تفسير الكتاب المقدّس
سِفر المزامير
المزمور الثاني والعشرون
الأب ابراهيم سعد
21/2/2014
1. إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟
2. إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
3. وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ.
4. عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
5. إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
6. أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ.
7. كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
8. «اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
9. لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي.
10. عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي.
11. لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
12. أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
13. فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
14. كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.
15. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
16. لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
17. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
18. يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
19. أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
20. أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
21. خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
22. أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
23. يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
24. لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمَسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
25. مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
26. يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
27. تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
28. لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
29. أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
30. الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي.
31. يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
عندما نقرأ هذا المزمور من منظارِ العهدِ الجديد، نجِدُ أنَّه يروي جزءاً من قصةِ حياةِ يسوع المسيح، إذ يجسِّدُ معاناةَ يسوع على الصليب، حتى أن عباراتٍ كثيرةً منه تتشابهُ مع حديثِ الآلام، كتِلك التي تَصِفُ اقتسامَ الثياب والاقتراعَ عليها، واستهزاءَ الجندِ بالربِّ على الصليب وغيرها. ولكن، بالرغم من هذا التشابه، يروي هذا المزمور قصةَ إنسانٍ واقعٍ في مأزقٍ ويتعرَّضُ لضغطٍ شديدٍ، وهو مؤمنٌ جداً ويتَّكِّلُ على الله أشدَّ اتِّكالٍ، إلا أنَّ جواباً لم يصِلْه بعد.
وهذا المزمور مقسومٌ بحسبِ المعنى إلى قسمين. يروي القسمُ الأول منه معاناةَ المرنِّم، واستجداءَه للربِّ واتِّكاله عليه مع عدمِ وجودِ جوابٍ، في حين يُخبِرُ القسمُ الثاني عن استجابةِ الله، وقدرتِه على حلِّ كلِّ شيء.
ونحنُ عندما نصلِّي إلى الرَّبِّ طالبينَ منه أمراً ما، ننتظرُ فترةً معينةً لنرى إن استجابَ الله لطلبِنا أم لم يفعلْ. أمَّا كاتبُ المزمور فبإيمانِه الكبيرِ يشكرُ الربَّ على الاستجابة أثناء طلبِه وقبل أن تتحقَّقَ طلبتُه فعليَّاً. وإن نحنُ أيضاً اتَّبَعْنا هذه الطريقةَ فيستجيبُ الله فعلاً، إذ نتعاملُ معه بصدقٍ مؤمنينَ أنَّه سيحقِّقُ ما طلبْنا. تبقى المشكلةُ الوحيدة - والتي تَعيقُ اتِّكالَنا التّام على الله- هي رغبتُنا الدائمة في تحديد وقتِ استجابةِ الله لطِلبتِنا، بحسبِ ما نراه نحن وقتاً مناسباً متجاهلين أنَّ "الأوقات والأزمنة في سلطانه"، وأنّه هو من يحدِّدُ الوقتَ المناسب فعلاً. وعلينا أن نحذَرَ من الوقوع في فخِّ "تجريب الله" عند اتِّكالِنا عليه، كما فعلَ شعبُ موسى في العهد القديم، عندما طلبوا الطعامَ من الله فأرسلَ لهم المنَّ ليأكلوا، فقاموا بتخبئةِ قسمٍ منه خوفاً من ألا يستجيب لهم الله ثانية، ففسدَ المنُّ، وكأن الله يقولُ لهم أنه من يُطعِمُهم يومياً وليس أحداً سواه. وكلُّ من هو سوى الله يكون عدواً، إلَّا إنْ كان يقودُنا إلى الله.
إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيدًا عَنْ خَلاَصِي، عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟
إِلهِي، فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ، فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوَّ لِي.
فكاتبُ المزمور يمرُّ بوقتٍ عصيبٍ جداً، ويشعرُ أنَّ الله قد تخلَّى عنه وتركَه، فيُناجيه سائلاً إيَّاه عن سببِ ابتعادِه عنه، وعن تجاهلِ طلبِه للخلاص مع كل نفَسٍ يشهقُه ويزفرُه، ومع كلِّ تنهيدةٍ. فالكاتبُ يدعو ليلَ نهار، بِلا كللٍ أو مللٍ، إلا أنّ الله أصبحَ أبعد من أن يستمعَ إليه.
وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ. ومع ذلك يؤمنُ المرنّم بأن الله هو القدُّوس، وهو الذي كان يُلبِّي شعبَ اسرائيل مباشرةً كلَّما استجْدوه مُصلِّين ومُسبِّحين.
عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجَوْا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزَوْا.
وهو يعرفُ أنَّ آباءَه وأجدادَه قد اتَّكلوا على الله وصلُّوا إليه فلبَّاهم ولم يخزِهم البتة.
أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ.
كُلُّ الَّذِينَ يَرَوْنَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ، وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
«اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ، لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ».
وهنا المرنِّم يشعرُ بأنه من الممكن أن يُسحَقَ بلحظةٍ كما تُسحَقُ الدُّودة بسبب الوضعِ الذي هو فيه، ومع ذلك فإنَّ الله بعيدٌ، وكأنَّه أيضاً لا يعتبرُه إنساناً بل دودة. والبشرُ باتوا يحتقرونه لأنه يَشهدُ ويفتخرُ بالله إلهاً ومخلصاً ولم يستجبْ له أويُنجِدْه في محنتِه، فصارَ محطَّ استهزاءٍ من الجميع، يَشمَتون به لأنه مسرورٌ بإله لا يستجيبُ له.
وفي أيامِنا هذه، باتَ المصلِّي هو من يستهزىءُ بنفسِه، ولا يصدِّقُ أنّ الله سيلبِّي طلبتَه.
لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنًّا عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي.
ولدى الكاتب قناعةٌ أنَّه لم يتكوَّن إلا بإرادة الله ورضاه، وقد كان مرتاحاً قبل أن يقعَ في الشِّدَّة.
عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلهِي.
والمرنِّمُ يؤمنُ بالله مُذ كان جنيناً في رحمِ أمِّه، والحالةُ التي يمرُّ بها لم تزعزعْ إيمانَه.
لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
والإنسانُ كلَّما اقترَبَتْ منه الصِّعابُ، كلَّما شَعرَ أن الله يبتعدُ، لذا فإن المرنِّمَ يستجدي الله ألَّا يبتعدَ عنه مع اقترابِ الضِّيقاتِ أكثر وأكثر، فهو مُتوكِّلٌ عليه ليُخلِّصَه كما خلَّصَ أجدادَه، لأنه يؤمنُ أنَّه لا مُعين إلا الربّ، فإن ابتعدَ هو أيضا صارَ الكاتبُ دودةً لا إنسان، وسينسحقُ لأنه لن يَستعينَ بغيرِ الله. وهنا نجدُ المرنِّمَ وكأنه يُنبِّه الله إلى أهميةِ إنقاذه، لأنه آمنَ به وإنْ انتهى فلنْ يوجدَ مَن يتحدَّثُ عن الله بعد!
أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
الثيرانُ هنا تمثِّلُ الأعداء، أمَّا باشان فهي منطقةٌ رعويةٌ خضراء، والأبقارُ فيها تمتازُ بالقوَّةِ الكبيرة. وهنا يُشيرُ المرنِّمُ إلى قوَّة وجبروت أعدائه، الذين أحاطوا به كالوحوشِ الضارية متأهِّبين للانقضاضِ عليه. أي أنَّ الوقتَ لم يعُدْ في مصلحة الله ولا المرنِّم، لأنَّه إنْ انتهى فلنْ يوجَدَ مَن يُسبِّح ويمجِّد الربَّ بعده ويُخبِر باسمه، ومع ذلك فهو يتركُ اختيارَ توقيتِ التدخُّلِ لله وحده.
كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.
وهنا ينتقلُ المرنِّم للحديثِ عن وضعِه الداخلي وحالتِه، بعد أن تحدَّثَ عن إيمانِه بالله، وعن أعدائِه.
ويُشبِّهُ الكاتبُ نفسَه بالماء المنسَكِب، الذي لا فائدة منه، مُشيراً إلى انسحاقِه، وإلى التعبِ الشديدِ الذي أرهقَهُ وأدَّى بعظامِه إلى التفَكُّك. ولشِدَّةِ الألم، يُشبِّه الكاتبُ قلبَهُ بالشمعة التي تحترقُ وتذوبُ قطراتُها في أمعائِه.
يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
أما قوَّةُ المرنِّم فقد ذبُلَتْ كعودِ حطبٍ. أما التصاقُ اللِّسانِ بالحنك، فهو دليلُ الإرهاقِ التَّامِّ والوجعِ الشديد، إذ أشرفَ على الموتِ والله لم يَستجبْ بعد.
لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
والكلابُ صورةٌ عن الأعداءِ أيضاً. وهنا البيتُ يحملُ معنيين. الأول، واضحٌ صريحٌ يظهرُ فيه الكاتبُ كأسيرِ حربٍ يَتعرَّضُ للتعذيب. أما الثاني فهو مُبَطَّنٌ، وكأنه عبدٌ يُباع ويُشترى ويُعلَّم بثقوب، أي واقعٌ تحت نيرِ العبودية ولكن بغيرِ رضى الله.
أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
ويُمكن عدُّ عظامِ الإنسان إن أصبحَ هزيلاً جداً، أو أثناءَ تنهُّدِهِ بعمقٍ كبيرٍ ناقلاً حالتَه إلى الله ليستمعَ له، ومع ذلك لا جوابَ حتى الآن.
يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
وهنا دليلٌ على أنَّه قد أصبحَ عبداً، يتعرَّضُ للتعذيب وتؤخذ عنه ملابسُه وتُوزَّع، ويبقى وحده طريحَ الأرض.
أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي، أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
وهنا يعودُ المرنِّم إلى استجداءِ الله لئلَّا يبتعدَ عنه، بعد أن شرحَ له وضعَه كاملاً، وهو متأكِّدٌ أنَّ الله سيستجيبُ إذ
ما زال عنده رجاءٌ بربِّه. ثم يصرخ: "يَا قُوَّتِي"، وقد سبقَ وقال إن قوَّته أصبحتْ كقوَّة عودٍ يابسٍ، أي أنَّه إن كان يتمتَّعُ بالقوَّة بعد، فهي قوَّةُ الله وهو وحدُه سببُها. يقول بولس الرسول في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس: "مِنْ جِهَةِ هذَا تَضَرَّعْتُ إِلَى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُفَارِقَنِي. فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ"، أي بعد أن جُرِّد الكاتبُ من كلِّ قوَّة، فإنَّ أي قوَّة تظهرُ عليه قدَّام الناس، هي حتماً ليست قوَّته، بل قوَّة أحد آخر، وهو يؤكِّد أنها قوَّة الله وحده.
وعندما يصرخ المرنِّم: " أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي"، نتذكَّرُ قولَ الرب يسوع لزكا: "أسرعْ انزل يا زكا، اليوم ينبغي أن أمكثَ عندك".
أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
والسيفُ هو الموتُ الذي ليس من عند الله. والكلبُ هو العدو، وعند اليهود هو رمزٌ للأمم الوثنية: "لا ترموا دُرركم للخنازير/الكلاب"، "وكانت الكلاب تلحَسُ قروحَه"، "لا يُؤخَذ خبز البنين ويُطرَح للكلاب"، "حتى الكلاب تأكلُ من فتات البنين"
خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ، وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.
وهنا تكرارٌ لفكرة التَّعبِ الشديد والعدو.
أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
وهنا يبدأ القسمُ الثاني من المزمور، وحتماً سيتساءَلُ الناسُ عن سببِ تسبيحِ المرنِّم للربِّ بالرغم من عدم حصولِه على جواب. أما بالنسبة للمرنِّم، فهو يحيا بحالةِ سلامٍ بمجرَّد أن يطلُبَ من الربِّ، لأنه متأكِّدٌ من أنَّ طلبَه سيُترجَم استجابةً، إذ يكمُن السرُّ في قناعةِ السائلِ أن طلبَه مجابٌ.
يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ! مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، وَاخْشَوْهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعًا!
والخوفُ ليس من الربِّ، بل الخوفُ من خسارة العلاقةِ معه، كما يخشى المحبُّ خسارةَ حبيبِه. وهنا يُشدِّدُ الكاتب على أنَّ الربَّ هو المخلِّصُ والقادرُ والخالق.
لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يرْذِلْ مَسْكَنَةَ الْمَسْكِينِ، وَلَمْ يَحْجُبْ وَجْهَهُ عَنْهُ، بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
أي أنَّ المرنِّم متأكِّدٌ أنَّ الله لم يحتقرْ طِلبَتَهُ ولم يستهزئ بها، وعدم استجابتِه لا يعني أنَّه لم يأخذْ الطلبَ بعينِ الاعتبار، إلا أنَّه هُو من يقرّرُ متى يستجيب، والمرنِّم يبدأ بالتسبيحِ فوراً وكأنَّه قد استجاب.
ويقولُ أشعياء النبي: "حين تبسطون أيديكم، أحجبُ وجهي عنكم، لأن المسكين لم تقووه" ، فكيف إذا يلومُ الله شعبَه إن لم يساعدوا المسكين فيحجب وجهُه عنهم، إن كان هو لن يساعدَ المسكين أيضا؟! من غير الممكن أن يَترُكَ الله المسكين، بل يستمعُ إلى صراخِه الحار. ونحنُ علينا أن نصرُخَ باستمرارٍ بقوِّة الصلاة، وبدون تكبّر، إلى أن يستجيبَ لنا الله.
مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
أي المرنِّم يسبِّحُ الربَّ، ويوفي النذورَ التي قطعها أمامه حتى قبل أن يستجيبَ له، في اللحظة التي يطلبُ فيها إيماناً منه بحتميَّةِ الاستجابة.
يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي.
أي أنَّ الدُّنيا بأكملِها تسبِّحُ الربَّ، لأنه أظهرَ وأثبتَ وبرهَنَ أنه هو الإله المخلِّص، والأممُ بأكملِها تحت سلطتِه.
يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرهِ شَعْبًا سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.
أي أنَّ الأجيالَ القادمة أيضاً ستُخبِرُ بما فعلَ الله مع المرنِّم.
وهذا هو الصِّدقُ الذي يتحدَّثُ به كاتبُ المزمور، مُظهِراً قدرةَ الإنسان على استجلابِ إرادةِ الله، فيتحوَّلُ الله خادماً للإنسان بدلاً من أن يكون الإنسانُ خادماً له بسبب إيمانِ الإنسان. ويسوع يقول: "إيمانكِ عظيمٌ يا امرأة، فليكن لكِ كما أردتِ"، "لم أرَ إيماناً كهذا في إسرائيل، اذهب قد شُفِيَ غلامُك".
وإن أردْنا إسقاطَ هذه الحالة على يسوع وهو على الصَّليب، نجدُ أنه على الرغم من صعوبةِ حاله يقول في النهاية: "في يدَيْك أستودعُ روحي"، أي أنَّ يسوع يرفضُ تسليمَ روحِهِ للموت، ويُسلِّمُها لله الآب وحده، فيُقيمُه من بين الأموات لأنَّه إن لم يقمْ، كانت روحُه في قبضةِ الموت لا في قبضةِ الله، ومن يَكنْ في قبضةِ الله لا يُمكن أن يموت.
والناسُ جميعاً كانوا في حالةِ ذهول، لأن يسوع الذي قامَ بالعجائب غير قادرٍ على النزولِ عن الصليب ويُعاني الألم. وفي الحقيقة أنهم فهِموا المسيح، إلا أنهم لم يتمكَّنوا من فَهمِ علاقتِه بالله أبيه، وهو سرُّ الثالوث. ومفهومُ العلاقة بين الآبِ والابنِ لا يمكن أن يُصدَّق إلَّا إن أصبحْنا طرَفاً في العلاقة في سرِّ الحبِّ وحده. وكلُّ إنسانٍ منَّا معرَّضٌ لأن يكون مكانَ كاتب المزمور، وإن لم يكنْ هناك أعداء فإنَّ الخطيئةَ هي التي تؤدِّي بنا إلى هذا الانكسار. وكلُّ لحظةِ صلاةٍ تمرُّ بنا من دون أن نمرَّ بهذه الحالة، يجبُ أن نُدركَ أنَّ هناك مشكلةٌ في مفهومِنا للصلاةِ، إذ علينا أن نفتقرَ أمام الله لتكون صلاتُنا حقَّةً. "طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السماوات"، والفقراءُ الحقيقيون هم الذين يَرَون أنَّ رضى الروح أكثرُ أهميَّةٍ من الغنى المادي. وإن لم نفتقرْ عند صلاتِنا الى المزامير، فلا ننتفع شيئاً، لأنَّ لسانَنا قد يلتصقُ بالحنك، إلا أنَّنا لا نستودعُ روحَنا بين يدَيْ الله. آمين
ملاحظة: دُوِّنَ تفسيرُ المزمور من قبلنا بتصرُّف.
تتمة...