقتَلوا بِهَذِهِ الضَّرباتِ، فَلمْ يَتُوبوا عن أعمالِ أيدِيهم، حتّى لا يَسجُدوا للشَّياطِينِ، وأصنامِ الذّهبِ والفِضَّةِ والنّحاسِ والحَجَرِ والخَشَبِ الّتي لا تستطيعُ أن تُبصِرَ ولا تَسْمَعَ ولا تَمشي، ولا تابُوا عَنْ قَتلِهم ولا عَنْ سِحرِهم ولا عَنْ زناهُم ولا عَنْ سَرِقَتِهم". إنّ هاتَين الآيَتَين الأخيرَتين من هذا الإصحاح، تُوجِزان لنا ما أراد يوحنّا الرَّسول قولَه للمؤمنِين، ألا وهو: تَنْبيههم وتحذيرهم مِن الوقوع في عبادة الأصنام، تحت الضَّغط والخوف. وفي هذا الإصحاح، نَقَل إلينا يوحنّا الرَّسول صُورَةً، دَفعَتْ البعض إلى اعتبارها صُورَةً عن فيروس كورونا الّذي يجتاح عالمنا اليوم، لِما لِهذه الصُّورَة من تَشابُهٍ مع صورة هذا الفيروس كما تُصوِّره لنا وسائل التَّواصل الاجتماعيّ: "شَكلُ الجَرادِ شِبهُ خَيْل مُهيّأةٍ للحربِ، وعلى رؤوسِها كأكاليلَ شِبهِ الذَّهَبِ، ووُجوهُها كَوُجوهِ النَّاسِ. وكانَ لها شَعْرٌ كَشَعرِ النِّساءِ، وكانَتْ أسنانُها كأسنانِ الأُسُودِ، وكانَ لَها دُروعٌ كَدُروعٍ من حديدٍ، وَصَوتُ أَجنِحَتِها كَصَوتِ مَرْكَباتِ خَيْلٍ كَثيرةٍ تَجري إلى قِتال. ولَها أذنابٌ شِبْهُ العَقَاربِ، وكانَتْ في أذنابِها حُماتٌ، وسُلطانُها أنْ تُؤذيَ النَّاسَ خَمسَةَ أَشهُرٍ". إخوتي، من خلال هذا الكلام، لَم يُرِد يوحنّا الرَّسول إخبارنا عن فيروس كورونا، إنّما عن الضَّغط الّذي سيُمارِسه الأشرار وعُبَّاد الأصنام على المؤمنِين بِهَدف دَفعهم إلى التخلّي عن إلههم والسُّجود للأصنام. إنّ الأصنام لا تعني فقط التمائيل الحجريّة، فالأصنام قد تتخِّذ في حياتنا أشكالاً متنِّوعة: المال، والسُّلطة، والجمال، والعِلم في بعض الأحيان، إذ قد تدفعنا هذه الأمور إلى تَحييد الله عن حياتنا واتِّباع الأصنام. إذًا، في هذا الإصحاح، يُخيرنا الرَّسول يوحنّا أنَّ بعض المؤمنِين قد رَضخوا لعبادة الأصنام، في حين أنَّ البعض الآخر بَقُوا متمسِّكِين بإيمانهم بالربّ. وهنا يُطرَح السُّؤال على كلِّ واحدٍ منّا: إلى أيَّة فئةٍ مِنهما، هو ينتمي؟ لا أحد يملك جوابًا عن هذا السُّؤال سوى الإنسان نَفسِه. إنّ عبارة "زِنى"، الّتي استخدمها يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، تَعني تَرْكَ المؤمنِ عبادةَ الله، لاتِّباع الأصنام. إنّ إله الامبراطور هو إلهٌ صَنم، والامبراطور هو إلهٌ وَهميّ، يملِكُ سلطةً وقوّةً وَهمِيَّتَين تدفعان النّاس إلى الخضوع له، خوفًا من العِقاب في حال عدم الاستجابة لأوامره. في هذا الزَّمن، نحن نعيش سِفر الرُّؤيا، لا بتفاصيله التاريخيّة إنّما بتفاصيله الأدبيّة، أي أنّنا نعيش الـمَغزى الرُّوحي لِسِفر الرُّؤيا. في هذه الأيّام الصَّعبة الّتي نمرُّ بها، نشعر في الكثير من الأحيان، وكأنّنا مُضطَّرون إلى تَركِ عبادتنا لله، من أجل عبادتٍ أخرى، كي نتمكَّن من ترتيب أمورنا الأرضيّة، والاستمرار في هذه الحياة الفانية. إنّ سِفر الرُّؤيا اليوم هو في أَوَّج فعّاليّته، إذ على المؤمنِين قراءته في هذه الأيّام، ليتمكّنوا من الحصول على التعزية الإلهيّة ومِن إدراك مصيرهم بعد انتهاء هذه الأزمة الّتي يمرُّون بها، إذ استمرُّوا في ثباتهم على كلمة الله. في زمن الاضطهاد، على المؤمنِين لا الخوف والرُّضوخ للعبادات الوثنيّة للحفاظ على حياتهم الارضيّة، إنّما التحلّي بالصَّبر لاجتياز هذه المرحلة، إذ يُخبرنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر أنَّ مصيرَ الثَّابتِين في كلمة الله، سيكون الجلوس على العرش السّماويّ مع الربِّ يسوع، ومشاركة الملائكة في تسبيح الله. إذًا، في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول من خلال هذا المشهد المخيف عمّا سيقوم به غير المؤمِنين بالله بالّذين يؤمنون بالله.

إخوتي، إنّ الموت لا يُخيف، ولكنّ صُوَر الموت المتعدِّدة والّتي يختبرها المؤمِن في كلّ يوم هي الّتي تُخيفه، لأنّ الإنسان يُواجه الموت مرَّة واحدة في حياته، فَمَتى مات بالجسد انتهَتْ كلّ معاناته الأرضيّة، ولكنْ صُوَر الموت ترافقه في كلّ يوم، وهي: الجوع، وعدم الأمان الاجتماعيّ، وعدم القدرة على تأمين الحاجات الأساسيّة. في هذا الزَّمن الّذي نعيشه، والّذي فيه نواجه صعوباتٍ على كافَّة الصُّعُد، نتوقَّع الحصول على المساعدة من الدَّولة، الّتي تعكس صُورَة الامبراطور القهّار، إذ تستغلُّ سُلطتها للتسلُّط على شعبها، والسَّعي إلى إخضاعه لعباداتٍ وثنيّة، وإبعاده عن الله. إنّ كلَّ سلطةٍ أرضيّة مجبولةٌ بالتسَلُّط على الآخَرين، ما عدا سُلطة الحبّ، لأنّها هِبَةٌ من السَّماء للبشر. إنّ الحَيَّات والعَقارب، والجرّاد في الأرض، هي صُوَرٌ استخدمَها يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح للدلالة على كلِّ سُلطةٍ بشريّة. إنّ الجراد هو حيوانٌ يأكلُ الأخضَر واليابس، وقد كان الجَراد إحدى الضَّربات العَشِر الّتي ألقاها الله على فِرعون في مِصر، قَبْل تحريره الشَّعب اليهوديّ. كان فِرعون يَعبُد الإله الصَّنم، أمّا موسى فكان يَعبُد الله الحيّ. إنّ اضطهاد المؤمنِين لا يكون فقط اضطهادًا بواسطة السَّيف، فالاضطهاد له أشكالٌ متنوعة: كالجوع، والعزلة. إنّ إيماننا بالمسيح يسوع يدفعنا إلى الثّبات في كلمته وعدم القبول بالمساومة عليها مع الشَّر، متسلِّحين بالصَّبر الّذي هو صَبرُ القدِّيسِين، كما يقول لنا الكِتاب. إذًا، في هذا الإصحاح، يدعونا يوحنّا الرَّسول إلى العمل على غَلَبة الشّرير، مِن خلال اتِّباع طريق الصَّليب، الّذي سَلَكه الربُّ يسوع؛ وأيُّ طريقٍ أخرى يتّبعها المؤمن للغلبة هي طريقٌ تقوده ليكون ضِمن المحرِّضِين على تَركِ عبادة الربّ. إنّ طريق الصَّليب، تجعل المؤمِن في الظّاهر، يبدو للأشرار، ضغيفًا وميّتًا؛ في حين أنّ اتّباعه لِهذه الطريق يجعله في الحقيقة قائمًا وجالسًا على العرش السَّماويّ. إنّ الربَّ يسوع هو الضمانة الوحيدة لفعاليّة هذه الطريق، وهذا ما يؤكِّده لنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر. إنَّ الربَّ لا يتدخَّل بشكلٍ فوريّ في حياة المؤمن لِتَجنيبه الاضطهاد عندما يتعرَّض له، بل يدفع المؤمنَ إلى مواجهة هذه الصُّعوبات انطلاقًا من إيمانه بالربّ: فإذا سَكتَ المؤمنُ عن الحقّ، أصبحَ مُناصِرًا للباطل؛ وإذا كان مدافعًا عن الحقّ، أي كلمة الله، نال الملكوت. لذلك، على المؤمِن عدم الاستكانة وعدم التَّراخي في تأدية الدَّورِ المطلوب منه في كنيسته ووَطنه ومجتمعه. إنّ الله لا يَقوم بما على الإنسان القيام به، وبالتّالي على المؤمن أن يتحمّل مسؤوليّته كمؤمنٍ بَدَلَ أن يرمي تلك المسؤوليّة على الله. إنّ الإنسان الّذي ينتظر من الله أن يقوم بكلِّ شيءٍ بدلاً منه، هو إنسانٌ عاجزٌ عن رؤية الله عندما تواجِهُه الصُّعوبات، فيظُنُّ أنّ الله لم يستَجِبِ طلباته، وأنّ الله قد تخلَّى عنه في وَقت الأزمة. إنّ صُورَة الإله الموجودة في أذهاننا تُعبِّر عن الإله الصَّنم الموجود في حياتنا، لا عن الإله الحقيقيّ الّذي نؤمِن به.
ويقول لنا يوحنّا الرَّسول: "ولَها مَلاكُ الهاوِيَةِ مَلِكًا عليها، اسْمُهُ بِالعِبرانيّةِ "أَبَدُّونَ"، وله باليونانيَّةِ اسْمُ "أَبولِّيُونَ". إنّ اسم "أَبولِّيون" أو "أبَدُّون"، يعني الـمُبيد، الـمُدمِّر، الهالِك. هذا ما نواجهه في هذه الأيّام الصَّعبة، إذ إنّ بعض المجموعات الّتي اتَّخذت مِنَ الشَّر مَلِكًا عليها، تسعى جاهدةً إلى إخضاع المؤمنِين لعبادة الأصنام، وحثِّهم على الابتعاد عن الله، وهي بمعنى آخر تسعى إلى إبادة الإنسان إذ تمنعه من الحصول على الملكوت. وهنا نسأل: ما هي نظرتُنا كمؤمِنِين إلى المستقبَل؟ بِمَن نَضع رجاءنا؟ للأسف، إنّ المؤمنِين في أيّامنا، قد اعتادوا على الاسترخاء، لذا نجِدهم حاضِرين للاستسلام والتخلِّي عن الله عند أوّل صعوبةٍ يواجِهونها. إنّ نظرة المؤمنِين إلى الله تقوم على الاعتقاد بأنّه مُلبيّ رغباتهم، وعندما يتفاجأون بعدم تلبيته لها، يُسارِعون إلى التَّعامل معه على أنّه صَنمٌ، تمامًا كما يَفعل الوثنيُّون مع آلهتهم، فينقُلونه من مكانٍ إلى آخر، واضِعين إيّاه على هامِش حياتهم. هكذا أيضًا يتصرَّف الوثنيّون: إذ إنّ لكلّ مدينةٍ وثنيّةٍ إلهها. عندما تشنُّ مدينةٌ وثنيّةٌ حربًا على مدينةٍ وثنيّةٍ أخرى وتنتصر عليها، فإنّ المدينة المهزومة في هذه الحرب، تسارع إلى التخلِّي عن إلهها، لِتَخضع لإله المدينة المنتصرة في الحرب. وهذا ما نقوم به نحن أيضًا: إذ عندما تواجهنا صعوباتٌ معيشيّة، نُسارع إلى تهديد الله بالتخلِّي عنه إنْ لم يستَجِب لِطِلباتنا. هذه هي طريقة اليهود في التَّعامل مع الله. للأسف، لقد أصبح المسيحيُّون منقسِمِين إلى أقسامٍ ثلاثة: قِسمٌ يتعامل مع الله كما يتعامل اليهود مع الله، وقِسمٌ يتعامل مع الله كما يتعامل الوثنيُّون مع آلهتهم، وَقسمٌ يشكِّل "القِلَّة القليلة" الّتي لا زالت تحافظ على "خَتمِ الله على جِباهها". إنّ وجود هذه المجموعة الأخيرة من المؤمنِين أي الّتي نُسمِّيها "القلَّة القليلة"، لا يعني أبدًا أنَّ الله قد مَيَّزها عن سائر المؤمنِين بل يعني أنَّ هؤلاء قد اجتهدوا للمحافظة على خَتمِ الله على جباههم. إنَّ الإنسان يُطِلُّ على الآخَرين بواسِطَة جبهَته، الّتي تعكس للآخَرين وجه الله في المؤمِن، ولذلك يُقال عن المؤمنِين إنّهم "أيقونة الله" في هذا العالم. في الإصحاحات القادمة، سنكتشِف وجودَ خَتمٍ آخر يُوسَم به الإنسان، غير خَتمِ الله، وهو "666". إنَّ وجود هذا الخَتمِ على جبهَةِ الإنسان يُشير إلى قبول الإنسان بالتَّعامل مع صاحب الخَتم، ألا وهو الشَّرير، الـمُمَثَّل بعبادة الأصنام. على المؤمن عدم التوقُّف عند حرفيّة هذا الرَّقم الموجود على الخَتم، إنّما عند معناه الرُّوحيّ.

عند قراءته سِفر الرُّؤيا، يسعى المؤمن إلى قراءته على أنّه توُّقعاتٍ تتحقَّق في عَصرِنا، فيسعى إلى مطابقة الأحداث الّتي تحصل في أيّامنا مع أحداث سِفر الرُّؤيا؛ في حين أنّه على الإنسان قراءة سِفر الرُّؤيا للحصول على التعزية الإلهيّة الّتي تُساعدنا على مواجهة صعوباتنا اليوميّة في ظلّ هذه الظروف الصّعبة. وبالتّالي، على المؤمِن ليس إدخال أحداث اليوم إلى سِفر الرّؤيا، بل إدخال سِفر الرُّؤيا إلى حياته اليوميّة. إنّ نظرةَ المؤمِن إلى أحداث سِفر الرؤيا على أنّها توقُّعاتٍ تتحقَّق في هذه الأيّام، مِن شأنها أن تدفعه إلى اهمال مسؤوليّته القائمة على اتِّخاذ القرار في اتِّباع الله، ورَفضِ العبادات الأخرى. إنّ المؤمِن الذّي يُقرِّر اتِّباع الله، عليه القبول بالصَّليب، إذ لا يمكن للإنسان أن يؤمن بالمسيح القائم من الموت، ويرفض الإيمان بالمسيح المصلوب: فَمَن يَقبل بالمسيح القائم من الموت، عليه أن يَقبل بالمسيح المصلوب؛ وبالـتّالي، لا قيامة مِن دون صليب. في هذا الإطار، قال لنا بولس الرَّسول: "أنا لم أعرف شيئًا بينكم إلّا المسيح وإيّاه مصلوبًا". إنّ هذا المسيح الّذي نؤمن به، صُلِب أوّلاً ثمّ قام، وبالتّالي لا يمكننا الإيمان بالمسيح المصلوب من دون أن يكون لدينا الاستعداد للقيام بالتضحيات، أقلَّه بِتَضحيّة واحدة صغيرة: على مستوى أهوائنا أو مصالحِنا أو رغباتنا، أو خوفنا، أو قبولِنا بالرِّشى. إذًا، الصَّليب هو مِن أساس إيماننا المسيحيّ: فهذا الموضوع لا يهدِف إلى دَغدغتنا الرُّوحيّة، بل إلى إعطائنا شِحنةً تساعدنا على احتمال الصُّعوبات. إنّ نظرَتنا للصَّليب مِن شأنِها أن تُعزِّينا وتقوِّينا بالكلمة المذبوحة، يسوع المسيح، فيسوع المسيح قد غَلب الموت بالصَّليب. إنّ قبولَنا بالمسيح، يعني قبولَنا بالصَّليب، وبالتّالي هذا يُحتِّم علينا القيام بالمزيد من التضحيات تجاه الآخَرين. إذًا، لا يمكننا إلغاء الصّليب من حياتنا المسيحيّة بسبب عدم رغبتنا في القيام بالتَّضحيات. إنّ هذا الزَّمن هو فرصةٌ لنا لِنَختبر ما هو ذَهبٌ حقيقيّ وما هو خشبيّ، أي بمعنى آخر ما هو صالحٌ في حياتنا فنحافظ عليه، وما هو غير صالح فنتخلَّى عنه. إنّ الّذهب يُمتَحن بالنّار، أي بالتَّعب وبمواجهة التحدِّيات. إنَّ الوقت قد حان للتخلِّي عن الدَّلع، أيّها المسيحيّون! إذ حان الوقت لاتِّخاذ المواقف الحياتيّة الّتي تُعبِّر عن إيماننا، فنناصِرُ الحقَّ مهما كان الثّمن، متمسِّكين برجائنا بأنّ بَعد هذه الحياة الفانية، سيكون نصيبنا في الملكوت. إنّ هذا الكلام لا يعني أبدًا تقديس الألَم والعذاب، فنحن نرفضه، ولكنْ هذا الكلام يعني أنْ نكون على استعداد لمواجهة الألم والعذاب حين يعترِض حياتنا، من خلال إيماننا بالربِّ يسوع. لا يمكننا أن نُحبَّ ونخدمَ ونقول الحقَّ من دون أن يُكلِّفنا ذلك وَجعًا، ولا يمكننا أن نكون ثابِتِين على قِيَمنا ومبادِئِنا المسيحيّة من دون أن نواجه الآلام والعذاب؛ فالّذي لا يتوجَّع من إيمانه بالربّ، ومِن ثَباته في مبادئه المسيحيّة، ومِن محبّته للآخَرين، ومِن عطائه، فذلك يعني بالتّأكيد أنَّ هذا الإنسان يساوم على الحقّ، ويعيش إزدواجيّة في حياته. إنّ الحقيقة الأساسيّة الّتي لا خلافَ عليها هي الموت: فَقَدْ يَختَلِف اثنان على وجود الله أو عدمِه، ولكن لا يختلف اثنان على وجود الموت. إذًا، الموت هو أكثر حقيقةً مِن الله، عند النّاس، لأنّهم يَرونَه في كلّ لحظةٍ من حياتهم، على عكسِ الله الّذي لا يرَونه في وقت الضّيقات. وهذا ما يبرِّر خوف البشر من الموت، لِدَرجةٍ أنّهم أصبحوا مستَّعدين لِتَركِ الله للمحافظة على حياتهم الفانية الأرضيّة، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول عندما قال لنا بما معناه إنّ خوف النّاس من الموت، جَعلَهم يقعون في العبوديّة. أمّا المسيحيّ المؤمن، فعليه أن ينظر إلى الموت، ويحاول أن يتخطَّاه قدر الإمكان؛ ولكنْ عندما لم يتمكَّن من تَجنُّبه نهائيًّا، سعى المؤمِن إلى مواجهة الموت انطلاقًا من إيمانه بالربّ، إذ لا يمكن للإنسان أن يُواجه الموت، بذهنيّة الخاسر، بل بذهنيّة المنتصر، كما انتصر الربُّ يسوع على الموت. إنّ الربَّ يسوع لم يختَر الموت على الصَّليب، ولَم يبحَث عنه، ولكنّه وَاجهه عندما اعترَض حياته، فانتصَر عليه، حين قام من الموت. ونحن اليوم، مدعوّون إلى مواجهة مصيرنا في هذا الزَّمن، ولكنَّ السؤال الّذي يُطرَح اليوم علينا: هل سنواجه صعوباتنا اليوم ونحن ثابتون في إيماننا بالربّ، أم سنَقع في أفخاخ الشِّرير، فنترك الله لِنَعبُد الأصنام؟ هنا صَبرُ القدِّيسِين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
3/11/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الثامن مواجهة الصعوبات بكلمة الله
https://youtu.be/ISga63KJM10

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الثامن
مع الأب ابراهيم سعد


3/11/2020

"وَلَمّا فَتَحَ الخَتمَ السَّابِع، حَدَثَ سُكوتٌ في السَّماءِ نحوَ نِصفِ ساعةٍ. ورأيْتُ السَّبعةَ الملائكَةِ الّذينَ يَقِفونَ أمامَ الله، وقَد أُعطوا سَبعَةَ أبواق. وجاءَ مَلاكٌ آخَرَ وَوَقفَ عندَ المذبَحِ، ومَعَهُ مِبخَرةٌ مِن ذَهبٍ، وأُعطِيَ بَخورًا كَثيرًا لِكَي يُقدِّمَهُ مَعَ صلواتِ القدِّيسِينَ جميعِهم على مَذَبحِ الذَّهبِ الّذي أمام العرشِ. فَصَعِدَ دُخانُ البَخورِ معَ صلواتِ القدِّيسِين مِن يَدِ الملاكِ أمامَ اللهِ. ثُمَّ أَخَذَ الملاكُ الـمِبخرةَ وملأها مِن نارِ الـمَذبَحِ وألقاها إلى الأرضِ، فَحَدَثَتْ أصواتٌ ورُعودٌ وبُروقٌ وزَلزلَةٌ. ثُمَّ إنَّ السَّبعةَ الملائكَةِ الّذينَ مَعهم السَّبعةُ الأبواقُ تَهيَّأوا لِكَي يُبَوِّقوا. فَبَوَّقَ الملاكُ الأوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ ونارٌ مَخلوطانِ بِدَمٍ، وأُلقِيا إلى الأرضِ، فاحتَرَقَ ثُلثُ الأشجارِ، واحتَرَقَ كُلُّ عُشبٍ أخضَرَ. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الثَّاني، فكأنَّ جَبلاً عَظيمًا مُتَّقِدًا بالنَّارِ أُلقِيَ إلى البَحرِ، فَصَارَ ثُلثُ البَحرِ دَمًا. وماتَ ثُلثُ الخلائِقِ الّتي في البَحرِ الّتي لَها حَياةٌ، وأُهلِكَ ثُلثُ السُّفُنِ. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الثالثُ، فسَقَطَ مِن السَّماءِ كَوكَبٌ عَظيمٌ مُتَّقِدٌ كمِصباحٍ، وَوَقَعَ على ثُلثِ الأنهارِ وعلى ينابيعَ المِياهِ. واسْمُ الكوكَبِ يُدعى "الأَفْسَنْتِينُ". فصارَ ثُلُثُ المياه أفْسَنْتِينًا، وماتَ كَثيرونَ مِن النَّاسِ مِنَ المياهِ لأنّها صارتْ مُرَّةً. ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الرَّابِعُ، فَضُرِبَ ثُلُثُ الشَّمسِ وثُلثُ القَمَرِ وثُلثُ النُّجومِ، حتَّى يُظلِمَ ثُلثُهُنَّ، والنَّهارُ لا يُضيءُ ثُلثُهُ، واللَّيلُ كَذَلِك. ثُمَّ نَظَرتُ وسَمِعتُ مَلاكًا طائرًا في وَسَطِ السَّماءِ قائلاً بِصَوتٍ عَظيمٍ: "وَيلٌ! وَيلٌ! وَيلٌ للسَّاكِنينَ على الأرضِ مِن أجلِ بَقيَّةِ أصواتِ أبواقِ الثَّلاثَةِ الملائكةِ الـمُزمِعِي أن يُبَوِّقوا!"

في بداية هذا النَّص، نقرأ أنَّ الخَتمَ السَّابع قد فُتِح، وكُنّا نتوقَّع عندئذٍ أنْ نرى نهاية هذا العالم، إلّا أنّ كاتب هذا النَّص، الرَّسول يوحنّا، أخبرنا أنّه بَعد أن فُتِح الخَتمُ السَّابع، رأى سبعة ملائكة يتهيَّأون للتَّبويق. في بعض الأحيان، قد ينتظر الإنسان رؤية بعض العلامات ليُدرِك أنَّ الآخَرة أصبحت قريبة، إلّا أنّه يتفاجأ أنّها لا تُبشِّره بما كان يتوقَّع حدوثه. وما نعيشه في عالمنا اليوم من أزمات، يدفع البعض إلى الاعتقاد أنَّ نهاية العالم قد أصبحت قريبة، إذ ينظرون إلى ما يحدث حولهم على أنّه علامات تُبشِّر بذلك؛ غير أنّ ذلك غير صحيح، لأنّ الآخِرة لا يستطيع أحد تحديد موعِد حصولها من خلال علامات، لأنّ هذه العلامات تُحدِّد ما سَيَحدث قَبْل مجيء المسيح الثاني، فيتمكَّن المضطَهدون مِن أجل إيمانهم والمعذّبون في هذا العالم والـمُخلِصون للربّ، مِن الثبات في إيمانهم، لإدراكهم أنّه في مجيئه الثاني، سيمسح الربُّ كلّ دمعةٍ من عيونهم. إذًا، من خلال هذا الإصحاح، أراد يوحنّا الرَّسول أن يقول لنا إنّ هذا الزَّمن الّذي نعيشه في هذا العالم، مع كلّ ما يحتويه من صعوباتٍ، هو فرصةٌ لكلِّ مؤمن كي يزداد ثباتًا في إيمانه بالربّ، كما أنّه فرصةٌ لكلِّ إنسان لا يزال متمسِّكًا بعباداته الوثنيّة كي يتوب إلى الربّ، لينال الخلاص. وهنا يُطرَح السُّؤال: هل نستطيع أن نرى في كلّ ما يحدث حولنا في هذا العالم، من حوادث وضربات، على أنّها فرصةٌ لنا للتَّوبة تَهيُّؤًا للمجيء الثاني، أم أنّنا نجد فيها فرصةً للبقاء في خطايانا؟

يبدأ هذا الإصحاح بِدَهشةٍ عند المؤمنِين، إذ بعد إصحاحٍ مليء بالتسابيح والتمجيد للربّ، ها هوذا الرَّسول يُخبرنا عن نِصف ساعةٍ من السُّكوت في السّماء. إنّ مُدَّة "نِصف ساعة" هي مُدَّة قصيرة، هي قِسمٌ من الزَّمن لا الزَّمن كلَّه، وكذلك عبارة "الثُلثُ" تُشير إلى فترة قصيرة من الزَّمن أو جزءٍ صغيرٍ من الشيء. إذًا، في هذا الإصحاح، يُكلِّمنا الرَّسول، على ضربات وحوادث سيتعرَّض لها المؤمنِون بالربّ لِمدَّةٍ قصيرة مِن الزَّمن.
ويتابع الرَّسول كلامه في هذا الإصحاح، فيخبرنا عن سبعة ملائكة واقفِين أمام المذبح وفي أيديهم أبواق، لا ليسبِّحوا الله، إنّما ليبوِّقوا؛ والتبويق في القديم كان يُشير إلى حدوث أمرٍ جَلَل، كالاستعداد للحرب. من خلال هذا الكلام، أراد الرَّسول أن يُنَبِّه المؤمنِين بالربّ، إلى ضرورة الثبات في إيمانهم وسط الحوادث والضربات الّتي ستحدث في هذا العالم، كما أراد أن يحثَّ الخطأة إلى الاستفادة من كلّ تلك الأحداث، وإعلان توبَتِهم إلى الربّ.
"وجاءَ مَلاكٌ آخَرَ وَوَقفَ عندَ المذبَحِ، ومَعَهُ مِبخَرةٌ مِن ذَهبٍ، وأُعطِيَ بَخورًا كَثيرًا لِكَي يُقدِّمَهُ مَعَ صلواتِ القدِّيسِينَ جميعِهم على مَذَبحِ الذَّهبِ الّذي أمام العرشِ": إنّ عبارة "المذبح" في العهد الجديد مرتبطة بذبيحة الصَّليب؛ وبالتّالي، فإنَّ المقصود بعبارة "المذبح" هنا، الحَدث الخلاصيّ الّذي تمَّ على الصَّليب. إنّ الكاهن هو الّذي يحمل الـمِبخرة ويُبَخِّر في العهد الجديد؛ وبالتّالي، إنّ الكاهن الأوحد في العهد الجديد هو الربِّ يسوع، وهو في الوقت نفسه، الحَمَل المذبوح على الصَّليب: هو "المقدِّم والمقدَّم"، بحسب تعبير اللّيتورجيا الشرقيّة في الكنيسة. يقول لنا الرَّسول إنّ هذا الكاهن يُبخِّر بواسطة مِبخرة من ذهب، أي بِمبخرةٍ ملوكيّة، وبالتّالي هذا الكاهن هو مَلِكٌ. ويُخبرنا الرَّسول أنّ رَفْعَ البخور كان مترافِقًا مع صلوات القدِّيسِين. إنّ صلوات القدِّيسين، مهما كانت كثيرة، فإنّها من دون هذا الكاهن الّذي يبخِّر بمبخرةٍ من ذهب، أي الربِّ يسوع، لا نَفعَ لها، لأنّنا لا نستطيع اللّجوء إلى شفاعة القدِّيسِين بِمَعزِل عن الربّ، إذ لا يمكننا وَضع القدِّيسِين مكان الله. إذًا، التناغم والانسجام بين عمل الربّ وصلوات القدِّيسِين، هو شرطٌ أساسيّ في موضوع التضرُّع إلى الله الجالس على العرش. إنّ الرَّسول يوحنّا قد جَمَع بين المذبح والعرش: وهذا يعني أنَّ الصَّليبَ هو عرشُ المسيح على الأرض حيث سَكَب دَمه؛ والعرش السماويّ هو عرش المسيح الّذي هو الحَمَل المذبوح في الوقت نفسه، لذلك نجد في كلام الرَّسول تعزية للمؤمنِين المضطَهَدين، وتنبيهًا للخطأة.
"فَصَعِدَ دُخانُ البَخورِ معَ صلواتِ القدِّيسِين مِن يَدِ الملاكِ أمامَ اللهِ"، وهذا دليل على أنّ صلوات القدِّيسِين مستجابة أمام الله. عِوَضَ أن يبدأ الرَّسول يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، بِسَردٍ للأحداث المخيفة الّتي لا بُدَّ لها من أن تحدث، بدأ كلامه بالحديث عن مِبخرة وبخور وصلوات القدِّيسِين، كما رأينا في الإصحاح السّابق عن الأحصنة، إذ بدأ كلامه على فَرسٍ بيضاء تُشير إلى الانتصار في المعركة، قَبْل انتقاله للكلام على بقيّة الأحصنة الّتي تُنبِئ بالمجاعة والأمراض والموت.

"ثُمَّ أَخَذَ الملاكُ الـمِبخرةَ ومَلأها مِن نارِ الـمَذبَحِ وألقاها إلى الأرضِ، فَحَدَثَتْ أصواتٌ ورُعودٌ وبُروقٌ وزَلزلَةٌ": هنا، يُخبرنا الرّسول يوحنّا أنَّنا سنكون في مواجهة مع الجوع والأمراض، والهرطقات، وأحداثٍ أليمةٍ أخرى. إنَّ الهرطقة، بالنِّسبة إلى الكاتب، شبيهةٌ بالأمراض والضربات الّتي سنتعرَّض لها، إذ إنَّها تُصبح فرصةً لنا للتَّوبة. إنّ "الأَفْسَنتِين" هي عُشبَةٌ مرَّة، تَرمز إلى البِدَع الّتي تسعى إلى إبعاد النَّاس عن الإيمان. إنّ الهرطقات تزرع المرارة في هذا العالم، وقد أُصيبَ بعض المؤمنِين بِتِلك المرارة لانجرارهم وراء الهرطقات، فتركوا الإيمان بالربّ، إمّا خوفًا وترهيبًا، وإمّا رشوةً وترغيبًا. هكذا هي التجارب الّتي نواجهها في حياتنا، فهي إمّا أن تكون ناتجة عن خوف أو عن إغراء. كان بطرس في مواجهةٍ مع الخوف، فأنكر الربّ، وسقَط بالتّالي في التَّجربة. أمّا يهوذا، فكان في مواجهةٍ مع الإغراء حين باع الربّ وسلَّمه إلى الموت، فسَقط هو أيضًا في التَّجربة. عندما سقطا في التَّجربة، أصبح كُلٌّ مِن بطرس ويهوذا، ضِدَّ المسيح، لأنّ موقِفَيْهِما عبَّرا عن عداوتهما للمسيح. وهنا يُطرَح السُّؤال على كلِّ واحدٍ منّا: كَم من المرَّات نُعبِّر عن عداوتِنا للمسيح مِن خلال مواقفنا، إثرَ سقوطِنا في تجربة ناتجة عن خوفٍ أو إغراء؟ إنّ عبارة "ضدَّ المسيح"، هي ترجمة لعبارةٍ يونانيّة تعني "المسيح الدَّجال". إنّ الامبراطور هو ضِدّ المسيح، وعبادة الامبراطور هي ضِدّ المسيح، والمؤمنون الّذين يرضخون لعبادة الامبراطور خوفًا أو إغراءً يُصبحون ضِدّ المسيح. إذًا، المسيح الدَّجال قد يكون شَخصًا، كما قد يكون فِكرةً، أو حتّى مجموعة أشخاص. في هذه الظروف الحياتيّة الّتي نعيشها في عالمنا اليوم، نحن نعيش سِفر الرُّؤيا، وبالتّالي، نجد أنفسَنا أمام تحدٍّ يفرِض علينا الاختيار ما بين أن نكون مع المسيح أو ضِدَّه. غير أنّنا كبشر، نسعى في الكثير من الأحيان، إلى اتِّخاذ المواقف الّتي تناسبنا، فنختار المسيح عندما يناسب كلامه مصالحنا، ونرفضه عندما يتعارض كلامه مع مصالحنا. ولكنَّ المؤمن الحقيقيّ هو الّذي يتَّخذ موقفًا يُعبِّر به عن إخلاصه لكلمة الله، وللشاهد الأمين، الحَمَل المذبوح، يسوع المسيح. ففي المواقف الّتي يتَّخذها الإنسان، يُمتَحن إيمانه بالربّ، لأنّ الإيمان هو كالذَّهب: فالذَّهب لا يُمتَحن إلّا في النَار، والإيمان لا يُمتَحن إلّا في المواقف وَقت الصُّعوبات. وبالتّالي، المؤمن الحقيقيّ بالربّ هو الّذي يُظهر ثباتَه في الإيمان وقت الصُّعوبات. وهنا نتذكَّر قول الرَّسول يوحنّا في بداية هذا السِّفر، إذ عرَّف عن نفسِه قائلاً: "أنا يُوحنَّا أَخوكم وشَرِيكُكُم في الضِّيقةِ وفي ملكوتِ يسوعَ المسيحِ وصَبرِهِ"(رؤيا 1: 9). وبالتّالي، إذا كُنّا نواجه الضِّيق والصُّعوبات وصَبَرنا إلى المنتهى، فإنّ ذلك سيؤدِّي من دون شكّ إلى مشاركتنا الملكوت مع الربِّ يسوع. في عالمنا اليوم، نَطرَح السُّؤال على ذواتنا: كم مِن المرَّات نلوم الله، ونعاتبه بسبب ما نتعرَّض له من الضِّيقات، لأنَّنا لم نشعر بأنّ ثباتنا في إيماننا به يؤدِّي إلى النتيجة الّتي نرجوها؟ في هذا الإصحاح، يَحثُّنا يوحنّا الرَّسول على الصَّبر على الصُّعوبات الّتي تعترضِنا، لأنّه مهما طالت الشِّدة الّتي نعاني منها، فإنّه لا بُدَّ لها مِن أن تنتهي، وسيأتي المسيح لا محالة لِيَمسح من عيوننا كلّ دمعةٍ. إذًا، المطلوب منّا أن نواجه تحدِّيات هذا العالم في حياتنا اليوميّة، من خلال مواقف تُعبِّر عن ثباتنا في الإيمان؛ إذ ليس علينا انتظار قدوم جماعاتٍ مُضطَهِدة لإيماننا بالربِّ يسوع، لنُعبِّر عن إيماننا به بالاستشهاد. فالاضطهاد لا يكون فقط بالقَتل الجسديّ للمؤمِن بالربّ، إذ قد يكون الاضطهاد من خلال أمورٍ صغيرةٍ نواجهها في حياتنا، تتطلَّب منّا موقفًا يُعبِّر عن إيماننا بالربّ. ويُكلِّمنا الرَّسول أيضًا في هذا الإصحاح على "بُروق ورُعود وزلزلة"، والّتي يرى فيها بعض مفسِّري الكِتاب المقدَّس، رموزًا تُعبِّر عن الحالة الدَّاخليّة الّتي يعيشها الإنسان والّتي قد تؤدِّي إلى زعزعة إيمانه أو ثباته فيه. إنّ الرَّعد هو أصوات، وبالتّالي هو يُشير إلى التَّجارب والتحدِّيات الّتي يواجهها المؤمِن في هذا العالم. إنّ التَّجارب الّتي تواجهنا في هذه الحياة تَضعنا أمام خيارَين: إمّا الموت الجسديّ ورِبح الحياة الأبديّة، وإمّا المحافظة على الحياة الأرضيّة وخسارة الحياة الأبديّة، أي الموت الرُّوحيّ.
إنّ الملائكة السّبعة تهيّأوا لكي يبوِّقوا، أي أنَّ الوقت قد حان لمواجهة التحديّات. "فَبَوَّقَ الملاكُ الأوَّلُ، فَحَدَثَ بَرَدٌ ونارٌ مَخلوطانِ بِدَمٍ، وأُلقِيا إلى الأرضِ، فاحتَرَقَ ثُلثُ الأشجارِ، واحتَرَقَ كُلُّ عُشبٍ أخضَرَ". في هذه الآية، يُعبِّر الرَّسول يوحنّا عن المجاعة الّتي سيواجهها المؤمنِون في هذا العالم، إذ سيشتهون كلمة الحياة، ولن تكون متوافرة في هذا العالم إلّا عند قلَّةٍ قليلة من البَشَر. كما يدفعنا الرَّسول إلى التفكير في موقفنا الخاصّ إذا تعرَّضنا لمجاعة حقيقيّة، إذ يُطرَح علينا السُّؤال: هل سيتمكَّن الجوع الأرضيّ من إبعادنا عن الكلمة الكفيلة بإشباعنا؟ إنّ القرار هو قرارٌ شخصيّ يتَّخذه كلّ مؤمنٍ منفردًا، وهو الّذي سيقرِّر إذا كان المؤمن سيَصبِرُ على الضِّيقات في سبيل المحافظة على إيمانه أم لا. إخوتي، إنّ الإنجيل ليس قصيدة تُغنَّى، بل هو موجودٌ بين أيدينا لكي نسعى إلى عيشه في حياتنا اليوميّة مع إخوتنا البشر، لا في أوقات صلاتنا الخاصّة فقط. نحن مدعوُّون إلى عيش الإنجيل وَسط إخوتنا البشر، والنَّاسُ أجناس: إذ مِنهم مَن هو صالح، ومَن هو سيئ، مَن هو غدّار، ومَن هو أمين، ومَن يريد الأذيّة للآخَرين، وَفِيهم مَن يريد إخضاع الآخَرين له من خلال إعطائهم رشواتٍ، وَفِيهم مَن يريد إخافتك. إنّ الرُّعود والبروق والزلازل نواجهها كلَّ يومٍ في حياتنا، وهنا يُطرَح السُّؤال: ما هو موقفنا أمام كلِّ واحدةٍ منها؟ إذًا، علينا أن نتهيَّأ للصُّعوبات: ففي البوق الأوّل صورة للمجاعة، إذ يُخبرنا الرَّسول عن احتراق الأشجار والأعشاب، وبالتّالي لا وجود للطَّعام.
"ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الثَّاني، فكأنَّ جَبلاً عَظيمًا مُتَّقِدًا بالنَّارِ أُلقِيَ إلى البَحرِ، فَصَارَ ثُلثُ البَحرِ دَمًا. وماتَ ثُلثُ الخلائِقِ الّتي في البَحرِ الّتي لَها حَياةٌ، وأُهلِكَ ثُلثُ السُّفُنِ": إنّ هذا الكلام يُشير إلى الموت، وأراد الكاتب مِن خلاله، أن يقول لنا إنَّ التواصل بيننا وبين الآخَرين سيتزعزع. تتعاظم الجماهير حول المؤمِن، حين يستقيل هذا الأخير من حَمْلِ لواء كلمة الحَقّ، كلمة الله؛ وتتضاءل الجماهير حوله، حين لا يَقْبَل المؤمِن بالمساومة على كلمة الله، مهما اشتَّدت الظروف عليه. حين يَتبَع المؤمن الربَّ يسوع، فإنّه سيتعرَّض لمواجهة شرسة مِنَ الآخَرين قد تقوده إلى الموت. أمام كلمة الله، لا حياد. في الإنجيل، كلّ حِياد هو موقف سلبيّ من الربّ. عندما تُحبُ شخصًا ويرفض هذا الأخير حُبَّك، فإنّه لن يَقف على الحياد منك، بل سيتحوَّل إلى عدوٍّ لك. إنّ الله لم يقف على الحياد؛ ونحن بين الحقّ والباطل، لا يمكننا الوقوف على الحياد، إذ يكفي أن نقول إنّنا لَسْنا مع الحقّ، لنكون ضِدَّ الحقّ، ولو لم نُعلِن ذلك صراحةً، بسبب خوفِنا أو قبولِنا بالاغراءات. إذًا، أمام أيّ تحدٍّ يواجهنا، نعيش ألم الاختيار: بين الحقّ والباطل. إنّ هذا الاصحاح يقول لنا إنّ هذا الزّمن هو فرصةٌ لنا للتَّوبة والرُّجوع إلى الله.

"ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الثالثُ، فسَقَطَ مِن السَّماءِ كَوكَبٌ عَظيمٌ مُتَّقِدٌ كمِصباحٍ، وَوَقَعَ على ثُلثِ الأنهارِ وعلى ينابيعَ المِياهِ. واسْمُ الكوكَبِ يُدعى "الأفْسَنْتِين". فصارَ ثُلُثُ المياه أفْسَنْتِينًا، وماتَ كَثيرونَ مِن النَّاسِ مِنَ المياهِ لأنّها صارتْ مُرَّةً". إنّ الكوكب العظيم الّذي سَقط من السَّماء، هو العبادات الوثنيّة في ذلك الوقت، أي عبادة الامبراطور وإلهه. إنّ خضوع المؤمِن للعبادات الوثنيّة هو الّذي يجعله يبتعد عن الله، وهذا ما سيجعله يشعر بالمرارة. إنّ اسم الكوكب هو "الأَفسَنتين" أي العُشبة المرّة، ووجودها في المياه، يجعل المياه ملوثّة. إنّ هذا الكوكب لن يتمكَّن من تلويث كلّ المياه إنّما ثُلثها أي قِسمًا منها. إنّ كثيرين سيموتون روحيًا لأنّهم قَبِلوا بالهرطقات والبِدَع. إنّ الرَّسول لا يُنبِّهنا فقط إلى الأحداث العالميّة الّتي ستحدث، بل أيضًا إلى العبادات والخُرافات والبِدَع، والأفكار الجديدة الّتي هي ضِدَّ المسيح. وإليكم مِثالاً مِن واقعنا: للأسف، إنَّ الكثيرين مِن أبناء الإيمان، يربطون الأحداث الّتي نمرُّ بها، بصِحَّة توقُّعات المنَّجمين، وهذا يدلُّ على حياد الإنسان عن الطريق الصَّحيح. وهنا نطرح السُّؤال: أين الله في حياتنا؟ وأين هو دور الرُّوح القدس فيها؟ في هذه الحياة، علينا أن نسعى إلى بناء مصيرنا ومواقفنا على وعود الله، لا على توقُّعات المنَجِّمين. إنّ هذا الكوكب الّذي سقط من السَّماء، يُشير إلى عبادات جديدة، ومفاهيم جديدة، وأفكار جديدة، هدّامة ينجذب إليها بعض المؤمنِين. وهنا يطرح السُّؤال علينا: أين نحن من كلّ هذه العبادات الجديدة؟ للأسف، كثيرون يُحبُّون الإصغاء إلى المنَجِّمين، وينهار كلّ كلام الله ووعوده لنا عند أوّل شِدَّة يتعرَّضون لها. إنّ فيروس كورونا مِن أكثر الصُوَر وضوحًا الّتي تدفعنا إلى الانتباه لكلام سِفر الرّؤيا، وكذلك الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة السَّيئة الّتي نعيشها بشكلٍ خاصّ في لبنان. في لبنان، نحن معرَّضون للجوع، للموت، للتَّعب، لعدم التفكير في الغَد، وهذا يجعلنا نركِّز على عَيْش مَلذّاتنا، وعلى حاجاتنا، وعلى رغباتنا الدنيويّة، مُتَناسين ضرورة سَعيِنا إلى الحياة الأبديّة. إنّ المؤمن يشترك مع الّذي بَخَّر بالمبخرة الذهبيّة، مع صلوات القدِّيسِين، فيتميَّز عن الآخَرين، بشكلٍ واضحٍ.
"ثُمَّ بَوَّقَ الملاكُ الرَّابِعُ، فَضُرِبَ ثُلُثُ الشَّمسِ وثُلثُ القَمَرِ وثُلثُ النُّجومِ، حتَّى يُظلِمَ ثُلثُهُنَّ، والنَّهارُ لا يُضيءُ ثُلثُهُ، واللَّيلُ كَذَلِك". إنَّ القمر والنُّجوم يرمزان إلى الأنوار. وبالتّالي، ما يَظُنُّه المؤمنُ نورًا في هذا العالم، هو نورٌ فانٍ، إذ لا نورًا حقيقيًّا في هذا العالم، إلّا نور الربِّ يسوع، وهو مَن علينا اتِّباعه.
"ثُمَّ نَظَرتُ وسَمِعتُ مَلاكًا طائرًا في وَسَطِ السَّماءِ قائلاً بِصَوتٍ عَظيمٍ: "وَيلٌ! وَيلٌ! وَيلٌ للسَّاكِنينَ على الأرضِ مِن أجلِ بَقيَّةِ أصواتِ أبواقِ الثَّلاثَةِ الملائكةِ الـمُزمِعِي أن يُبَوِّقوا!": الويلات الثّلاث هي للنّاس الّذين وقعوا في فخّ التَّجارب، فابتعدوا عن الإيمان.

إنّ كلّ هذه الصُّوَر موجودة في العهد القديم، أكان عند إرميا أو في سِفر الخروج عن ضربات مِصر، وهي تُعبِّر عن أحداثٍ سَتَقع في هذا العالم، ولكنْ إذا وَقعَتْ تلك الأحداث فهي لا تُشير بالضرورة إلى اقتراب نهاية العالم. ولكن السُّؤال الّذي يُطرَح: إذ وقَعَتْ كلّ تلك الأحداث في العالم، ماذا سيكون موقفك منها؟ فإنّ موقفك منها هو الّذي سيُقرِّر، لا نهاية الزَّمان، بل نهايتك أنت، أي مصير علاقتك مع الربّ. إنّ كلّ نهاية يَلِيها بداية: وبالتّالي، إذا كان موقفك منها يقوم على إنكارك للربّ، فإنّ بدايتك الجديدة ستكون ملَّخصة بِهَذه الكلمات: "وَيلُ ويلٌ، ويلٌ". هذا الكلام ليس تهديدًا، إنّما وَصفًا لواقِعِك الجديد بعد إنكارِك الربّ، تمامًا كما كان كلام الربِّ مع آدم، إذ وَصَف له الحالة الّـتي وصَل إليها، حين أكلَ من شجرة معرفة الخير والشَّر، قائلاً له:" فإنّك يوم تأكل منها تموت موتًا"(تك2: 17). في هذا الإصحاح، يُنبِّهنا إلى النتيجة الّتـي سنصل إليها إذ قرَّرنا الابتعاد عن الله، لذا يدعونا إلى التوَّبة. ولكن، كيف عسانا نواجه كلّ تلك الصُّعوبات؟ إنّنا لا نستطيع مواجهة الصُّعوبات إلّا بكلمة الله. فلا شيء يُقَويّنا في التّجارب إلّا كلمة الله أو أنْ نُسنِد ذواتنا إلى أشخاصٍ لديهم كلمة الله، أي القدِّيسِين. وبالتّالي، أمام واقع أليم مخيف والآتي أعظم، لا يمكننا إلّا التسلُّح بـ"الآتي الأعظم" أي الربِّ يسوع المسيح. والسُّؤال الّذي يُطرَح علينا: أنخافُ مِنَ المستقبل الآتي المخيف، أم ننتظر الربّ الآتي؟ عندما سأل بيلاطس اليهود: مَن يريدون أن يُطلَق سراحه: براباس القاتل؛ أم الربّ؟ إنّ اسم "براباس"، يعني "ابن الآب". وبالتّالي، كان سؤال بيلاطس للشَّعب: أتريدون أن أُطلق سراح برباس، ابن الآب المزّيَّف؛ أم يسوع المسيح، ابن الآب الحقيقيّ ؟ كان برباس يملك عقيدة دينيّة أرضيّة، يعتقد أنّه مِن خلالها يستطيع تحقيق الملكوت الّذي ينادي به الربُّ يسوع. هذا هو المسيح الدَّجال، والقرار يعود إلينا كمؤمنِين بالربّ، في اختيار مَن نريد: المسيح الدَّجال أم المسيح الحقيقيّ؟ هناك خيارَان أمامك، لا خيار واحدٌ، فوجود خَيارٍ واحد لا يعكس حريّة الإنسان. على الإنسان أن يختار بين هذين الخَيارَين، الخَيار الّذي يُعبِّر عن حريَّته.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
20/10/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح السّابع يقظة العقل وثبات الإيمان
https://youtu.be/NLF_4kpFOrc

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنا
الإصحاح السابع
الأب ابراهيم سعد

20/10/2020

إنَّ حديثنا اليوم هو عن "الـمُخلَّصِين". في هذا الإصحاح، نقرأ أنّ عدد الـمُخلَّصِين هو مئةٌ وأربعةٌ وأربَعون ألفًا، مِن أسباط إسرائيل، وهذا يعني أنّ الخلاص هو لكلِّ اسرائيل. إنّ الرَّقم "مئة وأربعة وأربعين ألفًا" يُقسَم كما يلي: 12x12x 1000؛ وهو يرمز إلى عددٍ غير محدود. ولكنَّ جماعة "شهود يهوه"، تتوقَّف عند حرفيّة هذا الرَّقم، فَتعتبر أنَّ عدد المخلَّصِين هو مئة وأربعةٌ وأربعون ألفًا فقط، وهُم في اعتقاد "شهود يهوه" من جماعتهم فقط. في الكتاب المقدَّس، إنَّ الرَّقم "ألف" يرمز إلى عددٍ غير محدود، وهو يساوي الرَّقم عشرة، - الّذي يرمز أيضًا إلى الكمال- ، مضروب بذاته مرّاتٍ ثلاث. وأيضًا يرمز الرَّقم "اثنا عشر" إلى الكُلِّية أي الشُّموليّة: فالكتاب المقدَّس يُخبرنا عن اثني عشر سبطٍ لاسرائيل، كما يُخبرنا أنَّ الربَّ يسوع اختار له اثني عشر رسولاً من الشَّعب. إنّ موضوع الخلاص ليس محصورًا بجماعةٍ معيّنة أو شعبٍ معيَّن، إذ يقول لنا كاتب هذا السِّفر إنّه رأى "جَمعًا كثيرًا لَم يستَطِع أحدٌ أن يَعُدَّه، من كلّ الأُمَم والقبائلِ والشُّعوب والألسنة"(7/9)، وبالتّالي، أراد الكاتب أن يقول لنا إنّ خلاص الربِّ هو متاحٌ لجميع النّاس من دون تمييز، لكن بِشَرطٍ واحدٍ هو قبولهم شهادة الربِّ يسوع. ويتابع الرَّسول كلامه فيُخبرنا أنّ هؤلاء المخلَّصين الّذين لا ينتمون إلى شعب اسرائيل، قد غسَّلوا ثيابهم بِدَم الحمل. إنَّ الدَّم لا يستعمل لتنظيف الثِّياب، فالدَّم يوسِّخها ويلوِّثها. وبالتّالي، فالمقصود بعبارة "غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوها بِدَم الخروف" (7/ 14)، أنّ هؤلاء قد غسَّلوا ثيابهم بِدَم الشَّهادة، أي أنّهم استشهدوا في سبيل إيمانهم بالربِّ يسوع. إذًا، كُلُّ مَن يشهد للربِّ يسوع، أكان من الشَّعب اليهوديّ أو مِن الأُمَم، وتؤدِّي به شهادته هذه إلى الاستشهاد، ينال مكافأةً على ثباته في إيمانه وهي الجلوس على العرش مع الله في الملكوت، من دون خضوعه للدَّينونة، إذ فيه يتحقَّق ما قاله لنا الرَّسول في الإصحاح الأوَّل من سِفر الرُّؤيا، إذ قد غَلب كما غلب الربُّ يسوع. إنّ الربَّ يسوع قد غلب الموت بموته على الصَّليب؛ ولكنْ هذا لا يعني أنّه على المؤمن أنْ يغلِب أيضًا من خلال موته بالطريقة نفسها الّتي ماتها الربّ أي على الصَّليب، فالموت هو نتيجة أمانة المؤمن وتمسُّكه بإيمانه تعبيرًا عن حبِّه لله: فالـحُبُّ قد قاد المسيح يسوع إلى الموت على الصّليب. إنّ الربَّ يسوع على الصَّليب قد أفرَغ كلّ ذاته إنسانيّا ليتمكَّن من مَلء إنسانيّته من ألوهيّة الله؛ لذا لم يتمكَّن الموت من السَّيطرة على الربِّ والقضاء عليه، فقام الربُّ من الموت. وبالتّالي، عندما يستشهد المؤمن، يكون قد أفرغَ ذاته من إرادته ومشيئته، ليمتلئ من مشيئة الله وإرادته، إذ أصبح الموت بالنِّسبة إليه، طريقًا يوصله إلى الملكوت، لا بِهدف انتظار الدَّينونة، إنّما من أجل الجلوس على العرش مع الله. أن تجلس على العرش مع الله، فهذا يعني أنَّك تُصبح مشاركًا في دينونة البشر إذ سيُقدِّمك الربُّ إلى جميع البشر نموذجًا يُحتذى به في عيش الأمانة للربّ في هذا العالم. ويُضيف صاحب سِفر الرُّؤيا فيقول لنا إنّ هؤلاء المخلَّصين قد وصلوا إلى الملكوت وفي أيديهم سُعف النَّخل. في الكتاب المقدَّس، يحمل الشَّعب سُعف النَّخل عند استقبالهم مَلِكهم العائد من الحرب منتصرًا؛ وبالتّالي حَملُ الشُّهداء لِسُعف النَّخل يشير إلى إعلانهم الانتصار على الموت وعلى كلّ أشكال الشَّر. إذًا، المؤمن الشَّهيد هو في أعلى مستوى من حالة القوَّة والانتصار لأنَّه غسَّل ثيابه بِدَم الشهادة.

إنّ عبارة "الجالس على العرش وللخروف" تشير إلى الآب والابن. إنّ هؤلاء الشُّهداء، إضافةً إلى الملائكة والشُّيوخ والحيوانات الأربعة، الّذين سبَق وتكلَّمنا عليهم، قد سجدوا للربّ وسبَّحوه؛ وقد استخدم كاتب هذا السِّفر سبع صفات هي "البَرَكة والمجد والحكمة والشُّكر والكرامة والقدرة والقوَّة"، للدلالة على تقديم كلّ هؤلاء كمال التَّمجيد وكمال التعظيم لإلهنا، إلى أبد الآبِدِين. إذًا، هذا التَّمجيد الكامل يُعلِن انتصار الملك الّذي استشهد على الصَّليب، الخروف المذبوح الّذي به يليق كلُّ تمجيد. ويتابع الرَّسول،كاتب السِّفر، فيُخبرنا أنَّ أحد الشُّيوخ قال له إنّ المتسربلين بالثِّياب البِيض، الّذين لا ينتمون إلى الشَّعب اليهوديّ، هم مؤمنون بالربّ تعرَّضوا للاضطهاد، وقد تمكَّنوا من احتماله متسلِّحين بالصَّبر، ثابتين في إيمانهم، لأنّهم لم يخافوا من الموت. يتزعزع إيمان الإنسان حين يلامس هذا الأخير الموت في حياته اليوميّة، وهذا ما نختبره في بلادنا اليوم: إذ أصبحنا نعيش وفي قلوبنا خوفٌ من الموت وخوفٌ من الـمَرَض. إنّ مشكلة الإنسان تكمن في خوفِه من الموت، فبولس الرَّسول يقول لنا في رسالته إلى العبرانيّين: إنّ خوفنا من الموت يؤدِّي إلى وقوعنا في عبوديّة الخطيئة. فمثلاً، إذ قام أحد المؤمنِين بِفعل السَّرقة، فإنَّه لن يتجرَّأ على إعلان فِعلته هذه، خوفًا من أن يتعرَّض للعقاب بابتعاد الآخَرين عنه، فيكون في عزلةٍ عن النَّاس، وهذه تشكِّل إحدى صُوَر الموت، لذا يَكذِب ولا يُقرُّ بفِعلته، والكَذِب هو أيضًا خطيئة. إنّ الإنسان الّذي يخاف من تعرُّضه لِعزلةٍ من الآخَرين يرتكب العديد من الخطايا بِهَدف لَفت انتباه الآخَرين؛ أمّا الإنسان الـمُكتفي، أي الّذي لا يخاف من التَّعرض للعزلة من الآخَرين، فيكون في حالةٍ من السَّلام والهدوء والفرح الداخلي، إذ لا يسعى إلى أذيّة الآخَرين بل إلى خِدمتهم. إنّ خوف الإنسان من الموت بكلِّ أشكاله، يُفقِده صورته الإنسانيّة الحقيقيّة. إنّ الخوف من الموت هو أَكبرُ دافعٍ للوقوع في الخطيئة. إنّ الطِفل الفوضويّ في المدرسة والمجرم هما شخصان لم يشعرا بِحُبِّ أهلهما لهما، فسعيا إلى لَفت الأنظار لهما من خلال القيام بأعمالٍ شريرة كالمشاغبة والقتل. إذًا، الموت هو عدوٌّ لله، إذ يعتقد الإنسان أنَّ الله هو المسؤول عن الموت في حين أنّه ليس كذلك؛ والموت أيضًا هو عدوٌّ للإنسان، إذ لم يكن الموت هدفًا من أهداف خلق الله للإنسان. فالله قد خلق الإنسان للخلود؛ ولكنَّ بسبب خوفه من الموت، ارتكب الإنسان الخطيئة فأصبح عبدًا لها، ودَخل الموت إلى حياة الإنسان. بمجيئه إلى أرضنا، أباد الربُّ يسوع الموتَ، أي أنّه أباد خوف الإنسان من الموت، باقتحامه الموت وقيامته من بين الأموات. إنَّ الموت هو حالةٌ طبيعيّة موجودةٌ في عالمنا، ولكن المؤمن لا ينظر إلى الموت على أنّه يشكِّل خطرًا على حياته، لأنّ الحياة بالنِّسبة إليه، لا تقتصر على سنين حياته على هذه الأرض، بل تمتَّد إلى ما بعد هذه الحياة. إذًا، الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، هو: أنّ المؤمن يؤمن أنَّ حياته لا تنتهي بموته الجسديّ، بل تتخِّذ نهجًا جديدًا بعد انتقاله من هذه الأرض؛ أمّا غير المؤمن فهو يعتقد أنَّ موته الجسديّ يُنهي كلّ حياته، لذا يسعى إلى التلذّذ بشهوات هذا العالم، فيَضع مصلحته فوق جميع المصالح، ويسعى إلى تحقيقها على حساب خدمته للآخَرين ومحبَّته لهم، وإلغائه لشعوب أُخرى. وهذا ما أخبرنا به الكتاب المقدَّس، إذ ألغى قايين وجود أخاه هابيل،لأنَّه اعتبر أنَّ أخاه سيحجب نظر الله عنه، لذا قتل قايين أخيه هابيل ليَحصر نَظر الله فيه وَحده.

"هؤلاء الـمُتَسربِلون بالثِّياب البِيض،مَن هُم ومِن أين أتوا؟" (7/13). إنَّ كلَّ واحدٍ منّا، قد يكون واحدًا من هؤلاء! إنّ هؤلاء المتسربلين بالثِّياب البِيض قد أتوا من الضِّيقة العظيمة وهم ثابتون في إيمانهم، لذلك نالوا إكليل الشَّهادة مُصطَبِغين بِدم الخروف المذبوح، أي يسوع المسيح، ولذا هم الآن يقفون أمام عرش الله. لا يجلس على العرش إلّا حاشية الـمَلِك، وبالتّالي، انضمَّ هؤلاء الشُّهداء إلى حاشية الـمَلِك السَّماويّ، ولذا قاموا يخدمونه ليلَ نهار، في هيكله المقدَّس غير المصنوع بأيادٍ بشريّة.
"الجالس على العرش يحلُّ فوقهم"، أي أنّ الجالس على العرش يرعى هؤلاء الشُّهداء ويَهتّم بهم، لذا هم لا يحتاجون إلى شيءٍ، لأنَّ الله قد أعطاهم كلّ ما يحتاجون إليه. إنّ حاجات الإنسان الأساسيّة للاستمرار في هذه الحياة تقوم على توفُّر الطَّعام والماء له، لذا قال لنا كاتب هذا السِّفر: "لن يجوعوا بَعدُ، ولَن يعطَشوا"(7/16): إنَّ الربَّ قد أعطى هؤلاء الحياة الأبديّة، لذا لن يجوعوا ولن يعطشوا من بَعدُ، لأنّ الربَّ أروى عطشهم إليه.
"لا تَقعُ عليهم الشَّمس ولا شيءٌ من الحَرّ"، أي أنّه ما مِن شيءٍ سيَضُرُّهم الآن، لأنّ "الخروف في وسط العرش يرعاهم". إنّ الرَّاعي يرعى غنمه هو، ولا يرعى غَنم الآخَرين إلّا بوكالةٍ من الرّاعي الآخَر، فيَهتّم عندئذٍ بالقطيع الموكل إليه كما لو أنّه قطيعه الخاصّ. وهكذا أيضًا يفعل الله مع الرُّعاة، إذ يُوكل إليهم رعاية قطيعه ليهتّموا به كأنّه قطيعهم. إنّ الربَّ أراد أن يقول للمتسربلين بالثِّياب البِيض إنّهم منذ الآن، لم يعودوا تحت رعاية أحدٍ، لأنّهم أَصبحوا تحت رعايته الشخصيّة، لذا لا جوع ولا عطش ولا خوف من شيء، بعد اليوم.
"يقتادهم إلى ينابيع ماءٍ حيّةٍ، ويمسح الله كلّ دمعةٍ من عيونهم"(7/17). إنّ أجمل تعزية روحيّة يتلَّقاها الإنسان من الربّ هي: أن يمسح الله دموع الإنسان، وهذا يعني أنْ يُلغي الله كلّ سببٍ يؤدِّي إلى حُزن الإنسان وإلى معاناته من الشِّدة والضِّيق، فيكون هذا الأخير في حالةٍ من الفرح الدائم. إنّ الله يمنح هذا الوعد للإنسان الّذي سيبقى ثابتًا في إيمانه، رُغم كلّ الضيقات الّتي تعترضه.

إخوتي، في ظلّ الوَضع الرَّاهن الّذي نعيشه في لبنان وفي العالم، يدعونا يوحنّا الرَّسول،كاتب هذا السِّفر إلى الانتباه لأمرَين: أوًّلا محاولة البقاء على قيد هذه الحياة من خلال حماية نفوسنا؛ وثانيًا الثبات في إيماننا على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات، فنجتازها ونحن محافظون على إيماننا بالربّ. إخوتي، إنّ سِفر الرؤيا هو سفر التعزية للحالة الّتي نعيشها: حين يتوقَّف خوفنا من المرض عند حدِّ اتِّخاذنا كلّ التدابير الوقائية لعدم الإصابة بالمرض، فإنّنا سنتمكَّن من التمييز بين الصَّح والخطأ، فنختار الطريق الصَّحيح لِسُلوكه؛ أمّا حين يتعدَّى خوفنا من المرض الخوف الطبيعيّ ويتحوّل إلى نوعٍ من الرُّعب، فإنّنا سنبادر إلى لوم الله عند تعرُّضنا لمصيبةٍ ما، ما سيدفعنا إلى إنكار إيماننا به، وبالتّالي سنقع في عبوديّتنا للخطيئة، وسنلجأ إلى المساومات بين عبادتنا لله وعبادتنا للآلهة الأُخرى، ونُصبح مشابهين لا لأهل الإيمان بل لأهل هذا العالم. إنّ خوفنا من الموت دفعنا إلى القبول بمساومات الدُّنيا، فأصبحنا نتاجر بـ"تجارة الشيطان". إنّ الفكر الشيطاني، يقوم على أن يتصرَّف الإنسان وكأنَّ الآخَرين هم غير موجودين بالنِّسبة إليه، فلا يَهتمّ بهم. إذا كُنّا لا نهتمّ للآخَرين الموجودين بالقُرب منّا، فهذا يعني أنّنا لا نُحبّهم، وإنْ كّنا لا نُحبّ الآخَرين فهذا يعني أّنهم غير موجودين بالنِّسة إلينا، وبالتّالي نحن نكون قد قتلناهم في فِكرنا. إنّ سِفر الرؤيا هو مَن يوقظ العقل، فيُصحِّح السَّلوك ويقوِّي رُكَبَ المؤمنِين فيثبتوا في إيمانهم حتّى زوال الأزمة والصُّعوبات، وهم واقفون، أي غير خاضعين لأيِّ إلهٍ آخر سوى الله. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
14/10/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح السابع، مقدمة الصّبر في الشدّة والألم
https://youtu.be/ucl7rpCwtOw

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح السابع - مقدِّمة
الأب ابراهيم سعد

14/10/2020

صباح الخير، أتمنّى أن يكون الجميع قد اجتاز هذه المرحلة إلى الآن بِخَيرٍ وصَبرٍ وثَبات، كما أتمنّى أن يكون الجميع على استعداد للمرحلة الآتية بالقوّة نفسها، - لا بل أكثر- ، لأنّه كلَّما اشتَّدت الصُّعوبات كُلَّما كانت الحاجة إلى الصَّبر أكثر إلحاحًا.
نحن الآن في مرحلة جِهادٍ في هذه الحياة، لِنَبقى موجودين عند زوال هذه الأزمة؛ موجودون لا بمعنى البقاء على قيد الحياة وحسب، إنّما بمعنى الحصول على المعنويّات، فالإحباط يطرق بابَ كلّ واحدٍ منّا، ويدفعنا إلى التَّفكير في مدى قدرتِنا وطاقتِنا على احتمال المزيد، وخصوصًا أنَّه في كلِّ يومٍ نسمع أمرًا جديدًا يجعلنا ننظر إلى المستقبل بِسَوداويّة أكبر. نحن اليوم في مرحلةِ ملامستِنا الموت من دون الدُّخول فيه، خصوصًا في هذه الظروف المحيطة بنا. نحن نعيش في مرحلةٍ نختبر فيها، للمرّة الأولى في عصرِنا، هذا النَّوع من الصُّعوبات، بسبب فيروس كورونا. وهنا يُطرَح السُّؤال: كيف نواجه، كمؤمنيِن، كلّ تلك الصُّعوبات: أبالتَّذمر والاحباط والحزن؟! نحن اليوم في أزمة صِراعٍ مع الحياة، صِراعٌ من أجل الاستمرار فيها: نواجه الموت كلَّ يوم، لا كَفِكرة بل كحقيقة ملموسة في كلّ لحظة من حياتنا. وربَّما هناك أمرٌ أصعبُ من الموت، وهو حالة اليأس الّتي تَنتابنا: اليأس من كلِّ شيء، اليأس من كلّ أملٍ في التغيير، اليأس من وجود حلول للأوضاع الّتي نعيشها. إذًا، نحن نعيش، مِن حيث نَدري أو لا نَدري، سِفر الرؤيا، لأنَّ الحالة الّتي نعيشها اليوم تَضعنا أمام تحدٍّ يدفعنا إلى طرح السُّؤال: ما فائدة وجود الله في حياتنا وإيماننا به، إنْ لم نكن نشعر بوجوده وحضوره وعمَلِه على إيجاد الحلول، في هذه الأزمة الصَّعبة الّتي نعاني منها؟ صحيحٌ أنّنا شعبٌ يُصلِّي ويَصوم، ولكنّنا للأسف، لا نشعر بمعونة الله وسندِه لنا، في مواجهتنا هذه الأزمة الصَّعبة الّتي تعترضنا. إنَّ مؤمِنِين كثُرًا يَشعرون بهذا الألم بسبب عدم شعورهم بِسَنَدٍ إلهيّ لهم، لذلك يصرخون مع صاحب المزمور 22: "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟"؛ ولكن إذا تابَعْنا تلاوة هذا المزمور، سنكتشف أنّ في نهايته تسبيحًا للربّ: فمِن ناحية، يَصِف لنا هذا المزمور معاناة المؤمِن، ولكنّه من ناحية أخرى يدعوه إلى عيْش حالة من الرّجاء. إنّ التحدِّي يكمن في كيفيّة عيْشنا الرَّجاء في ظلّ الأزمة الّتي تعترض حياتنا.

من الضروريّ أن يكون المؤمِن على معرفة بكلمة الله، في وقت الأزمة، ليتمكّن من التفاعل معها والسَّعي إلى عَيْشِها. إنّ كلمة الله تَنحتُ المؤمنَ من الدَّاخل، فتَدفعه إلى النَّظر إلى كلّ ما هو ميؤوسٌ منه في نظر البشر، على أنَّه حالةٌ صعبةٌ يستطيع المؤمِن اجتيازها بفضل كلمة الله. إنّ كثيرين لجأوا إلى ربط الأحداث الّتي تعترض حياتهم في هذا البلد بِتَوقُّعات المنَجِّمين، واضِعين جانبًا كلّ إيمانهم وصبرهم وثباتهم في كلمة الله. إنّ هذا الوقت الّذي نعيش فيه هو الوقت المناسب لقراءتنا سِفر الرّؤيا، إذ إنّه يقوِّينا في ظلّ هذه الظروف الّتي تُضعفنا، ويُثبِّتنا في كلمة الله في هذه الظروف الّتي تَدفعنا إلى تغيير مسار حياتنا، ويُشجِّعنا على مواجهة مغريات هذا العالم الّتي تدفعنا إلى إنكار إيماننا، ويحثّنا على الرَّجاء في الظروف الّتي تدفعنا إلى فقدان الرَّجاء. كان المسيحيّون الأوائل، الّذين وجَّه إليهم يوحنّا الرَّسول سِفر الرُّؤيا، أمام تحدٍّ يقوم على اختيارهم بين إنكارهم إيمانهم بالربِّ يسوع في سبيل المحافظة على حياتهم الأرضيّة، أو الموت شُهداء. إنَّ كلَّ مؤمنٍ مسؤولٌ عن قراره، بدليل أنّ دستور الإيمان في صِيغة المفرد في الكنيسة الشرقيّة، بينما يُقال في صيغة الجمع في الكنيسة الغربيّة تعبيرًا عن إيمان الجماعة كلِّها، الملتزمة بالربِّ يسوع. الآن هو وقتُ اختبار إيماننا، فنُدرِك إنْ كان إيماننا بالربِّ ثابتًا، صحيحًا، جديّا، ومَتينًا. فالإيمان لا يُمتَحن في وقت الرّاحة والفَرح، إنّما في وقت الشِّدة. في ظلّ هذه الظروف الصحيّة الصَّعبة، أصبحت اللِّقاءات بين البشر صَعبةً، لذا كانت الحاجة إلى اللُّجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق ذلك الهدف، عِوضَ التمسُّك بالتقويّات الزائفة القائمة على إقامة اللّقاءات الروحيّة رُغم مخاطر انتشار الوباء، فالربُّ أعطانا الحكمة لنُميَّز الأمور لا لِنُجرِّب الله. اليوم، في ظلّ هذه الأزمة، نحن مدعوّون إلى طلب المعونة من الربّ، لِنَجتاز هذه التجربة.

إنّ سِفر الرؤيا هو بعيد كلّ البُعد عن التوقُّعات الفلكيّة إذ إنّه مبنيّ على وَعدٍ، على كلمةٍ، على حَدَث، مبنيّ على شهيدٍ مات على الصَّليب من أجلنا؛ لذلك نجد فيه رجاءً، وتحقيقًا للوَعدِ بالطريقة الّتي يراها الله مناسبة. إذًا، مع كلّ احترامنا لِما تَمرُّون به مِن وجعٍ في هذه الظروف الصَّعبة، ومع كلّ تقديرنا للجهد الّذي تقومون به، ولكن هذا لا يُعفيكم من إعلان شهادتكم منذ الآن في هذه الظروف الصّعبة، واستشهادكم إذا دَعَت الحاجة والظروف.
في هذه المقدّمة، أردتُ أنْ أُعيدَ إحياء لقاءاتنا الرُّوحيّة، وقد تكلَّمت عن سِفر الرؤيا في هذه الظروف الصَّعبة، حتّى يكون كلامي لكم دافعًا ومُحفِّزًا من أجل العودة إلى كلمة الله. إنّ حياتنا مقسَّمة إلى ثلاثة أقسام: الثُلثُ الأوّل نقضيه في النَّوم، والثُلثُ الثاني منها نقضيه في الرَّاحة وعدم العمل، والثُلثُ الأخير نقضيه في العمل، وهذا الثُلثُ الأخير هو الأكثر فائدة لنا وللآخَرين، ولكن هذا لا يعني أنّ الرَّاحة والنّوم غير مُفيدَين للإنسان، بل يعني أنّه على الإنسان عدم تضييع وقته في النَّظر إلى أوجاع النَّاس من دون العمل على مساعدتهم على تَخَطِّيها. بمعنى آخر، هل مِنَ المقبول، مع كُلِّ ذلك، أن يُضيِّع الإنسان المزيد من الوقت في تشتيت نفسه وتخفيف إنتاجيّته في هذه الحياة؟ هذا الواقع الّذي نعيشه ليس جديدًا على الإنسان، فالإنسان عبر العصور عرف مراحل مشابهة للّتي نعيشها اليوم. لذا على الإنسان المؤمِن أن يعمل كي يكون نورًا للعالم في ظلِّ عصرٍ غير مستقِّر؛ وهذا النُّور لا يأتي من الإنسان نفسه، من قُدرته وقوّته بل يأتي من كلمة الله المزروعة فيه وتفاعُلِه مَعَها. إذًا، ليس المطلوب تلاوة كلمات الإنجيل على مسامِع الآخَرين بل السَّعي إلى عيشها في مَثَلنا الصّالح: فعلى الرُّغم من هذه الظروف الصَّعبة الّتي نواجهها، نجد أنّ بعض النَّاس يَهبُّون لمساعدة إخوتهم الأكثر حاجة منهم. إنّ روح الربِّ ما زال يعمل في هذا العالم، فكم بالحريّ نحن المؤمنون بالربّ، أن نعيش وِفق هذه الرُّوح؟! إذًا، ممنوع علينا اليأس، وممنوع علينا الإحباط على الرُّغم من كلِّ شيء. عندما أدعوكم إلى عدم الإحباط، فهذا لا يعني عدم الاعتراف بوجود المشاكل، بل هي دعوة لنا إلى الصَّبر. إنَّ كلمة الله هي نفسها لم تتغيّر عبر العصور، والعالم لم يتغيَّر، وأساليبه لم تتغيّر، ولكن الوجوه تتغيَّر. أُنظروا اليوم إلى الحِقد والتعصُّب وروح الإلغاء، المنتشر في محيطكم، فتَجدون أنّ الكثيرين يلجأون إلى اعتماد "حلِّ قايين" بدلاً من "حلِّ هابيل"، في مشاكلهم مع الآخَرين، إذ يسعون إلى إلغاء الآخَر المختلف عنهم وقتَله، بدلاً من العمل على بناء علاقةٍ معه تُرضي الله. إذًا، نحن اليوم في حالةٍ صعبةٍ جدًّا، ولكنّها في الوقت نفسه حالة مُعزِّية جدًّا، لأنَّ كلمة الله لا زالت موجودة وستتحقَّق، وعلينا أن نعيشها كأنّها تحقَّقت أو تتحقَّق، لا بالوَهم إنّما بالفِعل والواقع، فنتقوَّى بها ونتمكَّن من تقوية الآخَرين المحيطين بنا، إذ أصبح عالمنا اليوم بأمَسّ الحاجة إلى كلمة تعزيةٍ، إلى كلمة رجاءٍ، إذ لم يَعُد لدينا القدرة على الاحتمال. هكذا كان المسيحيُّون في العصور الأولى للمسيحيّة، في حالةٍ صعبةٍ جدًّا، حالة اضطهاد، فكان لهم سِفر الرؤيا كلمةً تبعثُ فيهم الرَّجاء وتُعزيِّهم وتدفعهم إلى احتمال المشَقَّات في سبيل إيمانهم، إذ جاء ليُذكِّرهم بكلمة الله، وبِوَعَده الصَّادق لهم إذ إنّهم في النِّهاية، سيَغلِبون "كما غَلب هو"، أي الربّ. إنّ طريقة انتصار الربّ ستكون مختلفة عن بقيّة طُرق الانتصارات العالميّة، وقد أثبتت نجاحها في حياة القدِّيسِين، وستُظِهر نجاحها أيضًا في حياتنا نحن المؤمِنون بالربّ. إنّ زمن القداسة لم ينتَهِ ولن ينتهي، طالما أنَّ زمن الخطيئة لم يَنتَهِ: فطالما هناك خطيئة وشرّ في هذا العالم، طالما هناك توقٌ إلى القداسة عند المؤمِنِين.

في هذا الإصحاح السّابع مِن سِفر الرؤيا، الّذي سنقوم بدراسته في اللِّقاء القادم، سنقرأ أنّ عدد المخلَّصِين هو مئة وأربعة وأربعون ألفًا: إنّ هذا الرَّقم لا يعني أنّ هذا هو الرَّقم النِّهائي لِعَدد المخلَّصِين في التَّاريخ، بل يعني أنّ هناك عددًا كبيرًا لا يُحصى من المخلَّصِين. إنّ الرَّقم مئة وأربعةٌ وأربعون هو رَقمٌ رمزيّ، مؤلَّفٌ من الرَّقم اثني عشر مضاعفًا ومضروبًا بألف (12x12x 1000). في الكتاب المقدَّس، يرمز الرَّقم "اثني عشر"، إلى الكُلِّية، إلى الشموليّة، الملتزمين بكلمة الله، إذ نجد على سبيل المثال اثني عشر سبطًا ليَهوذا، واثني عشر رسولاً. والرَّقم "ألف" يشير إلى عددٍ لا محدود. وبالتّالي، فالمقصود من ذِكر هذا العدد الرَّقميّ، أنّ المجال لا يزال متاحًا أمام جميع المؤمنِين للحصول على الخلاص، طالما أنّهم ثابتون على أمانتهم وإيمانهم بالربِّ يسوع. وهؤلاء المخلَّصون ليسوا محصورِين بالبيئة اليهوديّة فقط، بل هم ينتمون إلى جميع الأُمَم. إذًا، إنَّ كُلّ واحدٍ منّا معدودٌ ضمن حسابات الله للمخلَّصِين في هذا العالم، لذا علينا ألّا نُلغي من حساباتنا نعمة الحصول على الخلاص؛ وبالتّالي لا يمكننا التراخي أمام الصُّعوبات بل علينا أن نُصارع كما صارع يَعقوب، الّذي يُخبرنا عنه الكِتاب المقدَّس، لتكون "أسماؤنا مكتوبة في السَّماء". إذًا، على كلِّ مؤمن أن يُحدِّد أولويّاته، انطلاقًا من أهدافه في هذه الحياة: فإن كان هدفك في هذه الحياة المحافظة على حياتك الأرضيّة فإنّ أولويّاتك ستكون تأمين الطّعام؛ أمّا إذا كان هدفك الحصول على الخلاص، فإنّك ستسعى كي تكون "إصبع الله في محيطك". إنْ لم تشعر بأنَّك "إصبع الله في محيطك"، فإنَّك سَتَفقد روح المسؤوليّة؛ أمّا إذا شعرت بذلك، فإنَّك ستشعر بروح المسؤوليّة وهذا سيمنحك القوّة للجهاد للبقاء في الحياة. نحن ليس لدينا حنين وهواية موت، إنّما لدينا حنين وهواية حياة، لأنَّ الله زرع فينا بِذرة حياة. فإذا رغِبْنا في الموت في هذه الحياة لأنّه أفضل لنا من البقاء فيها، فهذا يعني أنّنا لا نُحبّ لا الحياة هنا ولا الحياة هناك، وبالتّالي أصبحنا حالةَ يأسٍ متحرِّكة. إنَّ سِفر الرُّؤيا ينتشلك من حالة اليأس هذه. إنّ سِفر الرؤيا يُقدِّم لنا صُوَرًا ورُموزًا وأحداثًا، تُخبرنا عن الصُّعوبات الّتي سنواجهها كمؤمنِين بالربّ في هذا العالم، وتدفعنا إلى الاستعداد لمواجهتها، عندما تطرق بابَنا.

لذلك سنتابع دراستنا للإصحاح السَّابع من سِفر الرّؤيا، كي نتمكَّن من الدُّخول إلى هذا الينبوع الحيّ، ونرتوي من مياهه الحيّة الّتي تُحيينا في زمن الموت، وتقوِّينا في زمن الضُّعف، وتمنحنا الرَّجاء في زمن اللّارجاء. في هذه الأزمة، تَبرزُ الحاجة إلى كلمة الله، فهذا الفيروس الّذي نتعرَّض له، قد حرَمنا من مصافحة الآخَرين ومن كلّ أشكال التعبير عن محبَّتنا الجوهريّة للآخَرين. إنَّ كائنًا، أي الفيروس، لا نراه بعيوننا، يدفعنا إلى الابتعاد عن كلِّ مَن نراهم بعيوننا؛ وبالتّالي، تحوَّل هذا الفيروس إلى "رئيس هذا العالم" بطريقةٍ من الطُرق. إنّ هذا الفيروس ليس مُرسلاً من الله لتربية الإنسان، بل هو مِن صُنع البشر، بطريقة من الطرق: فالبشر مسؤولون عن مصيرهم على هذه الأرض، فالأمراض سببها البَشر، والموت سببه البَشر. نحن نلتجئ إلى الله عندما نواجه المشاكل، فيتحوَّل كلّ حديثنا إلى تذمّر من الواقع السَّيئ الّذي نعيشه، بمعنى آخر يتحوّل حديثنا إلى "ورقة نعوة" للأوضاع المعيشيّة. للأسف نحن اليوم، لم نَعُد نستطيع أن نشكو أمورنا للآخَرين إذ لا يمكننا اللِّقاء بالآخَر مخافة أنْ نلتقط عدوى الفيروس، حتّى أصبحنا نحتسب عدد المؤمِنِين في الكنيسة مخافة انتقال عدوى هذا الفيروس إلينا. في الكنيسة الأولى، عهد كتابة سِفر الرؤيا، كان المسيحيِّون يتمتّعون بِحكمة كاملة تدفعهم إلى تجنُّب مواجهة الموت إراديًّا، من دون الهرب منه إن كان لا بُدَّ منه. إنَّ عالمنا اليوم للأسف يُصوِّر لنا الآخَر على أنّه عدو، إذ إنّه مَصدر انتقال الفيروس إلينا. إنّ هدف الكاتب من سِفر الرؤيا هو أن يشجِّع المؤمِنِين على المثابرة على احتمال الصُّعوبات من أجل البقاء على قيد الحياة، واقتبال الموت في سبيل إيمانهم على رجاء القيامة، رافِضِين أن يكون رجاؤهم في الامبراطور أو الزَّعيم في عصرِنا.

إخوتي، أدعوكم كي تستعدِّوا للِّقاء القادم واضِعين سِفر الرُّؤيا الإصحاح السَّابع أمامكم، كي نتمكَّن من تناول هذا "الخبز النازل من السَّماء"، كلمة الله الحيّة. "انتبهوا ولكن لا تخافوا؛ اهتَمُّوا ولكن لا تنهَمُّوا؛ عيشوا حياتكم، ولكن لا تسعوا كي تكون حياتكم تمرير أيّام". إنّ المؤمِن الحكيم هو مَن يعرِف كيف يعيش كي يجتاز هذه الأزمة ويبقى على قيد الحياة. أقول لكم ستَضعَفون وستَبكون، وقد يموت أحدٌ تعرفونه، ولكنّ المهمَّ أن يتمسَّك مَن يبقى فينا بالبِذرة المزروعة فيه، وأن يتَّكِل على الله، الّذي يُنمِّي الزرع. نحن في وَضعٍ لا يمكننا أن نقول فيه إلّا ما قاله التلميذ للربّ: "إلى أين نذهب يا ربّ، وكلمة الحياة الأبديّة عندك؟" (يو6: 68). للأسف، هناك مؤمِنون ملتزِمون، يَقعون في أفخاخ الشيطان الذي يرمي بِذار الانقسامات بين البشر، لا للدِّفاع عن الله وعن إيمانِنا به، إنّما لأمور فانيَة تعكس شرّ هذا العالم. لذا، نحن مدعوُّون إلى طلب نعمة التمييز من الربّ، لنتمكَّن من معرفة ما هو خِصامٌ بسبب الإيمان وما هو خِصامٌ على أمور أرضيّة فانية. لا نبيعنَّ ذواتنا لأحدٍ في هذا العالم، فنحن لا نملك هذه الصَّلاحيّة، لأنّ حياتنا هي مُلك لله وَحده، إذ قد اشترى نفوسَنا بِدَمٍ ثمين، هو دم يسوع المسيح البارّ. "لقد اشتُريتم بِثمنٍ فمجِّدوا الله بأرواحكم وأجسادكم"(1كور6: 20)، وهذا يعبِّر عن أهميّتنا في نظر الربّ، لذلك لم يدفَع الربُّ ثمن نفوسنا بقيامِه بأعجوبةٍ، أو بِعملٍ إلهيّ في الطبيعة، بل دَفع ثمنها من خلال دَمِ إنسانٍ لا يستحقّ الموت، قَبِل بالموت من أجل خلاصِنا. لذا لا تستَخِّفوا بِدَم المسيح، مهما كانت الصّعوبات كثيرة وكبيرة، ولا تسمحوا لشرّ هذا العالم وإغراءاته أن يجعلكم ذات ثمنٍ رخيص، بمعنى آخر لا تُضيِّعوا الأمانة. كونوا على مِثال مريم، الّتي "كانت تحفظ كلّ تلك الأشياء في قلبها"، فإذا حَفظتم كلمة الله في قلوبكم، فإنّ كلمة الله تَحفظُكم من كلِّ شرّ ستتعرَّضون له.
نحن اليوم، في بداية مرحلةٍ جديدة، نتمنّى اللِّقاء بكم في كلِّ أسبوع، على الرّغم من الصُّعوبات الّتي تعترضنا بسبب فيروس كورونا. إنّ المؤمن يُدرك كيف يُسخِّر كلّ الأمور الّتي توضع بين يديه، في سبيل خِدمة كلمة الله؛ أمّا غير المؤمن فيُسخِّر كلّ ما يوضَع بين يَديه من أجل نَشر تفكير العالم وخدمته. نحن اليوم مدعوّون للاستفادة من كلّ ما نتعرَّض له في هذه الأيّام الصَّعبة، كي نتمكَّن من تجميع مخزون يساعدنا على اختيار الأفضل لنا الآن وفي المستقبل، بما يخدم كلمة الله، ومن نَقْل هذا المخزون الرُّوحي، أي البشارة، إلى الأجيال القادمة، وتعزيَة الآخَرين في وقت الصُّعوبات ومساعدتهم على اجتيازها، فنكون كالنَّار الّتي تضيء طريقهم نحو الربّ بدلاً من أن تحرقم. عندما تعترضنا شِدَّة، علينا أن نتذكَّر قول الرّسول في الإصحاح الأوّل، في سفر الرؤيا: "أنا شريككم في الضّيق والملكوت والصَّبر"؛ فالصَّبر هو أن تتحمّل الوقوف في الصُّعوبات، لأنّ الملكوت أصبح وراءك من خلال وَعد الله لنا في العهد القديم، وهو، أي الملكوت، أمامنا، أي في طور التحقيق. لا يمكننا أن نلقي المسؤوليّة على الآخَرين كما فَعل آدم وحوّاء، أو كما فَعل قايين بأخيه هابيل، فمات هذا الأخير غَدرًا. إنّ التاريخ مليء بالشواهد: فقد برّر اليهود قَتلهم للربّ بأنّهم لن يؤمنوا به إلّا عند نزوله عن الصَّليب، فلم يفعل؛ ولكنّه قام من الموت فلم يُصدِّقوا قيامته. إذًا، انطلاقًا من المخزون الّذي نملكه، إضافة إلى مخزوننا من كلمة الله، نستطيع أن نُزيِّن الأمور ونميِّزها. لا يمكننا ألّا نبكي ونخاف وقت الشِدّة والألم، لأنّنا بشرٌ، لذا لا نتجبرنَّ على الله. ما هو مطلوبٌ منّا كمؤمنِين بالربّ، أن نبقى في ظلّ حزنِنا وألمنا، قادرين على رؤية هذا النُّور الإلهيّ الّذي يستطيع أن يُغيِّر كلّ نظرتنا إلى ما نمرُّ به. إنَّ طرق العالم مختلفة عن طُرق الربّ ولا انسجام بين فِكر الربّ وفِكر العالم، وعلى المؤمِن أن يختار ما بين طريق الربِّ وفِكره أو طريق العالم وفِكره. إنَّ سِفر الرؤيا يقول لنا إنّه مَهما اخترنا في هذه الحياة، فالقرار مسؤوليّتنا، والربُّ يهتمّ بالباقي. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
25/2/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح السادس الصمود في الضّيق والشدائد
https://youtu.be/SJKxwMruIoA

تفسير الكتاب المقدس
سفر رؤيا القدّيس يوحنّا
الإصحاح السادس
الأب ابراهيم سعد

25/2/2020

"وَنَظَرتُ لَمّا فَتَحَ الخَروفُ واحِدًا مِنَ الخُتُومِ السَّبعَةِ، وسَمِعْتُ واحِدًا مِنَ الحيواناتِ الأربَعَةِ قائلاً كَصَوتِ رَعدٍ: "هَلُمَّ وانْظُر!". فَنَظَرْتُ، وَإذا فَرَسٌ أبيضُ، والجالِسُ عَلَيهِ مَعَهُ قَوسٌ، وقَدْ أُعطِيَ إكليلاً، وخَرَجَ غالِبًا ولِكَي يَغلِبَ. ولَمّا فَتَحَ الخَتْمَ الثَّاني، سَمِعْتُ الحيوانَ الثَّاني قائلاً: "هَلُمَّ وانْظُر!" فَخَرَجَ فَرَسٌ آخَرُ أَحمَرُ، ولِلجالِسِ عَلَيهِ أُعطِيَ أن يَنزِعَ السَّلامَ من الأرضِ، وأنْ يَقتُلَ بَعضُهُم بَعضًا، وأُعطِيَ سَيفًا عَظيمًا. ولَمَّا فَتَحَ الخَتمَ الثَّالِث، سَمِعتُ الحيوانَ الثَّالِثَ قائلاً: "هَلُمَّ وانْظُر!" فنَظَرتُ وإذا فرَسٌ أَسوَدُ، والجالِسُ عَلَيهِ مَعَهُ مِيزانٌ في يَدِه. وسَمِعتُ صَوتًا في وَسَطِ الحيواناتِ الأربَعَةِ قائلاً: "ثُمْنِيَّةُ قَمحٍ بِدِينارٍ، وثلاثُ ثَماني شَعيرٍ بِدينارٍ. وأمَّا الزَّيتُ والخَمرُ فلا تَضُرُّهُما". ولَمَّا فَتَحَ الخَتمَ الرَّابِعَ، سَمِعْتُ صَوتَ الحيوانِ الرَّابِعِ قائلاً: "هَلُمَّ وانْظُر!"، فنَظَرْتُ وإذا فَرَسٌ أَخضَرُ، والجالِسُ عَلَيهِ اسمُهُ المَوتُ، والهاويةُ تَتبَعُهُ، وأُعطِيا سُلطانًا على رُبعِ الأرضِ أنْ يَقُتلا بالسَّيفِ والجُوعِ وَالمَوتِ وَبِوحوشِ الأرضِ. ولَمَّا فَتَحَ الخَتمَ الخامِسَ، رأيْتُ تحتَ المَذبَحِ نُفوسَ الّذينَ قُتِلوا مِن أجلِ كَلِمَةِ الله، ومن أجل الشَّهادةِ الّتي كانت عِندَهُم، وَصَرَخُوا بِصَوتٍ عَظيمٍ قائِلِينَ: "حتَّى مَتى أيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ والحَقُّ، لا تَقضِي وتَنتَقِمُ لِدِمائِنا مِنَ السَّاكِنِينَ على الأرضِ؟" فأُعطُوا كُلَّ واحدٍ ثِيابًا بِيضًا، وقِيلَ لَهُم أن يَستَريحوا زَمانًا يَسيرًا أيضًا حتَّى يَكمَلَ العبيدُ رُفقاؤهُم، وإخوَتُهُم أيضًا، العَتِيدونَ أن يُقتَلوا مِثلَهُم. ونَظَرتُ لمّا فَتَحَ الخَتمَ السَّادِسَ، وإذا زَلزَلةٌ عَظيمَةٌ حَدَثَتْ، والشَّمسُ صارَتْ سَوداءَ كَمِسحٍ مِن شَعرٍ، والقَمَرُ صارَ كالدَّمِ، ونُجومُ السَّماءِ سَقَطَتْ إلى الأرضِ كَما تَطرَحُ شَجَرَةُ التِّينِ سُقاطَها إذا هَزَّتها رِيحٌ عَظيمَةٌ. والسَّماءُ انفَلَقَتْ كَدَرْجٍ مُلتَّف، وَكُلُّ جَبَل وجزيرةٍ تَزَحزَحا مِن مَوضِعِهما. ومُلُوكُ الأرضِ والعُظماءُ والأغنياءُ والأُمَراءُ والأقوياءُ وكُلُّ عَبدٍ وكُلُّ حُرّ، أَخفَوا أنفُسَهُم في المغايِرِ وفي صُخورِ الجِبالِ، وَهُم يَقولُونَ للجِبالِ والصُّخورِ: "أُسْقُطِي عَليْنا وأَخفِينا عَن وَجهِ الجالِسِ على العَرشِ وعَن غَضَبِ الخَروفِ، لأنَّه قد جاءَ يَومُ غَضَبِهِ العَظيم. ومَن يستطيعُ الوقوفَ؟"

في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا يوحنَّا الرَّسول صُورةً مخيفةً عن نهاية الأزمنة، الّتي لا بُدَّ لها مِن أن تَحصُل. في الإصحاح الماضي، أخبَرنا يوحنّا الرَّسول أنّه ليس أحدٌ باستطاعته أن يَفُكَّ الختوم السَّبعة إلَّا الحَمَل المذبوح، الجالس على العرش السَّماويّ، أي المسيح يسوع، وهو الّذي يُقرِّر متى يَفتَحُ الختوم، وبالتّالي حدوث القيامة العامّة أي اليوم الأخير. إنَّ يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، يُخبرنا بما رآه، ولكنْ هذا لا يعني أنَّ ما رآه سيتمُّ بحرفيّته، لأنّ الأسلوب الأدبيّ، الّذي اعتمده الرَّسول في هذا السِّفر، هو أسلوب الأدب الاستِعاريّ، الّذي يقوم على استخدام عباراتٍ لها رَمزيّات ومدلولاتٍ كثيرة. وإليكم مِثالاً على ذلك: إنَّ الأقباط قد أَعطوا تفسيراتٍ إيمانيّة لانحناءة الربِّ يسوع إلى الأرض وقيامه، عندما جَبل الطِّين من الأرض ليَضعه على عينيّ الأعمى، في إنجيل يوحنّا، فوَجدوا أنَّ إنحناءته ترمز إلى آلامه وموته، وأنَّ ارتفاعه مجدًّدا عن الأرض يرمز إلى قيامته من بين الأموات.

في هذا الإصحاح، رموزٌ كثيرةٌ سَنَقوم بشَرحها، من أجل فَهمٍ أفضل لِسِفر الرُّؤيا. في هذا السِّفر، أراد يوحنّا الرَّسول تشجيع المؤمنِين الّذين يتعرَّضون للاضطهاد إلى الثَّبات في إيمانهم، إذ إنَّ مؤمنِين كُثُرًا قَبْلَهم قد تعرّضوا للشَّهادة "من أجل كلمة الله، ومن أجل تلك الشَّهادة الّتي كانت عِندَهم". إنَّ كاتب سِفر الرُّؤيا لا يتكلَّم على المؤمنِين الّذي يموتون بطريقة مُفاجِئة وغير متوَّقعة، بل يتكلَّم على المؤمنِين الّذين سيموتون جرَّاء ثباتهم في إيمانهم بالربِّ يسوع. وفي هذا الإصحاح، يُكلِّمنا يوحنَّا الرَّسول على أربعة أحصِنة ترمز كُلٌّ منها إلى نوعٍ من الصُّعوبات الّتي سيتعرَّض لها المؤمن وقت الاضطهاد، كالجوع والفقر والطرد من العمل وسواها من الأمور، الّتي مِن شأنها دَفعُ المؤمن إلى نُكرانِ إيمانه. بعد كلِّ شدَّة، فَرَجٌ؛ وبعد كلِّ موت، قيامة. وهذا ما يدفعنا إلى استغراب كلام يوحنَّا الرَّسول في هذا الإصحاح، إذ يبدأ كلامه مع المؤمنِين الّذين يعانون من الاضطهاد، لا على الصُّعوبات الّتي سيواجهونها، إنّما على انتصار الربِّ على الموت بقيامته. فيُكلِّمنا يوحنّا الرَّسول بدايةً على فَرَسٍ بيضاء، يحمل الجالس عليها في يده قوسًا وعلى رأسه إكليلاً، وهذا دليلٌ على أنَّ الجالس على الفَرسِ البيضاء هو محاربٌ قويٌّ قد انتصر في معركته، قَبْل انطلاقتها. فالإكليل، عادةً، يوضَع على رأس المحارب العائد من الحرب، لا على رأس المحارب عند خروجه إلى المعركة. إنَّ الجالس على هذه الفَرس هو شخصٌ متأكِّدٌ مِن انتصاره في الحرب قَبْل انطلاقتها، وهذا الأمر مِن شأنه أن يدفع المؤمنِين إلى اتِّباعه. إنَّ الجالس على الفَرس البيضاء يرمز إلى الربِّ الّذي انتصر على الموت بقيامته، وهو المنتصر دائمًا وأبدًا على الشَّر. إنَّ الربَّ يسوع قد غلب الشِّرير حين قام مِن بين الأموات، لذا قال عنه الرَّسول إنّه "خرجَ غالبًا"، ولكنَّه أيضًا سيَغلِب الشّرير في اليوم الأخير، أي في يوم إعلان القيامة العامّة، لذا قال الرَّسول عن الربِّ إنَّه "خَرَج لِكَي يغلِب". في هذا الإصحاح، أراد يوحنّا الرَّسول تذكير المؤمنِين بالملكوت السَّماويّ الّذي سينالونه في الحياة الثّانية، متى ثبتوا في إيمانهم في هذه الحياة، من خلال كلامه على الفرس البيضاء؛ قَبل طَلبِه إليهم التحلِّي بالصَّبر لتخطِّي الصُّعوبات في زمن الاضطهاد الّذي يقودهم إلى الاستشهاد.

في هذا الإصحاح، يُكلِّمنا يوحنَّا الرَّسول على ستَّة ختوم مِن أصل سبعة ختوم، لأنَّ الخَتمَ السَّابع والأخير لا يُفَكّ إلّا عند حلول الآخِرة، وبالتّالي لا يستطيع المؤمِن معرفة حقيقة الآخِرة، قَبْل حدوثها، لذا عليه أن يكون مستعدًّا لها على الدَّوام.
في الخَتم الأوَّل، رأى يوحنَّا الرَّسول مشهد الانتصار والغلبة. إنَّ الحيوانات الأربعة ترمز إلى الانجيليِّين الأربعة: متى، مرقس، لوقا، يوحنّا.
في الخَتم الثَّاني، شاهَد يوحنَّا الرَّسول فَرسًا حمراء، "أُعطِيَ لها أن تَنزع السَّلام من الأرض"، وهذه الفرس تَرمز إلى الحروب، مع ما تحصده من أرواحٍ بشريّة بالموت. وبالتّالي، أراد الرَّسول إخبار المؤمِنِين من خلال هذه الفرس الحمراء بأنَّ حروبًا ستُشنُّ ضِدَّهم، وستقود إلى استشهاد الكثيرين منهم. إنَّ "السَّيف" يرمز إلى الاضطهاد الّذي سيُعاني منه المؤمِنون. كَتبَ يوحنَّا الرَّسول هذا السِّفر في زمن الاضطهاد، وبالتّالي لم يكن باستطاعته الكتابة بأسلوبٍ واضحٍ، كي لا تزداد حدَّة الاضطهاد على المسيحيِّين من قِبل الـمُضطَهدين، لذا لجأ إلى أسلوبٍ استعاريّ، لا أحدَ يستطيع فَهمَه إلّا إذا كان مؤمِنًا بالمسيح، فجميع الرُّموز الّتي لجأ إليها يوحنّا الرَّسول هي رموزٌ مستقاة من العهد القديم.
في الخَتم الثَّالث، كلَّمنا يوحنَّا الرَّسول على رؤيته لِفَرسٍ سوداء، وهي ترمز إلى المجاعة والفَقر وغلاء أسعار المواد الغذائية الضروريّة للحياة، إذ يُخبرنا الرَّسول أنَّ ثُمنِيّة القَمح سَتُباع بِدينارٍ وثلاثُ ثماني شَعير بدينار. في الحقيقة، هذا الكلام يُلخِّص ما نعيشه اليوم في لبنان، وأقول لكم إنَّ أجدادنا أيضًا قد اختبروه عبر العصور. إنَّ كلام يوحنَّا الرَّسول عن المجاعات، لا يعني أنَّ حدوثها يؤشِّر إلى اقتراب الآخِرة، بل إنّ حدوثها يُذكِّرنا أنَّ الآخِرة قد تتمَّ في أيِّ لحظةٍ. إنَّ ما نعيشه اليوم لا يعني أبدًا أنَّ الآخِرة قد أصبحت على الأبواب، لأنَّه عند حلول الآخِرة لن يكون هناك وقتٌ للمؤمِنِين لاستعدادهم لها، لأنَّه لن يكون هناك فرقٌ زمنيّ بين علامات الآخِرة وحلولها. إنَّ المجاعات وغلاء المعيشة والفقر هي مِن صناعة البشر ضدَّ إخوتهم البشر. إنَّ هذه العلامات الّتي كلَّمنا عليها يوحنَّا الرَّسول مِن شأنها أن تُذكِّرنا بضرورة الثَّبات على إيماننا والعيش وِفق تعاليم الربَّ، وعدم الانجراف وراء الخطيئة، كي لا تَحدُث الآخِرة ونحن غير مستعدِّين لها. وفي هذا الإطار، تابع يوحنَّا الرَّسول حديثه عن العلامات فقال: "إنَّ الزيت والخمر لا تَضُرَّهما". إنَّ الخمر يرمز إلى دَم المسيح الّذي نشربه في الافخارستِّيا؛ والزَّيت يرمز إلى الشِّفاء وبالتَّالي إلى الرَّحمة. إذًا، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يتعرّض لها في وقت الاضطهاد، على المؤمن أن يستمرَّ في عيش الشَّراكة والرَّحمة مع أخيه الإنسان.
في الخَتم الرَّابع، رأى يوحنَّا الرَّسول فَرسًا خضراء، والجالس عليها اسمه الموت. وهذا يشير إلى أنَّ الموت سيبتلع عددًا كبيرًا من المؤمنِين. إنَّ الموت قد أُعطي سُلطانًا على رُبع الأرض فقط، أي على جزء من الأرض لا كُلِّها، فالمؤمِنون سيتعرَّضون للأذيّة نتيجة الشَّر الموجود في العالم كالمرض والجوع، ولكنَّ الغلبة في النِّهاية لن تكون للشَّر بل لله وحده. إنَّ هذا الكلام يزرع تعزيةً إلهيّة، في قلوب المؤمنِين الّذين يعانون من الاضطهاد، إذ يُذكِّرهم يوحنَّا بأنَّ الجالس على الفرس البيضاء قد غلب وخرج ليَغلِب. وبالتّالي، مهما طال زمن الاضطهاد، فإنَّه لا بُدَّ مِن أن ينتهي.

في الختم الخامس، رأى يوحنّا الرَّسول "نفوس الّذين قُتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشَّهادة الَّتي كانت عِندَهم". إنَّ هذا الكلام هو عبارةٌ عن تعزيةٍ جديدة يُقدِّمها الرَّسول للمؤمِنِين، بعد التعزيّة الأولى المتجسِّدة في الفَرَس البيضاء والجالس عليها، ومفادُها أنّه مَهما حلَّ بالمؤمنِين فإنَّ مصيرهم سيكون في الملكوت، على مِثال تلك النُّفوس الموجودة تحت الـمَذبَح، أي القدِّيسِين الشُّهداء، إنْ كانوا ثابتين في إخلاصهم للربِّ يسوع. حسب تقليد الكنيسة الشرقيّة، حين يتمُّ بناء كنيسة، تُوضَع تحت الـمَذبَح ذخائرُ بعض الشُّهداء، أو ذخائر بعض القدِّيسِين الّذين قدَّموا لله حياتهم فماتوا بسبب إخلاصِهم للربّ. في القديم، كانت تقام الذبيحة الإلهيّة على مدفن الشَّهيد. في هذه الأيّام الصَّعبة في لبنان، يستطيع المؤمنون فَهْمَ جوهر الإيمان المسيحيّ، إذ لم يَعُد هناك من شيءٍ مَضمونٍ في حياتهم، وما مِن أَمَلٍ يَلوحُ لهم في الأُفُق. إنَّ المؤمِن يشعر بالإحباط واليأس، حين يجد أنَّ المصائب تنهال عليه بكثرةٍ، على الرُّغم من إيمانه بالله والتزامه الصّلاة. إنَّ الربَّ يسوع وَعدَ رُسُلَه بالحياة الأبديّة، غير أنَّهم تفاجأوا بموته على الصَّليب، فاعتقدوا أنَّ قصتَّه قد انتهَتْ. غير أنَّه بعد ثلاثة أيّامٍ من موته، أي حين فقَدوا كلَّ أملٍ بأن يحصل أيّ تغييرٍ في مصيرِه، إذ إنَّ الجسد بعد الموت، حسب الفكر اليهوديّ، يبدأ بالتَحلُّل في اليوم الرَّابع، ظهر لهم الربُّ في العليّة، حيث كانت الأبواب مغلقة، ليؤكِّد لهم قيامته من بين الأموات. إنَّ ظهور الربِّ لتلاميذه في اليوم الثَّالث، كان أمرًا غير متوقَّع من التَّلاميذ ولا حتّى مِن اليهود، لذا وَجدوا صعوبةً في تصديق تلك الحقيقة، بدليل أنَّ الربَّ قد طلب من رُسُله أن يلمسوه كي يتأكَّدوا مِن أنَّ ما يرونه هو حقيقةً لا وَهمًا، في حين أنَّ اليهود رَفضوا تصديق تلك الحقيقة تمامًا، فاتَّهموا التَّلاميذَ بسرقة جثمان الربِّ وإخفائه. إنَّ الله قام ويقوم بمعجزاتٍ لا عَدَّ لها في حياتنا، وسيقوم بأمورٍ لن نتمكَّن مِن تصديقها. ولكنْ أمام عمَل الله في حياتنا، نَطرَح السُّؤال على ذواتِنا: هل نؤمن بالله، بعدما حدَثَ مَعنا؟ إنَّ اليهود لم يُصدِّقوا أنَّ المسيح قد تجسَّد فيما بينهم، ولذا لم يؤمِنوا بأقواله، ولذلك طلبوا إليه آيةً، فَلَم يُعطِهم سِوى آيةَ يونان النبيّ.كان ابراهيم، أبا المؤمنِين، غَنيًّا على المستوى الماديّ الأرضيّ، إذ كان ينتمي إلى قبيلة، وكان يملك مواشي وأموالاً؛ ولكنْ عندما سَمِعَ صوت الربِّ، ترك ابراهيم كلَّ شيءٍ وتَبِع الله مِن دون مطالبته بِبَراهين وأدلَّة للتأكُّد من صحَّة أقوال الربِّ، وهذا أمرٌ لا يستطيع العقل البشريّ تَصديقه. إنَّ كلَّ الّذين عاشوا قبل مجيء المسيح، سيلتقون به في الملكوت، إذا كانوا قد سلكوا في حياتهم وَفقًا للرَّجاء المسيحيّ.

إنَّ الإيمان بالله، ليس أمرًا سَهلاً، خصوصًا في ظلِّ الظروف الصَّعبة الّتي يعيشها المؤمنون في لبنان، غير أنَّ الإيمان بالله يَدفعنا إلى التأمُّل في كلمة الله، وفَهْمها بشكل أوضح وأفضل، والسَّعي إلى تطبيقها في حياتنا. في ظلِّ هذه الظروف الصَّعبة، أصبح المؤمنِون، للأسف، يُصدِّقون كلام المنجمِّين أكثر من تصديقهم لكلمة الله! إنَّ كلمة الله ستبقى وحيدةً حتّى اليوم الأخير، أي أنَّ جمهورها سيكون ضئيلاً على الدَّوام؛ وما اختبره الربُّ في حياته هو خيرُ دليلٍ على ذلك، إذ لم يرافقه أحدٌ من تلاميذه إلى الصَّليب إلّا يوحنَّا الحبيب؛ وكذلك بولس الرَّسول لم يبقَ معه إلّا تلميذٌ أو تلميذَان كحدٍّ أقصى. كذلك الأمر بالنِّسبة إلى لقدِّيسِين، إذ لم يكن لهم مناصِرون كُثُرٌ، ولكنْ عندما كان يزدادُ عددُ مناصِريهم، كانوا يسعون إلى الابتعاد عن النّاس عبر الجلوس على العمود أو في المناسِك، فلا يتمكَّن من الوصول إليهم إلّا المتعطِّش حقًّا إلى كلمة الحقّ. إنَّ ازدياد جماهير حاملي لواء الحقّ، يؤشِّر إلى وجود خللٍ، إمّا في فَهْم الجماهير لكلمة الحقَّ، وإمَّا في مساومة حامِل لواء الحقّ على كلمة الحقّ. إنَّ بعضَ الجماهير تحتاج إلى مراجعةٍ لِحياتها، إذ إنَّ سَمْعها وذهنها بحاجة إلى معموديّة جديدة بكلمة الله، لتتمكّن من الشَّهادة لها. في زمن الاضطهاد، شَهِدت الكنيسة الأولى صراعًا بين المسيحيِّين، إذ كان البعض منهم يشجِّعون إخوتهم على المحافظة على حياتهم الأرضيّة من خلال الخضوع للامبراطور، من دون نُكران إيمانهم بالربّ؛ في حين أنَّ البعض الآخَر منهم أصرَّوا على الثَّبات في إيمانهم، وهنا يظهر صبر القدِّيسين الّذي يقوم على انتظار المؤمِنِين برجاءٍ وصبرٍ، تحقيق وعود الله، إيمانًا منهم بِصدقِ الله. إنَّ هذه الأزمة الّتي نعاني منها في لبنان، جعلَتْ الأغنياء والفقراء متساوين في معاناتهم في الوضع الاقتصاديّ، فأصبح الأغنياء قادرين على فَهم معنى العَوز، وبالتّالي أهميّة العطاء، الصّادر عن رغبتهم في المساعدة، لا الناتج عن فضلات موائدهم. وفي هذا الإطار، تقول لنا الأمّ تريزيا دو كالكوتا إنَّ العطاء الحقيقيّ هو عطاءٌ موجِعٌ. في ظلِّ هذه الأزمة، نحن مدعوُّون إلى التَّبشير بالله لا بكلامنا، إنّما بعطائنا لإخوتنا المحتاجين، لأنّه إنْ لم ننطلق للبشارة بالربّ، فمن يبشِّر به؟ أقول لكم إنَّ الله سيسترجع منّا كلمته ويُعطيها لِمَن يُدرِك قيمتها ويَعملُ بها. وإنْ كُنَّا من الصّابرين على الصُّعوبات، فلا نشعرنَّ بالافتخار والكِبرياء على الآخَرين، كما فَعل إيليّا النبيّ في العهد القديم حين قال لله إنّه الوحيد الّذي لا زال يَعبُد الله ويدافع عنه، إذ قَتلَ أنبياء البعل، فكان جواب الله له إنّه ليس وحيدًا في عبادته لأنّ هناك سبعة آلافِ رُكبةٍ لم تسجد لآلهة بعل. إذًا، حتّى ولو كنتم من المؤمنِين المخلِصين لله، عليكم الانتباه لِكَيفيّة التعامل مع أنفسكم ومع إخوتكم ومع الله.
إنَّ كلَّ مسيرة يسوع المسيح كإنسان، مبنيّة على كلام مِن دون إثباتاتٍ عِلميّة ملموسة، والدَّليل على ذلك هو أنَّ الربَّ لم يتدخَّل للدِّفاع عن المؤمنِين به الّذين يتعرَّضون للاستشهاد. لم يتمكَّن اليهود ولا حتّى الأُمم، من الإيمان بأنّ المسيح يسوع قد صُلِب ومات، لأنَّهم لم يقبلوا أنّ الله قد يَترُك نَبِيَّه يُسلَّم إلى الموت، والموت صَلبًا. كذلك، تصرُّفات بعض المؤمِنين لا تدلّ على إيمان هؤلاء بأنَّ الربَّ قد مات على الصّليب وقام من الموت ومَنَحهم الخلاص، إذ لا يسلكون بحسب كلمةِ الله. عندما كَتب يوحنَّا الرَّسول سِفر الرُّؤيا،كان يُدرِك أنَّه أمام الاضطهاد، ذاك التحدِّي الكبير، قد يُنكر بعض المؤمِنِين إيمانهم بالربّ مستبدلِين الإله الحقيقيّ بآلهةٍ وثنيّة مزيّفة، للمحافظة على حياتهم الأرضيّة، في حين أنَّ البعض الآخَر سيَثبُت على إيمانه بالربّ، حتّى ولو قاده ذلك إلى الموت، أي إلى الاستشهاد. في هذا السِّفر، يقول يوحنَّا الرَّسول للمؤمِنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد بضرورة الصَّبر على الشَّدائد، لأنَّه مهما طالت مُدَّة الاضطهاد، فإنَّه يبقى لفترة قصيرة من الزَّمن، لأنَّ "الفَرسَ البيضاء" آتية لا محالة.

إنَّ صرخَة الشُّهداء الّتي تكلَّم عليها يوحنّا الرَّسول، في هذا الإصحاح هي صرخة كلِّ مؤمنٍ يتعرَّض للشُّرور من الآخَرين، نتيجة إيمانه بالله. فيطرح السُّؤال على ذاته وعلى الله حول سبب عدم تدخُّل الله للقضاء على كلّ الشُّرور والدِّفاع عن المؤمنِين به. عنى هذا السُّؤال الّذي طَرحه كلّ الشُّهداء، يُجيب الله قائلاً إنَّ الشُّهداء سيَلبَسون ثيابًا بيضًا، وسيُطلَب إليهم الانتظار قليلاً حتّى يكتمل عدد المؤمِنين الّذين سيُستَشهدون في سبيل كلمة الحقّ، وسيَصلون إلى الملكوت. إنَّ الثِّياب البيض تهدف إلى دَفع الشُّهداء إلى نِسيان ما تعرَّضوا له من عذابات، لأنّهم سينالون في الملكوت ما تشتهي كلُّ عينٍ أن تراه، وكلُّ أُذنٍ أن تسمَعه.
ولـمَّا فُتِحَ الخَتمُ السّادس، رأى يوحنَّا الرَّسول صورةً رهيبةً عن الآخِرة، فأخبرنا أنَّ الشَّمس ستُظلم والقمر سيُصبح كالدَّم والنُّجوم ستسقُط، وأنّ جميع عظماء هذه الأرض سيخافون، ويطلبون المساعدة من الطبيعة للتَهرُّب من الخضوع لدينونة الجالس على العرش ومن غضب الخروف.
إنَّ عبارة "مَن يستطيع الوقوف؟" هي جوابٌ لكلِّ مَن يسأل: "إلى متى يستمرُّ الشَّر والاضطهاد بمضايقة المؤمِنِين؟". فبالنِّسبة إلى يوحنّا الرَّسول، لا أحدَ من المؤمِنِين يستطيعُ الوقوف إلّا إذا تحلّى بالصَّبر على الاضطهاد، وثَبَت على إيمانه بالربّ، مُتَذكِّرًا أنّه في اليوم الأخير سيتغيَّر كلّ شيء، وسيفقد الشَّر كلّ قوَّته وسيُباد. إنَّ الصَّبر هو الّذي يزيد عدد الشّهداء في سبيل كلمة الحقَّ. إذًا، السُّؤال المطروح علينا الآن، بعدما نَقَل إلينا يوحنّا الرَّسول هذه الصُّورة الرَّهيبة عن اليوم الأخير، هو: كيف نستطيع الصُّمود عند تعرُّضنا للضِّيق والشِدة؟ إنَّ الصُّمود أمام الشِّدة يفترض علينا التمسُّك بوعد الله وكلمته، لأنّها الوحيدة القادرة على إعطائنا القوَّة للصَّبر فنتمكَّن، لا من إلغاء الصُعوبة، إنّما احتمالها بإيمان. فالشِّدة هي مرحلةٌ زمنيّة لا دائمة، فالدَّائم وحده هو وعدُ الله للمؤمِنِين، لذا علينا، نحن المؤمِنون، أن نتبع الله وحده من دون سواه، لأنّه الوحيد الدَّائم دائمًا. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
18/2/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الخامس حبّ الله للمؤمن
https://youtu.be/8mEbByoYW-4

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الخامس
الأب ابراهيم سعد

18/2/2020

"وَرَأيتُ على يَمينِ الجالِسِ على العَرشِ سِفرًا مَكتوبًا مِن داخِل ومِن وراءٍ، مَختومًا بِسَبعةِ خُتومٍ. وَرَأيتُ مَلاكًا قَوِيًّا يُنادي بِصوتٍ عَظيمٍ: "مَن هُوَ مُستحِقٌّ أن يَفتَح السِّفرَ ويَفُكَّ خُتومَه؟" فَلَمْ يَستَطِعْ أَحدٌ في السَّماءِ ولا على الأرضِ ولا تَحتَ الأرضِ أن يَفتَحَ السِّفرَ ولا أن يَنظُرَ إليهِ. فَصِرتُ أنا أبكي كثيرًا، لأنَّه لَم يُوجَدْ أحدٌ مُستَحِقًّا أن يَفتَحَ السِّفرَ وَيَقرأهُ ولا أن يَنظُرَ إليهِ. فقالَ لي واحِدٌ مِنَ الشُّيوخِ: "لا تَبكِ. هُوَذا قَدْ غَلَبَ الأسَدُ الّذي مِن سِبطِ يَهوذا، أَصلُ داودَ، ليَفتَحَ السِّفرَ ويَفُكَّ خُتومَهُ السَّبعةَ". وَرَأيتُ فإذا في وَسَطَ العَرشِ والحيواناتِ الأربَعَةِ وفي وَسَطِ الشُّيوخِ خَروفٌ قائمٌ كأنَّهُ مَذبوحٌ، لَهُ سَبعةُ قُرونٍ وسَبعُ أَعيُنٍ، هِيَ سَبعَةُ أرواحِ اللهِ الـمُرسَلةُ إلى كُلِّ الأرضِ. فأتى وأخَذَ السِّفرَ مِن يَمينِ الجالِسِ على العَرشِ. ولَمَّا أخَذَ السِّفرَ، خَرَّتْ الحيواناتُ الأربَعَةُ والأربَعَةُ والعِشرونَ شَيخًا أمامَ الخَروفِ، وَلَهُم كُلُّ واحدٍ قيثاراتٌ وجَاماتٌ مِن ذَهبٍ مملوءةٌ بَخورًا هيَ صَلواتُ القدِّيسِينَ. وَهُم يَتَرنَّمونَ تَرنيمةً جَديدةً قائلِين: "مُستَحِقٌّ أنتَ أنْ تأخُذَ السِّفرَ وتَفتَحَ خُتومَهُ، لأنَّكَ ذُبِحتَ واشْتَرَيْتَنا للهِ بِدَمِكَ مِن كُلِّ قَبيلةٍ وَلِسانٍ وشَعبٍ وأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنا لإلَهِنا مُلوكًا وَكَهنَةً، فَسَنَملِكُ على الأرضِ". ونَظَرتُ وسَمِعتُ صَوتَ مَلائكةٍ كَثيرينَ حولَ العرشِ والحَيواناتِ والشُّيوخِ، وكان عَدَدُهم رَبَواتِ رَبَواتٍ وأُلوفَ أُلوفٍ، قائلِينَ بِصَوتٍ عَظيمٍ: "مُستحِقٌّ هُوَ الخَروفُ الـمَذبوحُ أنْ يأخُذَ القُدرَةَ والغِنى والحِكمةَ والقُوَّةَ والكَرامَةَ والـمَجدَ والبَرَكةَ!". وَكُلُّ خَليقةٍ مِمّا في السَّماءِ وَعلى الأرضِ وتَحتَ الأرضِ، وما على البَحرِ، كُلُّ ما فيها، سَمِعتُها قائلةً: "للجالِسِ على العَرشِ وللخَروفِ البَرَكةُ والكَرامَةُ والـمَجدُ والسُّلطانُ إلى أَبَدِ الآبِدينَ". وَكانتِ الحيواناتُ الأربَعَةُ تَقولُ: "آمِين". والشُّيوخِ الأربَعَةُ والعِشرونَ خَرُّوا وسَجَدوا لِلحَيِّ إلى أبدِ الآبِدِينَ."

في هذا الإصحاح، يِصفُ لنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، مَشهدًا عَظيمًا يُجَسِّد ما سينتظرِنا نحن المؤمِنِين في الحياة الثانية، إذ ثَبُتْنا على إيماننا بالربِّ، وأخلَصْنا له. في الملكوت، جوقةٌ لا مثيلَ لها، وترانيم لا تُرتَّل إلّا لِشخصٍ قد سبَقنا إلى العرش السَّماويّ، وهو الحَمَل الـمَذبوح، ربُّنا يسوع المسيح. وبالتّالي، يُخبرنا هذا السِّفر أنّه لا بُدّ لِكُلِّ مؤمنٍ مَذبوحٍ من أجل الحَمَل المذبوح، مِن أن يكون معه على العرش في الملكوت.
يُقدِّم لنا هذا النَّص الكِتابيّ، تفاسير عن الصَّلوات والتَّرانيم الّتي سنَسمَعُها في الملكوت السَّماويّ. إنَّ البَخور يُعبِّر عن صلوات القدِّيسِين، لذلك نستخدمه في الذبيحة الإلهيّة وفي الصَّلوات الطَّقسيّة، فالدُّخان المتصاعِد من البخور يتَّجه عاموديًّا نحو العَلاء، أي نحو السَّاكن في السَّماوات. إنَّ استخدام البخور في الكنيسة، يترافق مع صلواتٍ، على سبيل الـمِثال: "لتُقم صلاتي كالبَخور أمامك"؛ ففي هذا المزمور، يسأل المؤمِنُ اللهَ أن يَقبَل صلاته وأن تكون صلاته مستقيمةً أمامه، كدُخان البخور المتصَاعد إليه. كذلك أيضًا، في الذبيحة الإلهيّة، يُبخِّر الكاهن المؤمِنِين كما يُبخِّر الأيقونات أو التماثيل المقدَّسة في الكنيسة: فالبَخور لا يُعبِّر فقط عن تكريمِنا وتمجيدنا للأيقونات، بل يُعبِّر عن كونِنا، نحن المؤمِنِين، قدِّيسِين في نَظَر الله أبينا، ولذلك، نرسم إشارة الصَّليب على جِباهِنا حانِين رؤوسِنا في أثناء التَّبخير. إنّنا نحني رؤوسَنا عندما يبخِّرنا الكاهن، تعبيرًا عن عدم استحقاقِنا لهذا التَّمجيد الـمُعطى لنا، لأنَّ المجد هو فقط لله، الآب والابن والرُّوح القدس. إذًا، البَخور هو عبارةٌ عن حِوارٍ بين المؤمن والله، لذلك نُردِّد بعد كلِّ صلاة عبارة "آمِين"، أو "يا ربُّ ارحَم". إنَّ الحوار بين المؤمن والله في الكنيسة يُعبِّر عن مجالسة المؤمن لإخوتِه المؤمِنِين من جهةٍ، وعن مجالسته للجالِس على العَرش من جهةٍ أخرى. في القدَّاس الإلهيّ، يعيش المؤمن سِفر الرُّؤيا ويُجَسِّده: إذ يرى المؤمن في الذبيحة الإلهيّة وَعْد الله الّذي سيُعطى له في الملكوت السَّماويّ، لأنّه كان مُخلِصًا لله، لذا يتناول جسد المسيح ودَمِه، كعربون لهذا الوعد الإلهيّ. إذًا، في كلِّ ذبيحة إلهيّة نتذوَّق في المناولة شيئًا من الملكوت.

إنَّ سِفر الرُّؤيا ليس كتاب تنبوءات حول المستقبل بل هو كِتاب تعزيةٍ من الله لنا، إذ يساعدنا على الثّبات في إيماننا بالربّ في وَقت الـمِحَن، كي نتمكَّن من الوصول إلى الملكوت السَّماويّ في الآخِرة. من دون الربِّ، لا يستطيع المؤمن احتمال الشَّدائد الّتي سيتعرَّض لها في هذه الحياة، من عُزلة ومرض وموت، إذ ستقوده إلى حالةٍ من الإحباط واليأس. إنَّ الربَّ سيكون بانتظار وصول الـمُخلِصين له في هذه الحياة، إلى الملكوت، لأنّه قد أعدَّ لهم المائدة السماويّة. إنّ كلمة "سِفر" لا تعني كِتاب، بل هو دُرجٌ مكتوبٌ عليه من كلّ جهةٍ، من قدَّام ومن وراء، وبالتّالي لا مجال لزيادة أي حرفٍ عليه، لأنّه كامل. إنّ هذا السِّفر، بِحَسب القدِّيس يوحنّا،كاتبه، مختوم بسبعةِ أقفالٍ، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان معرفة ما في داخله إلّا إذا فَكَّ هذه الختوم. إنّ يوحنّا الرَّسول قد سَمِع ملاكًا يطرح السُّؤال حول الشَّخص المستحِّق أن يفتَح هذا السِّفر، وقد استخدم لغة المفرد لا الجَمع، وبالتّالي لم يكن المقصود بصيغة المفرد جماعة المؤمِنِين بالربّ، بل المقصود هو الربُّ نفسه. لم يتجّرأ أحدٌ من المخلوقات لا الموجودة في السَّماء أو على الأرض، وحتّى تحت الأرض، على فَتحِ هذا السِّفر، لأنَّ المستحقَّ أن يفتَح هذا السِّفر يجب، كما يبدو، أن يتحلَّى ببعض الصِّفات الّتي لا يملكها إلّا الحَمل الـمَذبوح. إنّ يوحنّا الرَّسول قد شَعر بالإحباط لعدم وجود شخصٍ "مستَّحقٍّ" قادرٍ على فَتح هذا السِّفر، لذا بدأ يبكي. عندها، قَدِمَ إليه أحد الشَّيوخ وطَمّأنه إلى أنّ "الأسد الّذي من سِبط يهوذا، أصل داود" سيتمكَّن من فَتحِ السِّفر وفَكِّ ختومه، لأنّه قد غَلبَ. ويكلِّمنا الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح، على وجود أربعة حيواناتٍ في الملكوت، هي رمزٌ للإنجيليِّين الأربَعة. كما يُكلِّمنا على وجود أربعة وعِشرين شَيخًا، والرَّقم أربعة وعِشرين هي ضُعف الرَّقم اثني عشر، الّذي يرمز إلى الشُّموليّة، وبالتّالي فالمقصود من الرَّقم أربعة وِعشرين هو كلّ الأُمَم الّتي أخلَصَتْ للمسيح، على الرُّغم من كلِّ الضِّيقات الّتي تعرَّضَتْ لها في هذه الحياة، فاستَّحقت أن تجلِس تحت العَرش في الملكوت السَّماويّ. ثمّ يُكلِّمنا يوحنّا الرَّسول على حملٍ مذبوح قائمٍ في وسَط الحيوانات الأربعة والشُّيوخ الأربعة والعِشرين، وهذا الحمل المذبوح القائم هو الربُّ يسوع، الّذي على الرُّغم من موته على الصَّليب، وبقاء علامات الصّلب ظاهرة على جسده، انتصر على الموت وقام من بين الأموات. في كلِّ ظهورٍ له لتلاميذه، كان الربُّ يسوع يُظهر علامات صَلبه لَهم، ليؤكِّد لهم أنّه ليس رُوحًا، وقد قال لهم في إحدى ظهوراته لهم: "إلمِسوني وانظُروا، فإنَّ الرُّوحَ ليسَ لَهُ لَحمٌ ولا عَظمَ كما تَرون لي"(لو 24: 39). قَبْل قيامته، كانت علامات الموت باديةٌ على الربِّ يسوع على الصَّليب وقد دَفعت بالنّاس إلى البكاء على حاله؛ أمَّا بعد القيامة، فعلامات الموت أصبحت بُرهانًا على قيامته من الموت، وبالتّالي، تحوَّلت علامات الصَّلب من علامات عار إلى علاماتِ انتصارٍ على الموت. إنّ العلامات الّتي تَظهر على جسد الإنسان في وقت الشِّدة كالمرض مثلاً، والّتي تدعوه إلى الخجل، تتحوَّل إلى علاماتِ فخرٍ واعتزارٍ له، بعد انتصاره على الشِّدة.

إنَّ الرَّوح القدس حاضرٌ مع الحَمل المذبوح، ممّا يشير إلى أنَّ هذا الحَمَل يتمتّع بروح الألوهة. إنّ الحَمَل المذبوح قد جَلَسَ على العرش، بعد أن نال العذاب في هذه الحياة، إذ عُرِّيَ من ثيابه وضُرب بالحَربة، وتعرَّض للسُّخرية، وهو الآن سَيَدِين العالم. عندما أخذ هذا الحَمَل المذبوح، السِّفر عن يَمين الله الآب، جثَت له كلّ الأُمم، وبدأت تُنشِد له ترانيم التَّعظيم، مُعترِفةً به أنّه هو "المستَحقّ" أن يفتَح هذا السِّفر. في الكنيسة الشَّرقيّة، عند رسامة كاهن أو أسقف أو شمّاس، يقول الأسقف عن طالب الدَّرجة الكَهنوتيّة إنَّه مستحقٌّ لهذه الخِدمة، فَيُردِّد الشَّعب خَلف الأُسقف إنّ طالب الدرجة الكهنوتيّة، هو مستحقٌّ لها. ولكن، في الحقيقة، ما مِن أحدٍ مستحقٌّ أن يخدم الله، غير أنَّه باستطاعَـنا أن نكون مستَعدِّين لتلك الخِدمة. وبالتّالي، حين يقول الأسقف عن طالب الدَّرجة الكهنوتيّة إنّه مستحقٌّ، فهو يقصِد بذلك أنَّ هذا الإنسان أصبحَ على استعداد لِمقابلة وجه الله في اليوم الأخير، والدَّليل هو أنّه عند موت الكاهن، يتمّ إلباسه ثيابه الكهنوتيّة وسَترُ وَجههِه بالسِّتر الّذي كان يضَعه الكاهن على القربان، وذلك تعبيرًا عن اعتراف الجماعة بأنّ هذا الكاهن قد أصبح القربان الـمُقدَّم لله، إذ أصبح على استعداد لِلُقيا وجه الله في الملكوت. إنّ الإنسان يُصبح مستَّحقًا لِخدمة الله، في نهاية حياته الأرضيّة أي بعد موته. إنَّ المستَّحقّ الوحيد أن يُعايِنَ وجه الله، هو الحَمَل المذبوح، ولذا هو مستحقٌّ أن يَفتح كلّ الأختام عن سِفر الحياة؛ وبالتّالي، الحَمَل المذبوح، أي الربُّ يسوع المسيح، هو الباب الّذي منه ندخل إلى الملكوت، فَمِن خلاله وحده نستطيع رؤية الله الآب الجالس على العَرش، على الرُّغم من ضُعفِنا البشريّ. إنَّ الربَّ لا يطلب إلى المؤمن إلّا عيش الأمانة له، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يتعرَّض لها في هذه الحياة، فيتمكَّن الربُّ من الاستراحة في قلب هذا المؤمنِ، إذ لا يملك الله مكانًا يستريح فيه إلّا في القلوب الطّاهرة، أي في قلوب القدِّيسِين. لذا، فالمطلوب من المؤمنِين العمل على تنقية قلوبهم كي تُصبح أهلاً لسُكنى الله فيها.
إنَّ الربَّ يسوع قد اشترانا لله الآب، بِدَمِه. إنَّ فِعل "اشترى" في اللُّغة اليونانيّة هو "أَغورازومِه"، وهو مشتَّقٌ من عبارة "أَغورا" الّتي تعني ساحة المدينة أو القرية الّتي يتمّ فيها بَيْعَ العبيد، إضافةً إلى ممارسة الأعمال التِّجاريّة فيها. في هذه السَّاحة، كان ينتقل العبد من عبوديّة إلى عبوديّة أخرى، نتيجة أعمال البَيْع والشَّراء، فيتغيَّر سيِّده. إنّ العبد يتحرَّر من عبادته للسَّيِّد الأوّل الّذي كان يعمل عنده، ليُصبِح عبدًا للسَّيد الجديد الّذي اشتراه، وبالتّالي لا يستطيع العَبدُ في هذه الحالة معرِفة طَعم الحريّة. إنَّ الإنسان الحُرّ هو الّذي وُلِد حُرًّا، لا يخضع لسَّيِّدٍ؛ أمّا الإنسان الـمُحرَّر فهو إنسانٌ وُلِدَ عبدًا ولكن سيِّده أعطاه الحُريّة. إنّ الربَّ يسوع قد حرَّرنا من العبوديّة للخطيئة عبر خضوعنا للأُمَم، فاشترانا بِدَمه؛ ولكنّ عِوضَ أن يجعلنا عبيدًا له، حرَّرنا حتّى من ذاته، فأعطانا الـحُريّة في محبّته والعيش معه، أو رِفضه والعيش بَعيدًا عنه. إنّ الربَّ يسوع قد اشترانا بِدَمه، بسبب حبِّه، وحرَّرنا من كلّ سيادة، حتّى من سيادته علينا. والدَّليل، أنَّ الربَّ يسوع في كلامه مع تلاميذه، قال لهم: "لا أدعوكم خَدَمًا بعد اليوم، لأنّ الخادم لا يعلم ما يعمل سيِّده. فقد دَعوتكم أحبّائي لأنّي أطلَعتُكم على كلِّ ما سمعْتُه من أبي"(يو15: 15). إذًا، لقد جعلنا الربُّ يسوع مُساوين له، أبناءً لله الآب، على مِثاله. وفي الإطار نفسه، يقول لنا بولس الرَّسول:"لقد اشتُريتُم بثمن، فمجِّدوا الله بأجسادكم وأرواحِكم"(1كور6: 20). إذًا، الـمُحرَّر يحفظ على الدَّوام جَمِيل الّذي حرَّره من العبوديّة، فيجعل منه مَرجعًا له. عندما يشتري الإنسان العَبدَ، فهو لا يُعامله كسيَّد بل كعَبدٍ، مهما كان السَّيِّدُ صالِحًا. بعد أن اشترانا بِدَمه، حرَّرنا الربُّ من كلِّ عبوديّة، وجعلنا أبناءً لله، الذّي تبنّانا، وجعلنا شرُكاء الربِّ يسوع، ابنه الوحيد، في الميراث، ألا وهو الملكوت السَّماويّ. إنَّ الله قد جعلنا وَرَثةً له، أي شُركاءَ له في الألوهة. إنّ كلمة "وريث"، تشير إلى هذا الإنسان الّذي يملك كامل الحقَّ في التصرُّف بالممتلكات الموروثة؛ وفي هذا الإطار، ينتظر الله منّا أن نُحسِن التصرُّف بممتلكاته، لا أن نتصرَّف بها كما تصرَّف الابن الشَّاطر بممتلكات أبيه. إنَّ الابن الشَّاطر قد طالب أباه بحصَّته من الميراث، فأخذها وذهَب للعيش بعيدًا عن أبيه. لقد أخطأ الابن الشَّاطر في التصرُّف بِحِصَّته من الميراث، إذ بدَّدها كلَّها، ممّا أدَّى إلى شعوره بالجوع. وبعد أن فَقَد حصَّته من الميراث، وشعر بالجوع، قرَّر الابن الشَّاطر العودة إلى أبيه طالبًا إليه أن يُعامله كأحد أُجرائه. ولكن عند رؤيته ابنه عائدًا، شعر الأب بالفرح، فأسرَع إليه وقبَّله على عُنقه، قُبلَة الأب لابنه؛ وألبَسَه الـحُلَّة الأولى، أي حُلَّة الوريث؛ وألبَسَه الخاتم، فأصبح قادرًا على الخَتمِ باسم أبيه؛ وألبَسَه الحذاء علامةً على عودته سيِّدًا إلى هذا المنزل لا عبدًا فيه؛ وأقام له وليمةً، ذابحًا له العِجل المسمَّن. غريبٌ هو هذا الأب الّذي فرِح بعودة ابنه، الّذي كان يعيش حياة طيشٍ لا تُرضي أباه، عِوَض مُعاقبته. مِن هنا، نتعلَّم أنّه علينا تغيير نظرتنا إلى الله، فلا ننظر إليه بعد الآن على أنَّه قاضٍ وديّانٌ عادلٌ، فنخاف من حُكمِه؛ بل ننظر إليه على أنَّه أبٌ حنونٌ، مُحبٌّ لأبنائه.

غريبٌ هو الإنسان الّذي يسأل الله، عند كلّ مُصيبةٍ تَحلُّ به، عن سبب وقوعه فيها، مُعَدِّدًا لله أعماله التَّقويّة الصَّالحة. إنَّ التعزيات الإلهيّة هي ثمرة وعي الإنسان لحُبِّ الله، والقداسة هي ثمرةُ فَهْمِ الإنسان لِـحُبِّ الله. إنّ فَهمَنا لِـحُبّ الله لا يجعلنا معصومِين عن الخَطيئة، فطبيعتنا البشريّة تبقى ضعيفة، ولكنَّ فَهْمَنا لـحُبِّ الله يجعلنا نسارِع إلى الوقوف من جديد بعد وقوعنا في الخطيئة، متَّخِذين القرار بالعودة إلى الله مُجدَّدًا والعيش بالقُرب منه. إنَّ الشُّهداء الّذين يتكلَّم عليهم سِفر الرُّؤيا، هم مؤمِنِون فضَّلوا الثَّبات على إيمانهم بالربِّ تعبيرًا عن إخلاصِهم له، إذ اكتشفوا عظمة حبِّه لهم، وأدرَكوا أنَّ الله إلى جانبهم وهو لن يَتركَهم وَحدهم. إنَّ مصائب الإنسان سببها تَرك الإنسان لأخيه الإنسان، لا تَرك الله للإنسان: فالله لا يترك أبناءه يُصارعون وَحدهم في الشِّدة، أمّا البشر فَيتركون إخوتهم في الصُّعوبات حين يَعزلونهم عنهم ويكرهونهم، ويتعرَّضون لهم بالأذيّة ويحسدونهم، وبخاصَّة يَحسِدون أولئك الّذين يقومون بأعمال صالحة تجاه الآخَرين. غالبًا ما ينال الإنسان الأذيّة لا من عَدُّوه، بل من أقربائه. إنَّ المؤمن المتروك من البشر يُسارع إلى الارتماء بين أحضان الله، حين يُدرِك أنَّ الله يُحبُّه، وخصوصًا حين يتعرَّض هذا الإنسان للمَرض أو الموت. إنّ الله لا يستسلم، على عكس الإنسان الّذي يستسلم عند أوّل صعوبة تواجهه: فالله يحاول جاهدًا ومرّاتٍ كَثيرةٍ، إقناع الإنسان بأنَّه يُحبُّه، أمّا الإنسان، فعند أوَّل مُصيبة تعترِضه ينسى حُبَّ الله له. إنَّ الإنسان توَّاقٌ إلى التصرُّف كعبدٍ في علاقته مع الله، على الرُّغم من إعلان الله له أنَّه تَبنّاه وجعله ابنًا له. وعندما يقرِّر الإنسان العودة إلى الله بعد وقوعه في الخطيئة، يُسارِع الله إلى التَّعامل معه كابنٍ لا كَعبدٍ. إنَّ حُبَّ الله للبشر، جعله يتصرَّف بِسَذاجةٍ معهم، إذ يُصدِّق توبتهم، على الرُّغم من عِلمه أنَّهم سيقعون في الخطيئة من جديد، عند أوّل فرصةٍ. إنَّ محبَّة الله لنا "تَستُر جَمًّا مِنَ الخطايا". إنَّ الله يعرف رغبة الإنسان في العودة إليه، عند تلاوته بعض الصَّلوات، ولكنّ في الوقت نفسه يُدرِك خفايا قلبه وأهوائه، لذا لا يتردَّد الله عن مسامَحته داعيًا إيّاه للدُّخول من جديد إلى "فرحِ سيِّده".
إنَّ البشر لا يغفرون لبعضهم البعض كما يغفر الله لنا زلّاتنا، إذ إنَّ الغفران عند البشر لمرَّات عديدة متكرِّرة تُسمَّى غباوة. إنَّ الربَّ طلب إلى بطرس، عند سؤاله له عن عدد المرّات الّتي عليه مسامحة أخيه المخطئ إليه، أن يسامح أخاه سَبعِين مرَّة سبع مرّات في اليوم، أي أربعمئة وتسعين مرّة في اليوم الواحد. وبما أنَّ الربَّ طلب إلينا مسامحة الآخَرين، فإنَّه يُعطينا الـمَثل في تصرّفه معنا، إذ لا يتردَّد عن مسامحته لنا، غير المحدودة.
إنَّ الربَّ يسوع قد اشترانا بِدَمِه لله، وجعلنا ملوكًا، لذلك هو يستحقُّ أن نهلِّل له ويستحقَّ أن يكون الوحيد الّذي يستطيع فَكَّ الـخُتوم. إنَّ عبارة "رَبَوات رَبَوات وأُلوفَ ألوفٍ"، تشير إلى العدد الكبير للمخلوقات الموجودة في الملكوت. إنَّ الرَّسول يوحنَّا، يستخدم في هذا السِّفر عبارة "الخروف المذبوح"، لأنّه يتوجَّه في كلامه إلى أشخاصٍ عُرضةً للاستشهاد في كلّ يومٍ، فيُذكِّرهم أنَّ الربَّ قد سبَق واستشهد قَبْلَهم، وبالتّالي لا داعي لخوفهم من الاستشهاد على مِثاله. ثمّ يتابع يوحنّا الرَّسول حديثه، فيقول لنا إنَّ الحَمَل المذبوح مستَّحقٌّ "أن يأخذ القُدرة والغنى والحكمة والقُوَّة والكرامة والمجد والبَرَكة!"، وهذه عَدَدُها سبعة، وهو رقم يرمز إلى كمال الكمال. إنَّ كلَّ خليقةٍ ترتِّل للابن، التَّرنيمة الّتي رتَّلتها سابقًا لله الآب: "للخروف البَرَكة والكرامةُ والمجد والسُلطان إلى أبدِ الآبِدين". إنَّ الحيوانات الأربعة ترمز إلى الإنجيليِّين الأربعة، وهي تَختُم وتُصدِّق على ما تُرتِّله خلائق السَّماء قائلةً: "آمين"، أي "حقًّا حقًّا". إنَّ الحيّ قد يكون الآب أو الابن، ولكنْ بما أنّهما كِليهما على العرش، فالحيّ يشير إلى الآب والابن.

إنّ الإنسان المؤمن الّذي تمَّ اعتقاله لمحاكمته أمام الامبراطور تمهيدًا لاستشهاده، لا يخاف من الموت، متى أدرَك حُبّ الله له، ووَعْد الله له بالملكوت. آمين.

ملاحظة: دوِّنت مِن قِبَلِنا بتَصرُّف. تتمة...
4/2/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الرابع التوبة وثبات المؤمن
https://youtu.be/g9nM1UUGFGk

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الرابع
الأب ابراهيم سعد

4/2/2020

في هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، رموزٌ وإشاراتٌ غالبًا ما يقرأها بعض المؤمنِين على أنّها تنبوءات حول نهاية العالم. إنَّ بعض المؤمنِين ينظرون إلى كِتاب سِفر الرُّؤيا على أنّه كِتاب تنبوءات وهذه النبوءات تتحقَّق في عَصرِهم؛ ولكنَّ الحالَ أنَّ لِكلِّ عصرٍ مشاكله وتَعَبه واضطهاداته وتعزياته. غالبًا ما يقرأ المؤمن الكتاب المقدَّس انطلاقًا من وَضعه الخاصّ، غير أنَّ تلك القراءة لَيْسَت بالقراءة العِلميّة، إذ على المؤمن قراءة الكتاب المقدَّس انطلاقًا من وَضعِ الكتاب المقدَّس التَّاريخيّ، فيسعى إلى إكتشاف فائدة هذا الكِتاب لِوَضعِه الخاصّ. عندما يتكلَّم الربُّ على وَضعٍ خاصٍّ في الإنجيل، ويجد المؤمن نَفْسَه مَعْنِيًّا بِه، يتحوَّل كلام الربِّ إلى كلام تعزية له يشدِّده على مواجهة وَضعِه بإيمان. تَتغيَّر وجوه البشر عبر العصور، إلّا أنَّ الحالات الّتي يمرُّ بها الإنسان تبقى متشابهة، ولذا فإنّ كلمة الله الّتي كانت صالحة للأقدَمِين لا تزال صالحةً لعالَمِنا اليوم، وستبقى صالحة للأجيال القادمة.

في كلِّ عصرٍ، خيرٌ وشَرٌّ واضطهاد، إذ إنَّ كلمة الحقِّ لا جماهير لها. إنَّ جماهير أصحاب الحقّ قلائل، وبالتّالي حين يبدأ عدد جماهير كلمة الحقّ بالتَّعاظم، فهذا يدلّ على أنَّ الإنسان الّذي يُعلِن كلمة الحقِّ بدأ بالمساومة على كلمة الحقّ؛ إذ إنَّ صاحبَ الحقِّ يبقى وحيدًا حتّى وإنْ كانت قد رافقته بعض الجماهير الضَّئيلة. إنَّ الربَّ يسوع وكذلك الرُسل هم خيرُ مِثالٍ لنا على ذلك: فالربُّ يسوع كان وحيدًا على الصَّليب إذ لم يبقَ معه من تلاميذه إلّا يوحنّا الحبيب؛ والرُّسل أيضًا في مسيرتهم التَّبشيريّة، عانوا من تلك الوِحدة، بدليل أنَّ بولس الرَّسول- الّذي كان من أعظم الرُّسل، إذ لُقِّب بـ"رسول الأمم"، وبِفَضله وَصَلَتْ البشارة إلينا- لم يبقَ معه إلى النِّهاية في مسيرته التَّبشيريّة سوى تِلميذَين من تلاميذه، هما تيموتاوس وبرنابا. في الكنيسة، إنَّ أعداء صاحب الحقّ، هُم للأسف، أبناءُ الكنيسة أنفسهم. وإليكم مِثالٌ على ذلك هو القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفَم، الّذي كان بطريرك القسطنطينيّة. إنَّ هذا القدِّيس الّذي كَتَب القُدَّاس الإلهيّ، والّذي شكَّلت عِظاته تفسيرًا كاملاً للكِتاب المقدَّس، قد شُوِّهت سُمعته من قِبَل أبناء الكنيسة أنفسهم، إذ اتَّهموه بأنَّه ينقاد إلى شهوة الجسد، لأنّه يستحمُّ يوميًّا ويتناول العسل، غير أنَّ الحقيقة تكمن في أنّه كان يتناول العسل لأسبابٍ صِحيَّة، فنُفِيَ على إثر هذا التَّشويه للسُّمعة مِن قِبَل السُّلطة المدنيّة المدعومة من أبناء الكنيسة. إنَّ القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفَم قد لُقِّب بـ"بولس الرَّسول الثّاني"، لأنَّ أفكاره كانت منسجمة مع نهج بولس الفِكريّ، فكانت كلمته كالسَّيف القاطع، فاستحقَّ أن يكون من أعظم آباء الكنيسة وهو أحد الأقمار الثَّلاثة في الكنيسة. إنَّ التَّاريخ يشهد على نَفِي العديد من أبناء الكنيسة بسبب حَملِهم لواء الحقّ، ولذلك يمكننا القول إنّ "الواحد الوحيد هو عاشق الحقّ".

إنَّ سِفر الرُّؤيا ينطبق على كلّ مؤمنٍ مُخلِصٍ وشاهِدٍ أمينٍ لِكَلمة الحقّ. ليسَ كلُّ مَن ينال الاضطهاد، هو حاملٌ للواء الحقّ، فبعض المؤمنِين يُضطَهَدون بسبب أعمالهم المسيئة إلى الآخَرين. في هذا السِّفر، يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا عن حالة الوَحدة والغُربة الّتي يشعر بها المؤمن عند دفاعه عن الحقّ. في كلّ الطوائف المسيحيّة، تقوم الحالة الرُّهبانيّة لا على تَركِ الرّاهب للعالم من أجل اتِّباع المسيح والاتِّحاد به من خلال الصّلاة مع كافّة المؤمنِين، بل تقوم على تخلِّي العالم عن الرَّاهب لِدفاعه عن كلمة الله الحقَّة، فلا يَجِد له مَلجأً إلّا يسوع المسيح، فيَرتمي بين يَديه، لِعِلمه أنّه المخلِّص الوَحيد له. إنَّ الإنسان يشعر بالحَسرة والحزن حين يتخلَّى عن العالم، ولكنَّه يشعر بالمرارة حين يشعر بأنّه متروك من العالم. في العهد القديم، أدرَك الله أنّ الشَّعب اليهوديّ لن يتمكَّن من معرفة قيمته في حياته إلّا عندما يكتشف أنَّ الآلهة الأخرى هي آلهةٌ مزيَّفة، لذا ترَك هؤلاء يذهبون إلى آبارٍ مشقَّقة فَعَطِشوا لأنَّها آبارٌ فارغة، فتابوا وعادوا إلى الله حين أدرَكوا أنَّ إلههم هو ينبوع الماء الحيّ، وهو الوحيد القادر على إرواء ظَمَئِهم. في العهد القديم، سَمَحَ الله لِشَعبِه بالذَّهاب إلى الصّحراء، الّتي ترمز إلى اللّاحياة إذ لا طعام فيها ولا ماء، وفيها يكون الإنسانُ معرَّضًا للموت في كلّ آنٍ. في مكان الموت هذا، أي في الصَّحراء، يُدرِك المؤمن أنّ لا حياة له من دون الله، فيُدرِك قيمة الله في حياته، ويعود إليه تائبًا، ساعيًا إلى عدم الابتعاد عنه مجددًّا. إنَّ "الزِّنى المقدَّس" هو تَركُ المؤمن للهِ من أجل اتِّباع آلهةٍ أخرى مزيَّفة.

إنَّ سِفر الرُّؤيا مُوَجَّهٌ إلى كلِّ مؤمنٍ يتعرَّض للاضطهاد، إذ يقف هذا الأخير أمام الامبراطور، للاختيار ما بين نُكران إيمانه بالربِّ يسوع واعترافه بالامبراطور إلهًا له، وما بين الثَّبات في إيمانه بالربِّ. أمام هذا التحدِّي الكبير، يدعونا سِفر الرُّؤيا إلى الثَّبات في إيماننا بالربَّ حتّى ولو كلَّفنا ذلك خسارة حياتنا الأرضيّة، ورَفضِ الخضوع لآلهةٍ أخرى حتّى وإنْ وُهِبنا كُلِّ الخيرات الأرضيّة مِن مَلبسٍ ومأكلٍ ومَورِد رِزقٍ. إنّ المأكل والمشرب الأرضِيَّين يؤمِنِّان لنا الحياة على هذه الأرض، أمّا ما يعرِضه علينا يوحنّا الرَّسول في سِفر الرُّؤيا فيؤمِّن لنا الحياة الأخرى، أي الحياة الأبديّة، ولكنّه لا يملك بُرهانًا على ذلك إلّا كلام "الشَّاهد الأمين"، أي كلام "الربِّ يسوع" معه، الّذي أكَّد للرَّسول وجود تلك الحياة الأخرى. إنَّ الإنسان الّذي يُصدِّق كلام الربِّ، هو إنسانٌ مؤمنٌ بالربّ، وبالتَّالي لا يجوز له المساومة على إيمانه، عبر الخضوع للامبراطور في النَّهار للمحافظة على حياته الأرضيّة؛ والعودة إلى الله في المساء، رافِعًا الصَّلوات إليه طالبًا إليه مسامَحته على مَزجِه بين العِبادات. وهنا يُطرَح السُّؤال: ماذا لو مات الإنسان قَبْل تقدُّمِه مِن سرّ التَّوبة؟ في هذه الحالة، يكون الإنسان قد خَسِر نفسه من جهةٍ، والحياة الأبديّة من جهةٍ أخرى. إنَّ ربَّنا قاضٍ عادلٌ ورَحومٌ وحَنونٌ، بدليل أنّه يسعى إلى إيجاد أسباب تخفيفيّة لِما ارتَكبناه من أخطاء، ليتمكّن من مسامَحتِنا، وغفران زلّاتنا. إنَّ الربَّ لا يفرضِ مسامحته على البشر، فهو يسامِح مَن يطلب إليه المسامحة؛ ولكنَّه لا يُسامِح مَن رَفض وجود الله في حياته، واختار العيش بعيدًا عنه. إنَّ الإنسان الّذي يرفض وجود الله في حياته ويختار العيش بعيدًا عنه على الرُّغم من عِلمِه أنّه المخلِّص، يُجدِّف على الرُّوح القدس.

إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يدعو المؤمِنِين إلى الخوف من الله القاضي العادل، بل يدعوهم إلى الثَّبات في إيمانهم وقت الشِّدة، إذ يُقدِّم لهم تَعزيةً عندما يُذكِّرهم بعمل الله الخلاصيّ ووعوده لِشعبه. إنَّ سِفر الرُّؤيا يَعرِض على المؤمِنِين صورةً عن الملكوت السَّماويّ الّذي سيناله كلُّ شهيدٍ في سبيل إيمانه، وكلُّ شاهدٍ للحقِّ أي لإيمانه بالربِّ يسوع؛ فاضطهاد المؤمِنِين لا يكون فقط بالقتل الجسديّ، إنّما قد يكون بالقتل المعنويّ والنفسيّ كعَزلِه مِن قِبَل الآخَرين أو طردِه من عَملِه، أو غيرها مِنَ الطُرُق. في سِفر الرُّؤيا، إنَّ الرَّقم "ستُّ مئةٍ وسِتُّ وستِّون" الموضوع على خَتمِ الامبراطور، يشير إلى "نَيرون" الامبراطور، أوَّل الـمُضطَهِدين للمسيحيِّين، في القرون الأولى لوجودهم، كما كان يُرمز إلى هذا الامبراظور باستخدام صُوَرٍ أخرى، كالتِّنين والوَحش. في عهد الامبراطور "نَيرون"، تعرَّض المسيحيّون للاضطهاد، غير أنَّ ذلك الاضطهاد لم يكن مُمَنهجًا، على عكس اضطهاد الامبراطور دوميتيانوس، الّذي عَمَد إلى نَفي مُعلِّمي الكنيسة ليتمكَّن من حثِّ الشَّعب على نُكرانِ إيمانهم بالربِّ يسوع، وعلى سبيل الـمِثال لا الحَصر: فقد نُفِيَ في عَهده يُوحنّا الرَّسول إلى جزيرة بَطمس، حيث كَتَب هذا الأخير سِفر الرُّؤيا. في حضور الرُّسل، لم تكن هناك حاجةٌ إلى كتابة الإنجيل، لأنّهم كانوا الإنجيل الحيّ المتنقِّل؛ أمَّا بعد استشهادهم، فكان من الضرُّوريّ كتابة الإنجيل للمحافظة على كلمة الله، من كلِّ تشويه، فلا يؤدِّي موت الرُّسل الّذين كانوا يبشِّرون المؤمِنِين بالخلاص، إلى زعزعة إيمان هؤلاء، بل تبقى كلمة الله سببًا لتَعزيَتهم ولِحثِّهم على المثابرة في الثَّبات في إيمانهم على الرُّغم من كلّ الضِّيقات الّتي يتعرَّضون لها. إنَّ أمانة الكثيرين لكلمة الله واستشهادهم في سبيل المحافظة عليها، ساهم في وصول البشارة إلينا. في القديم، لم يكن من السَّهل تَناقُل كلمة الله المكتوبة، إذ لم يكن هناك وَفرةٌ في النُّسخ المكتوبة، أي الإنجيل، لذا تمَّ الاعتماد أكثر على اللِّقاءات الكنسيّة بين المؤمِنِين لسماع كلمة الله، وللحصول على كلمةِ تعزيةٍ من الآخَرين، للثَّبات في الإيمان، على الرُّغم من الصُّعوبات والـمِحَن الّتي كانت تواجه المؤمِنِين. أمّا اليوم، فعلى الرُّغم مِن توافر الكُتُب، إلّا أنّنا نلاحظ عَطَشًا عند المؤمِنِين لأنّهم لا يقرأون كلمة الله، الوحيدة القادرة على مَنحِهم التعزية في وقت الضِّيق؛ فَمَن يعيش في النُّور لا تستطيع الظُّلمة أن تُدرِكه.

إنَّ ما نعيشه في لبنان هو عبارةٌ عن أزمةٍ أُخرَوِيّة، نابعةٍ من رغبة بعض البشر في السَّيطرة على إخوتهم ومُعاملَتِهم كعبيدٍ لهم، وبذلك يُشابِهون الامبراطور "نَيرون". إنّ المؤمن لا يستطيع أن يتغلَّب على هذه الأزمة إلّا بالصَّبر، والصَّلاة، أي بالتعلُّق بكلمة الله. إنَّ الاضطهاد، مهما طال لا بُدَّ له من أن ينتهي، إذ إنَّه ليس أبديًّا، والاضطهاد هو جزءٌ من الزَّمن، لا الزَّمن بأكمَلِه. إنَّ سِفر الرُّؤيا يُكلِّمنا على الزَّمن الأخير الّذي لا نهاية له، والّذي سنعيشه مع الربِّ إنْ كُنَّا ثابتِين في كلمة الله. بَعدَ أنْ أرسل يوحنّا الرَّسول رسائله إلى الكنائس السَّبع في آسيا، ها هو ينطلق في هذا الإصحاح ليُخبرنا عن الملكوت السَّماويّ الّذي فيه سنُعاين الله الجالِس على العرش.

"بَعْدَ هذا نَظَرتُ وإذا بابٌ مَفتوحٌ في السَّماء، والصَّوتُ الأوَّلُ الّذي سَمِعتُهُ كَبُوقٍ يَتَكلَّم مَعي قائلًا: "اصْعَدْ إلى هُنا فأُرِيَكَ ما لا بُدَّ من أن يَصيرَ بَعدَ هذا". وللوَقتِ صِرتُ في الرُّوحِ، وإذا عَرشٌ موضوعٌ في السَّماءِ، وعلى العرشِ جالِسٌ. وكان الجالِسُ في الـمَنظَرِ شِبهَ حَجَرِ اليَشْبِ والعَقيقِ، وقَوسُ قُزَحَ حَولَ العَرشِ في الـمَنظَرِ شِبهَ الزُّمُرُّدِ. وحَولَ العَرشِ أربَعَةٌ وعِشرونَ عَرشًا. وَرَأيْتُ على العُرُوشِ أَربَعةً وعِشرينَ شَيخًا جالِسِينَ مُتَسَربِلِينَ بِثيابٍ بِيضٍ، وعلى رُؤوسِهم أكاليلُ مِن ذَهبٍ. ومِنَ العَرشِ يَخرُجُ بُرُوقٌ وَرُعودٌ وأصواتٌ. وأمامَ العَرشِ سَبعَةُ مَصابيحِ نارٍ مُتَّقِدَةٌ، هي سَبعةُ أرواحِ اللهِ. وقُدَّامَ العَرشِ بَحرُ زجاجٍ شِبهَ البَلُّورِ. وفي وِسَطِ العَرشِ وحَولَ العَرشِ أربَعَةُ حيواناتٍ مَمْلوءةٌ عُيونًا مِن قُدَّامٍ ومِن وَراءٍ: والحَيوانُ الأوَّلُ شِبهُ أسَدٍ، والحَيوانُ الثَّاني شِبهُ عِجْل، والحيوان الثّالِث لَهُ وَجهٌ مِثلُ وَجهِ إنسانٍ، والحَيوانُ الرَّابِعُ شِبهُ نَسرٍ طائرٍ. والحَيواناتُ الأربَعَةُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْها سِتَّةُ أَجنِحَةٍ حَولَها، ومِن داخِل مَملوءةٌ عُيونًا، ولا تَزالُ نَهارًا وَلَيلاً قائلةً: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، الربُّ الإلهُ القادِرُ على كُلِّ شيءٍ، الّذي كان والكائنُ والّذي يأتي". وَحينَما تُعطي الحيواناتُ مَجدًا وكَرامةً وشُكرًا للجالِسِ على العَرش، الحَيِّ إلى أبدِ الأبِدين، يَخِرُّ الأَربَعةُ وَالعِشرونَ شَيخًا قُدَّامَ الجالِسِ على العَرشِ، ويَسجُدُونَ للحَيِّ إلى أبدِ الآبِدِينَ، ويَطرَحُونَ أَكالِيلَهم أمام العَرشِ قائِلينَ: "أنتَ مُستحِقٌّ أيُّها الربُّ أنْ تأخُذَ الـمَجدَ والكرامةَ والقُدرَةَ، لأنَّكَ أنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأشياءِ، وهي بإرادَتِكَ كائِنَةٌ وخُلِقَتْ".

في سِفر الرُّؤيا، ينقل إلينا يوحنّا الرَّسول ما أراه إيّاه الله عن نهاية زمن الاضطهاد، ومصير الّذين يثبتون في إيمانهم بالربّ. إنّ السِّفر هو عبارة لا عن دُرجٍ ملفوفٍ ومختوم بسبعة أختام، وبالتّالي لا يستطيع المؤمن معرفة ما هو موجود داخل السِّفر إلّا بعد فَتحِه. وحين يُفتَح السِّفر، تكون النِّهاية قد حلَّت وأصبح المؤمن في الملكوت السَّماويّ حيث سيُعاين الله الجالِس على العرش. بكلامٍ أوضَح، لا يمكن للمؤمن معرفة حقيقة الآخَرة إلّا بعد حلولها. إنّ علامات الآخرة لا تأتي على مراحل، بل تأتي مُجتَمِعةً، للدَّلالة على مجيء المسيح. إنّ الآخِرة تأتي في أَوجُهٍ ثلاثِ: أوّلاً، حين يموت الإنسان، وبما أنَّه لا يعرف ساعة موته، فإنّه لا يستطيع معرفة ساعة حلول الآخِرة؛ وثانيًا، حين تَفنى المدينة الّتي يعيش فيها الإنسان، وهذه أيضًا لا يستطيع معرفة ساعة حلولها، لأنّه حين تفنى مدينتُك فإنَّ الآخِرة قد أتت بالنِّسبة إليك، حتّى لو بَقيِ العالم بأسْرِه موجودًا؛ ثالثًا وأخيرًا، حين يَدخُل العالم كُلُّه في الآخرة. سُئِل مَرّةً أحدُ الرُّهبان: ماذا تفعل إذا عَلِمْتَ أنَّ الآخِرة آتية؟ أجاب الرَّاهِب: أُتابِعُ عَمَلي لأنَّه لا يُمكنني أنْ أغيِّر شيئًا في حياتي بما أنَّ الآخِرة قد حلَّت.

إنَّ سِفر الرُّؤيا هو كِتابٌ لِتَربية المؤمنِين وحثِّهم على التَّوبة والثّبات في إيمانهم بالربِّ يسوع. إنَّ الوقت الأخير لا يُشير إلى وقتٍ زمنيّ، إنّما إلى وقتٍ إيقونوغرافيٍّ. فإذا نظَرتَ إلى أيقونة معيّنة، فإنَّك تراها دُفعةً واحدة، لا بحسب توقيت أحداثها الزَّمنيّة. إنَّ التَّوقيت الزَّمني، يُستَخدم لِشرح الأيقونة أي للحديث عن شخصيّاتها وعن الأحداث الّتي تُشير إليها. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو أيقونة، نراها كاملةً لا على دُفعاتٍ؛ ولذا حين أراد الرَّسول نَقلَها إلينا، فكان لا بُدَّ له من استخدام التوقيت الزَّمنيّ، لإيصال الرِّسالة إلينا. إذًا، حين يُكلِّمنا الرَّسول على أخبار حروب وأوبئة ومجاعات فهذا لا يعني أنّها ستَحدُث بحسب التَّسلسُل الزَّمني، قَبْلَ وصولِنا إلى الآخِرة، بل تعني أنَّ ظهور تلك العلامات، تؤشِّر عن وصول المسيح. وإليكم مثالاً توضيحيًّا، حين نرى مرافِقي الأسقف مُسرِعين إلى السكرستِّيا وبأيديهم ثياب الأسقف الكهنوتيّة، فهذا يؤشِّر إلى وصول الأسقف، وما هي إلّا لحظات، حتّى تبدأ الذبيحة الإلهيّة برئاسة الأسقف. إنّ حدوث العلامات لا تشير إلى اقتراب مجيء المسيح، وبالتّالي عدم مجيئه ليس دليلاً على تأخّرُه، فالمسيح هو سيِّد الوقت. إنّ الزَّمن لا يدلّ على حضور يسوع المسيح، بل إنَّ حضور المسيح هو الّذي يدلّ على انتهاء الزَّمن. إذًا، لا فرق زمنيًّا بين حدوث علامات المجيء ومجيء الربّ، وبالتّالي لا فرق زمنيًّا بَينَهما ليتمكَّن المؤمن من تهيئة نفسه بالتَّوبة لاستقبال المسيح. إنَّ الربَّ آتٍ ليَمسَح كلّ دَمعةٍ من عيونِ أبنائه الثَّابتِين على كلمته. للأسف، نلاحظ أنّ شَعبنا اليوم يترَّقب بدِّقة، إشاراتٍ أرضيّة تبشِّر بانتهاء زمن الصِّعوبات الّتي يُعاني منها، لذا نراه يُصغي إلى أقوال المنَجِّمين والعرَّافين، علَّها تبعثُ في قلبه التَّفاؤل بِغَدٍ أفضل. إنَّ كلمة الله صادقةٌ وجِدِّية، لذا لا تقبل بأن يساوم المؤمن عليها بكلام المنجِّمِين والعرَّافين. إنَّ كلمة الله لا تقبل بِخلطِ المؤمن عبادته لله بعبادته لآلهةٍ أُخرى غريبة، إذ إنَّ ذلك المزيج في العبادات سيُضعِف من قوَّة المؤمن على مواجهة الاضطهاد، إذ سيُسارِع إلى تَركِ الإله الحقيقيّ ليَتبَع آلهةً وثنيّة.

إنَّ سِفر الرُّؤيا يُعالج مسألة إخلاص المؤمن وثباته في الإيمان في وقت الشِّدة، أو عدم ثباته وعدم إخلاصه لله في هذا الوقت عينِه. إنَّ مشكلة المؤمن تكمن في قراءته للكتاب المقدَّس على أنَّه سِلسِلَةُ طَلباتٍ يريدها الله منه، وهو، أي المؤمن عاجزٌ عن تحقيقها، لذا يعيش في حالةٍ من الكآبة والإحباط بسبب تقصيره وارتكابِه للخطايا في عيش مشيئة الله. إخوتي، إنَّ الإنجيل يدعونا إلى عدم الاجتهاد الشَّخصيّ للحصول على الخلاص، بل يدعونا إلى القبول بالمجهود الّذي قام به الربُّ على الصَّليب من أجل خلاصِنا. إنَّ قبولنا لهذا الخلاص يفترِض جِدِّية في عيش إيماننا المسيحيّ. إنَّ العلاقات البشريّة لا يُمكنها أن تستمرّ عند غياب الجِدِّية، أكان في العمل أو في علاقات الصَّداقة مع الآخَرين، أو في العلاقة بين الأحبّة أو بين الأهل وبَنِيهم، أو بين الكاهن ورعيّته. إنّ غياب الجِدّية في العلاقات البشريّة تقود إلى قلَّة الاحترام. إنَّ قلّة الاحترام هي قَتلٌ بالفِكر عن سابقِ تَصوُّر وتصميم للآخَر، إذ إنَّ الاستهتار بالآخَر هو نوعٌ من أنواع القَتل الفِكريّ له. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع: "سَمعتم أنَّه قيل للأوَّلِين: "لا تَقتُل، فإنَّ مَن يقتل يستوجب حُكم القَضاء." أمّا أنا فأقول لكم: مَن غَضِبَ على أخيه استوجَب حُكمَ القضاء، ومَن قال لَأخيه: "يا أحمَق"، استَوجَب حُكمَ الـمَجلِس، ومن قال له: "يا جاهِل" استوجَب حُكمَ جَهَنَّم"(متّى 5: 21-22). إنّ مناداة الآخَر بكلمة "يا" من دون إلحاقها باسمِه، يُسبِّب له ألـمًا وجرحًا عميقًا، كما أنَّه يعبِّر عن رغبة الإنسان في إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بوجوده.كذلك، قد نستخدم عبارةً تدلُّ على الاحترام في الظّاهر، للتَّعبير عن عدم احترامِنا للآخَر، والاستهزاء به واحتقاره. إنَّ المشكلة عند المسيحيِّين تكمن في عدم اعتمادهم الجِدِّية في عيشهم لتعاليم الربّ. قال الربُّ يسوع لبطرس:"أتُحبُّني؟"، فأجابه بطرس:"أنت تعلم أنِّي أُحبُّكَ"، فسَّلمه الربُّ رعاية الخِراف بالقول:"إرعَ خرافي"، وهذا لا يعني أنَّ الربَّ ألقى مَهمَّة التَّبشير على بطرس، بل تعني أنَّ الربَّ سلَّم ممتلكاته لبطرس طالبًا إليه حمايتها. إنَّ الربَّ قد سأل هذا السُّؤال ثلاث مرّات:"أتحبَّني؟"، للّذي أنَكره ثلاث مرّات، فكان الربُّ يمحو في كلِّ مرَّة خطيئة بطرس القائمة على نكرانه ثلاث مرّات. هذا هو سِفر الرُّؤيا: كان بُطرس مؤمِنًا بالربِّ حين أنكره، ولكنَّه فَعل ذلك بسبب خوفه من خسارة حياته الأرضيّة. في وقت الشِّدة، يستطيع الإنسان الهرب من عقاب النَّاس له بإنكاره المسيح، ولكنَّه أي الإنسان لا يستطيع الهرب مِنَ الوقوف أمام الربِّ في اليوم الأخير. إنّ عقابَ الربِّ يسوع لبطرس على نكرانه له، كانْ غريبًا إذ عاقبه بتسليمه رعاية القطيع؛ وبهذا العقاب خالفَ الله المنطق البشريّ القائم على معاقبة المخطئ تجاهنا، باسترجاع كلّ ما كان قد قُمنا بِتَسليمه له.

لا نسطيع أن نفهم سِفر الرُّؤيا إلّا إذا كُنّا مطَّلِعِين على العهد القديم: فعلى سبيل الـمِثال، إنَّ عبارة "صِرتُ في الرُّوح" هي عبارة استُعمِلت في سِفر حزقيال عندما طَلب الربُّ إلى النبيّ التنبُّوء لجماعةٍ موجودةٍ في مكانٍ بعيد عن مكان وجوده. إنَّ كلمة "رِيح" أو "رُوح" تُشير إلى سُرعةٍ في نَقل البشارة، ولا شيءَ أسرَع من الكلمة لِنَقل الرِّسالة. إنّ كلمةَ الحقّ سريعةٌ في الانتقال، ولكنّها تبقى أقلّ سُرعةً من انتشار كلمة الباطل، بدليل انتشار خبرٍ يؤدِّي إلى تشويه سُمعةٍ أحدهم بطريقةٍ أسرع من انتشار خَبرٍ مفرحٍ يتعلَّق بالشَّخص نفسه. إنّ كلمة الحقّ لا جمهور لها، فَمن اتَّبعَ الحقّ عانقَ الصَّليب. إنَّ عبارة "جالس" تشير إلى الـمَلِك فهو مَن يجلس على العرش. إنّ "حجر اليَشْب والعقيق"، هو مِن أفخر الجواهر. إنّ عبارة "قوس قُزح" تُشير إلى الهالة التّي توضع حول رأس القدِّيس. إنّ الثِّيابَ البِيض والأكاليل الذَّهبيّة تُشير إلى أنّ هؤلاء الشُّيوخ أصبحوا ملوكاً في الملكوت. إنَّ الثِّياب البِيض تُذكِّرنا بالملاك الّذي كان يرتدي ثيابًا بِيضًا عند القبر مُبشِّرًا بقيامة المسيح. إنَّ الثِّياب البِيض ترمز إلى القداسة والطَّهارة والنّور، إذ إنَّ المعمَّدين أيضًا كانوا يرتدون ثيابًا بِيضًا بعد حصولهم على سرّ المعموديّة. إنَّ الشَّيوخ الأربعة والعشرين يُقسَمون إلى قِسمين: اثني عشر شيخًا يرمزون إلى أسباط العهد القديم، ألا وهُم أسباط اسرائيل؛ واثني عشر شيخًا يرمزون إلى أسباط العهد الجديد ألا وَهُم الرُّسل. إنّ الرَّقم "اثني عشر" يرمز إلى الشُّموليّة، وبالتّالي الأربعة والعشرين شيخًا يُشيرون إلى أنَّ كلّ الّذين اتَّبعوا الكلمة الإلهيّة، في العهد القديم وفي العهد الجديد، قد سَبَقونا إلى الملكوت، وهُم الآن يجلسون بالقرب من الربَّ الملك، في عُرسِ الملكوت. تُشكِّل هذه الصَّورة تشجيعًا للمؤمِنِين على الثَّبات في إيمانهم وعلى المثابرة في اتِّباعهم للكلمة الإلهيّة كي ينالوا نصيب هؤلاء الشُّيوخ الأربعة والعشرين، ويكونوا مِن أبناء الملكوت. إنَّ عبارة "بروق ورعودٌ وأصوات"، تُشير إلى الحضور الإلهيّ، وقد كانت هذه العبارات تُشير إلى حضور الله في العهد القديم. إنّ عبارة "سبعة مصابيح متوقِّدة"، وفي ترجمات أخرى "سبعة أرواح الله"، تُشير إلى الرُّوح القدس. إنّ الرَّقم "سبعة" يُشير إلى الكمال، وسبعة أرواح الله، تُشير إلى كمال أرواح الله، أي الرُّوح القدس، أي الرُّوح الإلهيّ. إنَّ عبارة "شِبه البَلُّور" تشير إلى الصَّفاء وعدم وجود زغلٍ. إنّ عبارة "حيواناتٍ مملوءة عيونًا من قدَّام ومن وراء"، تُشير إلى أنَّ هؤلاء يستطيعون رؤية كلَّ شيء. وهذه العبارة مأخوذة من سِفر حزقيال النبيّ، حين يُكلِّمنا النبيّ على رؤيته لِعَربةٍ تقودها أربعة حيواناتٍ، كلُّ حيوانٍ من جهةٍ، ويسير كلّ واحدٍ منها في جهةٍ مختلفة عن الآخر. إنّ الجِهات الأربع، تشير إلى جِهَّات الكون الأربع، فكلمة الله صالحة لكلِّ البشر في كلِّ الكون، وهي ستَصِل إلى الكون كلِّه. إذًا، إنَّ المقصود بعبارة" أربعة حيواناتٍ مملوءة عيونًا من قدَّام ومن وراء"، هو أنَّ الربَّ الإله يستطيع رؤيةكلَّ إنسانٍ في هذا الكون، فيُدرِك ما إذا كان مُخلِصًا له أو لا في حياته الأرضيّة، فإذا كان مُخلِصًا دعاه للسَّكن معه في العرش السَّماويّ عند انتقاله من هذا العالم.

إنَّ سِفر الرُّؤيا هو سِفرٌ يعتمد على الفِكر الاستعاريّ، إذ تكثُر فيه الرُّموز. إنَّ هذه الحيوانات الأربع، ترمز في الكنيسة الأولى إلى الإنجيليِّين الأربعة. إنّ الإنجيليّ مرقس، يبدأ إنجيله بالكلام عن يوحنّا المعمدان الّذي كان صوتًا صارخًا في البريّة، ولذا يُرمز إلى القدِّيس مرقس بالحيوان شِبه الأسد. إنّ لوقا الإنجيليّ يتكلّم في إنجيله على يسوع المسيح الّذي هو الحمل المذبوح فداءً عن البشر، وهو الذبيحة المقدَّمة عن البشر، لذا يُرمز إلى الإنجيليّ لوقا بالحيوان شِبه عِجل. أمّا الحيوان الّذي له وَجهُ شِبه إنسان، فهو متّى إذ تكلَّم على يسوع المسيح ابن الإنسان. وأخيرًا يوحنّا الإنجيليّ الّذي يرمز إلى الحيوان شِبه نَسرٍ طائرٍ، إذ يبدأ إنجيله بالكلام على يسوع الإله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله"، فيوحنّا كان مُحلِّقًا في اللّاهوت. إنّ "الأجنحة السِّتة" تُذكِّرنا بسِفر إشعيا النبيّ (الإصحاح السَّادس) الّذي فيه أخبرنا النبيّ عن الشاروبيم والكاروبيم، السُّداسيِّ الأجنحة الّذين كانوا بِإثنين منها يطيرون، وبِإثنَين منها يحجبون عيونهم، وبِإثنين يحجبون أرجلهم، احترامًا للإله الحيّ الحاضر، وكان هؤلاء يَصرخون قائلِين: "قدّوس، قدَّوس، قدَّوس". إنّ الامتلاء من العيون ترمز إلى الرُّؤية الكاملة. إنّ عبارة "الّذي كان في البدء" تعني الله الآب الجالس على العرش كما تعني أيضًا الربَّ يسوع الموجود أيضًا منذ الأزل؛ وعبارة "الكائن" تعني يَهوَه، أي الربَّ، و"الذي سيأتي"، تشير إلى المسيح ومجيئه الثّاني. إنّ كلّ هذه الصِّفات الإلهيّة تُشير إلى المسيح، وفيها تعزيَتنا. إنّ المسيح الّذي تجسَّد ومات وصُلب، وقام هو المسيح الآتي. وبالتّالي، لا داعي أن يخاف المؤمن مِنَ الّذين سيعتقلونه ويضطهدونه ويقتلونه. إنَّ الأكاليل الّتي ينالها المؤمنِون نتيجة شهادتهم للمسيح لا قيمة لها أمام إكليل الربّ. إنَّ الله الآب والابن جالِسَين على العرش وبجوارهما الأرواح السّبعة أي الرُّوح القدس. في الملكوت سنكون في حضرة الثّالوث، وسنجثو له، متى ثَبُتنا على إخلاصِنا للربّ في وقت التَّرهيب والتَّرغيب. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يُشير إلى نهاية الزَّمان، إذ لا أحدَ يعرف متى تكون النِّهاية إلّا الله وَحده. إنَّ النِّهاية لن تأتي ما دام الخَتم السَّابع موجودًا على هذا السِّفر.
إنّ الرِّسالة من هذا الإصحاح وهذا السِّفر، الّتي يريد الرَّسول إخبارنا بها، هي إنّه عندما نتعرَّض لصعوباتٍ أو تحدٍّ يدفعنا إلى الاختيار ما بين الثّبات في إيماننا بالربِّ أو نُكرانه، للمحافظة على حياتنا، علينا الثَّبات في إيماننا، حتّى لو كلَّفنا ذلك خسارة حياتنا. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو حالة رؤيويّة يعيشها المؤمن. لذلك، لا تخافوا مهما كَبُرت المصيبة.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتَصرُّف.