البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
3/3/2015 إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول - الإصحاح السادس فصح جديد وعبورجديد
https://youtu.be/RDa1nfvDgxE

تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول
الإصحاح السادس
الأب ابراهيم سعد

3/3/2015

سنبدأ، اليوم، بالإصحاح السّادس من إنجيل يوحنّا وهو، كما سبق وقلتُ، مركز الإنجيل حيث يتكلّم على فصح جديد وعبور جديد. في الفصح اليهوديّ، يَعْبُر يسوع. الفصح عند اليهود يعني العبور من فعل فَصَحَ أي عَبَرَ، عندما عَبَروا البحر تارِكين مصر الّتي كانت ترمز إلى العبوديّة. لقد انتقلوا بواسطة المياه إلى الصّحراء ثمّ إلى الأرض الّتي اصطحبهم إليها الله كي يعبدوه. إذاً سبب وجودهم على هذه الأرض هو كي يعبدوا الله وليس كي يكون لهم أرض ودولة. في الكتاب المقدّس، لا وجود لِكلامٍ على وعد الله لليهود بإعطائهم دولة كما يقولون الآن، إنّما أعطاهم مكاناً كي يعبدوه من دون خجل وخوف من عبادات أخرى. ففي مصر، كان الفرعون يفرض عليهم عبادة إله مصر، كما كان يُفرض على البابليّين عبادة إله بابل وكذلك الآشوريّين. لقد حرّرهم الله من هذه العبادات إلّا أنّهم شعروا بالحنين إليها وراحوا يُهدّدونه بأن يعودوا إلى عباداتهم السّابقة إن لم يُنفّذ طلباتهم. هذا هو المفهوم الرّوحيّ لكلمة "زنى" في الكتاب المقدّس أيّ تَرْك الإله الحيّ حتّى لو لم تتبعوا غيره فالتّرك كافٍ كي تحصل الخيانة. يُعيد إنجيل يوحنّا صياغة التّاريخ بمختصر البشريّة الّتي تطيع الله أيّ يسوع الّذي يُخلّصها.
يقول: "بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل، وهو بحر طبريّة وتبعه جمع كثير لأنّهم أبصروا آياته الّتي كان يصنعها في المرضى (هؤلاء تبعوه لأنّه صنع عجائب كثيرة ويالتّالي يُمكن أن يتركوه في أي وقت) فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه، وكان الفصح، عيد اليهود،
قريباً (تذكّروا صعود موسى إلى الجبل وحصوله على الوصايا بينما يسوع يصعد إلى الجبل لِيُعطي الوصايا إذاً هو الله والتّلاميذ هم موسى فيأخذون الوصايا) فرفع يسوع عينيْهِ ونظر فرأى جمعاً كثيراً مقبلاً إليه، فقال لفيلبُس: من أين نبتاع خبزاً لِيأكل هؤلاء؟ وإنّما قال هذا لِيمتحنه، لأنّه هو عَلِمَ ما هو مُزمِع على أن يفعل. أجابه فيلبُس: لا يكفيهم خبز بِمئتَيْ دينار لِيأخذ كلّ واحد منهم شيئاً يسيراً. قال له واحد من تلاميذه، وهو إندراوس أخو سمعان بطرس: هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان، ولكن ما هذا لِمثْل هؤلاء؟ فقال يسوع: اجعلوا النّاس يتّكئون. وكان في المكان عشبٌ كثير، فاتّكأ الرّجال وعددهم نحو خمسة آلاف. وأخذ يسوع الأرغفة وشكر، ووزّع على التّلاميذ، والتّلاميذ أعطوا المُتّكئين."
تُلاحظون، هنا، أنّ يسوع يُعطي تلاميذه والتّلاميذ بدورهم يُعطون النّاس. فَدور التّلميذ أو الرّسول هو أن يوصل ما أعطى سيّده بأمانة. مشكلتنا في الماضي والحاضر والمستقبل هي الأمانة في إيصال أيّ أمر، فيجد الإنسان صعوبةً في أن يقبل، طوعًا، بالاختفاء، ونحن نكره الموت، لذلك يخاف الإنسان أن يختفي. إذاً دور التّلاميذ هو أن يوصلوا الطّعام إلى النّاس الّذين أجلسهم يسوع على العشب كالغنم إذاً هناك راعٍ والرّاعي، في الإصحاح السّادس، هو يسوع وسترَونها، في الإصحاح العاشر، بشكل أوضح حيث يقول: "أنا هو الرّاعي الصّالح".
يُتابع: "فلمّا شبعوا، قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة كي لا يضيع شيء (من عطيّة الرّبّ) فجمعوا وملأوا اثنتيْ عشرة قفّة من الكسر، من خمسة أرغفة شعير، بقيت عن الآكلين". نجد، هنا، رموزاً عديدة، أطعمت خمسة أرغفة خمسة آلاف شخص وفضِل منها اثنتا عشرة سلّةٍ: الرّقم 12 هو رمز الكليّة فعدد قبائل إسرائيل هو اثنا عشر أيّ كلّ إسرائيل كما عدد الرّسُل هو اثنا عشر أيّ كلّ الكنيسة. إذاً فضلات الخبز تُطعم الكلّ من دون استثناء فالمسألة هي في قبولك بعطيّة الله أو عدم قبولك بها.
يُتابع: "فلمّا رأى النّاس الآية الّتي صنعها يسوع قالوا: إنّ هذا هو في الحقيقة النّبيّ الآتي إلى العالم" ولم يقولوا "نبيّ". (فكأنّهم ينتظرون مجيء أحدهم وهو النّبيّ. هنا، نعود إلى الإصحاح الثّامن عشر من سفر تثنية الاشتراع حيث كان موسى يُلقي خطابه الوداعيّ قائلاً إنّ الله سيُرسل لكم نبيّاً، هذا هو النّبيّ، هذا هو وعد الله) أمّا يسوع فحين عَلِمَ أنّهم مُزمِعون على أن يأتوا ويختطفوه لِيجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده." هم يعتقدون أنّ الله سيُرسل إليهم أحداً ليُصبح ملكاً، لكنّ تصميم هذا الملك اليهوديّ مثل داوود أو أيّ ملك سيصنع مملكةً أرضيّةً، ولكنّ الله لن يُعيد الكرّة ففي العهد القديم كان هناك ملك وقد قادهم إلى الهاوية، إضافةً إلى أنّهم نسَوْا الملك الحقيقيّ أيّ الله. هنا، تكمن خطورة كلمة "الوكيل"، فالملك هو وكيل الله على الأرض لذلك أصبحوا يهتمّون بإرضاء الملك بدلاً من إرضاء الله، والملك، بدوره، أصبح يتصرّف وكأنّه الله بدلاً من القيام بوظيفته وهي أن يعكس صورة الله على الأرض وهي، بحسب الكتاب المقدّس، الرّحمة، العدل، الانصاف... أمّا الملك فكان يعكس صورة الله من منظار آخر أيّ القدرة والتسلّط. لذلك لم يعد يهتمّ بالفقراء ولكن بتثبيت مملكته بحقّ القوّة وليس بقوّة الحقّ. وهنا، يُريدون أن يجعلوا يسوع مثل أيّ ملك سابق، فهرب منهم واعتزل. هذا هو عمله الأوّل في هذا الإصحاح، أمّا العمل الثّاني فهو معجزة السّير على المياه.
يُتابع: " ولمـّا كان المساء، نزل تلاميذه إلى البحر فدخلوا السّفينة وكانوا يذهبون عبر البحر إلى كفرناحوم. وكان الظّلام قد أقبل، ولم يكن يسوع قد أتى إليهم. وهاج البحر من ريحٍ عظيمةٍ تهبّ. فلمّا كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة (أيّ مسافة طويلة)، نظروا يسوع ماشِياً على البحر مُقترِباً من السّفينة، فخافوا فقال لهم: أنا هو، لا تخافوا، فرضوا أن يقبلوه في السّفينة. وللوقت صارت السّفينة إلى الأرض الّتي كانوا ذاهبين إليها. وفي الغد، لمّا رأى الجمع الّذين كانوا واقفين في عبر البحر أنّه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة، وهي تلك الّتي دخلها تلاميذه، وأنّ يسوع لم يدخل السّفينة مع تلاميذه بل مضى تلاميذه وحدهم. غير أنّه جاءت سُفُن من طبريّة، إلى قُرب الموضع الّذي أكلوا فيه الخبز، إذ شَكَرَ الرّبّ. فلمّا رأى الجمع أنّ يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه، دخلوا هم أيضاً السُّفُن وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع."

هبّت الرّياح في البحر وضربت أمواجُهُ السّفينةَ، تلك الأمواج تعني العدوّ والخطر والموت، فمن دون يسوع يبقى الخطر والموت، ولكن عندما يأتي، تهدأ الأمور، فهو وحده له سلطة على البحر. إذاً كما حصل مع موسى حين فتح له الله مياه البحر لِيمرّ بأمان، كذلك يسوع جعل المياه يابسةً وسار عليها كأنه يمشي على طريق. قدرة يسوع وقوّته تُعطيانك الأمان والسّلام، ولكن، هنا، السّؤال: "ماذا يحلّ بك من دونه؟"
يُتابع: "ولمّا وجدوه في عبر البحر، قالوا له: يا معلّم، متى صرتَ هنا؟ أجابهم يسوع وقال: الحقّ الحقّ أقول لكم: أنتم تطلبونني ليس لأنّكم رأيتم آيات، بل لأنّكم أكلتم من الخبز فشبعتم، إعملوا لا للطّعام البائد، بل للطّعام الباقي للحياة الأبديّة الّذي يُعطيكم ابن الإنسان، لأنّ هذا الله الآب قد ختمه. (وبالتّالي، عندما مرّ الشّعب اليهوديّ كان جائعاً فأعطاهم الله المَنّ الّذي لا يصلح أكله في اليوم التّالي. أمّا، هنا، فيقول لهم إنّه سيُعطيهم خبزاً مختلفاً تماماً.) فقالوا له: ماذا نفعل حتّى نعمل أعمال الله؟ أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالّذي هو أرسله.
لقد قال أمراً غريباً وهو أنّ العمل هو أن تؤمن، فلم يعد هناك فرق بين الأعمال والإيمان. العمل الّذي تصنعونه هو أن تؤمنوا بالمسيح والمطلوب منكم هو أن تقبلوا، تأخذوا، تأكلوا. أمّا إذا لم تفعل هذا فذلك يعني أنّك لا تُريد الله. مشكلة العمل، بمعزل عن فكرة الإيمان، هي أن تردّك إلى اليهوديّة.
يُتابع: "فقالوا له: فأيّة آية تصنع لِنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المنّ في البريّة، كما هو مكتوب، أنّه أعطاهم خبزاً من السّماء لِيأكلوا. فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم: ليس موسى من أعطاكم الخبز من السّماء، بل أبي يُعطيكم الخبز الحقيقيّ من السّماء لأنّ خبز الله هو النّازل من السّماء الواهِب حياةً للعالم. فقالوا له: يا سيّد، أعطِنا في كلّ حين هذا الخبز. فقال لهم يسوع: أنا هو خبز الحياة، مَن يُقبِل إليّ فلا يجوع، ومَن يؤمن بي فلا يعطش أبداً، ولكنّي قلتُ لكم إنّكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون، كلّ ما يُعطيني الآب فإليّ يُقبِل، ومَن يُقبِل إليّ لا أُخرِجه خارِجاً لأنّي قد نزلتُ من السّماء لا لِأعمل مشيئتي، بل مشيئة الّذي أرسلني وهذه مشيئة الآب الّذي أرسلني: إنّ كلّ ما أعطاني لا أُتلِفُ منه شيئاً، بل أُقيمه في اليوم الأخير لأنّ هذه مشيئة الّذي أرسلني: إنّ كلّ ما يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبديّة، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير."
عندما كان في البحر، قال لهم: "أنا هو، لا تخافوا"، كما عندما ظهر الله لِموسى في العُلّيْقة في البريّة فقال له "أنا هو الله". هكذا قال يسوع "أنا الله، أنا هو الّذي تعبدونه، أنا اقدّم لكم نفسي لا الخبز العاديّ".
منذ قليل، تكلّمنا على المياه، فقد عبروا عليها أمّا الآن فقد تكلّمنا على الخبز. المياه تعني المعموديّة والخبز يعني الإفخارستيّة. إنجيل يوحنّا هو إنجيل ليتورجيّ والإصحاح السّادس منه هو إصحاح ليتورجيّة، يحتوي على سرّيْن وهما المعموديّة والإفخارستيّة. إذاً العمل الّذي عليك أن تصنعه هو أن تؤمن بيسوع وتقبل به فتعتمد وتأكل من الخبز الّذي يُعطيك إيّاه الله، والخبز هو "أنا". فأنتَ عندما تأكل الخبز، يتحوّل إلى جسدك ولكن عندما تأكل "يسوع" أنتَ تتحوّل وتُصبح هو. مفهوم الخبز النّازل من السّماء، ويقول يسوع: "أنا هو الخبز الحيّ"، هو أوسع من المناولة، هو أن تأكل على مائدة الآب الحَمَل المذبوح، وهو الابن، كي تتحوّل إليه فتُصبح ابن الآب. ليس الهدف من هذا أن تُصبح من دون خطايا بل أن تتحوّل فتُصبح ابناً للآب أي وريثاً لمملكته.

يُتابع: "فكان اليهود يتذمّرون فيه لأنّه قال: أنا هو الخبز الّذي نزل من السّماء وقالوا: أليس هذا هو يسوع ابن يوسف، الّذي نحن عارِفون بأبيه وأمّه؟ فكيف يقول هذا: إنّي نزلتُ من السّماء. فأجاب يسوع وقال لهم: لا تتذمّروا منّي ما بينكم، لا يقدر أحد أن يُقبِل إليّ إن لم يجتذبه الآب الّذي أرسلني، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير. إنّه مكتوب في الأنبياء: ويكون الجميع متعلّمين من الله. فكلّ مَن سمع من الآب وتعلّم، ويُقبِل إليّ، ليس أنّ أحداً رأى الآب إلّا الّذي من الله. هذا قد رأى الآب. (واحد قد رأى الآب هو يسوع. تذكّروا الإصحاح الأوّل: "الله لم يرَهُ أحد قط، الابن الوحيد الّذي في حِضن الآب هو الّذي فسّر وخبّر") الحقّ الحقّ اقول لكم: مَن يؤمن بي فَلَهُ حياة أبديّة، أنا هو خبز الحياة، آباؤكم أكلوا المنّ في البريّة وماتوا، هذا هو الخبز النّازِل من السّماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الّذي نزل من السّماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الّذي انا أُعطي هو جسدي الّذي أبذله من أجل حياة العالم (هذا الكلام أشبه بالقدّاس الإلهيّ) فَخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلينَ: كيف يقدر هذا أن يُعطينا جسده لِنأكل؟ فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. مَن يأكل جسدي ويشرب دمي فَلَهُ حياةٌ أبديّةٌ، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير لأنّ جسدي مأكلٌ حقّ ودمي مَشْرَبٌ حقّ، مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثْبُت فيّ وأنا فيه، كما أرسلني الآب الحيّ، وأنا حيّ بالآب، فَمَن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبز الّذي نزل من السّماء. ليس كما أكل آباؤكم المنّ وماتوا. مَن يأكل هذا الخبز فإنّه يحيا إلى الأبد. قال هذا في المَجْمَع وهو يُعلّم في كفرناحوم."
لقد عَلَّمَ هذا التّعليم في المَجْمَع حيث يُعَلَّم النّاموس اليهوديّ، لقد أعطاهم ناموساً جديداً.
ما معنى مَن يأكل جسدي ويشرب دمي؟ "جسد"، في اللّغة السّاميّة أيّ العِبريّة، هو الشّخص أو الحُضور. إذاً عندما تتكلّمون على "جسدي" يعني "حُضوري"، وعندما تتكلّمون على "دمي" يعني أنّ إذا أحدهم هُرِق دمه أيّ مات أمّا إذا كان دمه في داخله يعني أنّه حيٌّ. إذاً يسوع يُعطيهم حضوراً وحياةً.

أنتَ، خلال القدّاس، تتناول جسد ودم الرّبّ ولكن ليس بهذه البساطة يتحوّل الخبز إلى جسد والخمر إلى دم وإنّما تتناول يسوع المسيح على شكلَيْ الجسد والدّم، وهذا يسوع المسيح هو الّذي أرسله الله وهو كلمة الله وبالتالي، أنتم تتناولون كلمة الله النّازِلة من السّماء والأزليّة. "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". إذا تناولتَ كلمة الله وقبلتَ بها ستُصبح ابناً تأكل على مائدة أبيك حيث طعامٌ واحدٌ هو الحَمَل، يسوع، وتكتفي. لذلك أجرى مقارنةً بين المنّ الّذي تأكلونه كلّ يوم ويزول وبين كلمة الله الّتي إذا تناولتموها تُصبحون في حياة أبديّة. هنا، هو لا يُركّز على حياتك اليوميّة ولا على موتك لأنّه أصبح هناك ما هو أسمى وهو الحياة الأبديّة. إذاً أنتَ تتذوّق الحياة الأبديّة ابتداءً من الآن، أيّ أصبحتْ كلمة الله الّتي قيلت وأُهرِقت، تسري في دمك، فيكون فيك شيء لا نهاية له حتّى لو أنتَ انتهيتَ، وهو حياة الله الموجودة في داخلك. لذلك تُصبح مُحصّناً ضدّ أيّ هجوم أو عمل يجعلك أسيراً أو عبداً لغير الله بسبب حبّة الحياة الّتي تأخذها، وقد حرّرتك من أيّ عبوديّة. أنتم تعرفون الحقّ والحقّ يُحرّركم، فما هو سبب حنينكم إلى الماضي؟ هذه هي المشكلة في إنجيل يوحنّا وهذا هو صراع يسوع مع اليهود.
بِحسب التّقليد الغربيّ، يُمكن للكاهن أن يحتفل بالذّبيحة الإلهيّة لِوحده في غرفةٍ أمّا بحسب التّقليد الشّرقيّ فذلك غير ممكن، لأنّ كلّ كلام على خبز الحياة يجب أن يتمّ في الجماعة، لأنّ عمل الله هو لِخلاص الجميع. وبالتّالي مفهومك لهذا الموضوع هو كلّما نظر الله إلى أحد على الكرة الأرضيّة سيكون ذلك عملك أيّ أن يكون ذلك الشّخص من عائلة الآب. كلّ كلام على مناولة في الإفخارستيّة، تُحقّقه من خلال علاقتك مع الجالِس إلى جانبك، فأنتَ لستَ في عائلة الآب لِوحدك بل مع كثيرين. وبالتّالي كلّ عمل إفخارستيّ، على هذا اللّاهوت أن يتحقّق فيه عند حضور مجموعة. ما صنعه الله بك من حبّ أنتَ تأخذه وتُعطيه إلى الآخر. خلال القدّاس، في اللّيتورجيّتيْن الشّرقيّة والغربيّة على حدّ سواء، لا يُمكنكم إعطاء السّلام، مثلاً، إلى أحد غير موجود. إذاً عليك أن تكون في شركة كي تُحقّق عائلة الله وملكوته وهو لا يتألّف منك وحدك بل تكون مع أشخاص ليسوا من اختيارك بل من اختيار الله وهم، بشكل خاصّ، الّذين جعلوك تتألّم. هؤلاء سيأكلون الطّعام نفسه الّذي تأكله وإضافةً إلى ذلك، سيكونون ورثاء الله مثلك تماماً. عندما يقول الكاهن "لِنُحبّ بعضنا بعضاً" يقصد بهذا النّاس، وبحسب التّقليد الشّرقي "لِنحبّ بعضنا بعضاً لِنعترف" إذاً المحبّة سبقت الاعتراف بالإيمان وتأتي بعد الإنجيل في العظة. أيّ أنتَ خلال قراءة الإنجيل والعظة، تقبل بكلمة الله فتُصبح ابناً وحتّى يراك الله ابناً ويفرح بك، لا ينظر إلى أعمالك وما قدّمته له بل إلى محبّتك للآخر. عندما يتأكّد من محبّتكم، تعترفون بإيمانكم، وبعدها يُمكنكم أن تتناولوا على مائدته. وعندما ينتهي القدّاس، تخرجون من الكنيسة وما أخذتموه يبقى في داخلكم، خبز الله النّازِل من السّماء، وبالتّالي لا يُمكنكم أن تتصرّفوا وكأنّكم لم تأكلوه أو كأنّكم أكلتم المنّ في البريّة.
إيمانك بيسوع لا يُخلّصك بل هو الّذي يؤكّد أنّك قبلتَ بخلاص يسوع، أيّ أن تقبل بأنّ يسوع هو مخلّصك. وإذا قبلتَ بهذا الأمر تذكّر أنّ هناك آخر قبل به أيضاً، فتُصبحان أخويْن. لا قانون يُتيح لك أن تنكر أخاك أو أباك ولا قانون يُتيح للأب أن ينكر ابنه إلّا إذا أثبت الأب أنّه ليس ابنه. إنّه بحاجة إلى دليل على أنّك لستَ ابنه حتّى يرفع الأبوّة عنك. إذا فعل ذلك، فأنتَ لا تعود أخاً لابنه الثّاني. والدّليل على ذلك هو كلمة الله، الإنجيل. إذا كانت كلمة الله قد أُعطِيت لكلّ النّاس، فذلك يعني أنّ لا أحد من الموجودين في هذا الكون ليس ابناً للآب. وعندما لا يظهر بأنّه ابنه فذلك بسبب أعماله، إمّا يكون كالعبد وإمّا يكون كالأجير. مستويات العلاقة مع الله ثلاثة: إمّا عبد خوفاً، إمّا أجير مصلحةً، إمّا ابن حُبّاً. كلّ ما نسعى إليه هو أن تُصبح علاقةً بين ابن وأبيه.

اليوم، في الإصحاح السّادس من إنجيل يوحنّا، يقول إنّ الكلّ هم أبناء الآب لأنّه اعترف بأبوّته لكم، لأنّك قبلتَ بيسوع المسيح. يتصرّف الأب كأب ولكن ليس من الضّروريّ أن يتصرّف الابن كابن لأنّه في أكثر الأحيان لا يتصرّف كابن. على الرّغم من هذا، جاء الله بابنه الحقيقيّ الّذي لم يُخطئ إليه والّذي بقي ابنًا على الرّغم من كلّ التّحدّي الّذي حصل، ولم يتنازل يسوع عن بُنُوّته ولم يتصرّف إلّا كإبن، وقَبِل الله بأن يُحاكَم أمام غير الأبناء كأنّه مُجرم، من أجلكم أنتم الّذين لم تتصرّفوا كأبناء. إذا أكلنا الخبز النّازِل من السّماء سنُصبح سماويّين، أحياء حياة أبديّة، لذلك يتذمّر اليهود من أنّ يسوع يقوم بتغيير الأيقونة واللّاهوت، فاعتبروا ذلك كفراً وتجذيفاً.
يُتابع: "فقال كثيرون من تلاميذه، إذ سمعوا: إنّ هذا الكلام صعب على مَن يقدر أن يسمعه، فعَلِمَ يسوع في نفسه أنّ تلاميذه يتذمّرون من هذا، فقال لهم: أهذا يُعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعِداً إلى حيث كان أوّلاً الرّوح هو الّذي يُحيي. أمّا الجسد فلا يُفيد شيئاً. الكلام الّذي أُكلّمكم به هو روحٌ وحياةٌ، ولكن منكم قومٌ لا يؤمنون. لأنّ يسوع من البدء عَلِمَ مَن هم الّذين يؤمنون، ومَن هو الّذي يُسلِمه فقال: لهذا قلتُ لكم إنّه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يُعطَ من أبي. منذ هذا الوقت، رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثنيْ عشر: ألعلّكم أنتم أيضاً تُريدون أن تمضوا، فأجابه سمعان بطرس، يا رب، إلى مَن نذهب؟ كلام الحياة الأبديّة عندك ونحن قد آمنّا وعرفنا أنّك أنتَ المسيح ابن الله الحيّ. أجابهم يسوع: أليس أنّي أنا اخترتكم، الاثنَيْ عشر؟ وواحد منكم شيْطان (أيّ أنا اخترتكم وأخطأتُ في الاختيار لأنّكم أنتم تختارون البقاء أو الرّحيل. أنا أختارك ولكن لا أُجبرك) قال عن يهوذا سمعان الإسخريوطي، لأنّ هذا كان مُزمِعاً على أن يُسلّمه، وهو واحد من الاثنَيْ عشر."

يهوذا الإسخريوطي ويعني، في اليونانيّة، "سيكاريوس" أيّ حامِل السّيف. إذاً هذا يهوذا حامِل السّيف الّذي يُريد من يسوع أن يُشرّع له حمله للسّيف، أيّ أن يأخذ المملكة عن طريق السّيف فلم ينجح، لذلك وجد يهوذا أنّ يسوع لا يُناسبه. كان هدف الجميع واحداً وهو أنّهم لا يستطيعون أن يبقوا مع يسوع خوفاً من أن يُصبحوا مُضطهَدين ومضروبين ولكن مُبارِكين، غير مُكتَئبين كما يقول بولس الرّسول، لأنّنا آمنّا وأمّنا وائتمنّا على أنّ الله لن يتركنا.
الرّوح يُحيي أمّا الجسد فيزول، لذلك أن تُعطي وقتاً وخوفاً أكبر للجسد قد يُنسيك الرّوح وفي أكثر الأحيان تنساه. ولكن إذا اهتمَمْتَ بالرّوح فقد تنسى الجسد وستنساه. هذا هو سبب وجود القدّيسين، لأنّهم ركّزوا على الرّوح الّذي يُحيي وعلى كلام الله والحياة.
إنجيل اليوم هو إنجيل اليقظة الرّوحيّة، لعلّكم تنتبهون، آمين.
ملاحظة: دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرف تتمة...
24/2/2015 إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول - الإصحاح الخامس شفاء المخلّع
https://youtu.be/hZ2M7UcCpnM

تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول
الإصحاح الخامس
الأب ابراهيم سعد

24/2/2015

تكلّمنا، في المرّة الماضية، على لقاء يسوع بالسّامريّة بعد أن تكلّمنا عن لقائه بنيقوديموس اليهوديّ. وسنتكلّم، اليوم، على شفاء ابن خادِم الملك المُخلّع في الأصحاح الخامس من إنجيل يوحنّا الّذي يُخبِرنا عن قصّة تحريك المياه وكيفيّة
لقاء يسوع بهذا الرّجل إضافةً إلى ما سينتُج عنه.

يقول: "بعد هذا كان عيدٌ لليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم. وفي أورشليم عند باب الضأن، بِرْكَةٌ يُقال لها بالعبريّة بيت حسدا لها خمسة أرْوِقة. وفي هذه، كان مُضطجِعاً جمهورٌ كثيرٌ من مرضى وعمى وعرج وعسم، يتوقّعون تحريك الماء، لأنّ ملاكاً كان ينزل أحياناً في البركة ويُحرّك الماء. فَمَن نزل أوّلاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أيّ مرض اعتراه. وكان هناك إنسانٌ به مرض منذ ثمانٍ وثلاثين سنةً. هذا رآهُ يسوع مُضطجِعاً، وَعَلِمَ أنّ له زماناً كثيراً فقال له: أتُريد أن تبرأ؟ أجابه المريض: يا سيّد، ليس لي إنسانٌ يُلقيني في البركة متى تحرّك الماء. ولكن بينما أنا آتٍ، ينزل قُدّامي آخر. قال له يسوع: قُمِ، احمِلْ سريرك وامشِ. وللحال، برئ الإنسان وحمل سريره ومشى. وكان، في ذلك اليوم، سبت. فقال اليهود للّذي شُفِيَ: إنّه سبت لا يحلّ لك أن تحمل سريرك. أجابهم: إنّ الّذي أبرأني هو قال لي: احملْ سريرك وامشِ. فسألوه: مَن هو الإنسان الّذي قال لك: احملْ سريرك وامشِ؟ أمّا الّذي شُفِيَ فلم يكن يعلم مَن هو، لأنّ يسوع اعتزل، إذ كان في الموضِع جمعٌ. بعد ذلك، وجده يسوع في الهيكل وقال له: أنتَ قد برئتَ، فلا تُخطئ أيضاً، لئلّا يكون لك الشرّ. فمضى الإنسان وأخبر اليهود أنّ يسوع هو الّذي أبرأه."

علينا أن نفهم هذا المقطع من وجهة نظر أخرى. تذكّروا عندما كان يسوع يتحاور مع نيقوديموس، كان كلّ منهما يتحدّث من وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر الآخر، كما مع السّامريّة عندما قال لها إنّه سيُعطيها الماء فأجابته بأنّه لا يملك دلواً. كذلك الأمر في هذا المقطع، عندما سأل يسوع المريض إن كان يُريد أن يُشفى فأجابه أنْ لا أحد يُلقيه في البركة. لقد أجابوا كلّهم، نيقوديموس والسّامريّة والمخلّع وكأنّ يسوع غير موجود. وعندما انتبهوا لوجوده تغيّر النّقاش كما تغيّر السّلوك.

إذاً، بَقِيَ هذا الرّجل مُنتظِراً شفاءه مدّة ثمانٍ وثلاثين سنةً وهذا ليس صدفةً، فالشّعب الإسرائيليّ، أيضاً، بَقِيَ مدّة ثمانٍ وثلاثين سنةً في الصّحراء وكان يُريد الشفاء والحريّة والخلاص ولكن بحسب قوانينه. وتذكّروا كم أنّ الله عانى من هذا الشّعب وكان موسى هو الشّفيع. كان الله يُجَرَّب من قِبل شعبه بقولهم له إنّه إن لم يُنفّذ ما يُريدون سيعبدون الأصنام من جديد وكأنّ الله يحتاج إلى جمهورٍ وشعبٍ. كانوا يُريدون أن يحصلوا على ما يُريدونه بحسب القانون الّذي يتّبعونه لكنّهم لم ينجحوا. فجاء يسوع وأخبرهم عن المريض المُخلّع منذ ثمانٍ وثلاثين عاماً ويعني ذلك أنّ لا أمل له في التّقدّم، وكأنّه يقول لهم إنّهم باتّباع ناموسهم لن يتطوّروا، فهم في شللٍ تامّ.
لقد قال المخلّع ليسوع إنّه عندما يأتي ينزل قُدّامه آخر أيّ أنّ لا أحد يهتمّ بالآخر، فيُجيبه يسوع أن يقوم ويحمل سريره ويمشي. إذاً، هنا، يقول يوحنّا إنّك تستطيع أن تخلُص وتُشفى بحسب إرادة يسوع لا بحسب إرادتك. لذلك كان لا بدّ من أن يكون هناك تحوّل ما أو عمل إلهيّ يُغيّر النمط. لقد شُفِيَ هذا الرّجل بكلمة يسوع "قُمِ، احمل سريرك وامشِ"، بالكلمة الخلّاقة منذ بدء التّكوين، لِيكن نور فكان نور، ولغاية الآن.

مشى المخلّع يوم السّبت فكان ذلك أكبر صفعة لليهود. إضافةً إلى أنّ عقيدتهم وتفكيرهم لم يسمحا لهم بالتّقدّم. شفى يسوع المخلّع بكلمته، يوم السّبت، ما يتضارب مع فِكر اليهود. أنتَ تخلُص بكلمة الله غير مُحتاجٍ إلى تطبيق النّاموس، لذلك تستطيع أن تشفى يوم السّبت وتخْلُص من دونه ومن دون النّاموس. وهذا هو الصّراع الّذي كان قائماً، في الكنيسة الأولى، بين بولس الرّسول واليهود الّذين أصبحوا من المسيحيّين.
نحن في زمن الصّوم، أنا لا أطلب إليكم ألّا تصوموا ولكن لا تكونوا عبيداً للصّوم فبذلك تعودون يهوداً على الرّغم من أنّ يسوع قد شفاكم من كلّ عبوديّة وأعطاكم قانون الحريّة. أنتم عبيد لكلمة المسيح الّتي اكتشفتم، بأنفسكم، أنّها هي الشّافية.
قال اليهود للمخلّع الّذي شُفِيَ كيف يحمل سريره ويمشي يوم السّبت ولكنّهم لم ينتبهوا أنّه شُفِيَ ولم يفرحوا لذلك. لا تزال العقليّة اليهوديّة تسكن عقولنا، ولغاية الآن لم نعتمد لأنّ المعموديّة هي معموديّة الذّهن. فإذا أخطأ أحدهم وبعدها تاب عن خطإه، لا تتذكّرون إلّا أنّه أخطأ، في الوقت الّذي يكون، بالنّسبة إلى الله، من أعظم التّائبين، لأنّكم تعتبرون أنّ لا فائدة لكم من توبته بل تعتبرون أنّه بمقدوركم معرفة إن كان معكم أو ضدّكم، وبذلك تُقرّرون ماهيّته، أيّ تصنيف النّاس موجود في العقليّة، وهو مُرتبط بالإدانة والحكم.
يقول شخصٌ غير مسيحيّ: "ما هي المحبّة؟ المحبّة هي ألّا تحكم على الآخرين". لقد فَهِمَ ذلك الشّخص محبّة يسوع وهو ليس مسيحيّاً. ألم يقل يسوع "أنا ما جئتُ لأدين، جئتُ لأخلّص". هذا المريض المشلول لم يعد يرى شيئاً بل قام وحمل سريره ومشى ولكن بعد كلّ هذا يعود إلى الوراء، كما قال بولس الرّسول: "أيّها الغلاطيّون الأغبياء، مَن رقاكم لِتبتعدوا عن الإنجيل" أيّ أنّ الله أعطاهم الرّوح فأرادوا الرّجوع إلى الجسد. نحن أبناء الحقّ، أبناء الحريّة نصبح، عند أقلّ زلّة، حرفيّين وناموسيّين وفرّيسيّين أكثر ممّن هم أصلاً من الفرّيسيّين، مع العِلم أنّ يسوع قال: "إن لم يزد بِرُّكم على الكَتَبَة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السّماء" أيّ أنّ البِرّ موجود فيهم لكنّهم اعتبروا أنّ برّهم هو منهم لذلك قرّروا أن يدينوا الآخرين.
لقد قال اليهود للمخلّع إنّه لا يحقّ له أن يحمل سريره ويمشي يوم السّبت فأجابهم أنّه ليس بحاجةٍ الى الرجوع إلى النّاموس ليعرف ما يحقّ له وما ليس من حقّه، فالّذي أبرأه قال له أن يحمل سريره ويمشي. وعندما تقبل كلمة يسوع يجب ألّا تعود إلى الوراء. وهذا هو صراع بولس الرّسول مع الغلاطيّين الّذين قبِلوا بالرّوح من خلال سماع الإيمان لا بأعمال النّاموس.
في أحيانٍ كثيرةٍ، يكون تفكيرنا مُشابِهاً لِتفكير اليهود فمثلاً الصّوم لا يُجري ضبطاً للنّفس. يعتمد الرّهبان نمط صوم مختلف عن النّمط الّذي نتّبعه، لأنّهم أخذوا على عاتقهم نمطاً معيّناً مُرتبِطاً بصلوات وأعمال يدويّة وحياة وقرار. عليكم أن تصوموا ولكن عليكم، أيضاً، أن تعرفوا سبب صومكم.
واليهود، هنا، لم يرَوْا شفاء المُخلّع بل رأوْا، فقط، أنّه حمل سريره. لذلك، في العهد الجديد، الأعمى هو اليهوديّ. فالعميان الّذين شفاهم يسوع هم من اليهود وكلّ الخرسان الّذين شفاهم هم من الوثنيّين، وأحياناً، في إنجيل متّى، يشفي شخصاً أعمى وأخرس في الوقت نفسه ليقول إنّه جاء لِيُخلّص الجميع على حدّ سواء.
في الإصحاحيْن الثّامن والتّاسع من إنجيل متّى، هناك تسع معجِزات تؤكّد لكم نظريّتي. أربع منها لليهود وأربع أخرى للوثنيّين. أمّا العجيبة المُتبقيّة فيذكر فيها قصّة امرأة نزفت دماً وفتاة في الثّانية عشرة من العمر تُحتضَر. نازِفة الدّم تعني النّجاسة إضافةً إلى أنّها لا تستطيع الإنجاب أيّ لا حياة لديها، والفتاة البالغة من العمر اثنتَيْ عشرة سنة، وهذا الرّقم مُرتبط بالقبائل اليهوديّة، هي على شفير الموت، ما يعني أنّ الوثنيّين لا يستطيعون إعطاء الحياة بسبب عقائدهم، وكذلك اليهود، وهذا بسبب وصولهم إلى الإفلاس النّهائيّ. فجاء يسوع ليُحيي الواحدة ويشفي الأخرى. وإذا قرأتم إنجيل متّى تجدون أيضاً بعض العجائب، فإذا جمعتموها تجدون أنّها أربع لليهود وأربع أخرى للأمم وواحدة يشفي فيها شخصاً أعمى وأخرس في الوقت نفسه، أيّ هو يهوديّ وأمَميّ. إذاً الخلاص للأمم ولليهود هو فقط بيسوع وليس بالآلهة أو بالنّاموس. وبعد أن تقبل الخلاص بيسوع لا ترجع إلى الوراء كي لا يُصيبك الشّرّ.
بالعودة إلى يوحنّا، عندما سأل اليهود المُخلّع مَن هو الإنسان الّذي قال له "احمل سريرك وامشِ" أجابهم بأنّه لا يعرف. لم يكن يعلم لأنّ يسوع اعتزل، اختفى عنه. وبعد ذلك يسوع وجده، من جديد، في الهيكل. على الرّغم من أنّه شفاه تابع البحث عنه. ليس عليك أن تطمئن إلى أنّك تؤمن بيسوع بل إلى أنّ يسوع يؤمن بك كإنسان.

بعد أن وجده يسوع في الهيكل قال له "أنتَ قد برئت، فلا تُخطئ أيضاً" أي لا تنتظر أحداً غير يسوع، بمعنى آخر، لا تعد إلى الوراء فإذا آمنتَ بالمسيح وكنتَ يهوديّاً لا تعد إلى النّاموس، كذلك الأمر إذا كنتَ وثنيّاً لا تعد إلى عبادة الأصنام بعد ذلك. "فمضى الإنسان وأخبر اليهود أنّ الربّ يسوع هو الّذي أبرأه" أيّ أنّه أصبح مُبشّراً، شاهِداً للرّب يسوع.
يُتابع: "ولهذا كان اليهود يطردون يسوع، ويطلبون أن يقتلوه، لأنّه عمل هذا في سبت" أيّ أنّه ضرب النّاموس وأتباعه، بمعنى آخر هو يُنهي ديناً أيّ وجوداً، فالدّين الّذي تتبعه مُرتبِط بوجودك. لذلك خيرٌ مني أن يموت واحدٌ عن الأمّة لأنّه لو بقي يسوع ولم يقتلوه لكانت انتهت الأمّة اليهوديّة.

يُتابع: "فأجابهم يسوع: أبي يعمل حتّى الآن وأنا أعمل" أيّ لا وقت للرّاحة عندهم. الله، في اليوم السّابع، استراح من عمليّة الخلق ولكنّه لم يسترح من الرّعاية والانتباه والأبوّة. "فمِن أجل هذا كان اليهود يصرّون على أن يقتلوه، لأنّه لم ينقض السّبت فقط، بل قال أيضاً إنّ الله أبوه، مُعادِلاً نفسه بالله" جميعنا نقول إنّ الله هو أبونا ولكنّ الكلمة الّتي يقولها يسوع عن أبيه مختلفة عن كلمتنا. لا أحد يقولها إلّا إذا كان أباه الحقيقيّ أيّ يُصبح مثل أبيه، من الطّينة نفسها. كان يسوع كافراً، مجدّفاً بالنّسبة إلى اليهود، مع العلم أنّ اليهود هم أوّل من صدّقوا أنّ يسوع هو ابن الله لذلك قتلوه. لَوْ لم يُصدّقوه لَما كانوا قتلوه لأنّه كان هناك العديد من الأشخاص يقولون بأنّهم المسيح ولكنّهم لم يقتلوا أحداً منهم. عندما نظر المسيح إلى اليهود سألهم "أنتم شعب الله؟" فأجابوه بأنّه قد جاء من أجلهم، فأخبرهم بأمرٍ كانوا يجهلونه وهو أنّ شعب الله هو لكلّ النّاس وليس فقط لليهود. فإمّا هو ليس المسيح وإمّا هم ليسوا شعب الله؛ فكان الأسهل، بالنّسبة إليهم، أن يقولوا بأنّه ليس المسيح ويقتلوه.

يُتابع: "فأجاب يسوع وقال لهم: الحقّ الحقّ أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلّا ما ينظر الآب يعمل" أيّ ما أقوم به هو عمل إلهكم الّذي تؤمنون به، وإذا لم تؤمنوا بي فأنتم لا تؤمنون به بمعنى آخر أنتم الكفرة.
"لأنّه مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك، لأنّ الآب يُحبّ الابن ويُريه جميع ما هو يعمله، وسيُريه أعمالاً أعظم من هذه لِتتعجّبوا أنتم. لأنّه كما أنّ الآب يُقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي مَن يشاء". هذا في الإصحاح الخامس. أمّا في الإصحاح الحادي عشر فيسوع يُقيم أليعازر من الموت. "لأنّ الآب لا يدين احداً، بل أعطى كلّ الدّينونة للابن" وعلى الرّغم من هذا، قال يسوع "أنا ما جئتُ لأدين بل لأخلّص". "لكي يُكرّم الجميع الابن كما يُكرّمون الآب. مَن لا يُكرّم الابن لا يُكرّم الآب الّذي أرسله" أيّ أنتَ أيّها اليهودي لم يعد دينك من الأديان السّماويّة لأنّك إن لم تقبل بيسوع المسيح ستُصبح من دون إله أيّ ستُصبح وثنيّاً، مُلحِداً.

يُتابع: "الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ مَن يسمع كلامي ويؤمن بالّذي أرسلني فَلَهُ الحياة الأبدية، ولا يأتي إلى الدّينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. الحقّ الحقّ أقول لكم إنّه تأتي ساعةٌ وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله، والسّامِعون يَحْيَوْن، لأنّه كما أنّ الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته" أي هو صانِع الحياة. "وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنّه ابن الإنسان" أيّ لأنّه أطاع الآب حتّى الموت. "لا تتعجّبوا من هذا، فإنّه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الّذين في القبور صوته، فيخرج الّذين عملوا الصّالحات إلى قيامة الحياة، والّذين عملوا السّيّئات إلى قيامة الدّينونة". الجميع يقومون في يوم القيامة سواء أكانوا سعداء أو حزانى. بِحسب عملك أنتَ تُحدّد مصيرك وليس الله. أنتَ تدين نفسك، هو فقط يُعلن إدانتك. "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً. كما أسمع أدين، ودينونتي عادِلة، لأنّي لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الّذي أرسلني". رضى الله هو أن تسمعوا كلمة المسيح الّذي قال إنّه المِلء. هو الّذي يُكمل وليس أنتَ وإذا فعلتَ ذلك إذاً أنتَ سارِقٌ ولصّ كما يقول في الإصحاح العاشر.

انا لا أشرح لكم نصوصاً من خلال الإنجيل ولكن طريقة تفكير، فإذا قبلتم ما أقوله سينعكس ذلك على تغيير طريقة نظرتكم إلى مَن حولكم وتعاملكم معهم. وكلّما اختبرتم كلمة الله اكتشفتم محبّته، ويسوع المسيح هو كلمة الله، أمّا القدّيسون فغرفوا منه وأعطَوْكم. كلّ مَن يقول لكم عكس ما قاله يسوع فَلْيكن مطروداً، هكذا قال بولس الرّسول.
نحن، اليوم، في أزمة. الرّبيع المسيحيّ هو في الكنيسة والثّورة هي في أن تجعلوا النّاس ينتبهون، من جديد، لشريعة الحريّة. وهما كلمتان متناقِضتان، فالشّريعة هي القانون أيّ عليك أن تكون منضبطًا، ولكن الحريّة هي قانون غير انضباطيّ. الوحيد الّذي لا يخضع لأيّ قانون هو الله. يسوع يطلب إليك أن تكون مثل الله فتتحرّر من كلّ قانون ولكن شرط أن تُحبّ. إذاً يسوع المسيح هو أكثر قساوةً من إله العهد القديم، فاعتبروا أنّ هذا الأخير أوضح لهم ما عليهم فعله على الرّغم من أنّه قال لهم "أنا لا أريد ذبيحةً بل رحمةً" إلّأ أنّهم لم يفهموا ما قاله. عندما جاء يسوع، قال إنّه سيُحرّرك من هذه القوانين كلّها ولكن شرط أن تُحِبّ. مستوى الحبّ عندك يحلّ المشكلة، فالقانون يُطبَّق حيث تنقص المحبّة. يسوع أحبّكَ وعندما حان موعد دفع ثمن حبّه لك لم يتراجع بل تركهم يصلبونه كما كانت مشيئة الله، فنفذّ إرادته. هو الّذي أعطاني كلّ سلطان لأدين العالم أجمع. وعندما لا تسمع ما يقوله لك يسوع، تنتهي وظيفتك.

ملاحظة: دُوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
17/2/2015 إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول - الإصحاح الرابع لقاء مع السامريّة
https://www.youtube.com/watch?v=TYS9RlN9CZ4

تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول
الإصحاح الرابع
الأب ابراهيم سعد

17/2/2015

نُتابع، اليوم، ما كنّا قد بدأنا به الأسبوع الماضي في إنجيل يوحنّا. لقد تكلّمنا على النّقاش الّذي دار بين الربّ يسوع ونيقوديموس الّذي يُمثّل اليهود، وعلى كلامه عن المعموديّة والولادة بالرّوح. سينتقل الربّ يسوع إلى منطقة السّامرة حيث يلتقي بامرأةٍ سامريّةٍ. وكما تعلمون، هناك عداوة بين السّامريّين واليهود على الرّغم من أنّهم يؤمنون بالكُتُب الموسويّة الخمسة في التّوراة أيّ التّكوين، الخروج، العدد، اللّاويّين وتثنية الاشتراع. وسبب هذا الصّراع الكبير هو أنّ اليهود لا يعتبرون أنّ دم السّامريّين صافٍ لأنّهم اختلطوا بأممٍ أخرى، فبرأيهم أنّ كلّ من يختلط بالآخر يُصبح نجساً. ولكنّ كلمة الله لا تستثني أحداً لذلك تُلاحظون قوله في هذا المقطع: "ترك اليهوديّة ومضى أيضاً إلى الجليل وكان لا بدّ له من أن يجتاز السّامرة" ذلك يُبيّن أنّه لا يملك خَياراً آخر على الرّغم من أنّه يستطيع أن يسلك الطّريق الّذي يُريد، ولكن كان لا بدّ لِعمل الربّ يسوع من أن يُعطي كلمة الله إلى الكلّ فلا يستثني أحدا،ً وبالتّالي كان لا بدّ له من أن يجتاز السّامرة. هو ليس مُجبَراً على أن يفعل ذلك ولكنّ رسالته هي الّتي تُجبِره على أن يُكملها على هذا الشّكل. وهكذا تنقّلت في الإنجيل في أعمال الرُّسُل من اليهوديّة فالسّامرة ثمّ إلى أقصى الأرض، إلى الأمم. يُتابع: "فأتى إلى مدينةٍ من السّامرة يُقال لها سوخار، قرب الضّيعة الّتي وهبها يعقوب ليوسف ابنه. وكان هناك بئر يعقوب. فإذ كان الربّ يسوع قد تعب من السّفر، جلس هكذا على البئر، وكان نحو السّاعة السّادسة". السّاعة السّادسة، بحسب توقيتنا، هي السّاعة الثّانية عشرة ظهراً. كان هناك ما يُسمّى بنوبات الحرس فكلّما مرّت ثلاث ساعاتٍ من الوقت هناك نوبة يُبدَّل فيها الحُرّاس مثلاً نوبة السّاعة السّادسة، نوبة السّاعة التّاسعة... وبالتّالي السّاعة السّادسة، بحسب توقيتنا، هي السّاعة الثّانية عشرة ظهراً والسّاعة التّاسعة هي السّاعة الثّالثة بعد الظّهر. الغرابة، هنا، أنّ الربّ يسوع التقى بتلك المرأة عند السّادسة أيّ ظهراً. وكما تعلمون أنّه من المستحيل، في القُرى، أن تخرج امرأةُ لِتجلب المياه ظهراً فتكون أشعّة الشّمس حارقةً فيذهبْنَ إمّا صباحاً وإمّا مساءً. فلا تخرج أيّ امرأةٍ ظهراً إلّا إذا كانت بِحاجةٍ ماسّةٍ إلى الماء. لا وجود للصُّدَف في إنجيل يوحنّا، إذ إنّه يُذكر في الإصحاح التّاسع عشر أنّهم أخذوا الربّ يسوع لِيصلبوه عند السّاعة السّادسة، أي عندما بدأ التّعب والألم.

يقول في الإصحاح الرّابع: "تعب من السّفر، جلس هكذا على البئر فجاءت امرأةٌ من السّامرة لِتستقي ماءً فقال لها الربّ يسوع: أعطِيني لأشرب". ليست المسألة، هنا، أنّ يسوع المسيح يُريد أن يشرب فهو جالِسٌ على البئر ولكنّه يُريد أن يقول للسّامرة إنّها ستموت حتّى لو شربت من هذا الماء، ولكن هناك ماءٌ من نوعٍ آخر، وحياةٌ أخرى هو يُعطيها، وهي كلمة الله الحيّ. يُتابع: "لأنّ تلاميذه كانوا قد مضَوْا إلى المدينة لِيبتاعوا طعاماً. فقالت له المرأة السّامريّة: "كيف تطلب منّي لِتشرب، وأنتَ يهوديٌّ وأنا امرأةٌ سامريّةٌ؟ لأنّ اليهود لا يُعاملون السّامريّين". إذاً هناك سببان لرفضها إعطاءه لِيشرب الأوّل هو أنّها امرأةٌ والثّاني هو أنّها سامريّةٌ. "أجابَ الربّ يسوع وقال لها: لو كنتِ تعلمين عطيّة الله، ومَن هو الّذي يقول لكِ أعطيني لأشرب، لَطلبتِ أنتِ منه فأعطاكِ ماءً حيّاً. فقالت له المرأة: يا سيّد، لا دَلْوَ لكَ والبئر عميقة". لم ينتقل الكلام بعد إلى مستواه العالي كما مع نيقوديموس عندما تفاجأ من قول الربّ يسوع إنّه سيولد مرّةً ثانيةً.

"فَمِن أين لكَ الماء الحيّ؟ ألعلّكَ أعظم من أبينا يعقوب الّذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟ أجاب الربّ يسوع وقال لها: كلّ مَن يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن مَن يشرب من الماء الّذي أُعطيه أنا فَلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الّذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماءٍ ينبع إلى حياةٍ أبديّةٍ". تذكّروا عندما قال "أنا عطشان" وهنا يقول "مَن يعطش" إذاً هناك مُشابهةٌ بين حديث السّامريّين ووجود الربّ يسوع على الصّليب.
"قالت له المرأة: يا سيّد أعطِني هذا الماء، لِكي لا أعطش وآتي إلى هنا لِأستقي. قال لها الربّ يسوع: اذهبي وادعي زوجك وتعالَيْ إلى هنا. أجابت المرأة وقالت: ليس لي زوج. قال لها الربّ يسوع: حسناً قلتِ ليس لي زوج لأنّه كان لكِ خمسة أزواج والّذي لكِ الآن ليس هو زوجكِ هذا قلتِ بالصّدق. قالت له المرأة: يا سيّد أرى أنّكَ نبيٌّ، أباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون..." ويبدأ، هنا، نقاشٌ لاهوتيٌّ. يُمكنكم أن تعتبروا أنّ هذه المرأة خاطئةٌ لأنّه كان لها خمسة أزواج والآن هي تُعاشر رجلاً من دون زواج ولكنّي سأقترح عليكم قراءةً أخرى: طالما أنّ السّامريّين لا يقبلون إلّا بالكتب الموسويّة الخمسة وبالتّالي الربّ يسوع قال للسّامريّة إنّه كان لها خمسة أزواج والّذي لها الآن ليس زوجها. الزّوج هو السّند والأمان، وفي اللّغة القديمة، هو البعل كما له معنى آخر وهو إله الخصب الوثنيّ، الذي يُعطي الحياة عندما تمطر. إذا كنتِ تعتقدينَ، من خلال العقيدة الّتي تؤمنين بها، أنّ الحياة تأتيكِ من أحدهم فأنتِ مخطئة، أنا هو الّذي يُعطيكِ الماء الحيّ. إذاً، هنا، مقاربةٌ جديدةٌ بين الربّ يسوع الكلمة الحيّة، العهد الجديد، وبين ما هو قديم، القديم الّذي تسكنون فيه والّذي لا يُخلّصكم. لذلك اتُّهِمَ السّامريّون بأنّهم كانوا يشتركون في عبادات أخرى على الرّغم من إيمانهم بالكُتُب الخمسة.

يُتابع: "... وأنتم تقولون إنّ في أورشليم الموضِع الّذي ينبغي أن يُسجَدَ فيه". هناك صراع بين اليهود والسّامريّين فيقول اليهود إنّ الله ظهر في جبل أورشليم أمّا السّامريّون فيقولون في جبل جرزيم، وقد قالت السّامريّة للربّ يسوع "أنتم" مُعتبرةً إيّاه من اليهود.
"قال لها الربّ يسوع: يا امرأةً صدّقيني أنّه تأتي ساعةٌ" قال "يا امرأةً" وقد قالها أيضاً في عرس قانا الجليل وعندما كان على الصّليب. عمل صَلْب الربّ يسوع هو عمل خلاصيّ لكلّ الأمم. نتذكّر أيضاً في عرس قانا الجليل "يا امرأة، لم تأتِ ساعتي بعد"، وعلى الصّليب "قد أتَت السّاعة".
يُتابع: "... تأتي ساعةٌ لا في هذا الجيل ولا في أورشليم تسجدون فيها للآب، أنتم تسجدون لِما لستم تعلمون، أمّا نحن فنسجد لِما نعلم، فإنّ الخلاص هو من اليهود" ويعني أنّ عمل الله الخلاصيّ بدأ من هذه المجموعة أيّ اليهود. "ولكن تأتي ساعةٌ وهي الآن، حين السّاجِدونَ الحقيقيّونَ يسجدون للآب بالرّوح والحقّ لأنّ الآب طالِبٌ مثل هؤلاء السّاجِدينَ له. الله روح (لقد قال هذه العبارة لنيقوديموس "المولود من الرّوح روح والمولود من الجسد جسد") والّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجُدوا". في إنجيل يوحنّا، سأل بيلاطس الربّ يسوع "ما هو الحقّ؟" ولم يُجِب الربّ يسوع، ولكن لو سأله "مَن هو الحقّ؟" لَكان أجابه. يقول الربّ يسوع: "تعرفون الحقّ والحقّ يُحرّركم". إذاً في إنجيل يوحنّا، الربّ يسوع هو الحقّ. والّذين يسجدون لله بالرّوح القدس وبيسوع المسيح هم السّاجدون للحقّ فتُصبح العبادة الحقيقيّة بالرّوح القدس والربّ يسوع أيّ بكلمة الله المُحيِيَة الّتي تُحييكم من جديد. إذاً لا يُمكن الفصل بين الرّوح القدس والمسيح فإذا قبِلتَ كلمة الله تحصل على الرّوح. لذلك أصبحت المعموديّة بالماء والرّوح مع نيقوديموس. وقد دخل عنصرٌ جديدٌ وهو الرّوح القدس لأنّكَ لا تستطيع أن تعبد الله إلّا بالرّوح القدس لا النّاموس ولا العقائد ولا التّقاليد ولا جبل أورشليم ولا جبل جرزيم. إذاً تنتهي وظيفة العهد القديم عندما تقبل يسوع المسيح وكلمة الله فبالمعموديّة لا تعود خاضِعاً لأعمال النّاموس.

في هذا الإصحاح، يوضح يوحنّا على لِسان يسوع المسيح أنّ الّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا أيّ تنتهي عقائدكم وعاداتكم وتقاليدكم بيسوع المسيح.
يُتابع: "قالت له المرأة: أنا أعلم أنّ مَسيّاً الّذي يُقال له المسيح، يأتي. فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكلّ شيء. قال لها الربّ يسوع: أنا الّذي أُكلّمكِ هو" أيّ أنا أُخبِرُكِ بكلّ شيء. تذكّروا الإصحاح الأوّل من إنجيل يوحنّا "الله لم يرَهُ أحدٌ قطّ، الابن الوحيد الّذي هو في حِضن الآب هو الّذي يُخبر" إذاً لا خبر لديك عن الله وخلاصكِ وكلّ شيء إلّا من فم يسوع.
"وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجّبون من أنّه يتكلّم مع امرأة ولكن لم يقل له أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلّم معها. فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للنّاس: هلمّوا أنظروا إنساناً قال لي كلّ ما فعلت، ألعلّ هذا هو المسيح؟ فخرجوا من المدينة وأتَوْا إليه" تركت المرأة يسوع والجرّة أيّ أنّها لم تعد بحاجةٍ إلى الماء وذهبت للتّبشير بعد حادثة البئر كما أنّ المرأة ذهبت للتّبشير بعد حادثة الصّلب والقيامة إذاً يأتيك الخبر من حيث لم تنتظر.

يُتابع: "وفي أثناء ذلك، سأله تلاميذه قائلين: يا معلّم كلْ. فقال لهم: أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم. فقال التّلاميذ بعضهم لبعض: ألعلّ أحداً أتاه بشيءٍ ليأكل؟" لا يزال تلاميذه كما نيقوديموس والمرأة السّامريّة "بَشَريّين".
"قال لهم الربّ يسوع: طعامي أن أعمل مشيئة الّذي أرسلني وأتمّم عمله" العمل والطّعام والشّرب هي طاعة الله ومشيئة الآب.
"أما تقولون إنّه يكون أربعة أشهر ثمّ يأتي الحصاد؟ ها أنا أقول لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا الى الحقول إنّها قد ابيضّت للحصاد والحاصِد يأخذ أجره ويجمع ثمراً للحياة الأبديّة، لكي يفرح الزّارِع والحاصِد معاً". إذاً كلاهما يشترك في الفرح، أيّ مَن يزرع الكلمة ومَن يحصد نتيجتها. "لأنّه في هذا يصدق القول: إنّ واحداً يزرع وآخرَ يحصد. أنا أرسلتكم لِتحصدوا ما لم تتعبوا فيه، آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم" هذه هي قصّة الكلمة الإلهيّة، يبدأ أحدهم بالتّبشير فتؤمن وتقبل وتُتابع المسيرة فيقبل آخر ويُكمل المسيرة. إذاً دخل التّلاميذ على تعب المسيح، وتلاميذ الرّسل على تعب الرُّسُل، وهكذا دواليك حتّى يحين دورنا، دور القارئ الّذي يستمع إلى الإنجيل الآن. أنتَ دخلتَ على تعب غيرك وحصدتَ ما زرع غيرك وقبلتَ كلمة الله وأخذتَ الرّوح، وبالتّالي دخلتَ الحياة الأبديّة، فتكون وظيفتك أن تُكمل المسيرة. يُتابع: "فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السّامريّين بسبب كلام المرأة الّتي كانت تشهد له. فلمّا جاء إليه السّامريّون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يوميْن" كما عندما كان يسوع على الصّليب فبعد يومين من ذلك، قام في اليوم الثالث. كما أنّ الرّسول يمكث يوميْن فقط في المدينة الّتي يُبشّر فيها وينتقل إلى أخرى كي لا يبدو بأنّ مناخ هذه المدينة طاب له فيُصبح هدفه العيش فيها لا التّبشير.

"فآمَنَ به كثيرون جدّاً بِسبب كلامه وقالوا للمرأة: إنّنا لسنا بعد بسبب كلامكِ نؤمن لأنّنا نحن قد سمعنا ونعلم أنّ هذا هو في الحقيقة المسيح مُخلّص العالم" كان دَوْر المرأة أن تأتي بالعالم كلّه إلى المسيح. وفي الإصحاح الّذي يتكلّم على عرس قانا الجليل، في إنجيل يوحنّا، قالت لهم المرأة "مهما قال لكم فافعلوه". وعندما تشاجر نثنائيل مع فيلبس قال له هذا الأخير "تعالَ وانظر" فلمّا رأى نثنائيل الربّ يسوع قال له "أنتَ ابن الله". إذاً وظيفة الرّسول أو المُبشّر هي أن يأتي بك إلى يسوع. وكانت هذه مشكلة اليهود مع غير اليهود لأنّهم كانوا يعتقدون أنه عليهم أن يكونوا يهوداً قبل أن يُصبحوا مسيحيّين ولكن مَن يؤمن بيسوع المسيح يَخْلُص من دون الحاجة إلى النّاموس الموسويّ. لقد قال عن الربّ يسوع إنّه مُخلّص العالم وليس اليهود وحدهم، إذاً لقد وصلت كلمة الله إلى أقصى الأرض.
يُتابع: "وبعد اليوميْن، خرج من هناك ومضى إلى الجليل لأنّ الربّ يسوع نفسه شَهِدَ أنّه ليس لِنبيّ كرامةٌ في وطنه" كما قيل "إلى خاصّتِهِ جاء وخاصّته لم تقبله".

"فلمّا جاء إلى الجليل قبله الجليليّون إذ كانوا قد عاينوا كلّ ما فعل في أورشليم في العيد لأنّهم هم أيضاً جاءوا إلى العيد. فجاء الربّ يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً. وكان خادِمٌ للملك ابنه مريضٌ في كفرناحوم، حين سمع أنّ الربّ يسوع قد جاء من اليهوديّة إلى الجليل، انطلق إليه وسأله أن ينزل ويشفي ابنه لأنّه كان مشرِفاً على الموت. فقال له الربّ يسوع: لا تؤمنون إن لم ترَوْا آيات وعجائب. قال له خادم الملك: انزل قبل أن يموت ابني. قال له الربّ يسوع: اذهب ابنك حيّ. فآمن الرّجل بالكلمة الّتي قالها له الربّ يسوع وذهب". التّركيز، هنا، هو على الإيمان بالكلمة، فَتَخْلُص من دون الحاجة إلى المرور بالنّاموس الموسويّ.

"وفيما هو نازلٌ استقبله عبيده وأخبروه قائلين: إنّ ابنك حيّ. فاستخبرهم عن السّاعة الّتي فيها أخذ يتعافى، فقالوا له: أمس في السّاعة السّابعة تركته الحُمّى. فَفَهِمَ الأبُ أنّه في تلك السّاعة الّتي قال له فيها الربّ يسوع: إنّ ابنك حيّ. فآمن هو وبيته كلّه. هذه أيضاً آيةٌ ثانيةٌ صنعها الربّ يسوع لمّا جاء من اليهوديّة إلى الجليل".

نستنتج من كلّ ما قرأناه في الإصحاح الرّابع من إنجيل يوحنّا أنّ في النّاموس اليهودي كلمةُ الله، وهو ليس اختراعاً بشريّاً ولكنّ الإنسان مزج كلمة الله بتقاليد البشر فأصبح هناك منتوجٌ جديدٌ، يكمن خطره في أنّك عندما تُريد السّيطرة على النّاس إمّا أن تستعمل بشدّةٍ كلمة الله أو أن تستعين بتقاليد النّاس حسب ما تقتضيه الحاجة. هذا ما كان يفعله اليهود وما يفعله المسيحيّون. يقول في إنجيل يوحنّا: الخلاص هو بالربّ يسوع كلمة الله.
"إيمانك خلّصك" لا تعني أنّ رأيك في الربّ يسوع هو الّذي خلّصك، بل أنّ قبولك لعمل الربّ يسوع فيك هو الّذي خلّصك، فهو الأساس. كلمة الله المُحيِية هي الأساس وفعلها فيك يتمّ عبر قبولك بها. كلمة الله هي المُحْيِيَة ولا شيء يُشاركها في هذا وكلّما اشترك أمرٌ معها تشوّهت وفسدت. لذلك، انتبهوا من عاداتكم وتقاليدكم.
لا تمزجوا شيئاً مع كلمة الله فهي ليست كلمات وإنّما هي يسوع المسيح، لأنّكم تعتقدون أنّ ما يُخلّصكم هو كلمة الله، وهذه الأمور الّتي تمزجونها معها منها صومكم، صلاتكم، السّبحة، هي قوانينكم الّتي تضعونها حتّى تُنظّموا أمور الآخرين. يُسمّى ذلك، في اليونانيّة، "إيكونوميا" ومعناه التّدبير. والفرق شاسع بين التّدبير وبين اللّاهوت الّذي يُسمّى "الثّيولوغيّة" في اليونانيّة. على تدبيركم أن يكون خاضِعاً ومُنسجِماً مع إرادة الله لذلك كلّ هذه الأمور هي تربويّة وتدبيريّة ومفيدة طالما هي خاضِعة لِرِضى الله ولا أسباب أخرى. فمثلاً تكلّموا على الصّوم انطلاقاً من رِضى الله عليه. ليس الصّوم إماتةً لأهوائك فتصوم أربعين يوما،ً وخلال أيّام السّنة الباقية لا تقوم بشيء. رِضى الله، في الصّوم، هو على سبيل المثال أنّك قبل الصّوم أنتَ تأكل وغيرك لا يأكل أمّا خلال الصّوم فأنت تتوقّف عن الطّعام لكي يأكل غيرك، لأنّك عندما تتوقّف عن الطّعام تُواجه، رمزيّاً، الموت والّذي كان في الموت يُصبح في الحياة. إذاً أنتَ خلال الصّوم تُواجِه الموت لكي يُواجِه غيرك الحياة. فالربّ يسوع، على الصّليب، واجه الموت لكي تُواجه أنتَ الحياة. هذا هو مفهوم الصّوم من خلال رِضى الله.
أنتم تُكبّلون النّاس بصنمٍ جديدٍ وهو الصّوم من خلال قول ما هي المأكولات المسموح بها خلال الصّوم وغير المسموح بها بعد أن حرّركم الرّبّ يسوع من كلّ صنم ومن كلّ عبادةٍ لكلّ وثنٍ، والصّوم صار وثناً فأرجعوه تحت رِضى الله. هدف الصّوم واحد وهو الفقير الّذي لا يأكل. أمّا إذا كان هدفه مُغايّراً فيُصبح صوماً بوذيّاً أو إسلاميّاً أو يهوديّاً. ليس الصّوم ألّا تتعلّقوا بالأمور الماديّة فيُمكنكم خلال السّنة كلّها أن تقوموا بضبط أنفسكم عنها ولا داعي لانتظار حلول الصّوم. أنا لا أطلب إليكم ألّا تصوموا ولكن أن تضعوا صومكم تحت إرادة رِضى الله وهو واضح فيقول أشعيا النبي في الإصحاح الثامن والخمسين: " نادِ بصوتٍ عالٍ، لا تُمسكْ، ارفعْ صوتَكَ كبوقٍ واخبِرْ شعبي بِتعدّيهم، واخبِرْ بيتَ يعقوب بِخطاياهم. إيّايَ يطلبون يوماً فيوماً ويُسرّون بِمعرفة طُرُقي كأمّةٍ عمِلَت بِرّاً لم تترك قضاء إِلهِها، يسألونني عن أحكام البرّ، يُسرّون بالتّقرّب إلى الله، يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر؟ (لقد غيّروا مفهوم الصّوم) ذلَّلْنا أنفسنا ولم تُلاحظ؟ ها إنّكم في يوم صومكم توجِدون مسرّةً وبكلّ أشغالكم تُسخّرون، ها إنّكم للخصومة والنّزاع تصومون ولِتضربوا بِلكمة الشّرّ. لستم تصومون كما اليوم لِتسميع صوتكم في العلاء. أمثْلِ هذا يكون صوم أختارُهُ؟ يوماً يُذلّل الإنسان فيه نفسه، يُحني رأسه ويفرش تحته مُسوحاً ورماداً؟ هل تُسمّي هذا صوماً مقبولاً للرّبّ؟ أليس هذا صوماً أختارُهُ: حلّ قيود الشّرّ، فكّ عقد النّير (العبوديّة)، وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كلّ نير؟ أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخِل المساكين الفقراء التّائهين إلى بيتك؟ إذا رأيتَ عرياناً أن تكسوه وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذٍ، ينفجر مثل الصّبح نورك"؟ يقول لكم ألاّ تُغيّروا مفهوم الصّوم وإلّا فأنتم لا تصومون بل تقومون بأمرٍ مختلفٍ. إذا كنتَ مُقتنعاً بأن تصوم فعليك بذلك، حتّى لو العالم كلّه لم يصم، لأنّ رِضى الله لا يحتاج إلى التّصويت. لماذا يُصبح الصّوم فرصةً للثّرثرة في حين أنّه يُعلّمك السّكوت ويُصبح فرصةً لإدانة الآخرين في حين أنّه يسمح لك أن تكتشف رحمة الله بدلاً من إدانته لك؟ لماذا يُصبح الصوم أعمال ناموس في حين أنّ الربّ يسوع قد حرّرك منها لِتدخل في قانون الحبّ وقانون الحريّة؟.
هنا يكمن الصّراع مع يوحنّا الإنجيليّ. لا يستطيع اليهود والمسيحيّون الّذين كانوا من اليهود أن يُصدّقوا أنّه يُمكن للوثنيّ إذا آمن بالمسيح أن يحصل على ما هم حصلوا عليه بالتّساوي. فيذهب الّذين صاموا والّذين لم يصوموا إلى قدّاس القيامة معاً ويتناولون جسد الرّبّ بالتّساوي. إذا كنتَ تصوم أو لم تكن، على الصّوم أن يكون معياره رِضى الله. فَلِكي يهرب الّذي لا يصوم من التزامٍ متّصل برِضى الله، يجعل صوم الآخرين سخيفاً. إذاً صومك إمّا هو تعبيرٌ عن خضوعك لِرِضى الله إمّا هو تمرينٌ لك لتصبح خاضِعاً لِرِضى الله. ولكن لا تدخلوا في تقنيّات الصّوم فهو زمنٌ مباركٌ تعيشه ولكن ليس لوحدك وإنّما مع أحدهم وهو "لا أحد" أيّ أنّ الآخرين يعتبرونه مرذولاً كما وأنّه ليس إنساناً مثلهم، هو بالنّسبة إليهم "لا أحد". هذا هو الّذي تصوم معه بِمشاركته لقمة الخبز أو حتّى ابتسامتك ونظرتك ومدَّ يدك له. شاركه حياتك كلّها الّتي تجعله يحيا. إن لم تأكل تمت ولكن غيرك عندما يأكل يعيش. تذكّروا بولس الرّسول: "الموت يسري فينا والحياة فيكم،..... " كأنّنا نحتوي على كنزٍ، نحن مضطهدون ولكنّنا لا نلعن أحداً، مُنْكَسِرون ولكنّنا لسنا يائسين، متعبون ولكنّنا نُبارِك بفضل الكنز الموجود فينا. أنتَ لا تأكل لكي تموت وتُشارك المسيح في آلامه، فهو مات على الصّليب كي تحيا، لذلك لا تأكل لكي يحيا الآخر. ببساطة لا داعي للكبرياء في عطائكم للفقير. إذاً أنت تُشارك أحدهم ببساطة من دون إجراء المؤتمرات واستعمال البوق، لكي يعلم الجميع، لأنّ رِضى الله يتطلّب السّريّة.
أنتّ تُصلّي من أجل سلام كلّ العالم، من أجل الحاضِرين كما من أجل الغائبين. صلّوا ببساطة الإنجيل وتواضع المسيح وهذا ما تعيشونه في تفاصيل الأمور. لك الحقّ في النّظر إلى صحن غيرك في حالةٍ واحدةٍ وهي إذا كان فارغاً فتملأه. هذا هو الصّوم.
في الإصحاح الرّابع من إنجيل يوحنّا، لم يتطلّع يسوع إلى خطايا المرأة السّامريّة بل تابع كلامه، فبدل من أن ينخفض إلى مستوى خطيئتها رفعها إلى مستوى الخلاص. هذا هو النّهج الّذي عليكم أن تتّبعوه مع الآخرين. ليست الحياة الرّوحيّة في أن تُصلّي لمدّة خمس ساعات أو أن تمتنع عن أكل ما تُحبّ، فالشّيطان يدخل في التّفاصيل ويجعلك تمزج بين كلمة الله وعاداتك وتقاليدك وأفكارك وعقائدك. هذا هو رِضى الله وإرادته. ليس صدفةً أنّ الربّ يسوع كان يبكي عرقاً ودماً، حين كان في بستان الزّيتون وفي طريقه إلى الصّليب، وهو يقول "لِتكن مشيئتك لا مشيئتي" على الرّغم من أنّها المشيئة نفسها. والآن هذه هي صلاتنا، فإذا كنتَ تملك رضى الله إذاً أنتَ ناجِح، وتعرف ذلك من خلال رجائك، إضافةً إلى أنّك على يقينٍ بأنّ رحمته أكبر من خطيئتك فلا تدعها تتغلّب على رحمة الله. لا يحقّ لك أن تشعر باليأس والإحباط وتقول إنّك سيّئ، لأنّ الله قال العكس وعليك أن تُصدّقه بدلاً من أن تصدّق نفسك.

ملاحظة: دُوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
10/2/2015 إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول - الإصحاح الثالث حوار الربّ يسوع مع نيقوديموس
https://www.youtube.com/watch?v=IMCJEUp4ysU

تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول
الإصحاح الثالث
الأب ابراهيم سعد

10/2/2015


لا نزال في رِحاب إنجيل يوحنّا وكما قلنا، سنتوقّف عند محطّات من إنجيله لِنرى هدفه إضافةً إلى ما سيُعطينا من دروس في الحياة. سنناقش، اليوم، في الإصحاح الثّالث، حواراً جرى بين يسوع وشخصٍ معلّمٍ في اليهوديّة اسمه نيقوديموس، من كِبار الأحبار في المحفل اليهوديّ وهو فرّيسيّ أيّ من حزب دينيّ مؤلَّف من المُحافِظين والمُتشدّدين، إلّا أنّه يُقيم تطابقاً بين الحكم والدّين. لذلك كانوا من أصحاب الثّورة المناهضة للامبراطوريّة الرّومانيّة من أجل إعادة حكم داوود وفق المفهوم السّياسيّ وليس فقط وفق المفهوم الدّينيّ فَبَرعوا في التّعليم وفي معرفتهم للتّوراة. على الرّغم من أنّهم كانوا يعرفون، كانت تنقصهم القدرة أو انعدام الرّغبة في الاعتراف بيسوع كمسيح الله، لأنّهم لو قبلوا به لَكانت الأمّة اليهوديّة تفرّقت، فَلا أحد يستطيع أن يُغيّر دينه ويُصبح من هذه الأمّة بسهولة إن لم يكن منها أصلاً. لهذا السّبب كانوا يُسمّون الدّاخلين إليها بالدّخلاء، فهم يقبلونهم ولكنّهم لا يُعطونهم الامتيازات الّتي يحظى بها اليهوديّ، خصوصاً إذا كانت أمّه من أصلٍ يهوديّ.
أكثر مَن حارب يسوع كان من الفريسيّين إلى حدّ أنّهم كانوا مُستعدّين للتّحالف مع أعدائهم فتكون مصيبتهم مشتركة وهي يسوع. لقد تحالفوا مع الصّدوقيّين، وهم من حزبٍ آخر عدوّ لهم، يختلف إيمانه عن إيمانهم. فبالنسبة إليهم الغاية تُبرّر الوسيلة، في هدف إزالة يسوع من طريقهم. وكان نيقوديموس واحدٌ منهم ولكن، لأنّه كان مُتعمّقاً في التّوراة، تأمّل في ما يفعله يسوع ويقوله، فتساءل إن كان من الممكن أن يستطيع أحدهم أن يقوم بهذه الأعمال ويقول هذه الأقوال من دون أن يكون له صلة بالله، إذاً لا بدّ ليسوع من أن يكون له بصمة إلهيّة.

يقول يوحنّا في الإصحاح الثّالث: "كان إنسان من الفريسيّين اسمه نيقوديموس رئيساً لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلاً وقال له: يا معلّم نعلم أنّكَ قد أتيتَ من الله معلّماً لأنّ ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات الّتي أنتَ تعمل إن لم يكن الله معه"، إذاً هو يعترف بارتباط يسوع بالله عندما قال له "معلّم". "أجاب يسوع وقال له: الحقّ الحقّ أقول لكَ (في إنجيل يوحنّا فقط يقول يسوع "الحقّ الحقّ" مرّتيْن أمّا في الأناجيل الثلاثة الباقية فيقول "الحقّ" مرّةً واحدةً، والتّكرار دليل على تأكيد صحّة القول) إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يُمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ (تجري مقارنة بين الفكر البشريّ وفكر يسوع، وهذا ما ستتذكّرونه في ما بعد مع السّامريّة في الإصحاح الرّابع عندما بدأ بأسئلةٍ بسيطةٍ ثمّ ارتفع بها إلى الأعلى) أَلَعَلّهُ يقدر أن يدخل بطن أمّه ثانيةً ويولد؟ أجاب يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكَ إن كان أحد لا يولد من الماء والرّوح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد والمولود من الرّوح هو روح. لا تتعجّب إنّي قلتُ لكَ ينبغي أن تولدوا من فوق. الرّيح تهبّ حيث تشاء وتسمع صوتها لكنّكَ لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كلّ مَن وُلِد من "الرّوح" سيُصبح مصدره مجهولاً بالنّسبة إليك، لا تُدركه. أجاب نيقوديموس وقال له: كيف يُمكن أن يكون هذا؟ أجاب يسوع وقال له: أنتَ معلّم إسرائيل ولستَ تعلم هذا؟! الحقّ الحقّ أقول لكَ إنّنا إمّا نتكلّم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيّات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلتُ لكم السّماويّات، وليس أحدٌ صعد إلى السّماء إلّا الّذي نزل من السّماء، ابن الإنسان الّذي هو في السّماء. وكما رفع موسى الحيّة في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكن لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة، لأنّه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم لِيدين العالم بل لِيُخلّص به العالم. الّذي يؤمن به لا يُدان والّذي لا يؤمن به قد أدين لأنّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد وهذه هي الدّينونة، أنّ النّور قد جاء إلى العالم وأحبّ النّاس الظّلمة أكثر من النّور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة، لأنّ كلّ من يعمل السّيّئات يبغض النّور ولا يأتي إلى النّور لئلّا تُوبَّخ أعماله، وأمّا من يفعل الحقّ فيُقبل إلى النّور لكي تظهر أعماله أنّها بالله معمولة".

في القسم الأوّل من الإصحاح الثّالث، خلال هذا النّقاش بين يسوع ونيقوديموس، تُلا حظون أنّ يسوع أجاب على تساؤلات نيقوديموس. تكمن المسألة في أن تؤمن بيسوع ابن الله. لم يأتِ يسوع لِيدين ولكن لِيُخلّص. إذاً ليست الدّينونة عملاً يقوم به يسوع بل هي نتيجة قرارٍ اتّخذته بنفسك. النّور هو الأساس ولكن مَن يُحبّ الظّلمة لا يستطيع أن يكون في النّور فتكون الدّينونة اختيارك للظّلمة. والدّليل على ذلك، إذا كان أحدهم مسجوناً في مكانٍ لا يدخله النّور وفجأةَ تراءى له نور الشّمس سيُصبح كالأعمى لأنّ الشّمس تُنير للّذين في النّور وتُصبح عدوّةً للّذين في الظّلام. لذلك النّور هو عدوّ الإنسان الّذي يعيش في الظّلمة فليس للنّور طبيعتان أو وظيفتان ولكن المشكلة موجودة في الإنسان.
في بداية يسوع وعمله وكرازته، تكلّم على النّور والإيمان، فإذا أنتَ آمنتَ بيسوع المسيح وقبلت النّور لن تخجل بأعمالكَ إلّا إذا ارتكبتَ ما تُريد أن تخفيَهُ وفي هذه الحال ستشعر بالحنين إلى الظّلمة. وهذا ليس بالموضوع الجديد، فمنذ القرن السّابع قبل الميلاد، حامورابي هو الّذي وضع القوانين ومنها قانون العين بالعين والسّن بالسّن الّذي كان يُعتبر إنجازاً قانونيّاً للعدل.في ذلك الوقت، كانوا يؤمنون بأنّ إله القمر هو أقوى من إله الشّمس لأنّ القمر يظهر في اللّيل، أيّ في الوقت الّذي تتمّ فيه المؤامرات والسّرقات وكلّ الأعمال الشّريرة. إلّا أنّ حامورابي جعل الشّمس هي الإله الأهمّ فهي تظهر في النّهار، ولذلك أصبح القانون يفضح أعمالك. مشكلة الإنسان الأساسيّة هي في فكرة النّور وفكرة الظّلمة. إذا كان يسوع هو محورك، إذاً أنتَ عاشق للنّور وتنتمي إليه، ولكن إذا كنتَ رافضاً ليسوع فأنتَ في الظّلمة، كائناً من كان إلهك، غير يسوع، ستكون في الظّلمة.
إذا كنتَ تعترف بيسوع فهذه هي الولادة في المأوى الرّوحي أيّ المعموديّة. إذاً، اليوم، في الإصحاح الثّالث شرحٌ لسرّ المعموديّة في الكنيسة. كان النّاس يتعمّدون بنكران إلههم الوثنيّ الّذي كان يُعتبر شيطاناً لأنّه ضدّ الله، والاعتراف بيسوع المسيح ابن الله المخلّص. مَن أخذ الرّوح هو مَن قبِل كلمة الإنجيل والعكس صحيح. لذلك قال "مَن لم يولد بالماء والرّوح" أيّ مَن لم يولد من صلب الله. إذاً الولادة الجديدة الّتي تأتي من عند الله هي الثّانية ومختلفة عن الولادة الأولى، هي عندما تؤمن بأنّ يسوع المسيح هو المخلّص. دستور الإيمان الأوّل عند المسيحيّين هو الإصحاح الثّالث من إنجيل يوحنّا حيث يتكلّم يسوع في صيغة الجمع "إنّنا نتكلّم بما نعلم ونشهد بما رأينا" هذا كلام الإنجيليّ يوحنّا على لسان يسوع "ولستم تقبلون شهادتنا" أيّ الشّهادة بالإنجيل. هنا، رفع يسوع الحديث إلى مكانٍ آخر.
المولود من الرّوح هو روح: أوّلاً، عليكم أن تتحرّروا من فكرة الرّوح والجسد بحسب الخلفيّة الفلسفيّة اليونانيّة أيّ أنّ الرّوح غير ماديّ وبالتّالي هو حسن، وبأنّ الجسد ماديّ وبالتّالي هو سيّء. أمّا في الإنجيل فالرّوح يعني أنّك صرتَ في عالم الله والجسد يعني أنّكَ في عالم البشر أو الأرض. إذاً كلّ مَن وُلِد من الرّوح القدس يُصبح من نوعيّة الله نفسها. أنتَ روح إذاً أنتَ تنتمي إلى عائلة الله. من هنا تفهمون أنّ المعموديّة هي التّبني أي أنتَ تُصبح ابن الله. والمعموديّة ليست للتّخلّص من الخطيئة الأصليّة بهذه البساطة فقط، بل هي عملٌ إلهيٌّ لم يشترك فيه أحدٌ فهو إعلانٌ بأنّ الله قرّر، من دون رأيك، أن يجعلك ابنه. فإذا قبلت بذلك ستدخل عالم الرّوح وهو النّور أمّا إذا رفضتَ فستبقى في عالم الظّلمة. الولادة بالمعموديّة هي إعلان بأنّكَ ابن الله أيّ أنتَ تصبح مثل يسوع، فهو ابن الله.
معنى "مثل"، لغةً، أنّك تصبح وريث أبيكَ فترث منه الملكوت. لذلك قال يسوع لِنيقوديموس في بداية الحوار: "إن كان أحدٌ لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله". كلّ فكرة الإيمان بيسوع هي في هذه الآية: "لأنّه هكذا أَحَبَّ الله العالم" وحبّ الله للعالم هو "لأنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ مَن يؤمن به". إذاً لقد حصلتَ على حياةٍ أخرى، مختلفة وجديدة تحياها في هذا الجسد المُهترئ والضّعيف. تكمن خطورة فكر العالم في أنّ هدفه الوحيد هو جذبك إليه إمّا بالتّرغيب والإغراء إمّا بالتّرهيب. والخطورة الأكبر هي عندما يُمارس عليك الإغراء ويشدّك نحو الأسفل، ولكن مَن وُلِد من فوق، أيّ أنّ فكره وذهنه روحيّان، أيّ أنّه يُفكّر في الانسجام مع فكر الله، لا يخاف ولا يخضع للتّرغيب أو للتّرهيب. يزرع العالم الخوف فيك بالتّهديد بأنّك إن لم تعد من هذا العالم ستُصبح أمام الموت، ولكنّه فعليّاً يُهدّدك كي تبقى في الموت أمّا المسيح فلا يُهدّدك حتّى لو ارتكبت الخطيئة بل يأتيك بالبشرى وأنتَ خاطئ فتكون هديّته لكَ هي النّور. كلّ بشريّ، مهما عظُمَ شأنه في الدّنيا، هدفه أن تبقي معه. لذلك كانت وظيفة اليهود والفريسيّين ألّا يحصل الوثنيّون على ما يحصلون عليه إلّا إذا أصبحوا يهوداً، ولكنّ يسوع قال إنّ الوثنيّين يستطيعون أن يُصبحوا مسيحيّين من دون المرور باليهوديّة، فهو الباب، وغيره لصٌّ سارِقٌ. وهذا هو ما لا يقبله أحد.
على سبيل المثال، إذا قرّر زوجان أن ينفصلا ولم يحصلا على الطّلاق في الطّائفة الّتي ينتميان إليها، يلجآن إلى طائفة أخرى وهذه الأخرى تقبلهما لكي يزيد عددها وليس بهدف حلّ مشكلتهما الزّوجيّة. العلّة الكبرى هي فكرة الأقليّة والأكثريّة. فالأقليّة تجعلك في مواجهة الموت خوفاً من الأكثريّة. يسوع، في إنجيل يوحنّا، هو من الأقليّة إلى حدّ أنّه، وهو على الصّليب، لم يبقَ معه سوى شخصٍ واحدٍ، وهو يوحنّا الحبيب إضافةً إلى أمّه. إذاً لقد أنهى يسوع فكرة الأقليّة والأكثريّة كما فعل بولس الرّسول أيضاً، لأنّه ليس المهمّ أن تكون من الأكثريّة أو من الأقليّة بل المهمّ هو كيف تُفكّر وماذا تقول وفي من تحيا، ولا تخف أن يُبعدوك، فمعلّمك غرّبوه فقتلوه. لو لم يُقنع النّاس بأنّه غريب لَكانوا دافعوا عنه إلى حدّ أنّ المُقرّبين منه، يخجلون به وينكرونه كما فعل بطرس. وكذلك أنت، يجعلونك غريباً بطرقهم، كي تُطرد من مجتمع الأكثرية.
"هل تركع وتعود إلى العالم أو تتحرّر منهم وتذهب إلى الملكوت؟" قال لهم يسوع: "ثقوا فأنا قد غلبتُ العالم". الشّرّ لا يستطيع أن يقبل النّور والّذي يعيش في النّور لا يخاف الشّرّ ولا الظّلمة لأنّه يعرف أنّها وَهْمٌ والنّور هو الحقّ. ماذا كان سيحصل لو لم يقتلوا يسوع؟ أجاب رئيس المَجمَع: "خيرٌ أن يموت واحدٌ بدلاً من الأمّة بكاملها" لقد فهم أنّ يسوع هو العدوّ. قال ذلك للّذين أمضَوْا سنيناً يعتبرون أنفسهم تلاميذ الله ولكن عندما جاء النّور الحقيقيّ لم تقبله خاصّته. إذاً العداوة هي من الدّاخل والعدوّ الحقيقيّ هو النّور. لذلك جمهور الشّيطان هو أكثر من جمهور الله لأنّ الإنسان يبحث دائماً عن الّذي يُفيده وهو موجود في الظّلمة. لقد واجه يسوع نيقوديموس بهذه الحقيقة. ولكن إذا أنتَ قبلت بالنّور، لا ضرورة للخوف لأنّ المحبّة تطرد الخوف خارجاً والعكس صحيح، فالخوف يطرد الحبّ خارجاً.
تلاحظون أنّ هناك عداوةً جديدةً بين النّور واللّا نور أيّ الظّلمة وبين الحبّ والخوف. أتاكم يسوع بالحبّ ولكنّ العالم بادره بالخوف. الحبّ والخوف لا يلتقيان وسيُلغي واحدهما الآخر. استطاع جمهور الخوف أن يقتل، لِلحظات قليلة، وحتّى هذه السّاعة لا تزال العداوة موجودة بين الحبّ والخوف. نتيجة الخوف هي أن تحمل سيفاً، أمّا نتيجة الحبّ فهي أن تُصلب. هذان طريقان مختلفان وهنا الحكمة وصبر القدّيسين. ليس الخوف فقط من أن يقتلك أحدهم بل إنّ الإغراء الموجود فيك يخلق خوفاً من أن تخسره لذلك عندما تشعر بأنّ أحدهم سيحلّ مكانك تخلق عداوةً بينك وبينه.
يسوع المسيح، بحسب بولس الرّسول، يقول: "أمّا نحن فلنا فكر المسيح" يسوع هو الوحيد الّذي لم يخف من أن يحلّ مكانه أحد لذلك وصل إلى الصّليب وإلى ما بعد الصّليب فركعت تحت أقدامه كلّ سلطات هذه الدّنيا. من لا يخاف أن يحلّ أحدهم مكانه يكون مكانه أصيلاً لم يسرقه. كونه ابن الله ومقتنع بذلك، لم يخف من أن يحلّ أحد مكانه، وبذلك ألغى الخوف وحافظ على الحبّ الّذي لا يوصل إلّا إلى الصّليب. كلّ من أحبّ سرى الموت فيه ولكنّ الحياة تسري في مَن أَحبَّهُ. يقول بولس الرّسول: "الموت يسري فينا والحياة فيكم" أيّ لأنّنا نحبّكم أعطيناكم الفرح وكلمة الله. إذاً من اقتبل الحبّ نهجاً، عانق الصّليب عِناقاً، ولا تستطيع أن تهرب من هذه المعادلة ولا تستطيع أن تحبّ من دون أن تُصلب، فالحبّ جنون لأنّك تقتله ويحبّك، ويطلب من أبيه أن يغفر لك ويجعلك جاهلاً لأنّ الله يُحاكم العارفين ويرحم الجاهلين "لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون". ارتضى يسوع الصّليب لأنّه يعرف أنّ الحبّ يُوَلّد الصّليب. هذا ليس دين العذاب بل دين الحبّ، فكما أنّ الحبّ وَلَّدَ الصّليب، الصّليب وَلَّدَ القيامة. لذلك الّذين يقبلون النّور لا يخجلون بأعمالهم، فكلّ من يرتكب الخطيئة خطّط لها سرّاً ولكن الّذين في النّور لا يرتكبون الخطيئة عن قصد لكنّهم يصنعون الخير سرّاً. إذاً الّذين يولدون "من فوق" يُغيّرون العالم.
يُعطيك هذا النّصّ نوعيّة تفكير تستطيع أن تُواجه من خلالها المشكلة الكبيرة والمشكلة الصّغيرة ولكنّك تبدأ بمواجهة الصّغيرة حتّى تتمكّن من مواجهة الكبيرة، ولهذا عليك أن تكون يقِظاً ومُنتبِهاً دائماً شرط أن تكون كلمة الله ساكِنة فيك فهي المُنبّه. لذلك إن لم تكن متعلّماً على يد المعلّم يسوع ستكون ذلّاتك لا تُحْصى.
يُتابع يوحنّا: "وبعد هذا، جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض اليهوديّة (بدأ بالتكلّم على تلاميذه لإثبات بأنّه معلّم) ومكث معهم هناك وكان يُعمّد (بعد التّكلّم مع نيقوديموس على الماء والرّوح، ذكر يوحنّا أنّه يُعمّد إذاً المقصود هو المعموديّة) وكان يوحنّا أيضاً يُعمّد في عين نون بقرب ساليم (إذاً يسوع ويوحنّا يُعمّدان ولكن سنرى في ما بعد أنّ يسوع لم يكن يُعمّد) لأنّه كان هناك مياه كثيرة وكانوا يأتون ويعتمدون ولأنّه لم يكن يوحنّا قد أُلقي بعد في السّجن. وحدثت مباحثة بين تلاميذ يوحنّا ويهود من جهة التّطهير. فجاءوا إلى يوحنّا وقالوا له: يا معلّم هوذا الّذي كان معك في عِبْر الأردن الّذي أنتَ قد شهدتَ له هو يُعمّد والجميع يأتون إليه". هنا يجعل اليهود تناقضاً بين العهد القديم والعهد الجديد على الرّغم من أنّ الإنجيل يقول إنّ يسوع جاء ليُحقّق كلمة الله الواحدة ويُفسّرها، فأراد اليهود أن يخلقوا التّناقض بين كلمة الله في العهد القديم وكلمة يسوع. ونحن وقعنا في هذا الفخ إذ إنّنا اعتبرنا أنّ الله في العهد الجديد هو أفضل من العهد القديم وبهذا انتصر اليهود. قالوا ليوحنّا إنّه يُعمّد كما يسوع يُعمّد وبالتّالي لا فرق بينهما، إلّا أنّهم انتبهوا أنّ كثيرين هم الّذين يأتون إلى يسوع أيّ يؤمنون به. يُتابع: "أجاب يوحنّا وقال: لا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أُعْطِيَ من السّماء. أنتم أنفسكم تشهدون لي أنّي قلتُ لست أنا المسيح. (يسعى اليهود إلى جعل يوحنّا مثل المسيح كي يستقصوه فأجابهم يوحنّا بأنّه هو العهد القديم ويسوع هو العهد الجديد وبالتّالي لا يستطيع أن يحلّ مكان العهد الجديد) بل إنّي مرسَلٌ أمامه. مَن له العروس فهو العريس وأمّا صديق العريس الّذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس إذاً فرحي هذا قد اكتمل. ينبغي أنّ ذلك يزيد وأنّي أنا أنقص. الّذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والّذي من الأرض هو أرضيّ ومن الأرض يتكلّم الّذي يأتي من السّماء هو فوق الجميع. وما رآه وسمعه، به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومَن قبل شهادته فقد ختم أنّ الله صادقٌ (بيسوع المسيح يُعلن صدق الله) لأنّ الّذي أرسله الله يتكلّم بكلام الله لأنّه ليس بِكَيْلٍ يُعطي الله الرّوح. الآب يُحبّ الابن وقد دفع كلّ شيءٍ في يده. الّذي يؤمن بالابن له حياةٌ أبديّةٌ والّذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياةً بل يمكث عليه غضب الله". لسنوات عديدة كان اليهود يحتفظون بالتّوراة ويعتبرون أنّ الله هو لهم وحدهم ولكن عندما اكتملت كلمة الله لِيُثبتها بيسوع فهو الختم الحقيقيّ لكلمته، رفضوه لذلك سيأتي عليهم غضب الله. لقد قال يوحنّا الكلام نفسه الّذي قاله المسيح، إذاً كلمة الله في العهد القديم هي نفسها في العهد الجديد. وتكمن المشكلة في أنّ الوجوه تتغيّر ولكن لا شيء جديد تحت الشّمس.
لقد فهمنا، اليوم، كيف تكون أنتَ مُعمَّداً بالرّوح القدس, فالمعموديّة هي معموديّة الفكر والطّريقة لكي يتعمّد الفكر هي في أن تسمع دائماً كلمة الله. معموديّة الفكر هي معموديّة يوميّة بكلمة الله، ولكنّ الّتي تجعلك ابن الله تحصل مرّةً واحدةً. لذلك، خلال القدّاس، يقرأون مقطعاً من الرّسالة وآخر من العهد القديم كما مقطعاً من الإنجيل وآخر من المزامير أيّ من الكتاب المقدّس كلّه. في الكنيسة الأولى، كانت قراءاتهم تشمل مقاطع من العهد القديم ومن العهد الجديد. هذه هي كلمة الله الّتي تُعمّدكَ فتُصبح ابنه. لذلك خلال القدّاس يُقرأ الإنجيل قبل المناولة لكي تقبل به وتُصبح ابن الله فَيحقّ لكَ أن تتناول.
ملاحظة: دُوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
3/2/2015 إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول - الإصحاح: الأول والثاني لاهوت يوحنّا ومعجزة قانا
https://www.youtube.com/watch?v=AwfSBocobeo

تفسير الكتاب المقدّس
إنجيل القدّيس يوحنّا الرسول
الإصحاح: الأول والثاني
الأب ابراهيم سعد

3/2/2015

سنتكلّم، في هذا الموسم، على إنجيل يوحنّا وبخاصّةٍ الإصحاح السّابع عشر. ولكن أوّلاً، سنبدأ ببعض الأمور المُتعلّقة بهذا الإنجيل. إنجيل يوحنّا مُختلف عن الأناجيل الأخرى الثّلاثة أيّ أناجيل متّى، مرقس ولوقا بمعنى أنّ هؤلاء يتّبِعون سياقاً مُتاشبِهاً فهناك الكثير من الأمور المُشتركة بينهم لذلك تسمّى بالأناجيل الإيزائيّة، أيّ يُمكنكم أن تضعوا هذه الأناجيل إيزاء بعضها فَترَوْن التّشابه والاختلافات في ما بينها أمّا مسيرة كِتابة إنجيل يوحنّا فَلا تنسجِم مع الأناجيل الباقية.كما تعرفون، يتكلّم يوحنّا على نفسه ويقول إنّه شاهدٌ على هذه الأمور من دون ذِكر اسمه في النّصّ، ولكنّ التّقليد الكَنسيّ يقول إنّ يوحنّا هو الشّاهِد.كما أنّ يوحنّا، في التّقليد، هو الّذي وضع رأسه على صدر المسيح خلال العشاء السّريّ قائلاً له: "مَن الّذي يُسلِمُكَ". يقول أحد المُفكّرين إنّه عندما وضع رأسه على صدر يسوع من جهة القلب، أخَذَ الّلاهوت كلّه لذلك يتكلّمون على عمق لاهوت يوحنّا الإنجيليّ.
لن يَتَسَنّى لنا الوقت للتّكلّم على الإنجيل بِكامله، ولكننا سنتوقّف عند بعض المحطّات فيه. أعتقد أنّ المحطّة الأساسيّة هي في عبور النّصّ من مكانٍ إلى آخر، وذلك في الإصحاح السّادس من الإنجيل، كما في العهد القديم، حين تَمَّ الخروج بِفضل موسى باجتياز البحر الأحمر، بِحسب التّقليد اليهوديّ، وهذا العبور هو من مكانٍ إلى آخر. فيسوع، في الإصحاح السّادس، يَعْبُر الماءَ وكأنّه عبورٌ جديدٌ بِخليقةٍ جديدةٍ. في ما قبل الإصحاح السّادس، نجد نوعاً من مسيرة يسوع، يُقيم لها يوحنّا تشابُهاً مع كيفيّة انتقال الإنجيل، في الكنيسة الأولى. لقد بدأ في فلسطين وانتقل إلى السّامِرة ومن بعدها توجّهَ إلى الأمم. لذلك تَرَوْنَ، في إنجيل يوحنّا، أوّلاً حِواراً مع نيقوديموس في إسرائيل أيّ اليهوديّة في الإصحاح الثّالث، ثانياً حِواراً مع السّامريّة أيّ السّامرة في الإصحاح الرّابع، وثالثاً في الإصحاح الخامس يتحدّث عن قصّة البركة حيث حصلت عجيبةٌ فَنزل ملاكٌ وحرّكَ المياه فيها. كأنّ الإنجيل انتقل من اليهوديّة إلى السّامرة فأقصى الأرض. هذه هي البِشارة الّتي اعتمدها يسوع كما الإنجيل في سفر أعمال الرّسُل. بداية إنجيل يوحنّا صعبة فَعَقل الإنسان الفلسفيّ يقرأ كلّ شيءٍ انطلاقاً من الفلسفة. أقترح عليكم أن تقرأوا إنجيل يوحنّا بِعقلٍ كتابيّ لا فلسفيّ. وعليكم أن تربِطوا دائماً كلمة "كِتابيّ" بالعهد القديم أيّ أنّ يسوع هو المُفسّر الوحيد لكلمة الله وكلّ تفسير آخر ينسجم بالتأكيد مع هذا المُفسّر. لذلك يقول في الإصحاح الأوّل: "الله لم يَرَهُ أحدٌ قطّ" الابن الوحيد الّذي هو في حِضن الآب هو الّذي فَسَّرَ وأخْبَرَ، وفي اليونانيّة، استعملوا كلمة "تفسير" أيّ مفتاح تفسير كلّ كلمة قالها الله هو يسوع المسيح وذلك يعني أنّ اليهود أصبحوا عاجزين عن تفسير العهد القديم إلّا على ضوء يسوع، ومَن لم يقبلهُ يخرج، حتّى لو كان يهوديّاً، من إسرائيل.

كلمة "إسرائيل" هي كلمة لاهوتيّة لا سياسيّة أو مُجتمعيّة أو جغرافيّة، أيّ لا وجود لبلدٍ اسمه إسرائيل في الكتاب المُقدّس بل هناك شعبٌ اسمه إسرائيل ومَن يُحدّدها هو الله لا الشّعب، لذلك كلّ فكرة الدّولة وإنشائها هي كلام يهوديّ سياسيّ لا علاقة له بالكتاب المقدّس. وخطأ المسيحيّين هو أنّهم جعلوا سرقة اليهود للعهد القديم شرعيّةً لأنّ أيّ استناد إلى التّوراة لِمَن لم يقبل يسوع هو سرقة. يقول يسوع: "هو سارِقٌ ولصٌّ". إذاً بسبب جَهْلِنا لهذه الأمور، سلّمنا بأنّ اليهود يملكون التّوراة وبأنّنا نملك العهد الجديد على الرّغم من أنّ اليهود لا يملكونها بل سرقوها، لأنّ أيّ تفسير للتّوراة، بِمعزل عن يسوع المسيح، هو خاطئ، ويصل بهم هذا التّفسير من دون يسوع، إلى أن يُصبحوا أمّةً، شعباً أو خيرًا لأمّةٍ أُخرِجَت للنّاس على الطّريقة الإسلاميّة أو الشّعب المُختار، ولكن عندما يختار الله لا يكون اختياره امتيازاً لكَ ولكن امتيازاً لِقُدسه.

إذا قرأتم يوحنّا، تنتهي أسطورة الشّعب المختار كما تنتهي أسطورة فكرة إسرائيل كدولة وتنتهي أسطورة أنّ أبناء ابراهيم هم اليهود لأنّه، أوّلاً، ابراهيم ليس يهوديّاً، فهو جاء من العراق، بلاد ما بين النّهريْن. مَن دخل على بُنُوّة ابراهيم هو الّذي يقبل إيمان ابراهيم ومَن بَقِيَ في بُنُوّة ابراهيم، بِحسب الكشف الجديد، هو الّذي قَبِلَ الإيمان بيسوع المسيح فَمَن لم يقبل به لم يعد ابن ابراهيم بينما الّذي قَبِلَ بإيمانه أصبح ابن ابراهيم على الرّغم من كونه وثنيّاً.

في الإصحاح الأوّل، يقول يوحنّا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله". تذكّروا كتاب التّكوين الّذي يُسمّى، في العبريّة، "بيريشيت" لأنّه، قديماً، شكل كُتُب العهد القديم لم يكن كما هو اليوم. كان كلّ كتاب على شكل ورقةٍ ملفوفةٍ وتوضع كلّ الأوراق في صندوق، فَيختارون ورقةً منها، يفتحونها ويقرأون الكلمة الأولى منها الّتي يُسمّون الكتاب بِحسبها فيقولون، مثلاً، إنّ هذا هو كتاب "البريشيت" أيّ "في البدء"، كما يقولون في كتاب التّكوين: "في البدء خلق الله السّموات والأرض" إذاً هذا هو كتاب "البريشيت". كما يتحدّث كتاب التّكوين عن الخلق الأوّل من العدم، فيحدث الخلق من كلمة الله فقال: "ليكن نوراً" فكان نوراً. إذاً مَن خلق، في العهد القديم في التّكوين، هو كلمة الله الفاعلة. لذلك بدأ يوحنّا إنجيله بعبارة "في البدء، كان الكلمة" وليس خَلَقَ، فهو يتكلّم على أزليّة كلمة الله، ويقول في الآية الرّابعة عشرة: "والكلمة صار بشراً وحلّ بيننا" في اليونانيّة، إذا أردتم ترجمتها بشكلٍ صحيحٍ تقولون: "وضرب خيمته في وسطنا" أيّ سكن فينا وبيننا. إذاً كلمة الله الأزليّة وهي الله الّذي صار جسداً، بشراً وحلّ في وسطنا. هنا، بدأ يوحنّا بالمقارنة، "ورأينا مجده، مجداً كما لِوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمةً وحقّاً، يوحنّا شَهِدَ له و نادى قائلاً: هذا هو الّذي قلتُ عنه، إنّ الّذي يأتي بعدي صار قُدّامي لأنّه أصلاً قبلي، ومِن مِلئِه نحن جميعاً أخذنا نعمةً فوق نعمة أو نعمةً بدل نعمة".

قديماً، كان هناك نعمة النّاموس، أمّا الآن فأصبح هناك نعمة المسيح, هو يُنحّي النّاموس لِيأخذ المسيح مكانه. هو يقول لليهود إنّه بِمجيء المسيح أصبح خلاصكم به لا بالنّاموس. ويُتابع: "لأنّ النّاموس بموسى أُعطِيَ. وأمّا النّعمة والحقّ فبيسوع المسيح حصلا. الله لم يرَهُ أحدٌ قطّ" تذكّروا قول الله لِموسى عندما أعطاه الوصايا العشرة: "لا أحد يرى وجهي ويحيا" ويُتابع يوحنّا: "الابن الوحيد الّذي هو في حِضن الآب هو خبّر". هو يقول لليهود إنّهم إذا أرادوا أن يعرفوا أيّ شيء عن الله ليس أمامهم إلّا باباً واحداً يقرعونه، هو يسوع المسيح. يُحاول يوحنّا إفهام النّاس أنّ كلّ يهوديّ لا يقبل بيسوع ليس ابن الله، بينما كلّ وثنيّ الّذي قبل به يُصبح ابناً له فيقول: "إلى خاصّته جاء وخاصّته لم تقبله وأمّا كلّ الّذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أيّ المؤمنون باسمه الّذين وُلِدوا ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله".

مَن هو الّذي وُلِدَ بِمشيئة جسد وبِمشيئة رجل؟ في العهد القديم، عندما كان ابراهيم وسارة يتناقشان حول موضوع أنهما لم يُرزقا بطفل وتشاورا مع هاجر كي تُنجب لابراهيم طفلاً. هذا هو اسماعيل ابن هاجر الّذي وُلِد بمشيئة جسد وبِمشيئة رجل. لا إمكانيّة لابراهيم وسارة العجوزيْن على أن يُنجبا طفلاً فقرّر الله، بواسطة الملاك، أن يُرزقا بطفل هو اسحق الّذي وُلِد بِمشيئة الله. في ذلك الوقت لم تُصدّق سارة ما قاله الملاك وضحكت، لذا قال لها الله إنّها ستُسمّيه اسحق أيّ "اضحك" كي لا تنسى أنّها لم تُصدّق. وبالتّالي، يُقيم، هنا، يوحنّا مقارنةً بين ابن هاجر وابن ابراهيم المولود بقرارٍ إلهيّ. عندما يتحدّث الكاتب عن ابن هاجر يقول: "وعرف ابراهيم هاجر وأنجب طفلاً" أمّا عندما يُخبر عن ابن سارة لا يذكر العلاقة بينها وبين ابراهيم لأنّ كلّ همّه أن يجعلك تفهم أنّه قرارٌ إلهيٌّ. فالله يُقيم مشروعاً والقرار في يده، لا ينتظر رأيك ولا مشيئتك. وبالتّالي، كلّ مَن آمن بيسوع المسيح صار مولوداً بمشيئة الله أيّ، هو اسحق، وكلّ مَن لم يؤمن بيسوع المسيح، حتّى ولو كان يهوديّاً، صار ابن هاجر. يوحنا هو أوّل َمَن قال ذلك ومن بعده بولس الرّسول الّذي تحدّث عن ابن الحرّة وابن الجارية. إذاً، منذ بداية الإنجيل، يقول يوحنّا إنّ هناك خليقة جديدة، كون جديد بيسوع المسيح، معيارهما هو الإيمان بيسوع فتُصبح ابن الله، وإن لم تؤمن بيسوع فأنتَ لستَ ابن ابراهيم ولا ابن الله. كلامه هذا موجّهٌ إلى اليهود وبخاصّةٍ الى الّذين صاروا مسيحيّين وما زالوا يقولون إنّه إذا كان الّذي آمن بيسوع وثنيّاً سيبقى في المرتية الثّانية وسنظلّ نحن في المرتبة الأولى لأنّنا شعب الله المُختار ولكي يُصبح مثلهم، عليه، في رأيهم، أن يدخل شريعة موسى أوّلاً وبعدها إلى المسيحيّة. ولكن ليس، من الضّروريّ، أن يمرّ الوثنيّ بالشّريعة اليهوديّة الموسويّةً كي يصير مسيحيّاً. هذا هو صراع بولس الرّسول في الكنيسة الأولى فقد دبرّوا ضدّه المؤامرات وحاولوا قتله.

أنتَ، عن طريق اليهوديّة، تدخل في الخِتان، أمّا كي تدخل في المسيح، مباشرةً، فعليكَ أن تدخل في المعموديّة، أيّ الإيمان بيسوع. يقول بولس الرّسول لأهل غلاطية: "أنتم كيف أخذتم الرّوح؟ أبِأعمال النّاموس أو بِسماع الإيمان؟" أيّ كأنّهم أصبحوا ورثة شيء عظيم ولكنّهم أرادوا أن يعودوا أُجراء، فقال لهم: "أيّها الغلاطيّون الأغبياء، مَن سحركم أو رقّاقكم حتّى تتراجعوا عن الإنجيل". إذاً، يسوع المسيح، بالنّسبة إلى يوحنّا، هو أنّ النّاموس، بمجيء يسوع، انتهى سلطانه كشريعة وبقيت فيه كلمة الله، فقط، الّتي يُفسّرها يسوع لذلك هو يُحاول أن يُبعد اليهود المسيحيّين وعلى سبيل المثال يقول في الآية التّاسعة والعشرين من الإصحاح الأوّل: "وفي الغد" أيّ في اليوم التّالي وعندما يقولها في اليوم التّالي أيّ هو يعني اليوم الثّالث ومن بعده اليوم الرّابع وعندما يقول، أخيراً، في اليوم الثّالث بعدها أيّ بعد ثلاثة أيّام فهو يعني اليوم السّابع. "وفي الغد، نظر يوحنّا يسوع مُقبِلاً" فَتكلّم يوحنّا المعمدان وهو آخر أنبياء العهد القديم. فَبِمجيء يسوع طُوِيت صفحة العهد القديم وبدأنا بالعهد الجديد، قال لهم: "هذا هو الّذي قلتُ عنه صار قُدّامي، لم أكن أعرفه، لكن لِيظهر لإسرائيل، جئتُ اُعمّد بالماء، وشَهِدَ يوحنّا "قد رأيتُ الرّوح نازلاً مثل حمامة من السّماء فاستقرّ عليه" وفي اليونانيّة "مُستَقِرّاً" تعني أنّه جلس وسيبقى جالِساً. فَفي التّكوين، كان الرّوح يرفّ على وجه المياه. في إنجيل يوحنّا، مشهدٌ جديدٌ بالتّقسيمات ذاتها ولكن بِمعانٍ مُختلفةٍ. إذاً الحمامة تعني الرّوح القدس "الّذي ترى الرّوح نازلاً مُستقِرّاً عليه" هذا هو الّذي عليكم أن تتبعوه.

في الآية الخامسة والثّلاثين، يقول: "وفي الغد (أيّ اليوم الثّالث)، نظر إلى يسوع ماشِياً قال هُوَذا حمل الله" والحمل هو ما يُقدّمه النّاس كذبيحة إلى الله كي يغفر لهم، فَمَن يُقدّم ذبيحةً هو مُرتكِب الخطيئة ولكن، هنا، الله هو الّذي يُقدّم ذبيحة على الرّغم من أنّه ليس بِحاجةٍ إليها، إذاً هو يُقدّمها من أجلنا. وهنا، يحصل التّغيير بالمعنى لأنّ ذبيحة الشّعب غير نافعة، لذلك قرّر الله تغيير الأسلوب وأصبح هو الّذي يُقدّم الحمل. أُذكّركم بسفر أشعيا حيث يقول: "أن قدّم نفسه ذبيحةً" أيّ أنّ الله قدّم هذا العبد ذبيحةً من أجل معاصينا "كَشاةٍ سيقَ إلى الذّبح وكِحملٍ بريءٍ من العيْب" ويُتابع: "وفي الغد أيضاً كان يوحنّا واقِفاً هو واثنان من تلميذاه قائلاً هذا هو حمل الله فسمعه تلميذان يتكلّم فَتبِعا يسوع" إذاً من الآن وصاعِداً ستتبع يسوع لا النّاموس؟ "فالتفت يسوع ونظر إليهما يتبعانه، فقال لهما: ماذا تطلبان؟ فقالا: يا معلّم أين تمكث؟ فقال لهما: "تعاليا وانظرا" فَأتيا ونظرا أين كان يمكث ومكثا عنده ذلك اليوم. وكان نحو السّاعة العاشرة وكان أندراوس، أخو سمعان بطرس" أندراوس هو الشجاع، والشّجاع هو الّذي اختار، أوّلاً، يسوع وكان بطرس أخا الشّجاع لأنّه كان يخاف. ويُتابع في الآية الثّالثة والأربعين: "وفي الغد (أيّ اليوم الرّابع) أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل فوجد فيلبّس فقال له: اتبعني. كان فيلبس من بيت صيدا من مدينة إندراوس وبطرس. فيلبس وجد نثنائيل وقال له: وجدنا الّذي كتب عنه موسى في النّاموس والأنبياء (إذاً هدف كلّ كلمة الله هو أن تصلوا إلى إيجاد يسوع) يسوع ابن يوسف الّذي من النّاصرة، فقال له نثنائيل: أمِنَ النّاصرة يُمكن أن يكون شيء صالحاً؟ (لأنّ النّاصرة تقع في منطقة فيها مزيج من يهود وغيرهم فلا صلاح إن لم تكن المنطقة صافية) قال له فيلبّس: تعال وانظر (وتعني في اللّغة العربيّة تحقّق واختبِر) ورأى يسوع نثنائيل مُقبِلاً إليه، فقال عنه: هوّذا إسرائيليٌّ حقّاً لا غشّ فيه (أيّ هو مؤمن بِحسب النّاموس، صافي العقل، يهوديّاً) قال له نثنائيل: مِن أين تعرفني؟ قال له يسوع: وأنتَ تحت التّينة رأيتكَ أجاب نثنائيل: يا معلّم أنتَ ابن الله أنتَ ملك إسرائيل" يقول بعض المُفسّرين إنّ نثنائيل كان تحت التّينة وحده قبل أن يُكلّمه فيلبّس فلا أحد يعرف مكانه إلّا الله وطالما يسوع علِم مكانه إذاً هو ابن الله. وهناك تفسيرٌ آخر قُبطيّ استعاريّ يقول: عندما كان نثنائيل طفلاً وقرّر هيرودس قتل كلّ أولاد بيت لحم، خبّأته أمّه تحت التّينة. ولكن هذه القصّة غير موجودة في إنجيل يوحنّا إذاً هذا التّفسير ضعيف. أمّا التّفسير الّذي ينطلق من هذه القراءة فسأشرحه ولكن تذكّروا كلمتيْ التّينة وإسرائيل. ويُتابع في الإصحاح الثّاني: "وفي اليوم الثّالث" أيّ أصبحوا في اليوم السّابع في عرس قانا الجليل حيث يُصبح الماء خمراً إضافةً إلى مريم ويسوع الّذي يقول لها "يا امرأة" وهناك تلاميذه يقولون "رأينا مجده" إذاً في اليوم السّابع نرى مجده في نهاية قصّة قانا الجليل، وفي نهاية إنجيل يوحنّا، ظهر مجد يسوع على الصّليب أيّ بالنّسبة إلى يوحنّا، الصّليب هو المجد. فعندما صُلِبَ يسوع تَمَجَّدّ. كما في الإصحاح السّابع عشر "مجّدني بالمجد الّذي كان عندك قبل كون العالم". وهو على الصّليب، صرخ بأنّه ابن الله قائدُ المئة وهو وثنيّ لا يهوديّ أيّ هو الّذي وصل إلى الاعتراف بيسوع في مكانٍ صعب، الاعتراف بِربوبيّته، وبهذا صار ابناً لله بحسب إنجيل يوحنا، واليهوديّ الّذي لم يقبل بيسوع وقرّر أن يصلبه صار ابن هاجر.

في إنجيل يوحنّا كلّه، تُذكر عبارة "يا امرأة" مرّتيْن، في عرس قانا الجليل وعلى الصّليب. لقد نادى يسوع أمّه "يا امرأة" ليس لِيُقلّل من شأنها، كما يقول البعض، فمعنى "امرأة" هو حوّاء فهو يقول لها "أنتِ حوّاء الجديدة" إذاً هذا تكريمٌ فائق لها والدّليل على ذلك هو أنّه قال لها: "ما لي ولكِ يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد" قالت: "مهما قال لكم فافعلوه". إذاً حوّاء الجديدة لم تُرِد أن تسمع بأذنها إلّا من يسوع كما تطلب من الجميع أن يسمعوا من يسوع. بينما في العهد القديم، سمعت حوّاء من الأفعى. في عرس قانا، كانت مريم مع التّلاميذ وعلى الصّليب كانت مع التّلميذ، فَالمهمّ مَن يبقى إلى المُنتهى. في عرس قانا، الماء أصبح خمراً وعندما شُكّ يسوع في جنبه وهو على الصّليب نزف ماءً ودماً. هنا يظهر التّشابه بين عرس قانا وصلب يسوع. والعرس يعني الفرح، إذاً أنتم دخلتم الفرح الدّائم بِقبولكم عمل يسوع الخلاصيّ على الصّليب علماً أنّه لا دور للعريس في عرس قانا الجليل، على عكس يسوع وهو الآمِر النّاهي، إذاً هو العريس.
يُتابع يوحنّا: "وبعد هذا، انحدر إلى كفرناحوم هو وأمّه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك أيّاماً ليست كثيرة، وكان فصح اليهود قريباً فصعد يسوع إلى أورشليم ووجد في الهيكل الّذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصّيارفة. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة، فتذكّر تلاميذه أنّه مكتوب: غيرة بيت أبي أكلتني". لقد تحدّث فقط مع باعة الحمام أيّ باعة الرّوح القدس الّذين يُتاجِرون بالرّوح، وهم اليهود الّذين استعملوا الهيكل من أجل تحقيق مصالحهم حتّى يبقَوْا الأمّة ويُصبح يسوع خارجاً، ولكن هو الّذي دخل وهم أًصبحوا خارجاً. يُتابع: "فأجاب اليهود وقالوا له: أيّة آية تُرينا حتّى تفعل هذا؟" هم يُريدون منه أن يجعل عجيبةً تحصل لكي يُصدّقوه. في إنجيل يوحنّا، لا وجود لكلمة "عجيبة" ولكن "آية". تحمل الكلمتان المضمون نفسه ولكن، أدبيّاً، العجيبة هي عمل خارق يظهر في عمل الله أمّا الآية فهي لافتة تدلّك إلى الّذي ستذهب إليه. يوحنّا، في إنجيله، يتكلّم على العجائب على أنّها آيات. عليكم أن تتخطَّوْا العجيبة لكي تصلوا إلى المكان الحقيقيّ فالآية هي الّتي توصلكم إلى الله شرط ألّا تتوقّفوا عندها. "أجاب يسوع وقال لهم: أُنقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيّام اُقيمه" لقد استعمل كلمة "أُقيمه" وليس "أبنيه". "وأمّا هو فكان يقول عن هيكل جسده" إذاً صار يسوع هيكل الله الحقيقيّ، سيقتلونه ويقوم في اليوم الثّالث. إذاً هو يتكلّم على موته وقيامته أيّ انتهى الهيكل.

في العهد القديم، في سفر الملوك، في الإصحاح الرّابع، يقول: "وكان إسرائيل كلٌّ آمناً، مُستقِرّاً، كلٌّ تحت تينته وكَرْمَتِهِ". وفي الإصحاح الخامس يبدأ ببناء الهيكل. أيّ قبل بناء الهيكل كنتم تعيشون بأمانٍ واستقرارٍ لأنّ الله كان يحميكم، بعدها أردتم بناء الهيكل لِيؤمّن لكم الحماية والمجد والسّلطة فتدمّر الهيكل وتدمّرتم معه.
قرأ يوحنّا كلمة الله في العهد القديم في سفر الملوك ثمّ أعاد كتابتها، بطريقةٍ جديدةٍ، وفسّرها: "أمّا أنتَ يا نثنائيل فتحت التّينة رأيتُكَ" يُذكّر بما كان قبل دخول الشّريعة والنّاموس والموسويّة والغِنى الموجود في الهيكل، بعدها تكلّم على الهيكل، ثمّ ضربه، فيُصبح يسوع الهيكل أيّ حضور الله. لم يعد الله يسكن في الهيكل الحجريّ بل سكن في الهيكل البشريّ أيّ يسوع. إذاً كلّ مَن قبِل بيسوع المسيح دخل عائلة الله. إذاً لا يستطيع اليهود أن يحصلوا على الله من دون يسوع.
يقول يسوع، في الإصحاح العاشر: "أنا هو الباب لا أحد يدخل إلّا بي" لا تستطيع أن تدخل إلى الله من النّافذة وإلّا أصبحتَ لصّاً سارقاً. إذاً كلّ مَن قرّر أن يصل إلى الله من دون يسوع هو لصّ. هكذا فعل اليهود ونحن، المسيحيّون، جعلنا هذه السّرقة شرعيّة وتركنا العهد القديم لهم فوقعنا في الفخّ. هذا الفكر الّذي نتحدّث عنه يوصلنا، في الحياة، إلى أنّك حين تقبل بيسوع وتعتقد بأنّكَ أصبحتَ على العرش، تعتقد أنّ الّذين لم يصلوا بعد لا يستحقّون ما حصلتَ أنتَ عليه بِحسب قانونكَ البشريّ. لو اتّبعتَ قانون الله وهو "مَن أتى في السّاعة الأولى أو في السّاعة الثّانية سيحصل على الأجر نفسه" فيعترض البعض على عدم وجود العدل، ولكن بدلاً من أن تتكلّم على العدل تكلّم على الرّحمة، فلو لم يخترك ربّ العمل لَكنتَ لا تزال تنتظر خارجاً. إذاً لولا رحمة السّيّد الّذي اختارك لَكنت لا تزال تنتظر فعليك أن تنظر من رحمة عينيّ لا من عدلك، لأنّك من دون عدل ورحمة. إيمانك بيسوع يجعلك عادلاً ورحوماً وبالتّالي، على اليهود أن يقتنعوا بأنّه لم يعد هناك مرتبة أولى ومرتبة ثانية بيسوع المسيح بل أصبح الجميع متساويًا. من هنا، ميزة المسيحيّ أنّه مٌقتنع بأنّه ليس مميّزاً على عكس الشّعوب كلّها المُقتنعة بأنّها مميّزة من أصغرها إلى أكبرها ما عدا المؤمن المسيحيّ، فيسوع هو المميّز وأنتَ تتبعه لا بل هو الفريد، الوحيد، ابن الله الوحيد.
سنرى، في الإصحاح الثّالث، نوعاً من النّقاش بين يسوع ونيقوديموس وهو أهمّ عالِم لاهوت، أهمّ حزب دينيّ في إسرائيل. وهو، في آخر المطاف، سيتبع يسوع من دون أن يعرف أحد. إذاً سندخل جنّة يوحنّا وحديقته في الأسبوع المقبل.

ملاحظة: دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
تأمّل في ميلاد الرّب يسوع فالعيد لا يمكن أن يكون إلّا دعوةً إلى أخذ موقف.
تأمّل في ميلاد الربّ يسوع
الأب ابراهيم سعد

9/12/2014

موضوعنا اليوم هو عيد الميلاد الّذي يجب أن يكون اسمه: "ميلاد الرّبّ" من دون أن نُلغي كلمة الرّبّ. لأنّ العيد أصبح تذكارًا أوشِعارًا للمسيحيّين. والخطورة في الأعياد المسيحيّة في رأيي،
أنّها باتت أعيادًا مسيحيًّة، لا أعيادًا للمسيح، لأنّها أصبحت عبارًة عن طقوس تُلغي، بِدافع التّقوى أو النّيّة الطّيّبة، معنى العيد الحقيقيّ. الميلاد هو أكثر الأعياد بهرجة، تقتل معاني كثيرةً، على عكس عيد الفصح الّذي ليست لديه تلك البهرجة، والسّبب المحتَمَل لذلك هو أنّ الكنيستيْن تحتفلان به في أوقات مختلفة. وتكمن الخطورة إذًا في أنّ العيد أصبح يَتّبع مراسمَ بشريًّة وشعبيًّة تقتل معنى العيد، فصار عبارًة عن موسم، بينما مفهوم العيد اللّاهوتي للرّب ليس موسمًا، وإنّما هو نهاية حياة وبداية أُخرى. فالعيد ليس محطًّة في الحياة، لأنّه، بعد العيد، تبدأ حياةٌ جديدةٌ لكلٍّ منّا، فلا يكون العيد مجرّد جزءٍ من هذه الحياة، بل يكون هو الحياة الّتي تعيشها أيّ نهاية وضعك الحاليّ وبداية الآخر، لأنّه ليس من الممكن أن يكون العيد مجرّدَ جزءٍ من الحياة، فأي عيد للرّبّ لا يستطيع أن يتّخذ مجرّد طابع ذكرى أو تقويم، فخطورة الرّوزنامة تكمن في أنّ الإنسان يعرف، عند النّظر إليها، الوقت الّذي سَيَحُلّ فيه العيد، وبالتّالي سيفقد العيد طابع المفاجأة. وهذا ما يجعلني أطرح أسئلة ويضعني في موقف تحدٍّ، فالعيد لا يمكن أن يكون إلّا دعوةً إلى أخذ موقف.

في قصّة ولادة الرّبّ، الكلّ اتّخذ موقفًا، حتّى الطّبيعة كان لها دور. وإذا أردنا أن نُفَصّل أكثر، قُلنا إنّ اليهود اتّخذوا موقفًا، والغرباء من المجوس كذلك، والّذين كانوا حول يسوع أيضًا. وإذا أردتُ التّطرّف أكثر في الكلام أقول: الطبيعة اتّخذت موقفاً فالسماء أعلنته بالنّجم، والأرض أعلنت موقفها بالمكان الّذي وُلِدَ فيه يسوع. وأيقونة أو صورة الميلاد تُظهِر أنّ الحيوانات والملائكة اتخذت موقفًا، حتّى ولو لم يُذكر ذلك في الإنجيل. يبقى لنا أن نعرف موقف السّامع. وهو بذاته عليه أن يعرف موقفه. لذلك يجب أن يكون لِكلّ عيدٍ نفحةٌ انقضائيّةٌ، نهائيّةٌ تحمل طابع الموت، على الأقلّ موتكَ أو موت حياتكَ قبل العيد أو موت ما كنتَ عليه قبل العيد. فصاحب الإرادة الضعيفة، لايُمكن أن يُواصل حياته على الشّكل نفسه بعد أن يَحُلّ العيد، ومن يكون على خصومةٍ مع الآخر لا يُمكن أن تستمرّ خصومته معه حتّى بعد حلول العيد وانتهائه، فهكذا يُصبح العيد عبارةً عن رُوزنامةٍ تقوم بتمزيق أوراقها، لكنّ العيد هو الّذي يُتلِف تقويمنا وليس العكس. وكما قَلَبَتْ ولادة الرّبّ وضع أورشليم واليهود رأسًا على عقب وسبّبت اضطرابًا لهيرودس وللكهنة وللكُتّاب، وقامت بتغيير حياة الّذين لا إله لهم إلّا وهم المجوس أو الغرباء، يَقلُب ميلاد الرّب حياتنا، لذلك نتأمّل في الموضوع قبل استقبال المولود، بِسبب اللّا منطق في هذه المسألة إذ يسأل المجوس: "أين هو المولود، مَلِك اليهود؟" فلا يُعقَل أن يكون المولودُ مَلِكاً. يُمكن للمولود أن يكون أميراً، فلكي يكون ملكاً يجب أن يفرض ملكيّته من خلال انتصاره في حربٍ ما أو عن طريق إحقاق العدالة والحقّ في مملكته. ولكن هذا المولود ضعيفٌ فكيف له أن يكون ملكاً؟ والّذين لا ينتظرونه، هم فقط اللّذين اعترفوا بوجوده، أمّا الّذين ينتظرونه فلم يحتملوا أن يكون المولود ملكًا، فعلى هذا الأخير أن يملك هيْبةً وسلطاناً، ولذلك لم يتنازل هيرودس عن عرشه؛ في الشّرق الأوسط. ففكرة الملَكيّة ليست بالقضيّة السّهلة، إذ لا يرضى أيّ ملك أن يُطْلَقَ على غيره لقب ملك، حتّى على ابنه. فهو الملك، وإذا توفي يأتي ملك بعده، ولكنّه يبقى ملكًا إلى حين وفاته، حتى ولو كان يُصارع المرض. في البلاد ذات الحكم الملكيّ الحقيقيّ لا وجود للدّستور، فالدّستور هو الكلام الذي يخرج من فم الملك. وفكرة الملك هي أن يتكلّم في صباح كلّ يوم، وعلى أساس هذا الكلام يتابع الشّعب حياته. فيعيش النّاس إذاً بفضل كلمة الملك، وليس بفضل الطّعام والشّراب، لأنّك إذا عملتَ بعكس ما يقوله الملك صِرْتَ ضدّ الملك وفي حالة تمرّد. فأنت تعيش بأمانٍ في ظلّ المملكة، وبخضوعك لكلمة الملك هو ما يحميك عندما تكون ضمن دياره. ليست المسألة سهلةً بأن يأتي شخص ما، ويسأل عن المولود الملك كما فعل المجوس، أي الغرباء. إذاً لا شيء يضمن لك أن تبقى مُحتَكِراً مَلِكَك وربَّك. وهذه هي قصّة الميلاد، فلقد كان هناك أشخاصٌ مُتأكّدين من بقائهم في الدّاخل، ولكن عندما تحدّاهم الملك، ورفضوه، أصبحوا في الخارج، ومَن قَبِلَه بقي في الدّاخل. إذاً، في لحظة مواجهة المولود الملك، تقوم أنت بفرز ولادتك أو موتك، فالّذين رفضوه ماتوا بالنّسبة إليه، والّذين قبلوه وُلِدوا في اللّحظة الّتي قبلوه فيها. لذلك عيد الميلاد هو عيد ميلادي أنا، إذا قبلتُ المولود ملكًا عليّ. وقد طرح الإنجيل قصّة الميلاد مع متّى ولوقا. ويعتقد البعض أنّ الصّفحة الأولى من إنجيل متّى مملّة، ولكن، على العكس، لقد طرحها بطريقةٍ رائعةٍ للغاية، وهي من أعظم ما كُتِبَ في الإنجيل. يقول متّى: "هذا نسب يسوع المسيح ابن داوود ابن ابراهيم" لقد استعمل إسميْن، داوود هو موجود كمَلك، حصل على الملكِيّة، كان راعياً وأصبح لديه مملكة، وبعد النّاموس الموسويّ أي بعد أن أعطى موسى الوصايا ووجد الشعب اليهوديّ، أصبح داوود موجوداً. فهذا الشّخص الّذي كان راعياً، من دون سلطة، ومن دون قوّة، صار مَلِكاً رُغماً عن إرادة الله لأنّ الله لا يُريد مَلِكاً لشعبه، فهو الملك. ولكنه قَبِل بهذا ليُرينا أنّ قرارنا خاطئ. إبراهيم كان غنيّاً ترك كلّ شيء وأصبح شاردًا في الصّحراء، وهو موجود قبل موسى أي خارج النّاموس، أي أنّه ليس يهوديًا. إذًا هناك شخصان: أحدهما يهودي، ويعتبر الله مُلْكَه، وصنع له هيكلًا، والثّاني أصبح من البدو في الصّحراء. فمن هو المناسب لك من بينهما؟ لذلك طُلب منك أخذُ موقف: أتفضّل الّذي يملك الله، أو الّذي يملكه الله؟ تتمة...
25/11/2014 العهد القديم - سِفر هوشع النبيّ علاقة الله بالبشريّة
https://youtu.be/IE8EJnmVF-Q

تفسير الكتاب المقدّس
العهد القديم
سِفر هوشع النبيّ
الإصحاح: الأوّل الى العاشر
الأب ابراهيم سعد

25/11/2014

هوشع تنبّأ، في القرن الثّامن قبل الميلاد، وهو يحمل تقليداً وتراثاً فائقيْ الأهميّة. يقول بعض المفسّرين إنّ انتصار يشوع حصل عندما احتلّ الدّنيا (أريحا وغيرها...)، وعمليّا،ً تبيّن أن كلمة هوشع هي الّتي انتصرت، لأنّها تصوير عن أنّ الله هو الّذي يحتلّ، لكن كلمته هي الّتي تحتلّ وتُدمّر وتُخرّب.كلمة الله هي مُخرّبة، فلكي تبني يجب أن تُخرّب، لأنّها لا تستطيع أن تبنيَ على أرض تمّ تأسيسُها من غير الله. فهو بحاجةٍ إلى أرضٍ ليؤسّس عليها بنفسه حتى لا يُهَدم بناؤه في المستقبل. لذلك يُفضّل الله أن يدمّر ما بُنِيَ بغير يديْه لكي يُعيد بناءه من جديد. فكلمة الله لا تُبنى على أساسٍ غير موضوع من قِبل الله، لذلك كلّ كلمة من كلمات الله عندما تبنيك تكون، في الوقت نفسه، تُدمّر شيئاً فيك، لأنّها لا تستطيع أن تبنيك من دون أن يكون هناك شيءٌ قد دُمّر، تغيّر، هُدِم، أُبيد وسُحٍق في داخلك. والدّليل على ذلك هو أنّ كلّ تائب، بسبب كلمة الله، قرّر أن يُخرّب أموراً كثيرة في داخله ويعود إلى أحضان الله. لذلك نحن في صراعٍ داخليّ دائمٍ لأنّنا نشعر بالحنين ونميل إلى المزج بين كلمة الله وكلمات البشر وبين روح الله وروح العالم. ولكنّنا لا نستطيع أن نجمعهم معاً إلّا إذا أصبح العالم الموجود في داخلك خاضعاً لكلمة الله، وقد تحوّل إلى مكانٍ يُبرهن كلمة الله من خلال سلوكك وأقوالك وأفكارك وتحرّكك وسَمَعك ولسانك. لذلك تحمل التّوبة لمحاتٍ من لمحات الحزن، الحزن المقدّس، وهو الحزن الوحيد الّذي يسمح الله أن تحزن به عند التّوبة، ومعناه ألاّ تحزن على الملذّات الّتي تركتها، وإنّما أن تحزن على الوقت الّذي أضعته على الملذّات الّتي كانت دون جدوى. لذلك تقول "يا ليتني كنتُ منذ البداية..." كما مثل الابن الشّاطر الّذي حزِن على الوقت الّذي أضاعه بعيداً عن أبيه.

هوشع يُري إسرائيل المكان الّذي يأخذنا إليه الابتعاد عن الله، ولكنّه كان يتكلّم على حزن الله بسبب تصرّفات شعبه. لذلك، في البداية طلب الله إلى هوشع طلباتٍ غريبةً للغاية وواحدة منها: أوّل ما كلّم الرّبّ هوشع قال له:

إذهبْ خذْ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى، لأنّ الأرض قد زنت زنىً تاركةً الرّبّ. فذهب وأخذ جومر ابنة دبلايم، فحَبِلت وولدت له ابناً فقال له الرّبّ: أُدعُ اسمه "يزرعيل" ، لأنّني بعد قليل أُعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل وأبيد مملكة إسرائيل ويكون في ذلك اليوم... ثمّ حَبٍلت وولدت بنتاً فقال له: أُدعُ اسمها "لورُحامة" (ومعنى اسم لورحامة: لو تعني لا، رُحامة تعني الرّحمة)، لأنّي لا أعود أرحم بيت إسرائيل أيضاً بل أنزعهم نزعاً، أمّا بيت يهوّذا فأرحمهم وأخلّصهم بالرّبّ إلههم ولا أخلّصهم بقوسٍ وسيفٍ وبحربٍ وبخيلٍ وبفرسانٍ. ثمّ فَطِمت لورحامة وحَبِلت فولدت ابناً فقال أُدعُ اسمه "لوعمي" (أيّ لا شعبي في العبريّة) لأنّكم لستم شعبي (هو 1: 1- 9). فالله طلب منه أن يتزوّج من امرأة زنى لتُنجب له أطفالاً، تدلّ أسماؤهم على الوضع الّذي يعيشونه. فهل يقبل أحدهم أن يتزوّج من امرأة من هذا النّوع؟ لا، ولكن الله أخذكم وأنتم من هذا النّوع راضياً بكم ولكنّكم لم ترضَوْا. رَضِيَ القتيل ولم يرضَ القاتل.

يقول: لأنّ أمّهم قد زنت الّتي حَبِلت بهم صنعت خزياً لأنّها قالت إذهب وراء مُحبّيَّ الّذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتّاني، زيتي وأشْرِبتي. لذلك ها أنا ذا أُسيّج طريقك بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها، فتتبع مُحبّيها ولا تُدركهم وتُفتّش عليهم ولا تجدهم، فتقول: أذهب وأرجع إلى رَجُلي الأوّل لأنّه حينئذٍ كان خيرٌ لي من الآن؛ إذا أنتِ عندما تتركين الله تذهبين وراء ناس آخرين وعندما لا يعطونك شيئاً تغرقين في المجاعة فتعودين إلى الرّجل الأوّل لأنّه كان خيراً من وضعي الآن، مثل قصة الابن الشّاطر الّذي كان يعيش في المجاعة ولا يستطيع تناول طعام الخنازير، والخنازير حيوانات لا تُربّى عند اليهود بل عند الوثنين. لذلك ذهب وعاش عند الوثنيّين. أنت عندما تترك الله، أيّاً كان من تعبده، هو صنم، لأنّه ما من إله إلا الله وكلّ إله آخر غير الله هو صنم. وهي لم تعرف أنّي أنا أعطيتها القمح والمِسطار والزّيت، وكثَّرتُ لها فضّةً وذهباً جعلوه لبعل (إله الخصب عند الوثنيّين)، لذلك أرجع وآخذ قمحي في حينه، ومِسطاري في وقته وأنزع صوفي وكتاني اللّذيْن لسِتر عورتها، والآن أكشف عورتها أمام عيون محبّيها ولا ينقذها أحدٌ من يدي، وأُبطِل كل أفراحها، أعيادها، ورؤوس شُهورها وسبوتها وجميع مواسمها، وأخرّب كرمها وتينها اللّذين قالت هما أُجرتي الّتي أعطاني إياها محبّيَّ وأجعلهما وعراً فيأكلهما حيوان البريّة؛ إذاً يُوجّه كلامه إلى إسرائيل قائلاً إنّها مهما كسبت من عباداتها الأخرى فهو فراغ، رغم الوهم والظّنّ بأنها كسبت. أعاقبها على أيّام بعليم؛ أيّ كلّ الآلهة الوثنيّة. الّتي فيها كانت تُبخّر لهم وتَتزيّن بخزائمها وحُلْيها وتذهب وراء مُحبّيها وتنساني أنا يقول الرّبّ؛ إذاً خطيئة شعب الله هي أنّه يسّمي نفسه شعب الله وينسى الله فيصبح "لوعمي" أيّ لا شعبي. إذاً الخطيئة الأساسيّة هي أن تنسى الله وكلمته. أهمّ حضورٍ لله هو حضور كلمته. إذاً أنتَ تُعبّر عن أنّ الله حاضرٌ في حياتك من خلال كلمته، لذلك عندما تنسى كلمته فإنّك تنساه. وحين تبِعتَ كلّ النّاس وصلت إلى صحراء، وكلمة صحراء أو بريّة، في الكتاب المقدّس، تعني لا حياة. والشيطان أخذ يسوع إلى التّجربة، إلى الصّحراء أيّ إلى مكانٍ لا حياة فيه، وأنت عندما تذهب إلى مكانٍ لا حياة فيه ستحتاج إلى أُسُس الحياة. فعندما تفصلك خطوةٌ واحدةٌ عن الموت، أيّ شخصٍ يعطيك الحياة، ستقبلها منه. عظمة يسوع هي أنّه لم يقبل مساعدة أيّ كان، إلى أن جاع أخيراً، ففي اللّحظة الّتي جاع فيها قال له الشّيطان: بكلمةٍ واحدة تُحوّل هذه الحجارة إلى خبزٍ فتأكل، فقال له يسوع ليس بالخبر وحده يحيا ابن الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله. إذاً الحياة بالنّسبة إلى يسوع لم تعد مأكلاً ومشرباُ، بل صارت كلمة الله الخارجة من فمه يحيا بها.

ولكن ها أنا ذا أتملّقها وأذهب بها إلى البريّة وألاطفها وأعطيها كرومها من هناك ووادي عخور باباً للرّجاء وهي تغنّي هناك كأيّام صِباها
وكيوم صعودها من أرض مصر؛ إذاً كما أخرجتكم من المجاعة وسرت معكم في البريّة لأربعين عاماً وأطعمتكم ومستعدٌّ أن أُعيد ذلك مرّة أخرى، والمطلوب منك فقط أن ترضى. الله هو الضّحيّة والإنسان هو الجلّاد. ويكون في ذلك اليوم، يقول الرب: إنّك تَدعينَني رَجُلي ولا تدعينَني بَعلي؛ كلمة بعل تعني أيضاً الزّوج، إذاً الله تَدعينهُ رَجُلي وليس بعلي كما تدعين الآلهة الأخرى، أنا لستُ كذلك لأنّي اُعطيكِ الحياة. وانزع أسماء البعليم من فمها؛ لكي لا تتذكّر أن تُكلّم أيّ إله آخر. التّوبة ليست فقط اعترافاً إنّما هي عودة إلى الله، وهذا أهمّ من الاعتراف، فإن وصلتَ إلى الله وقد قَبِلك، لا تعود بحاجةٍ إلى الاعتراف، ولكنّنا نعترف لأنّنا نتفوّه بما هو موجود في عقولنا أيّ كلّ الآلهة الأخرى (الخطايا والأهواء...)، الأمر الأساسيّ هو العودة، وعدم قولك لذلك يعني أنّ في صدقك في العودة شكّ. فإذا كانت توبتك حقيقةً، لماذا لا تزال تحتفظ في عقلك بالآلهة الأخرى؟ عليك أن تطردها، وأفضل طريقة لطردها هي في الحديث عنها، لأنّها دخلت رأسَكَ عن طريق أُذنيْك أو عينيك فأفضل عضوٍ قادرٍ على إخراجها هو اللّسان، كما يكون الاعتراف بإلهك فقط عبر اللّسان. "آمنتُ لذلك تكلّمتُ". فلا تُذكر أيضاً بأسمائها وأقطع لهم عهداً؛ إذاً الله يقطع عهداً جديداً فتخونه، يأتي به من جديد، يُنظّفه ويقطع عهداً جديداً فتخونه، ورَضِيَ الله بهذه الحياة وبقي يَغْسِّل خيانتك وكذبك حتّى غسّل في المرّة الأخيرة بدمِهِ.

يقول: وأقطع لهم عهداً في ذلك اليوم، مع حيوانات البريّة وطيور السّماء ودبّابات الأرض؛ هذا يذكّرنا بخلق التّكوين، عندما خلق الله له كلّ الحيوانات ليعود ويتسلّط عليها. الله هنا يجعل، الإنسان الخاطئ آدم جديد سيّد، وآدم خُلق نتيجة الحبّ فقط. أيّ كأنّه قد أعاد خلقه من جديد ووكأنّه لم يرتكب خطأً قبل ذلك. يمكن للإنسان أن يصل إلى مكانٍ يكذب فيه على نفسه ولكنّه يقول أنا سامحتُ ولكني لا أنسى، وهذا هو الفرق بينك وبين الله، فالله يُسامح وينسى إلى حدّ أنّك لو كرّرتَ الخطأ نفسه سينسى. "سأغفر خطيئتهم ولن أذكرها من بعد" كما يقول إرميا. عندما عاد الابن الشّاطر إلى أبيه قبّله هذا الأخير على عُنقه والسّيّد لا يُّقبّل العبد بل الأب فقط، فقد نَسِيَ الأب كلّ أخطاء ابنه وتذكّر فقط بأنّه ابنه. ولكنّ الإنسان يميل إلى التّمرّد دائماً. يقول: وأقطع لهم عهداً وأكسر القوس والسّيف والحرب إلى الأرض، وأجعلهم يضجعون آمنين، وأخطُبكِ لنفسي إلى الأبد. وأخطبكِ لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم، أخطبكِ لنفسي بالأمانة فتعرفين الرّبّ ويكون في ذلك اليوم أنّي أستجيب يقول الرّبّ، أستجيبُ السّماوات وهي تستجيب الأرض، والأرض تستجيب القمح والمِسبار والزّيت وهي تستجيب يزراعيل، وأزرعها لنفسي بالأرض، وأرحم لورُحمة (أيْ سيرحم الّذين لا يُمكن أن يُرحموا)، وأقول لِلوعمي أنتَ شعبي وهو يقول أنتَ إلهي (هو 2: 5 – 23). تذكّروا قول الرّسول توما: ربّي وإلهي، هذه هي الصّرخة الّتي جعلته بأمانٍ. إذاً لقد أعطى هذه الصّورة ليعكس معاناة الله مع شعبه ولكن دائماً عندما نواجه مشكلةً تجعلنا في حزنٍ شديدٍ نلوم الرّبّ، فعندما نتوجّه بالصلاة نحو الله ننسى أفعالنا تجاهه ولا نتذكّر إلّا ما عليه أن يُحقّق لنا. إذاً هذه علاقة غير صحيحة ومع ذلك يقبل الله بها. أنا أقبل على الرّغم من كلّ ما فعلته يا زوجتي، يا حبيبتي، يا إنساناً، يا نفساً بشريّة، ألم تتعلّمي أنّ للغفران جواباً واحداً ألا وهو الحبّ وأيّ جوابٍ آخر هو تمرّد؟ تذكّروا المرأة الّتي غسلت قَدمَيْ يسوع، فقالوا لأنّها أحبّت كثيراً غُفِرَ لها كثيراً. وهذه عبارة خاطئة، فالعبارة الصّحيحة هي أحبّت كثيراً لأنّه غُفِر لها، فهي أجابت الله بالحبّ لأنّه غُفِرَ لها سابقاً. وهذا الغفران لا يستطيع أن يقوم به غير الله، فالإنسان مهما بلغ عظيمُ غفرانه لا يقوى على أن يسامح إلى هذا الحدّ، فقد قال الرّبّ لبطرس: يجب أن تسامح سبعين مرّة سبع مراتٍ في اليوم وهو يقصد بأنّه يُسامح بطرس هذا العدد من المرّات في اليوم الواحد. يبقى الإنسان ظالماً ومع ذلك تبقى لديه الفرصة دائماً لينسى ظُلمه ويعود إلى الله، فالله لا يردُّ أحداً خائباً. قال الرّبّ له: إذهبْ أيضاً أَحبِبْ امرأة حبيبة صاحب وزانية، كمحبّة الرّبّ لبني إسرائيل، وهم مُلتفتون إلى آلهة أخرى ومحبّون لأقراص الزّبيب، فاشتريْتُها لنفسي بخمسة عشرة شاقل فضّة، وقلتُ لها تقعدين أيّاماً كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجلٍ وأنا كذلك لكِ، لأنّ بني إسرائيل سيقعدون أيّاماً كثيرةً بلا ملك، بلا رئيس، بلا ذبيحة، بلا تمثال، بلا وفود وتِرَافيم. بعد ذلك يعود بني إسرائيل ويطلبون الرّب إلههم وداوود ملكهم، ويفزعون إلى الرّبّ (يذهبون إليه خائفين) وإلى وجوده في آخر الأيّام (هو 3: 1 – 5). لقد حكمتُ عليكم لأنّكم لا تريدون العودة، اتّخذتم قراراً بأنّكم لا تريدون الله فيقول لهم إن كنتم لا تريدونني فلماذا تطلبون مني؟. إسمعوا هذا أيّها الكهنة وأنصتوا يا بيت إسرائيل واصغوا يا بيت الملك لأنّ عليكم القضاء؛ هم المسؤولون وعليهم تعليم الشّعب، فكيف يعلّمونه وقد نَسَوا كلمة الله. أفعالهم لا تدعهم يرجعون إلى إلههم، لأنّ روح الزّنى في باطنهم وهم لا يعرفون الرّبّ وقد أزلّت عظمة إسرائيل في وجهه؛ التّوبة الصّادقة لا تكون إلّا بعد إحساسٍ كبيرٍ باليأس وتأتي بعد إفلاسٍ روحيّ، عندما تقتنع بأنّ لا شيء يُعطيك الفرح غير الله. هَلُمّ نرجع إلى الرّبّ الإله لأنّه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا، يُحيينا بعد يوميْن وفي اليوم الثّالث يُقيمنا فنحيا بأمان؛ في العهد الجديد يموت وفي اليوم الثّالث يقوم، وهذا لا يعطي المعنى الحرفيّ لليوم الثّالث وإنّما يجب أن نأخذ المعنى الأدبيّ الكتابيّ للكلمة، أيّ إنّه ستولد حياةٌ جديدةٌ. فيُحينا وفي اليوم الثّالث يُقِيمنا فنحيا أمامه؛ أيّ لا حياة خارج إطار الحياة التي منحك إيّاها الرّب. لنعرف فلنتتبّع لنعرف الرّبّ خروجه يقينٌ كالفجر، يأتي إلينا كالمطر، كمطرٍ مُتأخّرٍ يسقي الأرض؛ المطر المتأخّر يُنعش الأرض، إذاً إنّ عودة الرّب إلينا تعني عودتنا إلى الرّب، في أرضٍ قاحلةٍ وجافّةٍ تحتاج إلى نقطة لتنتعش من جديد. إن لم تكن عطشاناً الى هذه العودة فلن تشعر أنّك بحاجةٍ إليها. فالمرتوي لا يفكّر في أن يشرب. عليكم أن تعيشوا حالة الفقر والجوع والعطش لِتفهموا الكتاب المقدّس. لن تعرفوا قيمة المياه إن لم تعطشوا،كما أنكم لن تعرفوا قيمة الطّعام إن لم تجوعوا. فالعودة إلى الله وجملة "هلّم نرجع" تعنيان أنّنا ولدنا من جديد وإلّا لن تفهموا أيّ عيد مسيحيّ. فمنذ البشارة، منذ الوقت الّذي تكلّم الله به على وعده لنا، إن لم نفهم إحساسنا بالعطش والجوع من دونه، فلن نفهم فرح وعده لنا. إنّ التّجّار يجعلوننا نفرح بالعيد حتّى لو لم نفهم معناه الحقيقيّ. فالإحتفال بالعيد لا نهاية له، هو يجعلك عبداً لغيرك. فعبارة "ولد لكم مُخلّص" تعني أنّك بلغتَ مرحلةً من اليأس إلى حدّ الموت، ولن نفهم معنى الموت إلا إذا فهمنا معنى الحياة. التّائبون فقط يفهمون هذا المعنى. أمّا القدّيسون فهم قدّيسون لأنّهم تذوّقوا الجوع الرّوحي، لذلك عَرفوا معنى قيمة الفرح الرّوحي. طوبى للجائعين لأنّهم سيُشبعون وطوبى للحزانى لأنّهم سيفرحون. إذاً الحبّ جنون، ولا يمكن لأحد تفسيره، فهو سيبقى سرّاً إلى أن يُعلن في اليوم الأخير عندما سيكشفه لنا الله. ماذا أصنع بك يا إفرائيم، ماذا أصنع بك يا يهوّذا فإنّ إحسانكم كسحاب الصّبح وكالنّدى الماضي باكراً، لذلك أقرضهم بالأنبياء، أقتلهم بأقوال فمي، والقضاء عليك كنورٍ قد خرج، إنّي أريد رحمةً لا ذبيحة؛ أي إنّ الله لا يريد الذّبائح والطّقوس والصّلوات بل يُريد فقط الرّحمة. وأريد معرفة الله أكثر من المُحرقات، ولكنّهم كآدم تعدّوا العهد، هناك غدروا بي؛ فآدم وحواء غدرا بالله. ونحن نكون كذلك عندما نتمّم واجباتنا تجاه الله، ونذهب إلى إقامة علاقةٍ مع آخر وهو إبليس الّذي يفرّق بين اثنين يُحبّان بعضهما. إذاً، التّوبة هي أن تقتل غدرك لله. فهو ليس بحاجةٍ إلى اعترافاتنا بل إلى الرّحمة الّتي تعني الحياة. إنّهم قد صنعوا فاحشةً، لأنّهم مثل آدم غدروا بي، كما يكمنُ لصوص لإنسان، كذلك زُمرة الكهنة في الطّريق يقتلون، إنّهم قد صنعوا فاحشة، في بيت إسرائيل رأيتُ أمراً عظيماً هناك زنى كبير وأنت أيضاً يا يهوذا قد أُعِدّ لك حصاد عندما أرد سبي شعبي (هو 6: 4 – 11). إذاً المشكلة تكمن في التّرك، فإذا تركتَ الله يعني أنّك تركتَ مَن يُحبّ الله والعكس صحيح، فيوحنا الرّسول قال: من قال إنه يحبّ الله ولا يحبّ أخاه فهو كاذب. وكلمة "كاذب" في الكتاب المقدّس تعني الشّيطان، لأنّ الشّيطان هو الوحيد الّذي أُعطِيَ صفةً في إنجيل يوحنا وهو كذّاب أبو الكذّاب.

يقول: ويلٌ لهم لأنّهم هربوا عنّي، تبّاً لهم لأنّهم أذنبوا إليّ أنا أفديهم وهم تكلّموا عليّ بكذب، ولا يصرخون إليّ بقلوبهم حينما يولوِلون على مضاجعهم، يتجمّعون لأجل القمح والخمر ويرتَّدون عنّي وأنا أنذرتهم وشدّدُت أذرعهم وهم يفكّرون عليَّ بالشّرّ، يرجعون ليس إلى العليّ، قد صاروا كقوسٍ مُخطئةٍ (هو7: 13 – 16)؛ إذاً الخطيئة هي أنّكم أخطأتم في العنوان أيّ أنّكم استخدمتموني من أجل مصالحكم الشّخصيّة. لا تفرح يا إسرائيل طرباً كالشّعوب، لأنّك قد زنيت عن إلهك، أحببت الأجرة على جميع بيادر الحنطة (هو 9: 1)؛ إذاً الحبّ جنون والخطيئة جنون، لأنّ الحبّ يجعلنا ننسى خطيئة من نُحبّ، والخطيئة تجعلنا ننسى من يُحبّنا. فالتّوبة هي أن يعود عقلك إليك فتعرف من يُحبّك وتعرف من تحبّه. كلّ ما فعله الله كان ليجعلكم تفهمون. وهنا نفهم قول يسوع المسيح في إنجيل يوحنّا في الإصحاح السّابع عشر، وهو يصلّي قبل ذهابه إلى الصّليب "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنتَ الإله الحيّ والّذي أرسلته يسوع"، أيْ يكفي أن يعرفوك أيْ أن يعرفوا ما فعلتَ من أجلهم. إسرائيل جفنة مُمَدّدة. إزرعوا لأنفسكم بالبرّ، أحصدوا بحسب الصّلاح، إحرثوا لأنفسكم حرثاً، فإنّه وقتٌ لطلب الرّبّ حتّى يأتي ويعلّمكم البِّر، ها قد حرثتم النّفاق وحصدتم الإثم وأكلتم ثمر الكذب، لأنّك وثقت بطريقك و بكثرة أبطالك، يقوم ضجيجٌ في شُعوبك وتُخرب جميع حُصونِك (هو10: 1 – 15)؛ لأنّك وثقتَ بِطُرقك وليس بطُرق الرّبّ. فالربّ يصلّي ليلاً نهاراً ويطلب فقط أن يصير للنّاس عيون تُبصر، وآذان تسمع، وشفاه تتكلّم. ومن له أذنان للسّمع فليسمع. فالصّنم هو الوحيد الّذي يملك أذنَيْن ولا يسمع. ومشكلة الإنسان أنّه لا يتصرف مع الله كصنم وإنّما يصبح صنماً أمام الله. ها نحن الآن نقترب من عيد الميلاد لنكسر الصّنم الموجود في داخلنا ولنكسر الصّنم الّذي وضعناه في الله.

ملاحظة: دوّنتْ المحاضرة من قِبلنا بتصرّف. تتمة...
رسالة القدّيس يعقوب الرسول - الإصحاح الرابع يسأل يعقوب الرّسول: "من أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا
نتكلم اليوم، على جزءٍ من رسالة يعقوب الرّسول، يتحدّث فيه عن الأوضاع الّتي نعيشها في العالم، والّتي تنطبق علينا، لأنّنا إذا أردنا أن نحلِّل الخلافات والخصومات الموجودة بين الناس، سنرى أنّها تحصل بسبب النَّفْس الموجودة داخل كلّ إنسان.

يسأل يعقوب الرّسول: "من أين الحروب والخصومات بينكم، أليست من هنا، من لذّاتكم المحارِبة في أعضائكم، تشتهون ولستم تمتلكون، تقتلون وتحسدون ولستم تقدرون أن تنالوا، تخاصمون
وتحاربون ولستم تمتلكون، لأنّكم لا تطلبون، تطلبون ولستم تأخذون، لأنّكم تطلبون رديئاً لكي تُنفقوا في لذاتكم، أما تعلمون أنّ محبّة العالم عدالة الله؟ فمَن أراد أن يكون مُحبّاً للعالم فقد صار عدوّاً لله، أم تظنّون أنّ الكتاب يكون باطلاً، الرّوح الّذي حلّ فينا يشتاقُ إلى الجسد، ولكنّه يعطي نعمةً أعظم، لذلك يقول: يقاوم الله المستكبرين وأمّا المتواضعون فيعطيهم نعمةً، فاخضعوا لله، قاوموا إبليس فيهرب منكم، اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم، نقّوا أيديكم يا أيها الخَطأة، طهّروا قلبوكم يا ذوي الرأيَيْن، اكتئبوا ونوحوا وابكوا ليتحوّل ضحِكُكُم إلى نوح، وفرحُكُم إلى غمّ. اتضعوا قدّام الرّبّ فيرفعكم. لا يذمّ بعضكم بعضاً أيّها الأخوة، الّذي يذمّ أخاه ويدين أخاه، يذمّ النّاموس ويدين النّاموس. وإن كنتَ تدين النّاموس فلستَ عابداً للنّاموس، بل ديّاناً له. واحدٌ هو واضع النّاموس القادر أن يُخلّص والقادر أن يُهْلِك، فمَن أنتَ يا من تدين غيرك. (يع 1:4-12).

في عصرنا هذا، الدّنيا كلّها مرتبطة بأهواء ومصالح وشهوات وحسابات، لذلك يزداد عدد المتكبّرين ويتضاءل عدد المتواضعين، لأنّ هَمَّ المتكبّرين هو أنفسهم، وهذا يفرض على الإنسان أن يسحق مَن حوله ويُلغيه ويُهينه. ولكن، بحسب قانون يعقوب الرّسول، نحن في أزمة؛ وهذه الأزمة تحتاج إلى تحوّلٍ داخليّ. والتّحول الأوّل هو أن يصبح واضع النّاموس والشّريعة هو الحاكم. ولكنّنا للأسف نُبعِد الله ونحكم نحن في الأمور الصّغيرة والكبيرة، نحكم شخصًا واحدًا أو مجموعة. وأعتقد أنّه يجب على النّاس أن يتعلّموا طريق القداسة ببساطة.
إذا أراد شخصٌ ما تمرينَ نفسه على ضبط لسانه، والتّكلّم أقلّ ممّا يسمع، وضبط حواسه وسمعه وأن يعتاد على عدم إدانة النّاس والظّنّ سوءًا بهم، فهذه هي قداسة هذا العصر. ليس المطلوب صنع العجائب، إنما أُناسًا لا يظنّون سوءًا بالآخرين، ولا يدينون بعضهم البعض، لأنّ الناس يذمّون بعضهم بعضًا بسبب الظّنّ السّيّئ. عندما تظنّ سوءًا، تذمّ الآخر، فلا تُعطي رأيك فيه فقط، بل تُساعد جميع من حولك من الّذين يستمعون إليك على أن يصبحوا أعداء لهذا الشخص، فتقوم بعزله، والعزلة هي الموت. لذلك إذا ارتكب شخصٌ ما خطيئةً وتكاثرنا عليه في الإدانة، نكون حينها قد قطعنا عليه طريق العودة إلى الله وإمكانيّة التّوبة.فالسبب الأهم، والدافع لأن يتوب الإنسان هو أن يشعر بحبّ الآخر؛ لكنّنا، للأسف، نجعل أنفسنا آلهةً على هذا الشّخص. من هنا تولد الحروب والنّزاعات في ما بيننا، لأنّ لذّتنا ومصلحتنا وأهواءنا أصبحت تتقدّم على كلمة الله ورأيه، فيُصبح لدينا رأيَيْن اثنين لا علاقة لله بأيٍّ منهما؛ فنتبنّى الرّأي الّذي نجد فيه مصلحتنا، ورأينا بالآخر الّذي نعاديه. أمّا الرّأي النّاتج عن فكر المسيح، فنبتعد عنه. "أمّا نحن فلنا فكر المسيح" كما يقول بولس الرّسول. وهذا الفكر استنتجه بولس الرّسول عن الإله ابن الله الّذي لم يحسب نفسه مُعادِلاً، ولم يحسب نفسه أنّه أخذ غنيمةً من عند الله، ولكنّه قام بوضع نفسه في مستوى البشر. أيّ بدل أن يأخذ حقّه بالإدانة، مع العلم أنّه هو الله وهو الّذي يُدين وهو من دون خطيئة، قام ببدل الأدوار وجعل نفسه عبدًا يدينه النّاس ويحكمون عليه. هذا ما أدّى به إلى الموت، وأبشع موت هو الموت على الصّليب، لكنّ الله رَفَعَهُ وجعله فوق. تتمة...
رسالة القديس يعقوب الرسول - إصحاح: الثاني والثالث نتكلّم اليوم، على التّحدي الكبير الذي نعيشه في هذا العالم
نتكلّم اليوم، على التّحدي الكبير الذي نعيشه في هذا العالم، ألا وهو الإيمان والحياة والسُّلوك، الإيمان بالأعمال، لأنّنا نقع أحيانًا كثيرة في مشكلةٍ كبيرةٍ في حياتنا، عندما يبدأ الإنسان بالتكلّم على إيمانه والدّفاع عنه، أو حتّى المحاربة من أجله، لكنّنا لا نرى إيمانه في أعماله، فيكون ايمانه بالكلام فقط. لذلك، قد يكون المسيحيّون أكبر مَعثرة للمسيح بسبب سلوكهم في حياتهم أحيانًا، وأحيانًا أخرى أوبسبب كلامهم. لذلك، سأستفيد من رسالة يعقوب الرسول للتّكلم على ثلاث نقاط في موضوع الإيمان.
أوّلاً: الإيمان والرّحمة؛ ثانيًا: الإيمان والسّلوك والحياة؛ وثالثًا: الإيمان في الكلام واللّسان. فالإنسان يُعرَف من خلال هذه النّقاط الثّلاث: طريقة تعاملنا مع الآخرين، كيفيّة سلوكنا وصدقنا في الحياة،
وكيفية التّكلّم. فإذا كنّا غير واثقين من هذه الأمور الثّلاثة، سيطرح كلُّ مَن يسمعُنا ويرانا علامةَ استفهامٍ حول إلهِنا، وليس حول إيماننا. لأنّنا، من حيث لا ندري، نجدّف على الله بسبب سلوكنا أو حياتنا أو كلامنا. وهذه مسؤوليّة كبيرة على كُلّ مُعَمَّد. فعلى كُلّ من وُلد ثانيةً من جرن المعموديّة، أن يُظهر المسيح، "الذي جعل نفسَه في ورطةٍ كبيرة" حين سَلّمَ نفسَه إلينا، لكي نوصِله إلى النّاس. على ما يبدو أنّ الرّبّ قد رأى أنّ الأمر الأساسيّ، هو أن يوصِلَ المسيحَ إلى كلّ إنسانٍ على الأرض، مهما كان دينُه أو وطنُه، بسبب حبِّه له، ولكونه يعرف أين يكمُن خَلاصه. لذلك ارتضى أن يُحْمَل بواسطة أشخاص ذوي طينةٍ ضعيفة.
ينبّهنا يعقوب الرّسول، نحن المؤمنين بالرّبّ يسوع، الى بعض النّقاط، فيقول: "يا إخوتي لا يكون لكم إيمانُ الرّبّ يسوع المسيح ربّ المجد بالمُحاباة (يع 1:2)، والمُحاباة تعني أن نكون ذوي وجهَين، وهي لا تصدر عن إيمانٍ صحيح، إنما تعكس صورة إيمانٍ مشوَّش، لذلك أعطانا مثالاً قويًّا إلى حدّ أنّه يجعل كلَّ شخصٍ منّا تحت مسؤوليّة، فيقول: "فإنّه إنْ دخل إلى اجتماعكم رجلٌ بخواتمَ من ذهب، في لباسٍ بهيّ، ودخلَ أيضًا فقيرٌ بلباسٍ وسخ، فنظرتم إلى اللّابس اللّباس البهيّ، وقلتم: اجلسْ أنتَ ههنا، وقلتم للفقير: قِفْ أنت هناك، أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي، فهل تَرتَابون في أنفسكم، وتَصيرون قُضاة أفكارٍ شريرة" (يع 2: 2-4). المحاباة هي التَّمييز؛ والله لا يُحابي الوجوه.
قديمًا، كان رئيسُ القبيلة أو الملك هو القاضي في الوقت نفسه. فعندما يأتيه رجلٌ ليحكم عليه بالعدل، يدخل الرّجل منحني الرّأس لكي لا يرى القاضي وجهَه، فإذا رآه سيؤثّر ذلك في حكمه؛ واللّه لا يحابي الوجوه. من هنا جاءت كلمة "المحاباة". فيقول الرسولُ إنّكم تقعون في هذا الفخّ. ويقول: "اسمعوا يا إخوتي الأحبّاء، أما اختار اللهُ فقراءَ هذا العالم أغنياء في الإيمان؟"(يع2: 5)، فالإثنا عشر رسولاً الّذين أوصَلوا الإنجيل، أتى بهم من الفقراء. "أما أنتم فأهنتم الفقير. أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرّونك الى المحاكم؟ (يع2: 6)؛ إذاً أنتم واقعون في ورطة، فإذا كان لديكم الإيمان لا تُميِّزون. ليس علينا أن نحتقر الغنيّ إنّما أن نحبّ الفقير ونحترمه كما نحترم الغنيّ. فيعقوب الرّسول نَبّه المسيحيّين، في الكنيسة الأولى، على هذا الموضوع، حيث يقول: "لأنّ الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة"(يع2: 13)؛ يستطيع اللهُ إذًا أن يرحمك وأنتَ في خطاياك، سواء استطعتَ أن تُصلّي أو لم تستطع، سواء صِمْت أو لم تصمْ؛ فسواء قمتَ بزلّة لسان أو ارتكبتَ خطيئة، فسيرحمك، ولكن إن كنتَ من دون رحمة مع أخيك الإنسان، فعندها لن يرحمك اللّه "والرّحمة تفتخر على الحكم" ( يع 13:2)، أي أنّ القانون والعدل مهمّان، لكنّ الّرحمة أهمّ منهما. لذلك قبل أن تخلدوا إلى النّوم يجب أن تُضيفوا إلى صلواتكم عبارة "يا ربّ عاملني بحسب رحمتك، لا بحسب عدلك". فإذا عامَلَنا اللهُ بحسب عدله، فلن نستحقّ النّهوض في اليوم التّالي، لأن الرّب قال، إنّ الرّحمة تتغلّب على القانون والحكم). فهذه صورة من الصّور الّتي تكلّم عليها يعقوب الرّسول. تتمة...
أنبياء العهد القديم - سفر حزقيال، إصحاح: السادس عشر والسابع والثلاثون نتكلّم اليوم، في القسم الثّاني من سِفر حزقيال، عن خطيئة أورشليم
نتكلّم اليوم، في القسم الثّاني من سِفر حزقيال، عن خطيئة أورشليم وعن التّشويه الحاصل في العهد القديم للعلاقة بين اللّه وشعبه، فإمّا أن تكون كالعلاقة القائمة بين الأب والابن البكر (أيّ الوريث)، أو الصّورة الأهمّ لهذه العلاقة هي صورة الحبيب والحبيبة (أو العريس والعروس) بين الله وشعبه. لهذه الصورة أهميّة كبرى، وخاصةً في العهد الجديد نقلاً عن الرّسول بولس الّذي لا يتكلم عن سرّ الزّواج كَسرّ إلّا من خلال علاقة المسيح بكنيسته، وليس من خلال علاقة الرّجل بزوجته، فأنتم تتشبّهون بعلاقة المسيح بكنيسته. إذاً تكْمُن المسألةُ بين الله وشعبه، بين العريس والعروس، وهذا العريس هو اللّه، الحبيب الّذي يُسمّي نفسه في العبريّة "حِسِد" (أيّ الرّجل الّذي يغار كثيراً على حبيبته من نظرات الآخرين. فهو يُريد فقط أن يجلِسا بالقرب من بعضهما ويمضِيا الوقت بالنّظر إلى بعضهما). هذه هي العلاقة الّتي يريدها الله. فالآلهة الأخرى تُغضِبُ اللّه على الرّغم من أنّها غير موجودة، وقد صنع البعض آلهةً يعبدُها وهي الأصنام الّتي لها عيون ولا تبُصر، ولها آذان ولا تسمع ولها أفواه ولا تتكلّم. وأنتَ تجعلُ من هذا الصّنم إلهَك وتعبُدُه وتنسُبُ إليه أموراً ليحقّقها لك مثل أمور الطّبيعة، فعندما يتأخّر تساقُطُ المطر يصلّوا للإله بعل ليبعثَ لهم المطر وهم يؤمنون بالله. كما ذهب موسى ليجلبَ الوصايا العشرة من الإله الحيّ وعندما عاد، وجد الشّعب قد أتى بقطعٍ من ذهب، وصنع منها صنماً على شكل عجلٍ وبدأ بعبادته، فلم يقبلْ الشعب بموسى لأنّ غيابَه قد طال فبدأ يشكّ في قدرة الله. إذاً تكمن المشكلة في أنّ الإنسان هو عابدٌ لشيء ما. فالله يقول: إذا أنا انتشلتكِ من أدنى درجات الأرض وأنقذتكِ من كلّ تلك القذارة وغسّلتُكِ ونظّفتُكِ وجعلتُكِ عروساً وتزوّجتُكِ، فهل ستعودين إلى الشّارع، أيّ إلى عبادة آلهة أخرى؟
هذه الصورة القاسية طرحَها حزقيال في كتابه عن خطيئة الشّعب. وهناك خطيئتان الله لا يتساهلُ فيهما، وهما عبادةُ غير الله وإهمالُ المحتاج؛ إن كان يتيماً أو أرملةً أو فقيراً. بمعنى آخر، جعل الله هاتيْن الخطيئتيْن خطيئةً واحدةً، تتمة...