البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
10/10/2017 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح الأوَّل الاضطهادات والضِّيقات
تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدِّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الأوَّل
الأب ابراهيم سعد

10/10/2017

إنّ الاستسلام، لأيٍّ كان، هو حالةٌ شيطانيّة، إلّا إذا كان هذا الاستسلامُ لله. إنّ السَّلام هو حالةٌ إلهيّة، غير أنّه ليس من الضروريّ أبدًا أن يترافق مع حالة من الاستسلام. في رسالة كورنثوس الثانية، يجزم بولس لأهل كورنثوس موضوع رسوليّته، الّتي لا يستطيع المساومة عليها لأنّها أمانةٌ من الله له. إنّ رسوليّة بولس هي مشروع إلهيّ، لا مشروع بولس الخاصّ.

يبدأ بولس الرّسول رسالته إلى أهل كورنثوس معرِّفًا عن نفسه بالقول:"بولس، رسول يسوع المسيح بمشيئة الله". في هذا التعريف ردٌّ واضحٌ من بولس على كلّ الّذين يُشكِّكون في رسوليّته، إذ إنّه لم يكن من الرّسل الاثني عشر الّذين عرفوا يسوع وتتلمذوا على يده. وفي بداية هذه الرسالة أيضًا، يَذكُر بولس اسم "تيموثاوس"، مناديًا إيّاه "الأخ" وليس الرّسول، لأنّ "تيموثاوس" لم يكن يومًا رسولاً بل كان مرافقًا لبولس في رحلاته التبشيريّة. إنّ جميع الّذين رافقوا بولس الرّسول في مسيرته التبشيريّة تركوه ولم يبقَ منهم إلّا تيموتاوس، وما هذا إلّا دليل على أنّ المبشِّر يبقى وحيدًا، فالوَحدة هي مِن السّمات الّتـي ترافق كلّ رسول. يستخدم بولس الرّسول عبارة "كنيسة الله" في بداية رسالته للدلالة على أنّه يوجّه رسالته لا إلى المسؤولين في كنيسة كورنثوس إنّما إلى كافة المؤمنين في كورنثوس وجوارها، لذا يُضيف "في جميع آخائية". إنّ عبارة "قدِّيس"، حسب المفهوم البُولُسيّ، هو كلّ إنسان آمن بالربّ يسوع. إنّ النِّعمة الّتي يتكلّم عنها بولس، هي النِّعمة الأُخْرَويّة، أي تلك الآتية من اليوم الأخير، أي من الله الآب. ليس السّلام الّذي يتكلّم عنه بولس ذلك السّلام المصنوع من أيدي بشريّة نتيجة مساومات وحسابات خاصّة أرضيّة، إنّما السّلام بالنسبة إلى بولس، هو ذاك الآتي من الله، وهو عطيّة مجانيّة منه للبشر. إنّ الإنسان يتمتّع بحريّة كاملة إمّا لرفض مِثل هذا السّلام أو للقبول به: فإن رَفَضَه، افتقده في هذه الفانية وفي الآخرة،؛ أمّا إن قَبِل به، فإنّه ينال السّلام الدّاخليّ الّذي لا يستطيع أحد أن ينزعه منه، ويساعده على عيش السّلام مع الّذين يُحيطون به على الرّغم من كلّ الصُّعوبات.

إنّه مِن الواضح في هذه الرّسالة أنّ أهل كورنثوس يُعانون من الضِّيق، بدليل وَفرَة استخدام بولس لمفردات التعزية، فَقَدْ وَرَدَتْ عبارة "التعزية" ومشتقّاتها، ستُّ مرّات في آيةٍ كتابيّة واحدة. يشجِّع بولس أهل كورنثوس على احتمال الضِّيقات الّتي يتعرَّضون إليها. إنّ التعزية لا تطال الأشخاص الحزانى على فقدانهم أعزّاء مِن هذه الفانية فحسب، إنّما تطال كذلك كلّ مَن يُعاني من الوَحدة. ولا يُقصَد بالوَحدة الأشخاص المتروكين مِن قِبَل الآخرين، إذ قد يكون الأشخاص برفقة كثيرين لكنّهم يشعرون بالوَحدة: فقد يطالب أحدهم بتطبيق الحقّ والعدل، وقد يُشارِكه كُثُرٌ هذا الهمّ غير أنّهم يتراجعون عن الوقوف إلى جانب هذا الإنسان خوفًا من العواقب السلبيّة الّتي تطالهم جرّاء الاستمرار في الدِّفاع عن الحَقّ. بالنسبة إلى بولس، إنّ التعزية البشريّة لن تكون فعّالة إلّا إذا كان يسوع المسيح هو مصدرها، إذ إنّه نبع كلّ تعزية.

إنّ كلّ حاملٍ للواء المسيح، سيُعاني من الاضطهادات والضِّيقات كما عانى يسوع المسيح نفسه: فالربّ يسوع قد تحمّل الآلام والشتائم والجلد لأنّه أعلن للبشر كلمة الحقّ، وهذه هي الحالة الّـتي سيعيشها كلّ مُعلِنٍ للكلمة الإلهيّة. ولكنّ التعزيات الإلهيّة ترافق وتُشدِّد كلّ مَن يعاني من الضِّيق. فكلّما تكاثرت الاضطهادات والضِّيقات، كلّما تكاثرت التعزيات الإلهيّة، إذ لا يستطيع أيّ إنسان الاستمرار في الصّمود في مسيرته المشبَّعة بالاضطهادات لولا التعزيات الإلهيّة الّتـي تَصِلُه مِن الله بطُرقٍ متنوِّعة. إنّ الاضطهادات الّـتي تعرَّض لها بولس الرّسول لم تُثنِه عن متابعة مسيرته التبشيريّة، لأنّ هدفه هو إيصال كلمة الله إلى النّفوس، كي تنال الخلاص بيسوع المسيح، لذا كان يُبارِك مُضطهديه، محتملاً كلّ الإذلال والشتائم الّتي يتعرَّض لها. إنّ بولس يُشدِّد أهل كورنثوس على احتمال الضِّيقات الّتي يُعانون منها، ويدفعهم إلى التذكُّر في كلّ مرّةٍ أنّ هناك آخرين أيضًا قد احتملوا الكثير من الاضطهادات، بل وأكثر منهم، في سبيل إيصال البشارة إليهم. استخدم بولس عبارة "فلأجل تعزيتكم وخلاصكم"، مرّتين في آية واحدة، للتركيز على الضِّيق الّذي يُعاني منه أهل كورنثوس، مُشدِّدًا إيّاهم على احتمالها ومعزيًّا إيّاهم بكلمة الله الّـتي تمنحهم الشَّجاعة والثبات في مسيرتهم الروحيّة. إنّ بولس استخدم عبارة "رجاؤنا لأجلكم ثابتٌ"، ليُذكِّر أهل كورنثوس أنّ هذا الرّجاء الّذي نالوه نتيجة إيمانهم بكلمة الله هو ثابتٌ لا يتزعزع، لأنّه غير مبنيّ على حسابات بشريّة بل على كلمة الله. إنّ بعض المؤمنين يقعون في حبائل الشيطان حين يستخدمون عبارات مِثل:"عسى، ربّما، مِن الممكن"، فكلّ تلك الكلمات هي عبارات شيطانيّة. إنّ الشِّرير قد سكن في الهيكل بدليل تَهَاوُن عددٍ كبير من المسؤولين في الكنيسة في إعلان كلمة الله دُون هوادة، أو خوف.
إنّ بولس يُخبر أهل كورنثوس بأنّهم سيشاركونه في التعزيات الإلهيّة، كما شاركوه في تحمّل الضِّيقات. إنّ بولس كان يُعاني من آلام حادّة في مَعِدته نتيجة تحمُّله كلّ تلك الاضطهادات الّـتي عانى منها مِنَ الّذِين يدعوهم "إخوةً" له في الإيمان، كما وَرَد في رسالته إلى أهل غلاطية. إنّ الاضطهادات الّتي عانى منها بولس في آسيا قد أَوصَلتْهُ إلى مرحلةٍ من الإحباط واليأس من الحياة. إنّ كلّ رسول سيتعرَّض لهذه التَّجربة حين يشعر أنّ كلّ عمَلِه التبشيريّ قد ذهب سُدىً. إنَّ بولس مستعِدٌّ للموت، لأنّ اتّكاله ليس على ذاته إنّما على الله الّذي يُقيم الموتى. إنّ الإنسان الّذي يتكِّل على ذاته، لن يتمكّن من الصّمود في وجه ألاعيب التخويف والضَّغط، والتّرغيب والتّرهيب الّتي يحيكها له الآخرون، بل سيسقط فيها، لأنّها كلّها مِن عمَل الشيطان. إنّ الّذين يرفضون الحقّ يلجؤون إلى استمالة الإنسان السائر في الحقّ، بوسائل متعدِّدة ومتنوِّعة، وإن فشلوا سعوا إلى إسكاته بالقوّة. إنّ الإنسان المتَّكل على الله لن يسكت عن إعلان الحقّ على الرّغم من كلّ الاضطهادات الّتي ينالها، لأنّ الله سيُغدِق عليه بالتعزيات الإلهيّة. إنّ بولس لا يخاف مِن الموت، لأنّه واثقٌ أنّ الله الّذي نجّاه مِن الموت في المرّات السابقة سيفعل ذلك على الدّوام إلى أن يحين موعد انتقاله من هذه الفانية، إلى الملكوت السماويّ.
إنّ بولس يدعو أهل كورنثوس للصّلاة من أجله، إن كانوا لا يستطيعون مشاركته في مسيرته التبشيريّة، كي يستطيع أن يتحمّل الضِّيقات الّتي يُعاني منها، ويكون سببَ شكرٍ لله مِن قِبَل الّذين يُبشِّرهم. إنّ بولس يُشهِد ضميره عليه في أمانته في إعلان كلمة الله. لقد كان بولس أمينًا في تصرّفاته للتعليم الّذي أعطاه إلى أهل كورنثوس، إذ لم يتهاون مع الباطل. يطلب بولس من أهل كورنثوس الثّبات في إيمانهم بالربّ يسوع على الرّغم من كلّ الضِّيقات الّتي يُعانون منها، لأنّ في ذلك فخرًا للرّسول يوم وقوفه أمام الربّ الدّيان العادل في اليوم الأخير، أي بعد انتقاله مِن هذا العالم. إنّ ثبات أهل كورنثوس في إيمانهم بالربّ هو شاهدٌ على رسوليّة بولس وإتمامه مشيئة الله فيه. إنّ إيمان أهل كورنثوس هو ثمرة جُهد بولس وتعبه في إيصال كلمة الله إليهم. بالنسبة إلى بولس، إنّ التبشير هو فريضةٌ وُضِعت عليه ولذا عليه أن ينقل إلى الآخرين كلمة الله بكلّ أمانة، أكان فرِحًا أم حزينًا. لذلك قال بولس الرّسول: "الويل لي إن لم أُبشِّر"، لأنّه بالنسبة إلى بولس، فالتَّبشير غير مرتبطٍ بمزاجيّة المبشِّر.
كان بولس يودّ المجيء إلى كورنثوس ليُشارِك أهلها في أخبار مسيرة رحلاته التبشيريّة. فكما أنّ يسوع لم يُراوغ في إعلانه البشارة، بل كان "الأمين" على كلمة الله، وفي كلامه كلّ "النَّعم"، كذلك هي حال بولس الّذي نقل كلام الربّ يسوع إلى الّذين بشَّرهم بكلّ أمانة وصدقٍ. في العقود البشريّة، يُوَقِّع أطراف العقد عليه في نهايته لـتأكيد مصداقيّة ما وَرَد فيه؛ أمّا الربّ يسوع فيُوقِّع على مِصداقيّة كلامه قَبل أن يتفوّه به، وهذا ما يُبرِّر استخدامه لعبارة: "الحقّ الحقّ أقول لكم". إنّ هذه العبارة "الحقّ الحقّ أقول لكم"، تُشير على أنّ كلّ ما سيتبعها من كلام هو الحقيقة. في ختام هذا الإصحاح، شدَّد بولس أمام أهل كورنثوس على رسوليّته فقال إنّه مُرسَل من عند الله، وأنّه ممسوح مِن الله للتبشير بكلمته، وقد ختمه بالرّوح القدس الّذي أفاضه عليه في قلبه. لقد جعل بولسُ اللهَ شاهدًا على أقواله هذه إلى أهل كورنثوس. إنّ بولس قد طلب من أهل كورنثوس أن يشكروا الله على عدم استطاعته المجيء إليهم. في هذا الطلب تهديدٌ شديدُ اللّهجة من بولس إليهم، كي يُصحِّحوا مسارهم من جديد، فيعودوا إلى السيّر وِفق التّعليم الّذي بشَّرهم به. إنّ بولس مُحتارٌ في الطريقة الّتي عليه اللّجوء إليها في تعامله مع أهل كورنثوس، فهو لم يعد يُدرِك هل عليه باللِّين عليهم أم بالقوّة. إنّ بولس لم يأتِ إلى كورنثوس إشفاقًا منه على أهلها، فهو لا يريد أن تزداد عليهم الضِّيقات بسبب وجوده فيما بينهم. إنّ عددًا كبيرًا من أهل كورنثوس قد وافقوا بولس على تعليمه، فآمنوا بالربّ لكنّهم تراجعوا عن السيّر معه في مسيرته التبشيريّة خَوفًا من تعرُّضهم للاضطهادات والضِّيقات. إنّ أمثال هؤلاء المؤمنين هم كالمرائين: إذ إنّهم يريدون مشاركة بولس في ثمار تعبه في الرسالة، ويوافقون على ما يبشِّر به، من دُون مشاركته في تحمّل الضِّيقات والاضطهادات.
إنّ عالمنا اليوم يُعاني من أزمةٍ كبيرة، إذ يقوم البعض بتهميش الإنجيل لأنّه يتعارض مع مصالحهم الخاصّة، لذا هم يسعون إلى إسكات كلّ مَن يرفَع الصّوت عاليًا ويطالب بإعادة الإنجيل إلى مكانه الصَّحيح في وَسَط الجماعة المؤمنة. وهناك وسائل متعدِّدة ومتنوِّعة لإسكات الـمُطالب بإحقاق الحقّ: إمّا بتشويه سُمعته كي تتزعزع ثقة الآخرين به، وإمّا برصاصة قاتلة فيغيب عن ذاكرة المؤمنين، وينسى هؤلاء المطالبة بإعادة الإنجيل إلى مكانه الصَّحيح. إنّ كلّ هذه الاضطهادات قد عانى منها بولس أيضًا في أيّامه: فقد حاول كثيرون تشويه سُمعته أمام المؤمنين قائلين فيه إنّه يبشِّر بكلمة الله من أجل الحصول على الطّعام من المؤمنين. لقد دَفعت هذه الإشاعة مؤمنين كُثُرًا إلى عدم الإصغاء من جديد إلى أقوال بولس أو القبول بالتّعاليم الّذي يبشِّر بها، وبالتّالي لقد عطّل هؤلاء الـمبغِضون للحقّ وصول كلمة الله إلى المؤمنين. عند بلوغ مِثل تلك الإشاعات مسامِع بولس، قرّر عدم قبول الطّعام مُجدّدًا كي لا يكون ذلك سببًا في رفض المؤمنين لكلمة الله، فقرّر العمل في صناعة الخِيام كي يتمكّن من تأمين معيشته، على الرّغم من أنّ "خادم الهيكل، مِنَ الهيكل يأكُل". ونتيجة صناعته في الخِيام، شّح نظر بولس فلم يعد بإمكانه الكتابة، لذا كان يستعين بتلاميذه ليُدوّنوا رسائله إلى الكنائس. ولكن حين كان يريد التعبير عن محبّته للمؤمنين في كنيسة معيّنة، كان يقول لهم إنّه هو الّذي دَوَّن تلك الرّسالة بخطّ يده. لقد تحمَّل بولس كلّ تلك الاضطهادات وسعى إلى إثبات عدم صِّحتها، لا دفاعًا عن كرامته إنّما مخافة تعطيل تلك الإشاعات لانتشار الإنجيل، وبالتّالي على خلاص النّفوس. فبالنسبة إلى بولس، على مشروع الله أن يتابع مسيرته في الوصول إلى النّفوس المتعطِّشة إليه على الرّغم من كلّ العراقيل الّتي قد تواجه الرّسول، إذ إنّ الأهمّ بالنسبة له هو إيصال كلمة الله إلى البشر أجمعين. لقد اتُّهِم بولس بأنّه يريد تقسيم الكنيسة، لذا مُنِع من دُخول أُورشليم والتبشير فيها. فما كان مِن بولس إلّا أن ذهَب إلى الأمم لتبشيرها بكلمة الله. إنّ كلّ هذه الاضطهادات الّتي واجهت بولس، وَجَّهها إليه "الإخوة"، أي المسؤولون في الكنائس الّتي بشَّرها. وعلى الرّغم من ذَلك، فهو لم يسعَ إلى إقامة خصوماتٍ معهم، بل كان يُعاملهم انطلاقًا من تعاليم يسوع المسيح الّتي يبشِّر بها أي بكلّ محبّة. إنّ هؤلاء "الإخوة الكَذَبة" يعيشون ازدواجيّة في الحياة: إذ يُعلنون محبّتهم للحقّ ولكنّهم في الحقيقة يعملون ضِدَّه. لذا رفَض بولس رِفقة هؤلاء مِن دُون مُعاداتهم، لأنّه لا يستطيع على مِثالهم المساومة على الحقّ.

إنّ يسوع المسيح قد عانى كذلك من تلك الاضطهادات نفسها إذ كان يحظى بالتّصفيق والتّهليل مِن قِبل المؤمنين عند قيامه بالأعاجيب، ولكنّه عند القبض عليه وصَلبِه، لم يبقَ معه إلّا ذاك "الّذي كان يُحبُّه". إنّ هذه العبارة يمكن تفسيرها بطريقتين: الأولى أن يكون يسوع هو الّذي كان يُحب هذا التِّلميذ الّذي بَقِيَ معه عند أقدام الصَّليب؛ أمّا الطريقة الثانية فهي أنّ هذا التِّلميذ بَقِيَ مع يسوع إلى النِّهاية لأنّه كان يُحبّ يسوع. إنّ كِلا التفسيرين جائزان. قد يعتقد البعض، في التفسير الأوّل، أن يسوع يميِّز بين تلاميذه، لذا يأتي التفسير الثّاني ليقول إنّ التِّلميذ هو الّذي كان يُحبّ يسوع، وبالتّالي يُصبح عدم ذِكر اسم التِّلميذ مقصودًا لكي يتمكّن كلّ مَن يقرأ هذه الآية من أن يُدوِّن اسمه، فتكون تلك الآية الكتابيّة موجّهة له بطريقة شخصيّة.
إذًا، إنّ الضِّيقات الّتي عانى منها بولس كانت نتيجة حسد الإخوة الكَذَبة له، ورغبتهم في الحصول على مكانة بولس عند المؤمنين في عَمله التبشيريّ. لذا شوّهوا سُمعته أمام المؤمنين ومَنعوه من دُخول أورشليم فطاردوه وألقوا القبض عليه، وكانت مُحاكمته في روما. وكما حَدَث مع يسوع، كذلك حدَث مع بولس، إذ تمّ إلقاء القبض على يسوع ومحاكمته، وقد قال فيه عظيم أحبار اليهود في ذلك الحين: خيرٌ له أن يموتَ واحدٌ عن الأمَّة، مِن أن تهلك الأمَّة كلُّها. هذا أيضًا ما حدث مع بولس إذ فضَّل هؤلاء "الإخوة الكَذبة" إلقاء القبض على بولس ومحاكمته والحكم عليه بالموت، على أن تتعطّل مشاريعهم الأرضيّة الباطلة. إنّ اليهود حكموا على يسوع بالموت؛ أمّا بولس، فقد حكم عليه المسيحيّون من أصل يهوديّ بالموت. إنّ عَمل هؤلاء المسيحيّين ما هو إلّا دلالة على أنّهم لم يسمحوا للرّوح القدس الّذي نالوه في المعموديّة من أن يدخل إلى أعماقهم ويُغيِّر ذهنيّتهم القديمة. إنّ هذا الكلام لا ينطبق فقط على اليهود في أيّام يسوع، والمسيحيّين من أصل يهوديّ في أيّام بولس، بل ينطبق أيضًا على بعض المسيحييّن في عالمنا اليوم، الّذين نالوا العماد مِن دُون أن يَسمحوا للرّوح القدس بأن يُغيِّر ذهنيّاتهم القديمة. إنّ المعموديّة ليست مجرّد مياه وزيت يُمسَح بهما الإنسان إنّما يرمز الزّيت إلى النّور والنّار ، رَمْزَي الرّوح القدس. إنّ الرّوح القدس هو نار آكلة تمحو كلّ فسادٍ وباطل من قلب الإنسان، فتجعله صادقًا مِن دون نوايا خبيثة، غير أنّ الله وحده يستطيع الدّخول إلى خفايا الإنسان ومعرفتها. لذا لا يعتقدنَّ الإنسان نفسه مُضطَهدًا من الآخرين نتيجة كلامه الجميل، فقد يكون الآخرون صالحين في الظّاهر ولكنّهم يرفضون قبول الحقّ لأنّه يُعطِّل مصالحهم الخاصّة.

إخوتي، إنّ العَمَل الكنسيّ ليس حِكرًا على المسؤولين في الكنيسة، بل هو واجبُ كلّ مؤمن نال المعموديّة، لأنّه أصبح عضوًا فيها، لذا على كلّ مؤمن أن يُعلن كلمة الله، كلمة الحقّ. إنّ إعلان المؤمن لكلمة الله لا يحتاج إلى بركةٍ من المسؤولين في الكنيسة، لأنّ الله منح هذا الحقّ لكلّ من نال الرّوح القدس في المعموديّة. وبالتّالي يحقّ لكلّ مؤمن أن يُعلِن كلمة الله بتواضعٍ ومحبّة للآخرين، لا من باب الكبرياء والتّعالي عليهم. إنّ كلّ البشر هم خطأة على حدٍّ سواء، لذا على كلّ مَن يرغب بإعلان كلمة الله أن يسعى إلى تحسين ذاته متخليًّا عن كلّ خطاياه، ومتسلِّحًا بالفضائل محاولاً الاستمرار قدر الـمُستطاع في حالة النِّعمة. إنّ كلمة الله ليست حِكرًا على أحد بل هي مُلكٌ لجميع المؤمنين. على كلّ مؤمن أن يسهر على نموّ كلمة الله في داخله، فيتمكّن من نقلها إلى الآخرين على الرّغم من كلّ الاضطهادات التّي سينالها، كما عليه أن يتذكّر دائمًا أنّه مع تكاثر الاضطهادات عليه، تزداد التعزيات الإلهيّة له. إنّ سفر الرؤيا يتكلّم عن "صبر القدِّيسين"، الّذي على كلّ مؤمن مُضطهَد أن يتحلّى به كي يتمكّن من احتمال كلّ الضِّيقات الّتي تواجهه، مِن دون أن يُصاب بالإحباط واليأس. لا يُقصَد بعبارة "صبر القدِّيسين"، أنّ المؤمن يُصبح قدِّيسَ الصَّبر، بل إنّه على المؤمن التحلّي بالصّبر الّذي يناله من القدِّيسين. في زمننا الحاضر، انقلبت كافة المقاييس: فتكاثر اللّهو وتضاءلت الجَدِّية، وسيطرت المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة. لذا طلب بولس الرّسول من أهل كورنثوس أن يُصلّوا له كي لا يقع في تجربة الإحباط واليأس نتيجة الاضطهادات الّتي يتعرَّض لها، فيمنحه الربّ نعمة الصّبر ويشجِّعه على احتمال تلك الضِّيقات، والثّبات في إيمانه بالربّ وفي مسيرته الرّسوليّة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
16/5/2017 رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح العاشر العطاء المجانيّ
https://youtu.be/6C08D1ncGRQ

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح العاشر
الأب إبراهيم سعد

16/5/2017

إنَّ هذا الإصحاح يُقسَم إلى قِسمين: القسم الأوَّل يتكلَّم عن الشَّريعة الموسَوِيّة، أي النّاموس اليهوديّ. إنّ الشريعة اليهوديّة لا تعكس، حسب قول كاتب هذه الرسالة، حقيقة الخيرات الآتية إنّما فقط ظِلَّها. لقد اكتشف الشَّعبُ القديمُ ظِلَّ تلك الخيرات الأبديّة مِن خلال الشريعة، أمّا حقيقتها فقد انكشفت لهم بيسوع المسيح. إنّ الذبائح هي انعكاس لظِلّ الخيرات الآتية: كان الشَّعب يُقدِّمها في الهيكل طلبًا لرضى الله ولغفرانه وتكفيرًا عن خطاياهم، إذ كان يُقدِّمها كُلَّما أخطأ، مِن دون أن يتمكّن مِنَ الوصول إلى الغاية الّتي أراد الله إيصالها للبشر مِن خلالها، لذا لم تَعُد تلك الذبائح تُرضي الله. إنَّ الذهنيّة اليهوديّة تَسَرَّبَت إلى عقول المسيحيّين، لذا نراهم -كُلَّما ارتكبوا الخطايا- يُسرِعون إلى الصّلاة وتقديم النّذورات لله، للتكفير عن خطاياهم مِن أجل الحصول على الرِّضى والغفران. لقد اعتقد النَّاس أنّه في تقديمهم الذبائح لله سيتمكّنون مِن استرضائه، بعد ارتكابهم الآثام، ولكنّ اعتقادهم هذا هو خاطئٌ تمامًا، لأنّ غفران الربّ لنا هو مجانيّ غير مشروط.

خاف الإنسان مِنَ الله، ففتَّش عن وسيلةٍ يسترضي بها الله حين كان يقع في الخطيئة. إنّ روحيّة العلاقة بين الإنسان والله قد فُقِدَت بسبب نظرة الإنسان إلى الله: فالإنسان ما عاد ينظر إلى الله على أنّه أبوه، إنّما فقط على أنّه إلهه، لذا خافَ منه، وهذا ما جعل تلك العلاقة خالية مِن مفهوم الحبّ، وبالتّالي لم تَعُد علاقة الإنسان بالله مَبنِيّة على الحبّ إنّما على القانون. إنّ العلاقة الـمَبنيّة على القانون، تحوي في طيّاتها إمكانيّة الخيانة. إنّ تصرُّف اللّبنانيّ مع القانون هو خيرُ نموذَج عن ذلك، إذ إنّنا نجد أنّ اللّبنانيّ يسعى إلى خرق القانون عند تَأَكُّدِهِ مِن عدم وجود أيِّ رقيبٍ عليه. إنّ اللّبنانيّ لا يلتزم بالقانون انطلاقًا مِن قناعتِه بأنّ في التزامَه به يصُونُ حياتَه وحياة الآخرين أيضًا، إنّما يلتزِم به خوفًا مِنَ العِقاب الّذي سيتعرَّض له جرّاء مُخالفته له. إنّ اللّبنانيّ الّذي ينجح في الإفلات مِنَ العقاب جرّاء خرقِه للقانون، يشعر بالفرح الشديد جرّاء فِعلَتِه تلك. إنّ اللّبنانيّ يمتَهِن فَنّ خَرْقِ القانون: إذ إنّه متى تَمَّ إلقاء القبضُ عليه، جرّاء مخالفته للقانون، حوَّل اللّبنانيّ نفسَه إلى ضحيّةٍ لظروفه الخاصّة، في سبيل الهروب مِنَ العِقاب. إذًا، إنّ تصرُّف اللّبنانيّ يُعبِّر عن انتشار الذهنيّة اليهوديّة في مجتمعِنا المسيحيّ. قبل مجيء المسيح، خضعت علاقة الإنسان بالله إلى الذهنيّة اليهوديّة وكذلك بقيَت الحال بعد مجيء المسيح أيضًا: فَقَد استمرَّت تلك الذهنيّة في السيطرة على تلك العلاقة حتّى بعد مجيء المسيح. إنّ الله قد أرسل ابنَه الوحيد ليتجسَّد في هذه الأرض الفانية،كي يؤكِّد للإنسانِ مدى حبِّ الله له، فقد أعلن الله مِن خلال يسوع استعداده للموت مِن أجل الإنسان، وقد حقّق ذلك على الصليب، فأبطَلَ بالتّالي كلّ مفاهيم الذبائح القديمة. وعلى الرّغم مِن أنّ الله قد دعانا أحبّاءَه لا عبيدًا له، غير أنّ الإنسان يُصِّر على اعتبار الله إلهًا لا أبًا، ولذا فهو يخاف مِنه. مِن خلال ذبيحة يسوع، أراد الله شفاءنا مِنَ الخطيئة ومِن كلّ ذهنيّة يهوديّة موجودة في داخِلنا.

جاء يسوع المسيح إلى أرضِنا ليُتمِّمَ مشيئة الله، وعنه تكلَّمت الآية: "هاءَنَذَا أَجِيءُ لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يا أَللهُ". إنّ الإنسان يستغِلّ حبّ الله له، عِوَضَ أن يسعى إلى تحقيق مشيئة الله في حياته. في علاقة الحبّ بين البشر، يسهل على الإنسان استغلال نِقاط ضُعفِ شريكه إذ يكفي أن يُعبِّر له عن عدم شعوره بحبّ الشريك حتّى يُجنِّد هذا الأخير كلّ طاقاته ويُضاعف مجهوده، عسى الآخر يشعر بحبّه المجانيّ والصّادق تجاهه. إنّ الإنسان يلجأ إلى التَّقوى الـمُزَيَّفة مُعتقدًا أنّه بتلك الطريقة سيتمكّن مِن استغلال حبّ الله له، مِن دون أن يخضع الإنسان لناموس الله، أي ناموس الحبّ. يعتقد الإنسان أنّه يستطيع رشوةَ الله بالذبائح الّتي يُقدِّمها له، فيعفُو الله عنه. لا يستطيع الإنسان أن يَغِشَّ الله، لأنّ الله هو خالقه وهو العالـِم بكلّ ما في قلب الإنسان مِن نقاوة، وما في عقله مِن ذهنيّة ماديّة، فالله هو "العالـِم بما في الكِلى والقلوب". إنّ الذبائح والنُّذورات الّتي يُقدِّمها الإنسان لله، لا تُلزِم الله بتحقيق أيّ مطلبٍ للإنسان. إنّ مفهوم العطاء المجانيّ يتعارض مع مفهوم النَّذر إذ إنّ العطاء المجانيّ يتطلَّب مِنَ الإنسان القيام بأعمالٍ صالحة مِن دون انتظار المكافآت مِن الله أو مِنَ البشر، على عكس مفهوم النّذر، الّذي يقوم على تقديم الإنسان الذبائح لله، محاولاً بذلك استمالة الله إليه، ليُحقِّق له مطالبه الإنسانيّة. جاء يسوع إلى هذه الأرض الفانية كي يُحرِّر الإنسان مِن كلّ تلك الالتزامات التّقوية، لكنّ الإنسان ما زال متمسِّكًا بها. إنّ الذبائح اليهوديّة القديمة تقوم على مبدأ "الأَخْذِ والعطاء"، أي على العطاء المشروط. على المؤمن ألّا يقدِّم للكنيسة النُّذورات كرشوةٍ لله إنّما عليه أن يُقدِّم للكنيسة ما تحتاجه مِن أمور دنيويّة عندما يرى حاجتها، مِن دون انتظار مقابلٍ لِعَمَلِه، إذ على عطائه للكنيسة أن يكون مدفوعًا بحبِّه لها. إنّ النَّذر الوحيد الّذي يتكلَّم عنه الإنجيل هو نَذرُ الإنسان حياتَه للربّ، جوابًا لحبّ الله العظيم له.

جاء المسيح إلى أرضِنا ودخل إلى قُدسِ الأقداس، أي إلى الملكوت، ليُحرِّر الإنسان مِن كلّ التزامٍ، من دون انتظار أي مقابلٍ مِنه سوى مبادَلَتِه الحبّ. إنّ قبولَ الإنسان بحبّ الله له، يَضَع عليه مسؤوليّة كبيرة وهي المحافظة على حالة النِّعمة مِن دون الوقوع في الخطيئة، لأنّه متى عاد إلى الخطيئة، فلن يكون هناك ذبيحة كفيلة بالتكفير عن خطاياه، فالذبائح القديمة قد أُبطِلَت بذبيحة يسوع المسيح على الصليب. إنّ ذبيحة يسوع المسيح، هي الوحيدة القادرة على مَنْحِ غفران الله للإنسان: فإنْ رَفَضَها، فالذبائح القديمة لن تكون مفيدة له مِن أجل التكفير عن ذنوبه. يحقّ لله أن يغضب حين يرى أنّ الإنسان قد رَفَضَ حبّه وعاد إلى الخطيئة، كما أنّه لا يحقّ للإنسان أن يلوم الله على غضبه هذا. غريبٌ هو الإنسان: إذ إنّه في الحالات الإنسانيّة، يدافع عن المغدور حين يتعرَّض للخيانة لائمًا الغادر، أمّا حين يتعلَّق الأمر بالله، فهو يلوم المغدور أي الله، لأنّه كان مغدورًا لا غادرًا، ويلجأ إلى تبرير خيانة الإنسان الغادر للتخفيف مِن فظاعةِ عملِه! إنّ الله يقبل بلوم الإنسان له، آملاً أن يُدرِك الإنسان في يومٍ مِنَ الأيّام عظمة حبّ الله له. إنّ الله قد جعل مِنَ البشر أبناءً له، لذا هو يتصرَّف معهم على هذا الأساس، ولذا هو يَقبل توبتهم إليه، على الرّغم مِن عِلمِه أنّ تلك التوبة لن تكون في الحقيقة توبةً صادقة، لأنّ الإنسان سيخون الله مِن جديد فيقع سريعًا في الخطيئة. إنّ الله يعلم أنّ كلّ ما يطلبه الإنسان مِنَ الله هو نابعٌ من قلبِه النَّقي، غير أنّ عقله ينتظر المكافأة أو تحقيق المطالب نتيجة تقديمات الإنسان. إنّ الله يسمع كلّ طلبٍ يُوجِّهه الإنسان إليه، وينظر إلى مصداقية الإنسان في طلبه، ويحوِّل خبث العقل البشريّ في عقله إلى براءةٍ في الطلب. لا إلَه سوى إلهنا، قادر على الاستمرار في حبّه للإنسان، حين يُدرِك مدى خبث الإنسان. إنّ حبّ الله للبشر دَفَعه إلى أن يبذل ابنه الوحيد فداءً للبشر. على الرّغم مِن وَفرة الصّفات الصّالحة الّـتي تُطلَق على الله في اليهوديّة والإسلام والمسيحيّة، هناك صِفة "النّاسي والـمَنسيّ"، وهي الصِّفة الوحيدة المعبِّرة عن حالة الله مع البشر. إنّ الله لا ينسى أن يغفر الخطايا للبشر، ولا ينسى أن يُصغي إليهم، على الرّغم مِن أنّ البشر لا يتذكَّرونه إلّا في بعض الأوقات العصيبة الّتي تعصِف بهم. لقد اكتشف الإنسان حبّ الله له، حين مات يسوع المسيح على الصّليب مِن أجله، ومَنَحه الخلاص، وجعله ابنًا لله ووارثًا للملكوت. إنّ الله قد منَحَ ابنه يسوع كلّ القدرة والسُّلطان كي يتمكّن مِن إبادة كلّ أعدائه وبخاصّة الموت، فقَد قيل في الكتاب عن المسيح يسوع: "جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمينِ الله، مُنْتَظِرًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى تُوضَعَ أَعْداؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْهِ".

يُخطِئ المؤمن حين يعتقِد أنّه هو الّذي يُقدِّم الذبائح لله في كلّ ذبيحة إلهيّة، فالحقيقة هي أنّه لا وجود لأيّ ذبيحة جديدة في القدّاس الإلهيّ، فالقدّاس الإلهيّ أساسه ذبيحة المسيح يسوع، الّـتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، وهي ما زالت مستمرَّة إلى اليوم، ويُعلِن المؤمنون عنها في كلّ احتفالٍ افخارستيّ. إنّ هذا المفهوم الخاطئ للمسيحيّين عن الذبيحة الإلهيّة، جَعل البعض منهم يمتنعون عن الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة إذ لا ذبيحة تُقدَّم إلّا ذبيحة يسوع المسيح وهِيَ قد تمَّت في الزّمن مع استمرار مفعولها في قلوب البشر إلى اليوم. على المؤمنين إذًا، أن يُصحِّحوا مفهومهم عن الذبيحة الإلهيّة، ويعكسوا ذلك في تصرّفاتهم اليوميّة: فإنّ الذبيحة الإلهيّة لا تُعبِّر عن مجموعة ذبائح يُقدِّمها البشر لله، إنّما تُعبِّر عن عيش المؤمِن لتلك الذبيحة الوحيدة، ذبيحة يسوع المسيح، كما تُعبِّر عن استمرار مفعولها في التّاريخ إذ يتغذّى منها المؤمن فيتحوَّل إلى ذبيحة على مذابح هذا العالم.

على المؤمن ألّا يُقيم رابطًا قانونيًا ما بين سرّ المناولة وسرّ التوبة، أي أنّه عليه ألّا يربط بين اعترافه واستحقاقه لتناول جسد المسيح ودمِه. إنّ تقرُّب الإنسان مِن سرّ التوبة لا يجعله أهلاً ومستحقًّا للمناولة الإلهيّة، فالاعتراف لا يُشكِّل شرطًا لحصول المؤمن على القربان المقدَّس، كما أنّ الاعتراف لا يُلزِم الله بإعطاء نفسَه للإنسان كونَ هذا الأخير قد تممَّ "واجباته الدينيّة"، مِن خلال سرّ الاعتراف. لا يحقّ للمؤمن التقرّب مِن سرّ المناولة الإلهيّة لأنّه سيبقى غير مستحقّ لتلك النِّعمة أتاب إلى الله أم لم يتُب إليه. إذًا، إنّ دُنُوّ الإنسان مِن سرّ المناولة لا علاقة له باستحقاق المؤمن إنّما باستعداده لذلك، فالمناولة هي عطيّة مجانيّة أعطاها الله للبشر حين مات يسوع المسيح على الصليب. إنّ عطاء الله المجانيّ ليس مرتبطًا بموقف الإنسان مِن عطاء الله، لذا نجد أنّ الله لم يتوقّف عند رَفضِ البعض له، إنّما أكمَل عطاء ذاته للبشر لأنّ ما يهمّه هو خلاص الإنسان وحصول هذا الأخير على الملكوت. إذًا، على الإنسان أن يتقرَّب مِن سرّ التوبة، كلّما رأى في ذلك ضرورة، ولكن على الإنسان ألاّ يربط دُنُوِّه مِن سرّ المناولة الإلهيّة بعمليّة تقرُّبِه مِن سرّ التوبة، أي أنّه على المؤمن ألّا يجعل من خطاياه حاجزًا يَحُولُ دون تناوله القربان المقدَّس. إنّ المناولة لا شروط لها، ولم يكن يومًا عطاءُ الله للإنسان عطاءً مشروطًا إنّما كان على الدّوام عطاءً مجانيًّا لا حدود له. إنّ الشرط الوحيد الّذي يضَعه الله على الإنسان هو أنْ يَتَقبَّل هذا الأخير عطايا الله له، مِن دون أن يرفُضَها. إنّ الاعتراف قد يكون إحدى الوسائل الّتي تُساعد الإنسان على الاستعداد للتقرُّب مِن سرّ المناولة، لكن لا يجب أن يتحوَّل سرّ التوبة إلى إحدى الشروط الـمُلزِمة للمناولة، إذ لا فضْلَ للإنسان في حصوله على تلك النِّعمة الإلهيّة.

إنّ ذبيحة يسوع المسيح على الصليب قد وَضَعت حَدًّا لكلّ الذبائح اليهوديّة القديمة. غير أنّ الذهنيّة اليهوديّة ما زالت موجودة في الطقوس المسيحيّة، ففي ممارسة المؤمنين للطقوس الدينيّة تَمَّ الفَصلُ ما بين الشكل والجوهر، فركَّزت الطقوس على الشكل دُونَ الجوهر، وتحوَّلَتْ إلى عاداتٍ متحجِّرة، لا يمكن تغييرها، وإلّا اتُّهم مَن سعى إلى ذلك بالـمُهرطِق. إنّ الكنيسة مِن خلال الآباء القدِّيسين، قد عَمَدت في القديم، إلى اللّجوء إلى الطّقوس، بهدف تربية المؤمنين وإرشادهم، أي أنّ تلك القوانين والطّقوس لم تكن تهدف يومًا إلى استعباد المؤمنين إنّما إلى تحريرهم مِن كلّ ما يمكن أن يُكبِّلهم. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يتحرّر مِّما يُكبِّله مِن دون الاستعانة ببعض الطقوس والممارسات الّـتي تُساعِده في ذلك، والإنسان هو حرٌّ مِن كلّ شيء إلّا مِن الحبّ.
لقد استخدم كاتب هذه الرسالة عبارة "تحريض" في كلامه عن المحبّة. إنّ كلمة "تحريض" تُستَعمل غالبًا للدلالة على أمرٍ سلبيّ:كالتحريض على الكراهيّة والعنف أو القتل. إنَّ المحرِّض يستخدم كلّ ما أُعطِيَ من ذكاءٍ وطلاقة في الكلام للحثّ على الأعمال الشريرة. إنّ كاتب الرسالة يدفع المؤمنين إلى استخدام كلّ هذه الطاقات الموجودة في داخلهم لتحريض الآخرين على القيام بالأعمال الحسنة لا بالأعمال الشريرة. إذًا، فنحن مدّعوون إلى تشجيع بعضنا البعض على المحبّة لا على الكراهيّة والبُغض.كما استخدم الكاتب أيضًا عبارة "الوعظ"، الّـتي لا تعني الخطاب الكلاميّ كما هو متعارف عليه في كنائسنا، إنّما تعني "الحثّ والتعزيّة"، في اللّغة الأصليّة للكلمة. وبالتّالي فإنّ الوعظ لا يتمّ وجهًا لوجه مع الآخرين إنّما جَنبًا إلى جنبٍ. إنّ الوعظ الّذي يتمّ وجهًا لوجهٍ هو إرهابٌ كلاميّ يُمارَس مِن قِبَل الواعِظ على الموعوظ. إنّ الوعظ الحقيقيّ يتمّ جنبًا إلى جنبٍ مع الآخرين، فعندما يُعاين الموعوظ حبّ الواعظ له بطريقة حسيّة، ويتأكَّد مِن مصداقيّة حبّه، عندها سيحوَّل كلام الواعظ إلى كلامٍ يملؤه التعزية والسند للمؤمن. يتضمّن الوعظ إذًا، مفهوم التعزيّة والسند، أي أنّه على المؤمن أن يساند أخاه مِن خلال كلام التعزية وأن يحُثِّه على متابعة مسيرة الإيمان على الرّغم من كلّ صعوبات الحياة، وبخاصّة لأنّ يوم الربّ يقترِب، فكلّما اقترب يوم الربّ كلّما زادت الضرورة لحثّ الآخرين ومساندتهم.

هذا هو مفهوم الذبيحة عند المسيح، فالله لم يقدِّم ابنه انطلاقًا من المفهوم اليهوديّ للذبيحة، أي أنّ ذبيحة المسيح لم تكن تطبيقًا لطقوس وعاداتٍ يهوديّة، إنّما كانت تقدمته مجانيّة نابعة من الحبّ، بهدف خلاص الإنسان، ومساندته، وحثِّه على متابعة المسيرة. إذًا، على المؤمن أن يتمتّع بذهنيّة إعطاء الحياة للآخرين، لا بذهنيّة تطبيق الواجِبات الدينيّة والإجتماعيّة. إنّ عبارة "متمِّمًا واجباته الدّينيّة" الّـتي نقرأها على الأوراق الّتي تُعلن وفاة المؤمنين، تُشير بشكلٍ مؤكَّد إلى أنّ هذا المؤمن الّذي انتقل مِن بيننا قد نال سرّ العماد وسرّ الافخارستّيا، وانتمى بالتّالي إلى الكنيسة، فالربّ لا يطلب منّا إلّا الحبّ ولا يطلب أبدًا القيام بالواجبات الدينيّة. إنّ مياه المعموديّة وللأسف، ما تزال غير قادرة في الكثير مِن الأحيان على الدّخول إلى عقول المؤمنين وتغيير ذهنيّاتهم، على الرّغم من تطوّر الزّمن. إنّ الحلّ الّذي توصّل إليه الآباء القدِّيسون مِن أجل أن تُصبح المعموديّة فاعلة في حياة البشر، هو قراءة كلمة الله في أثناء الاحتفال الافخارستيّ، لأنّه ما مِن شيءٍ قادر على تغيير الذّهنيات القديمة عند البشر سوى كلمة الله. إذًا، إنّ المؤمن يُجدِّد معموديّته عندما يسمع كلمة الله ويتفاعل معها. في القدّاس الإلهيّ، يسمع المؤمن كلمة الله ويتفاعل معها، لذا يشترك في ختام القدّاس بمائدة الآب والابن والروح القدس مِن خلال المناولة الإلهيّة. في المعموديّة، يجعلك الله ابنًا له، ولذا تُصبِح أهلاً للجلوس على مائدته. إنّ أهليّة الجلوس على مائدة الآب لا تكون نتيجة مجهود الإنسان، إنّما عطيّة مجانيّة مِنَ الله له. إذًا، إنّ ذبيحة المسيح على الصليب قد أبطلت كلّ مفهوم الذبائح القديمة، فلم يُعد المؤمن مُضطرًّا لتقديم ذبائح في سبيل الحصول على ما ينتظره من الربّ، لأنّ الربّ قد منَح الإنسان نعمةً إلهيّة لم تُمنَح للملائكة، وهي نعمة تناول جسد المسيح ودَمَه. إنّنا أعظم من الملائكة في نظر الربّ، لذا قال الكتاب في الإنسان إنّ الله كلَّله بالمجد والكرامة. إنّ الربّ قد أعطى الإنسان إكليل المجد والكرامة دُون الملائكة: فعلى الرّغم مِن أنّ الملائكة قد كَرَّسهم الله لتسبيحه ولتمجيده، غير أنّه قد أعطى إكليل المجد والكرامة للإنسان فقط على الرّغم من خيانة هذا الأخير لله عبر ارتكاب الخطايا الّـتي تُعبّر عن رفضِه لحبّ الله. إنّ الله قد جعل مِن الإنسان ابنًا له، لذا فهو ينسى إلى الأبد كلّ خطايا الإنسان، متى تاب عنها، من دُون أن يذكُرها له مِن بعد، كما وأنّه قد مَنَحه ما لم ترَه عينٌ ولم تسمع به أُذُنٌ، ذاك الّذي أعدَّه الله للّذين يُحبّونه منذ إنشاء العالم.

إنّ الإنسان يبادل الله كلّ هذا الحبّ فيُردِّد عبارة "آمين" في الاحتفال الافخارستيّ، أي في الذبيحة الإلهيّة. إنّ كلمة "آمين" في اللّغة اليونانيّة، تعني "حقًّا"، أي أنّها تُشير إلى موافقة الإنسان على ما تمَّ قولُه في السّابق. إذًا، لا فضل للإنسان في الموافقة على ما قام به الله مِن أجله، ويُعلِن عنه في الذبيحة الإلهيّة: فالله في هذا العهد الّذي أقامه بينه وبين الإنسان، يتحمَّل كلّ عواقب خيانة الإنسان ورفضِه لحبّه، ولا يتحمَّل الإنسان أي ضررٍ. إنّ كلّ بنود هذا العهد هي لصالح الإنسان لا الله، وبالتّالي على الإنسان عدم التكبُّر على الله. إنّ الإنسان يقوم بتمزيق هذا العهد، بعد أن يكون قد وافق عليه مِن خلال ترداده عبارة "آمين"، في القدّاس، بالعودة إلى الخطيئة، وعندما تعود إلى الله، يسألك الله عن هذا العهد، فتلجأ إلى الكَذِب، والبكاء وبعض الأعمال التُقوِيَّة لطلب الغفران مِنه، فيقبل الله اعتذارَك هذا، ويعطيك صَكَّ غُفرانٍ جديد، وينسى كلّ ما فعلته أمامه من أخطاء، غير أنّ الإنسان لا يلبث أن يعود إلى الخطيئة مِن جديد، ويكرِّر توبته إلى الله مِن جديد، فيُسامِحه الله من جديد، وهكذا هي الحال إلى منتهى الدّهر مع الإنسان. في عودته كلّ مرّة إلى الخطايا، ينسى الإنسان كلّ عمل الحبّ الّذي قام به الله مِن أجله ولا يعود يذكره، فكيف يستطيع الإنسان الّذي ينسى كلّ ما قام به الله مِن أجله، أن يذكر الأعمال الحسنة الّتي يقوم بها إخوته البشر تجاهه؟ إنّ الإنسان الّذي لم يستطِع أن يفهم مدى عظمة رحمة الله له، لا يستطيع أبدًا أن يُعامِل الآخرين بالرّحمة.

إذًا، على المؤمن أن يُغيِّر مفهومه القديم للذبيحة، ويتبنّى مفهوم ذبيحة المسيح الّتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، ولكنَّ مفعولها ما زال مستمرًّا في قلوب البشر، وسيبقى كذلك، إلى أن يجيء المسيح في اليوم الأخير ويمسح كلّ دمعةٍ مِن عيون البشر. فما على المؤمن إذًا، إلّا أن يقبل بذبيحة المسيح، ويعيشها في حياته اليوميّة، فيُعزّيه المسيح عند مجيئه الثّاني ويكون له السند في الحياة الأخيرة، فيمنحه الملكوت الأبديّ.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
14/3/2017 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح التاسع تعزيات الروح القدس
https://youtu.be/NPSw8pRrdn8

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح التاسع
الأب ابراهيم سعد

14/3/2017


يُقسَم الاصحاح التاسع إلى قِسمَين: القِسم الأوّل يتكلّم عن العهد القديم أي عَن كلّ ما يتعلّق بالذبيحة وطقوس العبادة وخيمة الاجتماع؛ أمّا القسم الثاني، فيَتكلّم عن الكاهن الوحيد، يسوع المسيح، وعن الـمَسكَن غير المصنوع مِن أيدٍ بشريّة. واليوم، سوف نعالج القسم الثاني فقط مِن هذا الإصحاح، لأنّ التَطرُّق للعهد القديم، يتطلّب معرفة تاريخ بداية تقديم الذبائح.

يُعتَبَر تابوتُ العهد مِنَ المُقدَّسات عند اليهود، لأنّه يحوي الـمَنَّ وعصا هارون الّتي أَفرَخَتْ ولوحا العهد، لذلك كان الشَّعب يسجد أمامه، وقد وُضِعَ فوق هذا التابوت مَلاكان أي "كَرُوبا" مِن أجل حراسته. إنّ الهيكل اليهوديّ يُقسَم إلى قِسمَين: قِسمٌ يَدخُلُه الكهنة للخدمة في كلّ أيّام السَّنة، وقِسْمٌ ثانٍ لا يدخُلُه إلّا رئيسُ الكهنة، مَرّةً واحدةً في السَّنَة. إنّ خيمة الاجتماع هي تلك الخيمة الّتي كان يجتمع اليهود فيها للصّلاة. في الآية الحادية عشرة مِن هذا الإصحاح، يتكلّم كاتب الرسالة عن الـمَسكَن غير المصنوع بالأيدي. إنّ المسيح هو رئيس الكهنة وهو أيضًا الـمَسكَن، إنّه الهيكل والذبيحة معًا، إنّه المقدِّم والمقدَّم في آنٍ، هو قابلُ الذبيحة وموزِّعُها. إنّ المسيح لم يُقدِّم دمَ التيوس والثيران كما كانت حال الذبائح في القديم، بل قدَّم نفسه أي دَمَه ذبيحة. إنّ يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد بين البشر وبين الله. لم يتمكّن النّاموس مِن مَنحِ الخلاص للشَّعب اليهوديّ، إذ لم يقدر أحد على تطبيقه، لذا كانت هناك ضرورة لمجيء المسيح، كي يمنَحَ الخلاصَ للشَّعبِ. أقام المسيح عهدًا جديدًا بين البشر والله، فاستبدل ناموس الشريعة القديمة، بناموسِ الحبّ. إنّ الإنسان الّذي يَكتُبُ وَصيَّتَه، يَعي تمامًا أنّه إنسانٌ مائت، فالوصيّة لا تُنَفَّذَ إلّا بَعدَ موت الـمُوصي. كانت تقتضي الطّهارة في العهد القديم، أن يتمَّ رَشُّ الأشياءِ النّجسة بدمِ الذبائح، وبالتّالي هناك ضرورة لوجود ذبائح دمويّة. إنّ المسيح لم يُقدِّم ذبائح حيوانيّة كما كان يفعل الكهنة في العهد القديم، بل قدَّم نفسَه ذبيحةً، وبهذا تفرَّد عن سائر الكهنة.

إنّ تعزيات الرّوح القدّس تُمنَح لنا حين نتأمَّل بما قام به المسيح لأجلنا، فنفرح بخلاصه لنا. إنّ الكلمة الإنجيليّة تَنقُل إلينا البُشرى السّارة عن عَمْلِ المسيح الخلاصيّ لأجلنا، فما قام به المسيح كان فريدًا مِن نوعه. كان رؤساءُ الكهنة اليهود، يدخلون مرّة واحدة في السَّنة إلى قدس الأقداس ليُقدِّموا ذبائح تكفيرٍ لله عن خطاياهم وخطايا الشَّعب. كان الكهنة اليهود يُخطِئون بسبب معرفتهم للنّاموس، أمّا الشَّعب فَبِسبَبِ جَهلِهم له. لقد اعتقد البعض أنّ يسوع هو كسائر رؤساء الكهنة، يُقدِّم الذبائح تكفيرًا عن خطايا البشر، مع فرقٍ بسيط بينه وبين باقي رؤساء الكهنة، وهو أنّه قدَّم نفسَه لا ذبائح حيوانيّة. إنّ هذا الاعتقاد الخاطئ يُحجِّم عَمَلَ المسيح الفدائيّ لأجلِنا، إذ يجعل المسيح في مرتبة رؤساء الكهنة في العهد القديم. لقد نال البشر كلَّهم نعمةَ غفرانِ خطاياهم بِفَضلِ الذبيحة الّتي قدَّمها المسيح لأجلنا على الصّليب. إنّ غفرانَ الخطايا لا يكون نتيجة أعمالٍ يقوم بها الإنسان ليُكفِّر بها عن خطاياه، إنّما نتيجة محبّة الله المجانيّة له. إنّ عمل الله الخلاصيّ مرتكِزٌ على محبّته للبشر. لقد نال الشَّعب نعمةَ التحرُّر مِنَ العبوديّة، ونعمةَ البُنُوَّة لله، كما نال أيضًا ميراثَ الله أي الملكوت السّماويّ، بِفَضلِ العهد الجديد الّذي أقامه المسيح بين الله والبشر بموته على الصّليب، وهذا ما لم يتمكّن العهد القديم مِن مَنحِه للشَّعب.

إنّ صورة الله ومثالَه قد تشوَّها في العهد القديم بسبب عدم فَهمِ آدم وحوّاء لهما؛ أمّا في العهد الجديد، فقد صحّحَ المسيحُ مفهومَ النّاس لِتلكَ الصُّورة. إنّ "صورةَ الله ومثالَه"، عبارةٌ تعرَّضت للكثير مِنَ التفسير والتحليل مِن دون أن يَتِمَّ فَهمُها بالشَّكل الصحيح، لذا بَقيَت مُبهَمةً إلى يوم مجيء المسيح، الّذي عَكَسَ صورة الله الأكمل. إنّ المسيح هو صورة الله الأكمل ومثاله، و"آدم" مدعوٌّ منذ بدء الخليقة إلى التَشَبُّه بتلك الصّورة. إنّ "آدم"، لم يتمكّن مِن مَشابهة تلك الصّورة مِن دون الاستعانة بقوانينَ تُساعده على ذلك، فكان النّاموس. لقد أعطى اللهُ النّاموسَ للشَّعب مِن أجل تَربيَتِهم، غير أنَّ الشَّعب قد جعل النّاموسَ إِلَـهًا له، فَعبَدُوه بدلاً مِن عبادتهم لله، إذ عَبَدوا الحَرفَ دونِ الجوهر. لقد أضاعَ الشَّعبُ هدَفَ النّاموسِ، فحوَّلوه إلى مادّة للعبادة، لا إلى وسيلةٍ تُساعِدهم على عبادة الله الحيّ. لذا رفض الله كلّ ذبائحِ الشَّعب وطقوسِهم الدينيّة، لأنّها فَرَغَتْ مِن معناها، فالله لا يريد أن يُقدِّم له الشَّعب العبادة في هيكلٍ حجريّ، لأنّ العبادة الحقيقيّة لله تكون في الهيكل الحقيقيّ، أي مِن خلال كلّ إنسانٍ متروكٍ ومهمَّشٍ وأرملةٍ وحَزينٍ. إنّ الشَّعب، وللأسف، لم يفهم معنى العبادة الحقيقيّة، فاعتقد أن الله يريد تلك الطقوس والتُّقَويات في الهيكل الحجريّ فقط، وهذا ما يُفسِّر الازدواجيّة الّتي عانى منها الشَّعب اليهوديّ، فحياته في الهيكل لم تكن منسجمة مع حياته اليوميّة.
إنّ هذه الإزدواجيّة الّتي عاشها الشَّعب اليهوديّ، عانى منها أيضًا الشَّعب المسيحيّ، وذلك نتيجة تفسيره الخاطئ لِقَولِ يسوع: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، فقَسَم المؤمِن حياته إلى قِسمين لا ينسجم الواحد منهما مع الآخر، فعاشَ حياةً دينيّة كاملة في الكنيسة، أمّا في خارجِها فلم تكن حياته مُطابقة لِصلاته. إنّ هذه الآية كانت جواب يسوع على سؤالٍ مُحدَّدٍ قد طرَحه اليهود عليه لإحراجه، يختَصّ بالجِهَة الـمَعنِيَّة بقبول الجِزْيَة. لقد كان اليهود ينتظرون جواب يسوع لإدانته، غير أنّهم لم يتمكّنوا مِن إيقاع يسوع في أفخاخِهم الّـتي نَصَبوها له. إنّ هذه الآية لم تكن يومًا وصيّة مِنَ الربّ لشعبه، غير أنّ المسيحيّين قد حرّفوها فشَرَّعوا لِذَواتهم تلك الازدواجيّة الّتي يعيشونها. لقد تمّ تحريفُ أقوالٍ كثيرة قالها المسيح، فَمَثلاً كلام المسيح عن هدم الهيكل وبنائِه في ثلاثة أيّام لم يتمّ فَهمُه بالشكل الصّحيح، فتحوَّل مادّةً استخدمها شهود الزّور ضدّه، في يوم الحكم عليه بالموت. لم يَقصِد المسيح بكلامه هذا، الإعلان عن هدم الهيكل الحجريّ، بل كان يَقصِد به هيكل جسده الّذي سيَبْنِيه بقيامته مِن بين الأموات. إنّ التّلاميذ أيضًا لم يتمكّنوا مِن فَهمِ هذا الكلام إلّا بَعدَ قيامة المسيح مِنَ الموت. إنّ الفرقَ كبيرٌ جدًّا بين العهد القديم، والعهد الجديد الّذي أتـَمّه يسوع المسيح على الصّليب: إذ لا الذبيحة هي نفسُها، ولا الهيكل هو نفسُه، ولا الكاهن هو نفسُه، غير أنّ ما هو مشترك بين العهدين هو الإنسان بطبيعته الخاطئة المجبولة بالضُّعف البشريّ. وبما أنّ المعطيّات البشريّة هي نفسُها عند الإنسان القديم والإنسان الجديد، قرّر الله أن يُرسِل ابنه الوحيد ليَتجسَّد ويُخلِّص الشَّعب مِن عبوديّته للخطيئة، مِن دون أيّ تدخّلٍ بشريّ. إنّ الله لا يطلب مِن الإنسان شيئًا سوى أن يَقبَل هذا الأخير بعَمَلِ الله الخلاصيّ لأجله، ويحترمه.

إنّ سبب وقوع الشَّعب في عبوديّة الخطيئة هو خوفُهم مِنَ الموت، لذا يجدون أنفسهم باستمرار تحت "نير العبوديّة"، كما ورد في الرسالة إلى العبرانيين (عب 2/ 14). إذًا، إنّ الحلّ لمشكلةِ خوفِ البشر مِنَ الموت، لا تكون بغفران الخطايا لهم، إنّما بمواجهة الموت والانتصار عليه، وهذا ما فَعَلَه يسوع، إذ مات على الصليب، وغَلَبَ الموت بقيامته. لقد قَبِلَ المسيح بالموت، حين قال لأبيه: "لتكن مشيئَتُكَ". إنّ الله الآب قدَّم ابنه الوحيد يسوعَ المسيح ذبيحةً على الصّليب، أي أنّ المسيح هو الذبيحة والكاهن أيضًا، أمّا مُقدِّمُ تلك الذبيحة فهو الله الآب. إنّ مهمّةَ يسوعَ المسيح على هذه الآرض تقوم على إظهار محبّةَ الله للبشر، فالله لم يَعُد يريد ذبائحَ الشَّعب وتقادمَهم الفارغة مِن مَعناها. جاء المسيح إلى أرضِنا وأعلنَ حلول ملكوت السّماوات على الأرض، وهذا ما لم يَقبَل به اليهود، فرَفَضوا المسيح وقرّروا قتلَه لأنّه لم يُشرِّع لهم تصرّفاتهم المعوَجَّة. وبعدَ أنْ قام المسيح بمسيرة مع التّلاميذ، ومَع شعب الله، مدّة ثلاث سنوات، اكتشف هؤلاء أنّ المسيح هو حقًّا ابن الله، وهذا ما فرَض عليهم الاختيار ما بين هَدمِ ذهنيّتهم اليهوديّة القديمة في سبيل اتّباع المسيح، وما بين إلغاء المسيح وقتله كي لا تتزعزع ذهنيّتهم اليهوديّة ومشاريعهم الأرضيّة، لأنّ أقوالَ المسيح وتعاليمَه تَدفعُ بالمؤمنين به إلى التغيير الجذريّ في مَسلَكِيَّاتِهم. لقد دخل المسيح الموت، غير أنّ الموت لم يتمكَّن مِن إدراكِه، إذ قامَ مِن بين الأموات، وبالتّالي لم يعد للموت مِن سلطان على الإنسان، لأنّ الربَّ قد انتصر عليه. إذًا، لقد ألغى المسيحُ خوفَ الإنسان مِنَ الموت بقيامتِه مِن بين الأموات، غير أنّ الإنسانَ رفضَ عَمَلَ المسيح الخلاصيّ فأعطى مِن جديد للموتِ سلطانًا عليه ليَستعبِدَه، فعاد الإنسان إلى ارتكاب الخطايا مِن جديد، ولذا بَقي الإنسان في حالة خوفٍ مِنَ الموت على الرّغم مِنَ انتصارِ المسيح عليه. يستطيع الإنسان التَخلُّص مِن هذا الخوف، حين يَقبَل بالمسيح، ويجعله سيِّدًا على حياته. على الإنسان ألّا يستسلِم للحُزنِ حين يفقد أحد الأعزّاء، بل أن يتسلّح برجاء القيامة، فيستعمل عبارة "المسيح قام" في أثناء تَقبُّلِه التعازي. إنّ المسيح القائم مِنَ الموت، هو الحلُّ الوحيد لمشكلةِ خوف الإنسان مِنَ الموت، فالمسيح قد أَبطَلَ الموت بقيامته، والكِتَاب يقول لنا على لسان بولس الرّسول: "إنّ آخر عدّوٍ يُبْطَل هو الموت".

في العهد القديم، كان رئيس الكهنة يُقدِّم الذبائح تكفيرًا عن الخطايا؛ أمّا يسوع المسيح، فقد قدَّم نفسَه ذبيحةً، مِن أجل تحريرِ الإنسان مِن عبوديّة الموت، إذ إنّ المسيح قد انتصر على الموت بقيامته، فَفَقَد هذا الأخير كلَّ سُلطانه على الإنسان. إنّ عَمَلَ المسيح الخلاصيّ مَنَحَ الإنسان الحقَّ في الحصول على الملكوت، مِن دونَ أيِّ مجهودٍ بشريّ، فالمسيح قد جعلنا على مثالِه، أبناءً للآب ووَرَثَةً للملكوت. إنّ عَمَل المسيح يدفع بالإنسان إلى إدراك قيمتِه الثمينة في عَينَي الله، غير أنّ الإنسان على الرّغم مِن ذلك، يُفضِّل البقاء عبدًا لخوفه، على أن يكون وارثًا وحُرًّا إذ في الحريّة مسؤولية. إنّ جذورَ كلمة "إنسان"، قد تكون مِن الفِعلِ "نَسِيَ"،كما يمكن أن تكون جذورها مِن كلمة "إِنْس" الّتي مُثَنَّاها "إنسان"، وبالتّالي لا يكون الإنسان شخصًا واحدًا إنّما يكون اثنين: آدم وحوّاء. لم يتمكّن الإنسان مِن فَهمِ عَمَلِ الله الخلاصيّ، بِدَليل تصرُّفِه بطريقةٍ وثنية في القداس الإلهيّ، وبخاصّة في نَظرَته للمناولة: ليست المناولةُ آلةَ شحنٍ تُعطي الإنسان زخمًا روحيًّا، وليست المناولة عَمَلاً شخصيًّا، إنّما هي عَمَلٌ يقوم به المؤمن ضمن إطار جماعة تُشكِّل جسد المسيح السريّ. إنّ المناولة هي إعلانُ الجماعة أنّ كلّ مؤمِن فيها، قد أصبح ابنًا لله ووَريثًا في ملكوته، ولكنَّ مفعول المناولة، وللأسف، هو قصير المدّة عند المؤمنين.

إنّ الميراث الّذي يحصل عليه الإنسان، يدفَعُه إلى تحمُّل مسؤوليّة في سبيل المحافظة على الميراث مِن دون تبذيره سُدىً، كما فَعَلَ الابن الشاطر في الـمَثَل الّذي أعطاه المسيح في الإنجيل. لقد طلب الابنُ الشاطر من أبيه حصَّتَه في الميراث في حين كان لا يزال أبوه على قيد الحياة. ولكنّ الوالد انصاع لطلب ابنه فأعطاه حصَّته من الميراث، فسافر الابن إلى بلادٍ بعيدة، وبَذَّرَ كلّ أمواله، فجاع واشتهى أن يأكل مِن طعام الخنازير ولم يستطِع ذلك، لذا قرّر العودة إلى بيت أبيه، ليعمل عنده كأجير. غير أنّ الوالد الّذي كان ينتظر عودة ابنه سالـمًا إلى البيت رفضَ ذلك، لذا ما إن رآه قادمًا إليه مِنَ البعيد، أَسرعَ إليه وقبَّله على عنُقِه قُبلَةً والِدِيَّة، وألْبَسَهُ الـحُلَّةَ الجديدةَ ووَضع له خاتمًا في إصبعه وحذاءً في رجليه، علامةً على إعادته إلى مكانتِه الأولى، مكانة البُنُوَّة في هذا المنزل، وأقام له وليمةً كبيرة. إنّ الأبَ قد رفض أن يُصبح ابنُه أجيرًا في بيت أبيه، لذا ألبسَهُ لباسَ الورثة، على الرّغم مِن حُصوله على حصّتِه مِنَ الميراث قَبل مغادرتِه المنزل. أمّا الأخ الأكبر، الّذي يرمز إلى كلّ إنسان مؤمنٍ ملتزم، فقد اعترض على عودة أخيه الصغير إلى البيت مُجدّدًا، لأنّه رأى في عودته تلك، مشاركةً جديدةً له في الميراث. إنّ الأخَ الأصغَر قد نال حِصَّتَه مِنَ الميراث وبذَّرها، ولم يعرف كيفيّة المحافظة عليها، لذا لا يجوز بحسب نظرة الأخ الأكبر، للأخ الأصغر أن يُقاسِم أخاه الأكبر مِن جديد في الميراث. إنّ الأب لم يَقبَل باعتراض الأخ الأكبر، وبخاصّة أنّ هذا الأخير لا يُعاني مِنَ العَوَز، لذا كان جواب الأب للأخ الأكبر: "إنَّ كلَّ ما هو لي، هوَ لك". إنّ نظرتَنا للأمور لا يَجب أن تكون على مِثال نظرة الأخ الأكبر إليها، إنّما على مِثال نظرةِ الأب إليها، أي نَظرةٍ متعاليةٍ عن القشور الأرضيّة الزائلة. إنّ الأبَ قد فرحَ بعودةِ ابنِه حيًّا ومُعافًا بعد غيابه عن المنزل، أمّا الأخ فقد نظرَ إلى تلك العودة، على أنّها عودة لمقاسمة الميراث مِن جديد، لذا لم يتجرأ الأخ الأكبر على تسمية أخيه كذلك، بل أنكره ناعتًا إيّاه بعبارة "هذا الذي"، في كلامه مع أبيه، ممّا أدّى إلى جَرْحِ الأب بهذا الكلام. إنّ الأخ الأكبر قد نظرَ إلى عودة أخيه إلى المنزل انطلاقًا مِنَ الأفعال المشينة الّتي ارتكبها أخوه في الغُربَة، أمّا الأب فقَد نظرَ إلى تلك العودة انطلاقًا مِن عودة ابنه سالـمًا إليه بعد فترةٍ مِنَ الغِياب. إذًا، إنّ نظرة المؤمن إلى الأمور يجب أن تتغيَّر بعد حصوله على المناولة الإلهيّة، فلا يعود ينظر إلى الآخرين نِظرَةِ الأخ الأكبر إلى أخيه العائد، إنّما كنِظرَةِ الأب إلى عودة ابنه. بمعنىً آخر، إنّ استمرارَنا في دينونة الآخرين هو مؤشِّرٌ خطيرٌ يدّل على عدم إدراكنا لأهميّة عَمَلِ المسيح الخلاصيّ لنا، كما يدلّ أيضًا على سيطرة الذهنيّة اليهوديّة علينا دون تمكُّنِنا مِنَ التحرُّر مِنها. إنّ دينونتنا للآخرين تدلّ على رَفْضِنا للمسيح كرئيس كهنة أعظم لنا، وعلى استبداله برؤساء كهنة العهد القديم، الّذين تقتصر خدمتَهم على تقديم الذبائح الدمويّة في كلّ مرّةً تكفيرًا عن الخطايا.

إنّ قبولَنا بالمسيح رئيسَ كهنةٍ لنا، يدفعنا إلى تغيير نظرتِنا إلى الآخرين، والمعموديّة هي إحدى الوسائل الـمُساعِدة على هذا التغيير، إذ إنّها على حدِّ قولِ بولس الرّسول، تجعلنا خليقةً جديدة. إنّ الخليقة الجديدة تتميَّز مِن سواها مِنَ الخلائق في نَظرَتِها للأمور، على الرّغم مِن بقاءِ الأوضاع والظروف الحياتيّة على ما هي عليه. إنّ المناولة الإلهيّة تدلّ على أنّ المؤمن الّذي يتقرَّب مِنها قَد قَبِلَ المسيح كاهنًا أعظم له، كما تدلّ على قبول المؤمِن بأن يكون ابنًا لله، عبر اتّحاده به في سرّ المناولة. إذًا المناولة تجمع بين سِرَّي المعموديّة والمناولة، ولذا فإنّ المؤمن الّذي يتناول جسدَ الربّ ودمَه، عليه أن ينظر إلى الآخرين على أنّهم مِثلَه أحبّاء الله وورثة الملكوت، فلا يُدينهم على أعمالهم، إذ إنّه هو أيضًا مِثلُهم خاطئ وضعيف. عندما يتوب إلى الله، يحاول الإنسان أن يُقنِع ذاته ويُقنِع الله أنّ توبته صادقة وحقيقيّة، وهذا ما يُشعِره بالرّاحة النفسيّة. إنّ هذه الرّاحة النفسيّة هي مِن نسيج فكر الإنسان، بدليل أنّ الإنسان يعود إلى إدانة الآخرين ما إن يخرج مِن كُرسيّ الاعتراف، وبخاصّة لذلك المعروف بخطاياه القرمزيّة في المجتمع، فنجد أنّ الإنسان المؤمن لا يَقبَل بعودة ذلك الخاطئ إلى الكنيسة، حتّى وإن تاب.

لا فرقَ بين المؤمن الملتزم الخاطئ، وبين ذلك الإنسان غير الملتزم، الموسوم بالخطيئة في نظر مجتمعه، فالخطايا كلّها في المستوى نفسه مِنَ الخطورة: فإنّ خطيئة الثَّرثار والمسيء الظّن هي أفظع مِن خطيئة ذاك الّذي يزني. إذًا، فجميع البشر مُتشابهون في طبيعتهم الضعيفة المجبولة بالخطيئة، وبالتّالي فلا فرق بين البشر، مِن حيث نوعيّة الخطايا الّتي يرتكبونها أو مِن حيث كميّتها، فكلّ الخطايا مُضِّرة بالإنسان. إنّ إدانة الآخرين على خطاياهم الظّاهرة يخلق فينا انطباعًا خاطئًا، وهو أنّنا أفضل مِنَ الآخرين، غير أنّ الحقيقة هي أنّ كلّ البشر مُتساوون، على الرّغم مِن اختلاف لون البشرة، فالكلّ يمرض ويتوّجع، والكلّ يُخطِئ. إنّ الإنسان الّذي يؤمن بالمسيح لا مِن أجل الحصول على غفران الخطايا، بل يؤمن به لأنّه مات وقام مِن أجله، هو إنسان ذو إيمان ثابت بالربّ، وإيمانه هذا هو الّذي سيمنحُه التعزية والفرح الدّاخليّ اللّذينِ لا يمكن لأحد انتزاعهما مِنه. إنّ هذه التعزية والفرح الداخليّ، يستمِرّان في داخل الإنسان بِقَدرِ ما يستطيع ذلك الإنسان أن يعكسهما في علاقاته مع الآخرين.
لا يمكن للإنسان أن يُصلِح الآخرين إنْ لم يكن في قلبه محبّة تجاههم، فالإصلاح لا يتمّ إلّا إذ تمّ وَضعُ الإصبَع على الجرح، ولكنّ الإصلاح لا يتمّ فعلاً إلّا إذا شعر الّذين يتعرَّضون للملاحظات، أنّ تلك الأخيرة تُوجَّه إليهم مِن قلبٍ مُحبٍ لهم لا بهدف انتقادهم. لا يمكنك أن تكون مُصلِحًا للكنيسة إنْ كُنتَ لا تُحبّ الكنيسة وأبناءها، لأنّ إصلاحك سيُعبِّر عن تعجرفك وتَكبُّرِكَ ولن يؤدي ذلك إلّا إلى الهدم، وستتحوَّل أنت إلى شخص ينفر مِنه الجميع. إنّ يسوع المسيح كان يستطيع إصلاح الجنود، مستخدمًا القوّة والعنف، عبر إرسال جوقة من الملائكة للدفاع عنه، غير أن الربّ قرّر أن يقوم بإصلاح الآخرين عبر شفائهم، كما فعل مع الجنديّ الّذي قام بطرس بِقَطع أُذُنِه، إذ أعاد له أُذُنَه ليتمكّن مِن سماع كلمة الله، ونقلِها إلى الآخرين. إنّ مهمّتَنا نحن المؤمنين، تكمن في إيصال كلمة الله إلى الآخرين. إنّ المسيح لم يأتِ مِن أجل جماعته فقط، بل مِن أجل العالم بأسرِه إذ شفى لا اليهود فقط، بل غير اليهود كذلك. كما هي حال هذا الجنديّ، فالإنسان بالنسبة للمسيح هو المذبح العالميّ، والقُدس العالميّ، الّذي عليه يجب أن يُقدِّم الإنسان ذبائحه لله. إذًا، علينا الاحتفال بعيد الفِصح، انطلاقًا مِن هذه الذهنيّة المسيحيّة، فلا نَحزن لموت المسيح، ولا نفرح بقيامته، بل نفرح لأنّ المسيح قد قام حقًا في حياتنا، مِن خلال رؤية الآخرين لتصرّفاتنا معهم.
إنّ ذبيحة المسيح تمّت مرّة واحدة في التّاريخ ولن تتكرّر. إنّ الإنسان يُكرِّر عادةً ما لم يتمكّن مِن إنجازه منذ المرّة الأولى، غير أنّ المسيح لن يُكرِّر ذبيحتَه مرّةً أخرى على الرّغم مِن فَشلِه في إيصال كلمة الله لسائر البشر، إذ إنّ هناك مَن قَبِلوا بها، ولكنّ آخرين قد رَفَضوها. إنّ الّذين وصلَتْ إليهم كلمة الله وقَبِلوا بها، تمكّنوا بِفضل اتّباعهم للمسيح مِنَ الوصول إلى الملكوت، وهم الرّسل والقدِّيسون. ولكن يجدر بنا الإشارة، إلى أن كُثُرًا مِنَ الّذين وصلت إليهم الكلمة، ونجحوا في اتّباع المسيح، لم تتمّ معرفة أسماؤهم. إذًا، مهمّة المؤمِن تكمن في مساهمته في إيصال ذبيحة المسيح إلى غايتها، أي أن تصل كلمة الله إلى جميع النّاس وأن يقبلوا بها.

إنّ ذبيحة المسيح ما زالت فاعلة إلى اليوم، لأنّ الموت ما زال مغلوبًا، وسيبقى كذلك. إنَّ استخدام اسم الفاعل كما هي الحال في عبارة "المسيح القائم"، تدلّ على استمرار عمليّة القيامة ومفعولها عبر الزَّمن، أي أنّ المسيح ما زال قائمًا، وسيستمِرّ غَالِبًا للموت إلى النّهاية، ولن يتمكّن الموت مِن إدراكه مِن جديد. إنّ تراتيل القيامة الّتي نُنشدها في هذا الزّمن، لا تَصِفُ حدث القيامة الّذي تمّ في التّاريخ فَحَسب، إنّما تَصِف مجيء المسيح القائم، لأنّ القائم هو المسيح الآتي مِن عند الربّ، وبالتّالي فإنّ القيامة تُجسِّد ذلك الحدث التّاريخي الّذي تمّ في القديم، كما أنّها تُظهِر الحدث الّذي سيتمّ وهو خارج الزّمن. إذًا، حياة المؤمن محصورة ما بين حدثين مدعاة للفرح والتعزية، وهما القيامة ومجيء المسيح: فالمسيحيّ قَبْلَ دخولِه إلى الكنيسة يكون في فترة ما قَبْل القيامة، ولكنّه عندما يخرج مِنَ الكنيسة، يُصبح في فترة انتظار للمجيء الثاني، وهذا ما يجب أنْ ينعكس في نَظرَته للآخرين. حين يكون المؤمن في حالة ما قَبْلَ القيامة، فإنّه يعيش كما كانت حالة اليهوديّ في العهد القديم، أمّا بعد تَحقيق حدث القيامة، فنجد أنّ المؤمِن يتعاطى مع الله، وكأنّه مِنَ المستوى نفسه، مِن دون أي كُلفَةٍ بينه وبين الله الآب، متناسيًا المسيح. إنّ المؤمن لن يتمكّن مِنَ التقرّب مِنَ الله مِن دون المسيح، فالمسيح يُشكِّل الوسيط الوحيد بين الله والبشر. إنّ طريقة تَصَرُّف المؤمنين مع القدِّيسين تُشكِّل أزمة حقيقيّة تجعل مِنَ المسيح خارج حياة المؤمِن، وبالتّالي تحتاج إلى حلٍّ جذريّ.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
28/2/2017 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح الثامن بين الجديد والقديم؟
https://youtu.be/ixgr8smIeFQ

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الثامن

الأب ابراهيم سعد

28/2/2017

في هذا الإصحاح، يُقارن الكاتب ما بين الجديد والقديم، أي ما بين الكهنة الأرضيّين وبين الكاهن الوحيد السماويّ يسوع المسيح. إنّ الذبائح والقرابين الّتي كان يقدّمها الكهنة الأرضيّين لم تكن كافية وقادرة على مَنح الشَّعب الخلاص، لذا أصبح مجيء المسيح ضروريًّا لينالَ الشَّعبُ الخلاص مِن خلال تقديم المسيح نفسه ذبيحةً على الصليب مِن أجلهم. إنّ المسيح هو العلامة الّـتي تؤكِّد للشعب مصداقية الله، إذ به تحقّقت جميع مواعيده. نقرأ في سِفر إرميا إنّ الله يَكتُبُ الشريعةَ لا على ألواحٍ مِن حجر، إنّما على ألواحٍ مِن لحم ودمّ، أي في قلوب البشر، وبالتّالي، فإنّ الشريعة ستكون معروفة مِنَ الجميع، صغارًا وكبارًا، مِن دون الحاجة إلى تعليمها. هذه هي نتيجةُ عهد الله مع شعبه إذ سيصفح الله عنهم وسيغفر لهم زلاتهم وخطاياهم، وينساها ولن يذكرها لهم مِن بَعد. إنّ مجيء العهد الجديد بيسوع المسيح وَضَعَ نهايةً لكلّ عهدٍ عتيق، إذ لا يمكننا قُبول ما هو جديد، مع الإبقاء على عتاقة القديم. إنّ عبارة "القديم والجديد"، المستخدمة في هذه الرسالة لا تعني أبدًا كتابَ العهد القديم وكتاب العهد الجديد؛ لذا على المؤمن ألّا يرفض العهد القديم بحجّة أنّ المسيح بمجيئه، قد أصبح هناك عهدٌ جديدٌ، فلا فائدة بَعد الآن مِنَ العهد القديم. إنّ كلمة الله تَحمِل الجِدَّة في طبيعتِها، أكانت في العهد القديم أم في العهد الجديد، غير أنّ عادات الشَّعب وتقاليدهم القديمة الموجودة في العهد القديم، يجب نَبذَها والتخلّي عنها، إذ إنّها لم تكن كفيلة بأن تُوصِل الشَّعب إلى الملكوت والخلاص، وبالتّالي فَلن تُوصِلنا نحن أيضًا إلى الملكوت. إنّ العهد الجديد لا يحوي كلمةً جديدة لله، فكلمة الله لا تتغيّر غير أنّ ما يتغيَّر هو إدراك المؤمن واكتشافه لقِسْمٍ جديدٍ منها، فالعهد الجديد يكشف لنا عن كلمة الله الأزليّة، يسوع المسيح. إنّ "رأس الكلام" أي خلاصة الحديث هو أنّ رئيس الكهنة الحقيقيّ هو المسيح يسوع: فرؤساء الكهنة في العهد القديم، كانوا يدخلون إلى قُدس الأقداس مرّة واحدة في السَّنة؛ أمّا رئيس كهنتِنا، يسوع المسيح، فقد دخل عرش العظمة، عرش الله، وهو جالسٌ عن يمين الله في السّماوات. إنّ خدمة المسيح لقُدسِ الأقداسِ تَفوق خدمة الكهنة الأرضيّين الخطأة: فالمسيح لم يقم بخدمة قُدسِ الأقداس في هيكلٍ حجريّ بشريّ، إنّما في مَسكِنٍ لم تصنَعه الأيدي البشريّة، إذ إنّ الله هو الّذي صنَعَه. وهذا ما يتكلّم عنه أيضًا سفر الرؤيا حين يقول إنّ أورشليم السّماويّة تنزل مِنَ السّماء أي أنّ البشر لم يشترِكوا في بنائها.

إنّ العهد الجديد تعبيرٌ، كثيرًا ما يستخدمه البشر للدلالة على المصالحة بين فريقين متخاصمين، فيقولان إنّهما "فَتَحا صفحَةً جديدة"، وبذلك يُعبِّران عن رغبتِهما في إعادة بناء العلاقة الّـتي تهدّمت بسبب الخلافات في الماضي، لذا يتعهدّ كلّ فريقٍ منهما محاولة نسيانِ أخطاءَ الفريق الآخر. إنّ الله يُبادر دائمًا إلى إقامة عهدٍ جديدٍ معنا إذ "يَفَتح صفحةً جديدةً معنا"، حين يغفر خطايا كلِّ إنسان تائبٍ إليه. إنّ الله يستطيع أن يَفتَح صفحة جديدة مع البشر، غير أنّ الإنسان لا يستطيع أن يَفتَح صفحةً جديدة مع الآخرين لأنّه لا يستطيع أن ينسى إساءاتهم إليه، بل يَتَذَكرها إلى الأبد، وبالتّالي فإنّ العهد الجديد الّذي يقوم به الإنسان مع أخيه، لا يُعبِّر حقيقةً عن عهدٍ جديدٍ، إذ إنّه عبارة عن مزيج ما بين القديم والجديد، وهو ترميم لما هو قديم كي يُصبح بِحُلَّة جديدة. عندما يَفتَح الله مع الإنسان صَفحةً جديدة، فهذا يعني أنّه ينظر إلى الإنسان على أنّه خليقةٌ جديدة. إنّ الله لا ينظر إلى الإنسان الّذي يَقبَل عهدَه على أنّه "آدم الأوّل" فقط، بل ينظر إليه على أنّه "آدم الأخير"، أي أنّه على مثال يسوع المسيح. إنّ الصفحَة الجديدة الّتي يَفتَحها البشر مع بعضهم البعض بَعدَ الخصومات، تستند على مسامحة الطرف الّذي تَعرَّض للأذية للطرفِ الآخر الـمُذنِب، وبالتّالي تتحوّل تلك المسامحة إلى مناسبةٍ لإعلان فضائل الفريقِ الـمُسامِح، لا إلى عمليّة صَفْحٍ حقيقيّة عن الإنسان الـمُخطِئ. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤالٍ يحتاج إلى جواب وهو: ماذا تعني المسامحة إذًا؟ إنّ الصّفح يقوم على أنْ يرى الإنسان الغافر، في أخيه الـمُذنب، إنسانًا على صورة المسيح، لا إنسانًا مجبولاً بالخطايا كما كانت حال الإنسان في العهد القديم أي قَبلَ مَجيء المسيح. إنّ الله أعطى شعبه عهدًا بغفران جميع خطاياهم إن عادوا إليه تائبين، ووعدَهم بأن ينسى لهم كلّ زلاتهم. إنّ الربّ وعدَ البشر بالغفران على الرّغم مِن عِلمِه أنّ البشر سيعودون إلى ارتكاب الخطيئة مِن جديد. إنّ الإنسان لم يستطِع أن يُصدِّق عظمة الربّ وغفرانه الّذي لا يوصَف، لأنّ عقله البشريّ عَجِز عن فَهمِ ذلك، ولأنّه لم يَفهَم غفران الله له، عاد الإنسان إلى ارتكاب الخطايا مِن جديد. إنّ الله ينظر إلى الإنسان التائب على أنّه خليقةٌ جديدةٌ على الرّغم مِن طبيعتِه البشريّة الضعيفة الـمُعرَّضة للسّقوط دومًا.

إنّ الإنسان، تلك الخليقة الجديدة في نَظَرِ الله، تتعرَّض للتشويه على الرّغم مِن غفران الله للخطايا. ولذلك أراد الله أن يجد حلاًّ يُساعد الإنسان على المحافظة على صورة "آدم الأخير" في داخله، فكان مجيء المسيح وتجسُّده هو الحلّ، إذ تجسَّد المسيح استجابة لطلب الله الآب، فصار ذلك الإنسان الّذي لا مَنظَرَ له ولا جمال، حين تألَّم، غير أنّه بقي على الرّغم مِن ذلك مُشتهى الله. إنّ المسيح الّذي لا عيب فيه، ولم يرتكب خطيئة قطّ، هو "آدم الأخير"، الّذي يطمح الله أن يراه في كلّ إنسان. إنّ الحبّ المتبادَل بين الله الآب والمسيح يسوع هو الّذي يمنع خيانة المسيح الابن لله أبيه. في الجسمانية، كان المسيح يُصارِع الموت وأراد التّراجع عن إكمال المسيرة إذ طلب مِن أبيه أن يُبعِد عنه تلك الكأس، كأس الموت. إنّ الله الآب، شجّع المسيح على إكمال مسيرة الآلام تلك، لأنّه وَجَد في المسيح وحده، صورةً يُعطيها للإنسان، عن "آدم الأخير"، تلك الخليقة الجديدة، الّـتي هي سبب سرور الله الآب. إنّ المسيح، هو "آدم الأخير"، وهو الابن الّذي يُسِرُّ قلبَ الوالد، أي قلب الله. إنّ الله ينظر إلى الإنسان، فيرى عتاقته، لكنّه لا يفقد منه الأمل، لذا يستمرّ الله في غفرانه وحبِّه للإنسان، عسى أن يُصبِح الإنسان يومًا على صورة المسيح "آدم الأخير"، خليقةً جديدةً يجد فيها الله مسرَّته. إنّ الله استمرّ في غفرانه للبشر ومحبّته لهم، غير أنّ البشر استمرّوا في ارتكاب الخطايا وخيانة الله، ومِن ثمّ العودة إليه مجدّدًا. إنّ نجاح المسيح في صيرورته خليقة جديدة يَجِد فيها الله مسرَّته، أعطى أملاً لله في إمكانيّة صيرورة البشريّة بأسرها خليقة جديدة، إنْ تشبّهت بالمسيح. لقد استطاع كثيرون التشبّه بالمسيح، أمثال الرّسل والشّهداء والقدِّيسين، فكانت فيهم مَسَرَّة الله. إنّ الإنسان حاول استغلال رحمة الله ومحبّته له، عبر تقديم الذبائح الحيوانيّة والأصوام والصّلوات، لذا رفضها الله واستبدلها، فطلب مِنَ الإنسان أن يُقدِّم له خطيئته. إنّ الله يريد مِنَ الإنسان أن يُقدِّم له جَبْلَته الضعيفة، إذ إنّ الله هو الوحيد القادر على مساعدة الإنسان على التخلُّص مِن خطيئته. إنّ الله يُفيض على الإنسان رحمتَه وحبَّه، لهذا يشعر المؤمن بالفَرَح والتعزية والأمان. عندما يتعرَّض الإنسان للأذيّة مِنَ الآخر، فإنّه للحال ينسى أنّه خليقة جديدة في المسيح، ويتصرّف إنطلاقًا من عاداته القديمة، مستخدِمًا لغة هذا العالم. إنّ مشكلة الله مع الإنسان، تكمن في عدم رحمة الانسان لأخيه، لا في مسألة ارتكابه للخطيئة.
ثلاثةُ آحادٍ تسبِق الصّوم بحسب التقليد الشرقيّ أي في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وهي: أحد الفِرِّيسيّ والعشّار، ثمّ أحد الابن الشاطر، وبَعْدَهُ أحد الدينونة، وأخيرًا أحد الغفران. إنّ المسيرة التحضيريّة للصّوم في هذه الكنيسة تبدأ مع إنجيل الفِرِّيسيّ والعشَّار. إنّ هذا النّص الإنجيليّ يعرض لنا نموذَجيَن مِنَ المؤمنين: أوّلاً، ذلك الإنسان الّذي يفتخر بأعماله التقويّة أمام الله كالصّوم والصّلاة، أمّا قلبه فهو خالٍ مِنَ المحبّة والرّحمة والتوبة؛ أمّا النَّموذج الثاني فهو نموذج ذلك الإنسان المتواضع الذي يُقِرْ بضعفه أمام الله. وينتهي هذا النّص باخبارنا أنّ الله لم يقبل صلاة الفريسيّ بل صلاة العشَّار الّذي عاد إلى بيته مُبَرَّرًا. إنّ الكنيسة تدعونا مِن خلال هذا الإنجيل إلى التوبة مِن جديد إلى الله، إذ إنّ الله يريد صرخة إنسانٍ تائب لا صرخة إنسانٍ متفاخر بأعماله. وتُتابع الكنيسة المسيرة التحضيريّة للصّوم مِن خلال انجيل الابن الشّاطر، إذ تقول لنا مِن خلال هذا النّص إنّ كلّ توبةٍ تفترِض انتظار جواب الطرف الآخر، الّذي تمَّت أذيّته. في هذا النّص، نجد أنّ جواب الأب على توبة ابنه، كان بأن يُفيض عليه رحمته الأبويّة. إنّ الأب في هذا النّص لم يهتمّ لنوايا ابنه الباطنيّة الكامنة خلف توبته، أي أنّه لم يهتمّ إن كانت توبته صادقة أم لا، فإنّ همّ الوالد الأساسيّ هو أن يلقى ابنه بَعدَ غيابٍ طويل، سليمًا مُعافىً حيًّا. إنّ الكنيسة تَوَدُّ مِن خلال هذا الإنجيل أن تُخبرَنا عن رحمة الله العظيمة للبشر، وتدعونا إلى الاستفادة مِن تلك الرّحمة، وتَعَلُّمِها لممارستها مع الآخرين. ولذا تقرأ الكنيسة على مسامِعِنا في الأحد الثالث في هذه المسيرة التحضيريّة التّي تسبق الصّوم، إنجيل الدينونة العامّة: "كنتُ سجينًا، وكنت مريضًا،...." إنّ هذه الأناجيل الثَّلاثة تُشكِّل دعوة للمؤمنين كي يُدرِكوا أنّ على صومهم أن يتَّسِم بالتوبة والرّحمة. وفي الأحد الأخير قبل بداية الصّوم، وهو أحد الغفران، يُقرأ إنجيل يتكلّم عن ضرورة مسامحة الآخرين على زلاتهم:"إن لم تغفروا للنّاس زلاتهم، فلن يغفر لكم أبوكم السّماويّ زلاتكم". لذا إن أدرَك المؤمن عظمةَ رحمة الله وغفرانه له، فَعامَلَ الآخرين بالرّحمة، فإنّ تلك الرّحمة ستدفعه إلى غفرانه لهم كلّ زلاتهم، وبالتّالي فسيعيش هذا المؤمن صومًا حقيقيًّا غير مبنيّ على الانقطاع عن المأكولات، بل على عيش الرّحمة مع الآخرين المعبَّر عنها بغفرانه لهم زلاتهم. إذًا، لا يجب أن تكون فترة الصّوم عند المؤمن فَترةً تُقيِّده إذ تَضَع عليه القوانين الـمُلزِمة، الّتي تجعله يشعر بالافتخار والعظمة لممارسته الصّوم والصّلاة، بل عليه اتبّاع قوانينه الخاصّة الّتي تساعده على عيش مفهوم الصّوم الحقيقيّ وهي عيش الرّحمة والغفران.
إنّ مسيرة الصّوم تدعونا إلى السير مع الآخرين، طالبةً منّا اتّخاذ القرار الّذي يناسبنا في أَمْرِ هذا الكاهن الوحيد، الّذي يُقدِّم ذاته ذبيحةً مِن أجلنا على الصليب. إذًا الاختيار يقع على مسؤوليّتنا: فهل نريد السير مع يسوع والاعتراف به إلهًا وكاهنًا وحيدًا لنا، فنقبل بذبيحته مِن أجلنا؛ أم نريد السَيرَ بعيدًا عنه مُكْتَفين بالذبائح القديمة الّـتي يُقدِّمها الكهنة الأرضيّون؟ ما هو جوابنا على عمل المسيح الخلاصيّ لنا: هل سنطالب كما الشَّعب، بِصَلبِه صارخين إلى بيلاطس قائلين له: "اصلبه، اصلبه"، لأنَّ في موتِه راحةً دنيويّة زائلة لنا، محاولين إسكات صوت الله في ضمائرنا؟ أم سنهرب كما فعل التّلاميذ، إذ إنّنا نجد صعوبةً في إمكانيّة تطبيق تعاليم المسيح في حياتنا على الرّغم من محبّتنا لها؟ أم سنكون على مثال يوحنّا، ذلك التّلميذ الّذي أمال رأسه على صدر يسوع؟ إنّ هذا التّلميذ كان الوحيد الّذي أكمَل المسيرة مع الربّ إلى النّهاية، إلى الصليب. إنّ هذا التّلميذ أدرَك أنّ المسيح هو الوحيد الّذي يمكننا الاستناد عليه في هذه الحياة، ولذا اختار السَيْرَ معه إلى النّهاية، فكانت مكافأةُ الربّ له على الصليب، إذ سلّمه أمّه مريم لتكون أمَّه، وجعل منه ابنًا لها بدلاً منه، هو المصلوب على الصّليب. إذًا، على المؤمن أن يتَّخذ قراره خلال مسيرة الصّوم، فيُدرِك مِثلَ مَن يريد أن يكون. يمكن للمؤمن أن يكون أيضًا مِثْلَ الضابط الرومانيّ الّذي ما كان يهتمّ لتعاليم يسوع، ولكنّه اعترف بأنّه حقًّا ابن الله، حينَ أسلم يسوع الرّوح على الصليب. كما يمكن للمؤمن أن يكون مثل أولئك الّذين خافوا أن تتزعزع ممالكهم إن أعلنوا قبولَهم كلمة الله، فقرّروا قَتْلَ المسيح ودفنه، ووَضْعِ حجرٍ على قبره، كي لا يتمكّنوا مِن رؤيته مُجدَّدًا لأنّ في رؤيته توبيخًا لهم على قساوة قلوبهم. كما يمكن للمؤمن أن يكون مثل أولئك الكهنة والفرِّيسيين الّذين نسجوا الأكاذيب حول سرقة التّلاميذ ليسوع مِنَ القبر، فصدَّقوها، وعاشوا في كِذبةٍ طوال حياتهم. كما يستطيع المؤمن أن يكون مثل بطرس الّذي، بعد خوفه، ونكرانه للمسيح، نال الشّجاعة مِنَ الربّ حين ظهر له القائم مِنَ الموت، إذ فَهِم حينها كلّ عمل المسيح الخلاصيّ. إنّ العودة إلى الربّ هي جَائِزةٌ في كلّ أوانٍ لأنّ قيامة الربّ عظيمةٌ: فالربّ سينسى كلّ أخطائك في الماضي، كلّ خوفك وتردّدك ونِفاقِك وإنكارِك له، كما حصل مع بطرس، ويُقيم معك عهدًا جديدًا.
لقد رأى التّلاميذ يسوع القائم مِنَ الموت في الجليل، أي في المكان الّذي تمَّت فيه دعوتهم رُسلاً، أي أنّ عهد الربّ مع تلاميذه بدأ مِن حيث كانت نقطة انطلاقة مسيرتهم معه. هناك، في الجليل، رأى يسوع سمعان ودعاه لاتِّباعه، وأعطاه اسم "بطرس". بعد القيامة، نظر يسوع إلى بطرس، واعتبره إنسانًا جديدًا على الرّغم مِن أنّه ما زال ذاك الإنسان الّذي أنكره، لقد اعتبره إنسانًا جديدًا بَعد جواب بطرس الإيجابيّ على سؤال يسوع له:"أتُحبّني؟". لقد طرح يسوع السؤال على بطرس، قائلاً له: "يا سمعان بن يونا، أتُحبّني؟" إذًا، لقد استخدم المسيح الاسم القديم لبطرس، فدعاه سمعان، إذ بَعدَ إنكاره للمسيح، لم يَعُدْ بطرس خليقةً جديدة، لذا عاد إليه اسمه القديم. عندما سمع يسوع جواب بطرس الإيجابيّ الّذي فيه يُعلِن حبَّه للمسيح، قام المسيح بتسليم بطرس الرعيّة والقطيع. لقد مَنَح الربّ يسوع بطرسَ القطيع، تلك الأمانة الّتي أعطاها الله الآب ليسوع للاهتمام بها ورعايتها. إنّ الربّ لم يطلب مِن بطرس القيام ببعض أعمال التقوى كالصّلاة والرّكوع وتقديم الذبائح، بل سَلَّمه مسؤوليّة كبيرة وهي رعاية القطيع. على الراعي الاهتمام بقطيعه، فيسعى إلى البحث لهم عن مَأكلِ وَمَشْرَب، كي يتمكّن القطيع مِنَ النّمو والاستمرار في الحياة، وبالتّالي فإنّ الربّ بتسليمه رعاية القطيع لبطرس، طلب مِنْهُ الاهتمام بِـمَن هم حَولَه، وفي محيطه. إنّ جواب بطرس على يسوع، هو دليلٌ على قبوله بتلك المسؤوليّة، إذ قال بطرس:"يا ربّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كلّ شيء، إنّك تعلم أنّي أحبّك". لقد حَزِن بطرس حين سأله يسوع للمرّة الثالثة :"أتُحبّني؟"، غير أنّ يسوع كان قد طرح ذلك السؤال مرّات ثلاث على بطرس، ليمحو له نكرانه الثلاثيّ أمام الجارية، فيتأكَّد حينها أنّ بطرس قد أصبح فعلاً إنسانًا جديدًا. في جواب بطرس على يسوع:"يا ربّ، أَنْتَ تَعلَم كلّ شيء، وأنتَ تَعلَم أنّي أحبُّك"، نقرأ إصرار بطرس على الاستمرار في محبّة الربّ على الرّغم مِن ضُعفه البشريّ، فالربّ يَعلَم بخطايا بطرس. بَعدَ تكرار السؤال على بطرس للمرّة الثالثة، وبَعدَ سماعه لجواب بطرس، قال الربّ له إنّه حين كان شابًا، كان يَشُدّ حزامه بنفسه ويذهب إلى حيث يشاء، ولكنّه عندما سيَشيخ، فسيكون هناك آخر يتكفَّل بِشَدّ الحزام له وأَخْذِه إلى حيث لا يريد أي إلى الموت. وهكذا كانت نهاية بطرس، إذ تمَّ سَوقه إلى حيث لا يريد، أي إلى الموت في روما، وهناك صُلِبَ بطريقة معاكسة لصلب المسيح. إذًا، لم يكن المسيح هو الوحيد الّذي أرضى الله الآب وكان سببَ سروره، بل أصبح بطرس كذلك سبب سرور الآب، إذ تمكّن مِن أن يكون إنسانًا جديدًا.

إنّ بطرس لم يَكُن الأخير في قافلة الشُّهداء الّذين أرضَوا الله، فقافلة الشُّهداء والقدِّيسين ما زالت مستمرة إلى اليوم. فالقدِّيسون والشُّهداء قد فَهِموا حقًّا ما هو رأس الكلام، الّذي تكلّم عنه كاتب هذه الرسالة في مطلع هذا الإصحاح، وهو: "أنَّ لنا رئيسَ كهنةٍ مِثْلَ هذا، قد جلسَ عن يمينِ عرشِ العَظَمة في السّماوات". إنّ هذه القوافل من الشُّهداء والقدِّيسين أصبحت سبب سرور الله، إذ تمكّن الله من رؤية المسيح في كلّ منهم. إنّنا في كلّ مرّة نخرج مِنَ الكنيسة بعد الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، نُعرِّض الله لـِ"عمى إنسان"، فيرى فينا، نحن الّذين تناولنا جسد ابنه ودمه، صورةً عن يسوع المسيح، فيرى فينا خليقة جديدة. فإنْ كنّا غير مُصدِّقين أنّه بعد الذبيحة الإلهيّة، نُصبح مشابهين ليسوع المسيح، فهذا دليل على أنّنا لا نعترف بأنّ المسيح هو رئيس كهنتنا، ونحن بالتّالي لا نقبل ذبيحته، ولا حتّى كهنوته، ونُفضِّل الكهنة الأرضيّين عليه، وذبائحهم الدمويّة، لأنّ في ذبائحهم راحة لنا. إنّ كهنوت المسيح، يدفع بالمؤمن إلى بناء حياته مِن جديد على أساس تعاليم المسيح.

إنّ الكهنة الأرضيّين مُلزَمين أن يُقدِّموا الذبائح عن الشّعب وعن ذواتهم لأنّهم خطأة كسائر الشَّعب. إنّ بعض المؤمنين يلجؤون إلى هذه الحجّة للتهرّب مِنَ الاقتراب مِن سرّ الاعتراف، فيقولون في الكهنة إنّهم خطأةٌ كسائر الشَّعب، فيُبرِّرون لذواتهم الاعتراف الشخصيّ بينهم وبين الله. إنّ الضعفَ البشريّ للكاهن هو إحدى سلبيّاته، ولكنّ هذا لا يُعطينا الحقّ في إدانته، إذ إنّنا نحن أيضًا جبلةٌ ضعيفة خاطئة. إنّ تلك العبارة الّـتي يستخدمها المؤمن في إدانته للكاهن، فيقول:"إنّه مثلي مِثْلَه"، هل يتجرّأ المؤمن ويستعملها في كلامه عن الكاهن الأعظم يسوع المسيح؟ بالطبع، لا أحد يتجرّأ ويقول عن ذاته إنّ المسيح مِثلُه، أو أنّه مِثْلُ المسيح، لأنّك إن أردت أن تقيم مقارنة فيما بينكما فإنّك لن تجد إلّا خطاياك. إنّ الله الآب وحده، يستطيع أن يحكم فيقول فيك إن كنت حقًّا مشابهًا للمسيح، أم لا. إذًا، إنّ مقارنة الآب لنا بابنه الحبيب يسوع المسيح، لا تعتمد على مدى قداستِنا وبِرِّنا، بل تستند على ما مَنحَنا إيّاه الله الآب، إذ شابَهَنا بالمسيح، فأعطانا الملكوت، وبالتّالي أصبحنا وارثين لله كما هي حال يسوع. إذًا، هذا هو إلهنا الّذي نُقدِّم له كلَّ أصوامِنا، لذا لا داعي للاستمرار بالقلق، لأنّ الله شابَهَنا بالمسيح، فأعطانا الملكوت، ميراث الآب.

إنّ بعض العادات الشَّعبيّة في الغرب، تقوم على إقامة "الكرنفالات"، قَبل بداية الصّوم، وفيها يتمّ ارتكاب المعاصي والخطايا. إنّ هذه الشُّعوب تنظر إلى الصّوم على أنّه فترة الانقطاع عن كلّ مباهج الدّنيا وملذَّاتها وشهواتها الدّنيويّة، لذا يقومون بتوديعها قبل بداية الصّوم، وكأنّ الصّوم هو فترة توديع للحياة. إذًا، إنّ المفهوم الخاطئ للصّوم عند بعض الشُّعوب أنتج عادات تُقام في فترة التحضير للصّوم، مِن دون أن تُعبِّر عن جوهر الصّوم ومفهومه الحقيقيّ. أمّا في الشّرق، فيحتفل بعض المؤمنين، كما هي الحال في القرى اليونانيّة النائية، في بداية الصّوم، فيُخصّصون اليوم الأوّل من الصّوم، يوم اثنين الرّماد، لتمضيته في البراري مع الأهل والأصدقاء، فيتشاركون فرح بداية الصّوم. إذًا، فإنّ الشَّعب المؤمِن في الشرق، يُعبِّر عن فرحه لبدء الصّوم بإطعام الآخرين؛ غير أنّ هذه العادات في الشرق، بدأت بالاندثار. إنّ هذه العادات تُعبِّر عن مدى إدراك الشَّعب الّذي يمارسها لمفهوم عمل المسيح الخلاصيّ من أجله، ولمفهوم إيمانه الحقيقيّ بالمسيح، فتصرّفات الإنسان ومسلكيّته في المجتمع، تعكس صورة عن إيمانه.

لا يجب قطع العلاقة مع كلّ ما هو قديم، بل علينا الاستفادة ممّا هو قديم إن كان فيه شيءٌ صالحٌ. إنّنا لا نتمسّك بالعهد القديم، بسبب العادات القديمة الموجودة فيه، إنّما بسبب كلمة الله المكتوبة فيه. إخوتي، يجب الحذر مِن عدم التمسّك بالعادات القديمة في العهد القديم فنختار ما يناسبنا مِنها، كما أنّه لا يجب انتقاء ما يناسبنا مِنَ العهد الجديد، ومِن أقوال المسيح، فنُحلِّل لذواتنا ارتكاب الخطايا، مِن ثمّ نعود إلى الله مستغلّين رحمته، ذارفين الدّموع بَعدَ شعورنا بتوبيخ الضّمير. إنّ الربّ يردّ على استغلالنا لرحمته وحبّه لنا، بالاستمرار في غفرانه لنا كلّ خطايانا. إنّ الرب يقول الكتاب، قد أقسم ولن يندم حين جعلنا كهنة على رتبة ملكي صادق. إنّ كلمة الله لا تُقيِّده، بل تُقيِّد الشَّعب، وهذا ما يُفسِّر قيام الربّ بالقَسَم على الرّغم مِن أنّه مَنَع الشَّعب مِن أن يُقسم بالسّماء كما بالأرض. إنّ الربّ لا يثق بقَسَم الإنسان، لأنّ الإنسان لا يَثبُت في قَسَمِه، إذ إنّه يُغيّر قَسَمَه بحسب الظروف، أمّا الله فقَسَمُه ثابت. إنّ الربّ قد أقسَم أنّه سينسى خطايانا متى عُدنا إليه، وطلبنا مِنه الرحمة والتوبة. إنّ الربّ قد نَدِمَ، حسب تعبير الكتاب المقدّس، حين أرسل الطوفان على الأرض، في زمن نوح، وأقسَم قائلاً إنّه لن يُكرِّر ذلك مِن بَعِد، لأنّ ذلك لم يدفع النّاس إلى اتّخاذ العِبَر. إنّ الربّ لن يُطوِّف الأرض بالمياه بَعدَ الآن، بل طوَّف البشر بدَم المسيح، فجعلهم خليقةً جديدة. إنّ المسيح إذًا، هو الكاهن الوحيد الفريد، الّذي لا يستطيع أيّ كاهنٍ أرضيّ أن يُضاهيه. إنّ الله غريبٌ في حبّه للبشر، إذ عبَّر عن حبّه بتلك الطريقة، عندما أرسل ابنه الوحيد وطوَّف البشريّة بأسرها بدمه وخلَّصها.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
31/1/2017 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح السابع عمل الله الخلاصيّ
https://youtu.be/Y0EwoxXh5CM

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح السابع

الأب ابراهيم سعد

31/1/2017

"إِنَّ مَلْكِي صَادَقَ هذا، مَلِكَ سَالِيمَ، كاهنَ اللهِ العلّي، الّذي استَقبَلَ إبراهيمَ راجعًا مِن كَسْرَةِ الملوك وبارَكَه، قَسَمَ له إبراهيمُ عُشْرًا مِن كلِّ شيءٍ. الـمُتَرجَمُ أوَّلاً "مَلِكَ البِرِّ" ثُمَّ أيضًا "مَلِكَ ساليمَ" أي "مَلِكَ السَّلامِ" بِلا أبٍ، بلا أمٍّ، بِلا نَسَبٍ، لا بَدَاءَةَ أيّامٍ له ولا نِهايةَ حَياةٍ، بلْ هُوَ مُشبَّهٌ بابنِ اللهِ، هذا يبقى كاهنًا إلى الأبدِ. ثُمَّ انظُروا ما أعظَمَ هذا الّذي أَعطاهُ إبراهيمُ رئيسُ الآباءِ، عُشرًا أيضًا مِن رأسِ الغنائمِ! وأمّا الّذينَ هُمْ مِن بَني لاوي، الّذينَ يأخُذونَ الكَهنوتَ، فَلَهُم وَصيّةٌ أنْ يُعشِّروا الشَّعبَ بِمُقتضى النّاموسِ، أي إخوَتَهُم، مَعَ أنّهم قَد خرَجوا مِن صُلبِ إبراهيمَ وَلَكِنَّ الّذي لَيسَ له نَسَبٌ مِنهُم قَد عَشِّرَ إبراهيمَ، وباركَ الّذي له المواعيدُ! وَبِدُونِ كلِّ مُشاجرةٍ: الأصغَرُ يُبارَكُ مِن الأكبَر. وهُنا أُناسٌ مائِتونَ يأخُذونَ عُشْرًا، وأمّا هناكَ فالمشهودُ له بأنّه حيٌّ، حتّى أقولُ كلمةً: إنَّ لاوي الآخِذَ الأعشارَ قد عُشِّر بإبراهيمَ، لأنّه كانَ بَعدُ في صُلبِ أبيهِ حينَ استقبَلَهُ مَلكِي صادَقَ. فَلَوْ كانَ بالكهنوتُ اللّاويِّ كمالٌ، إذ الشَّعبُ أخَذَ النّاموسَ علَيهِ، ماذا كانتِ الحاجةُ بَعدُ إلى أنْ يَقومَ كاهِنٌ آخرُ على رُتبَةِ مَلْكِي صَادَقَ؟ ولا يُقالُ على رُتبَةِ هارونَ. لأنّه إنْ تَغيِّرَ الكهنوتُ، فبالضَّرورةِ يَصيرُ تَغَيُّرٌ للنّاموسِ أيضًا. لأنّ الّذي يُقالُ عنه هذا كانَ شريكًا في سبطٍ آخرَ لَمْ يُلازِمْ أحدٌ مِنهُ الـمَذبحَ. فإنّه واضِحٌ أنَّ ربَّنا قَدْ طَلَعَ مِن سِبطِ يَهُوذا، الّذي لم يتكلَّم عنه موسى شيئًا مِن جِهةِ الكهنوتِ. وذلك أكثرُ وُضوحًا أيضًا إنْ كانَ على شِبهِ مَلْكِي صَادَقَ يَقومُ كاهِنٌ آخرُ، قَدْ صارَ ليسَ بِحَسَبِ ناموسِ وصيّةٍ جسديّةٍ، بَل بِحَسَبِ قوَّةِ حياةٍ لا تَزولُ. لأنّه يَشهَدُ أنَّكَ: "كاهِنٌ إلى الأبدِ على رُتبَةِ مَلْكِي صادَق". فإنّه يَصيرُ إبطالُ الوَصيَّةِ السَّابقةِ مِن أجلِ ضَعفِها وعدمِ نَفعِها، إذ النّاموسُ لم يُكمِّلْ شيئًا. ولكنْ يَصيرُ إدخالُ رجاءٍ أفضَلَ به نَقتَرِبُ إلى اللهِ. وعلى قَدرِ ما إنَّهُ ليسَ بِدونِ قَسَمٍ، لأنَّ أُولئِكَ بِدونِ قَسَمٍ قَد صاروا كهنةً، وأمّا هذا فَبِقسَمٍ مِنَ القائلِ لهُ: "أَقسَم الربُّ ولن يَندَمَ، أنتَ كاهِنٌ إلى الأبدِ على رُتبةِ مَلكِي صادَق". على قدرِ ذلك قَد صار يسوعُ ضامِنًا لِعهدٍ أفضَلَ. وَأُولئِكَ قَد صاروا كهنةً كثيرينَ مِن أجلِ مَنعِهِمْ بالموتِ عَنِ البقاءِ، وأمّا هذا فَمِن أجلِ أنّه يبقى إلى الأبدِ، له كهنوتٌ لا يزولُ. فَمِنْ ثَمَّ يَقدِرُ أنْ يُخلِّصَ أيضًا إلى التَّمامِ الّذينَ يتَقدَّمونَ به إلى الله، إذ هو حَيٌّ في كلِّ حينٍ لِيَشفعَ فيهم. لأنّه كانَ يَليقُ بِنا رئيسُ كهنةٍ مِثلُ هذا، قُدُّوسٌ بِلا شَرّ ولا دَنَسٍ، قد انفصلَ عنِ الخطأةِ وصارَ أعلى مِنَ السَّماواتِ، الّذي ليسَ له اضطرارٌ كلَّ يومٍ مِثلُ رؤساءِ الكهنةِ أنْ يُقدِّمَ ذبائِحَ أوَّلاً عنْ خطايا نفسِهِ ثُمَّ عَنْ خطايا الشَّعبِ، لأنّهُ فَعَلَ هذا مرّةَ واحِدَةً، إذ قَدَّمَ نفسَهُ. فإنَّ النّاموسَ يُقيمُ أُناسًا بِهِمْ ضَعف رؤساءَ كهنةٍ. وأمّا كلمةُ القَسَمِ الّتي بَعدَ النَّاموسِ فَتُقيمُ ابنًا مُكَمَّلاً إلى الأبدِ."

إنّ كاتب الرسالة يُقارن بين كهنوت المسيح، وكهنوت العهد القديم. إنّ كهنة الشعب اليهوديّ، هم كهنة مِن قبيلةٍ كهنوتيّةٍ واحدة هي سبط لاويّ، وقد فُرِزَ هذا السِّبط مِن أجل خدمة الهيكل وخِدمة الذبائح. يُعيَّن الكاهن اليهوديّ ويُختار مِن قِبَل الشَّعب مِن دون وجود قَسَمٍ إلهيّ، ويُقدِّم الذبائح عن خطاياه وعن خطايا الشّعب، فينتهي كهنوته، بانتهائه مِن تأدية ما يَفرِضُه عليه الكهنوت اليهوديّ. إنّ الكاهن يُختار مِن سلالة معروفة مِن الشَّعِب، وبالتّالي فالكاهن اليهوديّ هو معروف النَسب أي أنّ أمَّه وأباه معروفَان مِن الشَّعِب. أمّا كهنوت المسيح، فَيُشبِه كهنوت "مَلكِي صادَق"، ذاك الّذي تَمَّ ذِكره في العهد القديم مِن دونَ أنْ يتمّ ذِكرَ سلالته، فهذا الكاهن لا ينتمي إلى سلالة لاوي كما هي حال الكهنوت اليهوديّ، إذ كان قَبلَ الكهنوت اللّاويّ. ولكن ما يُثير الاستغراب هو أنّ ابراهيم، أبا المؤمنين، قد أدّى له الخضوع، وقدَّم له العُشورَ، والأكثر غرابةً هو أنّ الكهنوت اللّاوي جاء مِن صُلبِ ابراهيم. إنّ ابراهيم قدَّم لهذا الكاهن، المجهول النَسَب والتّاريخ، عِشرَ الغنائم، حين عاد منتصرًا مِن حربه على الملوك. إذًا، إنّ كاتب الرسالة يُقارن ما بين كهنوت المسيح وكهنوت لاويّ، فيقول إنّ كهنوت المسيح هو على رُتبَة "ملكي صادق"، أي أنّ لا سلالة كهنوتيّة له، ولكنّ كهنوت المسيح يتميَّز مِن كهنوت "ملكي صادق"، بالقَسَم الإلهيّ الّذي ناله المسيح من الله الآب. إنّ القَسَم الإلهيّ يُعطي فرادة لكهنوت المسيح، ويجعل مِن كهنوته، كهنوتًا لا مَثيل له. إنّ مهمّة الكاهن اليهوديّ تقوم على تقديم الذبائح تكفيرًا عن خطاياه وخطايا الشعب، أمّا المسيح فَهو الكاهن الوحيد الّذي لا خطايا له، وبالتّالي لم يقدِّم الذبائح تكفيرًا عن خطاياه، بل قدَّم ذاته ذبيحةً لأجل البشر ولأجل خلاصهم. في كلامه عن المسيح الكاهن، استخدم كاتب هذه الرسالة عبارة "قدَّم نفسه" عِوضَ عبارة "قدَّم ذبيحةً عن"، ليُشير إلى أنّ اليهود لم يتمكّنوا مِن خلال الذبائح الّتي قدّموها لله وِفقًا للنّاموس مِنَ الوصول إلى غاية النّاموس ألا وهي الكمال. وأضاف الكاتب قائلاً إنّ المسيح هو الضّامن لعهد الله القائم على مَنح الله الخلاص لشعبه، وقد تحقَّق هذا العهد بالمسيح يسوع.
إنّ ابراهيم وسارة حاولا أن يجدا طريقةً بشريّة يُحقِّقان بها ما وَعَدَهُما به الله أي بإعطائهما ولدًا مِن صُلبِ ابراهيم، فاختارا هاجر وسيلةً لتحقيق هذا الوعد، غير أنّ وَعْدَ الله لهما لم يتحقّق مِن خلال "اسماعيل"، ابن ابراهيم مِن هاجر، بل تَحَقَّقَ مِن خلال اسحق، ابن الوعد، ابن ابراهيم وسارة. لقد سُميّ هذا الطفل "اسحق"، كما طلب الملاك. إنّ تفسير اسم "اسحق" هو"اضحك"، إذ إنّ والدته سارة قد ضَحِكَت حين سمِعَت كلامَ الملاك الّذي أعلن البشارة لابراهيم بتحقيق وعْدِ الله له، وحصوله على ابنٍ مِن زوجته سارة. عند ولادة اسحق، أصبح لابراهيم وريثًا مِن صُلبِه. وبعد فترةٍ من الزّمن على ولادة اسحق، طلب الله من ابراهيم، أن يُقدِّم له ابنه الوحيد اسحق ذبيحةً، هذا الولد الّذي به تحقّقت كلّ آمال ابراهيم المنتظرة منذ زمنٍ بعيد، كما أصبح هذا الولد وسيلةً يُخلِّد ابراهيم من خلالها اسمه في التّاريخ. لقد سبَّبَ طلب الله هذا لابراهيم ألـمًا عظيمًا. إنّ ابراهيم قد شعر بالألم للمرّة الأولى، حين طلب منه الله أن يترك أرضه وعشيرته، وكلّ ممتلكاته، ويذهب إلى الأرض الّتي سيريه إيّاها. غير أنّ ابراهيم قد وَضَعَ ثقته في الله وآمن به، لذا ترَكَ كلّ ضماناته الأرضيّة مِن أرضٍ وعشيرةٍ وممتلكات، وجعلَ اللهَ ضمانتَه الوحيدة. آمن ابراهيم بالله مِن دون أن يُقدِّم له الله أيّ برهانٍ أو تأكيدٍ على وعوده له. أمّا في المرّة الثانية، فَقَدْ طلب الله مِن ابراهيم أن يُقدِّم له اسحق ابنه ذبيحةً، ذاك الولد الّذي أعطاه إيّاه الله في شيخوخته بعد سنوات من الانتظار، ذاك الولد الّذي يُشكِّل اليوم ضمانة ابراهيم الأرضيّة واستمرايته في هذه الحياة، كما ويُشكِّل وَسيلَتَه لتخليد اسمه. إنّ ابراهيم قد بَرهَنَ عن إيمانٍ عظيمٍ بالله، إذ على الرّغم من تألُمِّه نتيجة هذا الطلب، صعِدَ إلى الجبل ليُقدِّم ابنه ذبيحةً كما أمَرَه الله. غير أنّ الله قد رفض هذه التقدمة، فأعطى الله ابراهيم كِبشًا على الجبل ليُقدِّمه له محرقةً بدلاً مِن وحيده. إنّ الله يُعلِّمنا أنَّ البشريّة لن تَخلُصَ حتّى وإن قدَّم ابراهيم ابنه الوحيد اسحق ذبيحة، فالخلاص سيتمّ من خلال تقديم آبٍ ابنَه الوحيد ذبيحةً، لذا قدَّم الله ابنه الوحيد ذبيحة عن البشر، فمنحهم به الخلاص الموعود. إنّ ذبيحة الله هذه مختلفةٌ عن ذبائح البشريّة: فَمَفهوم "الابن الوحيد" عند الله مُختلفٌ عن مفهوم البشر له. في نشيد "عَبْد يَهوَه" في سِفر أشعيا، نقرأ العبارة "قدَّم نفسه ذبيحة": لقد فَهِم المؤمنون هذه العبارةَ بطريقةٍ خاطئة، إذ فسَّروها على أنَّ المسيح قدَّم نفسَه ذبيحةً، أي أنّ المسيح هو المقُدِّم والمقدَّم، غير أنّ النّص الأساسيّ يقصد بتلك العبارة أنّ الله سيُقدِّم ابنه أي المسيح، ذبيحةً عن البشر، وبالتّالي فإنّ مُقدِّم الذبيحة هو الله، والذبيحة هي المسيح. تتمة...
17/1/2017 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح السادس تعزيات الله للإنسان
https://youtu.be/rgaARblEzkk

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح السادس

الأب ابراهيم سعد

17/1/2017

"لذلك، ونَحنُ تارِكون كلامَ بداءَةِ المسيحِ، لِنَتَقدَّم إلى الكمال، غيرَ واضِعينَ أيضًا أساسَ التّوبة مِن الأعمالِ الميِّتَةِ، والإيمانِ بالله، تعليمَ الـمَعموديّات، وَوَضعَ الأيادي، قيامة الأمواتِ، والدَّينونَةَ الأبديّةَ، وهذا ما سنَفعَلُهُ إنْ أَذِنَ الله. لأنَّ الّذينَ استُنِيروا مرَّةً، وذاقوا الـمَوهِبَةَ السّماويّةَ وصاروا شركاءَ الرّوحِ القدسِ، وذاقوا كلمة الله الصَّالِحةَ وقُوّاتِ الدَّهر الآتي، وسَقَطُوا، لا يُمكِنُ تَجديدُهم أيضًا للتّوبةِ، إذ هُم يَصلِبُونَ لأنفسِهِم ابن الله ثانيةَ ويُشَهِّرونَهُ. لأنَّ أرضًا قَد شَرِبَت الـمَطَرَ الآتيَ عليها مِرارًا كثيرةً، وَأَنْتَجَتْ عُشبًا صالِحًا للّذينَ فُلِحَتْ مِن أَجلِهِم، تنالُ بركةً مِنَ الله. ولكنْ إنْ أَخرَجَتْ شَوكًا وَحَسَكًا، فَهيَ مَرفوضَةٌ وقربيةٌ مِنَ اللَّعنَةِ، الّتي نهايتُها للحريق. ولكنّنا قَد تَيَقَّنا مِنْ جِهَتِكم أيّها الأحبّاءُ، أمورًا أفضلَ، ومُختَصَّةً بالخلاص، وإنْ كُنَّا نتكلَّم هكذا. لأنَّ الله ليس بِظالمٍ حتّى يَنسى عمَلَكم وتعَبَ المحبَّةِ الّتي أَظهَرتُموها نَحوَ اسمِه، إذ قَد خَدَمتُم القدِّيسين وتخدمونهم. ولكنّنا نشتهي أنَّ كلَّ واحدٍ مِنكم يُظهِرُ هذا الاجتهادَ عَينَهُ لِيَقِينِ الرَّجاءِ إلى النِّهايةِ، لِكَي لا تَكونوا مُتباطِئينَ بل مُتمثِّلينَ بالّذينَ بالإيمانِ والأناةِ يَرِثُونَ الـمَواعيدَ. فإنَّه لـمّا وَعَدَ اللهُ إبراهيمَ، إذ لم يَكُنْ لَهُ أَعظَمُ يُقسِمُ بهِ، أَقسَم بِنَفسِه، قائلاً: "إنّي لأُبارِكَنَّكَ بَرَكَةً وأُكَثِّرَنَّكَ تكثيرًا". وهكذا إذْ تَأَنَّى نالَ الـمَوعِدَ. فإنَّ النَّاسَ يُقسِمُونَ بالأَعظَمِ، ونِهايَةُ كلِّ مُشاجرةٍ عِندَهم لأجل التَّثبيتِ (البُرهانِ) هيَ القَسَمُ. فلِذلِكَ إذْ أرادَ اللهُ أَنْ يُظهِرَ أَكثَرَ كثيرًا لِوَرَثَةِ الـمَوعِدِ عدَمَ تَغيُّرِ قضائِه، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ، حتّى بِأَمرَين عَديمِي التَّغيُّرِ، لا يُمكِنُ أنَّ اللهَ يكذِبُ فيهما، تَكُونُ لنا تعزيةٌ قوِيَّةٌ، نحن الّذينَ التَجأْنا لِنُمسِكَ بالرّجاءِ الموضوعِ أمامنا، الّذي هوَ لنا كَمِرساةٍ للنَّفسِ مُؤتمنةٍ وثابتةٍ، تَدخُلُ إلى ما داخِلَ الحِجابِ، حيثُ دخَلَ يسوعُ كسابق لأجلنا، صائرًا على رُتْبَةِ مَلكِي صادَقَ، رئيسَ كهنةٍ إلى الأبد."

إنّ موضوع هذا الإصحاح هو صِدقُ وعدِ الله: إنّ الله قد أقسم بذاته للإنسان علَّه يُصدِّق هذا الأخير وعود الله له، غير أنّ تحقيقَ الله لمواعيده يستغرق وقتًا طويلاً، وبالتّالي على الإنسان التحلّي بالصبر والاجتهاد والإخلاص. إنّ إبراهيم يشكِّل مثالاً للإنسان المنتظِر تحقيق مواعيد الله. إنّ المؤمِن يَخرجُ مِن جرن المعموديّة قدِّيسًا، ولكن في مسيرة حياته، يرتكب الخطايا نتيجة أهوائه البشريّة، وهذا الأمر يدفع بالمؤمِن إلى أن يَطرح السؤال على ذاته: كيف السبيل للعودة إلى حياة القداسة؟ إنّ المعموديّة لا تُمنح إلاّ مرّة واحدة، وبالتّالي لا يمكن للمؤمِن الحصول على العماد في كلّ مرّة يخطئ فيها. إنّ كاتب الرسالة أراد وَضعَ التعليم جانبًا ليُركِّز على"الّذين استُنيروا مرّةً، وذاقوا الموهبة السّماويّة، وصاروا شركاء الرّوح القدس، وذاقوا كلمة الله الصَّالِحةَ وقُوّاتِ الدَّهر الآتي". إنّ الاستنارة تعني المعموديّة، وبالتّالي فالمقصود بعبارة: "الّذين استُنِيروا"، أولئك الّذين آمنوا بالمسيح فنالوا المعموديّة. إنّ "سبت النّور" قد عُرِف بهذا الاسم، في العصور الأولى للمسيحيّة، لأنّه فيه كانت تتمّ المعموديّة، ليتمكّن الّذين نالوا هذا السّر مِن المشاركة في عيد الفصح، أمّا في العصور اللّاحقة، فقد نُسِبَت هذه التسمية، إلى النّور الّذي يَفيض من قبر المسيح، في يوم السبت، فجر القيامة.
إنّ الله قد صَدَق في مواعيده للبشر، فحقَّقَ كلَّ ما وعدهم به، غير أنّ الإنسان غير قادر على الإخلاص لله، إذ يبقى ضعيفًا مُعرَّضًا للسقوط في الخطيئة نتيجة أهوائه البشريّة. إنّ الله لا ينسى أيّ عملٍ صالح يقوم به الإنسان، حتّى بعد سقوطه في الخطيئة، ولكنّ الإنسان لا يستطيع أن يكتشف عظمة رحمة الله وَصِدق مواعيده، إلّا إن تحلّى بالصبر والاجتهاد. إنّ القدِّيس أنطونيوس الكبير، الّذي نحتفل بعيده اليوم، هو خيرُ مثالٍ لنا عن ذلك: فهو قد تخلّى عن العالم حبًّا بالمسيح، لا كراهية بالعالم، تخلّى عنه لأنّه وجد في المسيح، ما يؤمِّن له سعادةً أكبر وغنىً أكثر. إنّ الإنسان لا يتخلّى عن الأمور الدنيويّة لأنّها سيئة، بل يتخلّى عنها على الرّغم من صلاحها ومنفعتها، لأنّه لا يستطيع الاحتفاظ بها إن كان يريد الحصول على وعود الله. إنّ التخلّي عن الأمور الدنيويّة لا يعني بتاتًا، عدم استعمال الإنسان لها مجدّدًا، إنّما يعني عدم بناء مصيره عليها. صحيحٌ أنّ المعموديّة لا تُمنَح للإنسان إلّا مرّة واحدة، ولكنّه يستطيع إعادة عهد معموديّته، عندما يتذكّر عطايا الله ورحمته له، فيسعى إلى تحسين مسيرته الإيمانيّة مع الربّ. فكما أنّ الأرض تُنبت عشبًا صالحًا إن ارتوت لمدّة طويلة جرّاء تساقط الأمطار، كذلك حال الإنسان إذ لا يمكنه أن يتغيّر ويتحسّن بطريقة سريعة، إنّما يتغيّر نتيجة محاولاته المستمرّة للتغيير، فالتغيير يتطلّب وقتًا. أمّا الإنسان الّذي لا يريد أن يتغيّر، فَحالُه تُشبِه أرضًا غير صالحة، إذ لا تُنبِت إلاّ حسكًا وشوكًا على الرّغم من توافر المياه لها. ويُضيف كاتب الرسالة قائلاً: "ولكنّنا قَد تَيَقَّنا مِنْ جِهَتِكم أيّها الأحبّاءُ، أمورًا أفضلَ، ومُختَصَّةً بالخلاص، وإنْ كُنَّا نتكلَّم هكذا لأنَّ الله ليس بِظالمٍ حتّى يَنسى عمَلَكم وتعَبَ المحبَّةِ الّتي أَظهَرتُموها نَحوَ اسمِه، ولكنّنا نشتهي أنَّ كلَّ واحدٍ مِنكم يُظهِرُ هذا الاجتهادَ عَينَهُ لِيَقِينِ الرَّجاءِ إلى النِّهايةِ لِكَي لا تَكونوا مُتباطِئينَ بل مُتمثِّلينَ بالّذينَ بالإيمانِ والأناةِ يَرِثُونَ الـمَواعيدَ". إنّ المؤمِن يعيش صراعًا دائمًا ما بين تحقيق رغباته الدّنيوية، وما بين سعيِه لإرضاء الله، وهذا ما قد يُشعِره بالإحباط واليأس. على الإنسان أن يكون حكيمًا فيتمكّن من إعطاء كلّ أمرٍ قيمته الحقيقيّة، فلا يجعل الأمور الدّنيويّة في نظره تفوق عطايا الله قيمةً. إنّ الإنسان لا يذكر من أعمال الآخرين تجاهه إلّا سيئاتها حتّى وإن كانت أعمالهم في غالبيّتها صالحة تجاهه، أمّا الله فإنّه لا يتذكّر من أعمال النّاس إلّا الصالحة منها.

إنّ الله قد أقسم بنفسه لإبراهيم، إذ لم يجد شيئًا أعظم مِن نفسِه يُقسِم به. إنّ الإنسان يبقى مُشكِّكًا في كلام أخيه الإنسان وغير مصدِّقٍ له إلى أن يُقسِم هذا الأخير بأغلى ما عنده. استخدم الله لغة البشر، فأقسَم بذاته – مع أنّ القَسم لا يجوز حسب وصايا الله-عسى الإنسان يُصدِّق كلام الله، لكنّ محاولات الله هذه لإقناع البشر باءت بالفشل، إذ بَقِيَ الإنسان غير مُصدِّقٍ لوعود الله. إنّ الله حلف بنفسه لإبراهيم، قائلاً: "إنّي لأُبارِكَنَّكَ بَرَكَةً وأُكَثِّرَنَّكَ تكثيرًا"، ولكن كاتب الرسالة يُضيف أنّ ابراهيم قد نال الموعد لأنّه تأنّى وصبَرَ. إنّ الله قد وعد إبراهيم بالكلام، ولكنّ ابراهيم صدَّق كلام الله، وفي هذا تكمن ميزة ابراهيم: ففي الطبيعة البشريّة، لا يُصدِّق الإنسان وعود أخيه الإنسان إلّا عندما يُحقق هذا الأخير ما وعد به، فيُقال فيه إنّه صادقٌ في مواعيده. إذًا بحسب حكمة البشر، الإيمان يأتي بعد تحقيق الوعود، أمّا ابراهيم، فقد آمن بالله مستندًا إلى كلامه فقط، أي قَبلَ أن يُحقّق الله وعوده. وفي هذا يكمن برّ ابراهيم، إذ عاش حياته واثقًا أنّ الله سيُحقّق ما وعده به، حتّى قَبلَ أن يتحقّق. إنّ ابراهيم قد جعل كلام الله مساويًا لعمله. عندما يثق الإنسان بمواعيد الله، ويعيش على أساس أنّها تحقّقت، فإنّ كلّ شدّة قد يعاني منها الإنسان فيما بعد لن تتمكّن مِن فَصلِه عن محبّة الله.

إنّ مشكلة الإنسان تكمن في عدم قدرته على الصبر طويلاً والانتظار كي تتحقّق مواعيد الله له. إذًا، المشكلة تكمن في طُولِ الزمن ما بين وعد الله للإنسان بالكلام، وبين تَحقُّق هذا الوعد. إنّ القدِّيسين قد انتظروا برجاءٍ كبير أن تتحقّق مواعيد الله لهم في هذا الزمن، وعلى المؤمِن الاقتداء بهم، فلا يكون انتظاره مضيعةً للوقت، إنّما يكون انتظارًا يملؤه الرّجاء بأنّ الله سيُحقّق ما وعد البشر به، مهما طال الانتظار. إنّ الإيمان هو انتظار المؤمِن لمواعيد الله، انتظارًا مقرونًا بالصبر والرّجاء، قادرًا على زرع الفرح والقوّة في قلب المؤمِن فيستمرّ في الانتظار دون ملل. في حياته الرهبانيّة، لم يكن مار انطونيوس الكبير في غاية السّعادة، فهو قد عانى مِن تجارب الشيطان له في جسده، فهو كان يشعر بوجع الانتظار وبضرورة الصبر على الشِّدة إلى أن تتحقّق مواعيد الله. إنّ القدِّيس أنطونيوس قد آمن بأنّ كلمة الله هي فاعلة على الرغم من عدم تحقّقها بعد، وعاش كما ابراهيم، مرتكزًا على كلمة الله وكأنّها قد تحقّقت فعلاً. إنّ مار انطونيوس، قد تَرَكَ هذا العالم، وتَبِعَ المسيح: إنّ التخلّي عن هذا العالم، واتّباع المسيح هما أمران متلازمان أي أنّ الإنسان لا يترك كلّ شيء في هذا العالم، إنْ لم يجد في الله كلّ شيء، فالترك لا يكون من دون سبب. إنّ الفلسفة الماديّة تقوم على أن يترك الإنسان هذا العالم كراهيّةً بالمادة، غير أنّ المؤمن الحقيقيّ لا يترك هذا العالم لأنّ الأمور الدنيويّة لا صلاح فيها، بل يتركها لأنّه أحبّ المسيح أكثر منها.
ليس على الإنسان أن يترك شيئًا عن كراهيّة فيه، فالكراهيّة تؤذي صاحبها. لذا، على الإنسان ألّا يسمح للكراهيّة بأن تتسلّل إلى أعماقه تحت أيّة حجةٍ كانت. كما على الإنسان ألّا يترك الخطيئة كراهيّةً بها، بل حبًّا بالمسيح، وبالصلاح. إنّ الإنسان يترك الخطيئة لأنّ ارتكابه لها يؤدي إلى خلق هوّة بين المؤمن والله. إنّ الخطيئة تنبع من رغبة صالحة عند الإنسان ولكنّها تتحوّل إلى خطيئة عندما يقوم بها الإنسان بطريقة لا يرضى الله عنها. إنّ كلّ شيءٍ هو صالح، غير أنّ نظرة الإنسان الخاطئة له وتفكيره فيه، هو ما يجعله يتحوّل إلى أمر غير صالح بِنَظرِه، وهذه النظرة السلبيّة إلى الأشياء تُعبِّر عن وجود تَشوُّهٍ في علاقة الإنسان بالله. إنّ عمل السرّقة هو خطيئة بكلّ تأكيد على الرّغم من أنّ الإنسان لا يسرق شيئًا غير صالح، بل يسرق أمورًا صالحة، فالمال هو أمرٌ صالحٌ بحدّ ذاته، لكنّه يتحوّل إلى خطيئة انطلاقًا من نظرة الإنسان له ومِن تفكيره فيه. كذلك الجسد، فهو أمرٌ صالحٌ غير أنّ نظرة الإنسان إليه هي مَن تجعله موضوع زنى. إذًا، إنّ نظرة الإنسان وتفكيره في الأمور يحوّلان تلك الأشياء إلى خطيئة، وبالتّالي على الإنسان أن يُصحِّح نظرته إلى الأمور انطلاقًا من علاقته بالله. إنّ الإنسان الّذي ترك خطيئة الزنى عن كراهيّةٍ بها، لا عن حبٍّ بالمسيح، فإنّه بهذا الفعل يحوِّل كراهيّته لا إلى الخطيئة بحدّ ذاتها إنّما إلى الآخر، شريكه في هذه الخطيئة. إذًا، على الإنسان أن يتخلّى عن الأمور الدنيويّة حبًّا بما هو أسمى وأفضل أي بالله، لا عن كراهيّة للأمور بحدّ ذاتها. إنّ الإنسان الّذي يترك الخطيئة نتيجة كراهيّته بها، يضع نفسه في خطر كبير إذ عليه التنبّه من عدم عودته إلى الخطيئة نفسها عند زوال كراهيّته لها. إنّ مَن يترك الخطيئة نتيجة حبّه لله وعشقه له، لن يعود إلى الخطيئة نفسها مهما اشتّدت الـمِحَن عليه، لأنّ مَن يحبّ، لا يعود يهتمّ إلاّ بإرضاء المحبوب، ولا تعود للأمور الأخرى أيّة أهميّة، فلا تعود تَلفِتُ انتباهه.
في الحياة المسيحيّة، لا يمتنع المؤمِن عن أمور صالحة كراهيّةً بها بل حبًّا بالمسيح. ففي الصوّم مثلا، لا يمتنع المؤمِن عن الطعام نتيجة كراهيّته لبعض أصنافه، أو لأنّ الطعام هو غير صالح بحدّ ذاته، بل على العكس مِن ذلك، فالطعام على أنواعه مفيد للإنسان. إنّ فَكّ الإنسان في الطبيعة، مُعدّ لتناول اللّحوم والأعشاب، وبالتّالي فإنّ اللّحوم الّتـي يمتنع عنها الإنسان في فترة الصوم هي أطعمة مسموحة طبيعيًّا للإنسان. إنّ الإنسان يترك الطعام في النصف الأوّل من نهاره في فترة الصوم، حبًّا بالله وبالفقير المحتاج. إنّ حبّ الإنسان للفقير يدفعه إلى عيش الصوم بكلِّ فرحٍ وقناعةٍ تامّة، لا عن إحساسه بأنّ الصّوم فريضة يجب الالتزام بها. إنّ الإنسان الّذي يترك الطّعام نتيجة كراهيّته له، أو لأنّه يرى الطعام أمرًا سيّئًا، فإنّ الصّوم بالنسبة لهذا الإنسان، هو همٌّ وفريضة إجباريّة يجب القيام بها. إنّ الصّوم ينبع من رغبة صالحة عند الإنسان، ولا يجب أن تتحوّل إلى مصدر لخصومة البعض مع الطّعام. إنّ أساس الصوّم هو الفرح، ولا يجب أن يتحوّل سببًا للكآبة. فكما هي حال الصّوم، كذلك هي حالة الصّلاة، إذ لا يجوز للمؤمِن أن يعيشها على أنّها فرضٌ واجبٌ عليه يجب القيام به، لأنّه حينها يحوّل صلاته إلى مصدر للضجر والتشتّت، لا إلى وقت مميّز يقضيه الإنسان مع المحبوب، أي الله. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أعمال الرّحمة، إذ إنّها ليست أعمالًا مفروضةً على المؤمن، بل يجب أن تكون صادرة عن محبّة الإنسان لله.
إنّ المسيح، حين تجسَّدَ على أرضنا، أراد أن يُلغي مفهوم الإنسان للشريعة، فالوصايا ليست لائحة بالمسموح والممنوع. إنّ مِثلَ تلك اللائحة تُدخِل الإنسان في حالةٍ من الكراهيّة والعداوة مع الأمور الممنوعة، إذ إنّ كلّ أمرٍ ممنوع بالنسبة للإنسان، هو أمرٌ سيّئ بحدّ ذاته، ويحمل في طيّاته سلبيّة معيّنة. إنّ كلّ سلبيّة تحوي في طيّاتها نوعًا من الخصومة الداخليّة والروحيّة عند الإنسان، فَمَثلاً إن عاش الإنسان حالة من الخصومة مع الطعام في فترة الصّوم، فإنّ هذا سينعكس عند المؤمن، خصومة مع الله، مع ذاته، وكذلك مع الآخرين. إذًا، بتجسُّده، استبدل المسيح فكر الشريعة الّذي كان سائدًا في ذلك الحين، بشريعة الحبّ. إنّ شريعة الحبّ، تقوم على تخلّي الإنسان عن بعض الأمور، لأنّه يحبّ المسيح، لا لأنّه لا يحبّ الأمور الّتي يتخلّى عنها. إنّ الراهب يختار الحياة الرهبانيّة لا كراهيّةً بالعالم، إنّما حبًّا بالمسيح. إنَّ مَن يترك الحياة الرهبانيّة لا يتركها تعبيرًا عن كراهيّته للإخوة، بل يترك تلك الحياة لأنّه يحبّ أمرًا آخر. إنّ المؤمِن يصِل إلى إتِّزانِه الروحيّ عندما يبحث عن الحبّ في كلّ أمرٍ يقوم به. إنّ المؤمِن يُفتِّش عن الحبّ تعبيرًا عن طول أناته في انتظاره كي يحقّق الربّ ما وعد به البشر، فالبحث عن الحبّ يرتكز على رجاء الإنسان بالله وإيمانه به. على المؤمن أن يتمتّع برجاء كبير أنّ الله سيحقّق وعده، على الرغم من البراهين الملموسة الّتي قد نجدها في الحياة، وقد تدفعنا إلى الاعتقاد أنّ الله هو خيال وَوَهمٌ، لذا لا داعي للانتظار. إنّ الله، بالنسبة للمؤمِن، هو حقيقة لا يمكن نكران وجودها مهما حاول العالم إقناعه بالعكس، تماماً كما كانت حالة العلماء "نيوتن" و"غاليليه" على سبيل المثال، إذ لم يتمكّن أحد من اقناعهما بعدم صّحة ما توصلا إليه من نظريّات حول كرويّة الأرض وجاذبيّتها، فالإيمان بقضيّة معيّنة لا يرتكز على البراهين العلميّة إنّما على حبّ الإنسان لها. إنّ الله لم يطلب من ابراهيم الإيمان بالله في فكره فقط، إنّما طلب منه التخلّي عن كلّ ما قد يؤمِّن له وجوده، إذ طلب منه أن يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، وأن يتبع كلمة الله الموعودة.كان يستطيع يسوع أن ينزِل عن الصّليب، ويتحوّل إلى زعيم يهوديّ، غير أنّه رفض ذلك لأنّ رجاءه بأبيه لا حدّ له، فهو على ثقةٍ بأنّ الله سيحقّق ما وعده به، وإن لم يتحقّق ذلك قبل موته على الصّليب. إنّ يسوع لم يقبل بالموت، لأنّه لا يحبّ الحياة، بل قَبِلَ به حبًّا بالله أبيه، والدليل على أنّه يحبّ الحياة، هو إظهاره لعظمة حبّه للبشر، إذ غفر لصالبيه. إنّ المنطق البشريّ يقضي بأن يكره الإنسان مَن سعى إلى أذيّته، أمّا منطق يسوع، فهو منطق الله، إذ لم يكره مَن قام بأذيّته بل على العكس مِن ذلك، فهو قد غفر لهم لأنّه يحبّهم. على المؤمِن أن يسلك بحسب ناموس المسيح، ناموس الحبّ، أي ناموس الصّليب، فـ"كلمة الصّليب عند الهالكين حماقة، أمّا عند المخلَّصين فهي قوّة الله"، بحسب قول بولس الرّسول. على المؤمِن أن يترك أمور هذه الدّنيا ليتعلّق بربّ الآخرة، أي الله. إنّ كاتب الرسالة يدعو سامعيه إلى عدم التّلهي بخطاياهم لأنّهم حصلوا على كلّ شيء، حين نالوا العماد. على المؤمِن أن يكرِّس الوقت الـمُعطى له في هذه الحياة للبشارة بالمسيح والتعبير عن حبّه له من خلال خدمته للآخرين، لا أن يقضيه في التحسُّر على خطاياه، لأنّه يستطيع أن يتوب عن خطاياه وأن يُعوِّض عنها. على المؤمِن ألّا يكره نفسه، بسبب الخطايا الّـتي ارتكبها، لأنّه بهذا الفعل، يكون قد قتل نفسه، وقتل الآخرين، إذ لم ينقل إليهم البشارة. إنّ مَن يُحِبّ نفسه، يمنح نفسه فرصةً للخلاص، وعندها سيترك خطاياه.

إنّ الإنجيل لم يتكلّم عن الكراهيّة بل عن الحبّ، ودعا كلّ المؤمنين بالمسيح إلى أن يحبّوا أعداءهم. إنّ اليهود لم يقبلوا بكلام المسيح هذا، لذا حاولوا تشويه صورة العدّو كي يتمكّنوا مِن إيجاد عذرٍ لكراهيّتهم. لم تكن نيّة المسيح، دفع المؤمنين إلى الشعور باليأس والإحباط حين طلب منهم أن يمشوا مِيلَيْن مَع مَن يسخِّرهم للمشي، وأن يُعطوا رداءهم لمن يطلب منهم ثوبًا، وأن يُديروا خدودهم اليُسرى لمن يضربهم. إنّ المسيحيّ الحقيقيّ هو ذاك الّذي يرفض عيش اليأس والإحباط. إنّ المسيح لم يكره الفقر، لكنّه أحبّ الفقراء وسعى إلى إبعاد الفقر عنهم. إنّ الله لا يرغب في أن يطلب الإنسان الألم، فالألم ليس وسيلة للقداسة، إذ على الإنسان أن يحافظ على صحتّه، وأن يقبل بالألم، حين يتعرّض له بكلّ فرح. فالقدِّيسون لم يطلبوا الألم كوسيلة للقداسة، بل طلبوا الألم، حبًّا بالمسيح وقد أرادوا التعبير عن حبّهم هذا عبر طلبهم من الله أن يشاركوا المسيح في آلامه. إذًا، القداسة تكمن في كيفيّة مواجهة المؤمِن الألم بفرح، إذ على المؤمِن أن يواجه مرضه لا كراهيّةً بالمرض والألم، إنّما حبًّا بالمسيح. ومن هنا، أودّ الإشارة إلى رفضنا لمفهوم إماتة الجسد والنّفس، إذ إنّ تعذيب الجسد، الّذي هو نعمةٌ من الله، لن يساعد المؤمِن للانضباط في حياته الروحيّة. فعلى المؤمنين استبدال مفهوم إماتة الجسد وتعذيبه، بمفهوم إماتة الأهواء والخطايا، لأنّ في ذلك منفعةٌ روحيّةٌ وتقدُّمًا صوب القداسة. على المؤمِن إذًا، أن يعمل على ترتيب طريقة تفكيره، ليتمكّن من ضبط جسده وأهوائه. إنّ الصوم لا يهدف إلى تجويع الجسد، بهدف تعذيب الجسد، إنمّا يهدف إلى دفع الإنسان من خلال الامتناع عن الطعام إلى ترويض جسده وأهوائه، حتّى يصل إلى القداسة، فيحصل على الخلاص. إنّ الصوم يشكِّل فرصةً للمؤمِن كي يفهم معنى الصوم الحقيقيّ، فمتى تَوَصَّل إلى إدراك معناه يستطيع عندئذٍ أن يتناول الطعام، إذ إنّ هدف الصوم هو ترويض النّفس لا الامتناع عن الطعام لقهر الجسد.

إنّ الصوم والصلاة، قد تحوّلا عند بعض المسيحيّين إلى أصنامٍ، إذ يُقدِمون على الصوم والصلاة كأنّهما فريضتان يجب تقديمهما لإرضاء الإله. على المؤمِن أن يفهم المعنى الحقيقيّ للصّلاة والصّوم، وأن يعيش الهدف المرجوّ منهما، وإلّا فلا فائدة منهما. إنّ هدف تلاوة المسبحة، عند المسيحيّين الأقدمين، كان تمرين الإنسان على أن يجعل مِن نَفَسِه مرتبطًا بالله، وقد كانت المسبحة إحدى الوسائل المستخدمة لمحاربة التشتت أثناء الصّلاة، ولإبعاد الأفكار الشريرة عن عقل الإنسان. إنَّ تَحَوُّل الصلاة إلى قانونٍ إجباريّ على المؤمِن، يدفعه إلى النفور من الصّلاة، وبالتّالي إلى الابتعاد عن الله، واللّجوء إلى البِدَع الّتي مِن شأنها زرع الكراهيّة في النّفوس. إنّ الكنيسة البروتستانتينيّة نشأت نتيجة نفور بعض المؤمنين من رتابة الصلاة وتَحَوِّلها إلى أصنام، إضافة إلى النفور مِن سُلطَة رجال الدّين الّذين حوَّلوا الإيمان إلى لائحة من الأمور الممنوعة، والأمور المسموح بها. إنّ الكنيسة قد انشقت إلى قسمين: كنيسة كاثوليكيّة وأخرى أرثوذكسيّة، نتيجة اعتبار الواحدة أنّها تملك حقيقة الله، وأنّ الأخرى على خطأ، وكانت الواحدة تتذرّع بحجة الدفاع عن الله، فترفض إيمان الأخرى، فكانت النتيجة ابتعاد الاثنتين عن حبّهما للمسيح، أي عن الإيمان الصحيح. إنّ المسيح لم يكن بحاجة إلى أحد كي يدافع عنه، فهو يستطيع الدفاع عن ذاته. إن الانشقاق بين الكنيستيْن، أدّى إلى خلق كراهيّة وعدائية في نفوس المؤمنين المنتمين إلى هاتين الكنيستين، ولذا أصبحت الوحدة فيما بينهما صعبة المنال مِن دون تدّخل إلهيّ، لأنّ الكراهيّة ترسّخت في نفوس المؤمنين، وهي الآن تسربّت إلى نواحي متعدّدة في حياتهم الإيمانيّة. إنّ كراهيّة الإنسان لأمر معيّن، تُشير إلى امتلاكه طاقة كبيرة كي يكره العالم كلّه، لأنّ كراهيّته لأمرٍ معيّن ستتسرّب مع الوقت إلى كافة نواحي حياته، وبالتالي فلن يتمكّن المؤمِن من أن يعيش الفرح الحقيقيّ لإيمانه بالله، ولن يستطيع أن يتوب توبةً حقيقيّة إن بَقِيَ مُحتفظًا بكراهيّته لبعض الأمور، فالتوبة تقتضي نزع الكراهيّة من النفوس، لأنّ الكراهيّة تتنافى مع ناموس المسيح، ناموس الحبّ. إنّ كلّ عملٍ صالح، مهما كان صغيرًا، هو تعبير حبٍّ لله، مِن قِبَل المؤمِن. على المؤمِن الافتخار بحبّه للمسيح، الّذي منحه النّعمة كي يقوم بهذه الأعمال الصالحة تعبيرًا عن حبّه له. على المؤمِن ألّا يسعى إلى الأعمال الصالحة الكبيرة فَحَسب، بل عليه أيضًا أن يشعر بالفرح والتعزيّة الإلهيّة في كلّ عملٍ صالحٍ يقوم به.

علينا دائمًا أن نتذكّر الآية القائلة:"إلى مَن نذهب يا ربّ وكلام الحياة الأبديّة عندك؟"، فلا نهدر الوقت الـمُعطى لنا بالتّلهي بخطايانا والتحسّر عليها، بل ننكبّ على إعلان البشارة. إنّ الله لن يستعمل القوّة لإبقائك معه، ولا نستطيع استمالة الله للتصرّف بحسب أهوائنا البشريّة، بل على المؤمِن أن يسعى كي يكتشف تعزيات الله له في حياته، فيتمكّن المؤمن الّذي كان قد استنار بكلمة الله ونال المعموديّة مِن أن يكون شريكًا للرّوح القدس، لأنّه ذاق المواهب السماويّة، وكلمة الله، وقوّات الدّهر الآتي، على حسب الآية الواردة في هذا الإصحاح من الرسالة إلى العبرانيين. إنّ المؤمِن ينسى كلّ ما اختبره مع الله، حين يتعرّض للأذيّة أو حين يقع في الخطيئة، وهذا ما على المؤمِن أن يعمل على تصحيحه، لأنّ الدّنيا لا تنتهي ولا تتوّقف عند ارتكابه للخطايا لذا عليه أن يتخطّاها، فيسعى من جديد ليكون من أبناء الملكوت، كما كان حين تعمّد ويسعى إلى نشره على هذه الأرض، وفي نفوس المؤمنين. على المؤمِن أن يتخطّى كلّ خصومة مع الآخر، فلا يدعها تستمرّ لفترة طويلة من الزمن، وعليه التشبّه بالمسيح الّذي لم يُخاصم أحدًا على الرّغم من الإساءات الّتي تعرّض لها، وأنّه لو تَوَقَّف المسيح عند كلّ إساءة لما تمكّن مِن منح المؤمنين الخلاص، ولكانت تحوّلت حياته إلى حياة يَعُمُّها اليأس والإحباط والكآبة.
إذًا، على المؤمِن أن يكتشف تعزيات الله له، وأن يتذكّر دائمًا أنّ الله لن ينسى أعماله الصالحة على الرّغم من خطاياه الكثيرة، لأنّ الله ليس بظالم كما يقول لنا كاتب هذه الرسالة، وبالتّالي على المؤمِن عدم التلّهي بخطاياه والتحسّر عليها، إنّما عليه أن يسعى باستمرار للتعبير عن حبّه لله من خلال إعلانه للبشارة.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
6/12/2016 تأمل في معاني ميلاد الربّ يسوع على المؤمن أن يبحث عن التغيير الّذي تُحدِثُه ولادة المسيح يسوع في حياته
https://youtu.be/9BnCYPaz6u8

تأمل في معاني ميلاد الربّ يسوع
للأب ابراهيم سعد

6/12/2016

في لقائنا التحضيريّ لعيد الميلاد، اليوم، سنقوم بقراءةٍ لحدث الميلاد، تُساعدنا على القيام بإعادة قراءة لطريقة عيشنا له فَنُحَسِّن فيها، ونعيش العيد هذه السَّنة بطريقة أفضل تجعلنا نشعر بمعناه الحقيقيّ.

إنّ مشكلة النّاس في هذا العيد هي في تركيزهم على فكرة عيد الميلاد، أكثر من تركيزهم على الشخص المولود الّذي نحتفل بميلاده، وهذا ما يدفع الإنسان إلى عيش صراعٍ داخليٍّ بين ما هو للعالم، وما هو لله، أي بين ضجيج هذا العالم وهدوء المولود. وللأسف، إنّ غالبيّة أولادنا اليوم، يعتقدون بأنّ "بابا نويل" هو أساس العيد، وَهُم ينتظرونه بشوقٍ. وعلى الرّغم من إضافة الطابع الروحيّ على هذه الشخصيّة،كونها ترمز إلى القدِّيس نيقولاوس بالنسبة للكثيرين، إلّا أنّ وجود هذه الشخصيّة في العيد لا يؤدي إلى البُنيان الروحيّ.
على المؤمن أن يُدرِك ويُميِّز في هذا العيد، إنْ كان يعيش حقًّا عيد الميلاد، أم أنّه يحتفل بمناسبة أخرى في هذا العيد. إنّ الكلام عن الزواج يُشير إلى وجود شخصين مُتزوِّجَين، والكلام عن الموت يتطلّب بالضرورة وجود مَيِّت، والكلام عن الصَّلب يُشير إلى وجود مصلوب، والكلام عن الصَلاح يُشير إلى وجود صالحين، والكلام عن الفساد يتطلّب وجود فاسدين، والتكلّم عن الميلاد ينبغي بالضرورة وجود مولود. وبالتّالي، فإنّ وجود الشخص هو الّذي يدفعنا للتكلّم عن الحدث. إذًا، في هذا العيد، علينا أن نتخلّى عن فكرة عيد الميلاد، ونعتمد الفكرة القائلة إنّ هذا العيد، هو عيد ميلاد الشخص المولود أي الربّ يسوع المسيح.

إنّ كثيرين من بينكم، قد اختبروا ولا شكّ، ولادة طفلٍ في العائلة، أكان ابنًا أم أخًا أم أختًا. ولا شكّ أيضًا، أنّ مجيء مولود جديد إلى العائلة، يُحدث تغييرًا في حياة الأهل بشكلٍ أساسيّ، إذ يصبحون غير قادرين على تجاهل وجوده على الرّغم من عدم قدرته على الكلام أو المشي. إنّ حياة الأهل تُصبِح مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذا المولود الجديد، فهو يقتحم زمان، ويوميّات، وهموم العائلة، واهتمامتها، ويفرض وجوده فيها. لذا نجد أنَّ الأهل قد يرفضون الاشتراك في مناسبات عديدة، بحجّة المولود. إنّ المولود الجديد يُدخِل حياةً جديدة إلى حياة الأهل، إذ يتمّ مناداة الأهل بألقابٍ تحمل أسماء أبنائهم، لا بأسمائهم المتعارف عليها. إنّ ولادة طفلٍ قادرةٌ أن تُحدِث تغييرًا في عائلة المولود، وتربط الأهل ارتباطًا وثيقًا به، وتجعل منه محور كلّ أحاديثهم. هذا، على المستوى البشريّ، فما القَول عن ولادة الإله في مذود؟ إنّ السؤال الّذي يُطرح هو كيفية مواجهة الإنسان لهذا المولود الجديد في عيد ميلاده. إنْ سمح الإنسان ليسوع المولود في مذود أن يَدخُل إلى حياته، فهذا يعني أنّ يسوع قد اقتحم كلّ زمان المؤمن ويوميّاته، وبالتّالي أصبح من الصعب جدًّا عليه العيش بمعزلٍ عنه، فهو قد أصبح مِن صُلب حياته اليوميّة. وإنْ قرّر الإنسان أن يتجاهل المولود لبعض الوقت، فإنّه يتحوّل في نظرته إلى ذاته، إلى خاطئ، وهذا بالضبط المفهوم الحقيقيّ للخطيئة، إذ تجعل الإنسان ينسى أو يتناسى يسوع، جاعلةً من المسيح على هامش حياة الإنسان. إنّ الإنسان يَتمَتَّع بنوعٍ من "الاحتيال الذّكي" بتشريع الخطيئة لبعض الوقت ريثما يرتكبها، ثمّ يعود إلى الله ذارفًا الدّموع، عَلَّ الله يقتنع بتوبته فيُسامحه. إنّ مِثْلَ هذا الإنسان يقوم باستغلال محبّة الله وحنانه. إنّ دخول المولود إلى حياة المؤمن، يَضَعُه أمام مواجهة حقيقيّة معه، وبالتّالي فهو يسمح للمولود بإحداث تغييرٍ في حياته.

في مسيرتنا صوب العيد، يجب أن نطرح على ذواتنا هذا السؤال: ما هو التغيير الّذي يمكن أن يحصل في حياتنا إنْ سمحنا للمولود بالدّخول إليها؟ أَسَيَطال التغيير نمط حياتنا وسلوكنا وكلامنا، ونظرتنا إلى الأمور؟ إنْ دَخَلَ المولود الإلهيّ إلى حياة المؤمن من دون إحداثِ تغييرٍ في حياته، فهذا يدّل على أنّ هذا المولود قد تحوّل، بالنسبة إلى المؤمن، إلى إله مكان، وهذا يشكّل مشكلة تحتاج إلى إيجاد حلِّ لها. إنّ المولود الإلهيّ هذا، يستحيل على الإنسان رؤيته في مغارة بيت لحم اليوم، أو في أيّ مكانٍ آخر، لأنّ هذا المولود الإلهيّ ليس إله مكان بل إله حَدَثْ. إنّ المؤمن يعيش نتائج تلك الولادة ومفاعيلها، إذ لا يمكن أن تبقى حياته بعد ولادة المسيح كما كانت قَبْلَها. والسؤال الّذي على المؤمن أن يطرحه على ذاته هو: ما هي التغييرات الّتي أحدثتها هذه الولادة في حياته؟ في العهد القديم، سأل موسى الربّ عن اسمه ليُخبِر به الشعب، فأعطاه الله هذا الاسم:"أهْيِه أَشِر أَهْيِه"، ومعناه في اللّغة العربيّة،"أكون الّذي أكون"، أي من خلال هذا الاسم، أراد الله أن يؤكِّد للشعب أنّه إله حَدَثْ إذ إنّه سيُعرِّفهم إلى ذاته من خلال أفعاله في حياتهم اليوميّة. إنّ اللّيتورجيا كالقدّاس مثلاً، تَهدفُ إلى إدخال المؤمن في الحدث، وعيشه له في العمق. إنّ الخطورة في تحويل الله إلى إله مكان، تكمن في إدخال الله في حالة من الصنميّة، وبالتّالي حَصرِه في مكان واحدٍ معيّن دون باقي الأماكن، فيصبح الله عندها "إله مدينة بيت لحم". هناك اعتقادٌ سائد بأنّ الأماكن المقدّسة هي فقط تلك الأماكن الّتي زارها يسوع، غير أنّ هذا الاعتقاد خاطئ. إنّ الله قَدَّسَ الإنسان، وبالتّالي حيث يتواجد الإنسان يصبح المكان مقدَّسًا، فالكنيسة تصبح مقدّسة عندما يجتمع فيها المؤمنون للصّلاة والاحتفال بالافخارستيّا، وبالتّالي فإنّ الكنيسة الّتي لا يرتادها أحد ليست مقدّسة. إنّ الإنسان هو من يُقدِّس المكان، وليس العكس أبدًا، ولذا نرى أنّه عند بناء الكنائس يتمّ وَضْعَ ذخائر للقدِّيسين تحت المذبح، وبهذا الفعل تصبح الكنيسة مقدّسة. إنّ القدِّيس هو مَن سمح لله بدخول حياته وتغييرها، لأنّه قد قَبِل الدخول في حدث المسيح الخلاصيّ. إذًا، في "عيد الميلاد"، على المؤمن أن يسمح للمولود بدخول حياته، فيَقبَل مواجهة المولود والتحديّات الّتي يضَعُها أمامه والتغييرات الّتي ستَطرأ على حياته بفِعل دخول هذا الإله الحدث. تتمة...
29/11/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح الخامس عطيّة الخلاص المجانيّة
https://youtu.be/H-ECBpCJV8I

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الخامس

الأب ابراهيم سعد

29/11/2016

"لأنَّ كلَّ رئيسِ كهنةٍ مأخوذٍ مِنَ النَّاسِ يُقامُ لأجلِ النَّاسِ في ما لله، لكي يُقَدِّمَ قرابينَ وذبائحَ عن الخطايا، قادرًا أنْ يَتَرَفَّقَ بالجُهَّالِ والضَّالينَ، إذ هُوَ أيضًا مُحاطٌ بالضَّعفِ. ولِـهذا الضَّعفِ يَلتزِمُ أنّه
كما يُقدِّمُ عن الخطايا لأجلِ الشَّعب هكذا أيضًا لأجلِ نفسِه. ولا يأخُذُ أحدٌ هذه الوظيفةَ بنَفسِه، بلِ المدعوُّ مِن الله، كما هارونُ أيضًا. كذلك الـمَسيحُ أيضًا لَـم يَـمَجِّدْ نفسَه ليصيرَ رئيسَ كهنةٍ، بَل الّذي قال له: "أنت ابني أَنا اليومَ وَلَدْتُكَ". كما يقولُ أيضًا في مَوضِعٍ آخر: "أنتَ كاهِنٌ إلى الأبد على رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَق". الّذي، في أيّامِ جَسَدِهِ، إذ قدَّمَ بِصُراخٍ شديدٍ وَدُموعٍ طَلَباتٍ وَتَضرُّعاتٍ للقادر أَنْ يُخلِّصه مِنَ الموتِ، وَسُمِعَ له مِنْ أجلِ تقواهُ، مَعْ كونِه ابنًا تعلَّمَ الطَّاعةَ مِـمَّا تأَلَّـمَ به. وَإذْ كُمِّلَ صارَ لِجَميعِ الّذينَ يُطِيعونَهُ، سببَ خلاصٍ أبديٍّ، مَدْعُوًّا مِنَ الله رئِيسَ كهَنةٍ على رُتبَةِ مَلْكِي صَادَق. الّذي مِنْ جِهَتِه الكلامُ كثيرٌ عِندَنا، وَعَسِرُ التَّفسيرِ لِنَنْطُقَ به، إذْ قَدْ صِرتُم مُتَباطِئي الـمَسامِع. لأنَّكم إذْ كانَ يَنبَغي أَنْ تَكُونوا مُعلِّمينَ لِسَببِ طولِ الزَّمانِ تَحْتاجُونَ أَنْ يُعلِّمُكم أحدٌ ما هيَ أَركانُ بَداءَةِ أقوالِ الله، وصِرتُم مُحتاجينَ إلى اللَّبَنِ، لا إلى طَعامٍ قَويٍّ. لأنَّ كُلَّ مَنْ يَتَناوَلُ اللَّبَنَ هُوَ عَديمُ الـخِبرَةِ في كلامِ البِّرِ لأنّه طِفلٌ، وأمّا الطَّعامُ القويُّ فَلِلْبالِغِينَ، الّذينَ بِسَببِ التَّمَرُّنِ قَدْ صارَتْ لَهُمُ الحواسُ مُدَربَّةً على التمييزِ بينَ الخيْرِ والشَّرِ."

إنّ بولس وجّه كلامه هذا، إلى أشخاصٍ بالغين في العُمر، لكنّ تصرّفاتهم تدّل على أنّهم ما زالوا أطفالاً في الإيمان. إنّ الشخص البالغ يتميّز عن الطفل بالخبرة والفهم والعِلِم والمقدرة على التمييز بين الخير والشّر. إنّ ذكاء الإنسان ملوَّثٌ بحبائل الشّرير إذ يتصرّف كأنّه جاهلٌ للأمور، ليتمكّن من إلقاء مسؤوليّة فشله في قراراته على الآخرين. إنّ كلّ قرار يتّخذُهُ الإنسان يكون نابعًا إمّا من رغبته العميقة في إرضاء الله، وإمّا من رغبته في إرضاء أهوائه البشريّة. عندما يكتشف الإنسان أنّه أخطأ في القرار الّذي اتّخذه، يبحث عن شخصٍ يلقي عليه مسؤوليّة فشَلِه، ويكون هذا الشخص في أغلب الأحيان إمّا الله وإمّا الشيطان. إنّ الإنسان يرمي المسؤوليّة على الله عندما لا يستطيع إيجاد تفسير لِما يحصل معه، أو عندما يرفض مواجهة تحدّيات هذا العالم؛ ويلقي المسؤوليّة على الشيطان ليبرِّر أخطاءه الناتجة عن انجراره وراء أهواء هذا العالم. إذًا في الحالتين، يُلقي الإنسان اللّوم على غيره، غير أنَّ لا هذا ولا ذاك، مسؤولٌ عن الفشل، فالمسؤول الحقيقيّ عن الفشل هو الإنسان نفسه. إنّ الإنسان الجاهل بحسب القدِّيس بولس، هو ذاك الّذي يتصرّف كالأطفال، وطعامه بالتّالي يجب أن يكون اللَّبن وهو طعام الأطفال، إذ لا يمكن للإنسان أن يعتبر نفسه راشدًا ويسمح لنفسه بارتكاب أخطاء الأطفال. إنّ بعض الأشخاص يتعاملون مع الله، ومع ذواتهم، ومع الآخرين بطريقة الأطفال على الرّغم من نضوجهم، ممّا دفع بكاتب الرّسالة إلى توجيه دعوة إلى كافّة المؤمنين بضرورة تدريب حوّاسهم كي تتمكّن من التمييز بين الخير والشَّر.

إنّ بولس الرّسول "كاتب الرسالة" لم يقل إنّ النّاس قد أصبحوا مُدَرَّبِين بسبب التمرّن على التمييز بين الخير والشّر، بل قال إنّ "الّذين بسبب التمّرن قد صارت لهم الحواس مدّربة على التّمييز بين الخير والشّر"، وبالتّالي فإنّ الحواس هي الّتي تصبح مدربّة بسبب التمرّن على التمييز بين الخير والشَّر. إنّ الإنسان يستطيع تدريب حاسّة السّمع عنده، عندما يختار ما يريد أن يسمعه وما لا يريد سماعه، فتصبح هذه الحاسّة قادرة على التمييز بين الخير والشَّر، ومتحرِّرة من ضَغطِ أهواء العالم. هناك اختبارات عدّة يمكن للإنسان اللّجوء إليها لمعرفة مدى قدرة حاسّته على التمييز بين الخير والشّر: أوّلاً من خلال ادراكه لردّة فعله لدى سماعه كلامًا بذيئًا، وثانيًا من خلال اختبار نفسه لمعرفة تفاعله مع أخبار خطايا الآخرين وضعفهم البشريّ. إنّ فَرَح الإنسان عند سماعه الكلام البذيء، واستسهاله لنقل أخبار ضُعف الآخرين إنّما يُشير إلى أنّ حاسّة السّمع عند هذا الإنسان ما زالت بحاجة إلى التدريب كي تتمكّن من التمييز بين الخير والشَّر. إنّ الطُبَّ يشير إلى أنّه حين يكون سَمَعُ الإنسان معطّلاً، فإنَّ لسانه بالضرورة سيكون أيضًا مُعطَّلاً، وهذا ما يبرِّر حالة الأشخاص الصُّم البُكم. وبالتّالي، فإنْ كان سَمَعُكَ غيرَ خاضِعٍ لأهواءِ الدّنيا، فلسانُكَ أيضًا لن يكون خاضعًا لها؛ أمّا عندما يكون سَمَعُكَ خاضعًا لأهواء الدّنيا، فإنَّ كلامَك لن يُعبِّر إلّا عنها. إنّ الثرثرة تُشَوِّه صيت الآخرين، وهي بمثابة عمليّة قتلٍ اجتماعيّة لهم: فالقتل الجسديّ ينتهي بَعد تسليم المقتول روحه، أمّا تشويه السُّمعة، فإنّه يقتل الإنسان في مجتمعه وهو ما زال حيًّا. إنَّ القتل هو عمل شخصيّ فرديّ، أمّا تشويه السُّمعة فهو عملٌ جماعيّ اجتماعيّ. إنّ البعض يستمتِع بنقل أخبار الآخرين السيئة، على الرّغم من معرفتهم بالأذى الّذي يُسبِّبونه للآخرين، فمَرَض الثرثرة يُصيب الكثيرين دون تمييز. إنّ الحواسَ الخمسَ أدواتٌ تساعد الإنسان على إقامةِ جسورٍ مع الآخرين: فالإنسان يتكلّم مع الآخر، ويسمعه ويَشُّمُه، ويَلمسُه، وينظر إليه، فكلُّ حواسِ الإنسان مرتبطةٌ بالآخر. إنّ العلماء، قديمًا، لم يُصنِّفوا القلب ضمن الحواس الخمسة، على الرّغم من أنّه مركز أحاسيس الإنسان وعواطفه، غير أنّ علماء الطبّ النفسيّ قد أضافوا إلى الحواس الخمسة حاسّةً جديدةً أُطلق عليها اسم الحاسّة السادسة. إنّ الحواس لا تكون خاضعة لأهواء الدّنيا، عندما تكون قادرة على التمييز بين الخير والشَّر، أي عندما تكون متحرّرة من ضَغطِ أهواء الدّنيا، وبالتّالي متحرّرة من كلّ ما مِن شأنه أن يبعث في نفس الإنسان القلق والاضطراب، نتيجة تناقل أخبار سيئات لآخرين. إنَّ سبب قلق الإنسان واضطرابه نتيجة انشغاله بأمور هذه الدّنيا وأهوائها، هو ضَغط إحساس الإنسان على حواسه. إنّ الإنسان لا يُمكِنُه أن يتحرّر من حواسه إنّما يُمكِنُه أنْ يتحرّر مِن ضغط إحساسه بحواسه، فمثلاً الإنسان المتكبِّر هو الإنسان الّذي يستسلم لضغط إحساسه بحواسه، فنراه يعطي أهميّة لِكلّ ما يسمعه وما يراه، إذ إنّه يسعى لمعرفة آراء الآخرين فيه، كما يسعى إلى تقسيم النّاس إلى خطأة وصالحين مستندًا على أرائه فيهم، أمّا الإنسان المتواضع فَهو الإنسان الّذي لا يهتّم لشؤون الآخرين الخاصّة ولأخطائهم، وهو بالتّالي قد تجرّد مِن ضَغطِ إحساسه بحواسه. إنّ تجرّد الإنسان عن ضَغط إحساسه بحواسه، يتمّ حين يسعى إلى عيش روحانيّة الإنجيل، أي عيش بساطة الإنجيل. إنّ الروحانيّة لا تعني أبدًا أن يكون الإنسان غير ماديّ، بل تعني أن يكون الإنسان خاضعًا لِرِضى الرّوح.
في العهد القديم، قام الله بتربية شعبه، من خلال المسيرة الّـتي قام بها معهم، أمّا مجيء المسيح، فكان من أجل حصول الشعب على الخلاص لا مِن أجلِ تربيتهم. وبالتّالي، فإنّ مسيرة الله مع شعبه في العهد القديم هي مسيرة تمهيديّة، تُمكِّن الشعب مِن نَيْلِ الخلاص الأبديّ الّذي مَنَحَهم إيّاه الله بيسوع المسيح، ابنه الوحيد. إنَّ أصَل الفعل "ربّى" في اللّغة العربيّة، هو "رَبّ"، وبالتّالي فإنّ مَن يُربِّيكَ هو الّذي يقودك إلى الربّ. أمّا في اللّغة اليونانيّة، فكلمة "ربّى" تعني pedagogos، وهي مؤلّفة مِن كلمتين هما: pedia وتعني وَلَدٌ، وكلمة gogos وتعني الّذي يقود، وبالتّالي فإنّ الّذي يُربّي هو الإنسان الّذي يقود الولد إلى بيت السيّد. ففي القديم، كان يُعيِّن الـمَلِكُ مُربّيًا لابنه، وقد يكون مِن العبيد، كي يهتمّ بشؤون هذا الولد القاصر، وإعادته إلى القصر إن أضاع طريق العودة إليه عند ذهابه في نُزهةٍ. وقد كانت مِن صلاحيّات هذا الشخص استعمال الحَزم مع ابن الملك حين يرفض الانصياع لأوامره، وذلك لِما فيه خير الصّغير. أمّا التربية في عصرنا اليوم، فَقَدْ فَقَدَتْ هذا الحزم المطلوب خوفًا من تَضَرُّر نَفسِيّات الأبناء. إنّ الله في العهد القديم، قاد شعبه في مسيرةٍ صوب الخلاص كما يقود المربّي الأطفالَ، غير أنّهم عاندوه، إلّا أنّه لم يستسلم لِعنادِهم هذا، فأرسَل إليهم الأنبياء، والخاتمة كانت مع إرساله يسوع المسيح، ابنه الوحيد إليهم، وذلك من أجل تحقيق هدفه وهو حصول الشعب على الخلاص الأبديّ. إنّ الشعب لم يكتفِ بمعاندة الله، بل رفض يسوع المسيح، هذه الوسيلة الخلاصيّة الأخيرة الّـتي أرسلها الله إليهم، فقتلوه ومات على الصليب مِن أجل خلاصِهم. إنّ كاتب الرسالة دعا المؤمنين بالمسيح إلى استذكار مسيرة الشعب القديم مع الله، ودَفَعِهم إلى تدريب حواسهم كي يتمكّنوا من التمييز ما بين الخير والشَّر.

كان شعب العهد القديم يختار رئيس كهنته بالقُرعَة، ليُقرِّب عنهم وعن نفسه الذبيحة لله، كما تقتضي الشريعة. إذًا، مفهوم الكهنوت مرتبطٌ بمفهوم تقديم الذبائح. إنّ مفهوم الذبيحة في العهد القديم، يقوم على تقديم الإنسان ذبيحةً لله، تعويضًا عن الخطايا الّتي ارتكبها، ليَتَجَنَّب العقاب. كان الله يتعامل مع الشعب انطلاقًا من كونِه مُربّيًا لهم، لذا كان يقبل منهم الذبائح، معتقدًا أنّهم بتلك الطريقة سيفهمون مقصدَه الخلاصيّ منها، ولكنْ دون جدوى. إنّ رئيس الكهنة هو خاطئٌ كالشعب، لذا كان يُقدِّم الذبيحة عن نفسه كما كان يُقدِّم الذبائح عن الشعب. إنّ رئيس الكهنة لا يَتَسلّم هذا المنصب من تلقاء ذاته إنّما يحصل على هذا المنصب نتيجة انتخاب الشعب له، إذ قد كسَبَ بركة الله عند حصوله على الكهنوت. إنّ استعمال كلمة "كذلك"، في الآية "كذلك الـمَسيحُ أيضًا لَـم يَـمَجِّدْ نفسَه ليصيرَ رئيسَ كهنةٍ"، دَفَعَت البعض إلى الاعتقاد أنّ يسوع هو رئيس كهنةٍ على مثال أولئك الرؤساء الّذين يتمّ انتخابهم من قِبَل الشعب لتقديم الذبائح لله. إنّ المسيح لم يُنَصِّب نفسه رئيس كهنةٍ، بل إنّ في الأناجيل علاماتٍ كثيرة تُشير إلى أنّ الله قد اختاره لهذه الوظيفة.

إنّ لوقا الإنجيليّ يَعرِض لنا نصّ بشارة رئيس الكهنة زكريّا الّذي دخل إلى الهيكل ليُقدِّم الذبيحة، فخرج منه معقود اللّسان حين طلب علامةً مِن الملاك تؤكِّد كلامه. إنّ سؤال زكريّا مُنطلِقٌ مِن شكِّه بكلام الملاك، أمّا سؤال مريم فكان من أجل الاستفسار. إنّ الله لا يُعطي الإنسان بُرهانًا مسبَقًا على كلامه، إذ على الإنسان أن ينظُر إلى كلام الله على أنّه قد تحقّق على الرّغم من أنّه ما زال كلامًا موعودًا به غير مُحقّق حتّى السّاعة، فالله أمينٌ في وعوده للبشر، وهذا ما يُسمّى إيمانًا. إنّنا كمؤمنين نطلب باستمرار علاماتٍ مِن الله تؤكِّد مصداقيّته، بدليل لُـجُوئِنا إلى النذورات. إنّ القداسة ترتكز على الفهم وليس على العِلم. إنّ نعمة الفهم هي الّـتي تعطي الإنسان المقدرة على التمييز بين الخير والشَّر. عندما تدخل كلمة الله إلى داخل الإنسان، فإنّها تغيِّر عقله وقلبه، وكلّ كيانه. إنّ تقدِمات المؤمن تتمّ إمّا عن اعتقادٍ مِنه أنّ الله سيُسرِع في الاستجابة نتيجة هذه التقدمات، وإمّا خوفًا مِن تراجع الله عن الاستجابة له في المرّة القادمة في حال عدم إيفاء المؤمِن لنذوراته السّابقة. إنّ مفهوم النذورات عند المسيحيّين يستند إلى مفهوم تقديم الذبائح عند اليهود، إذ يقوم المؤمِن بتقديم نذر أو ذبيحة مقابل نعمةٍ قد حصل عليها من الله، أو مِن أجل طلب الرّحمة مِنه والمسامحة. إنّ المفهوم اليهوديّ للذبائح والتقادم قد تَسَرَّب إلى عقول المؤمنين بالمسيح إذ اعتبروا أنّ عمل الله الخلاصيّ مِن أجلهم يقتصر على تخليصهم مِن خطاياهم. قبل مجيء المسيح، كان الشعب اليهوديّ يعتقد أنّ لا خلاص له مِن خطاياه إلّا عبر تقديم الذبائح، لكنّ المسيح بمجيئه أراد أن يُخبر الإنسان عن مدى قدرة الله، فأزال عنه كلّ خطاياه، وأراد أن يُطلِعه مِن خلال ذلك على أنَّ المشكلة لا تكمن في خطاياه بحدّ ذاتها، إنّما في كونها السبب في ابتعاده عن الله. إنّ عمل المسيح الخلاصيّ يهدف إلى أن يشارك الإنسان المسيح في ميراث الله. إنّ المسيح لم يُصَلب بدلاً مِن الإنسان الّذي كان يجب أن يُصْلَب، بل صُلِبَ مِن أجل الإنسان، أي أنَّ هدف يسوع المسيح هو الإنسان وليس خطاياه. إنّ سفر التكوين يُخبرنا عن الله الّذي خلق الكون كلّه في ستّة أيّام، وفي اليوم الأخير، خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأعطاه سلطانًا على جميع المخلوقات. إنّ الله قد أودع الإنسان مسؤوليّة الاهتمام بالخليقة بأسرها، دون أن تصبح مُلْكَه، فمالِكُها الأوحد هو الله. في الخلق الأوّل، نجد أنّ الله قد خلق كلّ شيء مِن أجل الإنسان؛ أمّا في الخلق الثاني، فإنّ الخليقة بأسرها قد خُلِقَتْ مِن جديد بقيامة المسيح، فالخليقة الجديدة هي خليقة نورانيّة، على مثال يسوع المسيح القائم مِن الموت.

إنّ الإيمان يرتكز على قبول الإنسان لعطيّة الخلاص المجانيّة الّـتي يهبه إيّاها الله، حتّى وإن لم يتمكّن من إدراكها بعقله البشريّ المحدود. فحقيقة القيامة لا يمكن أن يُدرِكها الإنسان بعقله البشريّ إذ لا نستطيع تقديم البراهين العلميّة الدامغة عليها. إنّ العقيدة الإيمانيّة تَبطُل عن أنْ تكون كذلك، إن تمكّن الإنسان مِن تقديم البراهين العلميّة عليها، لأنّها تتحوّل عند ذلك إلى حقيقة علميّة. إنّ الإيمان مبنيّ على الفَهم، ولكنّ البراهين عليه هي براهين كيانيّة إنسانيّة، وليست بالضرورة براهين حسيّة ملموسة، فمثلاً لا أحد يستطيع إقناع المؤمن بعدم وجود الله إنْ كان يشعر بحضوره وبرهبة وجوده. إنَّ عمل المسيح الخلاصيّ يختلف كلّ الاختلاف عن أعمال الأنبياء في العهد القديم، وعن عمل الرُّسل في العهد الجديد.

إنّ المسيح هو رئيس الكهنة، ولكنّه كان في الوقت نفسه الذبيحة المقدَّمة لله، بعكس كلّ الكهنة، فقد قدَّم المسيح ذاته ذبيحة، وجَمَع في شخصه الذبيحة ومُقدِّمها، غير أنّ المنطق البشريّ يتطلّب وجود ذبيحة ومُقدِّم للذبيحة، وهو لا يستطيع أن يكون من حيث الظاهر الذبيحة ومقدِّمها في آنٍ. لذا، فإنَّ المسيح هو الذبيحة، أمّا مقدِّمها فَهوَ الله، إذ قد أرسَل ابنه الوحيد يسوع المسيح ليبذل نفسه فداءً عن البشريّة. في العهد القديم، قال أشعيا النبيّ عن الماسيّا(53/ 10) أنّه سيقدّم نفسه "ذبيحة إثمٍ". إنّ هذه العبارة دَفَعت الكثيرين إلى الاعتقاد أنّ المسيح قد قدّم نفسه ذبيحة عن البشر، وبذلك الاعتقاد قد أساؤوا فَهمَ قول النبيّ. إنّ أشعيا قصد بكلامه أنّ الله قد قدَّم ابنه فداءً عنّا: إنّ سفر التكوين يُخبرنا قصّة ابراهيم الّذي أراد تقديم ابنه اسحق ذبيحة لله غير أن ّالله لم يرضَ بموت اسحق فأرسَل إلى ابراهيم جَدْيًا لتقديمه كذبيحة عوضَ عن ابنه. إنّ الله أرادَ أن يُوضِح للشعب مِن خلال ما عاشه ابراهيم، أنّ الخلاص لا يتمّ إلّا إذا قدّم الوالد ابنه ذبيحة، وما صورة ذبيحة ابراهيم إلّا صورة مُسبَقة عن تقديم الله لابنه الوحيد كي يكون ذبيحة لأجل خلاص كلّ البشر. وبالتّالي، فإنّ القداس الإلهيّ ليس عبارة عن ساعة صلاة يقدِّمها المؤمن لله عبر تحويل هذا الوقت إلى وقفة مع الذّات. إنّ القدّاس هو الوقت الّذي يقدِّم فيه الله خلاصه للبشر، لذا على المؤمن أن يكرِّس هذا الوقت لِيَقبل نعمة الله المجانيّة له، فلا تَخَف من التقرّب من الله بسبب ضعفك البشريّ، فإنّ الله عالِـمٌ بحالتك الـمُذريّة المجبولة بالخطايا الّتي لا يمكنك التعويض عنها مهما فعلت. إنّ هذه الذبيحة الّتي يقدِّمها الله للإنسان تدفَعُه إلى النظر إلى ماضيه المجبول بالخطايا وإلى رؤية مصيره، أي مستقبله. إذًا الذبيحة الإلهيّة تهدف إلى جعل الإنسان مُدرِكًا لِما قام به الله مِن أجله، فلا يعود الإنسان يغرق في ماضيه الأسود، إنّما ينظر إلى المستقبل حيث الله ينتظره ليعطيه ميراثه. إنّ مقدّم الذبيحة في القدّاس هو الله الآب، والذبيحة هي يسوع المسيح.

إنّ البشر كانوا غرقى في العبوديّة لأهوائهم الدّنيويّة، غير أنّ الله لم يتركهم في عبوديّاتهم، لذا نادى الربّ شعبه، ودعاهم لتلبية هذا النّداء مِن خلال سماعهم لصوته في الذبيحة الإلهيّة في القدّاس. إنّ كلمة "الكنيسة" في اللّغة اليونانيّة تعني ecclessia، وهي مُشتَّقة مِن كلمة caleo الّتي يعني "نادى" أو "دعا". وبالتّالي، فإنّ المؤمن يستطيع تلبية دعوة الله له من خلال الكنيسة، كما أنّه يستطيع رفض تلك الدعوة الإلهيّة. على المؤمن الذّهاب إلى الكنيسة للمشاركة في القدّاس دون التذمّر قائلاً إنّ الصلوات قد أصبحت قديمة وبالتّالي يجب إدخال بعض التعديلات عليها. إنّ الله في القدّاس يَعرِض على المؤمن الميراث أي الملكوت، وبالتّالي فإنّ الاعتراض على هذا الميراث هو دليل لِرَفضِ المؤمن لِما يُقدِّمه الله له. في هذا العصر، لا يوجد سوى مسيح دجّال واحد هو الجهل، وبالتّالي فإن المسيح الدّجال ليس عبارة عن شخصٍ ملموسٍ متواجد في إحدى بِقاع الأرض، إنّما هو موجود في داخل كلّ إنسان. لذا على المؤمِن أن يُحارِب الجهل، فيُميّز ويُدرِك ما هو الخير وما هو الشَّر في أهواء هذه الدّنيا الّتي تُعرَض عليه. إنّ المؤمِن لن يستطيع التمييز بين الخير والشَّر إلّا إذ قام بتدريب حواسه على ذلك. إنّ علاقة المؤمن المتينة بالله تُعرّفه إلى المسيح الحقيقيّ، وبالتّالي سيكون قادرًا على التمييز بينه وبين المسيح الدّجال. إذًا، لنسعَ إخوتي، كي تتقوّى علاقتنا بالمسيح، تلك الذبيحة الّتي قدّمها الله لأجلنا كي نتمكّن من الحصول بواسطتها على ميراثه.
إنّ الإنسان يتوّقع دائمًا الحصول على مُقابلٍ لعطائه، أي أنّه قد تعوّد أن يدفَع ثمن كلّ خِدمةٍ يحصل عليها. غير أنّ المنطق الإلهيّ مختلفٌ تمامًا عن تفكير البشر، إذ إنّه يُقدِّم لهم نفسه، مِن دون أن يطلب منهم شيئًا بالمقابل سوى قبولهم لعطاياه لهم. إنّ الله لا يطلب من الإنسان شيئًا سوى استخدام تلك العطايا الّتي يَمنَحُها الله له. إنّ الله يعطي ميراثه للإنسان بكلّ مجانيّة. إنّ الإنجيل ليس ناموسًا جديدًا بمعنى أنّنا لا نجد فيه شرائع وفتاوى على مثال الشريعة اليهوديّة القديمة، فنحن لا نجد في الإنجيل إلّا شريعةً واحدة هي الحبّ، وذلك لأنّ الحبّ هو الطريقة الأسمى للتعبير عن الحريّة المطلقة الّتي وَهَبَنا إيّاها الله منذ البدء. إنّ العبد لا يستطيع أن يحبّ لأنّه ينفذّ أوامر سيّده، فالحبّ ينبع من حريّة الإنسان الشخصيّة. فعندما يحبّ العبد إنسانًا معيّنًا، يكون قد مارس حريّته الشخصيّة. إنّ الحبّ هو الحريّة. إنّ مفهوم الحريّة عند الإنسان تَشُوبُه الأخطاء: فالحريّة لا تعني بتاتًا أن يقوم الإنسان بما يحلو له، فإنّ مِثْلَ تلك الحريّة مِن شأنها أن تُعيد الإنسان إلى العبوديّة، فهي تجعله ضحيّة أهوائه البشريّة.

إنّ يسوع هو الكاهن إلى الأبد، إذ إنّه الوحيد القادر على أن يُخلِّص الإنسان من الموت، لأنّه بحسب كاتب هذه الرسالة "قدَّمَ بِصُراخٍ شديدٍ وَدُموعٍ طَلَباتٍ وَتَضرُّعاتٍ للقادر أن يُخلِّصه"، فهو الّذي صرخ إلى الله كي يُخلِّص البشر، وقد استجاب الله له، وخلّصهم بواسطته. إنّ كلّ كهنة الشعب اليهوديّ ينتمون إلى سلالة هارون الكهنوتيّة غير أنّ "مَلْكِي صادَق"، هو الكاهن الّذي تمّ ذِكره في الكتاب مِن دون أن تُعرَف سلالته، وبالتّالي فإنّه لا ينتمي إلى السلالة الكهنوتيّة. إنّ المسيح هو بادِئ الكهنوت وخاتِمَه، ومفسِّره. إنّ الكهنوت في الفكر الشرقيّ القديم لا ينبع مِن بَرَكَة الله إنّما مِن سرّ الإفخارستيّا، أي أنّ الكاهن يُولَد من كأس الذبيحة، لا العكس، فبدون سرّ الإفخارستيّا لا ضرورة لوجود كهنة. إخوتي، فلنَجتَهد كي نُدرِّب حواسنا على التمييز بين الخير مِن الشَّر. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
15/11/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح الرابع كلمة اللّه حيّةٌ وفعالةٌ
https://youtu.be/f58CyTayK7E

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الرابع

الأب ابراهيم سعد

15/11/2016

"فَلنَخَفْ، أنّه مع بقاء وعدٍ بالدّخول إلى راحته، يُرى أحدٌ مِنكُم أنّه قد خاب منه! لأنّنا نحن أيضًا قد بُشِّرنا كما أولئك، لكن لَـمْ تنفع كلمة الـخَبَرْ أولئك، إذ لم تكن ممتزجةً بالإيمان في الّذين سَمِعُوا. لأنّنا نحن المؤمنين ندخلُ الرّاحة، كما قال: "حتّى أقسمتُ في غضبي: لن يدخلوا راحتي" مَعَ كَوْنِ الأعمالِ قد أُكْمِلَتْ منذُ تأسيسِ العالم. لأنّه قال في مَوضِعٍ عن السّابع هكذا: "واستراح الله في اليوم السّابع مِن جميعِ أعماله" وفي هذا أيضًا: "لن يدخُلوا راحتي". فإذا بَقيَ أنَّ قومًا يدخلونَها، والّذين بُشِّروا أوّلاً لم يَدخُلوا لسبب العُصيان، يُعَيِّنُ أيضًا يومًا قائلاً في داود: "اليوم" بعد زمانٍ هذا مِقدارُهُ، كما قِيلَ: "اليوم، إنْ سمعتم صوته فلا تُقسُّوا قلوبكم". لأنّه لو كان يشوع قد أراحهم، لَما تكلّم بعد ذلك عن يوم آخر. إذًا، بقيَتْ راحةٌ لشعب الله! لأنّ الّذي دَخل راحتَه، استراح هو أيضًا مِن أعماله، كما الله مِن أعماله. فَلْنَجْتَهِد أنْ ندخل تلك الرّاحة، لئلّا يسقُطَ أحدٌ في عِبرة العصيانِ هذه عينها. لأنّ كلمة الله حيّةٌ وفعّالةٌ وأَمْضَى مِن كلّ سيفٍ ذي حدّين، وخارقةٌ إلى مفرق النّفس والرّوح والمفاصل والـمِخاخِ، ومُـمَيِّزةٌ أفكار القلب ونيّاته. وليست خليقةٌ غير ظاهرةٍ قُدَّامه، بل كلُّ شيءٍ عُريانٌ ومكشوفٌ لِعَينيّ ذلك الّذي معه أَمْرُنا. فإذا لنا رئيسُ كهنةٍ عظيمٌ قد اجتاز السّماوات، يسوع ابنُ الله، فَلنَتَمَسَّك بالإقرار. لأنْ ليس لنا رئيس كهنةٍ غير قادرٍ أن يرثي لِضعفاتِنا، بل مُـجَرَّبٌ في كلّ شيءٍ مِثْلُنا، بلا خطيئةٍ. فَلنَتَقَدَّم بثقةٍ إلى عرش النّعمة لكي ننال رحمةً ونجِدَ نعمةً عَونًا في حينه."

إنّ موضوعَنا اليوم، يَتَمَحْوَرُ حول الآية الثانية من هذا الإصحاح وهي: "لأنّنا نحن أيضًا قد بُشِّرنا كما أولئك، لكن لَـمْ تنفع كلمة الـخَبَرْ أولئك، إذ لم تكن ممتزجةً بالإيمان في الّذين سَمِعُوا". إنّ سماع الإنسان لكلمة الله هو أساس تَحوُّلِه إلى كلمة الله المتحرّكة، فهذا هو الهدف مِن قراءة الإنجيل. إنّ الإيمان لا يقتصر على تصديق المؤمن لكلمة الله، إنّما أيضًا على إعلان ارتباطه بكلمة الله من خلال تصرّفاته واختياراته في الحياة، الّتي تُشكّل العلامات الواضحة عن إيمانه بالله. إنّ علاقة المؤمِن بالله ستكونُ رادعًا له كي لا يَنْجَرَّ لإغراءات هذا العالم، فَيَخونَ الله. إنّ سلوك الإنسان وَنَمَطَ حياته هما اللّذان يدلّان على ارتباطه أو عَدَمِه. فكما أنَّ تصرّفات بعض الأزواج متهوِّرة ولا تدلّ على ارتباطهم، فالأمر نفسه بالنسبة للمؤمِن، إذ عليه الانتباه كي لا تصدر عنه تصرّفات لا تعكس حقيقة إيمانه بالله.

"إنّ كلمةً الله حيّةٌ وفعّالةٌ، أَمضَى من كلّ سيفٍ ذي حدّين، وخارقة إلى مَفرِق النّفس والرّوح والمفاصل والمخاخ وممَيِّزةٌ أفكار القلب ونيّاته."(آية12) إنّ كلمة الله تترك أثَرًا في نَفسِ المؤمِن، حتّى وإن أَظهر المؤمِن عدم تأثُّره بها في بادئ الأمر، لكنّ هذه الآثار لن تتأخّر في الظهور في حياة المؤمِن بطريقة لا يستطيع تَوَقُّعَها. لذا، لا يجب قطعُ الأمل في تَغَيُّر الإنسان الّذي كان قد سِمَع يومًا في حياته كلمة الله، فالإنسان لا يستطيع التهرّب مِن مفاعيل كلمة الله مَهما فَعل. إنّ كاتب هذه الرسالة وَصَف يسوع المسيح قائلاً إنّه "المجرَّب في كلّ شيء مِثلَنا، ما عدا الخطيئة". إنّ كلمة الله هي سيفٌ ذو حدّين: الأوّل طيّب المذاق، والآخر مرّ. إنّ كلمة الله تكون طيّبة المذاق، عندما يُبدي المؤمِن استعداده لسماعها وقبولها، ولَكِنَّ طعمها يتحوّل إلى مرّ، حين تدخل إلى أعماق الإنسان وتدفعه إلى اتّخاذ موقفٍ منها. إنّ هذا الاختبار قد عاشه أحد أنبياء العهد القديم، إذ إنّه حين تَنَاوَل الكتاب أي كلمة الله، شَعَرَ بِحَلاوتِه في فمه، أمّا في جوفه، فقَد شعر بالمرارة. عندما يدخل الإنجيل إلى أعماقِ الإنسان، يجد الإنسان نفسه في صراع داخليّ ما بين الخير والشرّ، بين الحقّ والباطل، بين النُّور والظلمة. هذا ما يَختبِرُه الإنسان في العُمق، حينَ يجدُ نفسَه مُجبرًا على اتّخاذ موقف حازمٍ في إحدى المسائل الّتي تعترضه، فَيَقِف حائرًا في أمره إذ عليه الاختيار ما بين الاعتراف بالمسيح وفقدان العالم، وما بين نكرانه للمسيح والحصول على الرِبح الدُنيويّ، وهذا ما يُعالجه سفر الرؤيا.
إنّ الكنيسة لا تنظر إلى شهادة المؤمِن للمسيح على أنّها فقط تقديم حياته للموت من أجل المسيح، إنّما تتخطّاها لتشمل اختياراته في هذه الحياة، إذ على المؤمِن أن يختار في كلّ موقفٍ يتعرّض له، بين المسيح وبين العالم. فالمؤمِن لا يمكنه أن يربح المسيح والعالم معًا، فَهوَ إمّا أن يخسر العالم ويربح المسيح، وإمّا أن يربح العالم فيخسر المسيح. إنّ المؤمِن يتحوّل إلى فريسيّ إذا سعى للحصول على المسيح والعالم في آنٍ، لأنّه سيعيش ازدواجية في حياته، الّتي ستَخلو مِنَ الشفافيّة والمصداقيّة. إنّ الإنسان يعيش هذا الصراع بشكلٍ دائم، وهذا الصِراع يطال كافة جوانب حياة الإنسان، فالإنسان يتعرّض إلى إغراءات هذا العالم وقد يقع في فخِّها. كما أنّه لا يمكننا أن ننسى تأثير الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة على قرارات الإنسان، فَهو قد يتعرّض للخوف الشديد، فيُفَضِّل اختيار العالم على المسيح.

إنّ كلّ مَن اتحّد بالحقّ، عانق الصّليب. إنّ الصّليب هو نتيجة حتميّة لالتزام المؤمِن بالحقّ، فالإنسان الّذي لا يُعاني من أيّ ظلمٍ في هذا العالم، هو إنسان لا يعيش في الحقّ إنّما في الظلمة والباطل. وهذا ما يُفسِّر لنا اختيار بعض الأشخاص العيش وِفْقَ مقولة: "إن لم تكن ذئبًا، أَكَلَتْكَ الذئاب" إذ إنّهم يعتبرون هذه المقولة تمثِّل ثقافة العيش في هذا العالم، كما نستطيع أن نفهم ترقِيَة بعض الموَظَّفين إلى مناصب مهمّة في أعمالهم، على الرّغم من اعتمادهم المنافقة والغشّ في وظائفهم. إنّ الصّليب هو الثَمن الّذي يدفعه المؤمِن نتيجة أمانته لكلمة الله. إنّ المؤمن الّذي ألغى الصليب مِن حياته أو رَفَضَه، هو إنسان قد ترك إيمانه ليتبع العالم وأهواءه. إنّ المؤمن الأمين لكلمة الله، لا يبحث عن الصّليب، إذ إنّ المؤمِن لا يحبّ الألم ولا يبحث عنه، لكنّه ينال الصّليب نتيجة عيشه إيمانه بكلّ صدقٍ وشفافيّة. إنّ المؤمِن لا يبحث عن الصّليب ليجعل مِنه وسيلةً لقداسته، إنّما عَيشُ المؤمن لحياةٍ تَتَسِّم بالقداسة، تجعله يحصل على الصّليب. ليسَ على الإنسان أن يُجبِر نفسَه على الإماتات وقهرِ الذّات، بطريقة تفوقُ قدرتَه على تحمُّلِها، إذْ عليه أن يتذَكَّر دائمًا أنّه كائنٌ بشريّ لا إلهيّ، وبالتّالي فقُدرتَه محدودة على تحمُّل الآلام. حين تجسَّد المسيح في أرضنا، سعى اليهود إلى جَعلِه غريبًا عَنْهم ليتمكّنوا من قتلِه، إذ لا يجوز قتل شخص قريب، ولكنْ يجوز قتل الغريب. في زماننا هذا، يشعر حامل كلمة الله أنّه غريب عن عالَـمِه، ولكنّ هذا الأمر لا يجب أن يدفع بالمؤمِن إلى اعتبار مَن يَرفُضُه، رافضًا لكلمة الحقّ، وبالتّالي اعتباره بمثابة صليب عليه تحمُّلُه، فإنّ مِثلِ ذلك التصرّف يشكِّل إدانة للآخرين. إنّ على المؤمِن أن يسمع عظة الكاهن على أنّها موجّهة إليه شخصيًّا، مُحاولاً الاستفادة منها، دون أن يُحوِّلها إلى وسيلةٍ لإدانة الآخرين على تصرّفاتِهم معه.

إنّ الكتاب المقدّس يستخدم عبارة "كلمة الله على" في مواضِعَ كثيرة. إنّ حرف الجرّ "على"، في اللّغة العِبْريّة، يُعطي طابع الخصومة، وهذا ما نجدُه أيضًا في اللّغة العربيّة. ففي اللّغة العربيّة، نستخدم عبارات مِثْلَ: "تكلّم فلان على فلان"، ونَعْني بذلك أنّ الكلام موجّه ضِدَّ الإنسان الآخر. وبالتّالي، فإنّ عبارة "كلمة الله عَلَيكَ" تحتمل تفسيريْن: فإمّا أن يُقصَد بها أنّ كلمة الله هي خَصمٌ لك وعدّوتك، وإمّا أن يُقصَد بها أنّ كلمة الله هي سَيِّدَة عليك.
إنّ كلمة "قلب" في اللّغة العِبْرِيّة تعني "اللُبّ"، وهي لا تدلّ على جزءٍ معيّن في جسم الإنسان، إنّما تُشير إلى كلّ كيانه، وبالتّالي فإنّ المقصود بـ "إنْ سمِعتم صوته، فلا تُقَسُّوا قلوبكم"، أن يَسمَع المؤمِن كلمة الله بكلّ كيانه، وألّا يرفُضَها، ويُقسِّي قلبه. إنّ كلّ إنسان يَرفضُ حبًّا تُقَدِّمُه له، لا يستطيع أنْ يكون مُحايدًا لكَ، بل يتحوّل إلى عدوِّكَ، فالّذي يرفُضُ حبَّك لا يستطيع أن يتركُكَ وشأنَكَ، وبخاصّةٍ إنْ كان يشعرُ بأنّ حبَّك له صادقٌ. إنَّ المسيح قد أعلن حبَّه الصادق للبشر، غير أنّ بعضَهم قد رفضوا هذا الحبّ، فحوَّلوا أنفسهم إلى أعداء للمسيح، فاجتهدوا مُحاولين قتلَه، واختاروا له مِيتَة الصّليب كالعَبد. ونحن أيضًا اليوم، نستطيع إمّا أنْ نكون مِن حامِلي كلمة الله، وإمّا أنْ نكون مِن أعداء كلمة الله فنُحاربها.
لا فضلَ للمؤمِن في وصول كلمةِ الله إلى الآخرين بواسطته، فالفَضلُ يعود إلى الله الّذي اختاره، هو" الآنية الخَزَفيّة"، كي ينقل بواسطته كلمة الله إلى الآخرين، فالله لا يستند على قداسة الإنسان ليختار الإنسان. إنّ أشعيا النبيّ قد اعترض على اختيار الله له لبشارة الشعب، لأنّه إنسانٌ دَنِسُ الشِفاه. إنّ الله لم يستسلم أمام اعتراض أشعيا هذا، لذا قام بتطهير شفتَيّ أشعيا بالجمرة بواسطة الملاك. إنّ الله لم يُطهِّر كلّ كيان أشعيا إنّما فقط شفتَيْه لأنّهما الوسيلة الّتي سيَستَخدِمها أشعيا لتبشير النّاس. وبَعد عمليّة التّطهير هذه، أعلن أشعيا استعداده لأنْ يكون مُرسَلاً من قِبَل الله للشعب، فقال: "هاأنذا أرسلني"، فأرسل الله أشعيا إلى شعبٍ قاسي الرِّقاب والقلوب. وعندما اعترض أشعيا على نوعيّة الشعب الذي أرسَله الله إليه، أخبره الله بأنّه، أي الله، هو مَن سيعمل في قلوب هذا الشعب القاسي بواسطة كلمته الخارجة مِن فَم النبيّ. إنّ كلمةَ الله تنطلق مِن عند الرّبّ ولا تعود إليه إلّا بعد أن تكون قد أنجزَتْ ما أُرسِلت من أجله. إنّ اختيارَ الربّ لحاملي كلمته إلى الآخرين، لا يجعلهم أبدًا مالكِين لتلك الكلمة، بل مؤتَمنين عليها، لذلك عليهم إيصالها بكلّ أمانة، فكلمة الله هي مُلكُ الله، وليست مِلْكَهم. وبالتّالي، ليسَ على المؤمِن التحجّج بأنّه ليس أهلاً لنقل البشارة أو بأنّه لا يملك المعطيّات اللّازمة لذلك، لأنّ كلمة الله هي الفاعلةُ في قلوب سامعيها، وعلى المؤمِن إذًا، الاستعانة بمواهب الروح القدس أثناء البشارة، لا الاتكال على موهبته في الكلام. إنّ الله قد اختار البعض كي يُعلنوا البشارة، واختار آخرين كي يُصغوا إليها. إنّ مَن يُبشِّر هو أوّل السامعين لكلمة الله الّـتي ينطق به،ا إذ إنّ أُذُنَيه هما الأقرب إلى فمه. إنّ الله يحتاج إلى أشخاص يسمعون كلمتَه، فيتكلّمون بها، ويُطبِّقونها في حياتهم بِطُرُقٍ مختلفة كالخدمة والمساعدة، والتعامل مع الآخرين بلطافة وتواضع. إنّ النشاطات الكنسيّة تُختَتَم بشكرِ كلّ مَن ساهم في إنجاح النشاط، وبخاصّة الجنود المجهولين. إنّها لَـمَوهبةٌ أن يكون المؤمِن جُنديًّا مجهولًا.

إنّ كلمة الله حيّةٌ فعّالةٌ تدخل إلى النّفس والرّوح والمخاخ والقلب (آ 12)، أي أنّها تدخل إلى كلّ كيان الإنسان. عندما يسمح الإنسان لكلمة الله بأنْ تُسيطِر على كلّ كيانه، عليه عندئذٍ أن يضع جانبًا كلّ ضعفه البشريّ، فيسعى إلى تحسين ذاته من خلال علاقته بالله. إنّ كلمة الله لا تتأثّر بضعف الإنسان، لذا عليه أن يبدأ بالتبشير بها دون الانتظار كي يصبح كاملاً بلا خطيئة، لأنّه لن يصل إلى الكمال إلّا في الحياة الأبديّة. إنّ الرسّل أعطوا الأولويّة في مسألة نشر البشارة إلى المسكونة بأسرها، لا في مسألة التخلُّص من خطاياهم، فَهَدَفُهم كان تعريف المسكونة إلى المسيح، ودعوتهم للإيمان به ربًّا. إنّ الحياة كلّها ما كانت لِتَكفي بطرس للتعويض عن خطيئته بإنكاره المسيح، وكذلك بولس الّذي لن يستطيع التعويض عن مسألة اضطهاده للمسيح لو مهما طال عمره، ولكنّهما بشّرا بالمسيح رغم ذلك ولم ينتظرا كي يصبحا كامِليْن. إنّ الرّبّ قد اختار بولس لينشر كلمته مِن قلب خطيئته، كما كان الأمر مع أشعيا حين اختاره الله، وكذلك الأمر مع بطرس الّذي اختاره الله مِن قلب خيانِته لينشر كلمتَه للآخرين. وبالتّالي، فإنّه مِن خلال ما حصل مع هؤلاء الرّسل، يمكننا الاستنتاج أنّ الربّ يدعو المؤمِن إلى عدم التلهّي في كيفيّة التخلّص مِن خطاياه، وأنّه يدعوه إلى أكثر من ذلك، إلى الالتقاء به وسط خطاياه وَضُعفِه البشريّ. إنّ دعوة الله هذه للمؤمِن، تجعله يخجل من ذاته عِوَض الافتخار بخطاياه، إذ إنّه قام بتكسير ذاتِه وطاقاتِه في ارتكابه الخطايا، عِوَض أن يستخدمَ تلك الطاقات الّتي وَهَبَه إيّاها الربّ في خدمة البشارة.

إنّ صاحب المزامير عَبَّر عن توبته إلى الله قائلاً إنّ فراشه قد تبلّل نتيجة ذرفه الدّموع كتعبير عن توبته، عما ارتكبه مِن خطايا. إخوتي، إنَّ ذرف الدّموع كتعبير عن التوبة لن يُفيد أحدًا، فالخطايا قد ارتُكبَت ولن تمحوها دموعنا. لذا، فلنعبّر عن توبتنا بالبكاء في اللّيل، أمّا في النّهار فلننطلق إلى البشارة بكلمة الله، فإيصال البشارة إلى الآخرين قد يُخلّصهم من الهلاك إنْ قَبِلوا بها. إذًا، على المؤمِن عدم التلهّي في التخلُّص من خطاياه إنّما ليَكُن همُّه الأوحد إيصال البشارة إلى الآخرين. إنّ انشغال المؤمِن في بكاء خطيئته يؤدّي إلى تعطيل كلمة الله، الّتي قد يؤدي وصولها إلى الآخرين، إلى تغيير القلوب وخلاص النّفوس. إنّ الله قد قاد الشعب إلى الصحراء حيث الموت له الكلمة النّهائية، إذ لا حياة فيها، ولكنّ الله قد خلّص شعبه من الـمَوت في الصحراء، لأنّه الوحيد القادر على ذلك. إنّ الله قد انتشل شعبه من عُمق الموت، وأخرجهم إلى الحياة وخلَّصهم. وبالتّالي، فإنّ الله سيَظهر للمؤمِن حين يكون منغمسًا في خطيئته. إنّ الله لا يظهر للمؤمِن في أوقات الراحة والبحبوحة، إنّما يظهر له في أوقات الشّدة والتّعب، ولذا على المؤمِن الانتباه إلى حضور الله في حياته لأنّه سيَظهر له في وقتٍ لا يعرفه، وبطريقة لا يُدرِكها. إنّ الإنسان قد لا ينتبه في الكثير من الأوقات إلى كلّ الكلمات الّتي تُقال له وذلك لانشغاله بأمور أخرى، غير أنّ إحدى تلك الكلمات قد تكون مِنَ الربّ، لذا على المؤمِن الإصغاء إلى الجميع لأنّ الله قد يكلّمه من خلال أحدهم. إنّ الربّ يردّد على مسامعنا ما قاله لمرتا فيقول لنا إنّنا منشغلون ومنهمكون بأمور كثيرة غير أنّ المطلوب واحد، وهو سماع كلمة الله كما كانت تفعل مريم أخت مرتا. إنّ الربّ لا يقصد بكلامه هذا أنّ لا جدوى من الخدمة، بل إنّ ما يقصده هو أنْ يتفرّغ كلّ مؤمِن إلى كلمة الله من خلال الموهِبَة الّتي يمنحه إيّاها الربّ، فلا يقوم بإجبار الآخرين على العمل من أجل الله، وِفق موهبتِه هُوَ، إنّما وِفق الموهبة الّتي أعطاها الله للآخر. إذًا، على كلِّ مؤمِن أنْ يخدمَ الله وِفقَ موهبته الخاصّة، فإنّ الربّ قد مَنَح كلّاً منّا موهبة مختلفة عن موهبة الآخر. إنّ كلّ لقاء روحيّ، هو لقاء من أجل الانطلاق صوب الآخر. إنّ مرارة كلام النّاس قد تُضايقُك في الكثير من الأحيان وتدفعك إلى الشعور باليأس والإحباط والموت. أمّا كلمة الله، فعلى الرّغم من أنّها حادّة كالسَّيف وعلى مرارتها، فَهي تؤدّي إلى زرع الحياة والرّجاء فيك. إنّ هناك اختلاف في نوعيّة الكلام: إنّ كلمة الله صادقة ولا تقبل بالمساومة، أمّا كلام النّاس، فيقبل بها لأنّه كَذِبٌ وغشّ. وبالتّالي، فإن جَهِدَ المؤمِن في إيصال كلمة الله إلى الآخرين فهي ستؤدي بهم إلى الحياة، أمّا إنْ اجتَهَد كي تصلَ كلمتُه إلى الآخرين فهي ستؤدي بهم إلى اليأس.

إنّ يسوع المسيح هو رئيس كهنتِنا، نحن المؤمنين به، وهو عظيمٌ إذ قد اجتاز السّماوات. لذا، فلنتمسّك به إخوتي، ولنعترف به إلهًا لنا، لأنّه الوحيد الّذي يهتمّ لضُعفنا البشريّ فَهوَ قد اختبره حين لَبِسَ طبيعتنا البشريّة، فقد بكى، وشعر بالجوع والعطش مِثلَنا، غير أنّه لم يُشارِكْنا في الخطيئة لأنّها ليست مِن طبيعتنا البشريّة. إنّ الخطيئة هي الّتي تجعل المؤمنين كسالى، متذمّرين، متحججّين في هذا الزمن الطويل الّذي يعيش فيه المؤمنون قَبْل انتقالهم إلى بيت الآب. إنّ الزمن الطويل الّذي يعيشه الإنسان، يجعله يشعر بالتعب مِنَ المثابرة والجهاد، كما أنّه يدفعه إلى التململ والتذمّر مِن عدم تقدير الآخرين لجهودِه الّـتي بَذَلَها في سبيل نقل البشارة إليهم، ويعبِّر الإنسان الصالح عن انزعاجه مِن ذلك، مِن خلال ترداد المقولة الشائعة "افعل الخير وارمِه في البحر". إنّ هذه المقولة لا تعني بتاتًا أنّ الخير الّذي يقوم به الإنسان لا قيمة له، لِذا يجب رَمْيُه في البحر، بل على العكس مِن ذلك تمامًا، إذ على الإنسان أنْ يرمي الخير الّذي يقوم به في البحر، لأنّ في البحر أسماك تستطيع الاستفادة مِن عمله، في حال لم يَشأ الإنسان الآخر الاستفادة منه. إنّ خطورة الزمن الطويل تكمن في ضجر الإنسان. إنّ عدم نجاح الإنسان في الوصول إلى النتيجة الّتي يريدها مِن خلال عمله الخَيِّر يُشعِرُه أيضًا بالضجر، لأنّ الإنسان بطبيعته لا يسعى إلى إيصال كلمة الله بنجاحٍ إلى الآخرين فَحَسب، إنّما يسعى كذلك إلى إيصال ذاته للآخرين، إذ إنّ كلّ إنسان يرغب في أن يكون معروفًا ومشهورًا مِن قِبَل الآخرين. إنّ عدم شعور الإنسان بالعَظَمة نتيجة أعماله، يَجعلُه يشعر بالفشل. إنّ مريم العذراء لم تبحث عن مكانٍ لها في الصدارة، فَهيَ دَعَتْ كلّ المؤمنين بابنها إلى القيام بما يأمرهم به، ثمّ تركت المكان لابنها، فَعَاشَتْ حياةً خفيّةً، غير ساعيةٍ للظهور والحصول على المجد الأرضيّ لأنّها تعلم عِلمًا يَقينًا أنَّ يسوع المسيح ابنها، هو العريس، وهو الأساس. إنَّ مريم العذراء كانت تحفَظ كلّ الأمور وتتأمّلها في قلبها، ومريم لم تتدخَّل في ما لا يَعنِيها، لذا لم تقم بأيّة مداخلة حين كان ابنها يعظ النّاس ويعلّمهم كلام الله. إنّ تصرّف مريم هذا، لا ينمّ عن تواضع فَحَسب، إنّما أيضًا عن إدراكِها لموهِبتها وعيشها لها، وهي ما زالت تقوم بما هو مطلوب منها حتّى اليوم.

إنّ المؤمنين الّذين اتّخذوا كلمة المسيح نهجًا وحياةً وثقافةً، يُدرِكون تمامًا أنّهم سيشاركون المسيح في حمل الصّليب يوميًّا. إنّ المؤمِن أمام الصّليب، يجد نفسه أمام مَوقِفيْن لا ثالث لهما: فإمّا أن يتحدّى الّصليب، فيَحملَه بِفرح، وإمّا أن ينزل عنه، فيتخلّى عن الصّليب. لو استجاب المسيح، حين كان معلّقًا على الصّليب، لِطَلب اليهود مِنه بأنْ ينزل عنه كي يؤمنوا به، لأَصبح زعيمًا يهوديًّا ولكنّه بالتأكيد كان بهذا الفعل تخلّى عن هويّته بِكَونِه ابن الله، إذ أصغى إلى صوتٍ آخر غير صوت الله الآب. إنّ الله قد تبنّى الإنسان منذ ولادته، وأعطاه كلّ حقوق البنوّة، وبالتّالي فقد أصبح الإنسان مُشاركًا للمسيح في ميراث الله. على المؤمن أن يشكر الله على نعمتِه الّتي منحَه إيّاه إذ جعله ابنه، ومُساويًا للمسيح في كلّ حقوق الابن، على الرّغم مِن الفرق الكبير بين الإنسان والمسيح، فالمسيح هو الإنسان البارّ الّذي لم يرتكب إثمًا، ولا وُجِد في فمه غشّ، أمّا الإنسان فهو لم يتوان يومًا عن النُّطق بالكذب والمساومة على الحقيقة. إنّ الشيطان يفرح حين يرى أحد المؤمنين يتخلّى عن صليبه، لأنّه يكره أمانة المؤمِن لكلمة الله، ولحَمْلِه الصّليب. على المؤمِن أن يبقى أمينًا لكلمة الله من خلال كلّ تصرفاته. على المؤمِن أن يتَذَكَّر دائمًا أنّه ينقل كلمة الله، لا كلمته الخاصّة إلى إخوته البشر، ولذا هي قادرة على أن تُغيِّرَهم، وأن تَفعَل في قلوبهم. فليسأل المؤمِن الله الرحمة وعدم السماح بمغادرته هذه الفانية قبل إتمام ما جاء لأجله قائلاً: "يا ربّ لا تَرُدَّني إلى الأرض، قَبْل أن تَرُّدني إليك". انطلاقًا مِن هذا الرّجاء العظيم الّذي لنا في المسيح، نستطيع القول إنّ المسيح هو رئيس كهنتنا الأعظم. إنّ رئيس الكهنة، هو مقدِّم الذبائح، وَبِدُونه لا تتمّ الذبائح، وبالتّالي فَهوَ الأساس. فإن كنّا نحن المؤمِنين، مُقتنعين أنّ يسوع المسيح هو رئيس كهنتنا، فهذا يعني أنّنا مُدرِكون تمامًا أنّ لا شيء يمكن أن يتمّ في حياتنا دونه، وبالتّالي على تصرّفاتنا أن تُعلِن أنّ يسوع هو أساسُ حياتنا، وأنّ حياتنا مبنيّة عليه وحده دون سواه.

إنّ النّاس يحبّون إلقاء الأضواء على أخطاء غيرهم أكثر من خطاياهم الشخصيّة. إنّ الوقت الّذي يُمضيه النّاس للتكلّم على أخطاء الآخرين في غيابهم هو أكبر بأضعاف من الوقت الّذي يُمضونه في الكلام عن خطاياهم الشخصيّة. إذًا، يجب عدم التلهّي بالكلام عن أخطاء الآخرين لأنّ لا فائدة مِن ذلك في بنيان الآخر روحيًّا. إنّ مِثلَ تلك التصرّفات تؤدي إلى هدم الآخر. كما أنّ التلهّي بالكلام عن الأخطاء الخاصّة، هو مَضْيَعةٌ للوقت، عِوَض الاستفادة مِن الوقت لنقل البشارة. إنّ إضاعة الوقت في الكلام عن خطايا الآخرين والخطايا الخاصّة، يؤدّي إلى نشوء النميمة والثرثرة، وتشويه السُّمعة، وإلى تنمية روح الإدانة، كما يؤدي هذا النّوع من الكلام إلى خلق اضطرابات نفسيّة وتنمية الكراهيّة ضدّ الآخرين في القلوب. لذا على كلّ مؤمِن أن يُحاول رؤية دور الله في حياته، ويسهر على ذاته عبر السعي الدائم إلى تحسين عيوبه، لأنّ في ذلك منفعة روحيّة. إخوتي، لِنُحاول الاستفادة من هذا الزمن المقدّس لتَحسين ذواتنا، فلا نُكرّر الأخطاء الّتي ارتكبناها في السّابق. إنّ كلمة الله تُعطينا عيونًا قادرة على أن تَرى، تُعطينا آذانًا قادرة على السّماع، وألسنةً قادرة على التكلّم، وتُعطينا أَرْجُل لنعرف أين نسير، وأيادي لنعرف كيف نخدم. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
8/11/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول الى العبرانيين - الإصحاح الثالث أمانة المسيح لله الآب
https://youtu.be/x2yGLxe4veU

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الثالث

الأب ابراهيم سعد

8/11/ 2016

"مِن ثمّ أيّها الإخوة القدِّيسون، شركاء الدّعوة السماويّة، لاحظوا رسولَ اعترافِنا ورئيسَ كهنته المسيح يسوع، حالَ كونِهِ أمينًا للّذي أقامه، كما كان موسى أيضًا في كلِّ بَيتِهِ. فإنّ هذا قد حُسِبَ أهلاً لمجدٍ أكثر من موسى، بِمقدارِ ما لِباني البيتِ من كرامةٍ أكثرَ من البيت. لأنّ كلَّ بيتٍ يَبنيه إنسانٌ ما، ولكنَّ باني الكلّ هو الله. وموسى كان أمينًا في كلّ بيته كخادمٍ، شهادةً لِلعَتيدِ أن يُتَكَلَّمَ به، وأمّا المسيح فَكَابنٍ على بيتهِ. وبيتُهُ نحنُ، إن تمسَّكْنا بثقة الرّجاء وافتخارِهِ ثابتةً إلى النّهاية. لذلك كما يقول الرّوح القدس: "اليوم، إن سمعتم صوتَهُ فلا تُقَسُّوا قلوبكم، كما في الإِسخاطِ، يوم التَّجربة في القَفرِ حيث جَرَّبَني آباؤكم. اختَبروني وأَبصَروا أعمالي أربعين سنةً. لذلك مَقَتُّ ذلك الجيل، وقلتُ: إنّهم دائمًا يَضِلّون في قلوبهم، ولكنَّهم لم يَعرِفوا سُبُلي. حتَّى أقسَمتُ في غضبي: لن يدخُلُوا راحتي." انظُروا أيّها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلبٌ شرّيرٌ بعدمِ إيمانٍ في الارتداد عن الله الحيّ. بل عِظُوا أنفسَكُم كلّ يومٍ، ما دام الوقتُ يُدعى اليوم، لكي لا يُقسَّى أحدٌ منكم بغرور الخطيئة. لأنّنا قد صِرنا شركاء المسيح، إن تمسَّكنا ببداءة الثِّقة ثابتةً إلى النّهاية، إذ قِيلَ: "اليوم، إن سمعتم صوته فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم، كما في الإسخاط." فَمَن هُم الّذين إذ سمعوا أَسْخَطُوا؟ أَليسَ جميعُ الّذين خَرجُوا من مِصرَ بواسطة موسى؟ ومَن مَقَتَ أربعين سنةً؟ أَلَيسَ الّذين أَخطَأُوا، الّذين جُثَثُهم سقطت في القَفرِ؟ ولِمَن أَقسَمَ: "لن يدخُلوا راحتَهُ"، إلّا للّذين لم يُطيعوا؟ فَنَرى أنّهم لم يَقدِروا أن يَدخُلُوا لِعَدَمِ الإيمان".

إنّ أجمل صفةٍ يُطلقها الكاتب على الـمُرسَل إليهم هي أن يكونوا "الإخوة القدّيسون، شركاء الدّعوة الإلهيّة". وإنّ الكاتب لا يقصد بكلمة "قدِّيسين" أولئك الّذين أَعلَنَتْ الكنيسة قداستَهم على المذابح، إنّما أولئك الّذين اعتمدوا بالمسيح يسوع، فَبِالنِسبَة إلى بولس، القدِّيس هو مَن قَبِلَ المعموديّة باسم يسوع المسيح. إنّ كلمة "قدِّيس" في اللّغة العِبْريّة تعني المفروز أي أنّ القدِّيس هو الإنسان المفروز لله. وبالتّالي، فإنْ اسْتَبْدَلنا عبارة "القدّيس" بمعناها الأصلي في الآية الواردة في الرسالة، تُصبح الآية على الشكل التّالي: "أيّها الإخوة المفروزون لله، الّذين أنتم صِرتُم للمسيح".

أمّا بالنسبة إلى "شركاء في الدّعوة"، فإنَّ لكُلِّ احتفالٍ صاحبُ دعوةٍ واحدٍ، أمّا المدّعوون إليه فَكُثُر. وإنّ توجيهَ صاحبِ الدّعوة دعوةً لكَ لتُشاركَه في الاحتفال لا يجعلُكَ مُطلقًا داعيًا له، إنّما تَبقَى مدعوًا إليه، وبالتّالي فَأنتَ لا تشاركُه دعوةَ الأشخاص إلى الاحتفال. أمّا بالنسبة إلى بولس، فإنّ المفروزين لله قد أصبحوا مدعوّين إلى الدّعوة الإلهيّة بواسطة مؤمنين آخَرِين، كانوا قد أصبحوا شركاء في هذه الدّعوة. وبالتّالي، فإنّه لا يمكن للمؤمن أن يذهب وحيدًا إلى الملكوت، إنّما دائمًا برفقة أشخاص آخرين، غالبًا ما يكونونَ أولئك الّذين وصلَتْ إليهم الدّعوة من خلاله. إذًا، إنّ كلّ معمّدٍ باسم يسوع المسيح، لم يعد فقط مدعوًّا للملكوت، إنّما أصبحَ داعيًا له. إنّ السّماء تُشيرُ إلى حضور الله، وبالتّالي فإنّ الدّعوة السّماويّة هي دعوةٌ إلهيّة.
إنّ رئيس الكهنة يُقدِّم الذبيحة عن الشعب، ويَرُشُّ دمها على المذبح، وعلى أعتاب الأبواب وعلى المؤمنين. إنّ يسوع المسيح هو مُقدِّم الذبيحة، وَهوَ الذبيحة في آنٍ، وبهذا الفِعل تَميَّز عن سائر الكهنة، إذ لم يستَطِع أحدٌ منهم أن يُشبهَهُ في ذلك. إنّ العهد الجديد يؤكِّد لنا أنّ يسوع هو رئيس الكهنة، إذ يُخبرنا الإنجيليّ يوحنا أنّ الجنود عند أقدام الصّليب قد اقترعوا على لباس المسيح، فَهُم لم يتمكّنوا من تجزيئه لأنّه كان مصنوعًا من قطعةٍ قماش واحدة، أي كما كانت حالة ثياب الكهنة في ذلك الزَّمان. وبالتّالي، أراد الإنجيليّ أن يُشير إلى أنّ يسوع المسيح على الصّليب، هو رئيس الكهنة الّذي أصبح في الوقت نفسه الذبيحة. إنّ لوقا الإنجيليّ قد أشار أيضًا إلى الأمر نفسه، ففي بداية إنجيله، وتحديدًا في نصّ بشارة زكريا، يُخبرنا أنّ الكاهن زكريا لم يتمكّن من مباركة الشعب بعد أنْ خَرَجَ مِنَ الهيكل معقود اللّسان، فالمباركة كانت من واجبات الكاهن. لكنّه يُخبرنا، من ناحية أخرى، في ختام إنجيله، أنَّ يسوع قد بارك تلاميذه قبل صعوده إلى السّماء، وبالتّالي فَهوَ أي يسوع، قام بما يَتوَّجب على الكاهن القيام به. إنّ لوقا الإنجيليّ أراد الإشارة إلى أنّ يسوع هو رئيس الكهنة الحقيقيّ الوحيد.

لا يمكننا التكلّم في الكنيسة عن سرّ الكهنوت، بِـمَعزلٍ عن كهنوت المسيح، الّذي يشترك فيه جميع المؤمِنين. إنّ الكهنوت ذو طابع وظائفيّ، أي أنّ كلّ مؤمن يُصبِح كاهنًا إن كان يسعى إلى تحقيق كهنوت المسيح فيه، فالملابس الكهنوتيّة والاعتراف الأُسقُفِي بكهنوت المؤمِن لا يَجعلان منه كاهنًا، لذا على كلّ مؤمِن أن يُفعِّل كهنوت المسيح فيه. إنّ المسيح هو الّذي قدَّم نفسه ذبيحةً، فَهوَ قد أصبح في الوقت نفسه الكاهن والذبيحة، وبالتّالي يمكننا التكلّم عن كهنوت المسيح. أمّا كهنوت المؤمِن فَهوَ نتيجة كهنوت المسيح، فالمؤمِن هو كاهنٌ مولود من الإفخارستيّا أي من الكأس، الّتي ترمز إلى الذبيحة الحقيقيّة أي يسوع المسيح. وبالتّالي، فإنّ كهنوتَ المؤمنين هو سرّ الشكر لله، فَلَولا سرّ الشكر، أي سرّ الإفخارستيّا، لَما احتاج المؤمِنون إلى سرّ الكهنوت. إنّ كلّ إنسان قَبِل المعموديّة، قد اشترك بالفعل ذاته، في كهنوت المسيح ذي الطابع الملوكيّ. إذًا، إنّ كلّ مؤمن هو كاهن، إذ يحمل كهنوت المسيح الملوكيّ، وهو ما يُميِّز أتباع يسوع إذ يُعلنونَه ملكًا أوحد عليهم. أمّا الكاهن الّذي يحتفل بالذبيحة الإلهيّة فَهوَ إنسانٌ يتمتَّع بالكهنوت الملوكيّ كسائر المؤمنين، لكنّه كُرِّس من قِبَل الله للخدمة. وبالتّالي، فإنّ ما يُميِّز الكاهن مِنْ سائر المؤمِنين ليس تفوّقه عليهم قداسةً أو ذكاءً، إنّما بِكَونِه قد كرَّس ذاته للخدمة مِن خلال خدمة المذبح الثابت: أي مِن خلال الوعظ والتّعليم بكلمة الله، وتوزيع جسد الربّ ودمه على المؤمنين، أي عبر المناولة من جهة، وتكريس ذاته، طول أيّام حياته، لخدمة المذبح المتحرِّك أي الإنسان من جهة أخرى. إنّ المؤمِن بالمسيح يصبح شريكًا في الدعوة الإلهيّة من خلال سَعيِه إلى تحقيق كهنوت المسيح فيه من خلال إعلانه لكلمة الله، فيُشِعَّ عندئذٍ عمل الله الخلاصيّ من خلاله.

إنّ كلمة الأمانة في اللّغة اليونانيّة pistos تعني الأمين، كما تعني المؤمِن في الوقت نفسه. إذًا، على المؤمِن أن يكون أمينًا في نقلِه لكلمة الله إلى الآخرين، وإلاّ تَحوَّل إلى مُتَدَيِّن. إنّ المؤمِن مؤتمَن على الدّعوة الإلهيّة الّتي أصبح شريكًا فيها. إنّ الدّعوة الإلهيّة تتمتّع بصفاءٍ وشفافيّةٍ لا حدود لهما، غير أنّه مِنَ الصَعب أن تُحافِظَ على شفافيِّتها هذه، بسبب أهواء الإنسان وضُعفِه. إنّ الله يعلم بأهواء البشر وضعوفاتهم، ولكنّه، على الرّغم من ذلك، قرّر أنْ يَضَعْ "مصيره" بين أيديهم، فَسَلَّمَهم كلمته، طالبًا منهم تناقُلَها فيما بينهم. وهنا، أودّ القول إنّه إنْ تَرَكَ المسيحيّون أرضَ المشرق، فإنَّ المسيح لن يبقى فيها وذلك بسبب عدم وجود شريكٍ له في الدّعوة الإلهيّة. إذًا، إنّ الهدف مِن بقاء المسيحيّين في الشرق، هو إبقاء المسيح فيه، إذ ليس وجود المسيحيّين مَن يَستطيع تغيير العالم إنّما وجود المسيح فيه، فَهوَ الوحيد القادر أن يُدخِل النّور إلى هذا العالم الـمُظلِم. إنّ المسيح هو الضمانة الوحيدة كي يتغيّر هذا العالم. لذا، تُلقى على المؤمنين بالمسيح، مسؤوليّة نقل البشارة إلى الآخرين بكلّ أمانة، وذلك لأنّهم شركاء في الدّعوة الإلهيّة، فعليهم المحافظة على نقاوتها وعدم تعريضِها للتّشويه بسبب الضعف البشريّ وأهوائه. إنّ على المؤمنين عدم التحجّج بخطاياهم، للتهرّب مِن هذه المسؤوليّة، فالله يَعلم بحالة الإنسان، وهو مُدرِكٌ أنّه وَضَع في هذه "الآنية الخزفية" أي الإنسان، "كنزًا ثمينًا" هو كلمة الله. إخوتي، إنّ كلّ معمَّد، ما إنْ يخرج من جُرن المعموديّة، حتّى يُصبح أهلاً لإعلان كلمة الله للآخرين، فالمسحة الّـتي ينالها في المعموديّة هي مَسحَةٌ إلهيّة، وهي مسحةُ الرّوح القدس. إنّ هذه المسحة الإلهيّة تخرج من لَدُن الله ولا تعود إليه إلّا وقد أنجزَتْ ما خرجَت للقيام به، فَهي لا تعود إلى الله فارغةً. إذًا، إنّ الإشكاليّة الّـتي نطرحها لا تتعلّق بمصير الله في الشرق بعد رحيل المسيحييّن، إنّما بمصير الإنسان في الشرق حين يتخلّى الإنسان عن الله.
إنّ هذه الرسالة تتكلّم عن أمانةِ المسيح لله الآب الّذي أقامَه مِن بين الأموات. ولا يُقصد بالأمانة ممارسة الطقوس الدينيّة، فهذه الرسالة لا تتكلّم عن الطقوس الدينيّة لأنّها موجّهة إلى العبرانيين، أي إلى الشعب الّذي يُدرِك جيّدًا كيفيّة عيش طقوسِه الدينيّة. إنّ كاتب الرسالة لم يَهدِف إلى إقامة مقارنة بين موسى والمسيح، بل أرادَ الإضاءة على علاقة الله بموسى وعلاقة موسى بالله. إنّ موضوع هذه الرسالة هو الأمانة لله، فَتَطرَّق الكاتب إلى أمانة موسى في كلّ بيته، فقال عنه إنّه "كان أمينًا كخادم، شهادةً للعتيد أن يُتَكلَّم به". في العهد القديم، تكلَّمَ موسى عن المسيح مُشيرًا إلى مجيء نبيّ "مِثْلَه" بَعدَه. إنّ كلمة "مِثَله"، لا تشير إلى وجود شَبَهٍ بين هذا النبيّ العتيد وموسى، إنّما تُشير إلى أنّ هذا النبيّ العتيد أي يسوع، سيأخُذ وظيفة موسى، الّـتي هي قيادة شعب الله إلى الخلاص. إنَّ فَشَلَ موسى في إيصال الشعب إلى الخلاص، لم يجعل الله يتردّد في استبدال موسى بنبيّ آخر هو يشوع، من أجل الوصول إلى هدفه ألا وهو خلاص الشعب. وعندما فَشِل يشوع أيضًا في إيصال الشعب إلى الخلاص، تمّت ترقِيَته، أي انتقاله إلى السّماء. إنّ الإنسان يبقى حيًّا طالما أنّه يحقّق ويخدم مشروع الله الخلاصيّ، وهذه هي الأمانة لله. إنّ الله يقوم بترقيَة كلّ إنسان قد أنهى دَورَه في مشروعه الخلاصيّ، إلى السّماء. إنّ ضعف الإنسان لا يجب أن يُحبِطَهُ، فطالما أنّ الإنسان ما زال على قَيْدِ الحياة، فهذا يعني أنّ الفرصة ما زالت أمامه ليُحاول تحقيق مشيئة الله في حياته، والعمل على تحسين عيوبِه. إخوتي، علينا التحلّي بهذا الرّجاء، بأنّ الحياة هي فرصةٌ لنا كي نتغيّر، فلا نيأسَنَّ من أوضاعنا، ولا نُدينَنَّ ذواتنا، بل نتعامل معها بكلّ رحمةٍ. إنّ الربّ يدين النّاس بالرّحمة، ولكنّ البشر أرادوا التشبّه بالله ولكنّهم فشِلوا إذ أعطوا لأنفسِهم حقَّ إدانة الآخرين وذواتهم، دون أن يتمتّعوا بالرّحمة الّتي يُعامل الله بها البشر. إخوتي، على المؤمِن أن يُعامل ذاته بالرّحمة، وإلّا وَقَعَ أسيرَ اليأس، فكلّ الأوضاع الحياتيّة السيئة الّـتي يُعاني منها المؤمِن تدفعه إلى اليأس من الحياة أو مِن ذاته، غير أنّه لا ييأس لثقته بأنّ الله لن يتركَه، وبأنّه سيُرسِل إليه الرّوح القدس، وهو سيعمل في داخله فيُغيِّره، ويساعده على تحقيق مشيئة الله في حياته. إنّ الشعب اليهوديّ قد يئسَ مِن وَضعِه في الصحراء، لذا لم يتمكّن مِن سماع صوت الله والانقياد له. أمّا الإنسان المؤمِن، فَهوَ مدعوّ إلى اتّخاذ العِبَر من مسيرة هذا الشعب، فلا يُقسِّي قلبه حين يسمع صوت الربّ في داخله، فَيَتمكّن روح الله القدّوس مِن التغيير في حياة الإنسان.
أراد الله أن يُحرِّر الشعب اليهوديّ من عبوديّتهم لفرعون في مِصر، لذا قام بدعوة موسى النبيّ من خلال العلّيقة الـمُلتَهِبة غير الـمُحترِقة، لـمُساعدتِه في هذا المشروع. إنّ العلّيقة الملتهبة غير المحترِقة، ترمز إلى العذراء مريم في العهد الجديد، إذ إنّها حمَلَت ابن الله في أحشائها مِنْ دون أن تحترق. سأل موسى الله عن هويّته ليتمكّن من إخبار الشعب باسم الإله الّذي أرسَله إليهم، فعرَّف الله عن نفسه لموسى قائلاً: "أهْيه أَشِر أَهْيِه". إنّ هذه العبارة العِبريّة تعني في اللّغة العربيّة "أكون الّذي أكون"، أي أنّ الله لم يُعطِ اسمه للشعب لأنّه يريد أن يكتشفه الشعب من خلال أعماله في حياتهم، لأنّه "إله حَدَث". إنّ الله لم يُعطِ اسمه للشعب كي لا يحفظه، فيَربُطَ الشعب الله بمكانٍ محدّد، فيتحوّل الله إلى إله مكانٍ أي إلى إله صنمٍ. إنّ الله رفض أن يكون إله مكان أي مُرتبطًا بمكانٍ محدّد يمكن زيارته من وقتٍ إلى آخر في رحلاتِ حجٍّ تُنَظّم لهذه الغاية. إنّ الله أراد أن يكون إله هذا الشعب في كلّ زمانٍ وكلّ مكان. إنّ المسيحيّين أعادوا الله إلى حالة مِنَ الصنميّة، إذ جعلوا مِنه "إله مكان" لا "إله حَدَث"، وأدخلوا على علاقتهم بالله الطابع الماديّ، فأصبحوا يحاولون استرضاء الله عبر تقديمهم له البخور والشمع وما إلى هنالك من تقادم... إنّ المسيحيّين يَسْعون إلى جعل الله إلهًا صَنَمًا يتقبّل العطايا والمدائح مِنَ الإنسان مِن دون اعتراض، جاعلين مِنه إلهًا لجماعةٍ محدّدة متواجدة في مكان محدّد. إنّ الله هو "إله حَدَث" وليس "إله مكان"، لذا هو يُعرِّف عن نفسه للشعب في الكتاب المقدّس على أنّه هو مخلِّصهم وخالقِهم. في الكتاب المقدّس، يتمّ استخدام عبارة "أنا الّذي" في تعريف الله عن نفسه. إنّ عبارة "الّذي"، تتطلّب ذِكرًا لحَدَث أو لعملٍ معيّن، وبالتّالي يريد الله أن يعرّف عن نفسه للشعب على أنّه إله حَدَث، أي أنّه يُعرِّف عن ذاته من خلال عمله في حياة الإنسان. إنّ الإنسان يحوِّل الله إلى صنمٍ، عندما يتناسى عمل الله في حياته. إنّ صورة الله الحقيقيّة بعيدة كلّ البُعدِ عن الصورة الّتي نرسمها عن الله في مخيّلاتنا وتصوّراتنا له. في القدّاس الإلهيّ، يردّد الكاهن من خلال الصّلوات، على مسامع الشعب كلّ قصّة الله مع شعبه، الموجودة في الكتاب المقدّس، أي أنّه يُذَكِّر الشعب بأنّ الله الّذي يعبُده هو خالق البشر، وأنّ البشر قد تمّردوا عليه، وأنّ الله كلّمهم بالأنبياء، وأنّه أرسَل في ملء الأزمنة ابنه الوحيد ليُخلّص البشر ويفتديَهم على الصّليب مِنَ العُصيان. إنّ كلّ آلهة الأمم في العهد القديم، كانت تُجسِّد أهواء البشر ومخاوفِهم، أمّا الله الحقيقيّ الّذي كان يعبده الشعب اليهوديّ، فهو إلهٌ مختلفٌ عن سائر الآلهة إذ لا يُجسّد أهواء البشر، وبالتّالي فإنّ صورة الله مختلفة كلّ الاختلاف عن تصوّرات البشر لله.
في الصحرّاء، طلب الله من موسى المثول أمام فرعون لِيَطلُب مِنه تحرير الشعب، كي يتمكّن هذا الأخير مِن عبادة الله في المكان الّذي يُحدّده الله له، ثمّ أضاف الله لموسى قائلاً إنّه سيُقسيّ قلب فرعون كي يرفض هذا الأخير طلب موسى. إنّ الله قد قسّى قلب فرعون لكي لا يجعل الشعب مِنْ فرعون شريكًا لله في الخلاص، فالربّ يريد خلاص الشعب مِنْ دون مساعدةِ أحد، فَهوَ الوحيد القادر على منح الخلاص للشعب. إنّ الله يحبّ الإنسان إلى حدّ أنّه لا يقبل أن يكون له شريكٌ في هذا الحبّ، ولذا أراد الله أن يُخلِّص الشعب مِن دون مساعدةٍ من أحد، تعبيرًا عن هذا الحبّ. إنّ الله أنانيّ في حبّه للبشر، وهو يعرض حبّه على البشر، فإنْ قَبَل البشر به، آمنوا به وأدّوا له العبادة، وإلّا أصبحوا رافضين لله ولحبّه الّذي لا مثيل له. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يُدرِك حبّ الله له من خلال المشاعر فقط، إنّما أيضًا من خلال العقل والقلب معًا، فالأحاسيس هي أصنام يصنعها الإنسان لِذاتِه. إنّ الأحاسيس الـمُفرَطة، تخلق عند الإنسان صورة خياليّة غير واقعيّة عن الله. عندما شعر الشعب اليهوديّ في الصحراء بالجوع، ألقى اللّوم في ذلك على موسى الّذي أخرجهم مِنْ مِصر، وهدّدوه بالعودة إلى مِصر إن لم يلبِّ لهم احتياجاتهم. في العهد القديم، كانت مِصر ترمز إلى الازدهار والغِنى، لذا كانت ملجأً للشعوب الّتي كانت تُعاني من المجاعات، إذ كانوا يقصدونها من أجل تلبية احتياجاتهم من الطّعام، والكتاب المقدّس يقدّم لنا بعض النماذج عن الّذين قصدوا مِصر، كإبراهيم وموسى ويوسف، وكذلك يسوع. إنّ يسوع لم يقصد مِصر بُغيَة الحصول على طعام، إنّما كي يقول للشعب اليهوديّ، إنّه بخروجِه من مِصر سيتَحقّق الخروج الحقيقيّ للشعب من العبوديّة، وسيتمّ تحريره.
اعترض موسى على اختيار الله له ليعظ النّاس، كونَه كان بطيء اللّسان أي أنّه كان يُعاني من "التأتأة"، غير أنّ الله لم يتراجع عن اختياره لموسى، لكنّه فرز هارون، لمساعدة موسى في المهمّة الّـتي أوكلها إليه، فأصبح هارون نبيًّا لموسى، أي مُتكلِّمًا باسمه. إنّ موسى قد عرض لله معاناة الشعب وامتِعاضِهم مِنْ عدم توفُّر الطعام، فَما كان مِنَ الله إلّا أن أَرسِل إليهم في الصحراء الـمَنّ والسلوى. إنّ الصحراء ترمز إلى الموت، إذ لا مأكل فيها ولا مشرب؛ وفي قلب هذا الموت، أراد الله أن يبعث الحياة إلى شعبه، عبر الـمَنّ والسلوى. إنَّ تجميع الشعب للمأكل في الصّحراء، كان سيُشكِّل حُجّةً لهم، لينكروا أنّ الله وحده هو مَن خلّصهم، وليُعلنوا اشتراكِهِم في خلاصهم الشخصيّ، لذا كان الطّعام المتبقّي لليوم التّالي يَفسُد. إنّ الله أراد أن يُعلِّم الشعب من خلال إفساد الطّعام المتبقّي أنّه الوحيد القادر على الاهتمام بهم في كلّ زمانٍ وكلّ مكانٍ، دون وجود شريكٍ له في ذلك، وبالتّالي كان على الشعب أن يُدرِك من خلال هذا العمل أنّ الله هو مخلِّصُهم الأوحد. إنّ الشعب كان يهدّد موسى بالعودة إلى مِصر، أرض العبوديّة، كلّما اعترضَتْه الصّعوبات، وبالتّالي أراد الشعب مِن الله أن يتعامل معهم كما كان يتعامل معهم فرعون أي كسيِّدٍ له الأمر النّاهي. إنّ كلّ مَن يُطعمك يصبح سيّدًا لك، وبالتّالي فإنَّ عمله هذا سيُشعرك بضرورة الخضوع له، حتّى وإن لم يكن ذلك ضمن نواياه.

إنّ يسوع قد تعرّض للتّجارب نفسها الّتي تعرّض لها الشعب في الصّحراء: فإبليس قد جرّب المسيح أوّلاً مِنْ خلال طلبه مِنه تحويل الحجارة إلى خبز فيُعلن مجده للشعوب كلّها، فتسجد له. إنّ عدم انصياع الله لطلبات إبليس لا يُعبِّر أبدًا عن عدم مقدرة يسوع على إنجاز تلك الأعجوبة، إنّما يُعبِّر عن قراره عدم الخضوع إلّا لله الآب وحده دون سواه. إنّ إبليس عاد مرّة أخرى، ليُجرِّب المسيح يسوع طالبًا مِنه أن يسجد له، كي يُعطيه ممالك هذا العالم. هذه التجربة عاشها الشعب في الصّحراء، حين قرّروا صناعة العِجل المذَهَّب والسّجود له، عندما تأخّر موسى للنزول مِنَ الجبل عند استلامه لَوْحَي الوصايا. إنّ الشعب لم يُرِد مِنْ خلال هذا العِجل الّذي صنعوه بأيديهم، إعطاء صورة لله كي يتمكّنوا من عبادة الله بشكل أفضل، بل أرادوا تحويل الله إلى صنمٍ. إنّ الله رحوم وغفور، يستطيع مغفرة كلّ الخطايا إلّا واحدة، وهي تحويل اللهَ إلى صنمٍ. إنّ مشكلة إسرائيل مع الله تكمن في رفضه للماء الحيّ الّذي يقدِّمه الله لهم، وبَحثِه عن آبار مشقّقة لا ماء فيها، مِنْ دون التمكّن من إيجاد نبع ماءٍ حيّ حقيقيّ آخر. لذا، فإنّ خطيئة هذا الشعب هي خطيئة مُضاعفة، لأنّه لم يترك اللهَ بُغيَة إتّباع إلهٍ آخر قادر على الاهتمام به بطريقة أفضل من الله، إنّما ترك اللهَ من أجل السّعي خلفَ أوهامٍ وآلهة غير قادرة على تقديم شيءٍ له. إنّ الكتاب المقدّس لا يتكلّم عن صراع بين آلهة متعدّدة، فصراع الله لم يكن مع إله فرعون، بل كان صراعه مع فرعون، المخلوق البشريّ كسائر البشر، وذلك لأنّ الشعب قد استبدل الله بفرعون. إنّ إله فرعون غير موجود، لذا لا وجود لصراعٍ بين آلهة، إذ لا إله إلّا الله بِحَسب الكتاب المقدّس. إنّ سفر الخروج، لا يتكلّم عن صراعٍ بين موسى وفرعون، بل عن صراع الله مع فرعون. إنّ الله قد شقّ البحر الأحمر كي لا يغرق الشعب، فهو لا يريد هلاكهم إنّما خلاصهم. إنّ هدف الله مِن شقّ البحر لم يكن من أجل إظهار قوّته الخارقة، إنّما من أجل إدراك الشعب دون أيّ شك، أنّ الله هو مخلِّصهم من العبوديّة، دون أيّ شريك له، إذ لا دور لموسى ولا للشعب في خلاصهم وعبورهم البحر الأحمر. إنّ الشعب لم يتمكّن من عبور البحر مستندًا على قوّته الذاتيّة ومهاراته كالسباحة مثلاً، إنّما مستندًا على الله وقوّته دون سواها، ودون وجود أيّ شريك بشريّ أو إلهيّ له. إذًا، هذه هي الأمانة لله، أنْ يشعر الإنسان أنَّ لا مُعين له، ولا خلاص له دون الله، وهذا ما عاشه يسوع إذ لم يُسْنِد إلى ذاته، الاشتراك في تحقيق خلاص البشر، فَهوَ كان يَنسبُ كلّ حَدَث الخلاص إلى الله وحده دون سواه. إنّ يسوع قال في مَوضِعٍ واحد: "إنّ أبي يعمل وأنا أيضًا أعمل"، وفي حديثه هذا لم يقصد حَدَث الخلاص، بل قَصدَ أنَّ الله هو المسؤول عن خلاص الإنسان، وهو أي يسوع كإنسان يُشارك الله في عملِهِ الخلاصيّ.

على المؤمِن ألّا يُقسّي قلبه، حينَ يسمع صوتَ الله، لئلاّ يُصبح كالشعب اليهوديّ حينَ كان في الصحراء، فَهو قد ضلَّ في قلبه، وأضاع طريقَ الله. وبالتّالي، إنّ كلّ إنسانٍ يعيش في حالةِ ضياعٍ داخليّة، يُصبح غير قادر على معرفة الطريق الصحيح الّذي عليه أن يسلكه. إنّ كلمة "قلب" في اللغة العبريّة تعني: "اللّب"، وهذه الكلمة لا تُشير إلى جزءٍ معيّن في جسم الإنسان بل تشير إلى كيانه كلّه. إنّ الإنسان في هذا العالم يعيش تحدّيًا عظيمًا جدًّا، إذ عليه أن يُحاول باستمرار تمييز صوت الله مِنْ بين أصوات هذا العالم وضجيجه، والانصياع له، فلا يُقسّي قلبه، وبالتّالي لا يُضلّ الطريق. إنّ عدم دخول الإنسان في راحة الربّ لا يُعبِّر أبدًا عن عقاب الله للإنسان كونه لم يكن أهلاً للدّخول في مشروع الله الخلاصيّ، إنّما هو نتيجة ضلال الإنسان لطريق الله، وبالتّالي هو نتيجة قساوة قلبه وعدم سماعه لصوت الربّ. إنّ كلام الفيلسوف الإيطالي "ماكيافيللي" عن أنّ الغاية تُبرِّر الوسيلة لا يَصُّح إلّا في الله، إذ إنّه الوحيد الّذي يحقّ له أن يستخدم كلّ الوسائل في سبيل تحقيق مشروعه ألّا وهو خلاص البشر، وما قصّة يعقوب وعيسو إلاّ خير مثال عن ذلك. في العهد القديم، كانت تُعطى البركة للبِكر على حَسَب ما أمَر به الله الشعب. غير أنّ في قصّة عيسو، نجد أنّ احتيال الإنسان وُظِّف لخدمة مشروع الله الخلاصيّ، فنرى أنّ البركَة قد مُنِحت ليعقوب نتيجة تلاعب الإنسان، فقَبِل الإنسان بذلك، ولم يسمح لألاعيب البشريّة بعرقلة مشروعه، فَما يهمّ الله هو إكمال مشروعه الخلاصيّ للبشر على الرّغم مِنْ كلّ شيء.
إنّ كلمة الله قادرة على أن تحصِر الإنسان ولكنّها غير قادرة على أن تحصِر الله وتَحُدَّه، وبالتّالي لا يحقّ للإنسان أنْ يلوم الله على أعماله الإلهيّة. في أغلب الأحيان، يوجِّه الإنسان اللّوم لله على أمورٍ سّيئة قَدْ حصلت، ولا علاقة لله بها. إنّ الله يحبّ الإنسان، لذلك يتقبّل لومَه في أمور كثيرة لا علاقة له بها، لكنّه ينتظر الإنسانَ بشوقٍ متأمِّلاً عودته إلى حضن الله بعد زوال الصعوبات والـمِحَن الّتي يمّر بها. إنّ الله لا يتصرّف كالبشر، بل هو يتصرّف بطريقة معاكسة تمامًا لهم. إنّ الإنسان يتمتّع بالتقوى المزيّفة إذ يتظاهر أنّه يتناسى خطايا إخوته البشر، فَهُوَ لا يستطيع مسامحة الآخرين على أذيّتهم له، غير أنّ الله يسامح الإنسان وينسى كلّ خطاياه تجاهه ما إن يعود إليه تائبًا. إنّ القلب الشرير لَهوَ علامة على عدم الإيمان. إنّ الله لم يُعطِ الحقّ للإنسان بإدانة أخيه الإنسان على قلبه الشرير، فالله هو الوحيد القادر على إدانة النّاس لأنّه يعلم خفايا القلوب. إنّ الآية الثانية عشرة من هذا الإصحاح من رسالة العبرانيين، لا تُشكِّل دعوة للمؤمن لإدانة الآخرين على قلوبهم، إنّما على العكس، فَهي دعوة للإنسان كي يسهر على قلبه فلا يتحوّل قلبه إلى قلبٍ قاسٍ شريّر، فيبقى قلبه قلبًا حيًّا ينبض بالحياة والخير.

إنّ العظة هي إعلان كلمة الله في زماننا الحاضر، وبالتّالي فإنَّ العظة تتوجّه إلى كلّ مؤمِن يسمعها اليوم، وتدعوه لكي يبقى أمينًا لصوت الله وللدّعوة الإلهيّة التّي اشترك بها وللاستعداد للمثول أمام الله، بكلّ أمانة في اليوم الأخير. إذًا، السؤال الّذي يُطرَح علينا اليوم، هل نحن نقبل الاشتراك في هذه الدّعوة الإلهيّة الموجّهة إلينا، أم لا؟ إنّ الله سيتقبّل حريّتك واختيارك، ولن يُعاقِبَك على ما اخترت. إنّ رحمة الله أكبر من خطايانا السّاكنة في أفكارنا، لذا لا نسمَحنَّ إخوتي أن تغلب الخطيئة على رحمة الله لنا من باب التقوى المزيّفة، أي عندما نتحجّج بعدم استحقاقنا لرحمة الله لنا إذ إنّنا خطأة. إنّ كافّة البشر هم غير مستحّقين لرحمة الله لهم، غير أنّ الإنسان المؤمِن هو مَن يُعلن عن استعداده لقبول رحمة الله في حياته، ويتحمّل مسؤوليّته في ذلك. إنّ كلام بولس عن استحقاق الإنسان لتناوُلِ جسد الربّ ودمه، لا يقصد به، وصول الإنسان إلى حالة من القداسة كي يتقرّب مِنْ جسد الربّ ودمه، إذ في هذه الحالة لن يتقرّب أحد من المناولة، بل إنّ ما قصده بولس في كلامه، هو أنّه على الإنسان أن يُميِّز بين جسَد الربّ وسائر المأكولات، فيتقربّ منه بكلّ خشوع وانسحاق قلب. إنّ الإنسان القادر على التمييز بين جسد الربّ وسواه من المأكولات، هو إنسان مستحقّ لتناول جسد الربّ، وأمّا مَن لا يستطيع التمييز، فالأفضل له ألّا يتقرّب مِن جسد الرّب ودمه. إنَّ مَنْ يستطيع أنْ يُميِّز جسد الربّ، لن يسمح لشعوره بعدم الاستحقاق مِن أنْ يمنعه مِنَ التقرّب مِنْ عطيّة الربّ المجانيّة هذه، حتّى وإنْ كانَ خاطئًا. إنّ الإنسان الّذي يتقبّل عطيّة الله المجانيّة هذه، يسعى ويجهد كي يتحمّل المسؤوليّة الّتـي تُلقيها على عاتقه تلك العطيّة المجانيّة، أمّا مَن يريد التهرّب من المسؤوليّة، فَهوَ يتذرَّع بحجّة عدم استحقاقه لتَناوُلِ جسَد الربّ ودمه. إذًا، على المؤمِن، أن يتقرّب مِنَ المناولة الإلهيّة كالعبد الفقير الّذي ينتظر بشوقٍ عطيّة الله المجانيّة له، ويسعى في المقابل إلى محاولة التخلُّص من خطاياه قدر الـمُستطاع، أي إنّه لا يجب التهربّ مِنَ المناولة الإلهيّة بحجّة حالة الخطيئة الّتي ينغمس فيها الإنسان. عندما يتناول الإنسان جسد الربّ، عليه أن يُدرِك أنّه اتّحد بالمسيح، وبالتّالي أصبحَ مُشاركًا له في ميراث الله. إنّ المسيح البارّ الّذي لم يرتكب إثمًا والّذي مات بسبب الحبّ والإخلاص والوفاء، رَضيَ أن يشارِكَه البشر ميراثه، هُم الّذين لا يتوانون عن الخيانة والغدر، وارتكاب الآثام. لقد مات المسيح على الصّليب، لأنّه رفَضَ خيانة أمانته لله. إنّ كلام المسيح وحياته كلّها، لا يستطيع أن يكون مدعاة خيبة أملٍ بالنسبة لله، فالمسيح ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها الله الآب. أمّا الإنسان، فَقَدْ يشعر بخيبة أملٍ نتيجة حصول أخيه الإنسان على أكثر ممَّا حصل هو عليه. إن الاشتراك بميراث المسيح، هو أمرٌ مؤكّد عند المؤمِن الّذي يَضع ثقته بالله. إنّنا نقرأ في سفر الرؤيا عن ملامة الله لأحد ملائكة الكنائس السبع، على نسيانِه لمحبّته الأولى لله. إنَّ جميع الّذين أغضبوا الله في الصحراء، ماتوا في خطاياهم. وكاتب رسالة العبرانيين، أقام مقارنة بين العهد الجديد والعهد القديم، في موضوع أمانة الشعب لله، كما أراد أن يُذَكِّر المؤمِن بأنّ رحمة الله له، وعطاياه هي الّتي تجعله في حالة النّعمة، والاستحقاق لتناول جسدِ الربّ ودمه.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبلنا بتصرّف. تتمة...