البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
3/12/2013 سِفر المزامير - المزمور المائة والثالث من مزامير التسبيح والتبريك
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور المائة والثالث
الأب ابراهيم سعد

3/12/2013

1. باركي يا نفسي الربَّ ويا جميعَ ما في باطني لاسمِهِ القدُّوسِ.
2. باركي يا نفسي الربَّ ولا تنسَيْ جميع حسناتِهِ.
3. الذي يَغْفِرُ جميعَ ذنوبِكِ. الذي يشفي جميع أمراضِكِ.
4. الذي يُنجّي من البِلى حياتَكِ. الذي بالرَّحمةِ والرأفةِ يُكلِّلُكِ.
5. الذي يُشبِعُ بالخيراتِ مشتهياتِكِ، فيتجدَّدُ مثلَ النَّسْرِ شبابُكِ.
6. الربُّ يُجري الرحمةَ والإنصافَ لجميعِ المظلومين.
7. عرَّفَ موسى طرقَهُ وبني إسرائيلَ مشيئاتِهِ.
8. الربُّ رحيمٌ ورؤوفٌ وطويلُ الأناةِ وكثيرُ الرَّحمةِ.
9. لا يَسخط على الدوام ولا يَحقِدُ إلى الأبدِ.
10. لا حَسَبَ آثامِنا عامَلَنَا ولا حَسَبَ خطايانا جازانا.
11. لأنه بمقدارِ ارتفاعِ السَّماءِ عن الأرضِ عظَّمَ الربُّ رحمتَهُ على خائفيه.
12. وبمقدارِ بُعْدِ المشرقِ عن المَغرب أَبْعَدَ عنا معاصينا.
13. كما يرأفُ الأبُ بالبنين يرأفُ الربُّ بخائفيه.
14. لأنه يعرِفُ جِبلَتَنا ويَذكرُ أننا إنما نحنُ ترابٌ.
15. الإنسانُ مثلَ العشبِ أيامُهُ وكزهرِ الحقلِ كذلك يُزهِرْ.
16. لأنه إذا هبَّتْ عليه الريحُ يتلاشى ولا يَعرِفُه موضعُه مِن بَعد.
17. أما رحمةُ الربِّ فمِن الأزلِ وإلى الأبدِ على خائفيه وبِرُّه على أبناءِ بَنيهم.
18. على الحافظينَ عهدَهُ والذاكرين وصاياه ليَصنعوها.
19. الربُّ في السماءِ شيَّدَ كرسيَّهُ ومملكتُهُ تَسُود على الجميع.
20. باركوا الربَّ يا جميعَ ملائكتِهِ المقتدرينَ بقوّته العاملين بأمرهِ عند سَماعِ صوتِ كلامِهِ.
21. باركوا الربَّ يا جميعَ قوَّاتِهِ ويا خُدَّامَهُ العاملينَ إرادتَهْ.
22. باركوا الربَّ يا جميعَ أعمالِهِ. في كلِّ مَوضعٍ من مواضعِ سيادتهِ. باركي يا نفسي الربّ.
ينتمي هذا المزمور إلى فئة مزامير التسبيح والتبريك، ولكنه لا يخلو من التنوّيه إلى ملكية الله وقدرته، إذ يتضمن ألفاظا كالعرش- الكرسّي، والمملكة، ولكن الفرق بينه وبين المزامير السابقة أنه ينحو نحو الطابع الوجداني بشكل أكبر، لأن المرنم يخاطب ذاته وكأنه يطلب منها أن تبارك الرب، وهذا نمط شعري موجود، وقد تتشابه فيه بعض الأسطر من حيث المعنى، وليس هذا إلا استخداماً لأسلوب التوكيد على غاية الكاتب. وهذا المزمور ضخم جدا من حيث المعاني، فكل سطر منه يفتح آفاقا واسعة للتأمل.
باركي يا نفسي الربَّ ويا جميعَ ما في باطني لاسمِهِ القدُّوسِ. نجد دعوة إلى تسبيح الرب، يدخل فيها المرنم إلى أعمق أعماق نفسه، ليسبح كل ما فيه الرب، فهو يدرك أن الله يتملك كل ما فيه، لذا على كله أن يعلن البركة. وهذه هي الدعوة الأولى للإنسان، تعلمه أنه لا يستطيع أن يجزئ ولاءه للرب، إما أن يكون له بكليته أو لا يكون، إذ يقول في الكتاب المقدس "يا بنيَّ أعطني قلبك"، والقلب بالعبرانية هو اللب، أي الكل. كما يقول الكتاب أيضا: "بلسانهم فقط يسبحونني أما قلبهم فهو بعيد عني"، للدلالة على وجود فصام في الشخصية الروحية لدى الإنسان، وهذا أمر نقع فيه كثيرا، كنوع من الصراع بين واجبنا تجاه الله وبين العلاقة الحقيقية الصادقة التي تجمعنا به. ويزداد هذا الصراع حدة عند ارتكابنا لخطيئة تعذبنا، أو عند وقوعنا في الشدائد، أو حتى عندما نكون سعداء، فالفرح أيضا قد يكون سببا يؤدي بنا إلى الابتعاد عن الله، والكتاب يقول: "اذكر ربك أيام شبابك"، أي عندما يكون الإنسان قادرا على فعل كل شيء لأنه يعرف أن الرب هو القادر على كل شيء، وليس في شيبه فقط عندما يبدأ بالتراجع نحو الموت.

باركي يا نفسي الربَّ ولا تنسَيْ جميع حسناتِهِ. فالمشكلة الأولى عند الإنسان هي نسيان الله، والرحمة الكبرى للإنسان هي النسيان عند الله؛ لأننا نحن إن نسينا، فننسى ربنا، أما الله إن نسي، فهو ينسى خطايانا وهذا فرح عظيم لنا. أي علينا ألا ننسى ما يحسن الله به علينا.
الذي يَغْفِرُ جميعَ ذنوبِكِ. الذي يشفي جميع أمراضِكِ. وهنا نجد ربطا بين الخطايا والأمراض، فسبب كل مرض في الفكر اليهودي هو الخطيئة، وحتى الآن إن مرض أحدنا يسأل الله "ماذا فعلتُ؟". فالمرنم يشدد على أن غفران الذنوب وشفاء الأمراض أمران مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، وهذا يذكرنا بقول يسوع لكل مريض شفاه: "اذهب ولا تعد تخطىء بعد".
الذي يُنجّي من البِلى حياتَكِ. الذي بالرَّحمةِ والرأفةِ يُكلِّلُكِ. فالربّ يحيطنا ويحمينا بالرحمة والرأفة، وهنا نجد صورة الأم في المزمور لاستخدام المرنم كلمة الرحمة المشتقة من الرحم – رحم المرأة- وسنجد بعد قليل صورة الأب، فإله الكتاب المقدس يتخذ صورة الأم والأب، وهذا أمر غريب.

الذي يُشبِعُ بالخيراتِ مشتهياتكِ، فيتجدَّدُ مثلَ النَّسْرِ شبابُكِ. فالنسر هو صورة القوة والعنفوان، والكثير من البلاد، حتى امبراطورية بيزنطية، اتخذت من النسر رمزا لها. كما رمز للإنجيلي يوحنا بالنسر، لأنه كان يحلق عاليا في اللاهوت. فالآيات السابقة جميعها تتضمن معنىً واحداً مشتركاً، وفيها دعوة للإنسان لئلا ينسى عمل الله فيه وهو العنوان الأول في المزمور.
الربُّ يُجري الرحمةَ والإنصافَ لجميعِ المظلومين. وهنا يبدأ العنوان الثاني. فالمظلوم لا ملجأ له أو مأوى إلا الله، لأن الناس لا يمنحون لا الرحمة ولا الإنصاف. فالعدل لا وجود له في هذه الدنيا، والناس لا يعدلون ولا يرحمون. أما الله فهو يملك العدل إلا أنه لا يستخدمه، بل يستخدم الرحمة. لأن الله لو عاملنا بحسب عدله كما نستحق، لذهبنا جميعا إلى البعيد. لذا علينا أن نصلي دوما: "يا رب عاملني بحسب رحمتك لا بحسب عدلك".

عرَّفَ موسى طرقَهُ وبني إسرائيلَ مشيئاتِهِ. وما الطرق والمشيئة إلا كلمة الله ومسرته ورضاه، وقد عرفها للناس وأراهم إياها ووضعها نصب أعينهم، من موسى وحتى كل بني اسرائيل. إلا أن المشكلة عند الإنسان أنه يحيد دوما، ولم يسمِّ الله شعبه بالغنم صدفة، فنحن القطيع وهو الراعي لأننا يمكن أن نشرد في أية لحظة وهو يعيدنا إلى الحظيرة. وميلنا وحنيننا إلى الحيد عن طريق الله مزروع فينا منذ أيام جدنا آدم، الذي كان في الفردوس تحت كنف الله ورحمته إلى أن استمع إلى وشوشات الحية، التي زرعت في ذهنه أن الله لا يريده أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر لئلا يصبح مثله، وهذا ما يدمر أي علاقة حب بين اثنين. فعلاقة الحب تستمر طالما الثقة موجودة، وتنتهي بنهاية الثقة التي يكفي أن تنكسر من طرف واحد، وهذا ما فعلته الحية بزرعها خنجر في العلاقة بين الله وآدم. فالسقوط لم يكن بسبب التمرد والعصيان، لأن الله لم يكن يأمر آدم في الفردوس، فبالمحبة نطلب من الآخر ما هو لمصلحته ولا نأمره بالتنفيذ لمصلحتنا، وخطيئة آدم الأساسية هي أنه جرح العلاقة بين الإنسان والرب بإصغائه للحية – لأحد آخر غير الله. أما الله، فعندما طلب من الإنسان ألا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، كان ذلك لأنه لم يرد له أن يجري مساومة بين الأمرين، أو أن يتعامل معهما في آن واحد ويخلط بينهما لأن هذا لا يوصل إلا إلى الموت. والإنسان لم يصدق الله الذي يحبه فكُسرت العلاقة. في حين أن يسوع قد صدق الله بطريقة لا تصدق، صدق أنه ولو مات فسيحيا، وصدق أنه من الأفضل له أن يدير خده الأيسر لمن ضربه على الأيمن بدل أن يضربه. والله لا يمكن أن يصدَّق بالعقل البشري، ولكنَّ الكتاب يقول أن من يصدق الله في الأمور التي لا تُصدَّق يفهم حبه. وقد فعلها ابراهيم، وصدق أنه بترك أرضه وعشيرته وغناه وحياته الصعبة في البرية سيكون أغنى بكثير. ومن لا يصدق الله يكون عاقلا ولكن ليس محبا. والقداسة تبدأ من تصديقنا أن الله يحبنا، فنحن لا نخشى من يحبنا بل من لا نثق بمحبته لنا. فالإيمان هو أن نصدق محبة الله لنا. ولو بدأ اللاهوتيون بالنظر في الأمور منذ الأصل من منظار المحبة، لما كانوا وصلوا إلى إجراء انشقاق كنسي. وكيف يبرهن الله لنا محبته الصادقة التي لن نصدقها؟ يغفر خطايانا، يشفي أمراضنا ويكللنا بالرحمة وغيرها الكثير من الأمور التي أخبرنا إياها عبر موسى وغيره من آبائنا وأجدادنا.

الربُّ رحيمٌ ورؤوفٌ وطويلُ الأناةِ وكثيرُ الرَّحمةِ. وهنا يخطر ببالنا سؤال، ماذا لو عدنا فأخطأنا؟ ويأتينا الجواب في البيت الذي يليه مباشرة.
لا يسخط على الدوام ولا يَحقِدُ إلى الأبدِ. فالله لا يغضب منا على طول الأيام، بل يتراجع عن غضبه أحيانا ولا يحقد إلى الأبد. وهنا يطرأ ببالنا سؤال، لماذا استخدم المرنم فعل يحقد؟ هل الله حقود؟ لا. ولكن عندما يخطئ الإنسان يخشى ما سيفعله الله به، والمرنم هنا يطلب منا ألا نخاف لأن غضب الله لن يدوم، حتى وان اعتقدنا أنه سيعاقبنا، فبمجرد عودتنا إلى طريق الصواب، سينسى الله ما فعلنا.
لا حَسَبَ آثامِنا عامَلَنَا ولا حَسَبَ خطايانا جازانا. فالله لا يعاملنا بحسب خطايانا، وإلا لاندثرنا منذ زمن، وذلك بسبب رحمته.
لأنه بمقدارِ ارتفاعِ السَّماءِ عن الأرضِ عظَّمَ الربُّ رحمتَهُ على خائفيه. والخوف هنا هو خوفنا من أن يتركنا الرب. ونحن عادة نخاف من أن يفعل الله بنا شيئا، وهذا الخوف هو خارج إطار الحب. أما الخوف الناتج عن الحب في الحقيقة فهو ينبع من أن يمتنع الله عن فعل شيء بنا، أن يتركنا؛ كما يخشى المحب أن يتركه حبيبه. أما قوله "بمقدار ارتفاع السماء عن الأرض" فهو قد لا يمُسّنا تماما، لأن بعد الشيء أو قربه يرتبط بالقدرة على الوصول إليه، ونحن قد بات لدينا طرق توصلنا إلى السماء فهي ليست بالبعيدة بعد الآن، ولكن في أيام بولس الرسول كانت روما أقصى الأرض. ومن هذا المبدأ علينا أن نفهم أن الرب عندما يقول لنا: "أنا قريب منكم" لا يقصد مكانيا، بل يقصد أنه بإمكاننا أن نصل إليه بسهولة بدون جهد أو تعب.

وبمقدارِ بُعْدِ المشرق عن المغربِ أَبْعَدَ عنا معاصينا. هكذا يُنسينا الرب أعمالنا السيئة.
كما يرأفُ الأبُ بالبنين يرأفُ الربُّ بخائفيه. وهنا تتجلى صورة الأب، فالابن مهما أخطأ في حق والده، يبقى أبوه أصبر وأرأف وينسي ابنه معاصيه.
لأنه يعرِفُ جِبلَتَنا ويَذكرُ أننا إنما نحنُ ترابٌ. فالرب يرأف بنا ويصبر لأنه يعرفنا، يعرف أعمال يديه، يعرف أننا ذرات تراب، أننا لاشيء، لذلك يرحمنا لأنه الأقوى، فالذي يرحم ويغفر يكون دوما في وضع أفضل من وضع ذاك المغفور له.

الإنسانُ مثلَ العشبِ أيامُهُ وكزهرِ الحقلِ كذلك يُزهِرْ.
لأنه إذا هبَّتْ عليه الريحُ يتلاشى ولا يَعرِفُه موضعُه مِن بَعد.
يشير المرنم هنا إلى أن أيام الإنسان قصيرة مهما طالت، كالعشب الذي يذبل بسرعة ويموت، ثم يزول ويتلاشى أثره كهبوب الريح على العشب اليابس.
أما رحمةُ الربِّ فمِن الأزلِ وإلى الأبدِ على خائفيه وبِرُّه على أبناءِ بَنيهم.

على الحافظين عهدَهُ والذاكرين وصاياه ليصنعوها.
أي إذا اعتقدنا أنه بإمكان أي إنسان أن يشعرنا بالأمان ويحيطنا به، علينا أن نتذكر أنه سيزول كعشب الحقل، والحكيم منا عليه أن يتعلق بما هو أزلي وأبدي وهي رحمة الرب الأبدية. وبر الرب ورضاه يحلان على الإنسان وأبنائه مقابل أن يبقى مع الله ويقبله، وألا ينسى ما فعله لأجله.
الربُّ في السماءِ شيَّدَ كرسيَّهُ ومملكتُهُ تَسُود على الجميعِ. وهنا الحديث عن قوة الرب، فإذا كان عرشه في السماء، ويسود كل أنحاء الأرض، وأينما ذهب الإنسان، ومهما حاد، فسيأخذ ما يأخذه ولن يتغير شيء.

باركوا الربَّ يا جميعَ ملائكتِهِ المقتدرينَ بقوّته العاملين بأمرهِ عند سَماعِ صوتِ كلامِهِ.
باركوا الربَّ يا جميعَ قوَّاتِهِ ويا خُدَّامَهُ العاملينَ إرادتَهْ.
فالقوات تستمد قوتها من الرب، وتخضع له وتطيع كلمته.
باركوا الربَّ يا جميعَ أعمالِهِ. في كلِّ مَوضعٍ من مواضعِ سيادتهِ. باركي يا نفسي الربّ. في كلِّ مَوضعٍ من مواضعِ سيادتِهِ؛ هذه العبارة تفتح أبواب نقاش لاهوتي واسع وأسئلة كثيرة، أهمها: هل الله حاضر في كل مكان؟ وإذا كان الجواب نعم، ماذا تعني "مواضع سيادته"؟ أتوجد أماكن لا يسودها الرب؟ وبالتالي لا يكون الله في كل مكان!
لكي نفهم معنى "كل موضع من مواضع سيادته" علينا أن نفكر بالشكل الآتي: كيف للرب أن يكون سيّداً على إنسان يعبد صنما؟ أيكون سيّداً عليه دون أن يدرك؟ كيف؟ إذا كانت كلمة الرب لا تعنيه، وسلطته لا تصله، ولا يهمه إن فرح الرب به أو غضب منه، فكيف سيكون سيدا عليه؟
ومعنى القول، لتبارك أعمال يد الرب للرب، الذين عمل بهم، في كل مكان قبلت به النفس سيادة الرب، ففي المكان الذي يقبل فيه الإنسان أن يملك الله عليه، يكون الله سيّداً في هذا المكان. وبما أن للإنسان القدرة على التنقل في العالم، يكون الله سيّداً في العالم حيثما انتقل الإنسان، ويمكن أن يتأثر بعبادته وتقواه إنسان آخر يعبد إلها آخرا، فيقبل سيادة الرب عليه أيضا ويصبح الله في مكانين وثلاث وأربع بدل المكان الواحد، فالله يملك على النفوس وليس على الأماكن، وإذا ملك نفسا فلأنه صنع عملا فيها، فالله إله حدث وليس إله مكان.

ولو كان الواحد منا هو الإنسان الوحيد الذي يعبد الرب في العالم، فعليه أن يقول دائما: إلهي هو الله، وليس الله هو إلهي. والفرق أن كل الناس يقولون عن آلهتهم الله، فإن قلنا الله هو إلهي، فعن أي "الله" منهم نتحدث؟ أما قولنا "إلهي هو الله" فيعني أن هذا الإله الذي عرفني بنفسه فآمنت به وعبدته هو الله ولا أحد آخر سواه. وهو ما يقوله بولس الرسول في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الثامن: "وإن كان لكم آلهة، وهناك آلهة، أما نحن فلنا إله واحد هو الآب ورب واحد هو يسوع المسيح"، إذا فإلهنا هو الله، أي الله السيد القادر على كل شيء يبدأ من مكان صغير ويعمَّم، وليس هو العام الذي يصغر، ولذلك في العهد القديم يُسمَّى الله "إله أورشليم"، المدينة التي عمل بها الله، أما في العهد الجديد فقد عمل الله في مكان صغير جدا، في يسوع المسيح وأرانا عظمته بأنه قادر على الموت. وإلهنا هو يخلق الله في أذهاننا، لأنه هو الذي يرينا صورته ولسنا نحن من نرسمها، وقد قال لموسى: "أنا الذي أنا". كما انتظر النبي إيليا الله ليأتيه في الريح العظيمة، فأتى بنسيم عليل. وعندما اعتقد الشعب اليهودي أن الله سيهزم الأعداء ويحطم الأرض، ليبقى هيكله قائما، فهدم الله الهيكل ليثبت للشعب عدم ارتباط وجوده بالحجارة، وسُبي اليهود إلى بابل لاعتقادهم أنهم هم من يحمون الله، وجلسوا على أنهارها وبكوا وظنوا أنهم قد انتهوا، ولكن جاءت التعزية بعدها: "عزّوا عزّوا شعبي" يقول الرب، فالله ليس إله التوقعات، له أفكار ومنطق يختلف عن منطق البشر: "كبعد المشرق عن المغرب هكذا أفكاري بعيدة عن أفكاركم وطرقي بعيدة عن طرقكم" يقول الرب. وفي اللحظة التي نظن فيها أننا نحن الخطأة سنذهب إلى الجحيم لشدة غضب الله علينا، نكون لا نعرف إلهنا، لأنه سيرحمنا في تلك اللحظة ذاتها، وإن ظننا أنه سيرحما مهما فعلنا، فعندها أيضا نكون لا نعرفه. علينا أن ندعه ليكشف لنا عن نفسه كل يوم، وبحسب الرسول بولس، ليس من المهم أن نعرف الله، المهم أن ندرك أن الله يعرفنا. ورحمة الله أكبر من خطيتنا، ولا أحد يمكنه أن يتوب إن اعتقد أن خطيئته أكبر من رحمة الله، فعلينا أن نكون كبطرس "وبكى بكاءً مراً"، وليس كيهوذا الذي انتحر.

في النهاية علينا أن نُدرك أن الله ليس كما نعرفه نحن، بل كما يُعرّفنا هو عن ذاته في كل صفحةٍ من صفحات الكتاب المقدّس. ونحن علينا أن نتعامل مع كل صفحة على أنها الكلمة التي لنا في هذا اليوم، والتي لنا غيرها في الغد بين طيّات صفحات أخرى.

ملاحظة: دُونت تامحاضرة من قِبَلنا بتصرّف.
https://youtu.be/XUb5Y5XCbG8 القسم الأوّل
https://youtu.be/xpmKTayihU0 القسم الثاني تتمة...
26/11/2013 سِفر المزامير - المزمور الثاني من المزامير الملكيّة
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور الثاني
الأب ابراهيم سعد


26/11/2013

1. لماذا ارتجَّتِ الأممُ، وفكَّرتِ الشعوبُ بالأباطيل؟
2. قامتْ ملوكُ الأرضِ واجتمعتِ الرؤساءُ جميعاً على الربِّ وعلى مسيحِهِ قائلين:
3. لنقطعْ رُبُطَهُما ونُلقِ عنا نِيْرَهُما.
4. الساكنُ في السماءِ يَضحكُ منهم. والربُّ يستهزئُ بهم.
5. حينَئِذٍ يكلِّمُهم بغضبِهِ ويُروِّعُهُم بسخطِهِ.
6. أنا أُقِمتُ منه مَلِكاً على صهيونَ جبلِ قُدْسِهِ.
7. مُنْذِراً بِشرْعةِ الربِّ. الربُّ قال ليَ: أنتَ ابني وأنا اليومَ ولدتُكَ.
8. إِسألْني فأعطِيَكَ الأممَ ميراثاً لك وأُمَلِّكَكَ جميعَ أقاصي الأرض.
9. فترعاهم بعصاً من حديد. وتَسْحَقَهم مثل وعاءٍ من فَخَّارْ.
10. فالآن يا أيها الملوكُ تفهَّموا. ويا جميعَ قضاةِ الأرضِ تأدَّبوا.
11. أُعبدوا الربَّ بخشيةٍ وهلِّلوا له برِعدةٍ.
12. إلزموا الأدبَ لئلا يغضبَ الربُّ فتضِلُّوا عن طريقِ الحقِّ. لأنَّ غضبَهُ يتَّقدُ بسرعةٍ فطوبَى للذين عليه يتوكَّلونَ أجمعين.
كانت العادة أن يتلى هذا المزمور في احتفال تنصيب الملوك، إذا هناك حديث عن الله وعن ملك. ومسيح الرب هو المختار والممسوح والمعين، أي الملك، فالمسيح هنا هو الملك على الأرض، وسنبدأ بشرح معاني المزمور، ومن ثم سنسقط هذه المعاني على أحداث العهد الجديد. وكالعادة عند حديثنا عن ملك، علينا أن نتحدث عن عدو ومعركة وانتصار.
لماذا ارتجَّتِ الأممُ، وفكَّرتِ الشعوبُ بالأباطيل؟
قامتْ ملوكُ الأرضِ واجتمعتِ الرؤساءُ جميعاً على الربِّ وعلى مسيحِهِ قائلين:
لنقطعْ رُبُطَهُما ونلقِ عنا نِيْرَهُما.
يبدأ المرّنم مزموره بصيغة السؤال، مستخدما لفظتَي "الأمم والشعوب" واللّتين يقصد بهما الأعداء، ويخبر بأن مجرد التفكير بمقاومة الملك أو التمرد عليه هو ما يدعى بالباطل. ونلاحظ أن الكاتب في الأبيات الثلاثة الأولى يتحدث عن حرب الأعداء على الملك، ولكن عند التعرض للملك فإنهم أيضا يتعرضون للمملكة وبالتالي لإله المملكة، لأن زوال المملكة يعني زوال إلهها على حد سواء، إذ أن الآلهة وقتها عند الشعوب الوثنية كانت مرتبطة بالمكان، ووحده إله الكتاب المقدس بات مرتبطا بحدث وليس بمكان، والحدث الذي ارتبط به إله الكتاب المقدس في العهد القديم هو حدث الخروج؛ عندما أخرج الشعب من أرض العبودية في مصر ورافقهم في الصحراء وأدخلهم أرض كنعان ليعبدوه. فالفرق إذا بين عبادة الإله الحي والعبادات الوثنية هي أن الآلهة أو الأصنام لها مكان واحد، فآلهة أثينا لا يمكنها أن تتأله في مكان آخر، وعند تعرض المكان للدمار والاندثار يندثر معه الملك وكذلك الآلهة، وتأتي الحضارة الجديدة وتجلب معها آلهتها وتستوطن فيه. فعندما تحارب الشعوب والأمم الملك، فهي تستهدف إله الملك أيضا ليزيلوه بزوال الملك ومملكته. والحرب التي حصلت مع فرعون في سفر الخروج لم تكن بين فرعون وموسى أو بين فرعون والشعب، بل بين فرعون والله. فالنقاش كان بين الله وفرعون، لأن ما كان يهمّ فرعون في وقتها لم يكن موسى بل إلهه، فقد أراد أن يلغيه من الذاكرة والجغرافيا لأنه اعتقد أن الإله ثابت في مكان شعبه كصنم، يتحرك فقط بتحركهم وتحرك مدينتهم. فعمليا، حملت الشعوب الأخرى آلهتها وتنقلت بها، أما إله العهد القديم فقد حمل – أي الله – شعبه وتنقل به، فالصورة إذا تختلف تماما!
وما نخشاه اليوم هو عودة بعض الإخوة المسيحيين إلى فكرة الوثنية من دون أن يدركوا، وذلك من خلال ربطهم القديسين بأماكن معينة. فعلى سبيل المثال، يعتبرون أن السيدة العذراء في إحدى المناطق لها تأثير أقوى من تأثيرها في منطقة أخرى، فتصبح محجاً للناس وكأن القداسة تنتهي خارج حدودها. علينا أن ندرك أننا شعب لا يقدس المكان، لأن كل موطئ أرض هو ملك لله، والدنيا وكل ساكنيها، إذ ليس من مكان مقدس وآخر غير مقدس. لذا يجب توخي الحذر من تحويل القديسين والله إلى آلهة مكان، في حين أن الله إله حدث، فعندما ظهر الله لموسى في العليقة الملتهبة، سأله موسى عن هويته التي عليه أن ينقلها للناس، فأجابه الله: "أنا الذي أنا – أكون الذي أكون"، أي الله يحضر في الوقت الذي يريده، كما يحضر في كل أمر يفعله، وليس مرتبطا بمكان، والدليل أنه أرشد الشعب في الطريق الذي عليهم أن يسلكوا فيه حاملا إياهم، وبات من بعد حادثة الخروج ، في كل الكتاب المقدس، يربط نفسه بحدث أثناء وصفه لذاته "أنا إلهكم الذي فعل"، أي يظهر نفسه بحدث تكتشف الناس حضوره من خلاله. يقول الله: "أنا الذي قطَّعتكم على أجنحة النسور"، أي هو قد شق البحر الأحمر ليمروا عبره لئلا يكون لأحدهم فضل أو جهد في قصة الخروج ولو حتى بالسباحة للوصول إلى الطرف المقابل، فالعمل الخلاصي بأكمله من إنجاز الله ولا دور للإنسان فيه مطلقا، وعليه فقط أن يقبله قبولا تاما. وفي العهد الجديد، يظهر حضور الله في عمل يسوع، وليس في مدينة، والدليل أن المدينة التي اعتقد الناس أنها مدينة الله وهي أروشليم، هي بذاتها المدينة التي صلبت مسيح الله، فالأرض لا تحفظ شعوبها بل الله يحفظهم، وهذه حقيقة لا يمكننا إدراكها إلا بعماد عقولنا. ويسوع قد أفرغ نفسه تماما أمام الله، لذلك ملأه الله تماما وبرز عمله فيه بروزا تاما، فلم نعد قادرين على التمييز بين الآب ويسوع، وقد قالها جندي روماني عند الصليب عندما أفرغ يسوع نفسه حتى الموت: "حقا كان هذا ابن الله".
وكل الحروب مبنية على فكرة إلغاء إيمان الآخر، وزرع آلهة مكان أخرى، وهي فكرة وثنية إلى أبعد الحدود. لذلك لا يتوجب على المسيحي الحقيقي أن يحارب الآخر ويعمل على إبعاده من المكان الذي يتواجدان معا فيه لمجرد الاختلاف عنه، ومهما كانت درجة هذا الاختلاف، وإذا قرر أنه لا بد من ذلك، فعلى المسيحي نفسه المغادرة، ويبقى إلهه الذي هو قادر أن يصنع من الحجارة أبناء لابراهيم.
وعلى الإنسان الحذر من أن يجعل الله بالجهل والتقوى الزائدة على صورته ومثاله، لأن الله خلقنا بالأصل على صورته هو ومثاله، وهذا للأسف ما يحدث في كثير من الأوقات، والدليل هو الناس الذين يطلبون من الله ضرب عدوهم وأذيته، فهم يريدون الانتقام ويجعلون الله "منتقما" على صورتهم، أو الناس الذين يضرعون إلى القديسين لتلبية أمر ما، وإن لم يحدث أنكروهم. هذه هي الوثنية بحد ذاتها، فهي بالأصل قائمة على بناء صنم على الصورة التي يرغبها الناس – على صورتهم ومثالهم هم - ومن ثم عبادته. ولكي يذكرنا الله بأنه ليس إله تصوراتنا، يقول عن نفسه في الكتاب المقدس دوما "أنا الذي فعل". والآن يمكننا أن نفهم سبب رواية الكلام الجوهري بأكمله في كل قداس من الطقس الشرقي – الله الذي خلق...إلخ – قبل طلب تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، وكذلك في المعمودية قبل طلب تقديس المياه، وذلك خشية من أن يطلب الكاهن تقديس الخبز أو الماء من إله تصوراته وليس من الله المخلص، ففي ذلك إذا عملية تذكير له بحقيقة الله، ولهذا السبب عينه هناك نص إنجيلي ورسولي في كل قداس، لإيقاظ الناس من أحلامهم وتصوراتهم؛ الله الذي (فعل حدث) هو إلهنا. ولم يرتبط كلام يسوع صدفة بالآيات التي كان يصنعها، أي بأحداث تدلنا على الطريق الحق، فالعجائب هي علامات تقودنا إلى الله وليست أمرا يجب أن نوقف مسيرتنا عنده فقط وننشئ له المزارات وكل ما يختص بالأمور البشرية. فعلى سبيل المثال، ليس هناك ما يسمى بالبخور المقدس، ولكن هناك بخور يتقدس عندما نشركه معنا في إعلان قداسة الله في لحظة معينة، وخارج هذه اللحظة هو مجرد حجارة، ويقصد عند تبخير الناس في الكنيسة إخبارهم أنهم آلهة على صورة الله ومثاله، فيأتي الجواب منهم برسم إشارة الصليب تعبيرا عن أن المجد كله للآب والابن والروح القدس الذين نحن لا شيء أمامهم، أي هناك حوار في التبخير، وإلا يكون مجرد فعل وثني برمي البخور أمام الربّ لإرضائه. وهناك أيضا مثل وثني شائع "ساعة لك وساعة لربك"، وفي الحقيقة أن كل الساعات للرب لأنه موجود في كل تحرك صغير يقوم به الإنسان الذي أراد الانضواء تحت جانحه. وهناك الكثير من هذه الخرافات التي تقودنا في منحى سحري، وتتحول صلاتنا إلى تمتمات.
ففي المزمور إذا، تريد الشعوب والأمم الدمار، أي هي العدو، والعدو يمكن أن يكون أي أحد، يمكن للإنسان نفسه خلق عدوه، إلا أن العدو الحقيقي هو الذي يريد أن يلغي حكم إلهنا علينا ويمنعنا من طاعته والخضوع له. وللأسف، فإن العدو قادر في كثير من الأحيان أن يلغي إلهنا دون أن يدخل معنا في حرب حتى! يلغيه بالإغراء والدغدغة والترف وحتى بالمناسبات الدينية والأعياد
(X-Mas بدلا من Christmas)، يلغي العدو إلهنا من ذاكرتنا عندما ندفع المبالغ الطائلة لشراء زينة جديدة لعيد الميلاد، في حين أن هناك إنسان فقير لا يعرف معنى العيد، فأين هو إلهنا إذا؟
فهدف العدو الأول والأخير هو أن يلغي خضوعنا لإلهنا ويجعلنا نتمرد عليه "لنقطعْ رُبُطَهُما ونُلقِ عنا نِيْرَهُما"، والنير هنا هو الناموس عند اليهود، إذ بات قيداً يخضعون له ولا يمكّنهم من التحرك، لذلك يقول يسوع مستخدما التعبير ذاته: "أنا حملي خفيف ونيري هيّن".

الساكنُ في السماءِ يَضحكُ منهم. والربُّ يستهزئُ بهم.
وهنا يأتي الجواب على رغبة العدو بإنهاء خضوع الناس للرب، باستهزاء الله - الملك – الرب – المسيح بهذا العدو والضحك منه. والفرد منا لا يستهزئ أبدا بمن هم أعلى منه شأناً، بل بمن هم أقل منه شأناً، لأن الضحك منهم هو دليل على أننا نسحقهم. والرب هنا يعبر بضحكه أن الأعداء منهزمون لا محالة مهما فعلوا.
حينَئِذٍ يكلِّمُهم بغضبِهِ ويُروِّعُهُم بسخطِهِ. مساومة العدو تؤدي به إلى سحقنا والانتصار علينا، والرب يدرك أنه لا يمكن له أن يعامل عدوه إلا بغضب إلهي وحزم. كذلك نحن، لا يمكن لنا التغلب على الخطيئة بالمسايرة، بل بالحزم وحده، لأن المسايرة تؤدي بنا إلى السقوط في الهوى والخطيئة من خلال التبرير. والمسايرة أصلا تنبع من الخوف من الموت كأن نسرق لتأمين قوتنا؛ أي خوفا من الموت نرزح تحت نير عبودية الخطيئة.

يقول الرب في الإنجيل المقدس: "أحبوا أعداءكم"، ولكن علينا أن ننتبه إلى أنه لا يمكننا التساهل مع أي أمر معادٍ لنا. فيسوع لا يعني بالعدو من يريد أذيتنا، بل يقصد كل شخص نحتكّ به يوميا وخلقناه نحن عدوا لنا لأسباب معينة، دون أن يكون هو عدونا أساسا. فكما نجعل الغريب قريبا لنا؛ "من هو قريبي؟"... "من صار قريبا"، كذلك بالحسد والغيرة نخلق الأعداء. أما العدو الحقيقي فهو الخطيئة وليس الخاطئ، فالخاطئ هو مريض، وعندما يخطئ بحقنا يكون الله قد عيننا أطباء له وليس أعداء، أما الخطيئة فتبقى خطيئة ولا يمكن مساومتها.

أنا أُقِمتُ منه مَلِكاً على صهيونَ جبلِ قُدْسِهِ.
أي الله عينني ملكا على جبل قدسه، أي على المكان الذي نعلن منه قداسة الربّ.
مُنْذِراً بِشرْعةِ الربِّ. الربُّ قال ليَ: أنتَ ابني وأنا اليومَ ولدتُكَ.
فالملك قبل تنصيبه بلحظة ليس ملكا، ويملك في اللحظة التي ينصب بها، لذلك لا وجود للقب الملك السابق. وفي اللحظة التي ينصب فيها الملك يُعلن أنه ابن الله. والله قد نصب يسوع مسيحا في المعمودية في اللحظة التي قال له بها: "أنت ابني الحبيب الذي به سررت"، ليعكس إرادة الله على الشعب. ونحن قد بدأنا نعرف يسوع كإنسان، ثم كُشف لنا أنه إله.
إِسألْني فأعطِيَكَ الأممَ ميراثاً لك وأُمَلِّكَكَ جميعَ أقاصي الأرض.
فالملك يجب أن يسيطر على جميع الناس، ليبقى منتصرا وبالتالي يبقى ملكا، ويبقى إلهه إلها، وذلك يتحقق عندما يطلب من الربّ.
فترعاهم بعصاً من حديد. وتَسْحَقَهم مثل وعاءٍ من فَخَّارْ. وهنا يقصد الغلبة على الأعداء.
فالآن يا أيها الملوكُ تفهَّموا. ويا جميعَ قضاةِ الأرضِ تأدَّبوا.

أُعبدوا الربَّ بخشيةٍ وهلِّلوا له برِعدةٍ.
وهنا يتم إعلان الانتصار، لأن الخضوع لإله غير الإله المعبود أصلا يعني خسارة الحرب. فالشيطان عندما جرب يسوع حاول إغراءه بامتلاك الدنيا بأكملها مقابل أن يسجد له، فأجابه يسوع: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد"، فالخضوع إذا هو العبادة، ويسوع لم يقبل أن يعبد الشيطان ليس لأنه الشيطان، بل لأن يسوع لا يقبل أية هدية أو عطية إلا من الله وحده. فمجرد النظر إلى أحد غير الله يعتبر زنى روحي. لذلك وكالصوان وصل يسوع إلى الموت الذي كان إعلانا لقيامته. ففي حين أن الموت هو إعلان النهاية، أعلنت بداية يسوع بقيامته، بداية جديدة.
إلزموا الأدبَ لئلا يغضبَ الربُّ فتضِلُّوا عن طريقِ الحقِّ. لأنَّ غضبَهُ يتَّقدُ بسرعةٍ فطوبَى للذين عليه يتوكَّلونَ أجمعين. آمين
ولكن كيف نقرأ هذا المزمور ونحن تحت رحمة الربّ يسوع والإيمان به؟ بأية ذهنية يجب أن نقرأه؟
علينا أن ندرك أن الله الآب والربّ يسوع يستهزئان بالأعداء، وهما منتصران عليهم، ويبقى علينا فقط أن نقف ونصدق أنهما يضحكان من الأعداء منتصرَين. لا يُطلب منا الاشتراك بالحرب والفوز معهما، بل تصديق ذلك فقط وربما الضحك معهما. ولكننا نُدخل الأعداء معنا إلى حيث تكمن القداسة، فنصبح نحن المتمردين والأعداء، ويصبح الحل أن نخضع مجددا.

إذا عند قراءتنا لهذا المزمور، تتم الحرب فينا، لنعلن انتصار الله فينا أيضًا، أي بحدث عمله الله فينا وهذه هي القداسة. القداسة هي حربٌ دائمة أرضها نحن، والمنتصر والخاسر فيها نحن، وعلينا أن نختار من نكون "المنتصر أم الخاسر"، وهكذا تُعلَن ملكية الله، ليس في السماء فحسب بل كذلك على الأرض داخلنا؛ "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض". ويسوع قال عندما دخل بيت زكا: "اليوم صار خلاص لهذا البيت"، وزكا عبّر عن فرحه بزيارة الربّ بتوقفه عن مسايرة الخطيئة، بتوزيع نصف أملاكه على الفقراء، وإعادة أربعة أضعاف ما كان يعشره.

ملاحظة: دوِّنت من قِبلنا بتصرّف.

https://youtu.be/FqSx1ysyK0w القسم الأوّل
https://youtu.be/QltbwGd3XkU القسم الثاني تتمة...
19/11/2013 سِفر المزامير - المزمور المائة والرابع مزمور الخلق
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور المائة والرابع
الأب ابراهيم سعد

19/11/2013

يُعرف هذا المزمور باسم "مزمور الخلق"، ويُقرَأ في الطَّقس الشَّرقيِّ في صلاة الغروب، لأنَّ اليومَ اللِّيتورجي يبدأُ مساءً وينتهي صباحاً، اقتداءً بسفرِ التَّكوين الذي يقول: "وكان مساءٌ وكان صباحٌ يوماً واحداً". أمَّا في الأسبوعِ العظيمِ ضمنَ الطَّقس الشَّرقيِّ فتُقامُ صلواتُ المساءِ صباحاً، وصلواتُ الصَّباحِ مساءً، نظراً لانقلابِ الأمور رأساً على عقب في هذا الأسبوع.
عندَ قراءَتِنا لهذا المزمور سنُجري مقارنةً مع الإصحاح الأوَّل من سفر التكوين؛ قصَّةُ الخَلْق.
1. باركي يا نفسي الربَّ. أيها الربّ إلهي لقد عظُمْتَ جداً. بالبهاءِ والجلالِ تسربلْتَ.
2. اللابسُ النورَ مثلَ الثوب. الباسطُ السماءَ كالخيمةِ.
3. المسَقِّفُ بالمياه علالِيَّهُ الجاعلُ السَّحابَ مركبتَهُ الماشي على أجنحةِ الرياح.
4. الصانعُ ملائكتَهُ أرياحاً وخُدَّامَهُ ناراً تتلهَّبُ.
5. المؤسِّسُ الأرضَ على قواعدِها فلا تتزعزعُ إلى دهرِ الداهرين.
6. رداؤُها اللجة كالثوب. على الجبالِ تَقِفُ المياهُ.
7. من انتهارِكَ تهرُبُ. من صوتِ رَعْدِكَ تفزع.
8. تصعدُ إلى الجبالِ وتَنزِلُ إلى البِقاعِ إلى الموضعِ الذي أَنشأْتَهُ لها.
9. جعلتَ لها حَدَّاً فلا تتعدَّاهُ ولا ترجِعُ لتغطِّيَ وجهَ الأرضِ.
10. يُطلِقُ العيونَ بين الأوديةِ. في وَسَطِ الجبالِ يُجري المياهَ.
11. فتسقي جميعَ وحوشِ البَرِّ. بها تُطفِئُ حميرُ الوحشِ عطشَها.
12. بِقُرْبِها طيورُ السماءِ تتستقّر. من بين الصخورِ تشدو بأصواتِها.
13. يسقي الجبالَ من علاليِّهِ. من ثَمَرَةِ أعمالِكَ تَشبَعُ الأرضُ.
14. يٌنبت العشب للبهائمِ والخضرة لخدمةِ البشرِ. ليُخرِجَ مأكلاً من الأرضِ.
15. فخمراً تُفَرِّحُ قلبَ الإنسانِ. وزيتاً يُشرِقُ به وجهُهُ. وخبزاً يُشدد قلبَ الإنسانِ.
16. ترتوي أشجار البَرِّ. أرزُ لبنانَ الذي غَرَسَهُ.
17. هناك تُعَشِّشُ العصافيرُ ومَساكنُ اللَّقْلَقِ في مُقَدِّمَتِها
18. الجبالُ العاليةُ للأيايل والصخور ملجأٌ للأرانبِ.
19. صَنَعَ القمرَ للأوقاتِ والشمسُ عَرَفَتْ غروبَها.
20. صَنَعْتَ الظلمة فكان ليلٌ وفيه تسري جميعُ وحوشِ الغابِ.
21. أشبالٌ تزأرُ لِتَفترِسَ وتلتمسَ من اللهِ طعامَها.
22. تُشرِقُ الشمسُ فتجتمِعُ وفي مغاورها تَرْبُضُ.
23. يَخرُجُ الإنسانُ إلى عملِهِ وإلى صَنْعَتِهِ حتى المساء.
24. ما أعظمَ أعمالَكَ يا ربُّ! كلَّها بحِكمةٍ صَنَعْتَ. الأرضُ امتلأتْ من خليقتِكَ.
25. هذا البحرُ الكبيرُ الواسعُ. هناك دبَّاباتٌ لا عَدَّ لها. حيوانات صغارٌ مع كبار.
26. هناك تَجري السفنُ وهذا التِنِّينُ الذي صنعْتَهُ لكي يسرح فيه.
27. كلُّها إياكَ تترقَّبُ لتُعطِيَها طعامَها في حينه.
28. فإنْ أنتَ أعطيتَها جَمَعَتْ. تفتحُ يدَكَ فكلُّهم يَشبَعون.
29. تصرف وجهَكَ فيضطربون. تَنزِعُ أرواحَهم فيَفْنَوْنَ وإلى ترابهم يرجِعون.
30. تُرْسِلُ روحَكَ فيُخلقون وتُجدِّدُ وجهَ الأرضِ.
31. فليكن مجدُ الرَّبِّ إلى الأبد. يَفرحُ الربُّ بأعمالِهِ.
32. الذي ينظرُ إلى الأرضِ فيجعلها ترتعدُ ويَمَسُّ الجبالَ فتُدخِّنُ.
33. أسبِّحُ الربَّ مدى حياتي وأرتِّلُ لإلهي ما دُمْتُ موجوداً.
34. يَلَذُّ له تأمُّلي وأنا أفرحُ بالربِّ.
35. لتنقرض الخطأةُ من الأرضِ والأثمةُ فلا يكونوا من بعد. باركي يا نفسي الربّ.
فالمرنِّمُ إذاً يتغنَّى بحكمةِ الله في خَلْقِه، ويوظِّف أسلوبَه في التَّعبير ليوصِلَ المعنى اللَّاهوتي الذي يُريده. وبما أنَّ الشُّعوب المختلفة تَعبدُ آلهةً مختلفةً وتتبادلُ أفكاراً وحضاراتٍ، وتنتقلُ عبادةُ الآلهة مع شعوبها من مكانٍ إلى آخر، يجدرُ على الأدب أن يستخدمَ أساليباً مُستمَدَّةً من حضارةِ الشُّعوب ولُغاتِها المختلفة ليوصِلَ لها أفكاراً عن إلهه هو، لذا قد تتشابهُ القصصُ مع بعضها البعض، فعلى سبيلِ المثال، قصَّة الخلْقِ في الكتاب المقدَّس وفي المزمور تتشابه كثيراً مع ملحمةِ الخلْق عندَ البابليِّين "إينوما إيليش" التي تعني "عندما في العُلى"، وقصَّةُ "طُوفان نوح" في العهد القديم تتشابَهُ وقصَّةُ الطُّوفان في "ملحمة جلجامش". فمن الممكن إذاً أن يكونَ كاتبُ سفر التَّكوين قد استوحى قِصَّتَهُ من ملحمةِ "إينوما إيليش" ليصلَ إلى البابليِّين، إلَّا أنَّه قد أعطاها المعنىً اللاهوتي، ولكن كيف؟ كانَ إلهُ القمر هو الإلهُ الأهم عندَ الشُّعوبِ القديمةِ، لأنَّهُ كانَ يُعتَبَرُ الأخطرَ إذ إنَّ جميعَ المؤامراتِ والحروبِ كانت تُحاكُ في اللَّيل، وعندما جاءَ حمورابي، صاحبُ الشَّريعة الأولى في التَّاريخ: "العينُ بالعينِ والسِّنُّ بالسِّنِّ" جعلَ إلهَ الشَّمسِ أهمَّ من إلهِ القمر، لأنَّ النَّهارَ يفضحُ مؤامراتِ اللَّيل، وغيابُ الشَّمس أو تضاعُفُ قوَّتها يؤدي إلى هلاكِ البشريَّة، أي أنَّ الشَّمسَ أخطرُ من القمر. وجاءَ في الإصحاحِ الأوَّلِ من سِفرِ التَّكوين: "3 وقال الله: ليكن نور، فكان نور... 14 وقال الله لتكن نيِّراتٌ في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل. وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. 15 وتكون أنوارا في جلد السماء لتنير على الارض.وكان كذلك. 16 فعمل الله النيرين العظيمين. النيّر الأكبر لحكم النهار والنيّر الأصغر لحكم الليل والنجوم. 17 وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض. 18 ولتحكم على النهار والليل ولتفصل بين النور والظلمة. ورأى الله ذلك أنه حسن. 19 وكان مساء وكان صباح يوماً رابعاً"؛ أي خلقَ اللهُ النُّورَ في اليوم الأوَّل، والشَّمسُ التي اعتبرها البابليُّون مصدرَ النُّور خُلِقت في اليوم الرَّابع، أي الرَّبُّ يخلقُ النُّورَ حتى لو لم تكن هناك شمسٌ أو قمرٌ ولا فضلَ لهما في ذلك، ولم يسمِّ الكاتبُ الشَّمسَ والقمرَ، بل قال عنهما: نيِّرٌ أكبر ونيِّرٌ أصغر، مُقلِّلاً من قيمتَيْهما ولاغياً حضورهما، أي مُقلِّلاً من قيمةِ آلهة البابليِّين الأعظم، وجعلَ من إلهه الخالقَ الوحيدَ. كما جاء على لسانُ المرنِّم في المزمور: "وهذا التِنِّينُ الذي صنعْتَهُ لكي يَسْرَحَ فيه"، والتِّنينُ هو حيوانٌ خرافيٌّ، يُمثِّلُ صورةَ العدوِّ الأكبر لخليقةِ الله، ويرمزُ للبحر والموت الذي يبتلعُ النَّاس، أي أنَّهُ إلهٌ. وهنا في المزمور يلعبُ التِّنين مسالماً في الماء إذ روَّضَهُ الله. فاللهُ إلهُ المرنِّم قد خلقَ الآلهةَ الأخرى أيضاً، وبما أنَّها قد خُلِقَت تَبْطُلُ ألوهيَّتها. فالمزمورُ إذاً يُمجِّدُ اللهَ الخالقَ وعظَمتَهُ.
جاء في سفرِ التَّكوين، الإصحاح الأول: "1 في البدء خلق الله السموات والأرض.2 وكانت الأرض خربةً خاليةً وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه." ولكن ماذا يعني قولُهُ: "خربةً خاليةً"؟ هل خلق الله فوضى؟
لكي نفهمَ المعنى الصَّحيح، علينا أن نُدركَ أنَّ الكتاب المقدَّسَ يخلو من الرُّوحِ الفلسفيَّة، فكلمةُ العدمِ في قولنا: "خلقَ اللهُ الإنسانَ من العدم" تعني اللَّاشيء فلسفيَّاً، وهذه العبارة بحسبِ الكتاب المقدَّس تعني: "قبلَ أن يَخلقَ اللهُ الإنسانَ، لم يكن الإنسانُ موجوداً" فقط، ولا تعودُ بنا إلى ما كان قبلَ أن يُخلَقَ الإنسانُ، أي ليسَ لها بعداً فلسفيَّاً.
ومعنى "خربةً خاليةً" باللُّغة العبرانيَّة "طوهو بوهو" أي فوضى وخراب. وهذه العبارةُ موجودةٌ في الكتاب المقدَّس لدى النَّبيِّ إرميا، الذي كتب كتابه قبل 600 عامٍ من ميلادِ المسيحِ، وقبلَ أن يُكتَبَ سفرُ التَّكوين الذي كُتِبَ مُتأخِّراً قبلَ 500 عامٍ من ميلادِ المسيحِ فقط. أي أنَّ كاتبَ سفر التكوين يعرفُ النَّبيَّ إرميا وقد أخذَ عبارة "طوهو بوهو" عنه ووضَعَها في هذا المكان. أمَّا إرميا فقد قالها في معرضِ حديثِهِ عن دمارِ هيكلِ أورشليم وأنه سيصبِحُ "طوهو بوهو" أي خراباً وفوضى، بمعنى أنَّ الله سيأخذُ من اليهود ما اعتقدوهُ ملكاً لهم، وعبارة "خربةً خاليةً" تعني: "لولا تدخُّلُ إلهي لكنتُم غير موجودين".
إلا أنَّ السؤالَ الأخطرَ يكمنُ في قوله: "وعلى وجه الغمر ظلمة"، وهو: إن كانَ الظَّلامُ موجوداً قبلَ النُّور، أهذا يعني أنَّ الظَّلامَ قد خُلِقَ قبل أن يُخلَقَ النُّور؟ والحقيقةُ هي أنَّ الظَّلامَ هو غيابُ النُّورِ، أي قبلَ أن يَخلقَ اللهُ النُّورَ كان هناكَ ظلامٌ.
وعندما خلقَ اللهُ الإنسانَ لم يخلقْهُ كأحدِ مخلوقاتِ الكون، بل خلقَهُ ليُبرهِنَ أنَّهُ تعالى محبٌّ، وهذه مسؤوليَّةُ الإنسانِ إذ إنَّهُ أصبحَ الصورةَ الواضحةَ عن محبَّةِ الله. وخطيئةُ آدمَ تكمنُ في أنَّهُ شوَّهَ صورةَ "اللهِ المــُحِبِّ" عندما قَبِلَ تفسيرَ الحيَّةِ بأنَّ الله َلا يُريدُهُ أن يأكلَ من ثَمرِ شجرةِ معرفةِ الخيرِ والشَّرِّ لئلَّا يُصبِحَ مِثلَه. فالأفعى قد لَعِبَت على نَقصِ حُبِّ اللهِ للإنسان، وهذه هي المشكلة. والحيَّةُ هي الحيوانُ الوحيدُ الذي لا يسمعُ، كدليلٍ على أنَّها لن تسمعَ كلامَ اللهِ أبداً ولن تتغيَّرَ حالُها.

وهناكَ أمرٌ آخر، الأفعى هي إلهُ الخصبِ والحياةِ لدى البابليِّين، أمَّا في سفر التَّكوين فاللهُ الذي نفخَ في الإنسانِ نسمةُ الرُّوحِ هو إلهُ الحياة. وهنا يُوَجَّهُ السُّؤالُ للإنسانِ حول ما إذا كان يريدُ أن يكونَ مع الإله الذي يعتقدُ أنَّه إلهُ الحياة، أم مع إلهُ الحياة الحقيقيّ؟ فكاتبُ سفرِ التَّكوين لا يكتبُ لنا قصَّةَ الله، بل قصَّتنا معَ الله بعد أن نقرأَ القصَّةَ، وهو يجعلُ جميعَ الآلهةِ والملائكةِ خُدَّاماً لله، إلَّا الإنسان يبقى سيِّداً وحدَهُ لأنَّ اللهَ أعطاهُ سُلطَةَ أن يُسمِّيَ الخليقة: " 26 وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.
فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. 27 فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. 28 وباركهم الله وقال لهم انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. 29 وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرا. لكم يكون طعاما. 30 ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما. وكان كذلك. 31 ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا. وكان مساء وكان صباح يوما سادسا".

فمن يُسمِّي الشَّيءَ، يكونُ سيِّداً وصاحبَ سلطةٍ عليه. والرَّسولُ بطرس كان اسمُهُ سمعان، إلَّا أنَّ الرَّبَّ يسوعَ أسماهُ بطرسَ أي باتَ سيِّداً عليهِ وبات بطرس تابعا له، ولهذا يُمنَحُ الطِّفلُ في المعمودية اسماً ثانياً، للدَّلالةِ على أنَّه باتَ ينتمي إلى قدِّيسٍ مُعيَّنٍ، إلى حالةٍ مُعيَّنةٍ من القداسة بالإضافة إلى انتمائِهِ إلى والدَيْه.
ولأنَّ المحبَّة تعني أن يَرفَعَ المحبُّ حبيبَهُ إلى مستوى أقلّهُ أعلى من مستواه هو، أعطى اللهُ الإنسانَ سلطةَ تسميةِ الخليقة ليجعلَهُ سيِّداً عليها أيضاً، وقد خلَقَهُ على صورتِهِ ومثالِهِ لأنَّه لا يستطيعُ أن يُبرهنَ أنَّهُ الإلهُ المـُحبُّ إلَّا إن كان من يحبُّه من مستواه أو أن يجعلَهُ من مستواه، لأنَّ الحبَّ يرفعُ من مستوى العبوديَّة وحتى مستوى السِّيادة وإلا فهو ناقصٌ، "هكذا أحبَّ الله العالمَ حتى بذلَ ابنَهُ الوحيد لكي لا يهلك كل من آمنَ به". وأكثر من ذلك، فقد جعلَ الله النَّاسَ أعلى مستوى من ابنه الوحيد، وجعلَ من ابنِه خادماً للنَّاس، فأين يوجدُ حبٌّ كهذا؟ إذاً، أن يكونَ الإنسانُ على صورة الله ومثاله يعني أنَّه قد دخلَ في حالة الحبِّ، والحبُّ هو الصُّورةُ الواضحةُ عن الحريَّة، إذ يمكنُ لنا أن نجبر أحداً ما أن يخدمَنا ويخضعَ لنا، ولكن لا يمكنُ لنا أن نُجبرهُ أن يحبَّنا، فالحبُّ وجهُ الحريَّة ومن هنا ندرك أن الله لم يخلقِ الإنسان حرَّاً، بل خلقَهُ كائناً مُحبَّاً مثله، ولأنَّهُ مُحبٌّ فهو حرٌّ ويتصرَّفُ كما يشاء. والحرية إن اقترنت بالمسؤولية تقودُ إلى القداسة، أمَّا بدونِ المسؤولية فالحريَّةُ تؤدِّي بالإنسان إلى مواضعَ أخرى.

قصَّةُ الخلقِ إذاً لا تدورُ حولَ كيفيَّة خلق الكون، بل من خَلَقَه، وليس الله هو من خلَقَهُ بل "إلهي". والمرنِّمُ يبدأُ مزموره بـ:
"باركي يا نفسي الربَّ. أيها الرب إلهي لقد عظُمْتَ جداً. بالبهاءِ والجلالِ تسربلْتَ" متحدِّثاً عن إلههِ هو وليس إلهَ الكلِّ، إلهه هو الذي فعلَ كل ما دُوِّن في المزمور، ليختُمَ بقوله: "باركي يا نفسي الرَّبَّ" مؤكداً أنَّه لا يقوم إلَّا بتمجيدِ الرَّبِّ ولا فضل في كلِّ ما جاء بين المباركتَيْن الأولى والأخيرة إلَّا لله الخالق وحده. ونحن أيضاً عندما نُصلِّي هذا المزمور نعلنُ أنَّ كلَّ كلمةٍ نقولها بين افتتاحية صلاتِنا وختامِنا هي فعلٌ من أفعال الله، وليس لنا فضلٌ بها على الإطلاق. فغايةُ الصَّلاةِ إذاً هي أن تفضحَ حقيقتَنا، لكوننا نعتقدُ أنَّنا كل شيء ونحن في الحقيقةِ لا شيء، بل الله، وبالصَّلاةِ نعتمدُ مجدَّداً مُعلنينَ ربوبيَّة الله، ناكرين ربوبيَّتنا نحن وربوبيَّة أيِّ ربٍّ آخر علينا إلا الله إلهنا. لذلك، من يُصلِّي المزمور هم "العماويم" بالعبرانيَّة، أي الفقراء، لأنَّ من يقفُ أمام ربِّه ليس عليه أن يفتخرَ بأي شيء، لأنَّه إن فعلَ كان ربَّاً في مكانٍ ما، لذا: "طوبى للفقراء لأن لهم ملكوت السماوات"، وكلُّ غنىً هو من الله وحده، ما عدا ذلكَ فإنَّ أي شيءٍ يفرحنا يحتلُّ جزءاً مِنَّا ويحرمنا من تكريس الرَّبِّ له، وهنا نفهم معنى: "لأَنْ يدخُلَ الجملُ في ثَقبِ الإِبرةِ أَيسَرُ مِنْ أَنْ يَدخُلَ الغَنِيُّ ملكوتَ الله"، أي أننا في هذه الحالة نكون قد سمحنا للرب أن يكون نصف رب علينا فقط، لأننا في مكان ما ما زلنا نعتبر أننا أصحاب السلطان. فغاية المزمور إذاً هي إعلانُ ربوبيَّة الرَّبِّ – بين المباركتَيْن الأولى والأخيرة- على كل شيء وعلى ذواتنا حتماً، إذ ما نفعُ أن نعلِنَ أنَّ الرَّبَّ سيِّدُ العالم بأكمله إن لم يكُن سيِّداً علينا؟ كيف سيكونُ الرَّبُّ سيِّدَ الخليقة إن لم يكن سيِّداً علينا أيضاً؟ "ماذا ينتفعُ الإنسان إن ربحَ العالم كلَّه وخسرَ نفسَه؟" والصَّلاة التي تأخذُ طابع "الفضَّاحة" إذ تفضحنا، لا يجبُ أن تتَّسِم بالحزنِ فقط، بل بالفرحِ إذ تجعلُنا نكتشف مجدَّداً من هو ربنا وبالتالي نجدُ الحياةَ والماءَ والهواءَ، فنتوبُ، وما عدا ذلك تتحوَّل الصَّلاة إلى تمتماتٍ.

"المؤسِّسُ الأرضَ على قواعدِها فلا تتزعزعُ إلى دهرِ الداهرين" فالمدنُ في القِدَمِ كانت تُرفَعُ على أعمدةٍ، وإن سقطَتِ الأعمدةُ هَوَتِ المدينة واندثرَت مع أهلها وإلهها، وهنا إن تزعزعَت الأرضُ يبطُلُ مُلْكُ الله، وبرهان ملوكيَّة الله هو أنَّ مملكته لا تقع. والملك هو الذي يجمعُ رعيَّته كعائلةٍ، كالأب الذي يجمع عائلته فتتماسك، لذا عندَ الحديثِ عن الآب والابن والروح القدس الثَّالوث الواحد، فإنَّ الأساس هو الآب نظراً لأبوَّتِهِ، حيث يتجلَّى مفهومُ الحبِّ بين الآب والابن في علاقةِ الأبوَّة. "أسبِّحُ الربَّ مدى حياتي وأرتِّلُ لإلهي ما دُمْتُ موجوداً. يَلَذُّ له تأمُّلي وأنا أفرحُ بالربِّ" أي تتحوَّلُ العلاقة عندما نُصلِّي المزمورَ معترفين بعظمةِ الله إلى علاقة فرح. "لتنقرض الخطأةُ من الأرضِ والأثمةُ فلا يكونوا من بعد. باركي يا نفسي الربّ" يُشدِّدُ المرنِّمُ على أهميَّة عدمِ وجودِ خطأةٍ، لأنَّ هكذا خليقة لها هكذا خالق، لا يجب أن يشوِّهَها وجودُ الخطأةِ، لذا يتمنَّى عدم وجودِهم، ولكنَّهُ يقصدُ أيضاً ذاتَه لأنَّه من الخطأة، فالصَّلاة أيضاً هي أن يكتُبَ الفردُ مِنَّا ورقةَ نعيٍ لشخصِهِ القديم، وشهادةَ ميلادٍ لشخصه الجديد وإلا تتحوَّل إلى سحرٍ وتمتماتٍ، آمين.

ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة من قِبَلِنا بتصرُّفٍ.

https://youtu.be/tPFJkaooKwI القسم الأوّل
https://youtu.be/-CK4mifFxRo القسم الثاني تتمة...
12/11/2013 سِفر المزامير- المزمور الخامس والأربعون من المزامير الملكيّة
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سّفر المزامير
المزمور الخامس والأربعون
الأب ابراهيم سعد

12/11/2013

ينتمي المزمور 45 إلى فئة المزامير الملكيّة، التي تتحدّث عن الملك. وبما أنه قد دخل في الليتورجيا فإنه يتحدّث عن الله كملك، فبالنسبة لمن كتبوا الكتاب المقدس، الله وحده هو الملك، أما نحن الناس، فنريد ملكاً أرضيًا ليعكس فكرة وقدرة الإله على الأرض وليقودنا كباقي الأمم كوكيل عن الله.
وبقيت فكرة الملكيّة في فِكر من كَتَبَ الكتاب المقدّس "تجربة فاشلة"، لأن التاريخ المذكور في الكتاب المقدّس يبرهن ذلك. إذ لم ينجح أي مَلِك في تحقيق شرطَيْ الملَكية؛ الانتصار على الأعداء في الخارج أولا، وتحقيق الاستقامة والعدل في مملكته ثانيا. ولهذا بقي الشوق والتوق إلى مجيء ملك يجسد صورة الملك الحقيقي، واستمر هذا إلى أن كتب بعض الأشخاص في العهد الجديد أنّ صورة هذا الملك تجلت في شخص يسوع المسيح. فكتَّاب العهد الجديد ليسوا من مدرسة أخرى تختلف عن مدرسة كتَّاب العهد القديم، فبولس الرسول هو تلميذ غملائيل الذي ينتمي إلى مدرسة علَّال، التي رتبت وصاغت الصيغة النهائية للعهد القديم.

وعند قراءتنا لأي مزمور مَلَكي، علينا أن نفكر بالله كمَلك، حتى لو كان المزمور قد قيل في مناسبة زواج الملك.
فهذا المزمور يتحدّث عن مَلك يتزوج، وهو أمر عادي، أما أن يتحدث عن الله الملك الذي يتزوج، فهنا يجب أن نتوقف لنقرأ جيدا. وفي قراءتنا للعهد الجديد نفهم أن يسوع قد تزوَّجَ والكنيسة هي امرأته. وإذا أردنا حصر الموضوع أكثر وأكثر؛ يسوع تزوج النفس البشرية التي هي "أنا".



يقول المزمور:
1- بكلامٍ شائقٍ يَفيضُ قلبي فأحدِّثُ عن المــَلكِ بما أحرِّرُ ولساني مثل قلمِ الكاتبِ الماهرِ.
2- أنتَ أبهى جمالاً من بني البشرِ. النعمةُ انسكبَتْ على شفَتَيْكَ. لذلك باركَكَ اللهُ إلى الأبد.
3- تقلَّدْ سيفَكَ على فَخْذِكَ يا أيها القديرُ في حُسْنِكَ وجَمالِكَ.
4- جرِّدْ سيفَكَ وانجحْ وامْلِكَ من أجلِ الحقِّ والدِّعَةِ والبِرِّ فتُجري يمينُكَ العجائبَ.
5- نبالُكَ مسنونةٌ يا أيها القديرُ. الشعوبُ تحتَكَ يسقطون. نبالُكَ في قلبِ أعداءِ المـَلِكْ.
6- كُرْسِيُّكَ إلى دهرِ الدَّاهرين يا اللهُ. عصا استقامةٍ عصا مُلكِكَ.
7- أحببتَ البِرَّ وأبغضْتَ الإثمَ. لذلكَ مَسَحَكَ اللهُ إلهُكَ بدُهْنِ البهجةِ أفضلَ من رفاقِكَ.
8- المــرُّ والمــــَيــْعَةُ والسَّليخةُ تفوحُ من ثيابِكَ في خروجِكَ من قصورِ العاجِ.
9- بشذاها أبهجَتْكَ بناتُ الملوكِ وقد كُنَّ بينَ وصيفاتِكَ. الملكةُ قامَتْ من عن يمينِكَ مترديةً بألبسةٍ مزخرفةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ مذهَّبةٍ.
10- اسمعي يا ابنتي وانظري وأَميلي أُذُنَكِ. وانسَيْ شعبَكِ وبيتَ أبيكِ.
11- فيصبو المــَلكُ إلى حُسْنِكِ. لأنه هو ربُّكِ وله تسجُدين.
12- فتأتيكِ ابنةُ صورَ بالهدايا. وأغنياءُ الشُّعوبِ يبتهلون إليكِ.
13- ابنةُ الـمَلكِ كلُّها بهاءٌ في خِدرِها. مُكتسِية بألبسةٍ حواشيها مذهَّبةٌ.
14- بأرديةٍ مطرَّزةٍ يؤتى بها إلى الـمَلكِ. في إثرِها العذارى صواحِبُها يُؤتى بهنَّ إليكَ.
15- يُؤتى بهنَّ بسرورٍ وابتهاجٍ. يُصارُ بهنَّ إلى هيكلِ الـمَلكْ.
16- يُولَدْ لكَ بنونَ عوضاً عن آبائِكَ. فَتَنْصِبُهم رؤساءَ على الأرضِ كلِّها.
17- سأذكرُ اسمكَ في كلِّ جيلٍ فجيل. لذلك تحمدُكَ الشعوبُ إلى الأبدِ وإلى أبدِ الآبدين.
والسؤال الأساسي هنا، كيف نبدأ؟ فبداية العنوان تُغيِّر معنى قراءتنا للنص بأكمله. فقولنا إنّ المزمور يتحدث عن "زواج مَلك" أمر، وقولنا أنه يتحدث عن "المـَلك يتزوّج" أمر آخر. فإن بدأنا القول بكلمة "زواج"، فنحن نتحدث عن ملك يتزوج زواجا معروفا ويحتفل بعرسه. أما إن ابتدأنا العبارة بكلمة "الملك" فسيختلف المشهد اختلافاً كليا. فزواج الرجل بامرأة شيء، و"المسيح" يتزوج الكنيسة شيء آخر – لا يمكننا قول "زواج المسيح بالكنيسة" إذ علينا أن نبدأ قولنا بالمسيح دائماً- لأن من يعطي معنى الزواج هو العريس. وعندما يتزوج الملك، تجلب البنت حاشيتها معها، وتخضع للملك قبل أن تصبح ملكة، إذ إنها تصبح ملكة بمجرد زواجه منها ووقوفها عن يمينه، وعندها يخضع لها الناس أيضا، وفي هذه الصورة نجد انتصار الملك بخضوع الناس له.
"بكلامٍ شائقٍ يَفيضُ قلبي فأحدِّثُ عن المــَلكِ بما أحرِّرُ ولساني مثل قلمِ الكاتبِ الماهرِ"؛
أي أن قلب الكاتب يفيض بكلام عذب وصعب في الوقت ذاته، إذ كيف يمكن له أن يعبر عن عظمة مشهد "الملك الذي يتزوج"؟ فهذه إذا مقدمة ليخبرنا أنه سيبدأ بالتسبيح والتمجيد.
"أنتَ أبهى جمالاً من بني البشرِ. النعمةُ انسكبَتْ على شفَتَيْكَ. لذلك باركَكَ اللهُ إلى الأبد"؛
أي الربّ رفعه إلى مستوى غير بشري وباركه إلى الأبد، والأبد هنا لا يعني اللانهاية الفلسفية، بل أبعد نقطة يمكن لعقل أي إنسان أن يتصورها. وهنا يذكر الكاتب بأن الملك الذي يحقق إرادة الله على الأرض هو مبارك على الدوام، وقانون مملكته يصدر من شفتيه دون الحاجة إلى وجود دستور، ومتى توقف عن تحقيق إرادة الله تنتهي البركة. عندما ذهب يسوع إلى يوحنا المعمدان ليعتمد على يديه قال له "دعنا الآن نتمم كل بر"، وبعدها جاء صوت من السماء قائلا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"، لأن يسوع أراد أن يتمم إرادة الله بأكملها، فالبرّ ليس القيام بالأعمال الحسنة، بل هو عمل إرادة الله فقط.

"تقلَّدْ سيفَكَ على فَخْذِكَ يا أيها القديرُ في حُسْنِكَ وجَمالِكَ"؛
أي ارتدِ ثياب المعركة، لأن الملَكية هي حتما بحاجة لعدو ومعركة وانتصار، ولكن كيف لكاتب أن يتحدث عن هذا في مزمورٍ يتحدث عن الزواج؟
"جرِّدْ سيفَكَ وانجحْ وامْلِكَ من أجلِ الحقِّ والدِّعَةِ والبِرِّ فتُجري يمينُكَ العجائبَ"؛
أي على الملك أن يسيطر على العدو "الظلم والباطل"، بإحقاق "الحق والبر والعدل". والعدو هنا داخلي لأن المزمور يصف مناسبة تحدث ضمن أسوار المملكة، وهي الزواج.
"نبالُكَ مسنونةٌ يا أيها القديرُ. الشعوبُ تحتَكَ يسقطون. نبالُكَ في قلبِ أعداءِ المـَلِكْ"، " كُرْسِيُّكَ إلى دهرِ الدَّاهرين يا اللهُ. عصا استقامةٍ عصا مُلكِكَ"
وهنا يتحدث عن أسلحة المعركة، والشعوب التي يسيطر عليها الملك، وعصا الاستقامة "أي صولجان الملك"، التي يجب أن يُظهرها في كل حين داخل مملكته، ويُري السلطة للشعوب. ويجب أن ندرك أنه عند حديثنا عن الله، لا يمكننا تجريده من صفة الملكية، كما أنه عند حديثنا عن ملك، لا يمكننا تجريده من صفة الألوهية، فالأمران متلازمان.

" أحببتَ البِرَّ وأبغضْتَ الإثم" وهنا يتحدث عن المعركة، "لذلكَ مَسَحَكَ اللهُ إلهُكَ بدُهْنِ البهجةِ أفضلَ من رفاقِكَ"، أي الله اختاره ملكا.
ونلاحظ أن الحديث عن الزواج لم يبدأ حتى الآن، مع أن المزمور هذا يرتَّل في مناسبة الزواج، ولكن، لكي يتحدث عن ذلك، عليه أن يتحدث عن "الملك الذي تزوج"، لذلك عليه أن يذكر أولا العدو والمعركة والانتصار.
" بشذاها أبهجَتْكَ بناتُ الملوكِ وقد كُنَّ بينَ وصيفاتِكَ"؛
وهنا يستهلُّ الحديث عن الزواج.

"الملكةُ قامَتْ من عن يمينِكَ مترديةً بألبسةٍ مزخرفةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ مذهَّبةٍ"؛
وعلينا أن ندرك أن البنت في اللحظة التي تقف فيها عن يمين الملك تصبح ملكة، وقبلها لم يكن كذلك، ولذا نجد في الكنيسة البيزنطية أن أيقونة المسيح توجد على الهيكل، وعن يمينها أيقونة العذراء مريم، وهي الصورة المثال للكنيسة البريئة من العيب.

"اسمعي يا ابنتي وانظري وأَميلي أُذُنَكِ. وانسَيْ شعبَكِ وبيتَ أبيكِ"
أي على الملكة أن تخضع وتصغي لزوجها الملك فقط، متناسية أهلها وعشيرتها والملك الذي كانت تخضع له، إذ لا يمكن لها أن تخضع لملكَين في آن. كما عليها أن تنسى إله وعبادة أهلها وتتبع عبادة الملك زوجها. وهذا يذكرنا بقول الله لابراهيم: "اترك أرضك وشعبك وعشيرتك واتبعني"، إذ لا يمكن لنا أن نُشرك عبادات مختلفة مع بعضها، فهذا ما يعرف بالـ"شرك"؛ "فيصبو المــَلكُ إلى حُسْنِكِ. لأنه هو ربُّكِ وله تسجُدين".

"فتأتيكِ ابنةُ صورَ بالهدايا. وأغنياءُ الشُّعوبِ يبتهلون إليكِ"؛
وبعدها يبدأ الناس بالخضوع للملكة أيضا بسبب ارتباطها بالملك؛ وصُور هنا تمثيل للغنى وللعبادات الوثنية أيضا التي تخضع جميعها للملكة.

" ابنةُ الـمَلكِ كلُّها بهاءٌ في خِدرِها. مُكتسِية بألبسةٍ حواشيها مذهَّبةٌ.
بأرديةٍ مطرَّزةٍ يؤتى بها إلى الـمَلكِ. في إثرِها العذارى صواحِبُها يُؤتى بهنَّ إليكَ.
يُؤتى بهنَّ بسرورٍ وابتهاجٍ. يُصارُ بهنَّ إلى هيكلِ الـمَلكْ"؛
فعندما تتزوج البنت من ملك، ترافقها حاشيتها وصحبها من البنات، ويدخلن معها إلى الهيكل. فالهيكل يحمل معنيين؛ القصر ودار العبادة، إذ لا يمكن لنا أن نفصل العبادة عن الملَكية. وعند الدخول إلى القصر، تدخل الملكة إلى خدر الملك، ويتم الزواج الذي يتم معه استقرار المملكة. وبعدها تصبح سلالة الملكة من أولادها –أولاد الملك- فتنفصل عن نسل أهلها وتصبح وكأنها ابنة لأبنائها الذين سيتزعمون هم أيضا؛ "يُولَدْ لكَ بنونَ عوضاً عن آبائِكَ. فَتَنْصِبُهم رؤساءَ على الأرضِ كلِّها - سأذكرُ اسمكَ في كلِّ جيلٍ فجيل. لذلك تحمدُكَ الشعوبُ إلى الأبدِ وإلى أبدِ الآبدين".

ويسوع هو من اختاره الله ليحقق مسرَّته وبره، أي هو البار الذي ينفذ إرادة الله بأكملها. وحتى ولو كانت هذه الإرادة تسحقه بالحزن فهو ينفذها طاعة للآب وإن لم يكن يستحق الألم: "اعبر عني هذي الكأس". فالملك يسوع يحقق إرادة الآب بالمطلق، وقد قال بيلاطس: "ماذا أصنع بهذا البار؟ لم أجد فيه أية علة". وهذا المزمور يتحدث عن "يسوع يتزوج"، ولكي نتحدث عن زواجه يجب أن نخبر عن انتصاره أولا. فالمعركة حصلت على الصليب، وفيها انتصر يسوع على الموت وعندها حصل الزواج بينه وبين الكنيسة، وأُهرِقَ دم العذرية من جنبه وأُعلِن عندها التسبيح والتمجيد. وكان على هذه الكنيسة أن تترك بيت أبيها وتنسى شعبها، ليتخذها يسوع له ويجعلها ملكة. إلا أنها قد قبلت أن تتملك على عرش يسوع من دون أن تتخلى عن قديمها – الخطيئة. ولكن يسوع لا يتخلى عنها لأن "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان"، أي عهد الزواج الذي يعقده الله معنا، لا يمكن أن يكون مصيره الطلاق مهما تصرفنا وعملنا وقررنا، فهذه العبارة تصف علاقة الزواج بيننا وبين الربّ.

وماذا يفعل يسوع بالكنيسة إذا؟ يقول بولس الرسول في الرسالة إلى أهل أفسس، الإصحاح الخامس – رسالة العرس – "أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. لكي يقدسها، مطهّرا إياها بغسل الماء والكلمة. لكي يزفّها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدّسة وبلا عيب".
هكذا يغسل المسيح الكنيسة التي ستصبح ملكة بزواجه منها، بالماء وبالإنجيل كلمة الربّ، فتصبح نظيفة ويتخذها له. وهذا ما يفعله يسوع بنا يوميا، ونحن نخونه يوميا في كل لحظة، ومع ذلك يطهرنا ويدخلنا إلى الخدر ناسيا خيانتنا له. فأين لنا أن نجد حبا كحب المسيح لنا؟ هو حب البار لشخص دنس، يغسله بالكلمة والنعمة فلا يراه دنساً، ويُضحي الملك في هذه الحالة ضحيَّة للحب حدّ العبادة. والحب هو السبب الوحيد الذي يجعل من السلطان ضحية. والكنيسة – الملكة-أصبحت من سلالة أبنائها...

وفي النهاية علينا أن ندرك أن عبارة "نحن نعبد الربّ" هي مجرد جملة تتغنى بها البشرية، وفي الحقيقة أنّ الربّ يعبدنا بسبب الحبّ، يعبد -كنيسة – زوجة غير وفية، ويجعل منها وفية، لذلك تبقى في حالة سجودٍ دائم للعريس الذي يشتهي حسنها بسبب الكلمة التي يطهّرها بها.. ولذلك نرنم للعذراء مريم "سأذكر اسمكِ في كل جيل وجيل"، إذ لم تتعرش مثلها ملكة في التاريخ، هي الوحيدة التي لم تدنس ليغسلها بالماء والكلمة، هي الطاهرة إراديا، الملكة صورة الكنيسة، صورة اسرائيل الحقيقية، البقية الباقية التي وحدها ويوحنا قَبِلا يسوع دون كل الشعوب..

ملاحظة : دُوِّن تفسير المزمور من قبلنا بتصرّف.
https://youtu.be/SvB5U1XNfxU القسم الأوّل
https://youtu.be/tAfKcTQ6ofc القسم الثاني
https://youtu.be/vIgKtAEgEzk القسم الثالث تتمة...
5/11/2013 سِفر المزامير - المزمور الخمسون مزمور التوبة
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور الخمسون
الأب ابراهيم سعد

5/11/2013

- ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي.
- اغسلني كثيرا من إثمي ومن خطيئتي طهرني.
- لأني أنا عارف بإثمي وخطيئتي أمامي في كل حين.
- إليك وحدك خطئت والشر قدامك صنعت. لكي تتبرر في أقوالك. وتتغلب في محاكمتك.
- ها إنه بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي.
- ها إنك أحببت الحق وأوضحت لي غوامض حكمتك ومكنوناتها.
- تنضحني بالزوفى فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج.
- تسمعني سرورا وبهجة، فتجذل عظامي الذليلة.
- اصرف وجهك عن خطاياي، وامح كل مآثمي.
- قلبا نقيا اخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في أحشائي.
- لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني.
- امنحني بهجة خلاصك، وبروحك المدبر اعضدني.
- فأعلم الأثمة طرقك. والكفرة إليك يرجعون.
- نجني من الدماء يا الله إله خلاصي، فيسبح لساني بِبرِّك.
- افتح يا رب شفتيَّ، فيخبر فمي بتسبحتك.
- لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت قد قربتها. لكنك لا تسر بالمحرقات.
- الذبيحة لله روح منسحق. القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله.
- أنعم يا رب في رضاك على صهيون وابنِ أسوار أورشليم.
- حينئذ تسر بذبيحة البر والقربان والمحـرقات. حينئذ يقربون على مذبحك العجول.

يوحي هذا المزمور بكَمِّ المعاناة الكبيرة التي عاشها المرنِّم وعبَّرَ عنها بالكلمات. يُقالُ إنَّ داود قد كتب هذا المزمور بعد أن أرسل أوريا الحثِّي إلى الموت بوَضْعِهِ في الصَّفِّ الأماميِّ من صفوف الجيش، ليتزوَّجَ بامرأته بعدَها ويُنجِبَ منها طفلاً توفيَ بدورهِ بعد فترةٍ، فاعتَبَرَ داود أنَّ هذا الحدث ما هو إلَّا درسٌ من عند الله. إلَّا أنَّ أحداً ما قد أكملَ المزمور بعد داود، والدَّليل في قولِهِ: "ولتبنَ أسوار أورشليم"، فأورشليم في زمن داود لم تكُنْ قد دُمِّرَت بعد.
فمرنِّمُ المزمور إذاً إنسانٌ منسحقٌ ومتعبٌ، إلَّا أنَّه لم يتحدَّثْ إلَّا عن خطيئته فقط، فَهَمُّهُ في هذا المزمور لم يكن استجداءَ المأكلِ أو المشرب، أو الحياةِ الرَّغيدة، بل الحديثُ عن مشكلته التي كان يحياها آنذاكَ وهي علاقتُهُ بالخطيئة ورغبتُهُ بالتَّحرُّر منها، وذلك بنَيْلِ رحمةِ اللهِ وغفرانِهِ والشُّعور بهما. والمزمور ذو نمطٍ شعريٍّ، وسنجد أنَّ بعضَ أفكارِهِ تتشابهُ وتتكرَّرُ، إذ يُعبِّرُ المرنِّم عن بعضِ الأمور مراراً ولكن بأساليبَ مختلفةٍ.
وفكرةُ الرَّحمة هي الأساسُ، إذ نجدُ أنَّ المرنِّم يُكرِّرُ ألفاظاً مُتعلِّقةً بها مثل "ارحمني، اغفر لي". إلَّا أنَّ موضوع الرحمة لا يتَّخذُ معنى غفرانِ الخطيئة، فعندما نصرخُ لله: "يا ربُّ ارحم"، نحن لا نطلبُ منه عندها أن يمسحَ خطايانا، لأنَّنا بذلك نجعلُ من الله نسَّاياً لخطايانا فقط، بل تعني أنَّنا عائدون إلى الله وراجون له أن يقبَلَنا تائبين، وعندها فمِنَ الطَّبيعيِّ إن قَبِلَنَا أن يمسحَ خطايانا. فالأمرُ إذاً أكبرُ من مجرَّدِ غفرانٍ للخطايا، بل هو عودةٌ إلى حضنِ الرَّبِّ ليقبَلَنا بدورِهِ في رحِمِهِ؛ في أحشائِهِ، في المكان الذي إن خَرجْنا منه لا يُمكنُنا أن نحيا، كالجنين الذي يموت إن حَبِلَت به أمُّهُ خارجَ رحمِها.
والكنيسةُ ترى أنَّ الإنسانَ المسيحيَّ يحيا حياةَ التَّوبةِ بشكلٍ مُستَمِرٍّ، إذ يتناولُ جسدَ الرَّبِّ ودمَهُ ويشتركُ بالذَّبيحةِ الإلهيَّة، والمناولةُ ليست أمراً بين الإنسانِ وربِّهِ، بل هي هبةٌ من اللهِ لكنيستِهِ التي يُحدِّدها عندما تجتمع. فالإكليسيَّةُ أي الكنيسة تعني تلبيةَ النِّداء؛ نداء الرَّبِّ، وعندما نُلبِّي نداءَ الرَّبِّ، يُقرِّر هو بدورِهِ أن يجعلَ من كلٍّ مِنَّا كنيسةً، أي شعباً وأولاداً له، فنأكل معه. أي أنَّ الإفخارستيَّا هي عملُ جماعةٍ، يُعلِنُ من خلالها الرَّبُّ عن محبَّتِهِ، فتقبلُ الجماعةُ محبَّتَهُ، وهذا فعلُ رحمةٍ من الرَّبِّ. لذا علينا أن نتخطَّى فكرةَ "سرِّ الاعتراف" إلى فكرةِ "سرِّ التَّوبة"، إذ إنَّ الاعترافَ يخلو من السِّريَّة، أمَّا التَّوبة فهي العودةُ إلى حضنِ الآب، والسِّرُّ فيها هو قبولُهُ لنا بالرَّغم من كلِّ ما ارتكبناهُ من خطايا؛ هو حضورُ اللهِ في العمل، فالتَّوبة إذاً أشملُ من الاعتراف.

ارحمني يا الله كعظيم رحمتك، وكمثل كثرة رأفتك امح مآثمي.
وهنا يقصدُ المرنِّمُ أنَّ خطاياه كثيرةٌ جدَّاً، إلَّا أنَّ رحمةَ الرَّبِّ أكبرُ من خطيئتِهِ دائماً، وهنا نجدُ الثِّقةَ والإيمانَ والرَّجاء؛ الثِّقة برحمةِ الرَّبِّ، لأنَّهُ مؤمنٌ أنَّهُ يرحمُ بالحقيقة، والرَّجاء بأنَّ الرَّحمةَ ستتحقَّق. وقوله: "بحسبِ كثرةِ رأفتِكَ" يعني كما أنتَ مُعتادٌ أن ترحمَ، أي بحسبِ طبيعتِكَ الرَّحومة.
اغسلني كثيراً من إثمي
والتَّشديدُ على فكرةِ الغسلِ ناجمٌ عن اعترافِ المرنِّم بخطاياه الكثيرة، وبخطيئتِهِ الكبيرة، لذا يريدُ أن يُغسَلَ أكثرَ وأكثرَ من العادة، وهنا ندركُ عُمقَ معاناتِه.
ومن خطيئتي طهرني.
وهذه العبارةُ تحملُ معنى سابقتِها ولكن بكلماتٍ مختلفةٍ.

لأنِّي أنا عارفٌ بإثمي
وأهمُّ درجاتِ التَّوبة هي أن يُدرِكَ الإنسانُ حقيقةَ وضعِهِ، عارفاً خطيئته. ومعرفةُ الخطيئة لا تعني أن يعرفَ الإنسانُ أنَّهُ قد كذبَ أو سرقَ، بل أن يُدركَ خطيئتَهُ وتحليلَها والسَّببَ الذي أدَّى به إلى ارتكابها، وعندها تكونُ التَّوبةُ حقيقيَّةً. فالخطايا -كما الفضائلُ- مسبحةٌ، قد يعتقدُ الواحدُ منَّا أنَّه ارتكبَ خطيئةً معيَّنةً، إلَّا أنَّه في الحقيقةِ يكونُ قدِ اقترفَ أكثرَ من واحدةٍ بكثيرٍ دونَ أن يُدركَ، لذا عليهِ أن يُحلِّلَها ليُدركَ كلَّ خطاياه والسَّبب الذي أدَّى بهِ إلى الوصول إلى تلكَ الحال.

وخطيئتي أمامي في كل حين
أي أنَّه لشِدَّةِ ما عرَفَ خطيئتَهُ وأدركَها، أصبحَ طيفُها يلازمُهُ كلَّ حينٍ. أصبحَت مرآةً له، تُماثله كتوأمِه. فالمرنِّم إذاً يشعرُ بثقلِ خطيَّتِهِ التي لم تعدْ تفارقه، ويريدُ التَّحرُّرَ منها، إلَّا أنَّ أحداً لا يُحرِّرُه إلَّا الله، بالرَّحمة.

إليكَ وحدَك خطئْتُ
مع أنَّهُ ارتكبَ الخطيئةَ بحقِّ الآخر، إلا أنَّ الكاتبَ يعتبرُها ضدَّ الله، معترفاً أنَّ أيَّة أذيَّةٍ يُسبِّبها لأيٍّ من إخوته في العالم فهي خطيَّةٌ بحقِّ الله، لأنَّهم عائلةُ الله وبيتُه وشعبُه، وهو أبوهم.
والشَّرَّ قدَّامك صنعْتُ.
وهنا يشيرُ المرنِّم إلى حالةِ اللَّامبالاة بوجودِ الله وإنكارِ ربوبيَّة الله عليه، والتي كان يحياها عندما ارتكبَ الخطيئةَ قدَّامَ الرَّبِّ وأمام عينيه، فالخطيئةُ إذاً هي إنكارٌ لألوهيَّة الآبِ علينا، إذ نخطئُ قدَّامَهُ متجاهلين حضورَه. والكاتب يعترفُ بهذا لذا يطلبُ الرَّحمةَ من الله.

لكي تتبرَّرَ في أقوالِكَ. وتتغلب في محاكمتك.
يناجي المرنِّمُ الرَّبَّ كاشفاً له جُرمَهُ، وطالباً إليه أن يحكمَ عليه وكلُّهُ ثقةٌ بنزاهةِ قضائِهِ وعدلِه. وهذا الفعلُ صعبٌ جدَّاً، لأنَّهُ يدركُ أنَّهُ إن عاملَهُ الله بحسبِ عدلِهِ سيذهبُ إلى الجحيم، إلا أنَّهُ قدِ استهلَّ مزمورَهُ بقولهِ: "ارحمني"، والرَّحمةُ تختلفُ عن العدل. وهنا يظهرُ معنىً آخر في المزمور، وهو أنَّهُ إن غفرَ الله لداود ورحمَهُ، فسيتبرَّأُ أمام النَّاس الذين أذاهم لأنَّ اللهَ عادلٌ، فالمغفرةُ ليست بين المرنِّم والرَّبِّ فقط، بل يجبُ أن يشعرَ المتأذِّي أيضاً بهذه الرَّحمة عندما يعودُ إليه داود بقصدِ تصحيحِ الأذيَّة.
ها إنه بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمي.

وعلى عكسِ ما قد يظنُّ القارئ، لا توجدُ إشارةٌ في هذا البيتِ الشِّعريِّ إلى الخطيئة الأصليَّة، فنحن لا نرثُها عن أجدادِنا بل نرثُ عواقبَها، إلَّا أنَّ المرنِّم لشِدَّة معرفتِه بخطيئتِه ونَدَمِه بات يشعرُ أنَّ جِبلَتَهُ كلَّها معجونةٌ بالخطيَّة وأنَّه خاطي مُذ وُلِدَ.
ها إنَّك أحببت الحق وأوضحْتَ لي غوامض حكمتِكَ ومكنوناتها.

تنضحُني بالزوفى فأطهر
أي أنَّ الرَّبَّ مُحبٌّ للحقِّ في أعماقِ أعماقِه وبطبيعته، بل وعلَّمَهُ للمرنِّم أيضاً كما علَّمَهُ الحكمةَ، ومع ذلك حادَ عن الطَّريق الصَّحيح، لذا يَطلبُ من الرَّبِّ أن يُطهِّرَهُ ويُداوي جُرحَ الخطيئةِ الذي في داخِلِه، والزُّوفى كان يُستخدَمُ قديماً لتعقيمِ ومعالجةِ الجراح. وبالرَّغم من أنَّ خطيئةَ الكاتب قد جرحَتْهُ إلَّا أنَّهُ لا يلومُ غيرَهُ، أمَّا نحنُ فنلومُ الآخرين، حتى أنَّنا إن لم نجدْ من نلومه، رمَينا باللَّومِ على الشَّيطان لنجدَ المبرِّر، وهنا يكمنُ الفرقُ بيننا وبينَ المرنِّم. ولكنَّ اللهَ لا يناقشُنا في هذا، فالمهمُّ أن تكونَ عودتُنا إليه صادقةً. ففي مَثَلِ عودةِ الابن الضَّالِّ في الإنجيل، كانَ الأبُ عندَ رجوعِ الابنِ إلى البيت - بعدَ أن بذَّرَ كلَّ أموالِهِ ولم يعدْ يجدْ علفَ الخنازير ليأكلَ- منتظراً إيَّاهُ عند الباب، وما إن بدأَ الولدُ بالكلام قائلاً: "لقد أخطأْتُ أمامَ السَّماءِ وأمامَكَ" حتَّى حضَنَهُ أبوه مقاطعاً إيَّاه وقبَّل عُنقَهُ، وهيَ قبلةُ الأبِ للابن وليسَ العبد، معاملاً إيَّاه بحسب الرَّحمة لا بحسب العدل، لذا فإنَّ اسمَ المثل "الأبُ الرَّحيم" وليس "الابن الشَّاطر".

وهكذا اللهُ، ما إن يُخطئَ أحدُنا ويَحيدَ عن طريقِهِ، حتى يخرجَ لانتظارِ عودتِه عندَ الباب. وعند العودة لا يُناقشُنا الرب، بل يطلبُ مِنَّا أن ننسى ما اقترفناه، لأنَّه إن نسيَ هو خطيَّتَنا فلا يجبُ علينا نحن أن نتذكَّرَها، لأنَّ تذكُّرَ الخطيئة هو أحدُ أبوابِ الدُّخول فيها من جديد. والآباءُ الرُّوحيوُّن والقدِّيسون يُشدِّدون على أهميَّة نسيان الخطيئة. والرَّبُّ قد قال في الآية 31 من الإصحاح 31 من سفر إرميا النَّبي: "سوفَ أغفرُ خطيئتَهم ولن أذكرَها من بعد". وتذكُّرُ الإنسانُ لخطيئتِهِ يعني أمراً من اثنين، إمَّا أنَّهُ يحنُّ إليها، أو أنَّهُ لا يثقُ برحمةِ الرَّبِّ، وفي الحالتين هو مخطئٌ. فالتَّقوى الحقيقيَّةُ تفرضُ معرفةَ الخطيَّة جيِّداً، ومعرفةَ رحمة الله جيِّداً أيضاً، ونتيجتها نسيانُ الخطيئة نهائيَّاً. وإنْ عادَ الإنسانُ وارتكبَ الخطيئةَ نفسها، فإنَّه سيبدأُ من الصِّفر، ولا تُعتَبَرُ مرَّةً ثانيةً بل أولى، ويسوعُ قد قالَ لمن شفاهم: "اذهبْ ولا تعدْ تخطئْ بعد لئلَّا يُصيبَكَ أشرَّ"، والأشرُّ لا يعني العقاب، بل يعني أنَّ وضعَ الإنسانِ يُصبحُ أسوأَ بكثير، فكلامُ يسوع ليس بتهديدٍ أو تحذيرٍ أو عقابٍ، هو فقط يُعرِّفُنا الحكمةَ لئلَّا نُخطئَ ثانيةً. وعندما طلبَ اللهُ من آدمَ ألَّا يأكلَ من ثمرِ شجرةِ معرفةِ الخير والشَّرِّ وإلا فـ "موتاً تموت"، لم يكن يهدِّدُه بالموت، بل كان يقصدُ أن يُعرِّفَه بحكمةٍ لم يعرفْها من قبل، وأن يُعلِمَه أنَّ من يأكل من هذه الشَّجرة يَهلكُ، أي أن يُحذِّرَه. والإنسانُ بفكرِهِ الشَّيطانيِّ يسألُ لمَ خلقَ اللهُ الشَّجرة إن كان يُدرِكُ أنَّنا سنأكل؟ والجواب هو أنَّه قد خلقَها، إلَّا أنَّهُ قد أعلَمَنا ما سيحدُثُ إن تذوَّقناها؛ أنَّنا سنهلكُ، فماذا نريدُ أكثرَ من ذلكَ؟

أمَّا هنا في المزمور، فالمرنِّم هو وحده من يتحمَّلُ المسؤوليَّة، وهو وحده من ارتكبَ الخطيئةَ ولكنَّه يريدُ من الله أمراً واحداً وهو أن يرحمَه.
تغسلني فأبيضُّ أكثر من الثلج
وهنا ثقةٌ عظيمةٌ برحمةِ الله، إذ يُدرك أنَّهُ إن غفرَ الرَّبُّ له يُصبِحُ أبيضَ من الثَّلجِ وأنقى، أي ينسى خطيَّتَه أيضاً ويبدأ من جديد. فكلُّ توبةٍ هي ولادةٌ جديدةٌ، ونحن لا نعرفُ الولادةَ الجديدةَ إلَّا من خلالِ المعموديَّة، ولكن هناك معموديَّةٌ واحدةٌ، وإذ لا يمكنُ لنا أن نعتمدَ كلَّما أخطأنا، جاءَ سرُّ التَّوبة والاعتراف الذي هو إعادةُ المعموديَّة بدون معموديَّة، لأنَّنا عندما نعترفُ بربوبيَّة الرَّبِّ، ونُنكِرُ إلهَ الخطيئة الذي تبعناهُ، تسيلُ دموعُنا ماء عَمادٍ من جديد.

تُسمعني سرورا وبهجة، فتجذل عظامي الذليلة.
يستجدي المرنِّم الرَّبَّ ليُسمِعَه الخبر السَّارَّ: "مغفورةٌ لك َخطاياكَ"، فتفرحُ عظامَ جسدِهِ التي حطَّمها بارتكابه للخطيئة.

اصرف وجهكَ عن خطاياي، وامحُ كل مآثمي
بعد أن تدرَّجَ الكاتبُ في المعاناةِ، حتَّى وصلَ إلى طلبِ الخبرِ السَّارِّ من الرَّبِّ، يعتقدُ القارئ أنَّه قدِ انتهى من الحديثِ عن خطيئته، إلا أنَّهُ يعودُ في هذا البيت للحديثِ عنها من جديد، وهذا لأنَّهُ يُريد أن يُخلَق من جديدٍ بالفعل، لذا يصرخُ تجاه الرَّبِّ: "قلباً نقيَّاً اخلق في يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في أحشائي"، راجيا إيَّاهُ أن يُجدِّدَ قلبَه وروحَه فيغدو إنساناً جديداً منسجماً مع فرحِ الرَّبِّ وسرورِهِ.

لا تطرحني من قدام وجهك
يطلبُ المرنِّمُ من الرَّبِّ ألَّا يطردَهُ خارجاً عندما يَمثُلُ أمامَه للمحاكمة قبل أن يُصدِرَ بحقِّه حُكماً، وهو لا يخشى حُكمَ الرَّبِّ لأنَّهُ قد طلبَ الرَّحمةَ منهُ منذُ البداية.

وروحك القدوس لا تنزعه مني.
وهنا إصرارٌ على وجودِ روحِ اللهِ في داخلِ الكاتب، كالجمرِ تحتَ الرَّمادِ، وهو يرجو الله ألا ينزعَها منه لتلتهبَ من جديدٍ.

امنحني بهجة خلاصك وبروحك المدبر اعضدني.
يرجو الكاتبُ أن يملأهُ اللهُ بروحِ المسؤولية من جديد، فيكونُ مسؤولاً عن أعمالِهِ ولا يعود يستهترُ أو يستهزئ.

فأعلِّم الأثمة طرقك، والكفرة إليك يرجعون.
وهنا يتَّضحُ تحدِّي الإنسان المكسور لله، فإن غفرَ له ورحمَه أضحى هو من يُعلِّمُ الخطأةَ والكفرةَ أن يتوبوا بدورِهم ويرجعوا إلى الله.

نجني من الدماء يا الله إله خلاصي فيسبح لساني بِبرِّك.
والدِّماء هنا إشارةٌ إلى القتل – قتل أوريا أو قتل النَّفس بالخطيئة – وبرحمةِ الله لن يقوى لسانه على ذكر خطيئته بعدها، بل سيُسَبِّحُ ويمجِّدُ الرَّبَّ و يبشِّرُ به متحوِّلاً إلى رسول.
افتح يا ربّ شفتيّ فيترنم فمي بتسبحتك.
أي ليسَ المرنِّم من ينطقُ بعدَها، بل الرَّبُّ ينطقُ على شفتَيه ما يريدُ، يتكلَّمُ بما هو من عندِ الله.

لأنَّك لو آثرت الذبيحة لكنت قد قربتها. لكنك لا تسر بالمحرقات.
الذبيحة لله روح منسحق. القلب الخاشع والمتواضع لا يرذله الله.
وهنا إشارةٌ إلى ذبائحِ التَّكفيرِ التي تُقدَّمُ لمحوِ الذُّنوب، فالمرنِّم يُدرِكُ أنَّ اللهَ لا يُسرُّ بهذهِ الذَّبائح لذا لم يُقدِّم له إلَّا الروح المنسحق، وهو العودةُ الحقيقيَّة إلى حضنِ الآب.

أنعم يا رب في رضاك على صهيون وابنِ أسوار أورشليم.
وهذا البيتُ وتاليهِ أُضيفا إلى المزمورِ الأصليِّ، إذ يرجو الكاتبُ إعادةَ بناء أورشليم المحطَّمة، متحدِّثاً عن الشَّعب المكسور.

حينئذ تسر بذبيحة البر والقربان والمحرقات. حينئذ يقربون على مذبحك العجول.
أي البرُّ هو الذَّبيحة، كما قال يسوع ليوحنَّا المعمدان: "دَعْنا الآنَ نُتمِّمُ كلَّ برٍّ"، وإذا قدَّمْنا قلبَنا المنكسرَ لله، يمكننا بعدها تقديمُ ما نريدُ من محرقاتٍ، ولكن لا يمكننا أن نستعيضَ عن القلبِ المنسحقِ بالذبائح والبخور. والقلبُ المنسحقُ هو وقفةُ التَّائبِ الحقيقيِّ المغفورةُ له خطاياه قبلَ أن يُصلِّي المزمور طالباً الرحمة، لأنَّهُ واثقٌ من أنَّ الله سيرحمهُ قبلَ أن يطلبَ الرَّحمة، ولكنَّهُ طلبَها لذا تمكَّنَ داود من كتابةِ هكذا مزمور.

ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّفٍ.

https://youtu.be/V8Q9rH9_cbM القسم الأوّل
https://youtu.be/l3JSBi_A02k القسم الثاني تتمة...
29/10/2013 سِفر المزامير - المزمورالثالث والتسعون من المزامير الملكيّة
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمورالثالث والتسعون
الأب ابراهيم سعد

29/10/2013

سنبدأ اليوم بِتفسير المزمور 93 الذي ينتمي إلى مجموعة المزامير الملكيّة التي تتحدّث عن الملك؛ الله الملك. ويجب أن نتمكن من فهم معاني هذا المزمور بشكل جيّد، لأننا إن أدركنا فحواه وقَصْد كاتبه، فستتكشّف لنا أمور عدة، حتى في قراءتنا للعهد الجديد وليسوع المسيح القائم من بين الأموات، فنُبنى روحياً أكثر وأكثر، ونقف عند الصلاة وقفةً حيةً عوضاً عن تمتمة الكلمات. فالفهم إذاً هو أساسٌ أول من أسس القداسة.
1. الربُّ قد مَلَكَ والجلالَ لبِسَ. لبِسَ الربُّ القوّةَ وتَمَنْطقَ بها. لأنه ثبَّتَ المسكونةَ فلا تتزعزعُ.
2. عرشُكَ قائمٌ منذُ القِدَمِ. وأنتَ كائنٌ منذُ الأزلِ.
3. رفَعَتِ الأنهارُ يا ربُّ. رفَعَتِ الأنهارُ أصواتَها. الأنهارُ ترفعُ أمواجَها. أصواتُ المياهِ الزاخرةِ تتجاوبُ.
4. فما أعجبَ أمواجَ البحرِ. بل ما أعجبَ الربَّ في الأعالي!
5. شهاداتُكَ راسخةٌ جداً. ببيتِكَ تليقُ القداسةُ يا ربُّ مدى الأيام. (مز:93)
قد تختلفُ بعض الترجمات عن بعضها الآخر تبعاً لمراعاة المترجم للرنة الشعرية، إذ إن المزامير قصائد.
تستوقفنا في بداية المزمور عبارة "الربُّ قد ملَكَ"، مع علمنا بأنَّه لم يملك أحد قبل الله، فلمَ لم يفتتح الكاتب مزموره بـ "الرب ملكٌ"؟ لقد قصد الكاتب في الحقيقةِ أن يستخدمَ الفعل "مَلَكَ". لا وجودَ لمملكة من دون ملك. وفي النظام الملكي، يَصدر الدستور يومياً من فم الملك، وله أن يغيِّره متى شاء. والمملكة تبقى بخير، طالما أنَّ الملك موجودٌ وفاعل، وإن ضعف الملك أو مرض تعرَّضت مملكته للخطر، فأمانها واستمراريتها مرتبطان به وبقوته. أما الخطر الذي قد تتعرض له المملكة فهو إما داخلي أو خارجي. الخطر الخارجي يتمثل في العدو الذي قد يهاجمها، والملك هو حاميها في هذه الحالة. أما الداخلي فهو تمردٌ وعصيانٌ نتيجة لارتكاب الملك أعمالاً لا توافق العدل أو الرحمة، وقد يتحول إلى ثورة إن قُمِعت بظلم توالت المشاكل والأخطار، وإن عومِلت برحمة نجت المملكة. فالملك يحمي مملكته خارجياً بالقوة وداخلياً بالعدل والرحمة.
ولا توجد مملكةٌ وعلى رأسها ملكان، بل عرشٌ واحد. تبقى المملكة بخير إن وُجِد فيها ملكٌ واحدٌ لا يتنازل عن عرشه إلا بموته أو قتله أو أسره - إذ يبطل المـــُلك عند أسر الملك ويأتي ملك آخر جديد - ولا وجود لمصطلح ملك سابق أو متقاعد.
إذاً أثناء تأدية الملك لفعل الملكيّة هو ملكٌ، وعند توقفه عن الفعل يُخلَع عنه وصف الملك، لذلك يبدأ المزمور بقوله "الرَّبُّ قد مَلَكَ"، أي الرب يمارس فعل الملكيّة، لذلك هو حتما ملكٌ. ولكي يكون الملك فاعلاً على رأس مملكته عليه أن يواجه أموراً ثلاثة: عدواً – معركةً – انتصاراً، وإن لم ينتصر بطل ملكه. وهنا نستطيع التفكير بالمسيح المنتصر القائم من بين الأموات: عدوه الموت/الشيطان، اعتركا على الصليب، وانتصر يسوع بالقيامة. والمسيح مازال منتصراً لأنه مازال قائماً من بين الأموات حتى يومنا هذا، ولم يمت كلعازر بعد قيامته بفترة. وطالما المسيح قائم من بين الأموات نقول نحن: المسيح قام، مستخدمين فعل القيامة، أي أنَّ يسوع قد ربح معركته مع عدوه مدى الحياة، لذلك نُعيِّد القيامة دائماً. وهناك تأكيد آخر على انتصار المسيح وملوكيته، وهو أنَّه "آتٍ في آخر الزمن"، فهو قائم حتماً لأنَّ الميت لا يأتي، وبالتالي هو منتصر على العدو دوماً، لأنه إن ربح العدو مرة أطاح بالملك. وفي بروتوكول الممالك، لا يُعلَن موت الملك إلا بإعلان استلام ملك جديد "مات الملك – عاش الملك" في صرخة واحدة. فالملكُ إذاً لا يموت بموته، بل عندما نُعلن وفاته، فيملك ملك جديد عند إعلان ملكيته. وهنا في المزمور يعلن الكاتب ملكية الله في الصلاة، غير مهتم بما كان قبل ذلك، بل بما هو الآن عليه تحت سلطة الرب، وبعدها يستدرك ليقول بإن الله ملك منذ الأزل لأنَّه "ثبت المسكونة فلن تتزعزع"، وطالما المسكونة بخير فالملك موجود وثابت على عرشه.

وعند اجتماع المجامع المسكونيّة السبعة في الكنيسة الأولى، كانوا يضعون الإنجيل في وسطهم معترفين بأن المسيح حاضرٌ بينهم ملكاً عليهم، ويصدرون قراراتهم على هذا الأساس باسم الكنيسة المملكة. وفي أعمال الرسل، عندما اجتمع الرسل أصدروا بياناً ورد فيه "هكذا قال الروح القدس ونحن"، إذاً مفهوم الملكيّة يعشِّشُ في العقول ولا يمكن لأحد أن يخرج عنه. حتى في يومنا هذا في الشرق الأوسط، الأب هو ملك على الأسرة، ورئيس القبيلة ملك على قبيلته.
والملك المتسلِّط على شعبه يصبح هو العدو الأول للملكة، لأنه لا يحقق العدل والرحمة. وهنا نفهم أحاديث الأنبياء الذين هاجموا الملوك؛ إشعياء، إرميا، حزقيال وإيليا الذي وقفت إيزابل في وجهه هاتفة: "أأنت مقلق إسرائيل؟" لأنه تهجَّم على الملك الذي لم يحقق إرادة الله الذي عيَّنه. وفي مثل هذه الحالة يصبح الملك عدوّ الله، فيأخذ منه الوكالة التي أعطاه إياها، وتحدث بينهما معركة ينتصر الله فيها حتما. لذلك اعتاد الشعب أن يقول في العهد القديم: "الله ضربنا لأننا لم نحفظ وصاياه"، لذا هُدِم الهيكل وسُبي الشعب اليهودي. فالله إذاً لا يسمح لأحد بأن يضعضع مملكته. فالكتابة في العهد القديم لها معان مهمةً جداً وإن كانت مخيفة نوعاً ما.

"الرب قد ملك والجلال لبس" فالملك إذاً ذاهب إلى المعركة وهو يرتدي درعه – "الجلال لبس"، أي العظمة- "لبس الرب القوة وتمنطق بها"، أي الحزام الذي يُرتدى أخيراً فوق لباس الحرب ويشد كل شيء. إذاً صاحب المزمور يهيئنا للمعركة منذ البداية. عادةً يكون هناك عدو، تحدث معركة وبعدها يعلن الانتصار، أما في المزمور فهناك عدو وارتدى الملك ثياب الحرب ثم انتصر وفي النهاية تحدَّث عن المعركة، لأنَّ الله ليس كأي ملك "ثبَّت المسكونة فلن تتزعزع" أي أمن ملكيته إلى الأبد، ولا توجد معركة بعد هذا. ثم يؤكد الكاتب "عرشك قائم منذ القدم"، والقدم تعني أبعد مدة يمكن لعقولنا أن تعودها إلى الوراء، ملكية دائمة، "وأنت كائن ثابت منذ الأزل" على العرش.
وبعدها يبدأ الحديث عن العدو؛ "رفَعَتِ الأنهارُ يا ربُّ. رفَعَتِ الأنهارُ أصواتَها. الأنهارُ ترفعُ أمواجَها. أصواتُ المياهِ الزاخرةِ تتجاوبُ." قال رفَعَت (في الماضي)، ثم رفعت (في الماضي) ثم ترفعُ في الحاضر، أي العدو يحاربُ منذُ القدم ومازال ولكن الله قادرٌ ومسيطرٌ، لذلك نحن لا نخاف. وهذه الصورة هي صورة العدو، وليست صورة تسبيح الأنهار لله، إذ في القدم كانت المدن تبنى على أعمدة وتحتها مياه تضرب الأعمدة باستمرار إلى أن تسقط المدينة وينتهي المــــُلك. والأنهار ليس لها موج، بل هو هنا يستعيرُ صوت الموج المتكسر على الصخر ليصف قوة العدو، ومهما كان العدو لنا "الخطيئة، الشيطان.." نحن لدينا أمانة بأن الله أقدر "بل ما أعجبَ الربَّ في الأعالي!"
بعد ذلك يأتي التسبيح "شهاداتُكَ راسخةٌ جداً. ببيتِكَ تليقُ القداسةُ يا ربُّ مدى الأيام"، وعبارة "ببيتك تليق القداسة يا رب" هي إضافةٌ خارج سياق الحديث، وكأنه يعلن انتصار الله على العدو الخارجي، ولكنه يؤكد بأنَّ هناك شيئاً آخر ليكتمل هذا الانتصار؛ غلبة العدو الداخلي. لذلك تحدَّث عن القداسة، إذا أمَّن القداسة في الداخل فلا توجد ثورة بعدها.كلمة عصيان بالعبراني تعني Peshaa وهي بباقي اللغات تعني "الخطيئة" أي التمرد في البيت. وهكذا يعلن صاحب المزمور ملكية الله بانتصاره على الخارج "العدو" وعلى الداخل بتحقيقه القداسة في بيته "بالذين يسمعون ويحفظون كلام الرب"، وعندما نتصرف كخطأة نصبح نحن المتمردين وأعداء الله. فيتعارك معنا نحن، ونصبح نحن عدوه الخارجي لأننا لا نحقق إرادة الرب بالطاعة، كما قال يسوع لبطرس: "اذهب ورائي يا شيطان"، وكأنه يقول احتم بي ولا تخف، ما هذه الخطيئة إلا نتيجة الخوف. حتى في قصة الصلب نجد أنه عند استهزاء الجند بيسوع ألبسوه الأرجوان وأعلنوه ملكاً منتصراً. وهناك معركة أخرى هي معركة الصليب، وكان التسبيح بعدها من ضابط وثني قال: "حقاً إن هذا هو ابن الله".
وعند قراءتنا لهذا المزمور علينا أن نكون نحن أرض المعركة ونحن العدو والملك هو الله، والحل لدخولنا مملكته هو الاستسلام، أي أن نُسلِم أنفسنا إليه معترفين بانهزامنا لأننا تبعنا غيره والحل هو التوبة، أن نترك غير الله ونلحق به وحده، ونعلن انتصار الله باعترافنا. أي أنَّ الاعتراف - الذي هو جزء من سر التوبة - هو إعلان لملكية الرب وخسارة الإله الذي كنا نتبعه، هو الاعتراف بأن الله هو ربنا الوحيد.
وفي سر المعمودية أيضاً حيث الماء هو المعركة، لأنه يؤدي إلى الغرق، ولكن الطفل يخرج من الماء حياً، معلن
اً انتصار الإله الذي يتبعه. والماء دوما هو صورة للمعركة والعدو، لأنه يميت، حتى في سر الاعتراف هناك ماء، إذ يدمع الإنسان معترفاً وتائبا. وصورة الأنهار في المزمور أيضاً هي صورة الماء العدو. وفي سفر التكوين في جميع أيام الخلق يقول: "ورأى الله أن ذلك حسن"، إلا في اليوم الثاني، يوم خلق المياه. وفي معمودية المسيح، حضر صوت من السَّماء بعد خروج يسوع من الماء منتصراً "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". إذا فالماء هو فكرة العداوة، ولكنَّ الله الذي "ثبت المسكونة فلن تتزعزع" قد روَّضها "والتنانين تلعب في المياه" (مز:103) ، وطالما المسكونة ثابتة فالرب منتصر، وليست صدفة أن يبدأ المزمور بفعل "مَلَكَ" ليروري لنا هذه القصة بأكملها.
أما في العهد الجديد، فيمكننا أن نفهم قصة يسوع والقيامة بهذا المنطق إذا قرأنا الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 15: "أين شوكتكَ يا موت وأين غلبتكِ يا جحيم؟.. ابتُلِع الموت". وانتصار المسيح على الموت يعني أنَّ الموت لا زال يصارع، ولكنَّ الرب يسوع لا زال ينتصر عليه بواسطة بعض القديسين في عالمنا الذين لا يسمحون للموت أن يهزمهم، وطالما هناك شخص واحد لم يهزمه الموت، إذاً لا يستطيع الموت أن يملك. على الشيطان أن ينتصر انتصاراً كاملاً ليملك، ووجود قديس واحد يعني أن الله لا زال الملك.
وكما عائلة الملك وحدها يحق لها دخول جناحه، كذلك عائلة الله وحدها يحق لها أن تدخل إلى ملكوته، وهذا ما نناله في القداس في سر المناولة، إذ يعترف الله بنا أبناء له بالرغم من كل فقرنا الروحي. وفي سر الكهنوت، الكاهن هو خادمٌ لله الأوحد، صورته على الأرض، وطالما يعمل الكاهن أو الأسقف على تفعيل كهنوته يبقى كاهناً أو أسقفاً، ومتى مات يُغطَّى وجهه بستر القربان، لأنه يعيشُ حياته مقدماً القربان وفي موته يستحيل هو قرباناً..

ملاحظة: دُوِّن مضمون المحاضرة من قبلنا بتصرّف.
https://youtu.be/o2iosB5lAnw القسم الأول
https://youtu.be/hamZMEITAp8 القسم الثاني
https://youtu.be/JGwSXwYmRZs القسم الثالث تتمة...
22/10/2013 سِفر المزامير- المقدّمة تاريخها وأنواعها
https://www.youtube.com/playlist?list=PLTn_37ZC7JyFlX-JbOUkSYWEJLz1AE5k6

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المقدّمة
الأب ابراهيم سعد

22/10/2013

سنقرأُ في هذا الموسم نصوصاً من أحدِ كتبِ العهدِ القديم، وهو كتابُ المزامير، واسمه "سِفرُ المزامير". وكلمة "السِّفر" تعني "الكتابَ"، في حين أنَّ كلمةَ "مزمور" تعني النَّشيدَ أو التَّرنيمةَ.
وتاريخُ كتابةِ سفرِ المزامير ليس واضحاً، وهو حتماً لم يُكتب في فترةٍ واحدةٍ، ولا من قِبَلِ شخصٍ واحدٍ، إذ إنَّهُ تراثٌ، كالتُّراثِ الكنسيِّ تُزادُ عليه صلاةٌ في كلِّ مرحلةٍ، يَختَبرها الشَّعبُ ويُدخِلُها في حياتِه اللِّيتورجيَّة، وهكذا المزامير. ولكن كما يُنسَبُ كلُّ كتابٍ إلى مؤلِّفٍ واحدٍ – كُتُب التَّكوينِ والخروجِ واللَّاويِّينَ وغيرها نُسِبَت إلى موسى علماً أنَّها تَذكُرَ كيفيَّةَ موتِ موسى، والحكمةُ نُسِبت إلى سُليمان وقيلَ إنَّه وضعَ كلَّ كتبِ الحكمةِ والأمثالِ وذاكَ لأنَّهُ أصبحَ رمزاً- هكذا نُسِبَتِ المزاميرُ إلى داودَ الذي لُقِّب بالملكِ، وهو لقبُ كلِّ من كان يتقدَّمُ الصَّلاةَ في الهيكلِ قديماً.
من الممكنِ أن يكونَ داود قد كتبَ بضعَ مزامير، ولكنَّ المؤكَّدَ أنهالم تُكتَب في فترةٍ زمنيَّةٍ واحدةٍ، إذ إنَّ بعضَها يتحدَّثُ عن أورشَليم في حين يتحدَّثُ بعضُها الآخر عنِ تهدُّمها ويتمنَّى إعادة بنائِها "ولتُبْنَ أسوارُ أورشليم" (مز:50). كانت هذه لمحةٌ عامَّةٌ عن "سِفر المزاميرِ" إلَّا أنَّ ما يهمُّنا حقَّاً هو "المضمون".
بعدَ مرورِ زمنٍ طويلٍ، وخاصَّةً بعدَ مجيءِ الرَّبِّ يسوعَ، بتنا نقرأُ المزاميرَ من خلالهِ، إذ لا يمكنُ لنا أن نقرأَ نصَّاً منها دونَ أن نُسقِطَهُ على حدثٍ ما في العهدِ الجديد. فمثلاً، عندما نقرأُ "إلهي إلهي لماذا تركْتَني؟" في بدايةِ المزمورِ 28، نجدُ أنَّ هذا ما قالَهُ يسوعُ على الصَّليب. أي أنَّنا بتنا نعتبرُ هذا الكتابَ نبوءة عن يسوع َبعدما رأيناه وعرفنا ما عاشه، فصرنا نقرأُ المزاميرَ في ضوءِ المسيحِ. إلَّا أن الكُتَّابَ لم يعرفوا المسيحَ، وكتاباتُهم لا علاقةَ لها بالرُّؤيا أو النُّبوءة. هم فقط كتبوا لشعُوبِهم في حالاتٍ معيَّنةٍ، ليخرجوهم من حالة البعدِ عن الله والرَّتابةِ والخطيئةِ، ويعيدوهم إلى حالةِ التَّقرُّب من الرَّبِّ والتوبة وإعادة العهدِ والتَّعهُّدِ من جديدٍ.

فالمزاميرُ، في كلِّ مرَّةٍ، هي تثبيتٌ لتعهُّدِنا أمامَ اللهِ بالوعدِ الذي قطعناهُ على أنفُسِنا له. ومَن يُصلِّي المزاميرَ عليه أن يشعرَ بالفقرِ، فعندما نُصلِّي المزامير ونحنُ نشعرُ بأيِّ نوع من أنواع الغنى في أيَّة ناحيةٍ من نواحي حياتنا، لن نُصلِّيها بالشَّكل الصَّحيح. وهذا الفقر ليس ماديَّاً فقط، بل هو الفقر الذي يجرِّدنا من كل ما تباهينا بغنانا به قبل أن نبدأ بصلاة المزامير. فمثلاً، من يفرح بجماله أو علمه أو ذكائه، عليه أن ينساهُم عندما يُصلِّي المزامير كي لا يَفتخِرَ بأي شيء أمام الرَّبّ. علينا أن نكون في فقر مُتقع حينها، لا نملك شيئا نتباهى به، فنتعلق بالله وحده. فالمزامير إذاً هي للفقراء أو للذين يغتنون بالله فقط، أو للذين يفتقرون أمام الله لأي شيء، وسوى ذلك يتحول المزمور إلى تمتماتٍ وسحرٍ.
وللمزامير أنواعٌ عدَّة، فبعضها يختصُّ بالرَّحمة، وبعضها الآخر يروي تاريخاً (تاريخ عمل الله في الشَّعب اليهودي)، وهناك مزامير تتحدَّث عن "المسيح الملك"، ومصطلح "مسيح الله" يعني من عَيَّنهُ الله ليقودَ الشَّعب وليس المسيح الذي نعرفه حالياً. فعندما نقول يسوع "المسيح"، نعني من اختاره الله ولكن لأداء عمل أرادَه الرَّب وليس النَّاس، في حين يعتقد الشعب اليهودي أنَّ يسوع المسيح بمجيئه سيعمل ما يريدونَه. الله ليس مُلَبِّي طلبات البشر، وأخطر ما في الصَّلاة أن نجعل منها عرضاً لطلباتنا أمامَ الله ليلبِّيها، لأنَّه إن لم يفعل سننقم عليه ونلومه. نحن من عليه أن يتعهَّد في الصَّلاة بتلبيةِ طلبات الله. وانطلاقاً من أنَّ التَّصوير الصَّحيح لأي علاقة مبنيَّة على المحبة بين شخصين هي أن يستمعا لبعضهما ويتحدَّثا عن معاناتهما دون أن ينتظرا من الطَّرف الآخر تلبيةً لطلباتهما. نحن نطلبُ من الله، هذا ما تتضمَّنه الصَّلاة، ولكن إن تمادَينا، يصبحُ اللهُ خادماً لنا من تَعيينا وبحسب رغباتنا، في حين أنَّهُ ارتضى أن يكونَ خادماً لنا بحسب طلباتِهِ هو، لأنه يحبُّنا أكثرَ ويعرف صالحنا أكثر. الله يلبي حاجاتنا التي يراها مُحقَّة في الوقت الذي يراه مناسباً.
إذاً، هناك عدَّة أنواع من المزامير. فالمزامير التاريخيَّة مثلاً مضجرةٌ لأنّها تروي أحداثاً، وهذا سنفهمه لاحقاً من مفهوم اللِّيتورجيا.

أمَّا المزامير الملكية فهي تخبر بأنَّ اللهَ هو الملكُ الوحيدُ. في العهدِ القديمِ، آمن النَّاس بأنَّ الله هو ملكهم الوحيد، ولكن عندما رأوا شعوباً أخرى على رأسها ملوك أرضيِّون، سألوا الله أن يضعَ على رأسهم ملكاً كالبقيَّة. فأجابهم بأنَّه هو الملكُ، فرفضوا وأرادوا أن يصبحوا كسائر الشُّعوب، متحجِّجين بأنَّ الله إلههم في السَّماء والملك الأرضي يحكمهم على الأرض. فاستجابَ الله لهم، محذِّراً إيَّاهم من لحظةٍ سيندمون فيها على ما اختاروا. وأتاهم أوَّلاً الملك شاول، ثم داود ومن بعده سليمان، وهكذا توالى الملوك فانقسمت اسرائيل وتهجَّر شعبها وتبدَّد، فعادوا يرجونَ الله أن يُرسل لهم ملكاً من اختياره هوَ، فطلبَ منهم الانتظار. ثم أرسل إليهم ملكاً، لا يشبه الملوكَ، ولايملك سلطتهم أو سلطة القضاة ولا يتعامل بالقوة، فرفضوه. ما عدا مجموعة صغيرة من العشيرة اليهودية ذاتها، عرفوا أنَّ يسوعَ هو من تحدَّث عنه اللهَ في العهد القديم، فتبعوه. تبعوه لأنَّهم في حاجةٍ له مستندين إلى ما جاءَ في العهد القديم.
قيل في المزامير: "اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي اقترعوا"، وجاء في الإنجيل أنَّ الجندَ عندما اقتسموا ثياب المصلوبِ، وجدوا قميصاً مصنوعاً من قطعةٍ واحدةٍ لا يُقسم، فاقترعوا عليه. وهذا النَّوع من القمصانِ كان عادة رداءَ رئيسِ الكهنةِ في العهد القديم، أي أنَّ يسوعَ على الصَّليبِ كان هو رئيس الكهنةِ الذي يُقدِّم الذبيحة، وكان هو الذبيحة.
عندما تقرأُ الكنيسةُ هذه العبارة السَّابقة، لا تستطيع التفكير إلا بحادثة الصَّلب، ولكن علينا عندما نقرأُ المزمور بُغيةَ تفسيرِه كما كُتِبَ وقتها، علينا أن نُغفِلَ المقارنةَ بينَهُ وبينَ حياةِ المسيحِ، لأنَّه لم يكتب وقتها ليتكلَّمَ عن يسوع بل عن الله الملك. مثلاً: "الرَّبُّ قد ملكَ والجلالَ لبس، لبسَ الرَّبُّ القوَّة وتمنطقَ بها لأنَّهُ ثبَّتَ المسكونَةَ فلن تتزعزع" (مز 93)، وهذا المزمورُ يتحدَّث عن الله الملك، أي من صلَّى المزمور –نُسِبَ إلى داود الملك- كان ملكاً وصلَّى إلى الله الملك، أي تخلَّى عن ملكيَّته وافتقر. المزمور هو لقاءٌ بين الله وبين الجماعة المصليَّة على أساس أنَّها ستكتشفُ الآنَ عملَ الله فيها، وإلا يُصبح ترداداً، كما يصلِّي أغلبنا في الكنيسة اليوم، لا يستمعُ إلا لبضعِ كلماتٍ ممَّا يقول، وتتحوَّل الصَّلاة إلى تمتماتٍ غريبةٍ كأغنيةٍ عابرة. يعتقد الناس أنَّ الصّلاة القلبيّة هي المفضلة حيث نصلّي بقلوبنا صامتِين. ولكنَّ هذه مجرد تركيبات فلسفية، إذ لا فرق بين القلب والعقل. فمعنى قلب بالعبرية "لب"، واللُّب هو الكيان بأكمله، والعقل هو الكيان. إذاً هناكَ انسجامٌ بين العقلِ والقلبِ في صلاة المزمور، أي ما نفهمه بالصّلاة نحياه في القلب.
إنَّنا إذا بدراستنا للمزامير متَّجهون نحو وقفة أمام الله فيها تعهُّدٌ على مستوى القسم. وفي كلِّ مرةٍ نقف للصَّلاة علينا أن نتذكَّر أننا خطأة، حتى إذا كان لدينا بعض من القداسة والعمل الطيب، علينا أن ننساها عند قراءةِ المزاميرِ لئلَّا نفتخر ونصبحَ كالفرِّيسيّ، إذ يجدر بنا أن نكون دوماً كالعشَّار ونهتف "يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا عبدك الخاطئ". فالله يرى فضائلنا ولا حاجة لنا أن نسعى لنريه إياها، ولا يجب أن تدغدغنا. فلا يفترض بنا أن نتفيَّأ ظلَّ شجرة فضائلنا لنرتاحَ، بل يجبُ أن ننطلق من هناك، لأننا إن تأخرنا سيفوتنا الكثير. تقول الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي أنه علينا أن نزيد حياةً على سنيِّنا بدل أن نزيد سنيناً على حياتنا، فالوقت قصير وعلينا أن ندرك معناه فلا نسمح له بالمرور دون استثماره.
فصلاةُ المزامير، كأيَّة صلاةٍ أخرى، تضعنا في حالة من اليقظة والوعي، وليس بحالة من السَّهو. ففي الجبل المقدس مثلاً، يُقيم الرُّهبان سهرانياتٍ طويلة، ويصلون لساعات وساعات، ولكنهم يتحركون في الكنيسة ويتحدثون قليلاً، فأهميَّة الصّلاة في الواقع أنها تجعلنا نعي حقيقة حياتنا، لا أن تسلخنا عنها. إذاً، يجبُ أن يكون رأسنا في السماء عندما نصلّي في حين تبقى قدمانا على الأرض لئلَّا تتحوّل صلاتنا إلى حالة من السُّكر. عند حلول الروح القدس على الرُّسل، اتُّهِموا بأنهم سكارى، ولكن عندما وعظ بطرس بالجموع بلغة فهمها الجميع، آمن 3000 شخص بالرب. هم لم يؤمنوا عندما أبصروا حلول الروح العجيب، بل عندما تكلم بطرس برأس في السماء وقدمين على الأرض، مبرهنا حلول الروح القدس فيه.

الكلمة هي الفاعلة، هي التي تزرع، وهي التي تصور الحقيقة في رؤوسنا. والمزامير كلمات مصفوفة بشكل شعر موزون، مكتوبة بلغة عبريَّة رصينة، أهم من تلك العربيَّة التي كتب بها القرآنُ على بلاغتهِ. وتنعكس أهمية التَّوازن والتوازي في شكل المزمور على مضمونه.

وقد أعطي الله العديد من الصفات في المزامير؛ الملك، الله، أَليل (أي الله-يا إلهي). مَن يصلّي المزامير يصلّي لإلهه الذي هو الله، وليس لله الذي هو إلهه. إلهنا هو الله، آمنا به واعتبرناه إله كلّ شي، والعكس ليس صحيحاً، فليس لأنَّنا تعرَّفنا على الله إله كلِّ شيءٍ، قبلنا أن يكون إلهنا. أي تبدأُ الخبرة من كل فرد فينا ثم تعمم، فالله انطلقَ في العهدِ القديمِ من أورشليم، من المكان الخاصِّ، ثم توزَّع على العالم، وفي العهدِ الجديدِ انطلقَ من يسوعَ، من شخصٍ وليس من مدينة، ثم تعمَّم. والآن ينطلق الله من كل شخص فينا، فكلُّ فرد منا هو "مدينة الله العظمى". وقد قرر الله أن يبدأ بإنقاذ العالم، وعليه أن يبدأَ بشخصٍ تلو الآخر، فعندما نصلِّي المزامير نقف أمام الرب معبِّرين عن جهوزيَّتنا ليبدأ مسيرة خلاصه بنا. ولكي يبدأ الله بنا، يجب أن نكون خطأة، ولا داعي أن نتطهَّر قبلاً. عندما أراد الله أن يكلِّم الشَّعب قديماً، اختار أشعياءَ وطلبَ منه أن يبلِّغ الناس رسالته، فاستغرب أشعياء لأنه "إنسانٌ دنس الشفتَين، بين شعبٍ دنس الشفتَين"، فأرسل الله ملاكاً بجمرة نارٍ مرَّرها على شفتَيه مطهراً إيَّاهما "ها الآن قد طُهِّرَت شفتاك"، وبدأ بعدها أشعياء برحلته. أي أنَّ الربَّ اختار إنسانا مثلنا، فاختيارنا كرسل لرسالة الرب لا يتطلب منا أن نكون صالحين تماماً، بل فقراء لا نملك شيء، ولسنا بشيءٍ ولكنَّ الله يجعلنا كلَّ شيء بكلمته، ومتى انفصلنا عنها عدنا لاشيء. وهكذا الكهنة والأساقفة، طالما هم يُفعِّلونَ كهنوتهم بالكلمة الإلهية، يبقون كهنة وأساقفة ولكن إن انفصلوا عنها باتوا لاشيء. لذلك يتوقف بعض الكهنة عن الكهنوتيَّة في الكنيسة المشرقيَّة، ويعودون علمانيِّين من جديد. فعندما ننفصلُ عن كلمةِ اللهِ نفقدُ كلَّ امتيازٍ يمكنُ لنا أن نتباهى به، وهذا خطأُ اليهود، إذ أعطاهم الله أرضاً وقداسةً وهيكلاً، لكنَّهم تخلُّوا عنِ اللهِ ومع ذلك بَقَوا يطالبونه بما أعطاهم، فطردهم الله.
والوقوف أمام الله عند صلاة المزامير يتضمَّن دينونةً أيضاً. فعند صلاة مزامير السَّحر السِّتة في الكنيسة المشرقيَّة، يقفُ المصلِّي ثابتاً دون حراكٍ، لأنَّهُ ينتصبُ أمامَ الدَّيَّانِ منتظراً حكمَه عليه، ومُفتَتحاً صلاته ب"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي أناسي المسرة". "وفي أناسي المسرة" تعني في النَّاس الذين رضي الله عنهم لأنَّهم حفظوا وصاياهُ. أي في المزامير نحن نُكرِّر القسمَ أمامَ الله بأنَّنا حافظونَ لوصاياه، فإن كنَّا فعلاً حافظينَ لهم قلناها بأريحيَّة، وإن لم نكن، قلناها بخجلٍ، ولكن يبقى علينا أن نصلِّي دوماً، لأنَّنا إن لم نفعل نكون قد قررنا أن نقطع علاقَتنا بالرب نهائيَّاً. وإن صلَّينا حتى بدون أن نصون الوصايا، نكون على الأقل قد صُنَّا علاقتنا مع الرب وكنا أمناء عليها، فيشدِّدنا الله لنفعل إرادته من جديد، وهذا هو الرجاء الذي يمنح إلينا في الصّلاة. فالصَّلاة إذاً لها طابع الدينونة، وطابع الرجاء، وبالتالي فإن طابعها الأساسي هو طلب الرحمة. يعتقد النَّاس أن طلب الرَّحمة يعني غفران الخطايا، إلَّا أن هذا جزءٌ بسيطٌ جداً. فطلبُ الرحمة يعني أن يعيدنا الله إلى رحمه، فنصبح كالجنين الذي يسكن رحم أمه حيث الحياة والأمان وحيث يتقبَّل كل ما يصله عبر الحبل السِّري دون أن يسأل كيف ولماذا، فينمو نموَّاً طبيعيَّاً. وعندما نصرخ "يا رب ارحمني"، أي أعدني يا ربُّ إلى هذه الحالة، حيث أكون جنيناً في رحمكَ وأنتَ من يُغذِّيني، أعودُ وليسَ لي قرار. الفقرُ المتقع الأخيرُ يعني ألَّا نملك القرار. وفي صلاة المزامير نقف أمام الله لنقول له: "أنا لا أملك قراراً اليوم، قرر أنت لي"، أي نسلِّم له أنفسنا بشكل كامل. والتَّسليم يختلف عن الاستسلام الذي هو حالة جبرية، في كونه حالة طوعية إراديَّة. "وأمالَ رأسَه وأسلمَ الروح" تسليماً كاملاً لله، وهنا افتقرَ يسوعُ إلى كلِّ شيء، فأقامَهُ اللهُ من بينِ الأموات قيامة لم يسبق لأحد أن عرفها، ونحن أيضا سنقوم قيامة كمثل هذه، بخطايانا وبضعفنا وأهوائنا وبكل ما عندنا، لأن الله بسبب يسوع قد قرَّر إنعاش رحمه من جديد. الله يعرض علينا رحمته، ونحن نقبلها بصلاة المزامير. أي نحن لا نطلب منه الرحمة، هو يعرضها علينا ونحن نقبلها فحسب. القديس هو من فهم أنَّه مرحومٌ، لأنَّ الله بالرغم من كل ما فعل قد قرر أن يُعيده إلى رحمه. وبالرغم من قساوة الموت يرينا الله الرحمة قبل الموت وبعده، ففي حياتِنا يرحمنا الله، إلا أنَّنا نخون رحمته باستمرار، أما بعد موتنا فهو أيضا يرحمنا، ولكن لا قدرة لنا على خيانة رحمته بعدها.
وفي الفترة القادمة، سنقرأ نصوصاً من المزاميرِ ونفسِّرها، لنحيا بقداسةٍ مبنيَّة على الفهم وليس على العلم.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف.

https://youtu.be/Y0iPC4VCbp0 القسم الأول
https://youtu.be/x31kOEQhpuM القسم الثاني
https://youtu.be/S5q2JVW9NIE القسم الثالث تتمة...