البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
أنبياء العهد القديم - سفر حزقيال، إصحاح: الأول والرابع والثلاثون هو من الأنبياء الكِبار، يُقال إنّه من سلالة الكَهنوت وقد طردَه الشّعب من أرضه
المجدُ لكَ يا إلهنا، المجد لكَ، أيّها الملك السّماويّ المعزّي روح الحقّ الحاضر في كلّ مكان، المالئ الكُلّ، كنزُ الصّالحات ورازقُ الحياة، هلُمَّ واسكن فينا وطهّرنا من كلّ دنس وخلّص أيّها الصّالح نفوسنا آمين.

اليوم سنتحدّث عن النّبيّ حزقيال: هو من الأنبياء الكِبار، يُقال إنّه من سلالة الكَهنوت وقد طردَه الشّعب من أرضه، وكتبَ خارج البلاد
لدى حزقيال نجدُ بعض الصّور الغريبة ولكنّها ذات هدفٍ يؤكّد من خلاله أنّ كلمة الله عالميّة
يقول في الإصحاح الأوّل: فنظرتُ فإذا بريحٍ عاصفةٍ جاءت من الشّمال، سحابة عظيمة ونار متواصلة وحولها لمعان. وأمّا شبه وجوهها، فوجه إنسان ووجه أسد... إذاً لدينا وجه إنسان، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر، وهي الجهات الأربعة في الكتاب المقدّس، وذلك يعني الكون كلّه. وقد شبّه كلمة الله بالمركبة الّتي تتنقّل في الكون كلّه والّتي لا يَحدّها مكان معيّن، ولكنّه أعطاها أشباهاً، ففي العهد الجديد كلّ صورة من هذه الحيوانات الأربعة رُمز إليها بإنجيلٍ معيّن من الأناجيل الأربعة. فالإنسان هو إنجيل متّى لأنّه يركّز على يسوع ابن الإنسان، والأسد هو إنجيل مرقس لأنّه يحتوي على حديثٍ يبدأ بصوتٍ صارخٍ كأسدٍ في البريّة، أمّا الثّور فهو إنجيل لوقا الّذي تكلّم عن يسوع كذبيحةٍ، والنّسر هو إنجيل يوحنا لأنّ يوحنا حلّق فوق الأرض فقد تكلّم عن المسيح أنّه كلمة الله الذي قبل الأزل، هو في الأعالي وبعدها تجسّد ونزلَ إلى الأرض. لذلك نرى في الأماكن المقدّسة والكنائس، على المذابح رسومات تمثل الحيوانات الأربعة والّتي تدلّ على الأناجيل الأربعة وكل صورة تدلُّ على الرّكيزة الّتي استعملها النبيّ في كتابتها). تتمة...
4/11/2014 العهد القديم - سِفر إرميا النبيّ سِفر لكلّ عصر
https://youtu.be/mXpWzJ1wAYo

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
سِفر إرميا النبيّ
الإصحاح: 1-23
الأب ابراهيم سعد

4/11/2014

اليوم سنتنزّهُ في حديقةِ أرميا النّبي لنرى مشهدًا آخرَ من الأنبياءِ ورسالة الأنبياء والدّعوةِ الّتي أتَتْ لهم، من دونِ أن نعلّقَ كثيراً على كيفيةِ الدَّعوة، لأنّني عندما أتكلم لمدّةٍ من الوقت في أماكن أخرى، عن كلمة النّبي وقوّتها وهي كلمة الله، وبعد ذلك يسأل أحدُهم: هل صحيحٌ أن الله ظهرَ لهُ؟ وكيفَ نتَحقَّقُ مِن صِحة ظُهورِ الله لهُ أو تَكلَّمِه معهُ؟ بالنّسبةِ لنا، أحدهم قال: أنا أقولُ لكم كلمةَ الله، إن كنتم تحبّونَ قبولَها كَكلِمة الله فليكُنْ، أمّا إذا كنتم لا تحبّون قبولَها فلكم حريّة الاختيار ويتابع سيره.
الرّسول بولس يقول في رسالةٍ من رسائله: "أتيْنا بشراً مُتعَبينَ ومُنهكينَ ، أنتم قَبِلتم الكلمةَ منّا كأنَّها كلمة اللهِ". أيّ قبلتمُوها ككلمة الله، كلمة "كأنّها" لا تعني النّفيّ، إنّما تعني أنّها أصبحَتْ كَلمة الله. أمّا السّؤال هنا: هل هي كلمة الله أو لا؟ لا تستطيع التَساؤل عن فكرة ما بعد قبولها، فإن سؤالك عنها يعني أنّك لم تقبلْها أصلاً، وقبولك يعني نهاية الأسئلة، إذاً عليك طَرحُ السؤال قبلَ أن تقبلها.

لذلك، أشعيا النّبي عِندما قالَ الكلمة، لم يُصدّقه النّاس، فقال لهم: ليس باستِخدَامِكُم التّصويت تقرّرون أنّها ليست كلمة الله. ولو اتّفقت الأرض كلّها البشر على أنّها ليْست كَلِمة الله والّذي قالها يؤكّد أنّها كَلِمُة الله، فَلَن تَخضَعَ للتّصويت للتّأكّد من صحّتها أو عدمها. لذلكَ أشعيا النبيّ قال: "صِرّوها في صِرّةٍ وخَبّؤوها في الأرضِ"، فإن كانوا لا يُريدونَ أن يسمعوا أو يُصَدّقوا فَلهم حريّة الاختيار، ولكن هذا لا يعني أنّها ليست كلمة الله. إنّها كَلِمُة الله ولكنّها غير مسموعةٍ حتّى الآن. ولو بعد سبعمائة عام، يأتي أحدٌ مثل مَتّى ويقولُ: "ها إنَّ العذراءَ تَحبلُ وتلدُ إبناً ويُدعى اسمُه عمانوئيل، أي "الله معنا" كما قالَ النَبيّ". إذاً بالنسبة إليه، الكَلمةُ الّتي قالها أشعياء ولم يصدّقْها أحد، فعاد مَتّى وقالَ: الآن تَحَقَّقتْ هذِه الكلمة وهذه النبوءة بيسوع المسيح.

كُتِبَ الإِنجيل وَلكن هناك أشخاص شَكّوا بصحّته، ومازالوا حتّى اليوْم يقولونَ أهذا الإنجيل المزوّر أم الأصليّ؟ لا نستطيع أن نُخضِع كلمة الله للتّصويت، مِثل أمورٍ كثيرةٍ لا نُخضعُها للتّصويت لأنّنا نكون مقتنعين بها، حتّى لو جميع النّاس قالوا عنها "لا" ونحن قُلْنا عنها "نعم" فَسيكون الجواب "نعم" وسنعيشُ على هذا الأساس. إذاً لا تَدْخُلوا كثيراً في مسألة "كيف نُبّرهّن الموضوع". الإيمان إذا تبرهنَ يُصبح مفروضاً فلا يعود إيماناً. فإذا كنّا نتكلم عن موضوعٍ غير مبرهنٍ حسّياً ولكنّه مُؤكّدٌ في داخلك، فلا يَهُمّك إذا قبِلَ النّاس أو لم يقبلوا به. بالنِّسبَة إليّ، هكذا أُؤمنُ بيسوع المسيح حتى لو لم يقبلهُ جميع النّاس. أمّا الآن فإذا تمّ التصويت على أنَّ يَسوع لم يقمْ وأنا أؤمنُ مسبقاً بأنّه قام، أيكون قد قام أم لم يقمْ؟ إذا كانَ بِالنسبةِ إليكَ قد قام فهو قد قام ولكن هو في الحقيقة لم يقمْ. هذا هو الإيمان فلم يعدْ هناك كلمة حَقِيقة أو غير حقيقة.

بالنّسبة إلى إرميا النّبي الله اختارهُ نبيّاً قبل أن يولد. هنا نَطرح سؤالاً، هل هكذا الله يختار الأفراد؟ فالإنسان مسيّرٌ وليس مخيّراً. إرميا قال إنّ الله اختاره نبيّاً وهو لم يولد بعد لأنّه قبِل بأن يكون نبيّاً. وقد قال ذلك بولس الرّسول في رسالته لأهل غلاطية: "من بطن أمّي الله عَرفَني". وذلك يعني بالنسبةِ إلى إرميا، طَبيعتُنا ووَظيفتُنا واحدة، ولا نستطيعُ أن نتخلى عن واحدة منهما لذلكَ هوَ ملتزمٌ بأن يكون خادماً لِكَلِمَةِ الله.
بُولس الرسول يَقول: "الضَّرورَة مَوضوعَةٌ عليّ، ويلٌ لي إِن لم أُبشّر". لم يعد لديه الخيار حتّى لو اتّفق الجميع على إمكانيّة توقّفه عن ذلك هُو يقول أنّه ليسَ بِاستطاعته أن يتوقّف عن التّبشير. وهكذا بالنّسبة إلى إرميا النّبيّ.
قال إرميا في القرن السّابع قبل الميلاد: "كانت إليَّ كَلِمَةُ الرَّب قائلاً: قَبلَما صوّرتكَ في البطنِ عرفْتكَ، وقبْلما خرَجْتَ مِن الرّحمِ قدّستُكَ، جَعلتُك نبيّاً للشّعوب. (عبارة "قدّسْتُكَ قبل أن تخرج من رحمِ أمّك" ليس معناها قِدّيس بالمعنى الّذي نَعرِفَهُ لِلكَلِمة، لكن كلمة " قدَّس" بالعبرية "قداشْ" تعني فرَزَهُ، أي قامَ بِعمليةً فرز، قدّستُكَ تعني جئْتُ بكَ لتُصبحَ مُلكي، أنا بحاجة إليك).
قُلْتُ:"آه، يَا سيّد، إِنِّي لا أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ".(أي إنّني شابٌ صغيرٌ أتريد مني أن أقول ما تقوله؟ فهي ليست بالقضية السّهلة) فقال الرّبُ لي: "لا تقلْ إنّي ولدٌ، (أي إذا قلت أنّني ولدٌ يعني أنّني بحاجةٍ إلى كلماتك وأنا لستُ بحاجةٍ إليها، أريد أن تمرّ كلماتي من خلالك)، لأنّكَ إلى كلّ من أٌرسلُكَ إليهِ تذهبُ وتَتَكلّمُ بكلّ ما آمُركَ به، لا تخفْ من وجوهِهم (أي إذا كُنْتَ تَعتبرُ نَفسَك ولداً يخاف، فلا تخف) لأنّي أنا معك لأُنقِذَكَ (إذاً الله يُطمئنه بقولهِ أنا معك وأنا أخلِّصكَ). يقولُ الرب: "وَمَدَّ الرّب يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي" (هنا نتذكّر أشعياء حين جلب له الرّب بِالملقط جمرةً ولمس فمهُ، إذاً هنا مدّ الرّب يدَه ولمسَ فمهُ. فالرّب بحاجة فقط إلى فمه). وَقَالَ الرَّبُّ لِي: هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلَامِي في فَمِكَ (أي كلام الله وليس كلامك، أي أنّنا نقول ما يريد الله قوله)، اُنْظُرْ قَد وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشّعُوبِ وَعَلَى الممالك (أي أعطاه وكالةً عامّةً على الشّعوبِ والممالك، اليوم أي في اللّحظَةِ التي قبلِ بها إرميا كلمةَ الله، صارَ وكيلاً لله في هذهِ الدّنيا). "لِتقلعَ وتُهدمَ وتُهلك وتَنقض وتَبني وتَغرس" (إذاً قبلَ أن تَبني وتَغرس هنالك شيءٌ يجب أن يُكسر، وهو ذلك الشّيء الموجود في عُقولِ النّاسِ، عِباداتِهم والأمور الموجودة في كَيانِهم ويؤمنون بها، ناهيكَ عن الأصنامِ التي في رؤوسِنا، والأوثانِ في حياتنا، فالنّبي يأتي بكلمة الله ويَكسِر هذه التَصورات والأصنام، فالأمر الأهمّ الّذي قام به يسوع المسيح قبل أن يَتكَلم عن الملكوت، قامَ بِكَسر الأصنام الموجودة في رؤوس النّاس، لأن صورةَ اللهِ الموجودة في عقولِ النّاس سيئة جداً إلى حدّ أنّه إذا ظهر الله لا يُصدّقون، وهذا حَصلَ مع اليهود وهَكذا سَيَحصل مع المسيحِيّين فإذا أتى المسيح مَرّةً أخرى سَيرفضونه مع العِلم أنّ السّيد المسيح أتاهم بالكلمة وأَرَاهُم مَن هو وماذا فَعَل لهم، ولكن من بعد رَحيله قَرّرَ المسّيحيون أن يُكَوّنوا صورَةً عنه تُساعدهم لِيُصبِحوا وحدهم آلهة على الأرض، لذلك أصبحوا يَسّتَخدمونه، وإذا قرأتم قصّة الأخوة كارامازوف، سَتتعرّفون إلى هذه الصورة كاملةً).

في مَحاكم التفتيش وفي عصور الكنيسة السّيئة، كانوا يُحقّقون مع المُخطئين في الايمان ويُصدِرون بِحقّهم حُكماً بِالإعدام حتى لا يُتَابِعوا ارتكاب الخطيئة، وهذا خطأ كبير وقعت فيه الكنيسة.
إذا جاءَ المسّيحُ مرةً ثانيةً سيأتي كما جاءَ في المرّةِ الأولى هو نفسه، هكذا يقولُ الكاتب، فإذا رآه الكاردينال وأّرسل في طَلبهِ المطران ليحقّق معه سيقول له: "لقد دمّرت الدّنيا وبِسببك نتعذّب، قال لكَ الشّيطان: حوّل الحِجَارة إلى خبزٍ، لكِنَكَ لم تَقبلْ، ولو حَوَّلتهم لركعَ لك جميع النّاس." بِسَبَبِكَ نُطعِمُ النّاسَ الخبزَ لكي يركعوا لنا، إنّنا نَقومُ بِعملكَ الذي لم تُنجزه. في النّهايةِ يقول له: "إذا بَقيتَ هكذا ستصعب الحياة علينا."
إذاً الصّورة في عُقولنا عن الله مِنَّ الصَّعبِ أن تَتَغير، حتَّى ولو قَرّرَ الله بِنفسهِ تَغييرها، عِندها من يُصبح الإله؟ "أنا" والله الحقيقيّ هو ذلك الصّنم. ويقولُ لإرميا: عليكَ أن تَقلعَ وتَهدمَ وتَحرث وبعدَها يمكِنكَ أن تبني وتغرس، لأنّ أرضَ البورِ لا تُزرع بل يجب أن تُفلح (أي يجب قَلِب الأرض رأساً على عقبٍ وتغيير شكلَها كلّياً) ثم صَارت إليّ كَلمة الرّب فقال: ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟، فقلت: أنا راءٍ قضيب لوزٍ، فقال الرّب لي: أَحسَنتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجرِيَهَا. ( إذاً كلمة "الّلوز" في العبريّة تحمل معنى كلمة ساهر أي الّذي لا ينام، قال له ماذا ترى؟ فأجابهُ: أرى قضيباً سهراناً، كذلك أنا سهران لأنفّذ كلمتي، يقول الله لن أنام لا ليلاً ولا نهاراً حتّى تتمّ كلمتي، أتحبُّ أن تُطبّقَ كَلمتي بِواسطتِك فتعالَ معي، وإذا كنت لا تريد، أفسح المجال لأجلِبَ غيرك (ولكن لأنّ إرميا قَبِلَ سابقاً بهذه المهمة، فلم يعدْ يستطيع أن يرفضَ، هذه هي الرّسالة). ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَة الرَّب إِلَيَّ ثَانِيَة قَائِلاً: "مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ؟" فَقُلْتُ: "إِنّي رَاءٍ قِدْراً مَنْفُوخَةً، وَوَجْهُهَا مِنْ وجهَةِ الشّمَالِ". فَقَالَ لي الرَّبُّ: "مِنَ الشّمَالِ يَنْفَتِحُ الشَّر عَلَى كُلِّ سُكَّانِ الأَرْضِ لأَنِّي ها أنا َذَا دَاعٍ كُلَّ عَشَائِرِ مَمَالِكِ الشّمَالِ، يَقُولُ الرَّبُّ، فَيَأْتُونَ وَيَضَعُونَ كُلُّ وَاحِدٍ كُرْسِيَّهُ فِي مَدْخَلِ أَبْوَابِ أُورُشَلِيمَ (مدينة أورشليم هي مدينةُ اللهِ بالنّسبةِ إلى اليهود لأنّ الهيكل موجودٌ فيها، فهي بالنّسبة لهم. يقول لهُم: أنتم مدينة الله وشعب الله، الّذين يحاربُ الله أعدائكم ليحميكم .ويقول الله: سيجلب الأعداءَ إلى أبواب أورشليم ( ونسألُ أنفسنا، لماذا؟ فنحن شعب الله؟ فيقول الله لأنّ تصرّفاتكم تدلّ على أنّكم أعدائي ولستُم شعبي).

فقال الرّب: وَعَلَى كُلّ أَسْوَارِهَا وحَولها، وَعَلَى كُلّ مُدُنها وَأُقِيمُ دَعْوَايَ عَلَى كُلّ شَرّهِم، لأَنَّهُم تَرَكُونِي وَبَخَّرُوا لآلِهَةٍ أُخْرَى، وَسَجَدُوا لأَعْمَالِ أَيْدِيهِم. (إذاً المشكلة عند الله هي عبادة الأصنام "تركوني وتوجّهوا نحو غيري" والمشكلةُ ليست أنّهم ذهبوا عند أحدٍ غيري لأنه ليسَ هنالك أحدٌ آخر لكنهم يتوهّمون، إذاً أنتم يا شعب إسرائيل أخطأْتم خطيئتانِ، الأولى هي ترككم لي وأنا الينبوعُ الحيّ والثّانية أنّكم ذهبتم لتشربوا من آبارٍ فارغةٍ من المياهِ. كيف ترتكتُم الينبوع الحيّ لتشربوا مياهاً؟ فتذهبونَ إلى بئرٍ فارغ وتعلَمون أنّه فارغٌ وتركعون لتشْربوا منه، وهذا ما يسمّونَه حماقةً في الإنجيلِ لأنه ضدّ الحكمة). أَمَّا أَنْتَ فَنَطّقْ حَقوَيْكَ (أي قم بشدّ حزامك جيداً) وَقُم وَكَلّمهُم بِكُلّ مَا آمُرُكَ بِهِ، (لا تخترع كلاماً لم أقله لك)، هاءنَذَا قَدْ جَعَلْتُكَ الْيَوْمَ مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُود حَدِيد وَأَسوَار نُحَاسٍ عَلَى كُلّ الأَرْضِ" (أي أنا جعلتُك مدينةً بحدّ ذاتها وكانت مدينة الله هي مدينة أورشليم وهيكلُ الله موجود في داخلها فقرّر أن يغيّر مدينته ويجعلها في شخصٍ واحدٍ، لأنّ هذا الشّخص يحمل كَلمتَهُ، وبالتّالي كلمة الله هي هيكل المدينة وإرميا حمل كلمةَ الله، إذا كنتَ أنت في مدينة أورشليم أيّ أنت أصبَحتَ مدينة الله. ومن المعروفِ أنّ الأعداء يُحَوّطون المدينة. المغذى في هذه الصّورة: إرميا هو مدينة الله وأهل أورشليم الّذين أحاطوا إرميا أصبحوا أعداءه. إذاً الله جعلَ شعبه عدوَّه لأنّه لم يسمع كلمتَه. هنا نطرح على أنفسنا سؤالاً: هل الرّب قاسٍ وظالمٌ؟ إذا لم يسمع أحدٌ كلمته يصبح هكذا؟ يَقتل؟ هذه هي صورته في العهد القديم "القتّال").
سببٌ واحدٌ يجعلُ الله غاضباً وهذا السبب ليس إن لم نَسجد أو نركَع أو لم نُصلّ التّساعيّة، لا أهميّة لهذا كلّه بالنّسبة إلى الله. (إذاً إرميا أصبحَ المدينةَ وأهلُ المدينةِ أصبحوا أعداءها وإذا الله يحمي مدينته ويضربُ أعداءه فمن الطّبيعي أنّ ذلك سينعكس عليكُم أنتم يا أهل أورشليم، أنتم مَن سيُضرب. هذه هي التّربية). يقول: جَعَلتُكَ اليَوم مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُودَ حَدِيدٍ وَأَسْوَارَ نُحَاسٍ لملوك يهوذا (يهوذا هي مدينةُ الله وأورشليم هي للملوك والرّؤساء. المفروض منكم أن تحقّقوا إرادة الله على الأرض بحكمكم داخليّاً بالعدل والرّحمةِ التي لم تنجزوها بأنفسكم)، فأصبحتم أنتم أعداء لملوكها ولرؤسائها ولكهنتها ولشعبها. فيحاربونَك ولا يقدرونَ عليك (إذاً كلمةُ الله سوف تُحَارب من قِبل شعب الله، مِمَّن يدَّعون أنّهم شعب الله، والدّليل على ذلك هو القدّيسونَ الّذين كانوا يُحارَبون من قِبل رِفاقهم، الرّاهب من قِبل الرّهبان والمطران من قِبل المطارنة والكاهن من قِبل الكهنة، ويُحَارَبون لأنّهم حاولوا أن يبتعدوا عن كلمة الحقّ. لا يمكن تزاوج الباطل والحقّ، والإنسان غير المتّزن يقوم بهذا التّزاوج في قَرارَةِ نفسه). يقول: "فيحاربونكَ ولا يقدرونَ عليكَ لأنّي أنا معك، لأنقذكَ (إذاً أنت لست بحاجةٍ إلى سلاحٍ ولست بحاجة إلى حربٍ لأنّني سأنقذكَ بنفسي، فتذكَّر أنا معكَ).
عند متّى:" يُدعى اسمُه عمانوئيل" (أيّ "الله معنا " في الآرامية أو في العبريّة) وفي آخر إنجيل متّى في الوقت الذي ظهرَ قائماً من بين الأمواتِ ورأى تلاميذهُ قال لهم: "اذهبوا وتلمذوا كلّ الأمم، فإنّي أنا معكم إلى انقضاء الدّهرِ" (إذاً الله معكَ فلا تخفْ).
وصارت إليّ كلمة الرّب قائلاً: "اذهب ونادِ في أذنيّ" هكذا قال الرب لإرميا: إذا خفت منهم، أنا سَأجعلك تخاف. فلا تخف لأنّني معك (أي إذا خفت منهم فسأريك معنى الخوف فسأخيفك بنفسي). يقول: "اسمعوا كلمة الرّب يا بيت يعقوب وكلّ عشائر بيت إسرائيل هكذا قررت، ماذا وجد فيّ آباؤكم من ظلمٍ حتى ابتعدوا عني وذهبوا وراء الباطل وصاروا باطلاً ولم يقولوا أين هو الرّب الذي أصعَدَنا من أرضِ مِصر، الّذي سار بنا في البرّية ... فأتيتم ونجّستُم أرضي وجعلتم ميراثي نَجِساً، الكهنة لم يقولوا أين هو الرّب وأهل الشّريعة لم يعرفوني والرّعاة عصوا عليَّ، والأنبياء تنبّؤا بالبعل (أيّ الإله الوثنيّ) وذهبوا وراء ما لا ينفع لذلك أخاصمُكم، وبيني وبينكم مُخاصم، لأنّ شعبي عمل شرّيْن، تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة لينقروا لأنفسهم آباراً مشقّقة لا تنبض ماءً ولحقوا بها، لأنّكم كلّم عصيتموني يقول الرّب."
سنرى ما هو الشّر الذي قاموا به ليظهر الرّب غضبه عليهم في الإصحاح الثّالث والعشرين من إرميا، يقول: ويلٌ للرّعاة (المسؤولين) الّذين يهلِكون (لأنّ الدّينونة تكون على المسؤولين أولاً، لأنّهم قبلوا المسؤولية وأنّهم تعهّدوا بما طلبه الله منهم ولكنهم لم يقوموا بما طلبه منهم)، ويلٌ للرّعاة الّذين يَهلِكون ويُبدِّدون غنمَ رعيتي (هؤلاء رعية الله والوكيل عليهم لا يملكهم، فهو خادمٌ لديّ)، هكذا قال الرّب إله إسرائيل على الرّعاة الّذين يرعون شعبي. أنتم بدّدتم غنمي وطردتموها ولم تتعهدوها، فإنّي أعاقبُكم على شرِّ أعمالكم وأنا أجمعُ بقيّة غنمي من جميع الأراضي، الّتي طردتُها إليها وأرُدُّها إلى مرابِضِهَا فَتُثمر وتكثر، وأقيم عليها رعاةً يرعَونها، فلا تخاف بعد ولا ترتعب (الله قرّر أن يغيّر الرّعاة لأنهم لم يعودوا نافعين).
الرّاعي الصالح في العهد الجديد ليوحنا هو يسوع المسيح.

يقول الرّب: "ها أيامٌ وأقيمُ لداود غصنَ برّ فيملِكُ ملِكٌ وينجحُ ويجري حقاً وعهداً في الأرض، في أيّامه يُخلَّص يهوذا ويسكنُ إسرائيل أميناً هذا هو اسمُه الذين يدعونه به "الربُ برُّنا".
يقول الرب: ها أيّامٌ تأتي ولا يقولون بعد، حيٌّ هو الرّبُ الّذي أصعدَ بني إسرائيل أنفسَهم بل حيٌّ هو الرّب الّذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي الّتي طردتهم إليها فَيسكنون في أرضه (أي هناك شخص ما سيعيد جمع كل الغنم المشتّت) في الأنبياء انسحقَ قلبي في وسطي، ارتختْ كلُّ عظامي، صرتُ كإنسان سكران مثلَ رجل غلبتْه الخمرُ من أجل الرّب ومن أجل كلام قدسي، لأنّ الأرض امتلأت من الفاسقين، لأنّه من أجل اللّعن ناحت الأرض، جفّت مراعي البريّة، صار سعيهم للشّر وجبروتهم للباطل، لأنّ الأنبياء والكهنة تنجّسوا جميعاً، بل في بيتي وجدتُ شَرّهم (تنجّسوا أي أصبحوا يلاحقون عباداتٍ أخرى) لذلك يكون طريقهم لهم كمزالق في ظلامٍ دامس، فَيُطردون ويسقطون فيها لأنّي أجلب عليكم شرّاً سنة عقابهم يقول الرّب، وقد رأيت في أنبياء السّامرة حماقةٌ (أنبياء السّامرة أي أنبياء الشمال) تنبّؤوا بالبعل (إله المطر والطّبيعة ) وأَضَلّوا شعبي إسرائيل (إله بعل عند الشّعوب الوثنية، هو الّذي يُرسل والمطر فتُطلع الأرض الثّمر، من هنا كلمة بعل أيّ الزّوج. لذلك كان اليهود الّذين يعبدون الله، عندما يتأخر المطر يذهبون إلى الوثنين ليلصلّوا لإله بعل ليبعث لهم المطر). قال يسوع: "إنّكم تُعطون ما ِلله لِله وما لِقيصر لِقيصر"، ولم يقل أعطوا ما ِلله لله ، وما لِقيصر لقيصر. يقول للأنبياء: إذاً تنبّؤوا بالبعل وأَضلّوا شعبي إسرائيل، وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يُقشَعر مِنهم، يفسقون بالكذب، يشَّدِدُون أيادي فاعلي الشّرّ حتى لا يرجعوا". أليست هكذا كلمتي كنار يقول الرّب وكمطرقةٍ تحطّم الصّخر لذلك هاءنذا على الأنبياء الّذين يسرقون كَلِمتي بعضَهم من بعض، هاءنذا على الأنبياء الّذين يأخذون لسانهم و يقولون قال. (أي يقولون ما يريدون بلسان الله وهكذا يغيّرون بكلمة الله بما يناسب مصالحهم). الّذين يتنبّؤون بأحلامٍ كاذبة، يقول الرّب، الّذين يقصّونها ويَضلّلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم وأنا لم أرسلْهم ولا أمرتهم فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة. وإذا سألك هذا الشعب أو نبّيّ أو كاهنٌ ما وحي الرّب؟ قل لهم :أيّ وحي؟ إنّي أرفضُكم، فالنّبيّ أو الكاهن أو الشّعب الّذي يقول وحي الرّب، وحي الرّب، أعَاقب ذلك الرّجلَ. هكذا يقول الرّجل لصاحبه والرّجل لأخيه.
بماذا أجاب الرّب؟ وماذا تكلّم به الرّب؟ أمَّا وحي الرّب فلا تذكروه بعد، لأنّ كَلمة كُل إنسانٍ، قدّ تَكون وَحيَه.
إذ قد حرّفتم كلام الإله الحيّ، ربّ الجنود إلهنا، هكذا تقول للنبيّ، بماذا أجابك الرب؟ وماذا تكلّمَ به الرّب؟ وإذا كنتم تقولون وحي الرّب فلذلك، هذا قال الرب ومن أجل قولكم هذه الكلمة "وحي الرب" قد أرسلتُ إليكم قائلاً لا تقولوا وحي الرّب (الرّب لا يريد أن يسمع هذه الكلمة) لذلك هاءنذا أنساكم نسياناً وأرفضكم من أمام وجهي، أنتم والمدينة الّتي أعطيتكم وآباؤكم إياها وأجعل عليكم عاراً أبديّاً وخِزياً أبديّاً، لا يُنسى (المشكلة عند إرميا، أنهم حَرّفوا قَول الرّب. إذاً هناك عملان الرّب يغضب منهم، الأوّل هو إن لم تهتم بالفقير واليتيم والأرملة، وأنتَ تعلمُ أنني موجود بهم، والثاني إذا غيّرتَ كلمتي وقلت كلاماً من عندك وقلت للناس أن هذا الكلام هو كلام الله، لأنّ كلمة الله هي المخلّصة أمّا كلمتك فليست بِمُخَلّصة، وقد أبعدتَ كلامي عن النّاس وبالتّالي النّاس لن يُخَلّصوا)
"الله قرّر أيضاً أنّ يكون حاضراً في كلمته،" أي إذا أردنا إبعاد كلمة الله، فإنّنا نبعد الله نفسه، لذلك بالنسبة إلى بولس عندما بدأوا ينقسمون إلى أحزاب، طرح عليهم أسئلة، من صُلبَ من أجلكم؟ من الّذي مات؟ لا تستطيعون أن تُقسموا إلى أحزاب تتكلّم بالكلمة نفسها والّتي هي كلمة الله. فالقدّيسون الّذين تتبعونهم أنتم من اخترعتم لهم هذهِ الصّورة وتبعتموها، فإذا تركتم الينبوع الحيّ وذَهبتم لحفر آبارٍ جديدةٍ خاليةٍ من المياه، وتريدون أن تشربوا منها. فذلك يشبه عبادة الأصنام، فالمزارات قد تحمل الهدف الماديّ أحياناً .
عندما دخل يسوع إلى الهيكل قام بقلب طاولة الصّيارفة وبائعي الحَمَام وقام بِجَلدهم (واختار الصّيارفة لأنهم الّذين يجنون ربحاً مادياً باسم الله، وبائعي الحَمَام، لأنّ الحمام هو رمز الروح القُدس، أي إن بائعي الحَمَام يتاجرون بالرّوح القدس. يستعملونَ عبارات لإخافة الناس بهدف تنفيذ ما يريدون وليس ما يريده الله. فالشّموع والبخور وقِطنةُ الزّيت، صلاتنا هي من تجعلها مُميزة، مقدّسة، وليس المكان الذي أتينا بها منه. فالطّقوس والصّلوات تُصبح سِحراً، لأنّنا ننسى ما قال الله ونَتبع ما نحنُ نقوله لأنّنا نعتقد أنّنا سنكسب أكثر) فيجبُ ألّا تُحرّفَ كَلمة الله وألّا تُهمل الفقير، وغير ذلك فلنقم بما يحلو لنا فإنّ الله يغفر خطايانا عند وجود النّية الصّافية في داخلنا للتّحسن ولكن حذارِ من تحريفِ كلمةَ الله. هذا هو إرميا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبلنا بتصرّف. تتمة...
21/10/2014 العهد القديم - سِفر أشعياء النبيّ الإنجيل الخامس
https://youtu.be/CY64S72YdMs

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
سِفر أشعياء النبيّ
الإصحاح: 1-6-58
الأب ابراهيم سعد

21/10/2014

اليوم، سنبدأ بمقتطفات من نصوص لأنبياء العهد القديم. سنجري قراءة لكلّ نصّ من أجل التّركيز على جانب من جوانبه وتوضيحه مما سيساعدنا في التحرر من تراكمات التّعليم الّذي يوهمنا أنّ العهد القديم غير صالح، أو يطرح في أذهاننا أسئلة مثل: "لماذا لانزال نعتمد على العهد القديم وقد أصبح العهد الجديد بمتناول يدَينا؟" والجواب هو: لأنّ هناك أموراً غير واضحة للنّاس فهُم يُخطئون بين تصرّفات النّاس في العهد القديم وكلمة الله إلى حدّ أنّهم أصبحوا يلومون الله على تصرّفات النّاس القاسية أو لغتهم القاسية، غير المعتادين عليها، وكأنّ الله كان يختلف عمّا هو عليه اليوم. لذلك هناك أشخاص أصبحوا يرفضون إله العهد القديم، حتّى في الكنيسة الأولى كانت هناك هرطقات، فيسمّونه الإله الخالق، الإله الظّالم. هم يريدون فقط إله العهد الجديد، إله المحبّة، إله الرّحمة وقد نسَوا أنّ إله العهد الجديد، في بعض الأحيان، هو أقسى بكثير من إله العهد القديم.

إن كلمة الله، قديماً أو حديثاً هي نفسها لأنّ الهدف الّذي وضعه الله للإنسان هو نفسه، لكنّ الإنسان هو الّذي ابتعد عن هذا الهدف. ولأنّ الله يحبّ الإنسان، فإنَّ كلّ همّه هو أن يدلّ الإنسان، من جديد، على الطّريق، وأن يصحّح مساره. لذلك الأنبياء هم وسيلة من وسائل الله ليُصحّح مسار الشّعب الّذي قال أنّ هذا هو إلهنا وسنتبعه. واحدة من هذه الوسائل هي أسفار الأنبياء. المسألة، هنا، لا تتعلّق بالنّبيّ وقداسته وخيره، ولا تتعلّق أيضاً بالشّعب وقداسته وسيّئه بل بكلمة الله فهي المحور وليس برأيك فيها أو رأيي فيها فنصبح في النّهاية نناقش آراءنا، فتضيع كلمة الله. وهذا الأمر أذكى ما يمكن أن يحصل في علم اللاهوت. فالمختصّون فيه معرّضون للوقوع في متاهات إذ يعطون آراءهم في كلمة الله وينسون أنّ كلمة الله هي الّتي تعطي رأيها فيهم، فالمسألة مرتبطة بطريقة تفكيركم.

سنقرأ الآن الإصحاح السّادس من سفر أشعياء لنرى صورة من هذه الصّور الّتي أخبرتكم عنها، وقد اخترت هذا الإصحاح لأنّه يعرض لنا دعوة أشعياء: "في سنة وفاة عوذية الملك، رأيتُ السّيّد جالساً على كرسيّ عالٍ ومرتفعٍ وأذيالهُ تملأ الهيكل، السّيرافيم واقفون فوقه ولكلّ واحدٍ ستّة أجنحة. باثنين يغطّي وجههُ وباثنين يغطّي رِجلَيْه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدّوس قدّوس قدّوس ربّ الجنود مجدهُ مِلءُ الأرض فاهتزّت أساسات العتب من صوت الصّارخ وامتلأ البيت دخاناً".

إذاً، لقد بدأ الكلام بقوله: "في سنة وفاة الملك" وأنتم تعلمون أنه إن مات الملك ولم يكن قد عُيّن من يخلِفهُ يصبح وجود المملكة في خطر لذلك يقتضي "البروتوكول" ألّا يكون هناك وقتٌ زمنيٌّ تبقى فيه المملكة من دون ملك، فيصرخون: مات الملك، عاش الملك. (في الأفلام الّتي تُصوّر أوروبا الوسطى، كانوا يدبّرون المؤامرات لكي يخلعوا ملكاً أو يتوّجوا آخر، من جهة، ومن جهة أخرى ابن الملك هو أمير وليس ملكاً ثانياً، عندما يموت الملك ويعلنون موته، يعلنون الأمير ملكاً في لحظة موت أبيه الملك. مثل آخر عن ملك الأردن الّذي توفي في بريطانيا فلم يُعلنوا وفاته حتى استطاعوا أن يُنحّوا الأمير حسن، أخ الحُسيْن، ونصّبوا الأمير عبدالله. عندها أعلنوا موت الملك وتولّي الملك الجديد الحكم). المملكة اسمها مملكة لأنّ هناك ملك يحكمها وليس العكس، لأنّ الملك هو الأساس. ولأنّه قال "في سنة وفاة الملك" أي أنّه يجب أن يكون هناك ملك آخر فقال "رأيتُ السّيّد".

ويقصد الكاتب بالسّيّد الله، أما أذياله الّتي تملأ الهيكل فهي سلطته الّتي يبسطها في كلّ الهيكل، وهو يتحدّث عن ملكيّة الله. إذاً النّبيّ أشعياء يقول أنّ الملك، الّذي يعتبرهُ الشّعب ملكاً، يموت، ولكن هذا الملك، أي الله، الجالس على كرسيّ - والكرسي في العبريّة يعني العرش- ولا أحد يجلس على العرش إلّا الملك. (حتّى في الكنائس، عند الرّوم، هناك كرسيّ للمطران، ثمين جدّاً، يبقى فارغاً حتّى يأتي المطران فلا أحد يستطيع الجلوس عليه حتّى لو لم يكن المطران موجوداً).
إذاً، الملك الّذي يتكلّم عنه أشعياء مختلفٌ، والملائكة هي الّتي تخدمهُ لا الحاشية البشريّة. والأجنحة السّتّة تعني أنّ الملائكة كثيرة الخدمة. ولكنَّهم خوفاً من هذا الملك العظيم وخجلاً منه يسترون أنفسهم ويصرخون "قدّوسٌ" ثلاث مرّات رمزاً للألوهة، فالقدّوس هو فائق القداسة، مِلء القداسة موجود في هذا الملك. وقال مجدهُ ملء الأرض كلّها لا الهيكل فقط، إذاً هو مَلكٌ على المسكونة كلّها. أمّا الدّخان في لغة الأدب في العهد القديم، فهو يعني حضور الله. ففي العهد القديم، عندما كان الشّعب يمشي، كان يرافقه عمود من الدّخان ما يعني أنّ الله يرافقه. إذا أردتم أن تنظروا إلى الصورة من منظارٍ أدبيّ، الكاتب يستخدم التّصوير ليوضح عظمة هذا الإله، سلطتهُ وقدرتهُ، فكان جواب الإنسان: "فقلتُ: ويلٌ لي إنّي هلكتُ لأنّي إنسانٌ نجس الشّفتَيْن وأنا ساكنٌ بين شعبٍ نجس الشّفتَيْن لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود". إذاً أشعياء هو واحدٌ من هؤلاء القوم والله سيختار واحداً منهم، ولا تهمّهُ سيرته الذّاتية ولكن ما يهمّه هو أن تصل كلمته إلى الجميع. وهو عندما رأى الله اكتشف أنّه نجس الشّفتيْن. إذاً حضور الله يفضح حقيقة الإنسان، ولكنَّ الله يريد أن تصل كلمته؛ "فقال: فطار إليَّ واحدٌ من السّيرافيم بيده جمرةٌ قد أخذها بملقطٍ من على المذبح ومسّ بها فمي وقال إنّ هذه قد مسّت شفتَيْك فانتُزِع إثمك وكُفِّر عن خطيئتك". إذاً لقد طهّر الله شفتَيْ أشعياء لا قلبه وكيانه لأنّه بحاحة إلى شفتيْه فقط ليوصل كلمته. ليس الشّرط أن تكون قدّيساً لكي توصل كلمة الله، فأمام قداسة الله ستبقى نجساً. وكلمة نجس تضعك أمام قداسة الله فلا تستطيع أن تتحلى بالقداسة لأنّك إنسانٌ خاطئ. تُضيئ ألوهة الله عليك فتُكشف خطيئتك، عندئذٍ يبدأ الحوار بينك وبين الله. بعد أن مسّت الجمرة شفتيْه يقول له الله أنّه أصبح يشبههُ وأصبح واحداً منهم. المسألة أن تصل كلمة الله دون أن يعترضها أحد. "ثمّ سمعتُ صوت السّيّد قائلاً: مَن أُرسل ومَن يذهب من أجلنا؟" لأنّ أشعياء قبِل الذّهاب وأصبح طاهرَ الشّفتيْن ومن دون خطيئة فأصبح من جماعة الله لذلك تحدّث الله في صيغة الجمع "من أجلنا". أي أنّ الله الملك لا يكون وحده بل حوله حاشيةٌ مؤلّفة من الملائكة الّتي تخدمه وواحدٌ منهم أصبح أشعياء النّبيّ. "فقلتُ: هاءنذا أرسلني، فقال: إذهبْ وقلْ لهذا الشّعب: إسمعوا سمَعاً ولا تفهموا، أبصروا إبصاراً ولا تعرفوا ... قلبَ هذا الشّعب، ثقّلْ أذنيْه واطمسْ عينيْه لئلَّا يُبصر بعيْنيْه ويسمع بأذنيْه ويفهم بقلبه ويرجع ويشفى". إذاً يقول له الله أن يذهب ويبلّغهم كلمات إذا سمعوها لن يفهموها لأنّهم لا يريدون أن يفهموها، وأنّ يُثقّل أذنيْهم ويطمس عينيْهم في حال قرّروا أن يتوبوا. إذاً النّبيّ عندما يوصل كلمة الله هو يوصل حكمه النّهائيّ أو الدّينونة، أي أنّ كلمته هي الكلمة الفصل لأنّ الله كلّم شعبه ولم يفهم، ولم يتبْ. لذلك أرسل الله لهم النّبيّ لكي يعطيهم الحكم النّهائيّ. النّبيّ أشعياء جلب كلمة الدّينونة التي تصبح بالنّسبة للّذين يقرؤونها الآن، أي نحن، كلمة وعظ لذلك تقرأون الكتاب المقدّس ولأنّكم لم تموتوا بعد فأنتم تملكون الفرصة. (إذا كنتم تذكرون عندما سألوا أبّ اليسوعيّين: "إن كنتَ جالساً وفجأةً جاء الملكوت، جاء المسيح وأنت تلعب بالورق ماذا تفعل؟ فأجابهم: أتابع اللّعب"). بمعنى آخر، النّبيّ يأتيك برسالة النّهاية، أي نهايتك، نهاية وضعك. يتابع أشعياء وقد أصبح شفيع النّاس: "فقلتُ: إلى متى أيّها السّيّد؟ إلى أن تصير المدن خربة بلا ساكن (هذه صورة النّهاية) والبيوت بلا إنسان فتخرب الأرض، وتُقفر، ويُبعد الرّبّ الإنسان، ويكثُر الخراب في وسط الأرض، وإن بقي فيها عِشرٌ بعدُ فيعود ويصير للخراب. ولكن كالبُطمة والبلّوطة وإن قُطِعت فلها ساقٌ يكون ساقُهُ زرعاً مُقدّساً". عندما نقطع شجرةً تنتهي ولكن يبقى الأمل فيها في جذورها حيث نرى صورتيْن، إمّا التّأكيد على أنّ الشّجرة قد ماتت وإمّا إمكانيّة أن تنبُتَ من جديد.

لِمَ الله قاسٍ إلى هذا الحدّ في دعوة أشعياء؟ الإجابة هي في الإصحاح الأوّل من سفر أشعياء: "إسمعي أيّتها السّموات وأصغي أيّتها الأرض لأنّ الرّبّ يتكلّم (الله يحتاج إلى شهادتيْن، من السّموات والأرض، لتثبُتَ شهادتُهُ): ربّيتُ بنيناً ونشّأتُهم أمّا هم فتمرّدوا عليّ. الثّورُ يعرفُ قانِيَهُ والحمارُ يعرفُ صاحبَهُ (لهذا نجد في أيقونة الميلاد ثوراً وحماراً، أي أنّ الثّور والحمار يعرفان من صاحبيْهما وإسرائيل لم تعرف الله) أمّا إسرائيل فلا يعرف شعبي لا يفهم، ويلٌ للأمّةِ الخاطئة، الشّعب الثّقيل الخطيئة، نسل فاعلي الشّرّ، أولاد مُفسدين تركوا الرّبّ، استهانوا بقدّوس إسرائيل، ارتدّوا إلى الوراء. علامَ تُضربون بعدُ؟ تزدادون زياغاناً، كلّ الرّأس مريض، كلّ القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرّأس ليس فيه الصّحّة. جرحٌ وإحباطٌ وضربةٌ طريّةٌ لم تُعصر ولم ... ولم تُليّن بالزّيت، بلادكم خربة، مدنكم محرقة بالنّار، أرضكم تأكلها الغرباء قدّامكم وهي خربة كالقلال الغرباء. إسمعوا كلام الرّبّ يا قضاة صادوم، إصغوا إلى شريعة الإله يا شعب عامورة لكثرة ذبائحكم. يقول الرّبّ: إتّخمتُ من مُحرقات كباش وشحم مسمّنات وبدم عجول وخرفان وتيوس لم أعد أُسرُّ. (أي إنّ الله يرفض عطايا النّاس الّذين كانوا يعتبرونها طريقة لعبادة الله). حينما تأتون لتظهروا أمامي، مَن طلبَ منكم أن تدوسوا دوري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمةٍ باطلة (أي فارغة من معناها) البخور هو مكرهٌ لي. رأس الشّهر والسّبت ونداء المحفل (أي الأعياد)، لستُ أطيقُ الإثم والاعتكاف (أصبح الله يعتبر العيد خطيئةً). رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت عليّ ثقلاً، مللتُ حِملها. حين تبسطون أيديكم أستُرُ عينيّ عنكم، إن كثّرتم الصّلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً، إغتسلوا، تنقَّوا، إعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ، كُفّوا عن فعل الشّرّ، تعلّموا فعل الخير (من هول خطايانا، لم يعد الله يريد أن يرانا ولا أن يسمع صلواتنا أو أن يشتمّ رائحة البخّور). اطلبوا الحقّ، أنصفوا المظلوم ... لليتيم: حاموا عن الأرملة، (إذاً الخطيئة هي أنّ الإنسان الآخر يحتاج إليكم). يقول الرّبّ: هلمّ نتحاجج (أي نترافع)، إن كانت خطاياكم كالقرمز (أي اللّون الأحمر الدّاكن) تَبْيَضّ كالثّلج، إن كانت حمراء تصير كالصّوف الأبيض النّاعم، إن شِئتم وسمعتم تأكلون خبز الأرض وإن أبيتم وتمرّدتم تُؤكَلون بالسّيف لأنّ فمَ الرّبّ تكلّم". الله لا يريدك أن تصلّي وتترك يتيماً أو أرملةً أو مظلوماً يحتاج المساعدة، يموت. الله لن يرحمك إذا لم ترحم غيرك، إذاً مقياس الدّينونة عند الله هو الإنسان الآخر. مثلاً في اليوم الأخير، صنّف يسوع النّاس، فالبعض منهم وضعهم عن يمينه والبعض الآخر عن يساره وعندما يقول: "كنتُ جائعاً فلم تُطعموني، عطشان فلم تسقوني" فهو لم يقصد نفسه بل أي محتاج. والعكس صحيح، فإذا فعلتم الخير مع أي محتاج فبيسوع قد فعلتم.

إذاً كلمة الله في العهد القديم وفي العهد الجديد هي نفسها وتعني أنّ الله اعتبر أنّ الإنسان المرميّ على الطّريق هو من غنم شعبه. فقال: "أنا قد أوليْتك رعيّتي وأنت قد تركتها في الطّريق محتاجةً فلن أسمح لك بالتّمرد". وهذا يعني، في العِبريّة، "بيشاع" أي الخطيئة. هذا تمرُّدٌ لأنّ الله رأى مملكته بصورةٍ جميلةٍ ونحن قد شوّهناها. تقول الصّورة أنّ كلّ شعب الله تحت رعايته، وقد اختار أشخاصاً ليهتمّوا بشعبه، فاعتقد هؤلاء الأشخاص أنّ هذه الرّعية ملكهم وأنّ من حقّهم أن يختاروا الّذين يريدون أن يهتمّوا بهم. لهذا السّبب الله قاسٍ ولكن مهما بلغت قساوة الله فهو لن يكون أقسى منك على أخيك.
سأقرأ مقطعاً آخر من سفر أشعياء لكي ترَوا مدى قساوة الصّورة ومدى صحّتها أيضاً، وهو من الإصحاح الثّامن والخمسين. والسّبب في الانتقال من الإصحاح الأوّل إلى الإصحاح الثّامن والخمسين هو ملاحظة الصّورة الّتي يُركّز عليها أشعياء من البداية إلى النّهاية: "نادِ بصوتٍ عالٍ، لا تُمسكْ إرفع صوتك كبوق واخبر شعبي بتعدّيهم وبيت يعقوب (أي إسرائيل) ذكّرهم بخطاياهم. إيّاي يطلبون يوماً فيوماً، ويُسرّون بمعرفة طُرقي كأمّةٍ عملت برّاً ولم تترك قضاء إلهِها. يسألونني عن أحكام البرّ، يُسرّون بالتّقرّب من الله، يقولون: لماذا صُمنا ولم تنظر؟ ذلّلنا أنفسنا لم تلاحظ. ها إنّكم في يوم صومِكم تجدون مسرّة، وبكلّ أشغالكم تُسَخّرون، ها إنّكم للخصومة و النّزاع تصومون ولِتطلبوا ... الشّرّ لَسْتُم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء. أمِثل هذا يكون صوم أختاره أنا؟ يوم يُذلّل الإنسان فيه نفسه، يُحني رأسَهُ ... ويفرش تحته مِسحاً ورماداً. هل تُسمّي هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرّبّ؟ أليس هذا صوماً أختاره: حَلّ قيود الشّرّ، فكّ عقد النّير والعبوديّة، إطلاق المسحوقين أحراراً، قطع كلّ نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل المساكين التّائهين إلى بيتك، وإذا رأيتَ عُرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك (أي الإنسان الآخر)؟ حينئذٍ، ينفجر كالصّبح نورك وتنبت صِحّتُك سريعاً ويسير بِرّك أمامك ومجد الرّبّ". قساوة الله مَبْنيّة على أمرٍ واحدٍ وهو الإنسان المحتاج والذي أنت التقيت به، كما في قصّة ألعازر والغنيّ، عندما كان ألعازر جالساً على باب الغنيّ وفي مكانٍ يستطيع الغنيّ أن يراه فيه، فيدخل ذاك إلى القصر ويخرج منه ويراه مرمِيّاً على الطّريق ولا يُحرّك ساكناً؛ "إذاً حينئذٍ تدعو فيجيب الرّبّ، تستغيث فيقول هاءنذا، فيقودك الرّبّ على الدّوام... إذا أنفقت نفسك للجائع وأشبعت النّفس الذّليلة يُشرق في الظّلمة نورك".

يتحدّث أشعياء في الإصحاح الأوّل كما في الإصحاح الثّامن والخمسين عن الموضوع نفسه. في الوسط، أي في الإصحاح السّادس، عندما دعا أشعياء أعطاه رسالة الحكم. والمضحك أنّه على الرّغم من شرّ الإنسان، عندما يحين وقت الحكم، يدّعي البراءة، كالمجرم عندما يُحكَم عليه. لدى النّاس حنينٌ إلى الشّرّ، وكلمة الله، دائماً، هي الّتي تُصلح فكر الإنسان الّذي يقول بأنّ الله هو إلهه. هذا الكتاب مكتوبٌ فقط للنّاس الّذين يؤمنون بالله ويقدّمون له الصّلوات والذّبائح ولكن لا يفعلون كما يقول لهم فيُرضونه فقط بتقديم الذّبائح. خطورة المسألة هي في رؤيتك للمحتاج وتساؤلك إن كان صادقاً أو كاذباً. يكون العطاء بسبب يقظة وليس بسبب الشّفقة كأنّني أواجه الله في هذا المحتاج. باب الملكوت مُؤلّف من بابَيْن: الأوّل هو يسوع والثّاني هو المحتاج. إمّا أن يُفتحا معاً أو يُغلقا معاً. وعندما تفتح باب الفقير يُفتح باب المسيح تلقائيّاً.
بات الصّمت مُتعةً في زمن الثّرثرة فالمسيح، عندما كان يسمع ثرثرةً في الإنجيل، لم يكن يجيب فيُقال: "ولم يُجِبْ بكلمة".
مَن صار قريبك وليس مَن هو قريبك، فأجاب الله: "مَن فعل إليّ الرّحمة".
اليوم، قرأنا "شرّ" أشعيا أمّا في المرّة المقبلة فسنقرأ "شرّ" إرميا.

ملاحظة: دُوِّنت من قِبلنا بتصرُّف. تتمة...
14/10/2014 سِفر الأمثال - الإصحاح الرابع كلمة الله
https://youtu.be/Kf9dzcKAY0o

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
سِفر الأمثال
الإصحاح الرابع
الأب ابراهيم سعد

14/10/2014

في هذا الموسمِ سنبدأُ بمقاطع عن دراساتٍ غير مألوفة لدى أغلبيةِ الناس وهي دراساتٌ متعلقة بأسفارِ أنبياء العهد القديم. طبعاً، لن يكون لدينا متّسع من الوقت لدراسة كتاب كلِّ نبيّ لذلك سنكتفي بمقاطع من كلِّ كتاب لكي نحصلَ على خطّةٍ توضحُ لنا الهدفَ الّذي نريدُ الوصولَ إليه من خلال هذه الدّراسة. ولكن، اليوم، سنقومُ بتمهيدٍ يضعُنا على السّكّة الصّحيحة: ليس النبيّ من يتنبّأ ما سيحصلُ في المستقبل، مثل الّذين نعرفُهم في عصرِنا هذا كليلى عبد اللّطيف، بل النبيّ، في اللّغة العبريّة، "نبيئين" أي الأنبياء وهم الّذين يقولون كلمةَ الله الآن وهنا أي هُم ينقلون كلمةَ الله، مشيئتَه، إرادتَه إلى النّاس الموجودين معهم في المكان والزّمان. إذا كانت كلمةُ الله الّتي نقلها النبيّ توضِح وتنبّه وتُصلح عقول النّاس فهو يُحذّرنا من أنّ هذا السّلوك وهذا التّفكير يؤدّيان بِنا إلى هذا الحدث. فهو، إذاً، يُنذرنا بنتيجة تصرّفاتنا ولا يتنبّأ بما سيحصل، كمثل الأهل الّذين ينبّهون أبناءهم من نتيجة أعمالهم ولا يتنبّأون. النّبيّ إذاً هو المُنبّه والمُذكّر بكلمة الله.

لذلك، اليوم، وقبل الدّخول في بحر الأنبياء، سنتكلّم عن كتاب سِفر الأمثال وهو الإصحاح الرّابع. سأقرؤه لكي أوصل لكم طريقة التّعامل مع كلمة الله و العلاقة معها. فلنستفد من الإصحاح الرّابع من سِفر الأمثال:
"إسمعوا أيّها البنون تأديب الأبّ واصغوا لتعرفوا الفطنة فإنّي منحتكم علماً صالحاً، لا تهملوا تعليمي إنّي كنتُ ابناً لأبي، غضّاً وحيداً لدى أمّي وكان يعلّمني ويقول لي : ليحرز قلبك كلامي، إحفظ وصاياي فتحيا، إكتسب الحكمة، إكتسب الفهم (بتعبيرآخر إقتنِ الحكمة أي اشترها، أحصل عليها بأيّ ثمن) لا تنسَ ولا تمِل عن كلمات فمي، لا تهملها فتحفظك، أحببها فتحميك. رأس الحكمة اكتساب الحكمة وبكلّ ما كسبت إكتسب الفهم، إرفعها فتُعلّيك، إذا عانقتها فإنّها تمجّدك، تجعل على رأسك إكليل نعمة وتولّيك تاج جلال. إسمع يا بنيّ واقبل كلماتي فتكثر لك سنوّ الحياة. على طريق الحكمة دلّلتك وفي سبيل الاستقامة أسلكتُك فلا تضيع خطاك في سيرك وإذا أسرعت لا تعثر. تمسّك بالأدب أو بالتّأديب، لا تطلقه، إحفظه فإنّه حياة لك، في سبيل الأشرار لا تدخل وفي طريق أهل السّوء لا تمشِ، حِد عنه ولا تعبر فيه تحوّل عنه واعبر فإنّهم لا ينامون إذا لم يسيئوا، ويُسلبون النّوم إذا لم يُعثّروا. لقد أكلوا خبز الشّر وشربوا خمر العنف. أمّا سبيل الأبرار فمثل نور الفجر الّذي يزداد سطوعاً إلى رائعة النّهار، وطريق الأشرار كالظّلام فلا يعلمون بأيّ شيء يعثرون. يا بنيّ إصغي إلى كلامي، أمِل أذنك إلى أقوالي، لا تبتعد عن عينيك، إحفظها في داخل قلبك فإنّها حياةٌ للّذين يجيدونها وشفاءٌ لكلّ جسد، صّن قلبك أكثر من كلّ ما تحفظ فإنّ منه تنبثق الحياة. إنفِ عنك التواء الفمّ (أو خداع الفمّ) وخبث الشّفتين (أو انحراف الشّفتين) أبعده عنك لتنظر عيناك إلى الأمام ولتكن أجفانك سديدة قدّامك، تبصّر في سبيل قدميك فتثبت جميع طرقك لا تمِل يمنى أو يسرى، أبعد قدمك عن الشّرّ."
محورُ هذا المقطع أو مركزُه هو كلمةُ الله الّتي تحفظها. عندما تحفظ كلمة الله تظنّ بأنّك حفظتها فتكون هي الّتي تحفظُك. أنتَ لا تحفظ كلمة الله غيباً بل تحفظها من الفساد فتدوم أكثر كما توضع المواد الحافظة في علب الطّعام لتحفظها من الفساد. إذاً أنت هو الّذي يحفظ كلمة الله من الفساد.

التّركيز، في هذا المقطع، هو على أن تجعل كلمة الله شخصاً واقفاً أمامك تراه، على عكس الكلمة الّتي لا تُرى ولكن تُسمع، إذاً تُشخّص كلمة الله فتكون مسؤولاً تجاه هذه الكلمة بأن تأخذ قراراً باستقامة الحياة واستقامة الكلام وعدم الانحراف فتزيد سنوّ حياتك بمعنى أنّك تصبح منتمياً إلى عمرك وليس بزيادة سنين عمرك، فتعرف معنى كلّ سنة من عمرك تعيشها، وكلّ لحظة تعيشها، فيصبح لحياتك معنى آخر، ورونقاً آخر على الرّغم من الشّدّة من حولك. إذاً أنت أمام، إمّا كلمة الله الّتي تعطيك الحكمة والفهم، وإمّا أمام النّاس الّذين يعطونك الحكمة والفهم. والنّاس نوعان: أبرار وأشرار.أنت تتعلّم الحكمة من الأبرار ومن كلمة الله. أنتم تعرفون أنّ هناك العديد من النّاس الّذين يرون بعيونهم وكأنّهم لم يروا شيئاً لذلك يفقدون إنسانيّتهم. وتعرفون أيضاً أنّ هناك عيوناً حين تنظر إليكم تتحوّل أناس إذا كنتم تحفظون كلمة الله. إذاً أنتم لديكم مسؤوليّة كبيرة بأن تتعلّموا كلمة الله، ليس لتكتسبوا المعرفة و تزيدوا معلوماتكم بل لتصبحوا أنتم كلمة الله فيقرؤها الآخرون ويتعلّمونها وإلّا بقيتم على مستوى التّرف الفكريّ لا على مستوى التّحوّل الدّاخليّ.

نحن نتعلّم كلمة الله لكي يزيد الإنجيل صفحاته وليس صفحات من ورق ولكن صفحات من لحم ودمّ هي "أنتم". إذا لم يكن هذا هدف دراستنا يصبح درساً في الصّفّ. نحن نتكلّم إذاّ عن الحفظ: كلمة الله تحفظك وتمجّدك وتجعلك مثل نور الفجر. ونحن نرى نور الفجر في الظّلمة ونراهما في الوقت نفسه فما يجعلنا نميّز الظّلمة هو وجود النّور. إذاً وجودكم كنور الفجر يجعل الآخرين الغارقين في الظّلمة والّذين يعتقدون أنّ الدّنيا كلّها ظلام ينتبهون إلى النّور. هذه مسؤوليّتكم، سبيل الأبرار. أمّا الأشرار فلا يعيشون بالهناء إذا لم يعثّروا، كلّ يوم، أحداً. لا يتأخّر الشّيطان عن عمل الشّر أمّا البار فإذا توقّف عن عمل الخير يحرم غيره من اللّحظة الّتي يصبح فيها بارّاً أي هو يمنع غيره من حفظ كلمة الله. لا يمكنك أن تكون مستهزئاً بكلمة الله وكأنّها أمر مفروغ منه. لقد أصبحت مسؤولاً عنها لأنّك سمعتها. كما كانت طريقة الفلاحة القديمة بواسطة السّكّة الّتي تجرّها بقرتان فإذا لم تتحرك البقرتان لا تتمّ الفلاحة. على السّكّة أن تغرس في الأرض وتقلبها وإذا لم تقلب الأرض فهي لم تفلح. على كلمة الله أن تدخل قلوبكم وتغيّرها. يجب أن يكون هناك حالة تغيير. أمّا إذا مرّ وقتٌ طويلٌ ولم يتمّ التّغيير فيكم. فالسّؤال الّذي يطرح نفسه هل "السّكّة" صالحة؟ فهل يُعقل أن تصبح كلمة الله غير صالحة فتكونون أنتم الّذين كشفتم أنّها فاسدة على الّرغم من أنّها صالحة والله لن يرضى بذلك؟ لذلك عمل الأشرار هو أن يبرهنوا لكم أنّ كلمة الله غير صالحة. هذه هي التّجربة فنحن نصلّي ونقول "لا تدخلنا في التّجربة". التّجربة هي أن تقتنعوا أنّ كلمة الله غير نافعة، هي أن تصلوا إلى مرحلة من الإحباط واليأس. هذه هي أمنية الأشرار أن يجعلوكم تعتقدون أنّ التّعثّر أمر عاديّ كما أنّه لا فرق سواء أكانت كلمة الله موجودة أو غير موجودة. أنتم تواجهون هذا التّحديّ كلّ يوم، تواجهون المشكلات وخيبات الأمل. فالدّنيا هي عبارة عن خيبات أمل يوميّة من الموجودين حولكم ومن أنفسكم. ما الّذي يجعلكم تقولون "لا، هناك نور ينبثق من الظّلمة"، إذا كانت كلمة الله محفوظة في قلوبكم؟ هذا ما حصل مع يهوّذا فلجأ إلى الانتحار وهذا ما لم يحصل مع بطرس فأصبح بطرس الصّخرة. النّبيّ إذاً هو الّذي لا يمكن أن يقتنع بأنّ كلمة الله غير فعّالة. بالتّأكيد هي فعّالة حتّى ولو لم يرها في المكان والزمان الموجود فيهما فيصدّق بأنّها فعّالة حتّى وإن مات ولم يرها. لذلك النّبيّ "أشعيا" قال لتلاميذه بأن يوضّبوا الكلمة الّتي قالها، ولم يصدّقوها، ويخبّئوها لأنّ الوقت سيأتي وتصبح فعّالة. لقد قال: "ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابناً ويُدعى اسمه عمّانئيل الّذي تفسيره الله معنا". بعد ثمانمئة عاماً، قال "متّى" أنّ هناك كلمةً قد قيلت وتحقّقت أي أنّها فعّالة. "متّى" وحده هو الّذي صدّق "أشعيا". بالنّسبة إليه هذه هي الحقيقة، هذا هو الشّخص، فهو يتعاطى مع كلمة الله كشخص أو كعِشرة فالعشير هو الرّفيق الدّائم، الشّريك الدّائم.

لذلك دراستنا للكتاب المقدّس هي، بالضبط، حتّى نؤكدَ ما قاله الله في سفر أشعيا النّبيّ: "إنّ كلمتي تذهب وتفعل فعلها وتعود إليّ يقول الرّبّ" وهي لا تموت حتّى ولو أنت قد متّ. لذلك حتّى كلماتنا الّتي نلفظها، كما أنا الآن أتكلّم، لا تموت على عكسي، فأنا أموت وأفنى والدّليل على ذلك هو هذه الكلمة الّتي نقرؤها الآن، وقد مات مَن قالها، أمّا هي فبقيت لأن هناك آذاناً قد سمعتها، وقلوباً قد حفظتها، ودماءً قد أُهرقت بسببها لكي تصل إلينا. لا يجوز الاستخفاف بما نسمع ونحفظ لأنّ المطلوب منّا أن نتفوّه ونسلك. هنا تكمن الصّعوبة في هذا الأمر لأنّه جديّ. ما أقوله، هنا، هو تأكيدٌ على أنه مهما كانت كلمة الله في عيونكم جافّة ومملّة، عليكم ألّا تنسوا أنّها كلمة الله. ومهما كانت كلمة الله تؤذي، وفي غالبيّة الأحيان هي تؤذي النّفس، لأنّها فضّاحة، ومهما كانت جارحة فلا تنسوا أنّها كلمة الله. مهما كانت معزّية ولطيفة وتعطيكم الدّفع للأمام فلا تنسوا أنّها كلمة الله وليست كلمة وحسب. والخطورة هنا أن يرتكب الإنسان التواءً بالفمّ أو انحرافاً في الشّفتين أي أن يجعل كلمة الله كلمةً بشريّةً فتتدنّى قيمتها، أو أن يجعل كلمةً بشريّةً بمرتبة كلمة الله فيشوّه الحقيقة. الفمّ المستقيم هو الّذي يقول عن كلمة إنّها كلمة الله عندما تكون فعلاً كلمة الله وهذا هو النّبيّ الّذي لا يلفظ كلامه وينسبه إلى الله، كما يقول إرميا النّبيّ :"ويلٌ للّذين يقولون قال الله وهم الّذين يقولون". وهنا تكمن خطورة المسألة فتصبح "متل بعضها" كما تردّدون في اللّغة العاميّة غالباً، إلى حدّ أنّه إذا ذكر أحدهم الإنجيل أسكتموه قائلين: "إنّه ليس الوقت المناسب للإنجيل، وكأنّ هناك وقتاً محدّداً لكلمة الله علماً بأنّ بولس الرّسول يقول لتلميذيه تيموتاوس: "أكرزْ بالكلمة في وقتٍ مناسبٍ ووقتٍ غير مناسب" (2 تي 2:4). والوقت غير المناسب هو عندما تكون في وقت شدّة مثلاً، فلا تقبل كلمة الله لأنّها تُشكّل تحدّياً لك، فلا تملك الخيار إلّا بالتّغيير، وهذا ما يُشكّل لك الإزعاج أمّا عندما تكون مرتاحاً فتتقبّلها. النّبيّ إذاً مزعج. هل تتذكّرون ما قالتْه الملكة إيزابيل لايليا النّبيّ: "أأنت مُقلق إسرائيليّ؟" أجل، كلمة الله تُسبّب قلقاً للّذين لا يريدون أن يبزغ الفجر، للمرتاحين في الظّلمة، وهم كثُر، أمّا الّذين حفظوا كلمة الله فهم كُثُر مهما كانوا قلّةً لأنّ المسألة ليست بالعدد الكبير، وإنّما بقوّة فاعليّة كلمة الله.

لذلك نبيّ واحد، وهو إرميا، تصدّى لمدينته أورشليم وليس للأعداء لأنّه عندما قال كلمة الله، وكانت جماعة الله غير منسجمة مع كلمة الله، أصبحوا أعداء لإرميا، حامل كلمة الله. كلمة الله لا تملك عدوّاً دائماً كشخص، وإنّما هي الّتي تخلق عداوةً لأنّ النّاس لا يقبلونها. وهذا ما حصل مع كلمة الله المطلقة - يسوع المسيح، فقال للّذين اعتبرهم الله شعبه إنّ عليهم أن يفعلوا ما يطلبه الله، فأجابوه بأنه على الله أن يقول ما نحن نريد أن نفعله. وهذه هي مشكلة الإنسان أنّه يريد من الله أن يقول ما يبغيه الإنسان. جاء النّبيّ ليوقف هذا السّلوك البشريّ من خلال كلمة الله، فلم يعد هناك استمراريّة لما كنتم عليه ولما ستكونونه، إذاً لقد جاء الوقت لاتّخاذ القرار. تسمع كلمة الله على لسان النّبيّ لكي تقرّر أن تتّخذ القرار، لا لكي تصفها بالجميلة أو القبيحة، وإلّا تصبح كلمة الله أغنية تُغنّى وتسمعها على إذاعة الرّاديو وتكون لك الحريّة بتغيير الموجة ولكن كلمة الله هي الرّاديو الّذي يحتوي على موجة واحدة، فيمكنك أن تسمع كلمةً أو لا تسمعها، ولكن في كلتا الحالتين عليك اتّخاذ القرار وإلّا سوف تعرف أنّ مستقبلك أصبح مرتبطاً بموقفك من كلمة الله الّذي يحدّد لك مستقبلك الواضح. النّبيّ يعرف من الحكمة الّتي اكتسبها وبالفهم الّذي اكتسبه، من كلمة الله لا من التّنبّؤ، أنّه يستطيع أن يرى ما لا يستطيع الإنسان أن يراه فمن حفظ كلمة الله اكتسب الحكمة والحكمة هي الخبرة، هي الوقت، هي فنّ المحافظة على الحياة وعلى استمراريّتها وما اختبره هؤلاء الّذين كتبوا هذه الكلمة وفهموا فنّ المحافظة على استمراريّة الحياة الّتي من عند الله إذ إنّها لا تأتي إلّا من عند الله. والله قرّر أن يبني لها جسراً لتمرّ فوق كلّ شيء وتأتي الحياة معها. إن قبلتَ كلمته حصلتَ على الحياة. وهذا مذكورٌ في العهد الجديد. يقول بولس الرّسول إلى أهل غلاطية: "إبتدأتم بالرّوح وتكمّلون بالجسد؟ أنتم لا تعرفون أنّ حلّ أموركم ليسَ في أعمال النّاموس؟، ولكن في سماع خبر الإيمان؟، أي بقبولكم الإنجيل، اختبرتم الرّوح. الرّوح القدس يأتي مع الكلمة: إمّا تقبلونهما معاً وإمّا ترفضونهما معاً. لا تستطيع أن تقبل واحدة وترفض الأخرى. هذا هو الانفصام في الشّخصيّة، التواء الفمّ، انحراف الشّفتين.

إذاً دراستنا للأسبوع المقبل هي البدء بكلمة الله الّتي قالها إنسان مثلنا، نجس الشّفتين بين شعب نجس الشّفتين كما قال النّبيّ أشعيا في الإصحاح السّادس.
إذا أردتم أن تصنعوا أيقونةً للأنبياء، أرسموا أذناً وفماً، الأذن لتسمع والفمّ ليتكلّم، فإذا سمع الكلمة بشكل صحيح ونقلها كما هي، من دون زيادة أو نقصان، طهّرته وقدّسته، فهي لا تحتاج إلى مجهود كبير، لأنّك لن تعود مهتمّاً بأمور كثيرة. وأكثر الأمور الّتي لا تهتمّ بها، وكنتَ مهتمّاً بكلمة الله تجعلك أكثر رأفةً ولطفاً وتسامحاً وصفحاً وتنبيهاً مع النّاس من حولك.
يكفي اليوم شرّه. سنبدأ الأسبوع المقبل بأشعيا النّبيّ والنّصّ الأول سيكون الإصحاح السّادس وأطلبُ منكم أن تقرأوا الإصحاح السّادس والإصحاح الأوّل والإصحاح الثّامن والخمسين.

ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة من قبلنا بتصرُّف. تتمة...
10/12/2013 تأمّل ميلادي في إنجيل لوقا "وفي تلك الأيام صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع المسكونة..."
https://youtu.be/GfnNjJ3hPAM

تفسير كتاب مقدّس
تأمّل ميلادي في إنجيل لوقا (2: 1-13)
للأب ابراهيم سعد

10/12/2013

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم نتأمّل معاً في حدث ننتظرُه جميعنا وهو ميلاد الربِّ يسوع. وقد اعتدنا أن نتحدّث عن هذا الحدث مراراً، وحتى ولو أعدْنا قراءة وتفسير بعض الأمور، فهذا مستحَّب لأنه يساعد في توْعِيَتنا وتنبيهنا أكثر لمعاني العيد، علّه يُعطينا دفعاً جديداً، وقوّة جديدة، لنُدرك حقيقة معنى "الولادة" أولا، ومن ثم معنى "ما بعد الولادة".

حُدّد عيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول في وقت متأخر بعد 300 عام من مجيء الربّ، أي في القرن الرابع. قبل ذلك، كان هناك عيد الظهور الإلهي في السادس من كانون الثاني، وقد اعتاد الناس أن يعيّدوا فيه للولادة والظهور الإلهي في آن واحد.

وعليْنا أن نفهم أن هذه التواريخ ليستْ التواريخ الحقيقيّة للأحداث، إنما قد اختيرت اختياراً لأسباب معيّنة. فبمحاكمة عقلية بسيطة، نُدرك أن لا أحد يمشي قرب النهر في السادس من كانون الثاني، ذروة فصل الشتاء والبرد. وأن الرعاة لا يرعوْن أغنامهم في البريّة إلاّ إن كان هناك عشب، والعشب يَظهر في الأرض بين آذار وتشرين الأول، وليس في كانون الأول. إذا لا علاقة بين ميلاد المسيح الحقيقيّ وهذا التاريخ، والدليل أن الكنيسة في القِدم لم تعتِد أن تعيّد لميلاد الربّ يسوع. ولكن لماذا؟
كانت فكرة الميلاد في القدم مرتبطة بالملوك والأباطرة والأعياد الوثنيّة، وجرتْ العادة أن تقام أعياد للملك لتُخبر عن طول عمره، حتى الروزنامة السنويّة كانت مرتبطة بالملك وبسنوات حكمه. لذلك لم ترد الكنيسة في البداية أن تدخل في هذه الأمور، لكيلا تتقاطع مع الوثنية في هذا الموضوع.

إلى أن تم تعيّين الظهور الإلهي في السادس من كانون الثاني، وكان لاختيار هذا التاريخ أسباب معينة. فالكنيسة عملها التربية، وهي تربي رعاياها على الإحساس بأهمية تكريس حياتهم بكلّ تفاصيلها لتنسجم مع الربّ وليس ساعات معيّنة فقط، والآباء في الكنيسة حاولوا ألا يفعلوا ما يؤدي إلى حدوث انفصام بين الحياة اليوميّة والإيمان – وهو ما وقعنا فيه اليوم، إذ نتكلم عن الإيمان ولا نطبقه بأفعالنا - والكنيسة همها أن نكون على انسجام بين الإيمان والحياة اليومية.
وفي تلك الأيام، كان هناك الكثير من الأعياد الوثنية. والمسيحيّون الذين آمنوا هم بالأصل وثنيون، وفكرة الأعياد رافقتهم وترسّخت في ذاكرتهم، وأحد هذه الأعياد كان في ليلة الخامس من كانون الثاني سنويا، إذ ساد اعتقاد أن الإله أوزريس كان ينزل في نهر النيل ليلاً ليقدّس الماء، وكانت تقام الاحتفالات التي سمح بعض المسيحيّون لأنفسهم أن يشاركوا فيها مع الوثنيّين، ولكي تطّهر الكنيسة عقولهم وتعمّدها، أعلنت لهم أن من يقدّس الماء ليس إلهاً وثنياً، بل هو من نزل في المياه واعتمد فيها، هو الربّ يسوع المسيح، وعينت عيد الظهور الإلهي في الموعد نفسه.

وبعد فترة، رأت الكنيسة أن هناك عيدا ثانياً في الخامس والعشرين من كانون الأول وهو "عيد الشمس"، وقد اختارت الشعوب الوثنية أن تعيّد لإله الشمس في هذا اليوم لأنه بحسب علم الفلك، يزداد طول النهار بضع ثوان في كلّ يوم اعتبارًا من هذا التاريخ، أي يكبر دور الشمس، وطبعا يرافق هذا العيد فرح واحتفالات وسكرٌ، ولم يرَ بعض المسيحيّين مشكلة في الجلوس على موائد الوثنيين في هذا اليوم والاحتفال معهم، ولكي تمنعهم الكنيسة من المساومة على العبادة، أعلنت لهم أن الشمس الحقيقيّة والنّور الحقيقيّ هو يسوع المسيح، وبالتالي حدّدت هذا التاريخ عيداً لولادة النّور الحقيقي، ولادة الربّ يسوع المسيح. وهنا حدث الفصل بين عيدَيْ الظهور الإلهي والميلاد. وقبل هذا الفصل، أرادت الكنيسة أن تكشف أن الربّ قد وُلد بالجسد من مريم العذراء، وبإعلان إلهي عن هويته عندما قال الربّ: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"، فالغاية من العيد المشترك كانت الحديث عن المسيح الإلهي والبشري في آن. تتمة...
12/11/2013 عظة الجبل - التطويبات كلّ من يريد الملكوت، عليه أن يتّخذ مِن الله مَلِكًا
تفسير الكتاب المقدّس
انجيل متّى (5: 1-12)
عظة الجبل - التطويبات
الأب ابراهيم سعد

12/11/2013

يُشكِّل الإصحاح الخامس من إنجيل متّى عظة الرب يسوع على الجبل، هذه العظة تضمّ أقوال يسوع لتلاميذه حين صعوده معهم إلى الجبل. لم يقل يسوع كلّ هذه الأقوال دُفعَةً واحدة، إنّما قالها على دُفعاتٍ متعدّدة وفي مناسباتٍ متفرِّقة، وقد قام القدِّيس متّى بجَمعِها ووَضْعِها على هذا النّحو في إنجيله، بهدف أن يُوصِل رسالةً معيّنة إلى قارئي إنجيله. في الإصحاح الرابع من إنجيله، يُخبِرُنا القدِّيس متّى عن تجربة إبليس ليسوع في البريّة وانتصار الربّ عليه، وبذلك أراد الإنجيليّ إظهار عظمة الربّ وجبروته كونه لم يرضخ لمطالب الشِّرير. وفي الإصحاح الخامس، سعى القدِّيس متّى ليُظهِر عظمة الربّ في الأقوال والأفعال: فَنَقل إلينا عظة الربّ على الجبل، فأظهر سلطان الربّ في الأقوال، ثمّ أظهر قوّة الربّ في الأعمال من خلال عَرضِه للمعجزات الّتي قام بها الربّ، في الإصحاحَين الثامن والتّاسع، أي بعد العظة على الجبل مباشرةً. وكما هي حال الأقوال في العظة، كذلك هي حال المعجزات، إذ إنّ يسوع لم يقم بكلّ تلك المعجزات بشكلٍ متتالٍ، إنّما قام بها في مناسباتٍ متنوعة، أي أنّ الواحدة مفصولة عن الأخرى بمسافةٌ زمنيّة معيّنة.
لقد اهتمَّ كلّ إنجيليّ من الإنجيليّين الأربعة بتنسيق نصوص إنجيله، بهدف إيصال رسالة معيّنة إلى سامعِيه. في إنجيل متّى، نرى أنّ الإنجيليّ سعى إلى إظهار حقيقة الربّ يسوع بأنّه ابن الله، فنقَلَ لنا اعتراف الله الآب بابنه الربّ يسوع في المعموديّة قائلاً فيه "هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُرِرِتْ" (متّى 3/ 17)؛ وأكّد الإنجيليّ هذا الاعتراف عبر إظهار سلطان الربّ في الأقوال من خلال العظة، وفي الأعمال من خلال المعجزات. ثمّ يُكلِّمنا القدِّيس متّى عن انطلاق الرّسل للبشارة في الإصحاح العاشر من إنجيله، وبالتّالي فإنّه يُظهر سلطان الربّ يسوع وقوّته في إرسال تلاميذه للتبشير بملكوت السّماوات: هذه هي الهيكلية الّتي اتَّبعها القدِّيس متّى في بنائه إنجيله.

في الإصحاح الرابع من إنجيله، يُخبرنا القدِّيس متّى عن تجربة إبليس ليسوع في الصّحراء، فيَذكُر لنا قولَ الربّ لإبليس إنّه ليس بالخُبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تَخرج من فم الله. وهذا ما حقّقه الربّ في الإصحاح الخامس من إنجيل متّى، إذ لم يفتح فمه حين صعوده إلى الجبل إلّا ليُكلِّم تلاميذه بكلمة الله. وبهذا، أراد الإنجيليّ أن يُعطينا تطبيقًا عمليًّا لكلام الربّ مع إبليس في الصّحراء.
إنّ صعود التّلاميذ مع الربّ إلى الجبل، يُذكِّرنا بصعود موسى إلى الجبل: في العهد القديم، نال موسى الوصايا من الله على الجبل، أمّا التّلاميذ فقد نالوا التعاليم الإلهيّة ووصايا الله الجديدة من الربّ يسوع، على الجبل أيضًا. وفي مقارنةٍ بين حَدَث العهد القديم وحَدَث العهد الجديد، نستنتج أنّ التّلاميذ، هُم الّذين يُشبِهون النبيّ موسى في صعوده إلى الجبل وتَسلُّمِه الوصايا، لا يسوع. إنّ الربّ يسوع يُشبه الله الّذي أعطى الوصايا لموسى، فالربّ يسوع كَلَّم تلاميذه ونَقَل إليهم التَّعاليم الإلهيّة. يَجِد هذا الاستنتاج صدىً له في إنجيل متّى إذ إنَّ الربّ يسوع استعمل بوَفرةٍ عبارة "قيل لكم...، أمّا أنا فأقول لكم"، في عظته لتلاميذه على الجبل، وما هذا إلّا دليل على أنّه الله.

في بداية العظة على الجبل، أي في الإصحاح الخامس من إنجيل متّى، نقرأ أنّ الربّ يسوع قد صعد إلى الجبل عند رؤيته للجموع، ولكنّنا نلاحظ أنّ الربّ قد توجّه في عظته إلى التّلاميذ لا إلى الشَّعب الحاضر، ونلاحظ أيضًا أنّه في ختام العظة يقول لنا الإنجيليّ، إنّه "لـمّا عَلَّمَ يسوع هذه الأقوال، بُهِتَتِ الجموع مِن أقواله". إنّ هاتين الآيتين: الأولى في الإصحاح الخامس والأخيرة في الإصحاح السابع مُتعارِضتان، وَهُما تدفعانِنا إلى الاستغراب، وإلى استنتاج أنّ الربّ أعطى هذه التعاليم للرّسل الّذين نقلوها بدورِهم إلى الشَّعب. إذًا، هذا هو دور التّلميذ أن يتلقَّى الكلمة الإلهيّة وأن ينقلها بكلِّ أمانة إلى الشَّعب، بالقوّة نفسها التّي تلقَّاها من الربّ وهذا ما أدّى إلى اندهاش الشَّعب من تعليم الرّسل، الـمُعبَّر عنه بعبارة "بُهِتَت الجموع". إنَّ الإنجيل كُتِب بعد القيامة، وقد ظَهَر جَلِيًّا دور التّلاميذ بعد انتقال الربّ يسوع إلى السّماء. إنّ أقوال هذه العظة قد وصلت إلى الهند، وقد قال فيها "غاندي"، ذلك الإنسان غير المؤمن بالمسيح، الَّذي حرّر الهند بالطُّرُق السِلميَّة: إنّه مهما كان دِينُ الإنسانِ عظيمًا، فإنّه لن يصل إلى الكمال، إلّا إذا قَرَأ هذه الإصحاحات الثَّلاثة من إنجيل متّى الّتي تُشكِّل عظة يسوع على الجبل. ويُضيف "غاندي" قائلاً إنّه كِرِهَ المسيحيّين ولكنّه أحبّ المسيح.

إنّ التطويبات هي الحديث الأوّل ليسوع في إنجيل متّى. إنّ كلمة "طوبى" تعني "هنيئًا"، أي "مغبوطٌ هو الإنسان". هذه العظة نَقَلها إلينا إنجيليَّان اثنان هُما: متّى ولوقا. إنّ العظة الّتي نقلها إلينا متّى كانت على الجبل، في حين أنّ لوقا نَقَلَ إلينا العظة نفسها وقد كانت في أرض سهليّة. إنّ هذا التعارض بين الـمَوقعَيْن الجغرافيّين للعظة الّتي تلفَّظ بها يسوع، قد يدفع البعض إلى التساؤل حول حقيقة حصول تلك العظة، وحول حقيقة مكان حصولها. إنّ الربّ يسوع قد يكون قد تفوّه بهذه الأقوال على الجبل في إحدى المناسبات، ثمّ أعاد قولَها على آخرين في أرض سهليّة في مناسبةٍ أخرى. إنّ اختلاف المواقع الجغرافيّة عند الإنجيليَّين متّى ولوقا في نقل هذه العظة إلينا، نحن المؤمنين، يكمن في اختلاف الهدف الّذي يصبو إليه كلّ منهما: فمتّى أراد أن يدفع الشَّعب إلى استذكار موسى يوم تَسَلُّمه الوصايا مِنَ الله على الجبل، عسى الشَّعب يُدرِك أنّ الربّ يسوع هو الله. أمّا هدف الإنجيليّ لوقا فَهو دَفعُ الشَّعب لاستذكار مسيرتهم في الصّحراء وأمانة الله لهم وبقائه معهم على الرّغم من زلَّاتهم، لذا جعل عظة يسوع في أرض سهلة، عسى الشَّعب يتذكَّر تلك الأيّام الخوالي. يستخدم القدِّيس لوقا كلمة "طوبى" ويضيفُ إليها صِفَة خاصّة بالإنسان الـمَعنيّ بالتطويبة دون أيِّ إضافاتٍ أخرى، فيقول مثلاً "طوبى لكم أيّها المساكين"؛ أمّا في العظة على الجبل، فنجد أنّ القدِّيس متّى يضع التطويبة على النّحو التّالي: "طوبى للمساكين بالرّوح..."، أي مع إضافة بعض الشروحات الطفيفة. إنّ سبب هذا الاختلاف يعود إلى الرِّسالة الّتي أراد كلّ إنجيليّ إيصالها إلى الشَّعب الّذي يبشِّره. في اللّغة الأصليّة للنّص الإنجيليّ، إنّ كلمة "مساكين" تعني أيضًا الفقراء؛ أمّا القدِّيس متّى فقد أضاف إلى كلمة "مساكين" كلمة أُخرى وهي "مساكين بالرّوح"، رغبةً منه في التشديد على أهميّة أن يكون الإنسان لا مسكينًا على المستوى الماديّ وحسب، بل على المستوى الرّوحي. في إنجيل متّى، نقرأ التطويبة على هذا الشّكل: "طوبى للـ...، لأنَّ لهم ..."؛ أمّا في إنجيل لوقا، فإنّنا نقرأها على النّحو التّالي: "طوبى لكم أيّها...، لأنّ لكم...". إنّ الإنجيليّ متّى يستخدم صيغة الغائب، أمّا القدِّيس لوقا فيستخدم صيغة الـمُخاطَب، وبالتّالي فإنّ الإنجيليّ متّى يجعل التطويبة عامّةً تطال كلّ النّاس، على عكس الإنجيليّ لوقا الّذي يجعل من التطويبات خاصّةً بالحاضرين السّامعين لأقوال المسيح. بالنِّسبة إلى بعض مفسِّري الكتاب المقدَّس، يُشكِّل نصّ التطويبات النّظام الدّاخلي للملكوت، أي دُستوره، وبالتّالي فإنّ كلّ مَن ينجح في عيش هذا الدّستور، ينال الملكوت السماويّ، وهو لا يزال في هذه الأرض. أمّا بالنسبة لي، فإنّي أجد في هذه العظة، على امتداد فصولها، توصيفًا دقيقًا ليسوع المسيح النّاصري، إذ ما من أحدٍ غيره تَمَكَّن من عيش التطويبات وتحقيقها في حياته الأرضيّة.

في إنجيل متّى، تِسع تطويبات: ثمانٍ منها في صيغة الماضي، أمّا الأخيرة فهي بِصيغة الحاضر، إذ إنَّ الربّ وجِّهها تحديدًا إلى تلاميذه. إنَّ كلّ تطويبة تُقسَم إلى قِسمَين: القسم الأوّل:"طوبى للـ..."، أمّا القِسم الثاني، فــ"لأنّ لهم..."، وإنْ جَمَعْنا القسم الثاني من كلّ التطويبات لَوَجَدْنا أنّها صلاة الأبانا مع اختلاف في التعابير: "ملكوت السماوات، يُشبَعون، يُرحَمون،..."؛ والتطويبة الأخيرة تُشكِّل الطِلبة الأخيرة مِن صلاة الأبانا "لا تُدخِلْنا في التَّجربة". إذًا، إنّ التطويبات على الجبل تتمحوَر حول صلاة الأبانا، وهي تُشكّل إحدى الرَّسائل الّتي يصبو إليها الإنجيليّ. لقد مهّد الإنجيليّ متّى الطريق أمام الشّعب، فحَضَّرهم وهيَّأهم مِن خلال التَّطويبات على الجبل، لِقُبول صلاة الأبانا. لقد أراد الإنجيليّ متّى أن يُفهِم الشَّعب أنّ الله السّاكن في السّماوات هو أبوهم، لذا عليهم أن يتكلّموا معه أي أن يُصلّوا له، كما يتكلّم الابن مع أبيه. في كلّ الاحتفالات الدِّينيّة الكُبرى كالشَّعانين مثلاً، يفتقدني أبنائي إذ إنّهم لا يشعرون بوجودي قربهم كما هي حال جميع الأبناء مع آباهم، كوني أنا خادم الرعيّة. إنّ هذا الأمر أثار غيظ ابني الصّغير، فاضطررتُ أن أشرح له الأمر، مُهدِّئًا سُخطَه عليّ، فقلتُ له: إنّ كلّ النّاس يدعونني "أبونا"، غير أنّه لا يحقّ لأيٍّ منهم سِواك مناداتي بـ "بابا". إنّ كلمة "بابا" تُعبِّر عن حميميّة العلاقة الأبويّة البَنَويّة الّتي لا يحقّ لأحد التّدخل فيها. إنّ يسوع المسيح هو الوحيد الّذي يحقّ له أن يصرخ لله الآب قائلاً له: "أبَّا، أيّها الآب"، نظرًا لتلك العلاقة الأبويّة البَنويّة الّتي تجمعهما. لكنّ يسوع دعا جميع المؤمِنِين به إلى الصُّراخ إلى الله الآب، مُستخدِمِين صَرخته الخاصّة لأبيه "أبّا". وبالتّالي عندما نصرخ إلى الله قائلين: "أبَّا، أيُّها الآب"، فإنّنا بهذا الفِعل نُعلِن عن قبولِنا أن نكون أبناءً لله على مثال يسوع المسيح الابن. إنّ تلك الصرخة "أبَّا" الّتي يصرخها المؤمِن لله الآب، تجعله يشعر بانتمائه إلى عائلة الآب، إذ مَن يصرخ تلك الصَّرخة هو حتمًا مِن أهل البيت، إنّه ابنٌ في هذا المنزل، لا عبدٌ ولا خادِمٌ فيه، وبالتّالي له الحقّ بميراث أبيه، الّذي هو الملكوت السماويّ. هذه هي البشرى السّارة الّتي أعلنها الربّ يسوع للبشر أجمعين بِتَجَسُّده على هذه الأرض، وهي: أنّ جميع البشر قد تحرّروا مِنَ العبوديّة وقد أصبحوا أبناءَ الله الأحبّاء، ولذا يستطيعون مع الربّ يسوع أن يصرخوا إلى الله الآب صرخةً واحدة قائلين: "أبانا". إنّ هذه البشرى الّـتي نقلها إلينا الإنجيليّ متّى، يُذكِّرنا بها أيضًا القدِّيس بولس الرّسول في إحدى رسائله، قائلاً لنا إنّنا قد نلنا روح التبنيّ بيسوع المسيح، ولذا يحقّ لنا أن ندعو الله ونصرخ له: "أبَّا"، بفضل روح الله الّذي أُفيضَ علينا.
في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، على اختلاف اللِّيتورجيّات الطقسيّة الكَنَسيّة، نتلو صلاة الأبانا قَبْل التقرّب من المناولة الإلهيّة أي قبل الجلوس على مائدة الله ومشاركته الطّعام اعترافًا منّا أنّنا أبناء الله الواحد، إذ لا يحقّ للعبيد أو الخدّام أن يشاركوا الآب مائدته، فالمائدة تُعَدّ للعائلة، أي للآب ولأبنائه حصرًا دون العبيد. في الذبيحة الإلهيّة، بحسب الطقس الشرقيّ، يدعو الكاهن المؤمِنِين إلى تلاوة صلاة الأبانا، قائلاً: "أهِّلنا أيّها السيِّد أن نتجاسر وندعوك أبَّا، مُصلِّين صلاة الأبانا". إنّ كلمة "نتجاسر" تعني نتجرّأ، وبالتّالي فإنّ الكاهن يطلب من الله أن يُعطي المؤمِنِين به الجُرأة كي يتمكَّنوا مِن مناداته "أبانا". ما مِن أحدٍ في البشر يستحقّ أن يُدعى ابنًا لله سوى يسوع المسيح، الّذي لولاه لما حَصلنا على نعمة البُنوّة لله بالتبنِّي. إذًا، نحن أبناءٌ لله بفضل رحمته العظيمة الّتي أفاضها علينا بواسطة يسوع المسيح ابنه، وبقرارٍ حُرٍّ من الآب، يُعبِّر فيه عن حُبِّه اللّامتناهي لنا. في كلّ ذبيحة إلهيّة وفي كلّ عملٍ طقسيّ، لا غنى لنا عن صلاة الأبانا، إذ إنّ كلّ عمل طقسيّ يُعبِّر عن شراكتنا مع الآب في وليمته السماويّة ووَحدَتنا معه. في رتبة الإكليل المقدَّس، بحسب الطّقس الشرقيّ، يتمّ تلاوةُ صلاة الأبانا قبل أن يشرب العروسَان من الكأس المقدَّسة. إذًا، إنّ العظة على الجبل هي تمهيد لإعلان صلاة الأبانا، الّتي كَشَف فيها الربّ يسوع للشَّعب المؤمن أنّ الله هو أبوهم وأنّهم أبناءٌ له بيسوع المسيح، وأنّ الله الآب يدعوهم جميعًا لمشاركته الوليمة في المنزل الأبويّ ألا وهو الملكوت.

إنّ التطويبة الأولى الّتي قالها يسوع للتّلاميذ هي: "طوبى للفقراء بالرّوح، فإنَّ لهم ملكوت السّماوات". هذه التطويبة تعني أنَّ مَن لا يملك سوى لله ضمانةً لحياته، سينال الملكوت حتمًا، ولن يكون بحاجة إلى أيّ شيء آخر. ليس المقصود بكلمة "الفقراء"، المساكين أو البُسطاء أو ما شابه، إنّما المقصود بها الفقراء دون سواهم، أي أولئك الّذين لا يملكون أيَّة ضمانةٍ ماديّة بشريّة تُخوِّلهم تأمينَ معيشتهم ليومِ غَد، ولذا هم ينتظرون رحمة الربّ ونِعَمَه للاستمرار في هذه الحياة. بالنسبة إلى الفقير، إنّ كلّ يوم هو نِعمةٌ له مِن عند الربّ، إذ إنَّه لا يزال في الحياة، فالربُّ قد أمّن له من الطّعام ما يكفيه ليستمِرَّ في العيش، أمّا مصير الغَد فهو بالنسبة إليه بِيَدِ الله، الّذي إنْ لم يرزق هؤلاء الفقراء الطّعام، سيكون الموت الجسديّ مصيرهم الـمُحتَّم. إذًا، من خلال هذه التطويبة، يريد الربّ أن يقول لنا: مغبوطٌ هو الإنسان الّذي لا يملك أيّ ضمانٍ لغَدِه، وقد قرّر أن يضع نفسه في كنفِ الرّوح، لأنّه على ثقة كاملة بأنّ روح الله سيهتمّ في كلّ يوم بتأمين كلّ ما يحتاجه هذا الإنسان للاستمرار في الحياة. هذه التطويبة تدفَعُنا إلى استذكار مسيرة الشَّعب اليهوديّ طوال أربعين سنةً، في الصحراء حيث لا حياة، وكيفيّة اهتمام الله به: فالله كان يضمن للشعب غَدَه، من خلال الـمَنّ والسلوى اللّذين كان يُرسلهما إليه في الصّحراء في كلّ يومٍ. إذًا، لقد اهتّم الله بشعبه، حين كان هذا الأخير في الصّحراء، إذ قد أخذ الله على مسؤوليّته الحفاظ على حياة الشَّعب. إذًا، مَن يتَّكل على الله، لا يجب أن يُفكِّر في الغَد، لأنّ الله سيهتّم بالتأكيد بِمستقبل هذا الإنسان، وسيُؤمِّن له كلّ ما يحتاجه. لقد اعتقد بعض أفراد هذا الشَّعب اليهوديّ أنّهم قادِرون على تأمين معيشتهم في الصّحراء مِن دون الحاجة إلى الله، لذا كانوا يُخبِّئون كميّات مِن الـمَنّ والسّلوى لليوم التّالي، غير أنّها كانت تَفسُد وتصبح غير صالحة للأكل. إذًا، إنَّ الإنسان الّذي لا يثق بالله وبقدرته على الاعتناء به، سيكون كلّ مجهود يقوم به باطلاً وفاسِدًا. تأتي هذه التطويبة في إنجيل متّى لتُذكِّر الإنسان أنّ الله هو الوحيد القادر على الاعتناء بمستقبله. إنَّ الله ليس قادرًا على تأمين المستقبل الأرضيّ للإنسان وحَسب، إنّما هو قادر كذلك على تأمين مستقبله السماويّ، أي الملكوت.

إنَّ كلمة "فقراء بالرّوح" أو "مساكين بالرّوح" لا تعني أبدًا البُسطاء، أصحاب القلوب الطيّبة، بدليل تطويبات في النّص تختصُّ بأنقياء القلوب، وبالودعاء، وبالسّاعين إلى السّلام، وبالتّالي فإنّ كلّ تطويبة تتوجّه إلى فئة مُعيّنة من النّاس. إنّ كلمة "فقراء" تشمل كلّ إنسان يحتاج إلى الآخَر كي يؤمِّن له حاجته ليتمكّن من الاستمرار في العيش لأنّه غير قادر على تلبية حاجته وحده. غير أنَّ كلّ إنسان يُعاني من حاجةٍ معيّنة ضروريّة بالنسبة له كي يستمِرّ في الحياة، ولذا فإنّ هذه التطويبة تطال الجميع. إنّ المريض، مثلاً، يحتاج في كلِّ يومٍ إلى أن تُؤمَّن له كفايته من الأدوية، كي يتمكّن مِنَ الاستمرار في الحياة. إنّ كلّ فقير يعيش في قلقٍ وَهَمٍّ لتأمين مستقبله. ولا يُقصَد أبدًا بالفقير ذاك الـمُحتاج فقط إلى المال، إذ قد تتنوَّع الحاجة عند الإنسان، فالإنسان قد يحتاج إلى الفرح والطمأنينة والسّلام والرَّاحة النفسيّة، أكثر مِن حاجته إلى المال. إنَّ الربّ يسوع يدعونا إلى إلقاء كلّ همومنا عليه، لأنّه الوحيد القادر على تأمين كلّ احتياجاتنا. غير أنّ إلقاء كلّ همِّنا على الربّ لا يعني أبدًا التكاسل، وعدم القيام بأيّ عملٍ في سبيل تأمين احتياجاتنا، إذ ليس الفقير مَن لا يرغب بالعمل، إنّما الفقير هو مَن لا يستطيع تلبية كافة احتياجاته الضروريّة وحده. لا أحد سوى الله، يستطيع أن يعلم إن كان الإنسان يُعاني من فَقرٍ حقيقيّ ناتجٍ عن عدم مقدِرته على تلبية حاجاته، أم أنَّ فقرَه ناتجٌ عن تكاسُلٍ مِن قِبَله. لا يحقّ لأيّ إنسان يرغب في المساعدة، أن يُضيِّع وقته في تحليل الآخَر ومدى مِصداقيّته في الحاجة الّتي يطلبها. إنّ الله سيُحاسبُ كلّ إنسان على عدم وقوفه إلى جانب مَن يُحيطون به، وعدم إسراعه في مساعدتهم. لذا على كلّ مؤمِن أن يُساعد كلّ إنسان مُحتاج يَضَعُه الله أمامه، فيُعبِّر له عن محبّته، من دون الوقوع في فخّ تحليل مدى مِصداقيّة هذا الإنسان في حاجته.
إنّ كلمة "فقراء" هي كلمة عِبريّة الأصل، وتعني "عناويم"، وقد تمّ استخدامها بوَفرة في سفر المزامير. إنّ الفقير في العهد القديم، هو الإنسان الّذي لديه ملء القناعة والإيمان أنَّ لا أحد قادرٌ على تلبية حاجته للاستمرار في الحياة، إلّا الله وحده. يقول أحد آباء الكنيسة إنّه على المؤمن أن يُصّلي المزامير بذهنيّة الإنسان الفقير، فيلجأ إلى الله طالبًا منه كلّ ما يحتاجه للاستمرار في الحياة. إنّ المزامير الّتي نجد فيها وفرة في استعمال كلمة "فقير"، قد نُسِبَت إلى داود الـمَلِك. إنَّ هذا الأمر يدعونا إلى الاستغراب، إذ كيف يُمكِن لِـمَلِكٍ يملكُ ثرواتٍ هائلة أن يُصلِّي إلى الله ويتضرّع إليه بذهنيّة إنسانٍ فقير؟ بعد خطيئته العظيمة، صلّى الـمَلِكُ داود بذهنيّة الإنسان الفقير، سائلاً الله أن يغفر له، فعبَّر عن توبته قائلاً: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك"، ولذا نُسِبَت المزامير كلُّها إلى الـمَلِك داود. في العهد القديم، كانت تقتضي العادة بأن يترأس الأعلى شأنًا بين الحاضرين الصّلاة باسم الشَّعب، لذا نُسِبَت المزامير إلى داود، لأنّه الأعلى شأنًا في مملكته.
في التطويبة الثانية: طوبى للحزانى، فإنّهم سوف يُعَزَّون. إنّ كلمة "يُعزَّون" في اللّغة اليونانيّة، تدّل على المستقبل. إنّ الله صادِقٌ في مواعيده مع الإنسان، ولذا لا يجب أن يتساءل المؤمن عن زمن تَحقيق الله لها، من باب الشَّك، إنّما من باب شوقِه للقاء الربّ. إنّ الله قد وعدنا بالملكوت، والملكوت ليس مكانًا نَصِلُ إليه في المستقبل، إنّما هو حالة يبدأ المؤمن بعيشها منذ اليوم ويتابع عيشه لها بعد انتقاله من هذه الفانية. يتحقَّق الملكوت، في داخل كلّ إنسان فقير، حين يُدرِك أنّ لا أحد سوى الله قادرٌ على تلبية كلّ حاجاته. إنّ كلمة "حزانى" تعني كلّ المحزونين جرّاء فقدانهم أعزّاء لهم، ولكنّها تعني أيضًا كلّ إنسان على وَشك فُقدانِ رجائه بالله. إنّ فقدان الرّجاء بالله هو مدعاة حُزنٍ إذ ينزَع كلّ فرحٍ من قلب الإنسان. هناك أسبابٌ عديدةٌ قد تؤدي بالإنسان إلى أن يفقد رجاءه بالله كالمرَض أو الحزن أو الفقر. في هذه العظة، يقول لنا الربّ يسوع: مغبوطٌ هو الإنسان الّذي وَضَعَ في الله تعزيَته، لأنّه سينالها حتمًا.

طوبى للودعاء، لأنّهم يرثون الأرض. إنّ الربّ لم يطلب من أَتْباعه أن يتشبَّهوا به إلّا في وداعته وتواضعه. يصعب علينا تحديد مفهوم الوداعة إذ إنّها تتَّخذ أوجهًا عدّة وصُوَرًا مُختَلِفة. وقد نجد إحدى صُوَر الوداعة، في الأطفال دون السَّنتَين، غير القادِرين على اتِّخاذ القرارات بأنفسهم، والّذين يجدون الأمان والرَّاحة الكبرى، عندما يكونون في أحضان أهلِهم. وحين يبتعد عنهم والِداهم، يبدأون بالصُّراخ والبكاء تعبيرًا منهم عن شعورهم بالخوف وعدم الأمان. إذًا، بالنسبة إلى مفهوم يسوع، الإنسان الوديع هو ذاك الإنسان الّذي لا يتحمّل الابتعاد عن الله، أبيه السّماوي. إنّ هذا الإنسان سَيَرِث الأرض، حسب قول الربّ يسوع. في العهد القديم، قال الله للشَّعب إنّهم سيَرِثُون الأرض، فاعتقدوا أنّه يتكلَّم عن مساحة جغرافيّة تقع في فلسطين، تُمنَح لهم لإقامة دولة أرضيّة. "أَنْ يرث الإنسان الأرض"، لا تعني أبدًا أنّه سينال مساحة جغرافيّة، إنّما تعني أنّ الله سيُحقِّق ملكوته في هذه الأرض، من خلاله، إذ أنّه سيكون الأرض الصّالحة للملكوت بين البشر. "أن يرث الإنسان الأرض"، لا تَعني أنّه سيعيش على هذه الأرض في أمانٍ وسلام، إنّما يعني أنّ الله سيُظلِّله بِنِعَمِه، فيعيش في هذه الأرض كأنّه في السّماء، تحت رعاية الله. وبالتّالي في هذه التطويبة، نجد تفسيرًا لِما نقوله في صلاة الأبانا:"كما في السّماء كذلك على الأرض"، أي أنّ الأرض والسّماء أصبحتا متشابهتَين، إذ إنَّ الله هو الّذي يحكم في السّماء، وعلى الأرض أيضًا، من خلال هؤلاء الودعاء. وبالتّالي، تصبح عبارة "يرثون الأرض"، عبارةٌ مُرادِفة لعبارة أخرى:"لأنّ لهم ملكوت السّماوات".
إنّ التَّفسير الخاطئ الّذي أعطاه اليهود لتلك التطويبة حول ميراث الأرض، قد تَناقَل عبر الأجيال وتَرَسَّخ في تفكير الكنيسة عبر العصور، لذا اعتبرت الكنيسة أنّ امتلاكها لأراضي الوَقف يؤمِّن لها الاستمراريّة والوجود في هذا العالم. وهذا المفهوم الخاطئ جعل الكنيسة تَتَمَسَّك بأراضي الوَقف وترفض وَضعَها في تَصرُّف كافة المؤمِنِين. إنّ الكنيسة لا تستمِّد استمراريّاتها من ممتلكاتها، إنّما مِن إيمانها بالله الّذي يهتَمّ بكلّ احتياجاتها. إنّ الأوقاف الكنسيّة هي عبارة عن أراضٍ ذات مُلكٍ خاص، وهَبَها أصحابها للكنيسة، تعبيرًا عن حبِّهم لله، لكي تكون مُلكًا عامًّا لجميع المؤمِنِين. إنّ الكنيسة لا تقتصر على الإدارة بل إنّها تشمل جميع المؤمِنِين، إكليروسًا وعلمانيّين. وبالتّالي، إنّ الكنيسة ليست حِكرًا على أحد إنّما هي تخصّ جميع المؤمِنِين، وما يُسمّى ممتلكات الكنيسة إنّما هو لاستعمال الجميع فيها، لا لأشخاصٍ مُحدَّدِين، لأنّ الكنيسة هي مُلكٌ عام لا مُلكٌ خاصّ. غير أنّ بعض المسؤولِين في الكنيسة يعتبرون أن أراضي الوَقف هي مُلكٌ لله، لذا حوّلوها إلى مُلكيّة خاصّة بإدارة رؤساء الكنيسة، فيقولون إنّ هذه الأراضي هي أراضي وَقْفٍ خاصّة بكنيسة مار الياس على سبيل المثال، أي أنّه يُمنَع على أحد الاقتراب منها أو استعمالها، لأنّها تخصّ الله. وهنا يكمن الخطأ في مفهوم الكنيسة لأراضي الوقف، إذ إنّ هذه الأراضي قد أرادها الّذين وَهَبوها للكنيسة أن تتحوّل إلى مُلكٍ عامٍّ لا إلى مُلكٍ خاصٍّ ببعض المسؤولِين في الكنيسة. إنَّ اليهود أيضًا في العهد القديم، قد عاشوا هذا المفهوم الخاطئ، إذ عندما أشار لهم الله إلى مكانٍ مُحدَّد لعبادته فيه، كرّسوا هذا المكان له. إنَّ اليهود قد جعلوا مِن هذا المكان أرضًا مُقدَّسة، وقد منعوا غير اليهود من الدّخول إليه، وقد وضعوا هذا المكان تحت إدارتهم مانِعِين الله من التدّخل في شؤون إدارة الهيكل. عند رؤية الله لتصرّفات اليهود، قام بهجر الهيكل، وهذا ما يُبرِّر سبب دمار الهيكل، وتهجير الشَّعب اليهوديّ مِن أرضه، وشتاتهم في العالم. إذًا، لم يعد الهيكل، أي الممتلكات الخاصّة بالشَّعب اليهوديّ، ضمانة لهم، حين تَخَلّوا عن الله. في زمن سيطرة الشيوعيّة على الحُكم من روسيا، تمّ تجريد الكنيسة من كلّ ممتلكاتها، غير أنّ الكنيسة لم تندثر في هذا البلد على الرّغم من كلّ الاضطهادات، بل فاحت من أرضها القداسة بسبب مؤمِنِين فيها يُدرِكون حقيقة أنّ الله هو الضمانة الوحيدة لهم، لا الممتلكات.
إنّ الذهنيّة المبنيّة على فَهمٍ خاطئ لعبارة ميراث الأرض، ما زالت مستمِّرة إلى يومنا هذا، لذا نجد مثلاً كاهنًا لا يسمح بإعطاء أحد المؤمِنِين القليل من البخور أو الشَّمع الموجود في الكنيسة من دون قيام المؤمن بالتبرُّع الماديّ للكنيسة، إذ في اعتقاد الكاهن أنّ هذه التبّرعات هي الّتي سَتُخوِّله شراء المزيد من هذه الأمور الخاصّة بالكنيسة عند نفاذِها. إذًا، إنّ الخوف على المصير لا يُرافق المؤمِنِين فقط، إنّما أيضًا رعاة الكنيسة، إذ فَقَد بعض الرّعاة قُدرَتَـهم على عيش الفَقر بالرّوح. إنّ اهتمام الإنسان بأمر الغَد يدفعه إلى التصرُّف بالأمور الماديّة بكلِّ تأنٍ وحِرصٍ خوفًا من عدم قُدرَته على شرائها من جديد، وهذا ما يجعله يعيش في حالة من الاضطراب والخوف على غَدِه. إنّ الأرض الّتي يتكلّم عنها الربّ في هذه التطويبة هي تلك الأرض الّتي تقف فيها لعبادة الله. "أن ترث تلك الأرض"، تعني أنّ يُصبح الإنسان حُرًّا في عبادته لله الحيّ، أي أنْ يَعبُدَه بقرارٍ حرٍّ داخليّ ينبع من داخِلِ الإنسان. يَسْعى الإنسان الوديع أي المتَّكل دائمًا على الله إلى التخلّي عن كلّ الصِّفات الّتي تُبعِدُه عن الله كالأنانيّة والحَسَد والطّمع. لأنّ الوداعة هي اللّاحسد، اللّاطمع، واللّاأنانيّة.
طوبى للجياع والعطاش إلى البِّر لأنّهم سيُشبَعون. إنّ الجائع والمتعطِّش للبِّر هو كلّ مؤمِّن يرغب في أعماقه أن يتحقّق ملكوت الله فيما بين البشر، أي على هذه الأرض. إنّ المقصود بعبارة "البِّر" هو إرضاء الله. في يوم المعموديّة، حين رفض يوحنّا أن يُعمِّد يسوع على نهر الأردُنّ لأنّ يوحنّا هو المحتاج إلى تلك المعموديّة على يد يسوع، أجابه الربّ قائلاً: "دَعنا الآن، نُتمِّم كلّ بِرّ"، أي فلنَعمَل الآن ما يُرضي الله، مُحقِّقين مشيئته القُدُّوسة. إذًا، مِن خلال هذه التطويبة، يُطَمْئِنُ الربّ يسوع كلّ إنسان يسعى ويجاهد كي يُحقِّق مشيئة الله، أنّه سيحظى في النِّهاية على رِضى الله.
طوبى للرّحماء فإنّهم يُرحَمُون. في هذه التطويبة، يدعونا الربّ يسوع لأنْ نعيش الرّحمة تجاه إخوتنا البشر كي نستحِقَّ أن ننال الرّحمة العُظمى مِنَ الله.
طوبى لأنقياء القلوب، لأنّهم يُعاينون الله. إنّ هذه التطويبة تُظهِر لنا العلاقة الموجودة بين القلب والعَين. وفي موضِعٍ آخر في هذه العظة، يُوضِح لنا الربّ يسوع تلك العلاقة بينهما في قولِه: "إن كانت عينُكَ بسيطة، فجسَدُكَ كُلُّه نيِّرٌ". إذًا، إنّ العَين البسيطة، أي تلك العَين الّتي لا تُحلِّل ولا تَظُنّ السُّوء بالآخَرين، تعكس نقاوةَ وطهارةَ قلب صاحبها. وبالتّالي، فإنَّ يسوع يدعو كلّ مؤمن لأن يجتهد كي تكون عينه بسيطة، فلا يحكم بعدئذٍ على الآخَرين مِن خلال أيّة حادثةٍ يراها أمامه. إنّ التَّجربة هي التصّرف مع الآخَرين، مِن دون الاستناد على تحليلاته الخاصّة لتصرُّفاتهم، والتّي قد تُخطِئ أحيانًا كثيرة. أمّا إذا تَصَرَّفَ الإنسان مع الآخَرين إنطلاقًا من تحليلاته الخاطئة، فإنّه بهذا الفعل يكون قد وقع في الخطيئة. إنّ خطورة الأحكام المسبقة على الآخَرين، تكمن في أنّها تجعل نظرة الإنسان إلى الآخَرين مبنيّة على تلك التحليلات الخاصّة مِن دون الأَخذ في الاعتبار أنّ هذا الإنسان المحكوم عليه، قد يتفاعل مع نعمة الله فيتوب ويُحسِّن مسيرته الحياتيّة، ولذا نجد أنّ هذه الأحكام المسبقة، تُحدِّد طريقة تعاملنا مع الآخَرين. على المؤمن أن يتحاشى الوقوع في فخّ إدانة الآخَرين، لأنّ الآخَر قد يتوب في أيّة لحظة، ولذا لا يجب التعامل معه بشكلٍ دائمٍ إنطلاقًا مِن هفوة قد ارتكبها في الماضي، لأنّه إنْ كان الله قد سامح هذا الإنسان، أيجوز لنا نحن المؤمِنِين الاستمرار في النّظر إليه إنطلاقًا من أخطائه؟ لا يحقّ لأيّ إنسان أن يتعدّى على حقوق الله، فيجلس على عرش الله لِيَدين إخوته البشر. فَمَن أراد الجلوس على عرش الله، لن يتمكّن من معاينة وجه الله لأنّه بهذا الفعل، يكون قد أخذ مكان الله. إنّ أنقياء القلوب هم فقط الّذين سيتمكّنون مِن معاينة وجه الله، بِحَسبِ قول الربّ يسوع.
طوبى لصانعي السّلام، لأنّهم أبناء الله يُدعَون. إنّ صانع السّلام ينتمي بالضرورة إلى عائلة الله. إنّ السّلام لا يعني أبدًا اللّاحرب، إنّما يعني الحبّ، والحبّ هو الله، وبالتّالي فإنَّ مَن يُحبّ، هو مِن أبناء الله، وهو بالتّالي صانع سلام. هذا هو تفسير تلك التطويبة. إنّ فاعل الفِعل "يُدْعَونَ" ليس مجهولاً أبدًا، بل هو معلومٌ تمامًا وهو الله. إنّ صيغة الأفعال المجهولة في الكتاب المقدّس، تُشير إلى أنّ الله هو الفاعل الحقيقيّ لكلّ تلك الأفعال. إنّ الله يفتخر بكلّ إنسان يكون صانعَ سلامٍ، ولذا يَدعُوه ابنًا له. إنّنا نتحوّل إلى سبب سرور الله يوم نسعى إلى صُنعِ السّلام ونشره في محيطِنا. إنّ صناعة السّلام ليس بالأمر السّهل، بل إنّه يتطلّب مجهودًا مِن قِبَل الإنسان. إنّ كلمة سلام، تدّل بالضرورة على وجود شخصين إذ لا يمكننا الكلام عن السّلام إن كان الإنسان وحيدًا. وبالتّالي، فإنَّ مَن يصنع السّلام، هو يجهد إلى بناء ملكوت الله في هذه الأرض، تحضيرًا لملكوت الله في السّماوات.
طوبى للمطرودين من أجل البِّر لأنَّ لهم ملكوت السّماوات. إنّ هذه التطويبة تُخبِرنا عن أنّ الاضطهاد سيكون نصيب كلّ إنسان يسعى إلى إرضاء الله، وهذا ما يُسمّى بالاضطهاد مِن أجل البِّر. ولكن يجدر بنا الإشارة إلى أنّ ليس كلّ إضطهادٍ أو طردٍ يُعاني منه الإنسان هو بالضّرورة في سبيل البِّر، إذ قد يُعاني الإنسان مِن الطرد مِن قِبَل الآخَرين جرّاء تصرّفاته السيئة والمزعجة لا مِن أجل إعلانه كلمة الله والتبشير بها. قد يعتقد البعض، حين يتعرّضون للطرد، أنّهم يُضطَهدون من أجل البِّر غير أنّ سبب ذلك قد يعود إلى تصرّفات المبشِّر وأطباعه السيئة، لذا على المبشِّر أن يسعى إلى أن تكون تصرّفاته لا لوم فيها، كي لا تتعطّل كلمة الله بسببه. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يبشِّر بكلمة الله ويكون تبشيره مثمرًا في نفوس الآخَرين إن لم يحترق من الدّاخل بلَهيبِ تلك الكلمة. إنَّ كلمة الله هي من دون شكّ قادرة على أنْ تصل إلى الآخَرين وأن تُغيِّر فيهم، من دون أيّة مساعدة بشريّة، غير أنّ تصرّفات بعض المبشرين قد تُبَطئ عمليّة وصولها إلى قلوب الآخَرين. إنَّ احتراق المبشِّر بكلمة الله، سيُساهم في إشعالها أيضًا في قلوب الآخَرين فيستنيرون بها، وتدفعهم إلى تغيير مسيرة حياتهم. إذًا، ليس كلّ إنسان مُضطَهد أو مطرود مِن قِبَل الآخَرين، هو حقًّا مطرود ومُضطَهد من أجل البِّر إذ قد تكون تصرّفاته السيئة هي السَّبب في طَردِ الآخَرين له. إنَّ المضطَهد من أجل البِّر هو ذاك الإنسان الّذي يتعرَّض للاضطهاد جرّاء إعلانه للآخَرين الإنجيل.
في الموعظة على الجبل، أعطى القدِّيس متّى بعض التفاصيل حول نوعيّة الاضطهاد من أجل البِّر، حين قال يسوع في تطويبةٍ: "طوبى لكم إذا عيَّروكم واضطهدوكم (طردوكم) وقالوا عنكم كلّ كلمة سوءٍ من أجل اسمي كاذبين، افرحوا وتهلّلوا لأنّ أجرَكم في السّماوات عظيم لأنّه هكذا اضطهدوا الأنبياء مِن قَبلِكم". وبالتّالي، يستطيع المؤمِن أن يستنتج من هذه التطويبة أنّ ليس كلُّ اضطهادٍ يتعرَّض له هو حقًّا اضطهادٌ من أجل البِّر. لقد أشار الإنجيليّ متّى إلى أنَّ هذه التطويبة لا تطال إلّا الأشخاص الّذين يبشِّرون بكلمة الله، وَهُم في الوقت نفسه يتعرَّضون إلى التعيير وكلام السوء، عن غير وجه حقّ. أمّا المبشِّر الّذي يتعرَّض لكلام السوء مِن الآخَرين نتيجة تصرّفاته السيئة، فهذا لن ينال تلك الطوبى. إذًا، إنّ المبشِّر الّذي يتعرَّض للاضطهاد نتيجة إعلانه كلمة الله دون سواها، سينال أجرَه في السّماوات، وهو أجرُ الأنبياء في العهد القديم.
إنّ هذه التطويبات تُعطي نموذجًا عن أبناء الملكوت، وقد تحققَّت كلّ هذه التطويبات في يسوع المسيح. لذا، مَن أراد الحصول على الملكوت، عليه أن يتشبّه بالمسيح، ويطبِّق هذه التطويبات في حياته، فيكون مِسكينًا بالرّوح، نقيّ القلب، وديعًا، وصانع سلام. إنَّ كلّ إنسان يريد الحصول على الملكوت عليه أن يعيش وِفْقَ هذه التطويبات، إذْ لم تعد عَيشها مستحيلاً. إنَّ الملكوت ليس مكانًا يصعب الوصول إليه، إنّما ملكوت الله يتحققّ في داخل كلّ إنسان حين يعيش وَفقَ هذه التطويبات. إنّ كلمة "الملكوت" هي مِن أصل سريانيّ، "ملكوتو"، وتعني المملكة، ولا مملكة من دون ملك. إنّ مهمّة الملك تقوم على الاهتمام بشعبه، وتأمين الحماية له. إنّ الملك هو مَلِكٌ على شعبٍ، وبالتّالي فإنّ هذا الشَّعب يخضع لهذا الملك، ويؤدّي له الطّاعة. إذًا، عندما نتكلَّم عن ملكوت السّماوات، فهذا يعني بكلّ تأكيد أنّ لهذه المملكة السّماويّة شعب ومَلك. في الملكوت السماوي، الملك هو الله، ويتمّيز هذا الملك بأنّه قرّر بإرادةٍ حُرَّة منه قبول الموت فداءً لِشعبه، وبالتّالي بهذا الفعل، يكون قد عكس كلّ القوانين البشريّة السائدة. إنّ المملكة البشريّة تكون عُرضَةً للأخطار وللخراب حين يموت الملك، لأنّ الّذي كان يحميها ويدافع عنها قد مات. لذا، لا تُعلِن الممالِك موت مَلِكها إلّا بعد أن يتمّ تعيين مَلك آخر وإعلان اسم الـمَلِك الجديد، وهذا ما يُبرِّر عدم استعمال هتافات شعبيّة مثل "مات الملك"، إنّما "عاش الملك". إذًا، أهميّة المملكة تتعلَّق بوجودِ مَلِكٍ عليها، ولذا نقرأ في سفر المزامير: "الربّ قد مَلَك والجمالَ قد لَبِسَ". إنّ المزمور لا يقول أنَّ الربّ سيملك في المستقبل، بل مَلَك، إذ لا يمكن أن تثبت مملكة بغباب ملِكِها، وبالتّالي هناك إشارة إلى أنّ ملكيّة الربّ هي دائمة وأبديّة. على الملك الّذي يريد أن يستمِّر مُلكُه، أن ينتصر على الأعداء وأن يعيد الأمان إلى مملكته. هذا هو الملكوت: انتصار الربّ على عدّوه، وإعادة الحياة إلى المؤمِنِين به. إذًا، كلّ من يريد الملكوت، عليه أن يتّخذ مِن الله مَلِكًا، وأن يسعى إلى أن ينال حُظوةً في عينيّ الله، حين يُطبِّق ما أوصانا به.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
25/2/2014 سِفر الحكمة - الإصحاح الأوّل الأدب الإرشادي
https://youtu.be/i8mKtS7jA5A

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
سِفر الحكمة
الإصحاح الأول
الأب ابراهيم سعد

18/3/2014

المزامير: هي من ضمن عائلة كبيرة ممّا يُسمّى الأدب الحِكَميّ في الكتاب المقدس. هناك الكتب الموسَويّة أيّ التّكوين والخروج، ثمّ كُتب الأنبياء، ثمّ الكتب الحِكَميّة مثل كتاب الأمثال، كتاب سفر الجامعة، كتاب المزامير، كتاب نشيد الأنشاد، وكتاب سفر الحكمة. تُدعى هذه الكتب الأدب الحِكَميّ لأنه يتميّز بالطّابع الحِكَميّ والإرشاديّ، نجد فيه وصايا نتيجة خبرات أشخاص استخلصوا من الحياة الجوهر وأعطوه لأولادهم أو لتلاميذهم أو لمجتمعهم. وقد اطَّلعنا على بعض المزامير وسنتطّلع على القسم الثّاني من الأدب الحِكميّ: مقطع من سفر الحِكمة، مقطع من سفر الأمثال، مقطع من نشيد الأنشاد الّذي لا يتآلف معه النّاس لأنّه قصيدة غزل إباحيّ بين حبيبَيْن، ويتضمّن تعابير مُرتبطة بالجسد إلى حدّ أنّ بعض مُفسّري الكتاب المُقدّس ينصحون المؤمنين بعدم قراءة كتاب نشيد الأنشاد. من المهمّ أن تطلّعوا عليه إذ إنّه موجود في الكتاب المُقدّس ويتضمّن هدفاً مُختلفاً عن القراءة السّطحيّة للأمور. فعندما يقول "نهداكِ" علينا أن نفهم هذه الكلمة بمعناها الاستعاريّ. لقد أثار جدلاً لدى النّاس: هل هو حوارٌ غزليّ بين حبيبٍ وحَبيبته؟ أم هو حوار بين الله وشعبه؟ والله يَستعمل شَعبه كأنه حبيبته على الرّغمِ من لونها الأسود (تقول: "أنا سوداء لكنني جميلة") أم هو خطاب بين النّفس البشريّة والله؟ هناك جدالات أخرى عديدة حول كتاب نشيد الأنشاد. فقديماً، في الكنيسة الأولى، كان هناك خلاف حول إدراجه في الكتاب المُقدّس أو عدم إدراجه. ما يهّمني في هذا الموضوع هو أن ندخل إلى الكتاب المُقدّس في زواياه كلّها لأنّها بمجموعها أساسيّة فهو ما يراه الكاتب من علاقة بين الله وبينك أو كيف تسمع كلمة الله، تحفظها وتُطيعها أو كيف ترفضها. أغلبيّة النّاس لا تُحبّذ العهد القديم لأنّهم يرَون فيه تاريخ الشّعب اليهوديّ ولكن فعليّاً هو تاريخ كلمة الله على الشّعب اليهوديّ.

نحن في صراعٍ دائمٍ بين ما نؤمن به وما نفعله.
وبما أنّنا نقترب من زمن الصّوم، يجب أن تعيشوا مفهوم الصّوم ذهنياً وقلبيّاً حتى لو لم تصوموا جَسديّاً. والصوم هو إحساسٌ واضحٌ بمفهوم الالتزام بمسيرة الإنجيل التي نعيشها معاً كمجموعة. فتتحرّرون من عادات وتقاليد تُسبّب ابتعادكم عن الصّوم. ليس الصّوم حالة مشاركة المسيح في آلامه وفي موته فيتبدّد مفهوم الصّوم، ولكن هي مشاركته بقيامته. عندما تدعو أحدهم إلى مأدبة، يُشاركك في الطّعام وليس في دفع ثمنه، فتُصبحان حالةً واحدةً. فالمسيح هو الّذي تعب وأنت مدعوٌّ إلى مشاركته بقيامته. ونقوم بمشاركة المسيح في قيامته بإحياء شخصٍ ميْتٍ، لذلك المرمى الأساسيّ للصّوم هو الإنسان الآخر، هو الاهتمام بالّذين لا خبز لهم والاهتمام بإطعامهم. وتكمُن خطورة الصّوم في الاعتقاد بأننا نشارك المسيح في آلامه وموته. فتتّجهون للإماتة ولكن لا يوجد في الصّوم ما يُسمى بالإِماتة. إذا اعتبرتَ أنّ الإماتة هي محاربة أمرٍ ما فعليك أن تقوم بها طوال حياتك. الأمر الوحيد الذي عليك القيام بإماتته هو خطاياك.
أمّا مشاركة المسيح في قيامته في بداية الصّوم تكمن في أن نجعل الصوم يحملُ، في المرتبةِ الأولى، طابِعَ الفرح أيّ زَرع فرح العطاء وتوعية مفهوم الحُبّ الإلهّي الّذي نعيشه. الصّوم هو مساعدة الآخر المحتاج وستفرحون بعطائكم أكثر من المحتاج، فتكسر خبزك للجائع، كما يقول الكتاب المُقدّس. إذا أردنا إعادة قراءتنا لمفهوم الصّوم - حتّى وإن كنتُ مُتطرّفاً بما سأقوله- لا يحملُ الصّوم هدفاً مُختلفاً عن الإنسان الآخر. فالصّوم يتعلّق بك أي أنت تُعالج نفسَكَ بالصوم. هو موسم الفرح، يُسمّى الفصح بموسم المواسم والدّليل على ذلك أنّ الصّوم الأهمّ هو الصّوم المُرتبط بالفصح، فهو ينتهي بأحد الفصح وليس بأسبوع الآلام كما يعتقد البعض. أنت تُشارك في فصح المسيح، في قيامة المسيح. لا ينتهي صومك بالفصح بل يبدأ بالقيامة ويتحقّق "بالمسيح قام". إذا لم تجعلوا الصّوم حياكةً مع الفصح، تكونوا قد دخلتم في موضوع آخر، أي في معتقد آخر من أجل التّكفير عن الخطايا، وخاصةً في ما يتعلّق بالطّعام. لا تُساعدوا عائلةً مُحتاجةً في نهاية الصّوم ولكن ساعدوها بشكلٍ يوميّ. الإحساس اليوميّ بأنّ الآخر يشترك معك بفرح الفصح، فأنت لا تُطعمه ولكن تُشاركه بالفرح. المسألة مُرتبطة بكيفيّة مشاركة النّاس بفرحها وحزنها لأنّ كلّ شيء تعطيه يمكنك أن تحصل عليه من جديد، إلّا الوقت.

تغيّر مفهوم المشاركة بسبب تغيّر الإنسان وليس الزّمن والأيّام. أنت لا تنقطع عن الطّعام لكي تُطعم الفقير ولكن بسبب رغبتك في جعله يُشاركك فرحك فينسى حزنه لمدّة من الزّمن. فالموضوع، هنا، هو الفقير وليس الطّعام أو المال. كما أقول أنا: "إذا انفتح قلبك انفتح كفّك". إذا فكّرتم، ذهنيّاً بهذه النّاحية في الصّوم، ستعيشون هذا الفرح وإن لم تصوموا فيكون هذا دافعاً لليقظة الرّوحيّة لديكم فتنتبهون إلى بعض الأمور الغائبة عن تفكيركم.

أنتم لستم كسائر الشّعوب لأنّ إلهكم قرّر أن يكون إنساناً كي تنظروا إليه وتروا فيه الإنسان لذلك صار يسوع إنساناً، ولذلك عندما قام، ظهر بصورة بُستانيّ أو غريبٍ. إذاً أنت تختبر القيامة بالبُستانيّ، بصورة الفقير أو بالغريب الّذي تلتقي به في الطّريق. يبدأ الصّوم بمشاركة المسيح بقيامته لا بموته.

الحِكمة هي أن ترى بعيْنَيْ الله، وإلّا أصبحتَ ترى بعيْنيْكَ أو بعيْنيَّ؛ كاف المخاطب هي دليل على إدانة الآخر وياء المتكلّم هي دليل على الكبرياء والأنانيّة.
سفر الحكمة، الآية الأولى: "أحِبّوا البِرّ يا أيّها الّذين يَحكمونَ الأرض وفكّروا في الرّب تفكيراً صالحاً، والتمسوه أيّ اتبعوه. بصفاءِ قلوبكم؛ لا بذكاء العقل فالقلب يعرف الطّريق بشكلٍ أسرع من العقل. لأنه يكشفُ نَفسَهُ للّذين لا يجرّبونَهُ، و يتجلّى للّذين لا يكفُرونَ بِهِ؛ أي يقطعون العلاقة مع الله. فإنّ الأفكارَ المِعوَجّة تُبعد عن الله؛ فيُصبح همّك غير همّ أن يكون الله راضٍ ولكن أن تكون أنتَ راضياً أو أحدٌ آخر راضياً. والقُدرة إذا امتُحِنَت تُخذي الأغبياء، إنّ الحِكمةً لا تدخل النّفس السّاعية إلى الشّرّ ولا تسكنُ الجسدَ المَدين للخطيئة. فإن الرّوح القدس المُؤَدّب يَهربُ مِن الخِداع ويبتعد عن الأفكار الغبيّة. إنّ الحكمة روحٌ يحبّ الإنسان؛ أي جعلَ من الحِكمة شخصاً وهي روح الله كي يقولوا بأنّ الله يُمكنه أن يكون على الأرض وفي السّماء في الوقت نفسه فجعلوا الحِكمة بين النّاس فيقولون: "تمشي في الطّرقات، في الأسواق والأزقّة". فلا يُهمل مُعاقبة المُجذّف على أقوالِ فَمه لأنّ الله شاهدٌ لِكِليَتَيْه؛ أي أنّ الرّب يَعلمُ أفكارنا كلّها. ويقول يسوع أنّ الخطايا كلّها تُغفر إلّا التّجذيف والمُجذّف هو الّذي اختَبر تدخّل الله وحضوره في حياته ولكنّه يرفُضُه و يُكذّبُه)، ورقيبٌ صادقٌ لقلبهِ والله سامعٌ للسانهِ؛ أيّ أنّ الرّب يسمعُ حتّى أفكارنا، إنّ الله مالئ المسكونة. والذّي بِه يتماسُك كل شيء لهُ عِلمٌ بِكلّ كلمة، فلذلك لا يخفى عليهِ ناطقٌ بسوء ولا ينجو من العدل المُتّهِم، سَيُحَقّقُ في نيات الكافِر، وصوت أقواله يبلغ إلى الرّب برهاناً على آثامهِ؛ يقول المسيح: "من فضلة القلب يتكلم اللّسان" أي أنّ ما تنطق به ما هو إلا انعكاسٌ لِوضعك الدّاخليّ. اللّسان يكشف خفاياك لذلك الله رحمك وخلقك بلسانٍ واحدٍ ولا أحد يستطيع الكذب لأنّ الرّبّ رقيبٌ صادقٌ على قلبه. لأن الأٌذُنَ الغيرَ تسمع كلّ شيءٍ وضجيج التّذمّرات لا يَخفى عليها، فاحذروا من التّذمّر الّذي لا خيرَ فيه؛ أيّ أنّ الذي يتذمّر كثيراً سيُعاني من المشكلات الدائمة بسبب تفكيرهِ السّلبي: "كُنْ جميلاً ترَ الوجود جميلَ". وكُفّوا ألسنتكم عن النّميمة؛ أي ابدأ، منذ بداية صومك، بأن تكون حكيماً وراقِب نفسك وكلماتك وظنونك فستكتشف أنّك إذا كنتَ غارقاً بهذه الأمور لن تعرف فرح القيامة. لأنّ الكَلمة الّتي تُقال في الخِفية لا تذهب سُدىً؛ أيّ أنّ الكلمة السّيئة ستُؤذي أحدهم حتّى لو لم يَسمعها أحد، والكلمة الجميلة حتّى لو لم يسمعها أحد لا تذهب سُدىً)، والفم الكاذب يَقتل النّفس؛ لأنّ للكذب نتائج سلبيّة على النّفس البشريّة. مَن يكذب يصبح عاجزاً عن تصديق غيره، فالكذب هو الوهم. لا تسعوا إلى الموت بتضليل حياتكم ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أيديكم، لأنّ الله لم يصنع الموت ولا يُسَرُّ بهلاك الأحياء، فإنّه خلق كلّ شيء لكي يكون، و إنّ خلائِقَ العالم مفيدةٌ و ليس فيها سمٌّ مُهلِك. و لا مُلك لمثوى الأموات على الأرض لأن البِرّ خالدٌ؛ إنّ الإنسان هو نفسه سبب تعاسته لأنه اتّبع الغباء والحماقة. بولس الرّسول قال لأهل غلاطية: "أيّها الغلاطيّون الأغبياء، من رقاقم حتّى تحيدوا عن الإنجيل الصّحيح؟" إذاً الغباء هو في الابتعاد عن كلمة الله أو بالاعتقاد بوجود نبع آخر لها وحياةٍ أخرى في مكانٍ آخر. تكمن خطورة الوهم في سرعة تصديقه وصعوبة الحقيقة في بطء تصديقها ولكن إذا صدّقتَ الوهم سوف تقع وإذا صدّقتَ الحقيقة ولو بعد حين سوف تقوم. في الأحد الّذي يسبق بداية الصّوم، يُقرأ مقطع الغفران أي أنّك في الفصح سوف تفرح لأنّ يسوع قد غفر لك خطاياك.

ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة من قبلنا بتصر تتمة...
11/3/2014 العهد القديم - نشيد الأنشاد من الكتب الحكميّة
https://youtu.be/-uoa39MgTI8

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
نشيد الأنشاد
الأب ابراهيم سعد

11/3/2014

اليوم، سنتنزّه في حديقة نشيد الأنشاد لِنُدخلَكم في جوِّ الكتاب الرُّومنسيِّ. هو ديوان غزلٍ مجهول المصدر ولكن موجود في قانون الكتاب المقدَّس، في مجموعةٍ تُسمَّى الكُتُب الحِكَميّة أو الأدب الحِكميّ ولكن النّاس يجدون فيها صعوبةً لأنّهم لا يجدون فيها حواراً مباشراً بين الله وشعبه. هو شعرٌ يجري بين حبيبَيْن. في الأدب الرّهبانيِّ خاصّةً، يعتبرون هذا الكتاب كحوارٍ بين الله والنّفس البشريّة أو العكس بمعنى أن تصِلَ العلاقة بين الإنسان والله إلى هذا المستوى من الحبّ، وأن يُسلِّمَ الإنسان نفسَهُ إلى الحبيب ويقبل الإنسانُ حبَّ الحبيب للنَّفس البشريَّة. القدّيسون العِظام، الكِبار الّذين وصلوا إلى مرحلة كبيرة من فَهْم حبّ الله لهم، يصلّون بفرحٍ عظيمٍ. فيُمكنكم قراءة سفر نشيد الأنشاد ابتداءً من هذا المستوى، أن تصلَ الأمور، بين حبيبيْن، إلى مستوى الوحدة وحتّى إلى تفاصيل عشق الإنسان للإنسان. لذلك، عندما يصلُ الكلام إلى الحبّ الكبير، الكامل لا نستطيع القول أنّنا نتكلّم عن الحبّ الرّوحانيّ فقط ولكن عن الحبّ، في أبعادِهِ كلّها، حتّى التّعابير الجسديّة، عندما لا يعود باستطاعة البشريّة التّعبير عنْهُ بالكلمات تُعبّر عنه بحركات الجسد. إذاً حتّى العلاقة الجسديّة، في إطار الحبّ، تكون كلماتٍ ولكنّها ليست كالكلمات، يُعبَّر عنها بجوارح الإنسان كلّها، بأحاسيسه كلّها. لذلك عندما تقرأون هذا النّشيد، عليكم أن تفهموه بعمقٍ، أي أنّ الحبيب يُحبّ الحبيبة بتفاصيلها كلّها فيَراها من أجمل بنات عصرها: "أنا سوداء لكنّي جميلةٌ"، حتّى وإن كانت قبيحة هو يراها ولا يرى غيرها. هذا هو الحبّ. إذاً هذه الرّوحيّة، هذه الذّهنيّة في العلاقة بين الإنسان والله تصِل إلى هذه المرحلة يعني أنّكم تخطّيتم مرحلةَ العبد والسّيّد، مرحلة الأجير وربّ العمل، ووصلتم إلى مرحلة "العريس والعروس" وليس الزّوج والزّوجة، لأنّ "العريس والعروس" يبقى الحوار بينهما عبارةً عن الغزل الدّائم بعد وقتٍ من العرس، وعندما يُصبحان في مرحلة الزّوج والزّوجة، يصير الحوار بينهما عن أمور الحياة فيخفّ التّعبير عن الحبّ ما يجعل أحد الطّرفيْن يعتقد أنّ الحبّ قد خفّ. الزّواج مقبرة الحبّ لأنّ التّعبير عن الحبّ يتضاءل والإنسان كائن يحنّ إلى التّعبير، ويحنّ أكثر إلى سماع تعبير الآخر فهو يحبّ الكلام الجميل والمدح كما وَصفَ العلاقة على أنّها دائماً علاقة حيّة ومُشتعِلة. إذا لم تكنْ العلاقةُ بين الإنسان والله على هذا النّحو أي أنّ هناك بُعداً واستخفافاً في بعض الأمور يُؤدّيان إلى الانتباه إلى آخر. هنا تبدأ الخطيئة وهي الجُرح الواضح للحبّ وليست التّمرّد على مشيئة الله ولكن هي أن تجرحَ علاقةَ الحبّ لأنّه قد سبق الخطيئة بلادةُ أحد الطّرفيْن وجعلَ العلاقة أمراً مفروغاً منه وكأنّها عادةٌ يوميّةٌ فيحصل الجفاف. لذلك عندما تسمع المرأة كلاماً لطيفاً من آخر، أو الرّجل من أخرى، يُعيدُهما إلى حياتهما الأولى فتنتعش ذاكرتهما ويبتعدان عن العلاقة. من المهمّ جدّاً أن تفهموا نشيد الأنشاد على أنّ الحبيب لا يرى في الكون أحداً إلّا حبيبته والعكس صحيح، وإلا أنتم تتّجهون إلى عبادةٍ أخرى غير عبادة الله. والحبّ عبادة، والحبّ عُبوديّة ولكنّه عبادة وعبوديّة طوعيّتان، فأنتم غير مُرغمين عليه. كلّ حبّ لا يحتوي على مفهوم العبوديّة ليس حبّاً ولهذا السّبب ينتهي، وكلّ حبّ يحتوي على العبوديّة لا ينتهي إلّا بالقيامة. فإذا كنتَ تحبّ آخر وتُمارس عبوديّةً طوعيّةً بسبب حبّه فهناك قيامةٌ ستحصل إمّا له، إمّا لك، وإمّا لكلاكما. فمن غير الممكن ألّا تحصل القيامة أي الفرح الأبديّ. مهما كانت الظّروف التي تقف في وجه العلاقة، إذا بقي الحبّ على اشتعالهِ، يتخطّى الظّروف كلّها. لذلك مهما كانت هناك حواجز بين الإنسان وبين الله، إذا تعثّر أو أخطأ وكانت علاقة الحبّ قويّة سيقوم من خطيئتهِ، من مرضهِ.

الفكرة الأساسيّة هي أنّ العلاقة بين الرّبّ والإنسان هي كالعلاقة بين "العريس والعروس". العلاقة الثّانية المقابلة لها هي علاقة الأبّ بابنهِ. هذه العلاقة تكون عمليّة مبادرة من الأب، والابن بدورهِ يتقبّل حبّ الأب. ليس من المهمّ أن يُحبّ الابن أباه باعتبار الأب ينتظر حبّ ابنه، أمّا بين "العريس والعروس" فتُصبح العلاقة أقوى إذا شعر الطّرفان بتبادل الحبّ. إذاً النّشيد، هنا، يُعطي هذه الصّورة.
مثلاً: يقول في القصيدة الأولى: "أنا سوداء لكنّي جميلة يا بنات أورشليم ..."، هو يستعمل صفات لأجمل الأماكن وأفضلها ليتكلّم عن كمال جمال حبيبتهِ. "لا تلتفِتَنَّ إلى كوني سوداء فإنّ الشّمس قد جعلتني سمراء، قد غضبَ عليّ بنو أمّي فجعلوني ناطورةَ للكُروم والكرم الّذي لي لم أنظره. أخبرني يا مَن تُحبّهُ نفسي، أين ترعى وأين تربِض عند الظّهيرة، لئلَّا أكون تائهة عند قُطعان أصحابي". ترَون الشّوق إلى العلاقة القويّة بين النّفس البشريّة والله. يُجيبُها المُصغون إليها: "إن كنتِ لا تعرفين أيّتُها الجميلة بين النّساء، فاخرجي في إثر الغنم وارعي جداءكِ عند مساكن الرّعاة. يُجيب الحبيب قائلاً: "لقد شبّهتُكِ يا خليلتي (أيّ الرّفيقة في اللّيل والنّهار) بفرس في مركبات فرعون، ما أجمل خدّيكِ بين العقود، وعُنقكِ بين القلائد، فنصنع لكِ عقوداً من الذّهب مع جِمانٍ من الفضّة بينما الملك في حاشيتِهِ أفاح نارديني رائحته. حبيبي صُرّة مُرّ لي بين ثديَيَّ يبيت، حبيبي عنقود حنائن في كروم عين جدّي. جميلةٌ أنتِ يا خليلتي جميلةٌ أنتِ وعيناكِ حمامتان. جميلٌ أنتَ يا حبيبي وعذبٌ وفِراشُنا ريّان... بيتِنا أرز أخزيته سرو. أنا نرجس الشّارون وسوسنة الأودية، كالسّوسنة بين الشّوك. كذلك خليلتي بين البنات كالتّفاحة في أشجار ... كذلك حبيبي بين البنين في ظلّهِ اشتهَيْتُ الجلوس، وثمره حلوٌ في حلقي، أدخلَني بيتَ الخمر ورايتهُ عليّ هي الحبّ. صوتُ حبيبي هوّذا مُقبلٌ وهو يضفر على الجبال ويقفز على التّلال. حبيبي يُشبه غزالاً، هوّذا واقفٌ وراء حائطنا يتطلّع من النّوافذ ويترصّد من الشّبابيك.

حبيبي تكلّم وقال لي: قومي يا خليلتي، يا جميلتي وهلّمي فإنّ الشّتاء قد مضى، والمطر وقف وزال، قد ظهرت الزّهور في الأرض، ووافى أوان الأغاني، وسُمِعَ صوتُ اليمامة في أرضنا، التّينة أخرجت ...". لقد لاحظتم الحوار بين الحبيب وحبيبته. نجد في الصّور كلّها فنّ الجمال، تعابير الحبّ، في أبعاده الجسديّة والرّوحيّة، موجودة في هذه القصائد. الحالة الّتي يعيشها الإنسان وهو يُصلّي، إذا كانت أقلّ من مُستوى العشق، تُصبح صلاته للطّلب فقط. هناك العلاقة بين حبيب وحبيبة يقضيان عمرَيْهما يتكلّمان ولكن من دون أن يطلبا شيئاً من بعضهما إلّا أن يبقى الحبيب يُحبّ الحبيبة والعكس. أي أن يرتفع مستوى العلاقة بين الطّرفيْن أبعد من المصلحة الشّخصيّة، فتصبح حاجتك حاجةً وحيدةً وهي أن يبقى الحبيب أمام عينيْك وليست حاجتك إلى الأمور الدّنيويّة. هذا ما يجعلك غير مُكترث بالأمور الدّنيويّة " لنطرح عنّا كلّ همّ دُنيويّ كوننا مُزمِعون أن نستقبل ملك الكلّ" وهذا يعني أيضاً أنّ الحاجة إلى الطّعام تصبح من دون أهميّة فتحيا أنتَ من وجود الحبيب فقط "ليس بالخبز وحدهُ يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله" إضافةً إلى أنّ الحبيب يشعر بالسّعادة بمجرّد أن يأتي ذكر الحبيبة أي أنّ الحبيب حاضرٌ في حياة الحبيبة والعكس صحيح، كأن يكون الله حاضراً في حياتكم في كلّ لحظة فكم من الأمور ستُصلَح في حياة النّاس. العلاقة العشقيّة بين الحبيب والحبيبة، بين الله والنّفس البشريّة، تنعكس على النّاس الآخرين فلا تكون علاقةً خاصّةً. إذا كانت علاقتك مع الله على هذا المستوى، تكون علاقتك مع الآخرين تلقائيّاً مُفرِحة، تبني النّاس، وتُصلِحُهم، وتُقوّم سلوكهم. والدّليل على ذلك أنّ هناك قسم من النّاس يجتمع حول القدّيسين لأنّهم يتأثّرون بهم.
على سبيل المثال، القدّيس سمعان العموديّ، وقد سُمّيَ بالعموديّ لأنّه كان يُبشّر النّاس ويُرشدهم فبنى غرفةً على عمود ينام فيها ويُصلّي، وعندما يحين وقت إرشاد النّاس ينزل إليهم. ولأنّ علاقته بالله كانت على مستوى عالٍ من الأهميّة، كانت الجموع تأتيه لتسمع ما يختبر من علاقة بينه وبين الله وتنتفِع منها. كما القدّيس مارون أيضاً وهو ناسك، كان يصل اللّيل بالنّهار وهو راكعٌ وفاتحٌ يديه من دون أن يتعب. أحبّوا كما القديس مارون أحَبَّ من دون الحاجة أن تفعلوا كما فعل فلا يعود التّعب والسّهر والجوع حواجز تمنع هذه العلاقة. بما أنّ الإنسان لم يصلْ إلى هذه المرحلة من حبّ الله، عليه، على الأقلّ، أن يكتشف ويُدرك أنّ الله وصلَ إلى هذه المرحلة من حبّهِ له. أي إنسان يُحبّ امرأةً ويراها تخونه يسامحها كأن شيئاً لم يحصل فيكون هذا الحبيب غبيّاً. هكذا الله ينظر إليكم كعريسٍ ينتظر العروس ويُحبّ، في ليلة الدّخلة، أن يراها ناصعة البياض ولكن سُرعان ما يكتشف أنّها مُتّسِخة بالوحول فيغسلها ويعود بها من دون عيب. ويتكرّر ذلك كلّ يوم. هذا هو الحبّ الإلهيّ. نجده في رسالة أفَسُس الّتي تُتلى عند الإكليل: "هو يغسلها بالكلمة لتصبح من دون عيب".
الحبّ هو سرّ لأنّه لا يُدرك ولا يُفسّر لذلك يقول بولس عن هذا السّرّ، "أقول هذا بالنّسبة إلى المسيح والكنيسة" فهذا هو سرّ الزّواج في الكنيسة وليس سرّ الزّوجَيْن، "أمّا أنتم فليُحبّ كلّ واحدٍ امرأته كنفسه...". سرّ الزّواج هو بين يسوع والكنيسة. يصبح الزّواج المسيحيّ سرّاً عندما يتّفق الزّوجان أن يكونا الكنيسة أي العروس فيكون المسيح العريس فيبدأ السّرّ وتعيشون حالة الحبّ. ينعكس حبُّكَ للمسيح على علاقتك بشريكك لذلك تظهر المعاملة والتّضحية والتّحمّل والصّبر فيتحوّل الزّواج إلى مشروع صليبٍ ينتهي بالقيامة. إذاً، إذا كانت العلاقة على مستوى العشق الإلهي فهي لا تتأثّر بالعيوب الموجودة في كلا الطّرفيْن لأنّ هناك ما هو أعظم وأكبر وأعمق. سيبقى هذا الحبّ المثال وسنظلّ نسعى للوصول إليه. الكمال هو مَن يسعى إلى الكمال والحبّ هو مَن يسعى إلى الحبّ. كما لا يُمنكك تعلّم السّباحة خارج المياه كذلك لا يُمكنك تعلّم الحبّ إلّا في بحر الحبّ. وهذا كلّهُ يتطلّب تواضعاً كبيراً. عندما يقبل الإنسان محبّة غيره يكون هذا تواضعاً أمّا عندما يكتفي بمحبّة غيره فيكون هذا كبرياء. الإنسان يُمارس مع الله العلاقة الثّانية. أمّا القدّيسون، بعد قبولهم محبّة الله، فقدّموا الأمانة والإخلاص للحبّ.

الكلام الّذي ستقرأونه فيما بعد مثل: "إن التَمَستُهُ فما وجدتُهُ، صادَفني الحُرّاس في المدينة فقلتُ لهم: أرأيتم مَن تُحبُّهُ نفسي؟ فما إن تجاوزتُهم حتّى وجدتُ مَن تُحبُّهُ نفسي فأمسكتُهُ ولن أُطلقَهُ حتّى أُدخلَهُ بيت أمّي وخِدر مَن حبِلَت بي". بمعنى أنّك تستطيع ألّا تبحث عن حبيب ولكن إن بحثتَ عنه ستجده. أنتَ تبحث وهو الّذي يجعلك تجده. أتذكرون عندما ذهبت مريم إلى قبر المسيح ووجدته فارغاً فقالت لهم: "لقد أخذوا ربّي ولا أعرف أين وضعوه" وهي تبحث عنه هو الّذي أظهر نفسه لها. إذاً إذا بحثتَ عمّن تُحبّهُ نفسك سوف تجده. "أستحلِفكنّ يا بنات أورشليم ألّا توقِظنَ ولا تُنبّهنَ الحبّ حتّى يشاء. مُعَطّرٌ بالمرّ، بالبخور، بجميع مساحيق التّجّار، هوذا سرير سُليمان (صورة العظَمة عند الملك). جميلةٌ أنتِ يا خليلتي جميلةٌ أنتِ. (يبدأ بتفاصيل جمالِها) : عيناكِ كحمامتيْنِ من وراء نِقابِكِ، وشعرُكِ كقطيع معز يهبط مِن جبل جلعاد، أسنانُكِ كقطيع خرافٍ مجزوزة".

"إنّي نائمة وقلبي مُستيقظ (لأنّها تنتظر حبيبها)، إذا بصوت حبيبي قارِعاً أن افتحي لي يا أختي، يا خليلتي (إذاً الحبيبة هي العالم كلّهُ فلا يعود بحاجةٍ إلى صديق أو إلى أخ) يا حمامتي يا كاملتي فإنّ رأسي قد امتلأ مِن النّدى وخصائلي مِن قطرات الّليل قد نزعْتُ ثوبي فكيف ألبسهُ، قد غسلتُ رجليّ فكيف أُوسّخهما، حبيبي أرسل يدَهُ مِن الثّقب فتحرّكَت له أحشائي، فقُمتُ لأفتح لحبيبي وكانت يدايَ تقطران مُرّاً (نوع مِن العطور) وأصابعي بالمرّ السّائل على مقبض المِزلاج ففتحتُ لحبيبي لكنّ حبيبي ولّى ومضى. نفسي فاضت مِن تواريه، التمستُهُ فما وجدتُهُ ودعوتُهُ فلم يُجبني. صادفني الحُرّاس في المدينة فضربوني وجرحوني (على الرّغم مِن العذاب الّذي تُعانيه تبقى تبحث عن الحبيب) وحُرّاس الأسرار نزعوا عنّي ردائي، أستحلفُكُنَّ يا بنات أورشليم إن وجدتُنَّ حبيبي بماذا تُخبِرنهُ؟ بأنّ الحبّ قد أسقمني. ما فضل حبيبك على حبيبٍ آخر أيّتُها الجميلة بين النّساء حتّى تستحلفيننا هكذا؟ فتُجيب: حبيبي أبيض، أصهب، علمٌ بين ألوف، رأسُهُ ذهب، خصائله كسعف النّخل، عيناهُ كحمامتيْنِ على أنهار المياه تغتسلان... يداه حلقتان مِن ذهب، ساقاهُ عموداً مِن رُخام مُختار كالأرز، حلقُهُ كلّهُ عذوبة بل هو شهيّ بجملته. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم ( أيّ أنّها لن تتخلّى عنهُ) أين ذهب حبيبكِ أيّتُها الجميلة في النّساء، إلى أين توجّهَ حبيبك فنلتمسه معك؟ حبيبي نزل إلى جنّتِهِ، إلى روضة الأطياب ليرعى في الجنّات ويجمع السّوسن. أنا لحبيبي وحبيبي لي". هذه هي العبوديّة فالعبد هو ملك سيّده. يقول لها حبيبها وقد عاد: "جميلةٌ أنتِ يا خليلتي (ويصفُها): ما أجمل قدميْكِ بالحذاء يا بنت الأمير (الصّور مأخوذة من القصر لذلك قيل أنّه كلام سُليمان لأنّ لا أحد يعرف الغنى في القصور سوى الملوك)". يسكن الحبيب والحبيبة القصرَ من دون القصر الفعليّ بسبب علاقة الحبّ. "أنا لحبيبي وأشواقه إليّ، هلمَّ يا حبيبي لنخرج على الحقول ولنبِت في القرى. من لي بك كأخٍ لي قد رضِع ثدييّ أمّي فأجدك في الخارج وأُقبّلك بغير أن يحتقروني ثمّ آخذك وأدخل بك إلى بيت أمّي فتُعلّمني وأنا أسقيك الخمر وعصير الرّمان. أستحلفكنَّ يا بنات ألّا توقظنَ ولا تُنبّهنَ إلى الحبّ حتّى يشاء. إجعلني كخاتمٍ على قلبِكَ، كخاتمٍ على ذراعك فإنّ الحبّ قويٌّ كالموت، سِهامُهُ سِهام نار ولهيب الرّبّ المياه الغزيرة لا تستطيع أن تطفئ الحبّ، والأنهار لا تغمر الحبّ ولو بذل الإنسان كلّ ما لبيته في سبيل الحبّ لاحتُقِرَ احتقاراً ". يعني هذا الكلام أنّكم إذا لا ترَوْن الله في العلاقة بينكم وبينه على هذا المستوى حتّى لو لم تصلوا إليه سيبقى الحال بينكما على ما هو عليه: طلبات وخوف ووعود كي لا يفعل ما يؤذيكم، كالظّالم المُتسلّط على النّاس الّذين يتوجّب عليهم إرضاءه. عن أيّ إله تتكلّمون وهنا يقول إن كان هذا هو إلهكم الّذي يحبّ على هذا النّحو فانتفعوا ولكن لا تتكبّروا أي لا تكتفوا فقط بحبّه لكم بل بادروا بأن يشعر الله بأنّ حبّه لم يذهب سُدىً، ولوعرفَ الله أن حبّه سيذهب سدىً لن يتوقف الله عن حبه لكم. عيشوا هذه الحالة على الأقلّ بالصّلاة حتّى وإن كنتم تجدون أنّ الصّلاة مملّة فمن يُحبّ لا يملّ من الجلسة وليس من الكلام. الصّلاة هي نفسها كما هو كلام الحبيبيْن ولا يملّان فلماذا نملّ من الصّلاة؟ لأنّ تحديد العلاقة هي عبارة عن طلبات ووعود خوفاً. تقول رابعة العدويّة وهي مُتصوّفة مُسلِمة: "أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا" هذا هو الاتّحاد الكامل. عندما تذهبون إلى الجنّة وتقرعون الجرس لا يفتح الله لكم إلّا عندما تُصبحون أنتم والله واحداً فتتمّ الوحدة.
ملاحظة: دُوِّنَت من قِبَلنا بتصرُّفٍ. تتمة...
21/2/2014 سِفر المزامير - المزمور الثاني والعشرون معاناة يسوع على الصّليب
https://youtu.be/ZJ8gNnObq70

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور الثاني والعشرون
الأب ابراهيم سعد

21/2/2014

1. إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟
2. إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
3. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ.
4. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
5. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
6. أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ.
7. كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
8. «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
9. لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي.
10. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي.
11. لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
12. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
13. فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
14. كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.
15. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
16. لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
17. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
18. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
19. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
20. أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
21. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
22. أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
23. يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
24. لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمَسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
25. مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
26. يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
27. تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
28. لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
29. أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
30. الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي.
31. يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
عندما نقرأ هذا المزمور من منظارِ العهدِ الجديد، نجِدُ أنَّه يروي جزءاً من قصةِ حياةِ يسوع المسيح، إذ يجسِّدُ معاناةَ يسوع على الصليب، حتى أن عباراتٍ كثيرةً منه تتشابهُ مع حديثِ الآلام، كتِلك التي تَصِفُ اقتسامَ الثياب والاقتراعَ عليها، واستهزاءَ الجندِ بالربِّ على الصليب وغيرها. ولكن، بالرغم من هذا التشابه، يروي هذا المزمور قصةَ إنسانٍ واقعٍ في مأزقٍ ويتعرَّضُ لضغطٍ شديدٍ، وهو مؤمنٌ جداً ويتَّكِّلُ على الله أشدَّ اتِّكالٍ، إلا أنَّ جواباً لم يصِلْه بعد.
وهذا المزمور مقسومٌ بحسبِ المعنى إلى قسمين. يروي القسمُ الأول منه معاناةَ المرنِّم، واستجداءَه للربِّ واتِّكاله عليه مع عدمِ وجودِ جوابٍ، في حين يُخبِرُ القسمُ الثاني عن استجابةِ الله، وقدرتِه على حلِّ كلِّ شيء.
ونحنُ عندما نصلِّي إلى الرَّبِّ طالبينَ منه أمراً ما، ننتظرُ فترةً معينةً لنرى إن استجابَ الله لطلبِنا أم لم يفعلْ. أمَّا كاتبُ المزمور فبإيمانِه الكبيرِ يشكرُ الربَّ على الاستجابة أثناء طلبِه وقبل أن تتحقَّقَ طلبتُه فعليَّاً. وإن نحنُ أيضاً اتَّبَعْنا هذه الطريقةَ فيستجيبُ الله فعلاً، إذ نتعاملُ معه بصدقٍ مؤمنينَ أنَّه سيحقِّقُ ما طلبْنا. تبقى المشكلةُ الوحيدة - والتي تَعيقُ اتِّكالَنا التّام على الله- هي رغبتُنا الدائمة في تحديد وقتِ استجابةِ الله لطِلبتِنا، بحسبِ ما نراه نحن وقتاً مناسباً متجاهلين أنَّ "الأوقات والأزمنة في سلطانه"، وأنّه هو من يحدِّدُ الوقتَ المناسب فعلاً. وعلينا أن نحذَرَ من الوقوع في فخِّ "تجريب الله" عند اتِّكالِنا عليه، كما فعلَ شعبُ موسى في العهد القديم، عندما طلبوا الطعامَ من الله فأرسلَ لهم المنَّ ليأكلوا، فقاموا بتخبئةِ قسمٍ منه خوفاً من ألا يستجيب لهم الله ثانية، ففسدَ المنُّ، وكأن الله يقولُ لهم أنه من يُطعِمُهم يومياً وليس أحداً سواه. وكلُّ من هو سوى الله يكون عدواً، إلَّا إنْ كان يقودُنا إلى الله.
إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟
إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
فكاتبُ المزمور يمرُّ بوقتٍ عصيبٍ جداً، ويشعرُ أنَّ الله قد تخلَّى عنه وتركَه، فيُناجيه سائلاً إيَّاه عن سببِ ابتعادِه عنه، وعن تجاهلِ طلبِه للخلاص مع كل نفَسٍ يشهقُه ويزفرُه، ومع كلِّ تنهيدةٍ. فالكاتبُ يدعو ليلَ نهار، بِلا كللٍ أو مللٍ، إلا أنّ الله أصبحَ أبعد من أن يستمعَ إليه.
وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. ومع ذلك يؤمنُ المرنّم بأن الله هو القدُّوس، وهو الذي كان يُلبِّي شعبَ اسرائيل مباشرةً كلَّما استجْدوه مُصلِّين ومُسبِّحين.
عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
وهو يعرفُ أنَّ آباءَه وأجدادَه قد اتَّكلوا على الله وصلُّوا إليه فلبَّاهم ولم يخزِهم البتة.
أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ.
كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
«اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
وهنا المرنِّم يشعرُ بأنه من الممكن أن يُسحَقَ بلحظةٍ كما تُسحَقُ الدُّودة بسبب الوضعِ الذي هو فيه، ومع ذلك فإنَّ الله بعيدٌ، وكأنَّه أيضاً لا يعتبرُه إنساناً بل دودة. والبشرُ باتوا يحتقرونه لأنه يَشهدُ ويفتخرُ بالله إلهاً ومخلصاً ولم يستجبْ له أويُنجِدْه في محنتِه، فصارَ محطَّ استهزاءٍ من الجميع، يَشمَتون به لأنه مسرورٌ بإله لا يستجيبُ له.
وفي أيامِنا هذه، باتَ المصلِّي هو من يستهزىءُ بنفسِه، ولا يصدِّقُ أنّ الله سيلبِّي طلبتَه.
لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي.
ولدى الكاتب قناعةٌ أنَّه لم يتكوَّن إلا بإرادة الله ورضاه، وقد كان مرتاحاً قبل أن يقعَ في الشِّدَّة.
عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي.
والمرنِّمُ يؤمنُ بالله مُذ كان جنيناً في رحمِ أمِّه، والحالةُ التي يمرُّ بها لم تزعزعْ إيمانَه.
لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
والإنسانُ كلَّما اقترَبَتْ منه الصِّعابُ، كلَّما شَعرَ أن الله يبتعدُ، لذا فإن المرنِّمَ يستجدي الله ألَّا يبتعدَ عنه مع اقترابِ الضِّيقاتِ أكثر وأكثر، فهو مُتوكِّلٌ عليه ليُخلِّصَه كما خلَّصَ أجدادَه، لأنه يؤمنُ أنَّه لا مُعين إلا الربّ، فإن ابتعدَ هو أيضا صارَ الكاتبُ دودةً لا إنسان، وسينسحقُ لأنه لن يَستعينَ بغيرِ الله. وهنا نجدُ المرنِّمَ وكأنه يُنبِّه الله إلى أهميةِ إنقاذه، لأنه آمنَ به وإنْ انتهى فلنْ يوجدَ مَن يتحدَّثُ عن الله بعد!
أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
الثيرانُ هنا تمثِّلُ الأعداء، أمَّا باشان فهي منطقةٌ رعويةٌ خضراء، والأبقارُ فيها تمتازُ بالقوَّةِ الكبيرة. وهنا يُشيرُ المرنِّمُ إلى قوَّة وجبروت أعدائه، الذين أحاطوا به كالوحوشِ الضارية متأهِّبين للانقضاضِ عليه. أي أنَّ الوقتَ لم يعُدْ في مصلحة الله ولا المرنِّم، لأنَّه إنْ انتهى فلنْ يوجَدَ مَن يُسبِّح ويمجِّد الربَّ بعده ويُخبِر باسمه، ومع ذلك فهو يتركُ اختيارَ توقيتِ التدخُّلِ لله وحده.
كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.

وهنا ينتقلُ المرنِّم للحديثِ عن وضعِه الداخلي وحالتِه، بعد أن تحدَّثَ عن إيمانِه بالله، وعن أعدائِه.
ويُشبِّهُ الكاتبُ نفسَه بالماء المنسَكِب، الذي لا فائدة منه، مُشيراً إلى انسحاقِه، وإلى التعبِ الشديدِ الذي أرهقَهُ وأدَّى بعظامِه إلى التفَكُّك. ولشِدَّةِ الألم، يُشبِّه الكاتبُ قلبَهُ بالشمعة التي تحترقُ وتذوبُ قطراتُها في أمعائِه.
يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
أما قوَّةُ المرنِّم فقد ذبُلَتْ كعودِ حطبٍ. أما التصاقُ اللِّسانِ بالحنك، فهو دليلُ الإرهاقِ التَّامِّ والوجعِ الشديد، إذ أشرفَ على الموتِ والله لم يَستجبْ بعد.
لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
والكلابُ صورةٌ عن الأعداءِ أيضاً. وهنا البيتُ يحملُ معنيين. الأول، واضحٌ صريحٌ يظهرُ فيه الكاتبُ كأسيرِ حربٍ يَتعرَّضُ للتعذيب. أما الثاني فهو مُبَطَّنٌ، وكأنه عبدٌ يُباع ويُشترى ويُعلَّم بثقوب، أي واقعٌ تحت نيرِ العبودية ولكن بغيرِ رضى الله.

أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
ويُمكن عدُّ عظامِ الإنسان إن أصبحَ هزيلاً جداً، أو أثناءَ تنهُّدِهِ بعمقٍ كبيرٍ ناقلاً حالتَه إلى الله ليستمعَ له، ومع ذلك لا جوابَ حتى الآن.
يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
وهنا دليلٌ على أنَّه قد أصبحَ عبداً، يتعرَّضُ للتعذيب وتؤخذ عنه ملابسُه وتُوزَّع، ويبقى وحده طريحَ الأرض.
أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
وهنا يعودُ المرنِّم إلى استجداءِ الله لئلَّا يبتعدَ عنه، بعد أن شرحَ له وضعَه كاملاً، وهو متأكِّدٌ أنَّ الله سيستجيبُ إذ
ما زال عنده رجاءٌ بربِّه. ثم يصرخ: "يَا قُوَّتِي"، وقد سبقَ وقال إن قوَّته أصبحتْ كقوَّة عودٍ يابسٍ، أي أنَّه إن كان يتمتَّعُ بالقوَّة بعد، فهي قوَّةُ الله وهو وحدُه سببُها. يقول بولس الرسول في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس: "مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ"، أي بعد أن جُرِّد الكاتبُ من كلِّ قوَّة، فإنَّ أي قوَّة تظهرُ عليه قدَّام الناس، هي حتماً ليست قوَّته، بل قوَّة أحد آخر، وهو يؤكِّد أنها قوَّة الله وحده.
وعندما يصرخ المرنِّم: " أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي"، نتذكَّرُ قولَ الرب يسوع لزكا: "أسرعْ انزل يا زكا، اليوم ينبغي أن أمكثَ عندك".
أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
والسيفُ هو الموتُ الذي ليس من عند الله. والكلبُ هو العدو، وعند اليهود هو رمزٌ للأمم الوثنية: "لا ترموا دُرركم للخنازير/الكلاب"، "وكانت الكلاب تلحَسُ قروحَه"، "لا يُؤخَذ خبز البنين ويُطرَح للكلاب"، "حتى الكلاب تأكلُ من فتات البنين"
خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
وهنا تكرارٌ لفكرة التَّعبِ الشديد والعدو.
أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
وهنا يبدأ القسمُ الثاني من المزمور، وحتماً سيتساءَلُ الناسُ عن سببِ تسبيحِ المرنِّم للربِّ بالرغم من عدم حصولِه على جواب. أما بالنسبة للمرنِّم، فهو يحيا بحالةِ سلامٍ بمجرَّد أن يطلُبَ من الربِّ، لأنه متأكِّدٌ من أنَّ طلبَه سيُترجَم استجابةً، إذ يكمُن السرُّ في قناعةِ السائلِ أن طلبَه مجابٌ.
يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
والخوفُ ليس من الربِّ، بل الخوفُ من خسارة العلاقةِ معه، كما يخشى المحبُّ خسارةَ حبيبِه. وهنا يُشدِّدُ الكاتب على أنَّ الربَّ هو المخلِّصُ والقادرُ والخالق.

لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمَسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
أي أنَّ المرنِّم متأكِّدٌ أنَّ الله لم يحتقرْ طِلبَتَهُ ولم يستهزئ بها، وعدم استجابتِه لا يعني أنَّه لم يأخذْ الطلبَ بعينِ الاعتبار، إلا أنَّه هُو من يقرّرُ متى يستجيب، والمرنِّم يبدأ بالتسبيحِ فوراً وكأنَّه قد استجاب.
ويقولُ أشعياء النبي: "حين تبسطون أيديكم، أحجبُ وجهي عنكم، لأن المسكين لم تقووه" ، فكيف إذا يلومُ الله شعبَه إن لم يساعدوا المسكين فيحجب وجهُه عنهم، إن كان هو لن يساعدَ المسكين أيضا؟! من غير الممكن أن يَترُكَ الله المسكين، بل يستمعُ إلى صراخِه الحار. ونحنُ علينا أن نصرُخَ باستمرارٍ بقوِّة الصلاة، وبدون تكبّر، إلى أن يستجيبَ لنا الله.
مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
أي المرنِّم يسبِّحُ الربَّ، ويوفي النذورَ التي قطعها أمامه حتى قبل أن يستجيبَ له، في اللحظة التي يطلبُ فيها إيماناً منه بحتميَّةِ الاستجابة.
يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي.
أي أنَّ الدُّنيا بأكملِها تسبِّحُ الربَّ، لأنه أظهرَ وأثبتَ وبرهَنَ أنه هو الإله المخلِّص، والأممُ بأكملِها تحت سلطتِه.
يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
أي أنَّ الأجيالَ القادمة أيضاً ستُخبِرُ بما فعلَ الله مع المرنِّم.
وهذا هو الصِّدقُ الذي يتحدَّثُ به كاتبُ المزمور، مُظهِراً قدرةَ الإنسان على استجلابِ إرادةِ الله، فيتحوَّلُ الله خادماً للإنسان بدلاً من أن يكون الإنسانُ خادماً له بسبب إيمانِ الإنسان. ويسوع يقول: "إيمانكِ عظيمٌ يا امرأة، فليكن لكِ كما أردتِ"، "لم أرَ إيماناً كهذا في إسرائيل، اذهب قد شُفِيَ غلامُك".

وإن أردْنا إسقاطَ هذه الحالة على يسوع وهو على الصَّليب، نجدُ أنه على الرغم من صعوبةِ حاله يقول في النهاية: "في يدَيْك أستودعُ روحي"، أي أنَّ يسوع يرفضُ تسليمَ روحِهِ للموت، ويُسلِّمُها لله الآب وحده، فيُقيمُه من بين الأموات لأنَّه إن لم يقمْ، كانت روحُه في قبضةِ الموت لا في قبضةِ الله، ومن يَكنْ في قبضةِ الله لا يُمكن أن يموت.
والناسُ جميعاً كانوا في حالةِ ذهول، لأن يسوع الذي قامَ بالعجائب غير قادرٍ على النزولِ عن الصليب ويُعاني الألم. وفي الحقيقة أنهم فهِموا المسيح، إلا أنهم لم يتمكَّنوا من فَهمِ علاقتِه بالله أبيه، وهو سرُّ الثالوث. ومفهومُ العلاقة بين الآبِ والابنِ لا يمكن أن يُصدَّق إلَّا إن أصبحْنا طرَفاً في العلاقة في سرِّ الحبِّ وحده. وكلُّ إنسانٍ منَّا معرَّضٌ لأن يكون مكانَ كاتب المزمور، وإن لم يكنْ هناك أعداء فإنَّ الخطيئةَ هي التي تؤدِّي بنا إلى هذا الانكسار. وكلُّ لحظةِ صلاةٍ تمرُّ بنا من دون أن نمرَّ بهذه الحالة، يجبُ أن نُدركَ أنَّ هناك مشكلةٌ في مفهومِنا للصلاةِ، إذ علينا أن نفتقرَ أمام الله لتكون صلاتُنا حقَّةً. "طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السماوات"، والفقراءُ الحقيقيون هم الذين يَرَون أنَّ رضى الروح أكثرُ أهميَّةٍ من الغنى المادي. وإن لم نفتقرْ عند صلاتِنا الى المزامير، فلا ننتفع شيئاً، لأنَّ لسانَنا قد يلتصقُ بالحنك، إلا أنَّنا لا نستودعُ روحَنا بين يدَيْ الله. آمين
ملاحظة: دُوِّنَ تفسيرُ المزمور من قبلنا بتصرُّف. تتمة...
14/2/2014 سِفر المزامير - المزمور المائة والتاسع والثلاثون التّسليم لمشيئة الله
https://youtu.be/ouI1htMQFpY

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور المائة والتاسع والثلاثون
مع الأب ابراهيم سعد


14/2/2014

1. يا ربُّ، قد اختبرتني وعرفتني
2. أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد
3. مسلكي ومربضي ذريت، وكل طرقي عرفت
4. لأنه ليس كلمة في لساني، إلا وأنت يارب عرفتها كلها
5. من خلف ومن قدام حاصرتني، وجعلت علي يدك
6. عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها
7. أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب
8. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشت في الهاوية فها أنت
9. إن أخذت جناحي الصبح، وسكنت في أقاصي البحر
10. فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمينك
11. فقلت: إنما الظلمة تغشاني. فالليل يضيء حولي
12. الظلمة أيضا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور
13. لأنك أنت اقتنيت كليتي. نسجتني في بطن أمي
14. أحمدك من أجل أني قد امتزت عجبا. عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينا
15. لم تختف عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء، ورقمت في أعماق الأرض
16. رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت، إذ لم يكن واحد منها
17. ما أكرم أفكارك يا الله عندي ما أكثر جملتها
18. إن أحصها فهي أكثر من الرمل. استيقظت وأنا بعد معك
19. ليتك تقتل الأشرار يا الله. فيا رجال الدماء، ابعدوا عني
20. الذين يكلمونك بالمكر ناطقين بالكذب، هم أعداؤك
21. ألا أبغض مبغضيك يارب، وأمقت مقاوميك
22. بغضا تاما أبغضتهم. صاروا لي أعداء
23. اختبرني يا الله واعرف قلبي. امتحني واعرف أفكاري
24. وانظر إن كان في طريق باطل، واهدني طريقا أبديا
يبدأ المرنِّم مزموره بتسليم حياته تسليماً تاماً للرَّبِّ، مُعلناً أنَّ كل شيء ملكٌ له. والله هو المحب خالق الكل.
يا ربُّ، قد اختبرتَني وعرفتَني
أي أنَّ المرنِّم قد مرَّ بتجارب عديدة، مكَّنت الله من أن يعرفَه جيداً، كما لو أن إنساناً يعمل لدى آخر، والتجارب تكشف حقيقته مهما كانت لربِّ عمله.
أنت عرفتَ جلوسي وقيامي. فهمتَ فكري من بعيد
إنَّ الله يعرفُ كلَّ التفاصيل الدقيقة لحياةِ وتحركاتِ المرنِّم. وهنا يجب أن نتنبَّهَ إلى ضرورة التحرُّر من الفكرة السائدة التي تقول بأن الله يعرفُ كلَّ شيء، وبالتالي نحن نخضعُ لقدريَّةٍ معيَّنةٍ، والتي تجعلُنا نتساءل دوماً عن سببِ سماح الله لنا بأن نخطئَ طالما أنه مدركٌ كلَّ شيء. فالله يعرفُ ما سنفعل، ولكنَّه ليس من يقودُنا لفعل الشيء؛ لأن الإنسانَ سيفعل أمراً ما والله يعرفُ، وليس الإنسان من يفعل الأمر مضطراً لأنَّ الله يعرف. لذا علينا ألا نلقي اللومَ على الله، أو على أي أحدٍ آخر. و الله يمتحنُ صدقَ ومسؤوليةَ الإنسان عن عمله، أو فكرِه أو تصرُّفه عن طريق الإنسان الآخر. أما إلقاء الإنسان بمسؤولية تصرُّفه على أحدٍ آخر فهو حنينٌ إلى العبودية، حتى أنه قد يُلقي باللوم على الشيطان ثمَّ على الله لائماً إياه على حرية الخلق التي تُرتكَب باسمها الخطايا، وهو الذي ينادي ربَّه بالحرية ليل نهار. ولدى الإنسان حنينٌ دائمٌ للعبودية، إلا أن الأمرَ لا يستقيم إلا بحريته، لأن هناك اقترانٌ حتميٌّ بين الحريّة والحب، إذ لا يمكن إجبارُ العبد أن يُحبَّ سيِّدَه، وهي الحريَّة الوحيدة التي يملكُها. وعندما نصلِّي المزمور، لا يمكننا أن نرمي بأخطائنا على الآخرين، ولكن نتَّخذُ قرارا واضحاً بتسليمِ حياتِنا بأكملها للربِّ، ونقبل أن الربَّ هو مَن خلقَنا، ويرانا ويفحصُ قلوبنا والكلى، ونرفضُ أنَّه الفاعل الحقيقي لكلِّ ما نفعلُه نحن.
وقد وردَ في الكتاب المقدَّس وصفٌ وحيدٌ للشيطان وهو "الكذَّاب أبو الكذَّاب"، ونحن علينا أن نبتعدَ كلَّ البعد عن الشيطانية، أي التَّكاذب لتبريرِ الأفعال أمام الله الذي "اختبرنا وعرفنا، وعرف جلوسنا وقيامنا وفهم فكرنا من بعيد". فكذبُنا أمام الله الذي يعرفُ كلَّ شيء هو عيشٌ للوهم وتصديقٌ له، وهذا الوهم سيتحولُ إلى حقيقةٍ يصعبُ التحقُّقُ من مصداقيتها لاحقاً، وهذه هي الحالة الشيطانية التي تخلقُ عداوةً تلقائيةً بيننا وبين الله.
ومن المعروفِ أن سببَ العتبِ في كثيرٍ من الأحيان هو المحبة، إلا أن هذا العتبَ نفسَه يكون
- بحجة المحبة- مدخلاً إلى العداوة إذ يتحوَّلُ إلى إدانةٍ ولومٍ، وهذا ما يحدثُ كثيراً بيننا وبين الله.
الإنسان المصلِّي هو الذي تفرَّغ من نفسه تماماً، ليملأ اللهُ الفراغ، وإلا فستكون هناك مشكلة في العلاقة. ومشكلتُنا الحقيقية ليست في إيمانِنا بالله، بل بعلاقتِنا معه. فلو كان الإيمانُ هو التصديقُ بوجود الله، لكان الشيطان أكثرُنا إيمانا، إذ إنه يصدِّق بوجود الله، ويدركُ قوتَه الحقيقية أكثر مما ندركُها نحن البشر، إلا أنه يفتقر إلى العلاقة مع الله. كما علينا أن نقبلَ فكرةَ أن الكنيسة - أي مجموعةَ الناس- التي اتخذتْ من الله خالقاً وسيِّداً ومخلِّصاً، ليستْ تجمُّعاً للقدِّيسين، بل مشفىً للخطأة، والله الذي يعرف خفايا القلوب هو الطَّبيب. ونحن عندما نشرحُ وضعَنا بصدقٍ للطبيب، يتمكنُ من تشخيصِ المرض، ونستطيعُ أن نكذب عليه، ولكن لا يمكننا أن نكذبَ على الله لأنه عرفَنا واختبرَنا، ويعرفُ تفاصيلَ حياتِنا، ويفهمُ فكرَنا من بعيد. مهما ابتعدْنا عن الله أو اقتربْنا منه، وإن كنَّا أسوأ الخطأة، أو أطهرَ القدِّيسِين، تبقى معرفتُه الكاملة لنا ثابتةً لا تتغيَّر، وسببُ هذه المعرفة ليس أنه الله في الحقيقة، بل أنه يحبُّنا حبّاً مطلقاً. فمن يحبُّ إنساناً بحقٍّ، يعرفُ عنه أموراً يجهلُها الآخرون، فالحبُّ يكشفُ خفايا القلوب، لذا يعرفُنا الله معرفةً تامة، لأنه يحبُّ، ومن يحبُّ لا يستطيع أن يبقى مكتوفَ اليديْن إن كان حبيبُه واقعاً في ورطةٍ، فالمحبةُ هي الانتباهُ إلى الآخر وتلبيةُ حاجاتِه، وهي تخلقُ للمحبِّ عيوناً فائقةً للطبيعة، أي تختلفُ عن عيونِ البشرِ العاديِّين.

وقد وردَ في سِفر التكوين أنَّ الله قد خلقَ الإنسان على صورتِه، وكلمةُ "صورته" في النصِّ العبريِّ الأصليِّ هي "تسيلم" وتعني "صورة الصنم"، أي أنَّ الإنسانَ هو تمثالٌ عن إلهِه، أي ليس بحاجةٍ إلى أصنامٍ تُصوَّرُ الإله ليعبدها، لأن الله جعلَه سيِّداً على كل الخليقة يسمي الحيوانات والنباتات وغيرها. كما منحَ الله آدم عمراً طويلا أكثر من 900 عامٍ، معلّماً إياه أنه ليس بحاجةٍ إلى ملكٍ، لأنه من المعروف أن الملوكَ وحدَهم خالدون، أما الإنسان فيكون مكانَ الله على الأرض. و"مكان الله" لا تعني استخدام امتيازات الربِّ بحسب أهواء الإنسان، بل تعني استخدامَ جميع الامتيازات والتصرُّف بها بحسب الطريقة التي يتصرَّف بها الله. وعندما لم يستجبْ آدم لهذا، جرحَ علاقةَ الحبِّ بينه وبين الله، وخانَ الربَّ، لأن علاقةَ الحبِّ تُبنى على أساسِ الثقة، وعلى أساس أن الله يعرفُنا جيداً. وعندما نقولُ أنَّ الله يعرفُ الإنسان، لا يُقصَدُ بالقول أنَّه يعرفُ عنه، بل يعرفُه.
مسلكي ومربضي ذريْتَ، وكلّ طرقي عرفتَ
لأنه ليس كلمةٌ في لساني، إلا وأنت ياربّ عرفتَها كلّها
من خلف ومن قدّام حاصرْتَني، وجعلتَ عليّ يدُك
عجيبةٌ هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها
أين أذهبُ من روحك؟ ومن وجهك أين أهربُ
إن صعدتُ إلى السماوات فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت
إن أخذتُ جناحي الصبح، وسكنتُ في أقاصي البحر
فهناك أيضا تهديني يدُك وتمسكني يمينُك
وهنا يشيرُ المرنِّم إلى أن الله يعرفُ جميعَ طرقِه، مجيئاً وذهاباً، ويُدركُ كلَّ كلمة على شفتيْه. كما يُناجيه معترفاً أن الربَّ قد أدركَ أمورَه جميعاً، وبأنه لا يستطيعُ أن يفعلَ أيَّ أمرٍ خارج نظرِ الله، أو أن يخفيَ شيئاً عنه، منذ البداية وحتى النهاية. كما أن الكاتبَ مقتنعٌ تماماً أنّ الله قد صوَّرَه في بطن أمه. ويعترفُ أن معرفةَ الله له ليستْ طبيعيَّةً، بل تفوقُ قدرتَه على استيعابها أو التَّوصُّل إلى معرفةِ ماهيتها. ويُعلنُ أن روحَ الله ترفرفُ فوق الكونِ بأكملِه، ولا يُمكن لأحدٍ أن يهرُبَ أبداً. وهذه الاعترافات ليستْ ليُخبرَنا المرنِّم بأن الله قد فضَحَه، بل ثقةٌ منه أن الله حاضرٌ ليَلتقطَهُ متى سقطَ، إذ تمسُكُ به يمينُ الربِّ، فهذا هو فعلُ الحبِّ. واليمين رمزُ القوَّة والقدرةِ والخبرِ السَّارِّ المشير إلى التدخُّلِ الإلهي، فقوةُ الربِّ هي التي تنتشُله، ويسوع قد طلبَ من تلاميذه عندما كانوا يصطادون وشباكُهم فارغةٌ أن يرموها في الجانب الأيمن للسفينة، والملاكُ الذي أعلنَ خبرَ القيامة كان أيضاً يقفُ عن يمينِ القبر، لذا يقفُ الكاهنُ عندما يقرأ إنجيلَ صلاةِ الصباح عن يمينِ المذبح لأن خبراً سارَّاً سيُعلِنُ التدخل الإلهي. وهذا هو الفرقُ بين الله والبشر، فنحن نحاولُ الإمساكَ بالآخر قبل أن يقعَ، ولكن متى وقعَ تخلَّيْنا عنه وتصرَّفْنا كالغرباء، وإن كانت سقطتُه خطأ بحقِّنا، تحوَّل الحبُّ إلى كراهية. أما الله، فكلَّما سقَطْنا يكتشفُ فينا أمراً ما، ويجعلُ منه دافعاً لإنقاذِنا، فما أسعدَنا بحبٍّ كهذا!
وهنا يطرح السؤال نفسه، لماذا نخافُ من خطيئتِنا إلى حدٍّ نكرهُ فيه أنفسَنا أحياناً؟ إن كان الله الذي نرتكبُ الخطايا بحقِّه لم يكرهْنا، فمِن أينَ لنا الحقُّ بأن نكرهَ أنفسَنا؟
وفي كثيرٍ من الأحيان نتحجَّجُ بضعفِنا أمام الخطيئة مُستعطِفين الله، ولكنَّ هذه الحججَ هي اعترافٌ مبطَّنٌ برغبتِنا في التمسُّكِ بالخطيئة. فأحياناً لا نتناولُ في القدَّاس الإلهيِّ بحجَّةِ أننا خطأةٌ، متجاهِلين أن المناولةَ أهمُّ من الخطيئةِ وأنَّها هي التي تحرِرُّنا. وعلينا أن نتأكَّدَ أنه مهما أخطأ الآخرُ في حقِّنا، فإن خطَأهُ لا يُشكِّلُ جزءاً صغيراً جدَّاً مما نرتكبُه نحن في حقِّ الله، لذا علينا أن نبتعدَ عن المعايير المزدوجة.
فقلت: إنما الظلمةُ تغشاني. فالليلُ يضيُء حولي
الظلمةُ أيضا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور
وإن اعتقدَ الكاتبُ أنه بإمكانِه الاختباءَ من الله في ظلمةِ الليل، فإنَّ الليلَ سيُضيء، لأن الليلَ والنهار، والظلمةُ والنورُ عند الله سيَّانٌ، ولا يمكنه التخفِّي. إلا أن الوهمَ يجعلُه يعتقدُ أن الظُّلمة تسترُه. ويسوع قد قال إن الناسَ أحبُّوا الظلمةَ أكثرَ من النور لأنهم يعتقدون أنَّهم بإمكانِهم الاختباء تحت جُنحِها. لذا ألَّهتِ العباداتُ الوثنية القديمة القمرَ أكثرَ من الشمسِ، لأنه يُمكِّنُهم من ارتكابِ فعائلِهم في ظلِّه من دون أن يراهم أحدٌ.
أنك أنت اقتنيتَ كُليَتَيَّ. نسجتَني في بطنِ أمي
في القِدَمِ، كانوا يعتبرون أنَّ الكليةَ هي أسرارُ الإنسان: "فأنتَ تعرفُ الكِلى والقلوب"، والله يعرفُ كلَّ شيء، لدرجة أنه يشاهدُ كيف نتكوَّن في أحشاءِ أمهاتنا.
أحمدُك من أجل أني قد امتزت عجبا. عجيبةٌ هي أعمالُك، ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً
ونتيجةً لكلِّ ما ذكرَهُ المرنّمُ قبلاً، يبدأ بمديحِ الربِّ، بالرغم من أن هذه الصفاتِ التي تستطيعُ فضحَ الإنسان يجبُ أن تكون مصدرَ خوفٍ عادةً. وليس الله يعرفُ كلَّ شيء فقط، بل المرنّم أيضاً باتَ يعلمُ أن الله عارفٌ بكلِّ شيء، وبالتالي يُدركُ أنَّه لا يستطيعُ الهربَ من الله، ولا يستطيعُ إلا أن يحمدَه ويسبِّحَه ويمجِّدَه، لأنه اكتشفَ أن هذه هي طريقةُ الله ليساعدَه ويهديَه، وبالتالي يطلبُ منه الخلاصَ واثقاً أنه سيُلبِّيه، لأن الله بطبيعتِه لا يرفضُ طلباً للمصلِّي الحقّ.

لم تختفِ عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء، ورقمت في أعماق الأرض
رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت، إذ لم يكن واحد منها
ما أكرم أفكارك يا الله عندي ما أكثر جملتها
إن أحصها فهي أكثر من الرمل. استيقظت وأنا بعد معك
وهنا لا يقصدُ المرنِّم بالأفكار ما يفكّر به الربُّ، بل أفكارُ الربِّ عندَه وبخصوصِه. وهي لا تُعَدُّ ولا تُحصى كرملِ البحر. والكاتبُ في نومه وفي استيقاظِه يبقى مع الله إذ ليس بإمكانه الهرب.

ليتك تقتل الأشرار يا الله. فيا رجال الدماء، ابعدوا عني
وهنا يروي المرنّم لله قصَّتَه مع أعدائه، راجياً إياه أن يخلِّصَه منهم.
الذين يكلّمونك بالمكرِ ناطقين بالكذب، هم أعداؤك
أي أنّ مشكلةَ المرنِّم، أن أحداً ما يشتكي لله منه، ناقلاً عنه كلاماً غيرَ صحيحٍ، وهو يطلبُ من الله ألا يستمع لهذا الكلام لأنه يعرفُه المعرفةَ الحقّة. وكلمةُ المشتكي بالعبرانية تعني "ساتان"، أي الشيطان. أما ببلُغتنا نحن، فالمشتكي هو المدَّعي العام في المحكمة، وهو الذي يُشيرُ بإصبعِه إلى المتَّهم أمام القاضي سارداً جرائمَه. و"الساتان" باللغة الأصلية هو من يقفُ أمام الله ويشيرُ إلى المتَّهم. وهذا ما حدثَ في سرِّ أيوب، إذ جاء "الساتان" إلى الله - والساتان في هذا السِفر هو المدّعي وليس الشيطان كما يظنُّ البعض- واتَّهم أيوب أمام الله. والمرنِّم يرجو الله ألا يسمح بأن يقفَ أمامه هكذا وقفة. وهذا الكلام يذكِّرُنا بالصلاة الربية: "ولا تُدخلُنا في التجربة، لكن نجِّنا من الشرير"، والشرير ليس من يفعلُ بنا شراً، بل هو من يُمكن أن يَسمعَه الله ويصدِّقَه محوِّلاً إيانا إلى متَّهمين، ونحن دورُنا ألا نمنح الشريرَ مجالاً ليشتكيَ علينا، وهذا ليس طلباً نرجوه من الله، بل وعداً له.

ألا أبغض مبغضيك يارب، وأمقت مقاوميك
بغضا تاما أبغضتهم. صاروا لي أعداء
والمرنّمُ يكرهُ ويبغُضُ مَن يكرهون الله، وينزعجُ ممن يُعادونه. حتى أنهم يصيرون أعداءً له أيضاً. إذ اتَّخذَ قراراً بألا يستمع إلا الى الله، وكلُّ من يتحدَّثُ بالسوء عن الربِّ يُصبح عدواً له. والشيطان قد حاولَ استجرارَ يسوع ليخضعَ له، عندما طلبَ إليه أن يرمِيَ بنفسِه من العلو، لأنّ الله في الكتاب المقدّس يقول أنه سيُرسِلُ ملائكتَه فيرفعونه لِئلا تَعثُرَ بحجرٍ رجله، فرفضَ يسوع الاستماعَ لما يقوله الشيطان عن الله. أما آدم، فقد استمعَ إلى وشوشاتِ الحية، ولو امتنعَ عن ذلك رافضاً أن يسمعَ أيّ كلامٍ منها عن الربِّ لأنه واثقٌ من معرفتِهما المتبادلة لبعضَيهما، لكُنَّا الآن في مكانٍ آخر كلِّيَّاً. وآدم قد سمعَ بأذنِه من الأفعى التي لا تسمع، أي التي لا تغيِّرُ رأيها، وأرادتْ من الإنسان أن يغيِّرَ رأيه. وبمجردِ الاستماعِ إلى كلامِ طرفٍ ثالثٍ عن الله، ندخلُ بحالة الشيطانية وتبدأ عداوتُنا مع الربِّ.

اختبرني يا الله واعرفْ قلبي. امتحني واعرف أفكاري
وانظر إن كان في طريق باطل، واهدني طريقا أبديا
وهنا يعودُ المرنّم ليطلُبَ من الربِّ أن يختبِرَه مجدَّداً، وأن يُبقيَ عيناً عليه، لأنه بالرغم من معرفتِه أنَّ الله يعرفَهُ، ومن أنّه لا يستمعُ لكلام طرفٍ ثالث، إلا أنه يعرفُ حجمَه كإنسان.
ونحن عندما نقفُ لنصلِّيَ هذا المزمور أمام الله، تَنتفي من أمامنا قصَّةُ السيِّد والعبد، وقصَّةُ ربِّ العملِ والأجير وتبقى قصَّةُ الأبِ وابنِه، وهذا هو التدرُّجُ في العلاقة مع الله. فالعلاقةُ التي تدخلُ فيها الخطِيَّة هي إما علاقةُ سيِّدٍ وعبدٍ، لأن العبدَ دوماً يخافُ سيِّدَه، وبالتالي يرتكبُ أموراً بالخفية، أو علاقةُ أجيرٍ بربِّ العمل، لأنه ينتظرُ منه أجراً ومصلحةً. أما الابنُ فلأنَّه وارثٌ لكلِّ شيء من أبيه ليس مُضطراً لتخبئةِ أيِّ شيءٍ، وهذه أصدقُ علاقةٍ. ولم يتحدثْ العهدُ الجديد كلُّه صدفةً عن أن الله لديهِ ابنٌ، لأن العلاقةَ السليمة الوحيدة هي علاقةُ البنوّة. ويسوع هو ابنُ الله الشرعي، ونحن أبناء الله بالتبنِّي، وأصبحْنا نتمتعُ بالحقوقِ الشرعية ذاتِها التي يتمتعُ بها الابنُ الحقيقي. فإذا كنَّا نملكُ حقوقَ يسوع نفسَها، لماذا لا نتصرَّفُ على مثاله؟ في الحقيقة لأنَّنا لم نصلْ بعد إلى مرحلةِ الابنِ وأبيه، بل ما زلنا في حالةِ العبدِ والسيِّد، والأجيرِ وربِّ العمل، ولم نصدِّقْ بعد أن الله هو أبونا، أي لم نصدِّق أنه يحبُّنا كما أحبَّ يسوع، لذا نبتزُّ الله ونجرِّبُه من خلال محبَّته لنا ليُلبِّي حاجاتِنا السخيفة، ناسين أنَّ الله بإمكانه أن يأتيَ بأبناءٍ لابراهيم من الحجارة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنَ تفسيرُ المزمور من قبلنا بتصرُّف. تتمة...