البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
22/1/2019 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الرابع، أية 19-37 حياة الشركة
https://www.youtube.com/watch?v=9qzxx9Ml5V8&t=226s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الاصحاح الرابع، آية 19-37
الأب ابراهيم سعد

22/1/2019

فَأَجابَهم بُطرُسُ ويُوحنَّا وقالا: "إِنْ كانَ حقًّا أمامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكم أَكثرَ مِنَ اللهِ، فاحْكُموا. لأنّنا نَحنُ لا يُمكِننا أَنْ لا نَتَكلَّم بِما رَأيْنا وسَمِعْنا". وبَعْدَما هَدَّدُوهُما أيضًا أَطْلَقوهما، إِذْ لَم يَجِدُوا البَتَّةَ كَيفَ يُعاقِبونَهما بِسَبَبِ الشَّعبِ، لأنَّ الجَميعَ كانوا يُمجِّدونَ اللهَ على ما جَرَى، لأنَّ الإنسانَ الّذي صارَتْ فِيهِ آيَةُ الشِّفاءِ هذه، كانَ لَهُ أَكثَرُ مِن أربَعينَ سَنَةً. وَلَمَّا أُطلِقا أَتَيَا إلى رُفَقائِهما وَأَخبَرَاهُم بِكُلِّ ما قالَهُ لَهُما رُؤساءُ الكَهَنَةِ والشُّيُوخُ. فَلَمّا سَمِعوا، رَفَعوا بِنَفسٍ واحِدَةٍ صَوتًا إلى اللهِ وقالوا: "أَيُّها السَّيِّدُ، أنتَ هو الإِلَهُ الصَّانِعُ السَّماءَ والأرضَ والبَحرَ وَكُلَّ ما فِيها، القائِلُ بفَمِ داوُدَ فَتَاكَ: لِماذا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ وتَفَكَّرَ الشُّعوبُ بالباطِل؟ قامَتْ مُلوكُ الأرضِ، وَاجتَمَعَ الرُّؤساءُ مَعًا على الربِّ وعلى مَسِيحِهِ. لأنَّه بالحَقيقَةِ اجْتَمَعَ على فَتَاكَ القُدُّوسِ يَسوعَ، الّذي مَسَحْتَهُ، هيرُودُسُ وبيلاطُسُ البُنطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وشُعوبِ اسرائيلَ، ليَفعَلوا كلَّ ما سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ ومَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ. والآنَ يا رَبُّ، انْظُرْ إلى تَهْدِيدَاتِهم، وامْنَحْ عَبيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّموا بِكَلامِكَ بِكُلِّ مُجاهَرَةٍ، بِمَدِّ يَدِكَ للشِّفاءِ، ولتُجْرَ آياتٌ وَعَجائِبُ بِاسمِ فَتَاكَ القُدُّوسِ يَسوعَ". ولَمَّا صَلُّوا تَزَعزَعَ الـمَكانُ الّذي كانوا مُجتَمِعِينَ فيهِ، وامْتَلَأ الجَميعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وكانوا يَتَكَلَّمونَ بِكلامِ اللهِ بـمُجاهَرَةٍ. وكانَ لجُمهُورِ الّذينَ آمَنُوا قَلبٌ واحِدٌ ونَفسٌ واحِدَةٌ، ولَم يَكُنْ أَحَدٌ يَقولُ إنَّ شَيئًا مِن أَموالِه لَهُ، بَلْ كانَ عِندَهُم كُلُّ شيءٍ مُشتَرَكًا. وَبِقُوَّةٍ عظيمةٍ كانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهادَةَ بِقيامَةِ الربِّ يَسوعَ، ونِعمَةٌ عظيمَةٌ كانَتْ على جَميعِهم، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِم أَحَدٌ مُحتاجًا، لأنَّ كُلَّ الّذينَ كانوا أَصحابَ حُقول أو بُيوتٍ كانوا يَبيعُونَها، ويَأتُونَ بأَثمانِ الـمَبيعاتِ، ويَضَعُونَها عِنْدَ أَرجُلِ الرُّسُلِ، فكانَ يُوزَّعُ على كلِّ أحدٍ كما يَكونُ لَهُ احْتِياجٌ. ويُوسُفُ الّذي دُعِيَ مِنَ الرُّسُل بَرنابا، الّذي يُتَرجَمُ ابنَ الوَعظِ، وَهُوَ لاويٌّ قُبْرُسِيُّ الجنْسِ، إذْ كانَ لَهُ حَقلٌ باعَهُ، وأَتى بالدَّراهِمِ وَوَضَعَها عِنْدَ أَرجُلِ الرُّسُل".

في هذا الإصحاح، يعرِض علينا لوقا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، رؤيته الخاصّة للكنيسة الأولى، فيَصِفُها بأنَّها كنيسةٌ كامِلةٌ لا وجود فيها للمحتاجين لأنَّ المؤمِنِين فيها يتعاضَدون على سدِّ احتياجات بعضهم البعض، من خلال بَيْع ممتلكاتهم الأرضيّة وتقديم أثمانِها للرُّسل لتوزيعها على الأكثر حاجة فيهم. لم تكن الكنيسة الأولى، تعيش على هذا النَّمط الّذي ذَكَرَه لوقا الرَّسول، بدليل عدم استمراره عبر التّاريخ، وبالتّالي فإنَّ كلامه هذا، هو كلامٌ نَبويّ، أي أنّه يعكس كلمة الله للمؤمِنِين في ذلك الزّمان، وفي ذلك المكان.كما يُخبرنا الرَّسول لوقا، في هذا الإصحاح، عن الاضطهادات الّتي تعرَّض لها الرَّسولان، والّتي فشِلَت في إيقافهما عن متابعة مسيرتهما التبشيريّة بكلمة الله.
إنّ الكنيسة قد فَقَدت مِن قوّة تأثيرها على الآخَرين في مجتمعاتِنا، عندما كرَّست ذاتها لاستلطاف الآخَرين ومديحهم، عِوَض إعلان كلمة الله لهم بكلّ جُرأةٍ. على المؤمِن أن ينطلِق للبشارة، فيُعلِن كلمة الله بكلِّ أمانةٍ ومن دون إدانةٍ للآخَرين، فكلمة الله قادرة على توبيخ الخاطئ وحثِّه على التَّوبة، إذ إنّها تزعجُ كلَّ محبٍّ للباطل. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ كلمة الله القائلة: "أحبُّوا بعضكم بعضًا"، هي مَصدرُ إزعاجٍ لكلِّ إنسانٍ يعيش في خصومةٍ مع الآخَر من دون سَعيِه لحلّ هذا الخِصام. إنَّ كلمة الله تُزعزع كلّ باطلٍ، لذلك أخبرنا لوقا الرَّسول، في هذا الإصحاح، أنَّ المكان قد تزعزع عندما صلّى الرُّسلُ مجتَمعِين بصوتٍ واحدٍ إلى الله. إنَّ زعزعة المكان ترمز إلى حضور الرُّوح القدس فيه، فكلمة الله قادرةٌ على تغيير وَضْعِ المؤمِن ودَفعِه إلى التغيير في مواقفه القديمة لتُصبح تلك الأخيرة متوافقة مع كلمة الله. إنّ الإنسان الّذي يسمَع كلمة الله ويقبل بها، يتغيّر من الدَّاخل؛ أمّا الّذي لا يتغيَّر داخليًّا، فَهوَ إنسانٌ قد سَمِع كلمة الله، ولكنّه لم يقبَل بها. فمثلاً، في الذبيحة الإلهيّة، عندما تبقى نبرة صوت الكاهن على حالِها، أثناء إعلانه كلمة الله في العِظة، بوجود كِبار القَوم كما في غيابهم، فهذا دليلٌ قاطِعٌ على أنّ هذا الكاهن قد قَبِل حقًّا كلمة الله، وبالتَّالي يكون كلامُه كلامًا نَبَوِّيًا، حسب مفهوم الكتاب المقدَّس للنبوءة. أمّا إذا تغيَّرَتْ نَبرَةُ صوتِ الكاهن بحضور عظماء الشَّعب، في محاولةٍ منه لاستلطافِهم من أجل حصوله على عطاءاتهم الماديّة، فهذا دليلٌ على أنّه لم يَقبَل بكلمة الله الّتي يُعلِنها، لذا لن تساهم كلمة الله في تغييره داخِليًّا ولا في تغيير حياة الآخَرين. إذًا، على الكاهن إعلان كلمة الله بكلّ جُرأةٍ من دون خوف من الاضطهادات الّتي سيتعرَّض لها، في حال لم تَكُن كلمة الله متجاوِبة مع أهواء البشر.
إنّ بطرس ويوحنّا هما مِثالٌ لنا في المجاهرة بكلمة الله: فبطرس ويوحنّا لم يكترثا للاضطهادات الّتي تعرَّضا لها، بل انكبّا على إعلان البشارة من دون خوف، ممّا أدّى إلى ازدياد عدد المؤمِنِين بكلمة الله؛ أمّا اليهود الّذين خافوا خُسران سُلطَتِهم وقرّروا محاكمة الرَّسولَين ومَنَعوهما من ذِكر اسم الربّ، فتضاءلت قوّة سيطرتهم عن الآخَرين وتُرِكوا وحدهم. فَعندما يسعى المؤمِن إلى استلطاف الآخَرين والحصول على الـمَديح منهم، يخسر هويّته كَرَسول، لأنَّ مديح النّاس يؤدِّي إلى تعطيل مسيرة كلمة الله للآخرَين؛ أمّا حين ينطلق المؤمِن للبشارة، فإنَّ كلمة الله تنتشر بين النّاس ويؤمِن بها الكثيرون وينالون الخلاص، على الرُّغم من معاناة الرَّسول من الاضطهاد الّذي يقوده إلى الموت. حاول اليهود إلقاء القبض على يسوع مرّات عديدة، ولكنّهم فَشِلوا في ذلك بسبب ازدحام الجموع المتعطشة لكلمة الله حوله، ولكنَّهم تمكّنوا من القَبضِ عليه حين كان وحيدًا في بستان الزَّيتون. إنَّ مشكلة المسيحيِّين في الشرق تَنبَع مِن شعورهم بالخوف كَونُهم أصبحوا أقليّات في هذا المجتمع، لذا يحاولون استلطاف الآخَرين، فيَتراجعون عن مَهمَّتهم في نشر كلمة الله، خوفًا من التعرُّض لمزيد من الاضطهادات، وبالتّالي اندثار المسيحيِّين في الشَّرق. إنَّ عِلم النَّفس يعرِّف الخوف بأنّه حالةٌ وَهميّة يعيشها الإنسان على أنّها حقيقة. إنَّ خوفَ الإنسانِ يُفقِده قوَّتَه: فَلو خاف بطرس ويوحنّا وبقيّة الرُّسل، مِن نشر البشارة بسبب عددهم الضئيل، لما كانت وَصَلَت إلينا البشارة، ولما كنّا نِلنا الخلاص. إنّ قوَّة بطرس ظَهرَت في اندِفاعه لإعلانه كلمة الله، فآمَن الكثيرون عن يده، ونالوا الخلاص بيسوع المسيح. يُمتَحَن إيمان الإنسان في أوقات الشِّدة والصُّعوبة لا في أوقات الرّاحة والبحبوحة: فإنْ تزعزع إيمانه ورجاؤه بالمسيح يسوع عند مواجهته صعوبات الحياة كالمرض والموت، فهذا دليلٌ على أنّ إيمان الإنسان كان في الماضي مجرَّدُ كلامٍ أدبيٍّ ونظريّاتٍ فلسفيّة؛ أمّا إذ تمكَّن الإنسان من الثَّبات في إيمانه على الرُّغم من الشَّدائد الّتي تواجهه في هذه الحياة، فهذا دليلٌ على أنَّ إيمانه مبنيٌّ على صخرة يسوع المسيح. إنَّ سِفر الرؤيا يدعونا إلى التَسلُّح بالصَّبر لتخطِّي صعوبات الحياة، وهذا ما يُسمَّى "صَبرُ القدِّيسِين". إنَّ المؤمِن لا يُمدَح بسبب إعلانه كلمة الله، بل يُضطَهد بسببها: إنّ الإنسان حُرٌّ في إعلان البشارة أو رَفضِ ذلك، إذ قد يتراجع البعض عن إعلانها عند مواجهتهم للاضطهادات، بينما آخَرون قد يندِفعون في إعلانها على الرُّغم مِن معرفتهم بالصُّعوبات الّتي ستواجههم من جرّاء ذلك.
إنّ الإنسان يميل إلى رَمِي مسؤوليّة المصائب الّتي يتعرَّض لها في حياته على الله، كما أنّه يَلوم الله على عدم تَدَخُّله في أحداث حياته وتغييرها لإبعاد الشرِّ عنه، وهذا ما يؤدِّي إلى زعزعة العلاقة بين الإنسان والله؛ ويعود سبب ذلك إلى نظرة الإنسان الخاطِئة إلى الله. إنّ الإنسان يؤِمن أنّ الله هو خالقُ المسكونة، لذا يعتقد أنّ الله هو المسؤول عن مصير البشر. إنّ الله هو إلَه الحياة لا الموت، وبالتّالي ليس الله مسؤولاً عن موت الإنسان على الرُّغم من معرفته بِدُنوِّ ساعة انتقال هذا الأخير مِن هذا العالم. إنَّ سبب موتِ الإنسان هو الإنسان نفسه، إمّا بطريقة مباشرة من خلال إهماله لِصحَّتِه وللقوانين، وإمّا بطريقة غير مباشرة أي من خلال الأمراض المنتشرة بسبب إهمال الإنسان للطبيعة. إنَّ الكتاب المقدَّس يقدِّم لنا صورة الله الحقيقيّة، وهي مختلفة كلّ الاختلاف عن نظرَتِنا له: إنَّ الله خلَق الإنسانَ حُرًّا، أي أنّ الإنسان هو الذي يُقرِّر مصيره من خلال اختياراته في هذه الأرض، وبالتّالي ليس الله مسؤولاً عن مصائر البشر، فالله يرفُض أن يحرِّك البشر ويُحدِّد مصائرهم وكأنّهَم أجهزةٌ إلكترونيّة. إنّ الله يتألَّم جرّاء حريّة البشر، إذ من خلال تلك الحريّة يستطيع الإنسان أن يرفُضَ حبَّ الله له. من شروط الحبّ الأساسيّة أن يكون المحبوب حُرًّا، فيتمكَّن هذا الأخير مِن رَفضِ الحبّ أو القبول به.
إنَّ الحبّ في مفهوم الله، مختلفٌ عن مفهومنا الأرضيّ للحبّ: إنَّ الإنسان الّذي يُحِبّ، يدافِع عن محبوبه، عندما يراه في خطرٍ، حتّى وَلو اضطَّر إلى التعامل معه بقساوةٍ لِـمَنعه من ارتكاب الشُّرور والأخطاء؛ أمّا الله، فيُنَبِّه الإنسان إلى المخاطِر الّتي تواجِهُهُ، ويُعبِّر له عن استعداده لِبَذل حياته في سبيله، ولكن الله يحترم حريّة الإنسان، ولا يتدخَّل في شؤونه إنْ قرّر هذا الأخير متابعة مسيرته الأرضيّة لامُباليًا بكلام الله. إنّ الله خَلَقنا أحرارًا؛ ولكن حين نلومُه على المصائب الّتي نواجِهها، نُعبِّر له عن رَفضِنا لتلك الحريّة وعن رَغبتنا في العودة إلى حياة العبوديّة، رافضِين بذلك تَحَمُّل مسؤوليّة أخطائِنا. إنَّ الله لا يطلب منّا أن نحبَّه أو أن نعبُدَه، بل يطلب منّا فقط أن نَقبَل بحبِّه لنا، أن نقبَل بأن يكون لنا عبدًا، كما فَعَل تمامًا حين مات ميتة العبيد على الصّليب، وذلك تعبيرًا عن حبِّه لنا. في أغلب الأحيان، يرفُضُ الإنسان تَحمُّل مسؤوليّة أخطائه ويرمي بها على الآخَرين، ولكنَّ قبول هذا الأخير بحبّ الربّ يَضَعُه أمام مسؤوليّته تجاه هذا الحبّ، ولذا يجد الإنسان نفسه في صراعٍ داخليّ ما بين القبول بهذا الحبّ أو رَفضِه له. إنَّ هذا الصِّراع الداخليّ الّذي يواجهه الإنسان يصل إلى ذُروَته في أيّام الشِّدة لا في أوقات البحبوحة، أي عندما يواجه الإنسان سرّ الموت أو سرّ الألم، فيسأل الله عن سبب تعرُّضه لهذا الألم على الرُّغم مِن طاعته لله، وعن عدم تدخُّل الله لإيقاف هذا الألم. ليس الله مسؤولاً عن موت الإنسان، وليس المسؤول عن تحديد تلك السَّاعة، على الرُّغم من معرِفته بها. إنّ الله هو إله الحياة، أي أنَّ عَمله يبدأ بعد انتقال الإنسان من هذا العالم، فيساعد المنتقل في الوصول إلى الملكوت،كما يَمنح تعزيَة سماويّة لأهل الفقيد ليتمكَّنوا مِن تَحمُّل ألم الفراق.
إنّ جميع الأديان على وِفاقٍ مع الفِكر البشريّ، ما عدا المسيحيّة، إذ إنّها تَنقُل إلى المجتمع فِكر المسيح وكلمته المقدَّستَين، وهما يتعارضان مع أهواء البشر ونزواتهم الأرضيّة، لذا يتعرَّض كلّ حاملٍ لفِكر المسيح إلى الاضطهاد، وما حَدَث مع الرَّسولَين بطرس ويوحنّا هو خيرُ دليلٍ على ذَلك. لم يتجسَّد المسيح في أرضِنا بِهَدَفِ تأسيس مجتمعٍ مُغلَقٍ يُدعى "الكنيسة"، بل تجسَّد من أجل حثِّنا على اتِّباع نهجٍ جديدٍ في حياتِنا يوصِلنا إلى الملكوت، فعرَّفنا بذاته قائلاً: "أنا هو الطريق والحقّ والحياة، لا يأتي أحدٌ إلى الآب إلّا بي" (يو 14: 6). نحن كمسيحيِّين لسنا أتباع طائفةٍ معيَّنة، بل نحن أتباع المسيح، وهذا يعني أنّنا اختَرْنا الإصغاء لكلمة الله والسَّعي للعمل بها وتطبيقها في حياتِنا اليوميّة. في القرون الأولى للمسيحيّة وخاصّة في عهدِ الرُّسل، كانت كلمة "مسيحيِّين"، الّتي أُطلِقت عليهم لأوّل مرّة في أنطاكيّة، تشكِّل تُهمَةً لهم، إذ كانت تُستَعمَل تلك الكلمة للإشارة أنّ هؤلاء هُم خارج عن القانون اليهوديّ، وبالتّالي يتحتَّم القبض عليهم وقتلُهم. أمّا اليوم، فَقَد أصبحنا نستعمل هذه العبارة كامتيازٍ لنا عن باقي الشُّعوب، فنُصَنِّف البشر كما كان اليهود يفعَلون، فنتفاخَر بكوِننا مسيحيِّين ونزدري غير المسيحيِّين إذ نجد ذواتَنا أفضل منهم. إنَّنا، نحن المسيحيِّين متساوون مع بقيّة الشُّعوب من حيث الطبيعة البشريّة، ولكن ما يميِّزنا عنهم هو قبولنا المسيح في حياتنا، الّذي لم يميِّز بين البشر، بل مَنح خلاصه للجميع من دون أيّ تمييز. لا يحقّ للمسيحيِّين اختلاسَ حقّ الآخَرين في الخلاص، ناسِبِين ذلك الحقّ لجماعتهم فقط، إذ إنَّهم بتلك الطريقة يكونون قد أفْقَدْوا الخلاص قيمته الحقيقيّة بأن يشمل جميع البشر.
إنّ المسيحيّين في عالِمنا اليوم، يُسيئون استعمال الإنجيل، فيَضَعونه في أماكنٍ مرتَفعة لا لإظهار قيمته بل كي يجعلوه بعيدًا عن عالـمِهم، إذ يعتَقِد البعض منهم، أنّ الإنجيل هو كتابُ الملكوت، وبالتّالي لا فائدة منه لِعالمِنا اليوم، لأنَّ الملكوت حَسَب نَظَرِهم لا يتحقَقّ في أرض البشر بل في السَّماء فقط، وهذا اعتقادٌ خاطِئٌ تمامًا. إنّ الإنجيل قد أُعطِي للبشر، لقراءته، فيتناقَلون البشرى السّارة الـمُخبَّأة في داخله. كذلك في تلاوتِنا صلاة الأبانا، إذ يعتقد بعض المؤمِنِين أنَّ الله هو قادِرٌ وجبّار، وأنّ مشيئته هي الّتي تتحقَقّ على الدّوام في أرضِنا، لذا هم يَعتبرون أنّ لا دَورَ للإنسان في كلّ ما يجري على الأرض، وبالتّالي فإنَّ الله هو المسؤول الوحيد عن كلّ ما يُصيبُنا من أزماتٍ ومصاعبَ في هذه الحياة، بالنسبة لهؤلاء. على المؤمِن أن يقرأ الإنجيل بطريقة واعية ومسؤولة، مليئة بالرَّجاء، لا بطريقة يائسة، استسلاميّة تُعتِق الإنسان من كلّ مسؤوليّة. على المؤمِن أن يتعلَّم من المسيح كيفيّة مواجهته الصُّعوبات في هذه الحياة: فيواجه المؤمِن كلّ شِدَّة تعترضه كما واجه المسيح الصّليب، فلا يسعى إلى البحث عن الصُّعوبات، ولكنّه يواجهها إنْ لم يتمكّن من إلغائها والتخلُّص منها. على المؤمِن أن يثِق بالله كما وَثِق الربّ يسوع بأبيه، فيُدرِك أنّه مع الله يستطيع مواجهة كلّ الصُّعوبات والتغلُّب عليها، وبِدُونِه لا يستطيع شيئًا. إنّ ثِقةَ الإنسان بالله أمرٌ في غاية الصُّعوبة إذ تُدخِلُه في صراعٍ داخليّ بين الواقع الّذي يعيشه وبين رجائه الّذي يراه صَعب التحقيق. لا يدعونا الربّ إلى الفَصلِ ما بين واقِعنا المرير وبين رجائنا به، بل يدعونا إلى عيش الرَّجاء في عالمنا الّذي يُعاني من نَقصٍ في عيشِه لكلمة الله، ويدعونا الربّ إلى الوثوق به بأنّه سيُحقِّق لنا كلّ ما وَعَدنا به، عاجلاً أم آجلاً. على المؤمِن أن ينظر إلى كلِّ خسارةٍ يتعرَّض لها في حياته، أكانَتْ ماديّة أم صحيّة أم فقدان عزيزٍ، انطلاقًا من إيمانه بالربّ يسوع، فيتمكّن من رؤية حَجم الخسارة على حقيقتها طالبًا من الربّ المساعدة لتَخَطِّي هذه المحنة، فلا تتمكّن الصُّعوبة من تغيير الإنسان بل يدفَعُها إلى تغيير مسيرتها فَتَرحل عنه وتزول. فكما أنّ صعوبات الحياة لا تُضعِف الحبّ الموجود بين شَخصين بل تزيده متانةً وقوّةً، كذلك على صعوبات الحياة أن تزيد المؤمن ثِقَةً بالله لا أن تُزَعزِعها. على المؤِمن أن يتشبَّه بالمسيح فيُحافِظ على إيمانه بالله، قبل تعرُّضِه للمحنة وفي المِحنة وبعدها، كما فَعلَ المسيح الّذي بقيَ على ثِقةٍ بأبيه قبل خضوعه للمحاكمة، خلال المحاكمة وبعدها، فيتمكّن المؤمِن من المجاهرة بإيمانه كما فَعل الرَّسولان في هذا النَّص. إنّ كلّ حاملٍ للواء المسيح، أي لكلمة الحقّ، مُعرَّضٌ في كلِّ آنٍ، لمواجهة الاضطهادات على أشكالها، من جوع وعزل وقتل. كما تعرَّضَ الرُّسل للاضطهادات خلال إعلانهم كلمة الله، كذلك يتعرَّض المسيحيّون للاضطهادات خلال إعلانهم بشارة الإنجيل للآخَرين. فالمسيح سيبقى حجرَ عثرةٍ عبر العصور، لكلِّ محبٍّ للباطل، لذا لن يتوقّف أهل الباطل عن محاولة قتل يسوع بشتّى الطُرُق، أي أنّ الاضطهاداتٍ سَتُرافق كلَّ مُعلنٍ للحقّ.
في ختام هذا الإصحاح، أعطانا لوقا الإنجيل علامةَ أملٍ ورَجاء، إذ قال لنا إنَّ كلَّ شيءٍ كان مُشتركًا بين المؤمِنِين، وإنّهم كانوا يتقاسَمون الخيرات الأرضيّة فيما بينهم فَلم يكن هناك مِن محتاجٍ بينهم. حين تتحقَّق رؤية الإنجيليّ لوقا في الكنيسة، يكون المؤمِنون قد تفاعلوا مع حلول الرُّوح القدس، وبالتّالي تكون العنصرة الحقيقيّة قد تحققَّت فِعلاً، ولا تزول أبدًا. على قراءَتنا لكلمة الله في الإنجيل، أن تساعِدنا في تخطِّي صعوباتنا، فنتمكَّن عندها من مساعدة الآخَرين لِتَخطِّي صعوباتهم بواسطة كلمة الله. على المؤمِن عدم انتظار وصوله إلى مرحلة القداسة لإعلان كلمة الله، بل عليه إعلان البشارة على الرُّغم من خطاياه، فيتمكّن السَّامِعون لكلمة الله من القبول بها، والحصول على الخلاص. على المؤمِن الانطلاق للبشارة بكلمة الله، وهو على قناعةٍ تامَّةٍ بأنّ كلمة الله قادِرة على أنْ تُطهِّره من كلّ خطيئة، وأنّها قادرة على مَنح الخلاص للجميع إذ تَدفَعُهم للتَّوبة عن طريقهم الملتوية. إخوتي، لا نُضيِّعن الوقت في التَّفكير في كيفيّة التخلُّص من خطايانا، بل لِنَستفِد من الوَقت الـمُعطى لنا، لإيصال البشارة إلى العالم أجمع، غير آبهِين للاضطهادات، فكلمة الله قد وَصلت إلينا من خلال دِماء الشُّهداء الّذين نالوا إكليل الشَّهادة نتيجة تَمسُّكهم بالإيمان الحقيقيّ.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
27/11/2018 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الرابع، آية 1-18 لا تلميذَ أفضَل مِن معلِّمه
https://youtu.be/aKX2PCEjhgs

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الرابع،1-18
الأب ابراهيم سعد

27/11/2018

وَبَينَما هُما يُخاطِبانِ الشَّعبَ، أقبَلَ عَلَيْهما الكَهَنَةُ وقائِدُ جُنْدِ الهَيْكَلِ والصَّدُّوقِيِّونَ، مُتَضَجِّرينَ مِن تَعلِيمِهِما الشَّعبَ، ونِدائِهما في يَسوعَ بالقِيامَةِ مِنَ الأمواتِ. فَأَلْقَوا عَلَيْهِما الأَيادِيَ وَوَضَعُوهُما في حَبْسٍ إلى الغَدِ، لأنَّهُ كانَ قَدْ صارَ الـمَساءُ. وَكَثيرُونَ مِنَ الّذينَ سَمِعُوا الكَلِمَةَ آمَنُوا، وصارَ عَدَدُ الرِّجالِ نَحوَ خَمسَةِ آلافٍ. وَحَدَثَ في الغَدِ أنَّ رُؤسَاءَهُم وشُيوخَهم وكَتَبَتَهُم اجْتَمَعُوا إلى أُورَشَليمَ مَعَ حَنَّانَ رَئيسِ الكَهَنَةِ وقَيافا ويُوحنَّا والإِسْكَندَرِ، وَجَميعَ الّذينَ كانوا مِن عَشيرَةِ رُؤسَاءِ الكَهَنَةِ. ولَمَّا أَقامُوهُما في الوَسْطِ، جَعَلُوا يَسأَلُونَهما: "بِأَيَّةِ قُوَّةٍ وبِأَيِّ اسْمٍ صَنَعْتُما أنتُما هذا؟". حِينَئِذٍ امتَلَأَ بُطرُسُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وقالَ لَهُم: "يا رُؤساءَ الشَّعبِ وشُيوخَ إسرائيلَ، إنْ كُنَّا نُفحَصُ اليَومَ عَنْ إحْسَانٍ إلى إنسانٍ سَقِيمٍ، بِماذا شُفِيَ هذا، فَليَكُن مَعلُومًا عِنْدَ جَميعِكُم وجَميعِ شَعبِ إسرائيلَ، أَنَّهُ باسمِ يَسوعَ النَّاصِريّ، الّذي صَلَبْتُموه أَنتُم، الّذي أَقَامَهُ اللهُ مِن الأمواتِ، بِذاكَ وَقَفَ هذا أمامَكُم صَحيحًا. هذا هُوَ: الحَجَرُ الّذي احْتَقَرتُمُوهُ أيُّها البنّاؤونَ، الّذي صارَ رَأسَ الزّاوِيَةِ. وَلَيسَ بِأَحَدٍ غَيرِهِ الخلاصُ. لأنْ لَيسَ اسمٌ آخَرُ تَحتَ السَّماءِ، قَدْ أُعطِيَ بينَ النَّاسِ، بِهِ يَنبَغي أنْ نَخلُصَ". فَلَمَّا رَأَوا مُجاهَرَةَ بُطرُسَ ويُوحنَّا، وَوَجَدوا أَنَّهما إنسانانِ عَديما العِلمِ وعامِيَّانِ، تَعَجَبّوا. فَعَرَفُوهما أنَّهما كانا مَع يسوعَ. وَلَكنْ إذْ نَظَرُوا الإنسانَ الّذي شُفِيَ واقِفًا مَعَهما، لَم يَكُنْ لَهم شَيءٌ يُناقِضونَ بِه. فَأَمَرُوهُما أن يَخْرُجا إلى خارِجِ الـمَجمَعِ، وتآمَرُوا فيما بَينَهم قائِلِينَ: "ماذا نَفعَلُ بِهَذَينِ الرَّجُلَينِ؟ لأنَّه ظاهِرٌ لِجَميعِ سُكّانِ أُورَشَليمَ أنَّ آيَةً مَعلُومَةً قَدْ جَرَتْ بِأَيدِيهِما، ولا نَقْدِرُ أن نُنْكِرَ. ولَكِنْ لِئَلّا تَشِيعَ أَكثَرَ في الشَّعبِ، لنُهَدِّدَهما تَهديدًا أَنْ لا يُكلِّما أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فيما بَعْدُ بهَذا الاسمِ". فَدَعُوهما وَأَوصُوهُما أَنْ لا يَنطِقا البتَّةَ، ولا يُعلِّما باسمِ يَسوعَ."

يُخبرنا هذا الإصحاح عن حادثةَ شِفاء رَجلٍ سَقيمٍ على يدِ الرَّسولَين بطرس ويُوحنّا، وهي الحادثة الأولى مِن نوعها بعد موت يسوع وقيامته، الّتي تؤدِّي إلى مواجهة مباشرة بين رؤساء الكهنة والشيوخ والكتَبَة مع الرَّسولَين بطرس ويوحنّا. على إثر هذا الشِّفاء، تمّ إلقاء القَبض على الرَّسولَين ومحاكمَتِهما، وهنا نلاحظ تشابُهًا كبيرًا بين محاكمة هذَين الرَّسولَين ومحاكمة يسوع: فبَعد إلقاء القبض على يسوع، أُخضِع للمحاكمة على يد رؤساء اليهود، وقد وَضَعوه في وَسَط المجمع للحُكِم والتآمر عليه، في سبيل قَتلِه؛ وهذا ما حَدَثَ تمامًا مع الرُّسولَين، إذ تمَّ إلقاء القبض عليهما، ثمّ وُضِعا في وَسَط المجمَع أمام رؤساء اليهود، للحُكم والتآمُر عليهما. من خلال هذا الإصحاح، أراد كاتب هذا السِّفر، الإنجيليّ لوقا، إلقاء الضَّوء على ما يلي: أوّلاً، لا تلميذَ أفضَل مِن معلِّمه، فكما تعرَّض يسوع للمحاكمة والموت، كذلك سيتعرَّض الرُّسل مِن بَعدِه إلى الاضطهادات على يد اليهود؛ وثانيًا، إنّ كلام يسوع الّذي قال لتلاميذه إنّهم سيقومون بأعمال أعظم من الّتي قام بها هو نفسه قد تحقَّق، وما هذه الأعجوبة إلّا دليل على ذلك.

يطرح علينا هذا النَّص إشكاليّة أساسيّة في البشارة: وهي النُّطق باسم يسوع المسيح. إنّ انزعاج اليهود مِن هَذين الرَّسولَين لم يكن بسبب الأعجوبة الّتي تمَّت بواسطتهما، إنّما بسبب ذِكِرِهما لاسم يسوع، إذ يشكِّل هذا الاسم سبَبَ عثَرةٍ لا لليهود وحسب، إنّما لكلِّ إنسانٍ وخاصّةً المسيحيِّين في يومِنا هذا. إنّ فاعليّة اسم "يسوع" هي كـ "سُوسَة" تخرِق كيان الإنسان لتُغيِّر جوهره، فيتحوّل من حالة الخطيئة إلى حالة النِّعمة. إنَّ عالمنا اليوم، مع ما وَصَل إليه مِن حالةِ فسادٍ، هو دليلٌ واضحٌ على أنَّ يسوع هو سبب عَثَرةٍ له، ولذلك قِيل فيه إنّه "حجر الزاوية الّذي رذله البنّاؤون". إنّ حجر الزاوية هو أساسيّ في أيِّ بُنيان، وبالتّالي لا يمكن للإنسان أن يتجاهَلَهُ، لأنّه إمّا أنْ يَقع هذا الحجر على الإنسان فيَقتُلَه، وإمّا أنْ يقع الإنسان على هذا الحجر فيتهشَّم جسده. إذًا، لا يُمكِن للإنسان أن يتجاهَل "حجر الزاوية"، أي يسوع، وبالتّالي لا بُدَّ له من مواجهته: فإمّا أن يتَّخِذ الإنسان القرار بإلغاء هذا الحجر من حياته، فيتَّخِذ موقف رؤساء اليهود من الربّ، ويحكم عليه بالصَّلب والموت، وتكون حياته بعيدةً عن الله؛ وإمّا أنْ يَقبَل بوجود الربِّ في حياته، فيسمح للربّ بإجراء التغييرات الدّاخلية في أعماقه، وتكون حياته متوافقة مع مشيئة الربِّ. إنّ ما يميِّز المؤمِن عن سواه من البشر هو أنّه غير مميَّزٍ عنهم، إذ إنّه يُشابهم في جبلته الضَّعيفة، فهو معرَّض على مِثالهم للوقوع في الخطيئة، ولكنّ ميزته تكمن في قبوله المسيح، الّذي جَعل جميع البشر متساوين أمام الله، ولهم جميعًا الحقّ في الخلاص، على الرُّغم من انتماءاتهم البشريّة المختلفة. إنّ مشكلة الإنسان الأساسيّة هي سَعْيه إلى إظهار تمايزِه عن الآخرين، رافضًا مساواته معهم، لذا يحاول إلقاء مسؤولية أخطائه على الآخرين متهرِّبًا من الاعتراف بأنّه ضعيفٌ وخاطِئٌ، مُظهرًا ذاته على الدَّوام مدَّعيًا تفوّقه عليهم. ما مِن أحدٍ معصومٌ عن إلغاء يسوع من حياته، فجميعنا قد نُلغيه من حياتنا نتيجة صعوباتِ الحياة الّتي نواجهها.

إنّ تصرُّفاتنا مع الآخرين تدلّ على وجود يسوع في حياتنا أو عَدَمِه: فوجود الربِّ في حياتنا لا بدَّ له أن ينعكس تغييرًا جذريًّا في داخل كياننا، إذ نُصبح من طِينة يسوع، فنَتعامَل مع الآخرين كما تَعامَل يسوع معهم، فنرحَم الخاطئ ونساعِد المحتاج، ولا نُدينُهم. إنّ الإنسان الّذي سَمح للربّ بالدُّخول إلى أعماقه وتَغييره مِنَ الدَّاخل، لا يُوبِّخ الآخر بعباراتٍ جارحةٍ، بل بأسلوبٍ لطيف، يُعبِّر عن محبَّته له، ممّا يدفع الخاطئ إلى التَّوبة عن طريقه الضَّال والعودة إلى الله. إنّ عدم توبة الخاطئ، على الرُّغم من إرشادِك له إلى الطَريق الصَّحيح، يعود إلى سَببَين: أوّلهما، هو أسلوبك في نَقل البشارة إليه، إذ قد يكون سببًا في نفور الخاطئ منك ورَفضِه للتَّوبة؛ أمّا ثانيهما، فقَد يكون إصرارُ الخاطئ نفسُه على البقاء في خطيئته على الرُّغم مِن تذكيرك له بكلمة الله. يكمن دَورُ المؤمِن في إعلانه كلمة الله للآخر من دون إدانته على عدم قبوله بها وبالتّالي عدم إعلان هذا الأخير توبته؛ إذ قد يتوب هذا الإنسان الخاطئ بفَضل مُبَشِّرٍ آخر، نجح من خلال أسلوبه المختلِف عنك في إيصال البشارة إلى قَلب هذا الإنسان المحتاج إليها، فتَمَكَّن هذا الأخير من إعلان توبته. إنّ امتناع المؤمِن عن إدانة الآخرين على سيِّئاتهم، هو دليلٌ قاطع على استحواذ الله على قلب هذا المؤمِن وتَفاعُلِه مع كلمة الله، فالمؤمِن الحقيقيّ يتَّخِذ مِنَ المسيح مِثالاً له. إنّ المؤمِن الّذي قَبِل المسيح في حياته، يتحوَّل إلى إنجيلٍ متحرِّك ينقل البشارة إلى الآخرين باندفاعٍ وعَزمٍ، غيرَ آبهٍ لخطاياه الكثيرة، لأنّه يعلَم أنّ رَحمة الله هي أكبر من خطاياه.

إنّ رؤساء اليهود الحاضرين في الـمَجمَع، منعوا الرَّسولَين مِن ذِكر اسم يسوع، لأنّ إعلانهما البشارة بالمسيح، قد يؤدِّي إلى زرع الرَّغبة عند السَّامِعين لهما، باتِّباع المسيح وتَرْكِ اليهوديّة. إنَّ صراع الإنسان الدائم على مرّ العصور مبنيّ على اختيار الإنسان ما بين المسيح وآلهةٍ أخرى، إذ لا يمكن للإنسان اتِّباع المسيح واتِّباع آلهةٍ وثنيّة في الوَقت نفسه. إنّ الشّرير لا ينفكّ يَنَصُبُ الأفخاخ للمؤمِن، ومِنها: حَثُّهم على التَّشكيك في قُدرَتِهم على نَقل البشارة للآخرين بسبب خطاياهم. عندما يختار رُسُلَه، لا ينظر الله إلى مسيرة الإنسان ما إذا كانت صالحة أم لا، لأنّ ما يهُمُّ الله هو إيصال البشارة إلى جميع المسكونة، ليتمكَّن الجميع من الحصول على الخلاص. فلو كان الله ينتظر وصول الإنسان إلى مرحلة القداسة، لما كانت البشارة قد تمكَّنت من الوصول إلينا، بدليل أنّه اختار ذاك الّذي أنكَره، أي بطرس، ليكون رَسولاً لكلمة الله، ومُبَشِّرًا بقيامة المسيح من الموت في كلّ المسكونة. لقد آمنَّا بقيامة المسيح نتيجة تَناقُل هذا الخبر المفرح شفهيًّا عبر العصور، أي من أيّام الرُّسل، الّذين كانوا شهودًا على هذا الحدث العظيم إلى يومِنا هذا. وبالتّالي، كان من الضروريّ أن يَذكُر الرُّسل اسم "يسوع" أمام الآخرين لِتصل إليهم البشارة، ولهذا السّبب أيضًا طَلَبَ اليهودُ من الرُّسل الامتناع عن ذِكر هذا الاسم. في هذا النَّص، نلاحظ أنّ رئيسَي اليهود، حنّان وقيافا، اللَّذين كانا حاضِرَين في محاكمة يسوع،كانا حاضِرَين أيضًا في محاكمة الرَّسولَين، بطرس ويوحنّا. ولكنّنا نلاحظ وجود شخصٍ يونانيّ لم يكن موجودًا في أثناء محاكمة يسوع، وهو "الإسكَندَر"، وأراد بذلك كاتب هذا السِّفر أن يقول لنا إنّ كلَّ مَن يُعيق مسيرتك التبشيريّة بالإنجيل، هو في الحقيقة متآمِرٌ ضدَّ الربِّ يسوع، يهوديًّا كان أم يونانيّ، في حين أنّ مَن يقبل اسم الربِّ في حياته، ينال الخلاص.

قبل مجيء الربِّ يسوع إلى أرضِنا،كان اليهود يميِّزون البشر استنادًا إلى قِسمَةٍ عاموديّة يعتمدونها، فيقولون هذا يهوديّ، وهذا غير يهوديّ. أمّا يسوع، فقد غيَّر هذا التقسيم بمجيئه، إذ اعتمد قِسمَةً أفقيّة بين البشر، تقوم على جَعْلِ جميع البشر متساوين في الحصول على الخلاص، ولكنّهم يتميَّزون عن بعضهم البعض استنادًا على قرارهم الحرّ باتِّباع المسيح أم لا، وبالتّالي يُقسَم البشر بالنسبة إلى يسوع، فيُقال هذا قَد قَبِلَ الله في حياته أمّا ذاك فقَد رَفَضَه. لقد تآمَر اليهود على يسوع وقرَّروا قَتَله لأنّهم لم يَقبلوا بقِسمَته الجديدة للبشر الّتي جعلت اليهود متساوين مع الآخرين في حصولهم على الخلاص، وقد كرَّس الربُّ هذه القِسمة الجديدة بموته على الصَّليب. إنّ لقاء الإنسان بالربّ يسوع، يؤدِّي إلى تغييراتٍ جذريّة في حياة هذا الإنسان، فإنْ لم تتغيَّر حياته، فهذا دليلٌ على أنّه لم يلتقِ فِعلاً بالربِّ يسوع، إنّما بِوَهمٍ قد نسجَه الإنسان في ذهنِه، وهو في الحقيقة صَنَمٌ "له آذانٌ ولا يسمع، له فَم ولا يتكلَّم، له عينان ولكنّه لا يرى". إنّ ترداد الصّلوات دون التوقُّف عند معناها، لا تجعل الإنسانَ مسيحيًّا حقيقيًّا، بل يُصبح كذلك عندما يسمح للربّ بإجراء التغييرات الجذريّة في حياته، فتُصبح هذه الأخيرة منسجمة مع تعاليم الإنجيل. إنّ المؤمِن لا يتقرَّب من سرّ التوبة ليَطلب من الربِّ أن يغفر له خطاياه، بل يتقرَّب المؤمِن من هذا السِّر اعترافًا منه برحمة الله الّتي غَفَرت له كل خطاياه قَبْل أن يَذكُرها أمام الكاهن. إنّ الموت هو قِسمٌ من حياة الإنسان، فالمؤمِن لا يموت لأنّه سيقوم مع المسيح بعد موته الجسديّ، بل هو يموت لأنّه إنسانٌ قائم، لأنَّ المسيح قد سَبَق وأعطى القيامة للمؤمِنِين به، بموته على الصَّليب. غير أن مشكلة الإنسان تكمن في موته وعدم تمكُّنه من اختبار القيامة على الرُّغم من حدوثها. لقد أنكَر اليهود حدثَ قيامة المسيح، من خلال بثِّ إشاعة تَعَرُّض جسد المسيح للسّرقة، وهذا الأمر كان شائعًا في تلك الأيّام، وبالتّالي لا يمكننا اعتبار القبر الفارغ دليلاً على قيامة المسيح إلّا لأنّنا آمنّا بها من خلال بشارة الرُّسل الّتي وَصَلت إلينا.

إنَّ الرَّسولَين بطرس ويوحنّا قد تعرَّضا للتهديد من قِبَل رؤساء اليهود، إذ مَنعوهما من ذِكر اسم الربِّ يسوع مجدًّدا، غير أنّ الرّسولَين لم ينصاعا لهذا القرار، فتابعا عملهما التبشيريّ باسم يسوع، غير مكترِثَين للاضطهادات الّتي قد تواجههما في نَقلِهما البشارة للآخرِين. في رسالته إلى أهل غلاطية، يحذِّرنا بولس الرَّسول من العودة إلى حياة الجسد، بعد أن نِلنا الحياة بالرُّوح، من خلال إيماننا بالمسيح. وبالتّالي، على مسيرة حياة المؤمِن أن تكون مبنيّة لا على الشرائع اليهوديّة، بل على شريعة المحبّة الّتي أعطانا إيّاها الربّ يسوع، مُتَذكِّرين على الدّوام عَمَل الرُّوح القدس في حياتنا. إنَّ اليهود لم يعترضوا على قيام الرَّسولَين بشفاء الرَّجل المريض، فالأعاجيب كانت موجودة في تلك الأيّام، ولكن ما أثار غيظ اليهود هو تبشير الرُّسل باسم يسوع وإيمان اليهود به. إنّ الاسم يشير إلى حضور الإنسان المذكور في أذهان سامِعيه، فيتذكَّرون شكله الخارجيّ في غيابه عنهم بالجسد، كما يتذكَّرون كلّ تاريخ معرفتهم به مع ما تضمَّنه مِن سيِّئات وحسنات. ولذا حين نصلِّي صلاة الأبانا، قائِلِين "ليتقدَّس اسمك"، لا نقصد بذلك إضافةَ قداسةٍ على اسم الله القدُّوس من خلال تردادِنا لهذه الصّلاة، بل نقصِد بذلك استحضار كلّ تاريخ الله المقدَّس في حياتِنا. لقد ظنّ اليهود أنّهم استطاعوا إلغاء اسم يسوع من الوجود عندما علّقوه على الصّليب، غير أنّهم فَشِلوا في ذلك، إذ ذاع صيته بين المؤمِنِين بعد قيامته من الموت. فحاول اليهود مرّة جديدة إلغاء المسيح من خلال مَنعِ الرَّسولَين مِن ترداد هذا الاسم على شِفاهم، ولكنّهم أيضًا لم يفلَحوا في ذلك، إذ يقول لنا النَّص أنّ الرَّسولَين استمرّا في المجاهرة بهذا الاسم. إنّ الربَّ قد تجسَّد في أرضنا، وشابهنا في كلّ شيء، ليمَنحنا الحياة الأبديّة، غير أنّنا كما اليهود، نحاول للأسف إعادة المسيح إلى سمائه، طالبِين منه ألّا يتدخلّ في شؤوننا الأرضيّة الخاصّة. إنّ إنسانَنا اليوم، للأسف، يقوم بإصدار الفتاوى الّتي تتطابق مع مشيئته زاعمًا أنّها تتوافق مع شريعة الله المقدَّسة، فيحكُم على هذا بأنّه خاطئ، وعلى ذلك بأنّه بارّ. لدى إصداره هذه الفتاوى، يشعر الإنسان بأنّه أصبح مرجعيّة للآخرين، غير أنّه في الحقيقة قد أعاد الشَّعب إلى حياة العبوديّة الّتي حرّرهم منها الربّ يسوع بموته على الصّليب، جاعلاً من نفسه سيِّدًا على البشريّة. في إنجيل متّى، تمّ ذِكر ثماني عشرة أعجوبة قام بها يسوع، نِصْفُها مذكور في إصحاحَين فقط هما الإصحاح الثّامن، والإصحاح التّاسع، وهناك أربع أعاجيب قام بها مع اليهود، وأربع مع الوثنيّين وأعجوبة واحدة لليهود والوثنيّين معًا هي شفاء ابنة يائيرس وشفاء نازفة الدَّم. إنّ الخُرس والبُكم الّذين شفاهم يسوع يرمزون إلى الشَّعب الوثنيّ، لأنّهم لا يستطيعون البشارة بالمسيح لأنَّهم لم يسمَعوا بها مِن قَبل، وبشفاء الربّ لهم حرّرهم، فأصبح بإمكانهم الإعلان عن اختبارهم معه. أمّا العُميان الّذي شفاهم الربُّ يسوع فيرمزون إلى اليهود، الّذين عاينوا مجد الله من خلال أقوال يسوع وأفعاله، ولكنّهم لم يتمكّنوا من معرفته. لقد طلب اليهود من الرَّسولَين عدم التلّفظ باسم يسوع، كي لا يتمكّن الشَّعب من الإيمان بالربّ وإعلان توبته. لقد فضَّل رؤساء اليهود إعادة الشَّعب إلى حالة الوثنيّة بدلاً من قبولهم الخلاص. إنّ الحيّة الّتي كانت سببًا في وقوع آدم في الخطيئة، هي حيوانٌ أطرَش، وبالتّالي ترمز إلى كلّ إنسان يرفض سماع كلمة الله ويرفض التّوبة إلى الله.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
13/11/2018 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الثالث الشفاء بالربّ يسوع المسيح
https://youtu.be/NGBakRZ-2Xg

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الثالث
الأب ابراهيم سعد

13/11/2018

وَصَعِدَ بطرس ويوحنّا معًا إلى الهَيكل، في ساعةِ الصَّلاة التَّاسعة. وكان رَجُلٌ أعرَجٌ مِن بطنِ أُمِّهِ يُحمَل، كانوا يَضَعونَه كلَّ يومٍ عند بابِ الهَيكَل، الّذي يُقال له الجَميل، ليَسأل صَدقةً مِنَ الّذين يَدخُلونَ الهيكلَ. فَهَذا لمّا رأى بطرسَ ويوحنّا مُزمِعَين أن يَدخُلا الهيكلَ، سألَ ليَاخُذَ صَدَقَةً؛ فَتَفَرَّس فيه بطرس مع يوحنّا، وقال: أُنظُرْ إلَينا. فلاحَظَهما مُنتَظرًا أنْ يَأخُذَ مِنهما شَيئًا. فَقالَ بُطرسُ: لَيسَ لي فِضَّةً ولا ذَهبَ ولَكنَّ الّذي لي، فإيّاهُ أُعطِيك: بِاسمِ يسوعَ المسيحِ النَّاصِريّ، قُمْ وامْشِ، وأَمسَكَهُ بِيَدِهِ اليُمنى وأقامَه، فَفي الحالِ تَشدَّدت رِجلاهُ وكَعباهُ، فَوَثَبَ ووَقَفَ وصارَ يَمشي، وَدَخَلَ مَعهما إلى الهيكلِ وهو يَمشي ويَطفِرُ ويُسبِّحُ اللهَ. وأَبصَرَهُ جميعُ الشَّعبِ وهو يَمشي ويُسبِّحُ اللهَ، وعَرَفوه أنّه هو الّذي كان يَجلسُ لأجلِ الصَّدَقةِ على بابِ الهيكلِ الجَميلِ، فامْتَلأوا دَهشَةً وحَيْرَةً ممّا حَدَثَ له. وَبَينما كان الرَّجُلُ الأعرَجُ الّذي شُفِيَ مُتَمَسِّكًا ببطرس ويوحنّا، تَراكَضَ إليهم جميعُ الشَّعبِ إلى الرِّواق الّذي يُقالُ له رِواقُ سُليمان، وهُم مُندَهِشون. فَلَمّا رأى بُطرسُ ذَلِكَ، أجابَ الشَّعبُ: أَيُّها الرِّجالُ الإسرائيليُّونَ، ما بالُكم تَتَعجَبّون مِن هذا؟ وَلِماذا تَشخصُونَ إلينا، كأنّنا بِقُوَّتِنا أو تَقوانا قد جَعلنا هذا يَمشي. إنَّ إلهَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويَعقوبَ، إلهَ أبائنا، مجَّد فَتاهُ يسوعَ، الّذي أسلَمتُموه أَنتُم، وأَنْكَرتُموه أمامَ وَجهِ بِيلاطُسَ، وهو حاكِمٌ بإطْلاقِهِ. ولَكِن أَنتم أَنكَرتُم القدُّوسَ البَّارَ، وَطَلَبتُم أنْ يُوهَبَ لَكُم رَجُلٌ قاتِلٌ؛ ورَئيسَ الحياةِ قَتَلتُموه، الّذي أقامَه اللهُ من الأمواتِ، ونَحنُ شُهودٌ لِذَلِكَ. وبالإيمانِ باسِمِه، شدَّد اسمُهُ هذا الّذي تَنظُرونَهُ وتَعرِفُونَهُ، والإيمانُ الّذي بواسطَتِه أعطاهُ هذه الصِّحةَ أمامَ جَمِيعكم. والآنَ أَيُّها الإخْوَةُ، أنا أَعلَمُ أنَّكم بِجهالةٍ عَمِلتُم، كما رؤساؤكُم أيضًا؛ وأمّا اللهُ فَما سَبَقَ وأَنبَأ به بأفواهِ جميعِ أنبيائِه، أنْ يتألَّمَ المسيحُ، قَد تمَّمَه هَكَذا. فتُوبوا وارجِعوا لتُمحَى خَطاياكُم، لِكَي تأتي أوقاتُ الفَرَجِ مِن وَجهِ الربِّ، ويُرسِلَ يسوعَ المسيحِ المبشِّر به لَكُم قَبلُ، الذي يَنبَغي أنَّ السَّماءَ تَقبَلُهُ، إلى أزمِنةٍ رد كلَّ شيءٍ، الّتي تكلَّم عنها اللهُ بِفَمِ جَميعِ أنبيائِهِ القدِّيسِين منذ الدَّهرِ. فإنَّ موسى قال للآباءِ: إنَّ نَبيًّا مِثلي سيُقيمُ لَكُم الربُّ إلهُكُم مِن إخوتِكم. لَهُ تَسمَعونَ في كلِّ ما يُكلِّمُكم به، ويكونُ أنَّ كلَّ نَفسٍ لا تَسمَعُ لِذَلِك النبيُّ، تُبادُ مِن الشَّعب. وجَميعُ الأنبياءِ أيضًا مِن صَموئيلَ فَما بَعدَهُ، جميعُ الّذينَ تَكَلَّموا، سَبَقوا وأنبأوا بهذه الأيّامِ. أَنتُم أبناءُ الأنبياءِ، والعَهدُ الّذي عاهَدَ به اللهُ آباءَنا قائلاً لإبراهيمَ: وَبِنَسلِكَ تَتَبارَكُ جَميعُ قَبائلِ الأرضِ، إليكُم أوَّلاً، إذ أقامَ اللهُ فَتاهُ يسوعَ، أرسَلَهُ يبارِكُكُم برَدِّ كلُّ واحدٍ مِنكُم عن شُرُورِهِ.

يُخبرنا هذا الإصحاح من سِفر أعمال الرُّسل، عن حادثة شفاء رَجُلٍ أعرَجَ منذ ولادَتِه، على يد الرَّسولَين بطرس ويوحنّا. وتشكِّل هذه الحادثة تطبيقًا عملِيًّا لكلام الربِّ يسوع لتلاميذه، حين قال لهم إنّهم سيقومون بأعمال أعظم مِنَ الّتي قام بها هو نَفسه. إنَّ ما قام به الرُّسل، مِن شفاءاتٍ وأعمالٍ عظيمةٍ، يستطيع كلُّ مؤمِنٍ القيام بها، غير أنّ الإنسان يميل بطَبعِه إلى ما يثير انتباه الآخرين ويلفت نَظَرهم ويُبهِرهم. إنّ الإنسان للأسف، يتأمّل لوقتٍ قصيرٍ في أحداث الله الخلاصيّة، غير أنّه يتأمَّل لساعاتٍ في الأعاجيب الّتي يسمَع عنها في محيطه. إنَّ عيد الميلاد أو عيد الفِصح وسواها من الأعياد الدِّينيّة، قد لا تَلفِت نَظر المؤمِن إليها، إذ إنّها لا تُثير اندهاشه ولا تبهِره بِقَدر ما تُبهِره الأعياد المدنيّة كرأس السَّنة، على سبيل المِثال. إنّ عيد رأس السَّنة، هو "تِنِّينٌ" يريد التهام "الحَمَل" المولود في مِذود، وللأسف، يساهم المسيحيّون في مساعدة التِّنين على التِهام الحَمَل، بدليل أنَّ فَرحَتَهم بِعِيد رأس السَّنة تفوق بأضعافٍ فَرحتَهم بِعِيد ميلاد المخلِّص بينَهم. لقد تجرّأ المسيحيّون للأسف، على المزج بين هذين العيدَين بالقول: "عِيَدَي الميلاد ورأس السَّنة"، فيُخَيَّل للسَّامِعِين من خلال تردادهم لتلك العبارة أنّ هذَين العيدَين هما عِيدٌ واحدٌ، يبدأ في يوم عيد ميلاد المخلِّص وينتهي باحتفال رأس السَّنة.

إنّ المسيحيّين في عالمنا اليوم، يخافون من الفَرح، لذا يسعون إلى البحثِ عن الـمَرَح. إنّ الإنسان يخاف من الشُّعور بالفَرَح، لأنَّ الفرح يضَع الإنسان أمام مسؤوليّته، الّتي غالبًا ما يسعى للهروب منها، مُلقِيًا إيّاها على الآخَرين. إنّ لِـخَوف الإنسان عدَّة أسباب: أوّلاً، نظرة المجتمع، أي نَظرة الآخَرين له عند قيامه بما لا يتناسَب مع أهوائهم. إنّ الإنجيل يدعو المؤمِنِين إلى التحرُّر مِن هذا الخَوف حين يذكِّرهم بِقَول المسيح لأتباعِه: أنتم مِن هذا العَالم ولكنَّكم لستُم مِن هذا العالم. إنّ المؤمِن إذًا، مدعوّ إلى القيام بما يتوافَق مع تعاليم الإنجيل، لا بما يتافَق مع أهواء النَّاس. على المؤمِن أن ينقل ذهنيّة الإنجيل للآخرين، لا أن ينغمس في ذهنيّة هذا العالم. إنّ الإنسان المنغمس في ذهنيّة هذا العالم، هو إنسانٌ يهتمّ بمظاهر العيد ومباهجه الدُّنيويّة لا بجَوهَرِه، إذ تتمحوّر كلّ أحاديثه في عيد الميلاد مثلاً، حول الزينة الخارجيّة للعيد، لا حول الطِّفل الإله المولود في مِذود. إنّ المؤمِن الّذي يواظِب على قراءة كلمة الله باستمرار، لا بدَّ أن يلاحظ تغييرًا في ذاته نتيجة تفاعله مع كلمة الله، وهذا ما سيظهر للآخرين المحيطين به، فيكون إشعاعًا في عالمٍ يفتقر إلى كلمة الله. على المؤمِن أن يترك بصمةً في هذا العالم تدلّ على إيمانه بالربّ يسوع، لا على انجرافه خَلف هذا العالم، فيترك العالم فيه بصماته. ولكن هذا لا يعني امتناع الإنسان عن التعبير عن فَرَحِه، فالإنسان هو كائنٌ يُعبِّر عن مشاعره جسديًّا، فمثلاً يُعبِّر الإنسان الحزين عن حُزنه، بالبكاء وبالانعزال عن الآخرين في حين أنَّ الإنسان الفَرِح، يعبّر عن سعادته بالابتسامة للآخرين، وبالقُبلَة الأخويّة لهم، وبضمِّهم إلى صدره. علينا ألّا ننسى الجَوهر في تعبيرنا الخارجيّ عن فَرَحِنا بالأعياد. إنَّ المجوس قد غيَّروا مسارَهم فعادوا إلى دِيارِهم، عند زيارتهم الطِّفل المولود، فهل يُعقَل ألّا يتمكّن حَدَث ميلاد الربّ يسوع من تغيير أيّ شيءٍ في داخِلنا؟! إنّ الربّ قد تركَ سماءه وتجسَّد بيننا، لأنّه أراد أن يكون قريبًا من الإنسان لا أن يبقى مجرَّد أفكارٍ ونظريّات. ولكنَّ البشر للأسف، شابهوا اليهود، فرَفضوا ربّ المجد بينهم، إذ أعادوه إلى السَّماء ليتمكّنوا من عيشِ حياتهم على هواهم متحرِّرين من الله وتعاليمه، محاوِلين إرضاءه ببعض الممارسات الدِّينيّة من حينٍ إلى آخر. وهذا ما يجعل السَّامعين غير مقتنعين بضرورة التَّوبة وأهميّتها، على عكس ما حَدَث مع اليهود في أُورشليم الّذين سَمِعوا كلام بطرس، واعتمد منهم ما يُقارب ثلاث آلافِ رَجُلٍ.

في عظته، دعا بطرس اليهود الحاضرين إلى التوبة، والاعتماد باسم يسوع المسيح. إنَّ مفهوم الإنسان لسرّ التوبة هو مفهومٌ خاطئٌ إذ لا ينظر الإنسان إلى الخطيئة إلّا نظرة سلبيّة، فكلمة "خطيئة"، تدفعه إلى التفكير أوّلاً، في الأمور السلبيّة، كالموت والعِقاب مثلاً. إنّ الإنسان الّذي ينظر إلى خطيئته بسلبيّة لن يتمكّن من تَخَطِّيها. إنّ كلمة "خطيئة"، عبريّة الأصل، وتعني "حَطَا"، أي أَخطَأ في إصابة الهَدَف الّذي يصبو إليه. إنّ كلّ أمرٍ ننظُر إليه نظرةً سلبيّة يبقى على حاله، أمّا الّذي ننظر إليه بإيجابيّة فَيَتحسَّن. على الإنسان أن ينظر بإيجابيّة إلى خطيئته على الرُّغم من مرارتها. في الكتاب المقدَّس، تُستَعمل صيغة النَّهي في ذِكر الوصايا: لا تقتل، لا تسرق؛ وإذا سُؤِل أحَدُ المؤمِنِين عن خطاياه، يكون الجواب بالصِّيغة الإيجابيّة، إذ يُخبرنا هذا الإنسان عن قِيامِه بهذا الأمر المخالِف لهذه الوصيّة أو تِلك، فيقول على سبيل المِثال إنّه سَرَق أو قَتَل. إنّ البعض قد يتساءل: كيف يمكننا أن ننظر إلى الخطيئة بإيجابيّة؟ فهل يتضمَّن ارتكابي للخطيئة إيجابيّات؟ نعم، إنّ لارتِكابنا الخطايا إيجابيّات، إذ يجعلنا نُدرِك أنَّ "لا إله إلّا الله"، أي أنّ لا أحد كاملٌ سوى الله، وأنَّ جميع البشر مُعرَّضون لارتكاب الخطايا لأنّهم جَبلةٌ ضعيفة معرَّضة للسُّقوط في الخطيئة في كلِّ آنٍ؛ وبالتّالي يُدرِك الإنسان أنّه بحاجة إلى مخلِّص هو يسوع المسيح، لمساعدته على التخلُص من خطاياه. إذًا، إنَّ نَظرتك السَّلبية إلى الخطيئة تقودك إلى التَّفكير في جهنَّم والموت الأبديّ، أمّا نَظرَتُكَ الإيجابيّة إلى الخطيئة فتقودك إلى المسيح يسوع المخلِّص. إنَّ نظرَتك الإيجابيّة إلى خطيئتك تدفَعُك إلى الاكتشاف بأنَّك بعيدٌ عن المخلِّص وبالتّالي تُعلِن عن رَغبتك بالعودة إلى الله، وهذا هو المعنى الحقيقيّ للتَّوبة. إنّ "التَّوبة"، هي كلمة عبريّة الأصل،"شابا"، وتعني عادَ، وبالتّالي التَّوبة هي العودة أو الرُّجوع إلى الله، لا اليأس والشُّعور بالإحباط جرّاء ارتِكابِنا الخطايا. إنّ خَوفَ الإنسان من الخطيئة يدفعه إلى رؤية الأمور بسلبيّة، فنراه خائفًا مِن الخطيئة بسبب خَوفِه من الموت، لأنّه ينسى سريعًا أنّ الربَّ يسوع قد غَلَبَ الموت بقيامته، وبالتّالي لم يَعُد للموت على المؤمِنِين من سُلطانٍ. إنّ الخطيئة تجعل الإنسان في حالةٍ غير لائقة لملاقاة الربّ، إذ تجعل ثيابه النَّاصعة الّتي نالها بالعِماد متَّسِخة. على المؤمِن ألّا يُضيِّع وَقته في هذه الحياة في البكاء على خطاياه، بل عليه الإسراع في تغيير مسيرته الأرضيّة لتُصبح متوافقة مع تعاليم الربّ. إنّ الإنسان يخاف من الخطيئة لأنّها تسبِّب له بالموت الأبديّ، فهل تَعلم أيّها المؤمِن أنّه بسبب خَوفِك من الموت، تَقَع في الخطيئة؟ إنّ خَوف الإنسان من الموت هو السَّبب الأساسيّ لارتكابه الخطيئة. إنَّ الإنسان يستطيع أن يتجنَّب الموت الّذي تسبِّبه له الخطيئة حين ينظر إليها بإيجابيّة، فيرى فيها وسيلةً تقوده إلى يسوع المسيح، مخلِّصه. إنّ الإنسان يرتَكبُ الخطيئة بسبب خَوفِه من الموت، فيكذِب مثلاً، مخافةَ أن يتعرَّض للعُزلة إذا فُضِحَ أَمرُهُ، والعُزلة هي إحدى صُوَر الموت. وهذا ما يؤكِّده بولس الرَّسول إذ يقول لنا إنّه بسبب خوفِنا من الموت، نجد أنفسَنا جميعًا تحت نِير العبوديّة (عب 2: 14). إذًا، خَوف الإنسان من الموت يدفعه إلى الوقوع في وَهمِ حماية نفسِه مِنَ الموت بارتِكابه الخطيئة. على الإنسان ألّا يخاف من الموت بعد الموت، إن كان لا يخاف الموت في هذه الحياة، ولكنَّه عليه الخوف من الموت حين يخاف من الموت في هذه الحياة، لأنّ خَوفَه هذا سيجعله في حالةِ اضطرابٍ داخليّ، وهذا سيؤدِّي إلى خَطئِه في العُنوان، أي إلى ارتِكابه الخطايا، وبالتّالي تُصبح التوبة أي العودة إلى الله أمرًا ضروريًّا. ولكن هذا لا يعني أنَّ على الإنسان أن يحبّ الموت، فالموت يبقى عدُّوًا للإنسان وسببًا في آلامه.

هذا ما يدعونا إليه هذا النَّص الإنجيليّ الّذي نناقِشه اليوم. إنَّ هذا الرَّجل الأعرج الجالس على باب الهَيكل، كان ينظر إلى وَضعِه نظرةً سلبيّة، إذ لم تَكن لديه حسب اعتقاده وسيلةٌ للخلاص، أي الاستمرار في هذه الحياة، سِوى باستعطائه المال من النّاس، إذ إنّه إنسانٌ عليلٌ لا يَقوى على العَمل. لقد طَلَب هذا الرَّجُل العليل مالاً من الرَّسولَين بطرس ويوحنّا، حين رآهما يدخُلان الهيكل، ولكنّ بطرس الرَّسول أجابه إنّه لا يملك مالاً وهو لا يستطيع أن يُعطيه إلّا يسوع المسيح. إنَّ الربَّ ينتظر منّا أن نُعطيه للآخرين. لا يستطيع الإنسانُ أن يُعطي الآخرين إلّا ما يَملِكُه، وهنا السؤال يُطرَح علينا: ماذا نُعطي الآخرين المحتاجين لِعطائنا؟ إنّ العطاء لا يكون بالضرورة عطاءً ماديًّا، فالإنسان يستطيع أن يُعطي الآخرين ابتسامةً، أو خدمة، أو سلامًا، أو فَرَحًا، أو كلمةً مُحيِيَة. وإن كان الإنسان يدَّعي عدم امتلاكه لأيّ شيءٍ صالحٍ لإعطائه للآخرين، فهذا دليلٌ على نَظرته السَّلبيّة للأمور، وهنا السؤال يُطرَح: أين هو إيمانك أيّها الإنسان؟ إنّ إيمان الإنسان يَظهر للآخرين من خلال أعماله، لذا نستطيع القول: "أرِني إيمانَك في أعمالك". إنَّ الإنسان الّذي ينظر إلى الأمور بإيجابيّة هو إنسانٌ جريءٌ، لأنّه يتحمّل مسؤوليّة أعماله، أمّا الإنسان الّذي ينظر بسلبيّة إلى الأمور، فهو إنسانٌ جبانٌ يسعى إلى رَمي المسؤوليّة في أخطائه على الآخرين. إنّ آدم هو مِثالٌ للإنسان الّذي رَفَضَ تَحمُّل مسؤوليّة ارتِكابه للخطيئة، إذ ألقى المسؤوليّة على حوّاء امرأته، وعلى الله الّذي أعطاه حوّاء؛ والمرأة ألقتها على الحيّة. لا يجوز لنا نحن المؤمِنِين إلقاء مسؤوليّة أخطائنا على الشِرير، مُتَنكِّرين لمسؤوليّتنا، فالشِّرير يُحاوِل إغواءنا، ولكنّه لا يستطيع اتِّخاذ القرارات عنّا. هذه هي الطبيعة البشريّة، إذ يحاول الكثيرون التهرُّب من مسؤوليّة أخطائهم، وتاريخ البشريّة يقدِّم لنا أدلَّةً على ذلك لا تُحصى ولا تُعَدّ. عندما نظر بطرس الرَّسول إلى وَضعهِ بسلبيّة، حين أُلقِيَ القبضُ على يسوع، أنكر معرفته بالربّ أمام الجواري في دار المحاكمة. وكذلك يهوذا، حين نظر إلى وَضعه بسلبيّة، حين باع يسوع بِثَلاثين من الفِضَّة، قرّر قَتل نفسه، فكان الموت نصيبَه. بعد قيامة الربّ يسوع، تمكّن بطرس من النَّظر إلى وَضعه بإيجابيّة، فتحمّل مسؤوليّة خطَئِه، فعاد إلى الربِّ تائبًا، فغفر له طالبًا منه الاهتمام بإخوته المؤمِنِين، أي الاهتمام بالكنيسة، وتبشير المسكونة كلِّها بكلمة الله. فانطلق بطرس الرَّسول في البشارة بكلمة الله، على الرُّغم من الصّعوبات الّتي واجهته، ناقلاً البشارة إلى أقاصي المسكونة، أي إلى روما، ومات فيها مصلوبًا عَقِبًا على رأس، سنة 67 ميلاديّة. كذلك بعد ارتداده إلى المسيحيّة، بشَّر بولس الرَّسول المسكونة كلِّها بكلمة الإنجيل، إلى أن وَصَل إلى روما، الّتي نال فيها إكليل الشَّهادة بموته مقطوع الرأس، سنة 67 ميلاديّة. إنّ هذَين الرَّسولَين، كما سائر الرُّسل، انطلقا للبشارة بقيامة الربّ، حين نَظرا بإيجابيّة إلى المسيح، أي إلى كلمة الله. إنّ رحمة الله لنا هي أكبر من خطايانا، لذا علينا ألّا نَقتَرب من سرّ التّوبة كَمَن يقوم بتسديد فواتيره، منتظِرين من الكاهن إعطاءنا لائحة بما يتوجّب علينا القيام به من أجل التعويض عن خطايانا. إنّ تفكيرنا هذا، هو تفكيرٌ يهوديّ: فاليَهود يقدِّمون الذبائح الحيوانيّة لله، من أجل استرضائه، طالِبِين منه مغفرة ذنوبهم؛ أمّا نحن، فقد استبْدَلْنا تلك الذبائح الحيوانيّة بمجموعة صلواتٍ نُتَمْتِمُها، في سبيل الحصول على رِضى الله. إنَّ تَمتَمة الصّلوات لا فائدة منها للمؤمِنِين إن كانوا لا يتأمّلون في كلماتها، ويحاولون تحقيق معانيها في حياتهم اليوميّة.

إنّ كلمة "أبّا"، هي كلمةٌ عبريّة، يستخِدمها الابن الأصغر في العائلة لمناداة أبيه في الجسد فقط. لقد استخدم الربُّ يسوع هذه العبارة لمناداة أبيه السماويّ، "أبّا"، إذ إنَّ الله هو حقًّا أباه. ولكنَّ الربَّ يسوع طلب منّا استخدام صرخته إلى الآب، ومناداة الله "أبّا"، لأنّه أراد إعطاءنا هويّة جديدة، هي صيرورتنا أبناءً لله. غير أنّنا للأسف، على الرُّغم من حصولِنا على هويّة البنوّة لله، لا نزال ننظر نظرةً سلبيّة لله، إذ لا نجد فيه إلّا إلهًا ديَّانًا يريد معاقَبَتنا على أخطائِنا. إنّ كلمة "أبّا"، يُطلِقها الابن تعبيرًا منه لأبيه عن مَدى شَوقه إليه. إنّ الربّ ينتظر سماع هذه الصَرخة من أبنائه، لأنّه يرغب في مشاركتهم إيَّاه المائدة السماويّة. لذلك، نحن نصرخ إلى الله الآب بصوتٍ واحدٍ، قائلِين له: "أبانا"، قَبْل اقترابنا مِن مائدته المقدَّسة، إذ إنّ هذه المائدة أُعِدَّت لله ولأبنائه فقط. إنّ الإنسان يدخل إلى الكنيسة عبدًا للخطيئة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، ويخرج من الكنيسة ابنًا لله، إذ إنَّه شارك الله الآب وليمته السماويّة كابنٍ له. إنّ الله لا يهتمّ لخطاياك الكثيرة، بل هو يهتمّ لشَخصِك، وينتظر بشوق عودَتَك إليه ليُقبِّلك على عُنُقِك كما قبَّل الأب ابنه في مَثل الابن الضَّال، عند عودة هذا الأخير إلى بيت أبيه. إنّ الله قد أحبّ البشر حبًّا عظيمًا، لذا جعلهم أبناءً له، ولكنَّ الإنسان يرفضُ تلك البنوّة لله، مُفضِّلاً أن يكون عبدًا أو أجيرًا لله. وهذا ما نراه جلِيًّا في أثناء الذبيحة الإلهيّة إذ يرفض بعض المؤمِنِين التقرّب من سرّ المناولة المقدَّسة، بحجةّ عدم استحقاقهم لذلك. إنّ سرّ التوبة لا يقوم على تعداد مخالفتنا للوصايا الّتي حَفظناها منذ صِغَرِنا، لِطلب الغفران من الربّ، لأنَّ الربّ قد غَفَر لنا قَبْلَ اقترابِنا من كرسيّ الاعتراف، بل إن سرّ التَّوبة هو تعبيرٌ من الإنسان عن شعوره بعظمة محبّة الله له على الرُّغم من خطاياه، لذا يتقدَّم المؤمِن من كرسيّ الاعتراف. إنّ نظرَتَنا السّلبيّة إلى الله تساهم في بقائنا في عبوديَّتنا للخطيئة، أمّا نظرَتنا الإيجابيّة له فتساهم في تحرُّرِنا وخلاصِنا منها.

لم يَهِب الرَّسولان بطرس ويوحنّا المال لهذا الرَّجل المريض، بل وهباه الربَّ يسوع المسيح فنال الرَّجلُ الشِّفاء التّام، وقد عبّر هذا الأخير عن فَرحَته هذه بِدُخوله إلى الهيكل، أي بمتابعة مسيرته الأرضيّة سائرًا في هَدي كلمة الله، على مِثال الرُّسُل.كان هذا الرَّجل المريض ينظر إلى وَضعه سلبيًّا، فَلَم يجد له حلّاً للاستمرار في العيش سوى استعطاء المال مِنَ الآخرين، ولكن حين نظر إلى حالته بإيجابيّة أي انطلاقًا مِن يسوع المسيح، حَصَل على الشِّفاء، فتغيَّرت مسيرته. هكذا علينا نحن أيضًا أن نقرأ الكتاب المقدَّس بإيجابيّة، لنتمكَّن من النَّظر إلى خطيئتنا بإيجابيّة، فنتوب إلى الله طالِبِين منه تحريرنا من كلّ ما يستعبِدُنا. إنّ الخطيئة قد يرتكبها كثيرون، ولكن نظرَتنا إلى الخطيئة هي الّتي تقودنا إلى الموت الأبديّ أو إلى الله. في المعموديّة، يمنح الله الإنسان المعمَّد عينَين لا تريان إلّا الإيجابيّة من حَوله، بدلاً من عَينَيه السلبِيَتَين. ولكنَّ الإنسان للأسف، يحنّ إلى عينَيه السَّلبِيَتَين فلا يرى في الآخَرين إلّا سيئاتهم، فيحكم عليهم ولا يقبل توبتهم، على الرُّغم من قبول الربّ توبَتهم الصّادقة. إنّ الرَّحمة هي صِفة إلهيّة لا صِفة بشريّة. ولكنَّ الإنسان يستطيع أن يحصل على هذه الصِفة الإلهيّة دون أن تتحوَّل الرَّحمة إلى صِفة بشريّة، عندما يختبر الإنسان رحمة الله فيتذوَّقها ويفرح بها، فيسعى إلى ممارستها مع الآخرين.

في زمن العيد هذا، تدعونا الكنيسة إلى عيش جوهر العيد من خلال نَظرَتنا الإيجابيّة إلى الآخرين المحتاجين لعطائنا، فنساهم في تلبيَة حاجاتهم،كلٌّ على قدرِ استطاعَتِه. إنَّ مساعدتنا للآخرين تساهم في ولادة المخلِّص في عالَمِنا الّذي يئِنُّ من الظّلم والفقر والجوع. في ميلاد الربّ، عبّرت البشريّة كلُّها عن فَرَحِها بولادة المخلِّص، فقدَّمت له الهدايا: فأعطت السَّماء نجمًا، والأرض منزلاً، والبشريّة مريم العذراء، والملائكة أنشودةً، والمجوس هدايا أرضيّة. إذًا، الجميع قد قدَّم هدايا للمولود الإله، والسؤال الّذي يُطرَح: ما هي هديّتك للمولود في هذا العيد المبارك، أستبقى متفرِّجًا لامباليًا أمام هذا الحدث العظيم؟ فلتكن إخوتي، هديّتنا للمولود في هذا العيد نظرَتنا الإيجابيّة إلى الأمور، فتنتقل هذه النَّظرة الإيجابيّة إلى المحيطين بنا. إنَّ كلّ إنسانٍ يُعطي على قَدرِ طاقته، لذا لا يحقّ لنا مراقبة عطاءات النّاس للمحتاجين، وإدانتهم على عطائهم. فلنتخَلَّ إخوتي، في هذا العيد عن رُوح الإدانة للآخرين، ولنسعَ إلى تشجيع الآخرين على تحسين نواقصهم، عامِلين في الوقت نفسه على تحسين نواقصِنا، فنكون مستعدِّين لمجيء المخلِّص وولادته في قلوبنا في هذا العيد.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
6/11/2018 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الثاني، آية 21- 47 تلبية نداء الربِّ
https://youtu.be/ZFt0tW4UimY

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الثاني، آية 21-47-
الأب ابراهيم سعد

6/11/2018

"وَيَكونُ كُلُّ مَن يَدعُو بِاسمِ الربِّ يَخلُصُ. أَيُّها الرِّجالُ الإسرائيليُّونَ اِسْمَعُوا هذه الأقوالَ: يَسوعُ النَّاصِريُّ رَجُلٌ قد تَبَرهَنَ لَكُم مِن قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجائِبَ وآياتٍ صَنَعها اللهُ بِيَدِهِ في وَسَطِكم، كَما أَنتُم أيضًا تَعلَمونَ. هذا أَخَذتُموه مُسَلَّمًا بِمَشورَةِ اللهِ الـمَحتُومَةِ وَعِلْمِهِ السّابِقِ، وبِأَيدِي أَثَمَةٍ صَلَبتُموهُ وقَتَلتُموهُ. الّذي أَقامَهُ اللهُ ناقِضًا أَوجَاعَ الـمَوتِ، إذ لَم يَكُن مُمكِنًا أَنْ يُمسَكَ مِنهُ. لأنَّ داوُدَ يَقولُ فِيهِ: كُنتُ أَرى الربَّ أَمامي في كلِّ حِينٍ، أَنَّه عَن يَمينِي، لِكَي لا أَتزَعزَع. لِذَلِكَ سُرَّ قَلبي وتَهَلَّلَ لِساني. حتّى جَسَدي أيضًا سيَسكُنُ على رجاءٍ. لِأَنّكَ لن تتَرُكَ نَفسِي في الهاويَةِ وَلا تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرى فَسادًا. عَرَّفْتَني سُبُلَ الحَياةِ وسَتَملَأُني سُرورًا مَعَ وَجهِكَ. أَيُّها الرِّجالُ الإِخوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقالَ لَكُم جِهارًا عَنْ رَئيسِ الآباءِ داوُدَ إنَّهُ ماتَ وَدُفِنَ، وقَبرُهُ عِندَنا حتَّى هذا اليَومِ. فَإِذْ كانَ نَبِيًّا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمرَةِ صُلْبِهِ يُقيمُ الـمَسيحَ حَسَبَ الجَسَدِ ليَجْلِسَ على كُرسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأى وتكلَّمَ عَن قِيامَةِ المسيحِ، أَنَّهُ لَم تُتْرَكْ نَفسُهُ في الهاويَةِ ولا رأَى جَسَدَهُ فَسادًا. فَيَسُوعُ هذا أَقامَهُ الله، ونَحْنُ جَميعًا شُهودٌ لِذَلِكَ. وإذِ ارتَفَعَ بِيَمينِ اللهِ، وأَخَذَ مَوعِدَ الرُّوحِ القُدُسِ مِنَ الآبِ، سَكَبَ هذا الّذي أَنتُم الآنَ تُبصِرُونَهُ وتَسمَعُونَهُ. لِأَنَّ داوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إلى السَّماواتِ. وَهُوَ نَفسُهُ يَقولُ: قَالَ الرَبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَن يَمينِي حَتَّى أَضَعَ أَعداءَكَ مَوطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَليَعلَمْ يَقينًا جَميعُ بَيْتِ إِسْرائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذا، الّذي صَلَبتُموهُ أنتُم، رَبًّا ومَسيحًا". فَلَمّا سَمِعُوا نُخِسُوا في قُلُوبِهم، وَقالُوا لِبُطرُسَ وَلِسائِرِ الرُّسُلِ: "ماذا نَصْنَعُ أَيُّها الرِّجالُ الإِخوَةُ؟" فَقَالَ لَهُم بُطرُسُ: "تُوبوا وَليَعتَمِدْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُم على اسْمِ يَسُوعَ المسيحِ لِغُفرانِ الخَطايا، فَتَقبَلوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ. لِأنَّ الـمَوعِدَ هُوَ لَكُم ولأَولادِكُم وَلِكُلِّ الّذينَ على بُعدٍ، كُلِّ مَن يَدعُوهُ الربُّ إلَهُنا". وبِأَقوالِ أُخَرَ كَثيرَةٍ كَانَ يَشهَدُ لَهُم ويَعِظُهُم قائِلاً: "اخْلُصُوا مِن هذا الجِيلِ الـمُلتَوي". فقَبِلُوا كَلامَهُ بِفَرَحٍ، واعْتَمَدُوا، وانْضَمَّ في ذَلِكَ اليَومِ نَحوَ ثلاثَةِ آلافِ نَفْسٍ. وَكانُوا يُواظِبُونَ على تَعلِيمِ الرُّسُلِ، والشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ الخُبزِ، والصَّلَواتِ. وَصَارَ خَوفٌ في كُلِّ نَفسٍ. وَكانَتْ عَجائِبُ وآياتٌ كَثيرَةٌ تُجرَى على أَيدِي الرُّسُلِ. وَجَميعُ الّذينَ آمَنوا كانُوا مَعًا، وكانَ عِندَهُم كُلُّ شيءٍ مُشتَرِكًا. والأَملاكُ والـمُقتَنَياتُ كانوا يَبيعُونَها ويَقسِمونَها بَينَ الجَميعِ،كَما يَكُونُ لِكُلِّ واحِدٍ احتِياجٌ. وكانوا كُلَّ يَومٍ يُواظِبونَ في الهَيكَلِ بِنَفسٍ واحِدَةٍ. وَإذْ هُمْ يَكسِرُونَ الخُبزَ في البُيوتِ،كانوا يَتَناوَلُونَ الطَّعامَ بِابتهاجٍ وبَسَاطَةِ قَلبٍ، مُسَبِّحِينَ اللهَ، وَلَهُم نِعمَةٌ لَدَى جَميعِ الشَّعبِ. وَكانَ الربُّ كُلَّ يَومٍ يَضُمُّ إلى الكَنيسَةِ الّذين يَخلُصُونَ".

بعد حلول الرّوح القدس على التّلاميذ في العليّة، ألقى بطرسُ عظةً على اليهود المجتمِعِين في أورشليم، حول يسوع المسيح الّذي صَلبَه اليهود والّذي انتصر على الموت بالقيامة. بعد حلول الرّوح القدس، انطلق الرّسلُ من العليّة نحو الآخرين، للتبشير بكلمة الله الّتي أصبحَتْ لُغةً تَجمَعُ بين الشُّعوب المتعدِّدة اللّغات.

في العظة الّتي ألقاها على اليهود الحاضرين، لخَّصَ بطرسُ كلَّ عملِ الله الخلاصيّ عبر التّاريخ، وبالتّالي شكَّلَت عظتُه قراءةً ليتورجيّة لِعَمَلِ الله في حياة شعبه. إنَّ كلمة "ليتورجيّا"، هي كلمةٌ يونانيّة الأصل، تَعني عَملَ الشَّعب، أي أنَّ كلَّ الشَّعبَ يجتمع، كوِحدةٍ واحدة، ليُعلِن عن الطريقة الّتي يريد اعتمادها في مواجهة الصّعوبات المستقبليّة، استنادًا إلى ماضيه وحاضره. في زمن الامبراطوريّة الرومانيّة، كان الامبراطور يجتمع مع مجلس الشيوخ، الّذي يمثِّل الشَّعب كلّه، لاتِّخاذ القرارات المصيريّة. وعند التئام الحضور، كان يتمّ سَرد تاريخ الامبراطوريّة على الحاضرين، ليتمكّن هؤلاء من اتِّخاذ القرارات المستقبليّة الخاصّة بالامبراطوريّة، المنسجمةِ مع تاريخها العظيم. هذا ما نقوم به في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، إذ نجتمع، نحن المؤمِنِين في الكنيسة، كوِحدةٍ واحدة، فيُعلِن الكاهن على مسامِعنا من خلال الصّلوات تاريخَ الله معنا، نحن شعبه، فنُعلنُ انتماءَنا إلى هذا الشَّعب، عندها نُصبح كنيسةً واحدة. في الذبيحة الإلهيّة، لا تَذكُر الكنيسةُ تاريخَ الشَّعب مع الله، لأنّه مليءٌ بالخطايا والقبائح، بل تَذكُر تاريخَ اللهِ مع شعبه، إذ بِفَضلِه نالَ الشَعبُ الخلاصَ. إنّنا نَدخلُ إلى الكنيسة كأفرادٍ لبُّوا نداءَ الله للاجتماع في الذبيحة الإلهيّة، ونخرج منها أبناءً لله بَعد قُبُولِنا مشاركة الله في وليمَتِه، مِن خلال تَناوُلِنا جسد الربِّ ودَمِه.

إنَّ الله لم يَختَر شعبًا محدًّدا ليكون شعبَه الخاصّ، لذا لا الشَّعب اليهوديّ يملك الحقّ في اعتبار ذاته شعب الله المختار ولا الشَّعب المسيحيّ أيضًا. إنَّ المؤمِن، بشهادته الصَّالحة للمسيح، يَدفع اللهَ إلى الاعتراف به ابنًا له، أي أنّه أصبح مِن شعب الله. يدخل المؤمِنون وَثنيِّين إلى الكنيسة، للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، ويخرجون منها أبناءً لله، إذ يُعلِنون قبولهم بكلمة الله هاتِفين: "آمين"، كما يُعلِنون قبولَهم بأبوّة الله لهم، من خلال مشاركتهم الله الآب وليمتَه السماويّة. إنّ المؤمِن الحقيقيّ يدخل إلى الكنيسة مُطأطأ الرأس لِعِلمِه أنّ خطاياه كثيرةٌ. ولكنَّ الربّ عندما يراه عائدًا إليه، يَهرعُ إليه، فيَرفَع رأس ابنه التائب، ويقبِّله كما فَعل الأب في مَثَل الابن الضّال، ويُلبسُه الحلَّة الجديدة، واضعًا الحذاء في رجلَيه، وذابحًا له العِجل المسَمَّن أي يسوع المسيح. في الكتاب المقدَّس، اللِّباس هو علامةٌ على عودة الإنسان إلى حالة النِّعمة، نعمة البنوّة لله. إنّ الله هو الّذي يمنَح نعمة البنوّة للإنسان، فالإنسان لا ينال تلك النِّعمة نتيجة أعماله الصّالحة إنّما نتيجة قرار الله بِمنْحِ البنوّة من جديد لكلِّ إنسانٍ يعود إليه تائبًا. إنَّ جميع البشر متساوون أمام الله، فاللهُ لا ينظر إليهم انطلاقًا مِن قداستهم أو خطاياهم، بل انطلاقًا من أنَّهم جميعًا أبناؤه، أكانوا يهودًا أم لا؛ غير أنَّ الإنسان يرفض مساواته بالآخرين، لذا هو يبحث عن سببٍ للتَّفاخر على الآخرين. إنَّ المؤمِن الحقيقيّ يسعى إلى عيش حياته في هذه الأرض، انطلاقًا من نظرة المساواة بينه وبين جميع البشر، وبذلك يتميَّز المسيحيّ مِن سواه من البشر. إنّ عظة بُطرس أمام اليهود الحاضرين في أورشليم، هي احتفالٌ ليتورجيّ بامتياز، إذ أعلن بطرس أمام الحاضرين، عَمَل الله الخلاصيّ الّذي تمَّ في يسوع المسيح، ووَضع السَّامعين له أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا القبول بخلاص الربِّ لهم، وإمّا رَفضِهم لهذا الخلاص. إنَّ بطرس طَلَبَ مِن السّامعين له، التوبة والاعتماد كعلامةٍ على قبولهم خلاص الربِّ لهم. إنّ طَلَبَ بطرس هذا، مِن شعبٍ يهوديّ يترقّب مجيء المخلِّص، هو دليلٌ على أنّ مسيرتهم الحياتيّة لم تكن منسجمة مع كلمة الربِّ. إنّ عدم توبة السّامِعِين واعتمادهم هو دليلٌ على رغبة هؤلاء في البقاء في حالة الوثنيّة على الرُّغم من سماعهم كلمة الله، أي دليلٌ على عدم قبولهم بخلاص الربِّ لهم. على مرّ العصور، اعتقد اليهود أنّهم أفضل من الآخرين لأنّهم يملكون كلمة الله، لكنَّ بطرس أعلن لهم مساواتهم ببقيّة الشَّعوب. إنَّ اليهود قتلوا كلَّ مَن تجرّأ على إعلان تلك الحقيقة لهم، وما موت يسوع المسيح والرُّسل إلّا دليل على ذلك.

في عظتِه أمام اليهود، وَصف بطرس الرَّسول يسوع المسيح بأنّه "رَجُلٌ" لا "الرَّجُل"، أي أنّ المسيح يسوع لم يكن متمايزًا عن سائر البشر بل كان مُشابهًا لهم. ثمّ أضاف بطرس قائلاً إنّ الربَّ يسوع قد قُتِل "بِيَد أثَمَةٍ"، قاصدًا بذلك الرومانيّن الّذين لا شريعةَ لهم. إنّ اليهود هم المسؤولون عن موت المسيح لا الرومانيّن، بالنسبة إلى بطرس، إذ قال لهم: "بأيدي أَثَمَةٍ صلبتموه وقتلتموه". لم يقصد بطرس بهذا الكلام تَبرِئَة بيلاطس مِن دَم يسوع، إنّما أراد التأكيد لليهود، أنّ المخلِّص قد جاء إليهم ولكنَّهم رَفَضوه فقتلوه على يد بيلاطس، الحاكم الرومانيّ. لقد حاول اليهود التّظاهر أمام الله بأنّهم لم يعرفوا المسيح، وهنا نتذكَّر قول المسيح في الإنجيل: "كلُّ خطيئةٍ وتجديف يُغفر للنّاس، وأمّا التَّجديف على الرُّوح القدس فلن يُغفَر للنّاس"(متّى 12: 31). إنّ التَّجديف على الرُّوح القدس هو رَفضُ الإنسان لِعَمل يسوع المسيح الخلاصيّ. اعترف بطرس الرَّسول أمام الحاضرين بقيامة المسيح إذ قال: "إنّ الله أقامه ناقضًا أوجاع الموت". إنَّ بعض المؤمِنِين قد أساؤوا فَهْمَ هذا الكلام، فاعتبروا أنّ المسيح غير مساوٍ لله في الجوهر، أي أنّهم اعتقدوا أنّه أدنى مرتبةً من الله، وهذا الاعتقادُ خاطِئٌ تمامًا. إنَّ الله قد أظهر ذاته من خلال عَمَلِه في المسيح يسوع، فكان حاضرًا منذ ولادته إلى يوم قيامته من الموت، فكان ذلك دليلاً على أنَّ يسوع المسيح هو رَجُلٌ مِن عِندِ الله. لم يتمكّن الموت من الإمساك بيسوع المسيح، لأنّ الربَّ قد تمكَّن من الإفلات منه والقضاء عليه من خلال قيامته المجيدة. لذلك، بالنسبة للمؤمِنِين بالربّ يسوع، لم يَعُد للموت مِن وجود، لأنّهم تمكّنوا مِن غَلَبته والانتصار عليه بالقيامة، على مِثال الربِّ يسوع المسيح، الّذي غَلَب الموت بقيامته. إنَّ الموت هو تِنِينٌ يريد الانكباب على فريسته لابتلاعها، غير أنّ الربَّ يسوع قد بدَّد كلّ آماله، من خلال صليبه المقدَّس، الّذي حوّل الموت إلى جسرِ عبورٍ يجتازه المؤمِنون للوصول إلى القيامة. لقد أباد الربُّ يسوع الموت بقيامته، أي أنَّ الموت قد فَقَدَ كلّ سُلطانٍ له على البشر، لذا فَقَد تحوّل الموتُ إلى دليلٍ ثابتٍ على وجود القيامة، عند الّذين قَبلِوا عَمل الله الخلاصيّ. إنّ الموت هو فُقدان أحد الأعزّاء على قلوبنا، أي أنّه أمرٌ مؤلِّـمٌ، وبالتّالي سببٌ للحزن والبكاء. على الإنسان أن يُعبِّر عن حزنه بالبكاء، ولكن على بُكائه أن يكون ممزوجًا بالرَّجاء، رجاء القيامة. لم يَكن هَدَف المسيح مِن قيامته من الموت، الحصول على المجد الأرضيّ من النّاس، بل كان هدفه من القيامة إعطاءنا البُرهان الأكيد بقيامته على زوال الموت. إنّ عظة بطرس الرَّسول هي ذبيحةٌ إلهيّة بامتياز، إذ نقرأ في ختام هذا الإصحاح أنّ جميع الّذين تابوا واعتمدوا باسم الربّ، واظبوا مع الرُّسل على كسر الخبز في الهيكل، وعلى سماع تعليم الكتاب المقدَّس وتعليم الرُّسل، إضافةً إلى الصّلاة معًا وتَناوُلِهم الطّعام معًا. هذا ما تتضمَّنه ذبيحتُنا الإلهيّة الّتي نشارِك فيها مع إخوتنا في الإيمان: القراءات المقدَّسة، أي الإنجيل والمزامير والرَّسائل، والمشاركة في الوليمة السماويّة، وليمة الآب، أي المشاركة في جسد المسيح ودَمِه، كما نشترك مع الجماعة الحاضرة في الصَّلاة. إنَّ عبارة "الشَرِكة"، الّتي ورَدت في هذا النّص، تشير إلى مساندة المؤمِنِين بعضهم بعضًا في الأرضيّات، ويُعبَّر عنها اليوم بالصّواني الّتي تُجمَع في أثناء الذبيحة، من أجل مساعدة الأكثر حاجة في الرعيّة. إنَّ المؤمِن يُعبِّر عن إيمانه بالربّ من خلال محبّته لإخوته المحتاجين، فيتصدَّق عليهم بأمواله من خلال الصّواني، فيكون المؤمِن صادقًا في صلاته الأبانا في الذبيحة الإلهيّة.

على الإنجيل أن يكون المعيار الأساسيّ الّذي يرتكز عليه المؤمِنِون في حياتهم وتصرّفاتهم، إذ على المؤمِنِين السُّلوك حسب تعاليم الإنجيل، لا اختيار ما يُناسبهم منه لخدمة نزواتهم وأهوائهم الأرضيّة.كُثُرٌ هم المؤمِنون الّذين أرادوا تحقيق تغييراتٍ جذريّة في حياتهم نتيجة تفاعلهم مع كلمة الله، ولكنَّهم تراجعوا عن ذلك لأنّ تلك التغييرات لا تتناسب مع أهوائهم الأرضيّة. إنَّ بعض المؤمِنِين يقولون إنَّهم يُفضِّلون قراءة العهد الجديد على العهد القديم، لأنّ العهد القديم يُظهر صورة الله الدَّيان، أمّا العهد القديم فيُظهر صورة الله المحبّة. إنَّ هذا الاعتقادَ خاطئٌ تمامًا لأنّ كلام يسوع في بعض المواقف كان أقسى من كلام العهد القديم. وإليكم مِثالٌ على ذلك، في عظة يسوع على الجبل، قال لليهود الحاضرين: "سَمِعتم أنّه قيلَ للأوَّلين: "لا تقتل، فإنَّ مَن يقتل يستوجِبُ حُكمَ القضاء". أمّا أنا فأقولُ لكم: مَن غَضِبَ على أخيه استَوجَبَ حُكم القضاء، ومَن قال لأخيه :"يا أحمَق"، استوجَبَ حُكمَ المجلس، ومَن قال له: "يا جاهل"، استَوجَب نارَ جُهنَّم"(متّى 5: 21-22). إنَّ هذه الكلمات الّـتي نستعمِلها في كلامنا مع الآخرين، تشير إلى أنّنا أفقَدنا الآخر كلّ قيمته الإنسانيّة بمعنى آخر، قتَلناه في فِكرنا، فهو لم يَعُد له وجود في حياتنا. إنّ القتل الجسديّ أفضل بكثير من القَتل المعنويّ والنفسيّ بالنسبة للآخر. إنَّ القتل الجسديّ أسهل من القتل النفسيّ، لأنّ الموت الأوَّل، الموت الجسديّ، مرتبطٌ بحيازتك على أداةٍ قاتلة كالمسدَّس مثلاً، ولكنّ الموت الثاني، أي النفسيّ والمعنويّ، فهو مرتبطٌ بقدرتك على السيطرة على كلماتِك الّتي تخرُج من فمِكَ. إنَّ كلام يسوع هذا هو أقسى من كلام الله في العهد القديم، إذ يقول لنا إنّ مَن يستحقّ جهنّم ليس فقط مَن يخالف وصيّة القتل الّتي أوصانا بها الربّ في العهد القديم، بل أيضًا مَن أساء إلى أخيه الإنسان وقَتَله في فِكرِه. إذًا، العهد الجديد هو أكثر قساوةً من العهد القديم، ولكنَّ المؤمِنِين يعتقدون أنَّ العهد القديم هو أكثر قساوةً، لأنَّ الله كلَّم شعبه في العهد القديم، من خلال الشريعة، أي بالقانون، لقساوة قلب الشَّعب. إنَّ يسوع المسيح، قد جاء إلى أرضنا، وأعطانا شريعة المحبّة، ولكنَّ المؤمِنِين أساؤوا فَهمَ هذه الشريعة، فعاشوا حياةً بعيدة عن كلِّ شريعة. إنّ شريعة المحبّة تقوم على تلبية حاجات الآخرين لا على تلبية رغباتهم: فتَلبيَتُنا لرغبات الآخرين تُدخلِنا في حالةٍ من العبوديّة لأهوائهم، أمّا تلبيَتُنا لحاجاتهم فتُدفَعنا إلى عيش المحبّة تجاه الآخرين. إنَّ عيش المحبّة هو أمرٌ في غاية الصُّعوبة لأنّها تؤدِّي إلى تَعب الإنسان الّذي يُمارسها: فالإنسان الّذي يسعى إلى عيش المحبّة تجاه الآخرين، لا يتوقّف عن التفكير لإيجاد طُرقٍ تساعده على خِدمة الآخرين بشكلٍ أفضل. إذًا، إنّ عيش شريعة المحبّة أصعب من عيش الشريعة اليهوديّة القديمة المحدودة بعددٍ من الوصايا، لأنّ شريعة المحبّة لا حدود لها، وهي شاملة.

في عظته أمام اليهود الحاضرين في أُورشليم، أعلن بطرس للجموع الحاضرة، أنَّ يسوع النّاصريّ الّذي صلبوه، هو رَجُلٌ مِن عند الله، إذ قام بالأعاجيب والشفاءات، لذا على اليهود أن يتوبوا إلى الله ويعتمدوا باسم يسوع، كما طلَبَ منهم بطرس الرَّسول. إنّ اليهود الحاضرين في أورشليم قد تفاعلوا مع كلمة الله الّتي سَمِعوها على لِسان بطرس، بدليل أنّ هذا النصّ يُخبرنا عن توبة ثلاثة آلافِ نسمةٍ منهم. إنَّ كلمة الله الّتي تصدُر عن فمِ شاهدٍ حقيقيّ للمسيح، لا بدَّ لها أن تُحقِّق ما أُرسِلَت لأجله، أي تغييرًا جذريًّا في نفوس سامِعيها. إنّ العدد "ثلاثة" في الكتاب المقدَّسة يرمز إلى الكمال، وبالتّالي فالرَّقم "ثلاثة آلافٍ"، يرمز إلى الكنيسة الأولى. يؤكِّد لنا هذا النصّ الإنجيليّ أنّ هؤلاء التائبِين قد انتموا إلى الكنيسة إذ يُخبرنا أنّهم كانوا يعيشون على مِثال الكنيسة الأولى، أي أنّهم كانوا يبيعون ممتلكاتهم ويتقاسمونها فيما بينهم،كي لا يبقى محتاجٌ فيما بينهم. هذه هي المحبّة الّتي يريدها يسوع: أن نضع كلّ طاقاتنا وإمكانيّاتنا ومواهِبنا، في خدمة الآخرين في سبيل سدِّ حاجاتهم. إنَّ الربَّ يسوع لم يرغب يومًا في عَيْشِ الألم والعَوز والفَقر بدليل أنّه كان يشفي المرضى، كما أطعم الجياع. إنَّ الربَّ حاول تَجَنُّب عيش الآلام، لذا صلّى لأبيه السماويّ أن يُبعِدَ عنه تلك الكأس، ولكن حين اختار له البشر هذه الميتة، واجهها وقَبِلَها. عندما يواجه الإنسان الآلام، يصرخ إلى الله كي يُخلِّصه منها: فإذا نال الشِّفاء، شعر بالفرح؛ ولكن إن لم يحصل الإنسان على نعمة الشِّفاء، فَلِكَي تظهر قوّة الله في ضُعف الإنسان. أن تظهر قوّة الله في ضُعفك، لا يعني أبدًا أنّ الله سَيَشْفِيكَ مِن مَرَضِك مثلاً، بل تعني أنَّ الله سيُظهر قوَّته للآخرين من خلال مَرَضِك، عندما تتحمَّل آلامَك بصبرٍ ورجاءٍ، فتتحوَّل تلك الآلام إلى مَصدَرِ تبشير لهم بكلمة الله.
نتيجة تبشيرهم بكلمة الله، تعرَّض الرُّسل إلى الاضطهادات، فحاوَل هؤلاء الهرب من الموت قَدرَ الإمكان، فذهبوا إلى مناطِق أخرى للتبشير بكلمة الله، ولكن حين كانوا يُعتَقلون، كانوا يواجهون الموت من دُونَ خوفٍ من الأباطرة، ومن دون تراجُعٍ عن إيمانهم بالربّ، إذ رَفضوا السُّجود إلّا لله. إنَّ بقاء الرُّسل في الحياة هو نِعمةٌ لنا، إذ إنّهم لم يتوقَّفوا عن تبشيرنا بكلمة الله الّتي هي مَصدَر خلاصٍ لنا، إذ قَبِلناها، ولكنَّ الرُّسل كانوا مستعدِّين في كلِّ لحظةٍ لمغادرة هذا العالم وللقاء الربِّ في الملكوت. لا تلميذَ أفضلُ مِن معلِّمه، لذا علينا، نحن رُسُل هذا الزَّمان، التمثُّل بالمسيح أوّلاً، وبالرُّسل ثانيًا، في مواجهتهم صعوبة الموت، فلا نخافه، بل نواجهه لأنّنا نجده جسرًا يساعدنا للوصول إلى الملكوت. إنّ الموت لا يقتصر على البُعد الجسديّ، إذ إنّنا نواجه الموت في مواقفَ متعدِّدةٍ في حياتنا: فمثلاً حين يُطلَب منّا السُّكوت عن الحقّ في وظائفنا والانصياع للباطل، مقابل رشاوى ماديّة، وإلّا نُصبح عاطِلين عن العَمل، نواجه وجهًا من أوجه الموت. إنَّ ثباتَنا في الحقّ، يضعنا في مواجهة مع الصّليب، الّذي يتوجّب علينا حَملَه، على مِثال مُعلِّمنا يسوع المسيح في سبيل الوصول إلى الملكوت.

في عظته، يدعونا بطرس الرَّسول إلى تلبية نداء الربِّ لنا، فنكون جسد المسيح السريّ. إنّ عبارة "الّذين يخلُصون"، الّتي استخدمها لوقا الإنجيليّ كاتب هذا السِّفر، تشير إلى الأشخاص الّذين قَبِلوا كلمة الله في حياتهم، إذ وَجدوا فيها بابًا يقودهم إلى الملكوت السماويّ. إنّ كلمة الله هي بطاقة الدّخول الّتي علينا المحافظة عليها للوصول إلى الملكوت. وبالتّالي فإنَّ استغناءَك عن هذه البطاقة، سيجعلك غيرَ قادرٍ على المشاركة في وليمة الله الآب في السّماء، الّتي أعدَها لأحبّائه. إذًا، ليس الله مسؤولاً عن بقائك خارج الملكوت، بل قرارك الحرُّ بالاستغناء عن الله هو الّذي يمنَعُك من مشاركة الله وليمَتَه السماويّة. وبالتّالي، مَن يَرغب في الدُّخول إلى الملكوت، عليه المحافظة على كلمة الله في حياته. إنَّ الله لا يطلب منك تعداد أعمالك الصّالحة، بل يطلب منك المحافظة على حالة النِّعمة الّتي نِلتَها بالعِماد. إنّ بطاقة الدُّخول إلى الملكوت قد أعطانا إيّاها الله الرُّوح القدس في يومِ عمادِنا، وعلينا المحافظة عليها إلى اليوم الّذي ننتقل من هذا العالم إلى الملكوت السماويّ.
إنَّ عبارة "وكان الربُّ كلَّ يومٍ يضمُّ إلى الكنيسة الّذين يخلُصُون"، كُتبَت منذ أكثر مِن ألفي سنة، ولكنّها لا تزال فاعلة إلى يومِنا هذا، فهي تتحقّق في كلّ يومٍ حين نُدرِك أنّ بعض الّذين يسكنون في مناطق تعاني من اضطهادٍ لكلمة الله، يتقرّبون من سرّ العِماد، على الرُّغم من التحدِّيات الّتي يعيشونها في مجتمعاتهم، وما المؤمِنون الّذين يعيشون في الجزائر، أو في الشرق الأقصى لآسيا على سبيل المِثال، إلّا دليلٌ على استمراريّة فعاليّة كلمة الله في قلوب البشر. إخوتي، هناك قدِّيسون في الكنيسة غير معروفين، وغير مرفوعين على مذابح الكنيسة، ولكنّهم معروفون مِن قِبَل الله. إنّ الكنيسة لن تتزعزع، ما دام هناك مؤمنٌ واحدٌ يشهد لكلمة الله الحيّة من خلال تصرّفاته مع الآخرين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
30/10/2018 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الثاني، آية 1-21 رؤية المسيح في كلّ محتاجٍ
https://youtu.be/fH8TnUyEhVw

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الثّاني، آية 1-21
الأب ابراهيم سعد

30/10/2018

"وَلَمَّا حَضَرَ يَومُ الـخَمسِينَ كانَ الـجَميعُ معًا بِنَفْسٍ واحِدَةٍ، وصارَ بَغْتَةً مِنَ السَّماءِ صَوتٌ كما مِن هُبوبِ رِيحٍ عاصِفةٍ، ومَلَأَ كُلَّ البَيتِ حَيثُ كانوا جالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهم أَلسِنَةٌ مُنقَسِمَةٌ كأنَّها مِن نارٍ واسْتَقَرَّت على كُلِّ واحدٍ مِنهُم. وامْتَلَأَ الجَميعُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وابْتَدَأوا يتكلَّمونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخرى كما أَعْطاهُم الرُّوحُ أَنْ يَنطِقُوا. وكان يَهودٌ رِجالٌ أَتْقِياءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحتَ السَّماءِ ساكِنِينَ في أورشَليمَ. فَلَمَّا صارَ هذا الصَّوتُ، اجْتَمَعَ الـجُمهورُ وتَحَيَّروا، لِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ كانَ يَسمَعُهم يَتَكَلَّمونَ بِلُغَتِهِ. فبُهِتَ الجَميعُ وتَعَجَبُّوا قائِلِينَ بَعضُهم لِبَعضٍ: "أَتُرى ليسَ جَميعُ هؤلاءِ الـمُتَكَلِّمينَ جَلِيليِّين؟ فَكَيفَ نَسمَعُ نَحنُ كُلُّ واحدٍ مِنَّا لُغَتَهُ الّتي وُلِدَ فيها؟ فَرْتِيُّونَ وَمَادِيُّونَ وَعِيلامِيُّونَ، والسَّاكِنُونَ ما بَينَ النَّهرَينِ، واليَهُودِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وبُنْتُسَ وأَسِيَّا، وفَرِيجِيَّةَ وبَمْفِيليَّةَ وَمِصرَ، وَنَواحي لِيبِيَّةَ الّتي نَحوَ القَيرَوانِ، والرُّومانِيُّونَ الـمُستَوطِنُونَ يَهودٌ ودُخلاءُ،كِرِيتِيُّونَ وَعَربٌ، نَسمَعُهم يَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنا بِعظائِمِ الله!" فَتَحَيَّرَ الجَميعُ وارْتَابوا قائِلِينَ بعضُهم لِبَعضٍ: "ما عسى أنْ يَكونَ هَذا؟" وَكانَ آخَرُونَ يَسْتَهزِئونَ قائِلِينَ: "إنَّهُم قَدْ امْتَلَأُوا سُلافَةً". فَوَقَفَ بُطرُسُ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوتَهُ وقالَ لَهُم: "أيُّها الرِّجالُ اليَهُودُ والسَّاكِنونَ في أُورَشَليمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هذا مَعلُومًا عِنْدَكُم وأَصْغُوا إلى كَلامي، لأنَّ هَؤلاءِ لَيْسُوا سُكارَى كما أنتُم تَظِنُّونَ، لأنَّها السّاعة الثَّالِثةُ مِنَ النَّهارِ. بَل هذا ما قِيلَ بِيُوئيلَ النبيِّ. يقولُ اللهُ: وَيَكُونُ في الأيّامِ الأَخيرَةِ أَنّي أَسْكُبُ مِن رُوحي على كُلِّ بشرٍ، فَيَتَنَبَّأ بَنُوكُم وبَناتُكم، ويَرى شَبابُكُم رُؤىً ويَحلُمُ شُيُوخُكُم أَحلامًا. وَعَلى عَبيدِي أيضًا وإمائِي أَسْكُبُ مِنْ رُوحي في تِلكَ الأيَّامِ فَيَتَنَبَّأُونَ. وأُعْطِي عَجَائِبَ في السَّماءِ مِنْ فَوقُ وآياتٍ على الأرضِ مِن أَسْفَلُ: دَمًا ونارًا وبُخارَ دُخانٍ. تَتَحَوَّلُ الشَّمسُ إلى ظُلمَةٍ والقَمَرُ إلى دَمٍ، قَبْلَ أن يَجِيءَ يَومُ الربِّ العَظيمُ الشَّهيرُ." (أعمال2: 1-20)

في هذا الإصحاح، يُكلِّمنا الإنجيليّ لوقا عن حَدَثِ العنصرة الّذي تمّ في اليوم الخمسِين. كان اليهود مِن كلّ أُمَّةٍ يجتمعون في أورشليم للاحتفال بـ "اليوم الخمسين" بعد الفِصح اليهوديّ. في هذا اليوم الاحتفاليّ، حقّق الربّ ما وَعد به رُسُلَه إذ أرسَل لهم الرّوح القُدس ليُعزِّيهم ويشجِّعهم على نَقلِ البشارة، فتعمَّدوا معموديّة الرّوح القدس، أي معموديّة النّار، لا معموديّة الماء على مِثال معموديّة يوحنّا المعمدان.
إنّ هذا الحَدَث، حَدَث العنصرة، يُذكِّرنا بقصّة برج بابل في العهد القديم، تلك المدينة الّتي أراد أَهلُها تحدِّيَ الله بإقامة بُرجٍ لهم في وَسَطِ مدينَتِهم.كان أبناءُ هذه المدينة يتكلَّمون لُغةً واحدة، ولكنَّ الربّ بَلبَلَ أَلسِنَتَهم فعجِزوا عن التفاهم حول بنائهم لهذا البُرج، فتوقَّفوا عن العمل به. في العهد القديم، كان الشَّعبُ يضَع تمثالاً لإلهه في وَسَط المدينة، وبالتّالي تَحَوَّلَ هذا البُرجُ إلى إلهٍ جديدٍ لسُكَّان مدينة بابل، فعبَّروا من خلاله عن استغنائهم عن الله وعبادتهم لآلهةٍ أخرى، وهذا السبَّب الّذي أدّى إلى تَبَلبُلِ أَلسِنَتِهم. أمّا في العنصرة، فقد كان الرُّسل مُجتَمِعِين في العِليَّة يواظبون على الصّلاة بنَفْسٍ واحدة، وعند حلول الرُّوح القدُس عليهم، انطلقوا لإعلان البشارة لليهود الحاضرين في أورشليم، فسَمِع الحاضرون كلمةَ الله، كلٌّ بحسب لغته الّتي وُلِدَ فيها، على الرُّغم من أنّ الرُّسل كانوا يتكلَّمون لُغةً واحدةً. إذًا، هذان الحَدَثان متُعارِضَان: ففي برج بابل تخلّى الشَّعب عن الله من أجل عباداتٍ أخرى، أمّا الرُّسل فقد قرّروا التمسُّك بالله، على الرّغم من وجود آلهةٍ أخرى، لأنّهم أدرَكوا أنّ لا خلاصَ لهم خارج الله. كما أنّ في بابل، كان الجميع يتكلَّمون لغةً واحدة فَتَبلبلت ألسِنَتُهم؛ ولكنْ في أورشليم، وَحَّدت كلمة الله لغة جميع الحاضرين، فتمكّن الجميع من إدراك كلمة الله على الرّغم من اختلاف اللّغات.

في الكتاب المقدَّس، تُستَعمل الصُّور الأدبيّة كالرّعد والبَرق والغمام والرِّياح والنّار وسواها، للتعبير عن حضور الله أو عن غيابه. وفي هذا النَّصّ، يَرمزُ هُبوبُ الرِّيح في أرجاء العِلِّيَة، إلى حضور الربّ. وهذا الحضور الإلهيّ في العليّة يُشبه حضور الربّ في الهيكل حين ظهر للنبيّ إشعيا، مُرسِلاً إيّاه في رسالة النبوءة للشَّعب. لقد أدرَك النبيّ إشعيا حضور الربِّ من خلال رؤيته لأذيال الله منتشرةً في الهيكل، ومن خلال سماعه نشيد التَّقدِيسات على لسان جمهور الملائكة الّذي رافق حضور الربّ. أمام دعوة الربّ للانطلاق في النُّبوءة للشَّعب، رفَضَ النبيُّ هذه الـمَهمَّة الإلهيّة متحجِّجًا بخطاياه الكثيرة قائلاً للربّ إنّه "نَجِسُ الشَّفتين". إنَّ خطايا البشر لا تستطيع أن تكون حاجزًا أمام وصول كلمة الله للآخرين، ولكنّ الإنسان يستطيع أن يُعطِّل مشروع الله حين يرفِض هذا الأخير القبول بكلمة الله. لقد طهرّ الربّ شَفتَّي النبيّ إشعيا من خلال جمرةٍ أرسلَها الله له بواسطة ملاكٍ حَملَها من المذبح بواسِطة مِلقَطٍ. وهذا ما تُعيد اختباره الكنيسة الأرثوذكسيّة، إذ تُعطي المؤمِنين الجمرة الإلهيّة، أي القربان المقدَّس، مستخدمةً مِلقَطًا، أو مِلعقةً، لتطهير شِفاه المؤمِنِين مِن خطاياهم وتقديسهم. إنَّ الربّ لا يستند على قداسة الإنسان لاختياره رسولاً له، فالربّ يختار من بين شعبه رُسُلاً، خطأة وأبرارًا، لأنّه يستطيع أن يَمحو زلّات البشر ويُطهِّرَهم منها، فيكونوا أهلاً لإعلان كلمته المقدَّسة للمسكونة جميعًا. بعد تطهير الربّ لشفتيّ إشعيا، انطلق هذا الأخير في النبوءة أمام شعب الله، داعيًا إيّاهم للتّوبة.كذلك، بعد حلول الرّوح القدس على الرُّسل في العليّة، انطلق بطرس ومعه الرُّسل الأحَدَ عشر في إعلان كلمة الله لليهود الحاضرين في أورشليم في عيد "يوم الخمسين".

لقد حلّ الرّوح القدس على المجتَمِعِين في العليّة بشكلٍ أَلسِنَةٍ من نار. إنَّ النَّار تَحرُقُ كلّ ما تَجِدُه أمامها، وهي تُنير الطريق أمام السّالكين في الظلمة. بعد حلول الرّوح القدُس على الرّسل، انطلق هؤلاء للبشارة بالمسيح القائم، ولذلك كانت الحاجة إلى هذه الألسِنةِ النّاريّة، ليتمكّنوا من إعلان كلمة الله بكلّ جرأةٍ وقوّةٍ، فيُحرِقوا كلّ تعليمٍ مُعاكِسٍ لكلمة الله، ويُضيئوا بها طريقَ السّالكِين في ظُلمة هذا العالم، فتَستنير أذهانهم وينالوا الخلاص بالمسيح يسوع. عند إعلان الرّسول لكلمة الله أمام الآخرين، فإنّه لا بُدَّ لتِلكَ الكلمة الإلهيّة أن تَخلِقَ شقاقًا في صفوف السّامِعين لها، لأنّها لن تتوافق مع أهواءِ ورغبات مُحبّي الباطل فيرفضونها، ولكنّها ستَلقى تجاوُبًا عند مُحبّي الحقّ، فيقبلونها. لذلك لم يتردّد بولس في إحدى رسائله عن وَصف كلمة الله بـ"سَيْفِ الرُّوح"، لأنّها قادرة كالسَّيف أن تفصل بين الحقّ والباطِل، كما أنّها تتمتّع بقوّةٍ عظيمةٍ في تغيير قلوب المؤمِنِين.

في روايته لِحَدَث العنصرة في هذا الإصحاح، استخدم الإنجيليّ لوقا فِعْلَ "استَقرّ"، ليتكلَّم عن حلول الرُّوح القدس على الرّسل، وهو الفِعل نفسه الّذي استُعِمل في رواية حَدَث معموديّة يسوع على نهر الأردّن، إذ قيل: "استقَرّت" حمامةٌ فوق رأس يسوع. لقد استخدم الإنجيليّ صِيغة الـمُضارع لأنّها تدلّ على استمراريّة الحَدَث حتّى بعد انتهائه، على عكس صيغة الماضي الّتي تشير إلى انتهاء الحدَث عند إنجازه. إنّ حلول الرّوح القُدس على الرُّسل في العِليّة لم ينتهِ مع انتهاء اليوم الخَمسين، بل رافق الرّسل طيلة حياتهم، وها هو يرافق كلّ المؤمِنِين عبر العصور، ليتمكّن هؤلاء من تأدية الشَّهادة الحقّة للربّ يسوع من خلال حياتهم اليوميّة.
بعد حلول الرّوح القدس على الرُّسل، انطلق هؤلاء للبشارة بالمسيح في كافة المسكونة، مُبتَدِئين أوّلاً بالتّبشير بكلمة الله في أورشليم، ثمّ في السّامرة واليهوديّة، إلى أن وَصلوا إلى "أقصى الأرض"، أي إلى روما، حيث ماتَ قِسْمٌ مِن الرُّسل. لم يكن هَدَف الإنجيليّ من ذِكر حادثة التكلُّم بالألسِنة إظهار الطابع العجائبيّ لها، إنّما كان هدَفُه إخبارَنا أنّ رسالة الإنجيل قد وَصَلت إلى كافة أقطار العالم. وهذا هو بالتَحديد ما تُعبِّر عنه الكنيسة الأرثوذكسيّة في عيد الفِصح، إذ تخرج إلى باحة الكنيسة، ويتمّ قراءة الإنجيل على مسامِع المؤمِنِين بكافّة اللّغات البشريّة المتعارَف عليها إلى يومِنا هذا. في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كور 12 و 14)، يشدِّد بولس على ضرورة انطلاق الرُّسل للبشارة بكلمة الله، ولكنّه يلفِت انتباهَهم إلى ضرورة استعمالِ لُغةٍ مفهومةٍ من السّامِعين لهم، لكي يتمكّن هؤلاء من التفاعل مع كلمة الله والإيمان بالربّ يسوع، صارخين "آمين"، تعبيرًا عن قبولهم بالربّ إلهًا ومخلِّصًا. إنّ ظاهرَة التَّكلُّم بالأَلسِنة الّتي تطرّق لها الإنجيليّ لوقا، هي آيةٌ لا أعجوبة، إذ تهدِف إلى توجيه تفكير المؤمِنِين إلى ما هو أعمق من الحَدَث الخارجيّ. غير أنّ المؤمِنِين يبحثون دائمًا عمّا يُبهِر أنظارهم مُتَناسِين أنَّ الأعجوبة الأعظم الّـتي قام بها الربّ في حياتهم هي خَلْقُه لهم على صورتِه ومثاله؛ كما أنّ أعاجيبه في حياتهم لا تتوقّف، إذ يصنع في داخلهم تغييراتٍ جذريّة وعميقة نتيجة تفاعُلِهم مع كلمة الله. وما وجودنا اليوم في هذه القاعة إلّا دليلٌ على رغبتنا في التقدُّم الروحيّ على الرّغم مِن أنّ مُعلِن كلمة الله لنا هو إنسانٌ خاطِئٌ على مِثالِنا.
إنّ مسؤوليّة المؤمِنين في البشارة عظيمةٌ جدًّا، إذ يتوجّب على كلّ واحدٍ منهم أن يُعلِن كلمةَ الله في حياته لا بالقول وحسب، بل بالفعل أيضًا، لتكونَ حياتُه مُنسجِمَةً مع تعاليم الربّ. وهنا نتذكّر قول الربّ لرُسُلِه:"أُعطيكَ مفاتيحَ السّماء فما ربطتَه في الأرض، رُبِطَ في السّماء، وما حلَلتَهُ في الأرض، حُلَّ في السَماء" (متى 16: 19). لم يُعطِ الربُّ رُسُلَه بهذا القول امتيازًا يتفاخَرون به على بقيّة المؤمِنين، بل أعطاهم مسؤوليّة هي كالسَّيفِ الـمُسلَط على أعناقهم، إذ تفرِض عليهم هذه المسؤوليّة الشَّهادة للربّ أمام الآخرين: فإنْ كانت شهادتهم صالحة، آمن الكثيرون بالربّ ونالوا الخلاص، وتابوا إلى الله؛ أمّا إذا كانت شهادة الرُّسل خاطئة، فإنّ الكثيرين سيرفضون الإيمان بالربّ والعودة إليه، وبالتّالي سيستمّرون في العيش في حالة الخطيئة. إنّ وَعيَ بولس الرَّسول لعظمة هذه المسؤوليّة، الـمُلقاة على عاتِقه وعاتِقِ الرُّسل، دفَعَتْه للقول في إحدى رسائلِه: "الويل لي إن لم أُبشِر"(1كور 9: 16). إنَّ سُلطان المغفرة الّذي أعطاه الربّ لرُسُلِه ليس مُلكًا خاصًّا بهم، لأنّ الربّ هو مَن يمنَح المؤمِنين الغفران لا الرُّسل، وبالتّالي ما الرُّسل إلّا وسيلةً تَنقُل محبّة الله للبشر من خلال هذا السِّر. في يوم رسامَته، لا ينال الكاهن سُلطان مغفرة الخطايا كأنّه سُلطانٌ خاصٌّ به، بل ينال سلطان الرَّسوليّة، من خلال سُلطةٍ كنسيّة هي الأُسقُف. وتُعلِنُ الكنيسةُ الكاهِنَ الجديد رسولاً للمسيح، على مِثال الرُّسل، أي أنّه يتوجّب عليه الشَّهادة للمسيح أمام الآخرين وخِدمة إخوته المؤمِنين ومساعدتهم على التقرُّب أكثر من الله. إذًا، إنَّ سُلطانَ مغفرة الخطايا الممنوح للكاهن بواسطة سرّ الكهنوت، هو سُلطانٌ أُعطِيَ له ليُعبّر من خلاله لأخيه التّائب عن فرحَة الكنيسة بعودة هذا الأخير إلى الله الآب، وبالتّالي يُشكِّل هذا السُّلطان مصدَر تعزيّة ودَعمٍ للتائب ليتشجّع على متابعة مسيرته مع الربّ صوب الملكوت.

إنّ الله يغفِر للمؤمِن خطاياه، حين يَعقِد هذا الأخير العزَم في أعماقه على التوبة عن طريقه الضّال. وبالتّالي حين يتقرَّب المؤمِنُ مِن سرّ التوبة، فإنّه لا يتقرّب منه سائلاً الله أن يغفر له خطاياه، أي منتظِرًا ردّ الربِّ على طَلَبِه هذا، إنّما يتقرَّب المؤمِن من هذا السِّر ليُعلِن اكتشافه لعظمة الربِّ الّتي غَفَرت له خطاياه قَبل أن يسألَ المؤمِنُ ذلك من الله. وهنا نطرح السؤال: إنْ كان الله يغفِر لنا في اللّحظة الّتي نُعلِن فيها تَوبَتَنا الدّاخليّة، ما فائدة إذًا، التقدُّم من سرّ التوبة والاعتراف بخطايانا؟ إنّ المؤمِن يتقرَّب من سرّ التوبة ليُعلِن اكتشافه لمحبّة الله له الّتي غَفَرَت له كلّ خطاياه، حين كانت الخطيئة لا تزال متجذِّرة فيه. إنّ تَقَدُّم المؤمِن مِن سرّ التوبة، يهِدف إلى إعلان هذا الأخير انتهاء مرحلةِ عبادته وعبوديّته لآلهةٍ أخرى، لأنّه قرّر العودة إلى الله الحقّ، الوحيد القادِر على مَنحِه الخلاص. إذًا، في سرّ التوبة، يعترف المؤمِن بربوبيّة يسوع عليه من جديد، لذا هو يذرف الدُّموع في سرّ التوبة إعلانًا عن ندامته عن المرحلة السّابقة الّتي عاشها بعيدًا عن الله، وهذه الدّموع تشكِّل معموديّته الجديدة. وما يعيشُه المؤمِن اليوم في سرّ التوبة هو في الحقيقة اختبار كلُّ إنسانٍ أراد اتّباع المسيح وتَرَك وثنيّته، إذ كان يُطلَب من طالب العِماد إنكار معتقداته القديمة، وإعلان إيمانه بأنّ الربّ هو مخلِّصه الوحيد من كلّ عبوديّة. إنَّ المعموديّة لا تُعطى للمؤمِن إلّا مرّةً واحدة، حين يَقبل هذا الأخير المسيح إلهًا له، ولكن حين يُخطئ المؤمِنُ الطريق، ثمّ يقرِّر العودة إلى حالة النِّعمة الّـتي عاشها في المعموديّة، فإنّ الربّ يَمنحه هذه الفُرصَة من خلال سرّ التوبة الّتي تشكِّل للمؤمِن معموديّته الجديدة، إذ يذرِف هذا الأخير الدُّموع مُعلِنًا توبته، فتسمّى معموديّته "معموديّة الدُّموع". إنَّ سِّر التوبة لا يُمنَح مرّةً واحدةً للمؤمِن كما هي حال سرّ المعموديّة، بل يستطيع المؤمِن ممارسة هذا السِّر كلّما شعر بالحاجة إلى ذلك، فيكون على مِثال الأبرص الّذي عاد، من بين البُرص العشرة الّذين شفاهم يسوع، ليشكر الربّ على شِفائه له. إنّ الله يُحِبّ البشر بِشَكلٍ جنونيّ إذ لا يتردّد في مغفرة الخطايا لأبنائه البشر، على الرُّغم من عِلمه أنّهم لن يتأخَّروا في الابتعاد عنه مِن جديد، عند أوّل فرصَةٍ. إنّ الله مستعِّدٌ أن يغفر الخطايا لأبنائه البشر في كلِّ مرَّةٍ يتقدَّم هؤلاء منه في سرّ التوبة ذارِفين الدُّموع. إنّ الربّ يمنح التائبين رَحمته الإلهيّة، في سرّ التوبة، لأنّه يعلم أنّ المؤمِنِين يريدون التقدُّم نحوه، ولكنّهم يفشلون في الكثير من المرّات بسبب التشويهات البشريّة الّتي يُعانون منها. إنَّ رحمة الربِّ لنا هي أعظَم من خطايانا، مهما عَظُمَت هذه الأخيرة، لذا لا يجوز لنا التغاضي عن خطايانا والانغماس فيها بارتكاب المزيد منها، دون إعلان توبتِنا مُتَحجِّجين أنّ الربّ رحيمٌ، كما أنّه لا يجوز لنا الرُّزوح تحت أثقال خطيئتنا، وكأنّنا لا نعلم بعظمة مراحم الله لنا. إنّ خطايانا قد تُغرِقنا في حالةٍ من اليأس، ولكن علينا التمسُّك بالرَّجاء النّابع من ثِقتنا برحمة الله لنا، لنتمكّن من التخلُّص من خطايانا والانتصار عليها. إنَّ الربّ لا ينتظر وصول المؤمِنيِن به إلى مرحلة القداسة ليُرسِلهم للبشارة به، فَهُوَ يعتمد على الخطأة أكثر من اعتماده على الأبرار والصِّديقين. حين يَقبَل المؤمِنون مشروع الله في حياتهم، يُصبحون قدِّيسين، على الرُّغم من الخطايا الّتي اقترفوها في حياتهم، إذ ينالون بتحقيقهم مشيئة الله في حياتهم الملكوت السماويّ.

في العنصرة، شَهِد الرُّسل لعظائم الربِّ في حياتهم، فأعلنوا كلمة الله للحاضِرين الّذين انقسموا إلى قِسمَين: منهم مَن سَخِر مِنَ الرُّسل فقال فيهم إنّهم سكارى، ومِنهم مَن أصابهم الذهول والعجب فقالوا: "ما عسى أن يكون هذا؟" لقد أعلن بطرس الرّسول إيمان الكنيسة من خلال خِطبَته أمام الحاضرين، ورَدَّ على السّاخِرين قائلاً لهم إنّ لا أحد يسكر في السّاعة الثّالثة من النّهار أي عند التّاسعة صباحًا. في الكتاب المقدَّس، عندما نحذف عبارةً مِن نصٍّ إنجيليّ من دون أن نلاحظ أيَّ تغييرٍ في المعنى، فهذا يشير إلى أنّ هذه العبارة هي أهمّ كلمة في النَّص، لأنّه لو لم تكن في غاية الأهميّة لما دوَّنها الإنجيليّ. لقد أراد الإنجيليّ لوقا التركيز على عبارة "الأحَدَ عشر"، لأنّ بطرس لا يُعلِن في كلامه على الجموع رأيه الخاصّ بل إيمانه وإيمان "الأحَد عشر"، أي إيمان الكنيسة جمعاء. بحلول الرّوح القُدس على الرُّسل، تحقّق ما قيل بلسانِ النبيّ يوئيل، إذ انطلق الرُّسل في النبوءة للمسكونة بكلمة الله، لذا طلب بطرس من اليهود الحاضرين الإصغاء لكلمة الله، الّتي يُعلِنها لهم.

إنَّ اليوم الأخير هو يوم القيامة المجيدة، وقد تحقّق بقيامة المسيح من الموت، وبالتّالي نحن نعيش في الأيّام الأخيرة. إنّ الأيّام الأخيرة بدأت مع قيامة المسيح، وتنتهي بمجيئه الثّاني بالمجد. إنّ الرؤى والأحلام هي إحدى الصُّوَر الأدبيّة الّتي تعبِّر عن حضور الله. فالكتاب المقدَّس أخبرنا على سبيل المِثال، عن ظهور الله في الحلم لابراهيم حين زاره ثلاثة رجالٍ في الحلم، لينقلوا إليه البشارة بأنّ وَعد الله له سيتحقّق في السَّنة المقبلة؛ كما أخبرنا عن ظهور الله ليوسف البتول في الحلم كاشفًا له أمرَ مريم العذراء. وبالتّالي، حين يقول لنا النبيّ يوئيل إنّه في الأيّام الأخيرة سيتنّبأ الأبناء، ويرى الشيوخ أحلامًا ورؤىً، فهذا يعني، أنّه في الأيّام الأخيرة، ستُعلَن كلمة الله للجميع، وهذا ما تحقّق في الرُّسل إذ أعلنوا حقيقة ابن الله لجميع الحاضِرين في أورشليم، فَتَاب بعض الحاضرين وأعلنوا إيمانهم بالربّ وقَبِلوا العِماد.

في الكتاب المقدَّس، النبيُّ هو مَن يُعلِن إرادة الله عليه وعلى الآخرين في هذا الزّمان وهذا المكان، لا ذلك الّذي يدّعي عِلْمَه بالمستقبل، فيُضلِّل المؤمِنِين بأكاذيبه الّتي ينسجُها حول المستقبل. فالنبيّ هو مَن يُخبر الآخرين بالشَّر الذي سيُعانون منه نتيجة رَفضِهم لكلمة الله في حياتهم، داعيًا إيّاهم للتوبة عن طريقهم الضّالة وتصحيح مسار حياتهم الأرضيّة. فحين تمنع ابنك من الاقتراب من النّار، على سبيل المِثال، كي لا يتعرّضَ لأذى، فإنّك لا تكون قد تنَّبأت بالمستقبل له، إنّما تكون قد أنذرته من إقدامه على أمرٍ يؤذيه. إذًا، إنّ الأهل هم أنبياء لأبنائهم في هذه الحالة، لا حسب مفهوم العالم للنبوءة، إنّما أنبياء حسب مفهوم الكتاب المقدَّس. إنّ بعض الجماعات المؤمِنَة قد تختبر صحّة أقوال نَبيٍّ مُعيَّن عاش قبل وجودها، فتَتبنّى أقواله وتُعلِن إيمانها بالله الّذي بشَّر به هذا النبيّ. هذا ما تختبره الكنيسة في كلّ ذبيحةٍ إلهيّةٍ، إذ يتلو الكاهن على مسامِع المؤمِنِين، إنجيلاً يُخبرنا عن أحداثٍ جَرت في الماضي، مع جماعة الرُّسل، مُستخدِمًا عبارة: "في ذلك الزّمان". ولكنّ الكنيسة الحاضرة في الذبيحة الإلهيّة، تُعلِن أنَّ ما تُلِيَ على مسامِعها يُشكِّل انعكاسًا لاختبارها مع الربّ، فتَعترف به إلهًا ومُخَلِّصًا لها، ولذا تتلو الكنيسة، بعد الإنجيل، جماعيًّا، قانون الإيمان. حين رَفضَ آدم طاعة الله، وَقع في الخطيئة. إنّ الربّ لم يُعاقِب آدم بالموت، نتيجة مخالَفةِ هذا الأخير لأوامِر الربّ بِتَناوُلِه مِن ثمار شجرة الخير والشَّر؛ بل إنّ الربّ أراد من خلال كلامه مع آدم، تحذيره من الهلاك الّذي سيناله نتيجة أَكلِه مِن ثمار تلك الشَّجرة، ألا وهو الموت الأبديّ. إنّ كلمة "معرِفة" في الكتاب المقدَّس، تُشير إلى إقامة علاقة حميمة، وحَرِف العطف"و" في اللّغة العِبريّة، يعني "مع"، وبالتّالي حين يأكل الإنسان من شجرة معرفة الخير والشَّر، فإنّه يقيم علاقة بين الخير والشَّر، وهذا ما سيؤدِّي إلى هلاك هذا الأخير أي بموته. إذًا، كان الربُّ يحذِّر آدم من الموت، فالله كان يريد استمرار آدم في الحياة، غير أنّ هذا الأخير فضّل الموت على الحياة. إنّ الإنسان يبحث دائمًا عن آخر ليُلقي عليه مسؤوليّة أخطائه، فصار الله في نظر الإنسان، هو المسؤول عن موت آدم، حين اعتبر أنّ كلام الله لآدم هو عِقاب لا تحذير أو تنبيه له. لقد أعطى الإنسان نفسه الحقّ في لوم الله، كون الله هو الّذي خَلَق تلك الشَّجرة. إنّ الله قد خَلَق الإنسان حرًّا، لذا فإنّ الإنسان هو المسؤول عن أخطائه، لا الله، وبالتّالي لا يحقّ للإنسان لوم الله، على أيِّ خطأٍ يرتكبه الإنسان.

إنّ عيد العنصرة، الّذي تكلَّم عنه الإنجيليّ لوقا في هذا الإصحاح، هو عيدٌ مُهمٌّ في الحياة المسيحيّة، وهو يتمتّع بالأهميّة ذاتها الّتي لعيد القيامة أو عيد الميلاد من النّاحية الإيمانيّة. غير أنّ هذا العيد لا يحظى بالأهميّة نفسها شعبيًّا نِسبةً لبقيّة الأعياد المسيحيّة كونَه لا يترافق مع رمزٍ تجاريّ، يحثُّ النّاس على الشُّعور بهذا العيد. فعلى سبيل المِثال، في عيد الميلاد، ينهمك النّاس في شراء أشجار العيد وزِينَتِها من الكُرات الملوّنة وتحضير المغائر في منازلهم، وشراء الهدايا للأطفال بِنَوعٍ خاصّ، وتحضير عشاء العيد وكعكة العيد، والمشروبات الخاصّة بهذا العيد، كالنَبيذ. وكذلك الأمر في عيد الفِصح المجيد، إذ تنهمك العائلات بتحضير المأكولات كبيض العيد والمعمول، وعشاء العيد. للأسف، لقد أصبحت بهجة الأعياد المسيحيّة عند المؤمِن مرتبطةً بالمباهج الدُّنيويّة، فما إن تزول تلك المباهج الأرضيّة، كأيّام العُطَل الرَّسميّة والمأكولات الخاصّة بالعيد حتّى يختفي فرح العيد من قلوب المؤمِنين. أمّا عيد العنصرة، فلم يحظَ إلى يومِنا هذا، برمزٍ تجاريّ، يوقِظ في نفوس المؤمِنين الشُّعور بهذا العيد الكنسيّ الـمُهمّ، ولذا هو يبقَ عيدًا مهمَّشًا في حياة المؤمِنين. لقد فقدت الأعياد جَوهرها في حياة المؤمِنين، إذ لم تَعُد مُناسَبةً تُذكِّرهم بعمل الله الخلاصيّ في حياتهم، بل اقتصرت على كونِها مَصدَر رِزقٍ لبعض التِّجار.
لقد تحوّلت أعيادنا المسيحيّة إلى ممارساتٍ وثنيّة، أي أنّ المعموديّة الّتي نِلناها في يوم قبولنا بالمسيح مخلِّصًا وسيِّدًا على حياتنا، لم تدَخل مياهها إلى أذهانها، بل توقّفت عند الخارج. ولهذا السَّبب، تقوم الكنيسة، في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، بتلاوة نصٍّ إنجيليّ على مسامِعنا، علَّ كلمة الله تنجح في خرق حُصُوننا الداخليّة، فتدخل إلى قلوبنا وتُغيِّر لنا ذهنيّاتِنا فنتخلَّص من كلّ ما لا يُرضي الله، لأنّ كلمة الله تبقى عاجزة عن تحقيق أيّ تغيير في عقولِنا إن لم نسمح لها بالدّخول إلى أعماق كيانِنا. إنّ رشّ المياه على جباه المؤمِنين لا يجعلهم مُعمَّدين، بل إنّ انسجام حياتهم مع تعاليم المسيح الّتي أعلنوا قبولهم بها من خلال سرّ المعموديّة، هي الّتي تجعلهم مسيحيّين حقيقيّين. على المعمَّدين أن يُجاهِدوا للوصول إلى الملكوت السماويّ، ساعِين إلى التخلُّص من خطاياهم، لا إلى التذرّع بها للتوقّف عن متابعة مسيرتهم الإيمانيّة. لا كمالَ في هذه الأرض، فالكمال هو لله وحده، لذا لا نسمحنّ لخطايانا بإدخالنا في حالةٍ من اليأس، بل فلنتمسَّك بإيماننا ورجائنا بالربّ للتخلُّص منها، فنصل إلى الله، ملء الكمال. إنّ الوصول إلى الكمال، لا يتمّ إلّا من خلال التأمّل المستمرّ بكلمة الله، فكلَّما ازددنا تعمُّقًا بها، كلّما أصبح من السَّهل علينا التخلُّص من الخطايا، لأنّنا سنكتشِف يومًا بعد يومٍ عظمة حبّ الله لنا، لذا لن نسمح بعد الآن لسيِّئات الآخرين بعرقلة مسيرتِنا نحو الربّ، وشهادَتِنا له. إنّ الربّ يسوع، وكذلك الرُّسل، عانوا من اضطهادات الآخرين لهم، ولكنّهم تمكّنوا من تخطّي كلّ تلك الصُّعوبات بسبب تعمُّقهم بكلمة الله وتمسُّكهم بها. فلو قرّر بولس على سبيل الـمِثال، التوقّف عن متابعة مسيرته التبشيريّة بالإنجيل بسبب مضايقاتِ أهل كورنثوس مثلاً، لما كان الإنجيل قد تمكّن من الوصول إلينا، ولما تمكّنا من الحصول على الخلاص بيسوع المسيح؛ ولو قرّر المسيح يسوع التوقّف عن متابعة مسيرته التبشيريّة بكلام الله، لما تمّ الخلاص، لَكُّنا غارقين إلى اليوم في خطايانا.

إنّ تراجُع المؤمِنين عن الشَّهادة للمسيح في حياتهم، بسبب اضطهادات الآخرين لهم، هو أحد أفخاخ الشِّرير الّتي ينصِبها لِمُحبِّي الله، بهَدف تعطيل الإنجيل. إنّ إساءات الآخرين لنا قد تدفعنا إلى الشُّعور بالانزعاج، ولكن علينا عدم التوقّف عندها، بل متابعة المسيرة التبشيريّة بكلمة الله، متسلِّحين باكتشافنا لحبّ الله لنا الّذي لم يتراجع عن خلاصِنا على الرّغم من الأذيّة الجسديّة والبشريّة اللَّتين نالهما، بل بَقيَ مصِّرًا على مَنحِنا الخلاص رغم كلّ الصُّعوبات. أمام حبّ الله العظيم لنا، علينا المشاركة في الذبيحة الإلهيّة والتَقدُّم من سرّ المناولة المقدَّسة، من دون السّماح لخطيئتنا بِإبعادِنا أكثر عن الربّ، لأنّه حين نرفض تَناوُل القربان الأقدس، فإنّنا نسمح بذلك لخطيئتنا بالانتصار على نِعمة الربِّ في حياتنا. لذا علينا التقرُّب من المناولة المقدَّسة، عازِمين على التوبة عن كلّ خطايانا، متسلِّحين بالقوّة الإلهيّة أي القربان المقدَّس الّذي نتناوله لتغيير مسيرة حياتنا وتحسينها. ليس القربان شيئًا خاصًّا بكلٍّ منّا بل هو غذاء عائلة الآب مُجتمعة، لذا لا يجوز لنا الامتناع عن مشاركةِ إخوتِنا البشر في هذه الوليمة السماويّة، بحجّة أنّنا خطأة، لأنّنا بذلك نميِّز ذواتنا عن إخوتنا البشر، الّذي هم أيضًا إخوتنا في عائلة الآب. في إحدى رسائله، يقول لنا بولس الرّسول إنّه علينا السّلوك في هذه الحياة وِفقَ إلهامات الرُّوح القدُس. إنّ كلمة "السّلوك" في اللّغة اليونانيّة تعني السَّير على الطريقة العسكريّة، وهذا يعني أنّه على المؤمِنِين الانصياع للأوامِر الّتي يُلهِمهم بها الرُّوح القدس. ففي الذبيحة الإلهيّة، تجتمع كلّ عائلة الآب لتُصلِّي بشكل جماعيّ، وبالتّالي إنّ كلّ عملٍ تُقَويّ أثناء القدَّاس كصلاة المسبحة وسواها، هو غير مقبول لأنّنا بتلك الطريقة نكون قد انفصلنا عن عائلة الآب المجتمعة في الكنيسة للصّلاة إلى الله أبيها. في الذبيحة الإلهيّة، نحن مدعوّون إلى تجديد عهودنا مع الله، الّذي قام بالآيات منذ بدء البشريّة إلى يومِنا هذا، إذ خلَّصنا من كلّ عبوديّة ومنَحنا الخلاص، وهو لا يزال يُحقِّق فينا معجزاته الّتي تصنع فينا تغييراتٍ جذريّة وعميقة، لنتمكّن من الوصول إلى الملكوت. إنّ تجديد العهود، يتمّ عبر صلواتنا إلى الله بصوتٍ واحد، وهذا هو في الحقيقة، معنى كلمة ليتورجيّا. إنّ كلمة "ليتورجيّا"، هي كلمة يونانيّة تعني عمل الشَّعب، ولهذا السّبب، نستخدم في الذبيحة المقدَّسة في كلّ الصّلوات الّـتي نتلوها صيغة الجمع، قائلين: نؤمِن بإله واحدٍ، لنُحبَّ بعضنا بعضًا. انطلاقًا من هذه الذهنيّة، نستطيع قراءة أعمال الرُّسل وفَهمِه بكلِّ أبعادِه.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
23/10/2018 سِفر أعمال الرسل - الإصحاح الأول من آية 8 إلى 26 نقل البشارة
https://youtu.be/3_4lbACgxpQ

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرسل
الإصحاح الأوّل – الجزء الثّاني
الأب ابراهيم سعد

23/10/2018

في الصّلاة الافتتاحيّة لاجتماعنا اليوم، طَلَبْنا مِنَ الربّ أن يُسكِن إخوتِنا الرّاقدين في "مساكن النّور". هذه العبارة تدعونا إلى الاعتقاد بأنّ هناك مساكنَ ظُلمَةٍ ومساكنَ نورٍ عِندَ الله، غير أنّ هذا الاعتقاد خاطِئٌ تمامًا، لأنّ الربّ هو النّور الحقيقيّ الّذي لا يزول، وهو الشَّمس الّتي لا تغيب، وبالتّالي لا توجد عنده إلّا مساكن نورٍ. إنّ الإنسان هو الّذي يقرِّر إن كان يريد مساكن النّور في الحياة الأبديّة أم لا: فإنْ كان المؤمِنُ اختار القُرب مِنَ الربّ في حياته الأرضيّة، فعاشها في نور الله، فإنّه عندَ انتقاله من هذا العالم، سيُعاين نورَ الله؛ أمّا إنْ كان المؤمِن قد اختار العَيْشَ في هذه الأرض، بعيدًا عن الربّ، فإنّه في اليوم الأخير، سَيُزعجه نور الربّ، ولن يتمكّن من العيش بقربه. لذا، يُعطي اللهُ الإنسانَ هذه الحياة الأرضيّة ليختار فيها بكلّ حريّة، ما بين العَيْشِ في النّور أو في الظّلمة. حين يَنتقل المؤمِن من هذه الحياة، لا يعود باستطاعته تصحيح أيّ قرارٍ خاطِئٍ قد اتَّخذه في حياته الأرضيّة، وبالتّالي إنْ كانت قراراته مبنيّة على العَيْشِ في بُعدٍ عن الربّ، فإنّه سيَتَحرّق ألـمًا ووجعًا في الحياة الثانية، إذ سيَندم نَدمًا مَريرًا حين يكتشف أنّ الله هو النّور الحقيقيّ، وأنّه لن يتمكّن مِن مُعاينَتِه بسبب قرارته الخاطئة في حياته الأرضيّة، وهذه هي جهنّم فِعْلِيًّا. إذًا، في الحياة الثانية بعد الموت، لا تُوجد نارٌ حقيقيّة دائمة الاشتعال كما يعتقد البعض، بل إنّ النّار ستَشتَعِلُ في داخل كلّ إنسانٍ قد رَفضَ الله في حياته، وسيَتَحسَّر على أخطائه الّتي ارتكبها في حياته الأرضيّة.

لا يمكن للإنسان أن يبني علاقةَ حُبٍّ مع الربّ، إن كان الإنسان لا يرى في الله إلّا إلهًا دَيَّانًا، لا يهتمّ إلّا في مراقبة النّاس ومعاقبتهم على أخطائهم؛ ففي ذلك الحين، لن يقوم الإنسان بأيِّ عَملٍ تَفرِضه عليه الشريعة، إلّا للهرب مِنَ العقاب الأبديّ، باحثًا عن المكافآت الإلهيّة لأعماله الأرضيّة. فكما أنّ الحبيب لا يتعامل مع حبيبِه استنادًا إلى قوانينَ أرضيّة بشريّة بل انطلاقًا من حبِّه له، كذلك على علاقتنا بالربّ ألّا تستند على القوانين الدِّينيّة بل على الحبّ، مَصدر الفرح لكلِّ إنسانٍ. في رسالته الأولى، يقول لنا يوحنّا الرّسول، إنّ الحبّ يطرد الخوف خارجًا، والخوف يطرد الحبّ خارجًا. في هذا الصباح، أدعوكم إخوتي، إلى التخلّي عن كلّ صلاةٍ غير منسجمة مع قراراتكم وقناعاتكم، وإلى تَبَنّي كلَّ صلاةٍ تنسجم مع نَظرتِكم إلى الربّ، وإلى تَردادِها بشكلٍ مستمِرّ كأنَّكم أنتم مؤلِّفوها. يمكنكم إخوتي، تأليف صلواتٍ خاصّةٍ، نابعة من محبّتكم لله وتَردادها، فهذه الصّلوات ستمنحكم الفرح والسَّلام أكثر من سواها، لأنّها تُعبِّر عن صِدق محبّتكم لله. إنّ أحد أهمّ أسباب التَّشتُت في الصّلاة، هو تحَوُّل صلواتنا إلى تَمتَمَةِ كلماتٍ فارغةٍ من معناها، غير نابعة مِنَ القلب. إنّ الصّلاة هي في الحقيقة، صِلَةٌ تَجمع المؤمِن بالله، مَبنيّةٌ على حبِّ الإنسان لله، لا على خوفه منه. إنّ بعض المؤمِنِين لا يُدرِكون حقيقة بعض العبارات الّتي يقرؤونها على أوراق الوفاة الخاصّة بالمنتقلين من بيننا، فحين نقرأ عبارة "متمِّمًا واجباته الدِّينيّة"، فهذا لا يعني أنّ المنتقل من بيننا كان يُمارِسُ الصّلاة كواجبٍ أساسيّ في حياته، بل تعني أنّ المنتقل هو مِن أبناء الكنيسة، أي أنّه قَبِل بالمسيح إلهًا ومخلِّصًا له، فَعَبَّر عن ذلك باقتباله الأسرار الكنسيّة وخاصّةً المعموديّة.

إنّ سِفر أعمال الرُّسل يُخبرنا عن أهمّ ما قام به الرّسل في مسيرتِهم التبشيريّة بالإنجيل. ويشكِّل هذا السِّفر معموديّةً جديدةً للمؤمِنِين الّذين تراخوا في نَقلِ الإنجيل، إذ يُحفِّزهم على التشبُّه بالرُّسل الّذين عانوا من الاضطهادات، فَتَشدَّدوا بالرّوح القدس، وتمكّنوا من إيصال كلمة الله إلى المسكونة كلِّها. إنَّ سِفر أعمال الرُّسل يدعونا إذًا إلى التخلّي عن الذهنيّات القديمة الـمَبنيّة على خوفِنا من الله، وإلى تَبَنيّ ذِهنيّات روحيّة كنسيّة جديدة مبنيّة على محبّتنا لله، فنعيش بفرحٍ معه.

"وَلَمّا قالَ هذا ارتَفَعَ وَهُم يَنظُرونَ. وَأَخَذَتهُ سَحابَةٌ عن أَعْيُنِهم. وَفيما كانوا يَشخَصُونَ إلى السَّماءِ وَهُوَ مُنطَلِقٌ إذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفا بِهِم بلباسٍ أبيضَ، وقالا: "أَيُّها الرِّجالُ الجَلِيليُّونَ، ما بالُكُم واقِفِينَ تَنظرونَ إلى السّماءِ؟ إنَّ يَسوعَ هذا الّذي ارتَفَعَ عنكُم إلى السَّماءِ سيأتي هكذا كَما رأيتُموهُ مُنطَلِقًا إلى السَّماء". حِينئذٍ رَجِعوا إلى أورَشَليمَ مِنَ الجبل الّذي يُدعى جبلَ الزَّيتونِ، الّذي هُوَ بالقُربِ مِن أورَشَليمَ على سَفرِ سَبْتٍ. ولَمّا دَخلوا، صَعِدُوا إلى العِلِّيَّةِ الّتي كانوا يُقيمونَ فيها: بُطرُسُ ويَعقوبُ ويوحنّا وأَندراوسُ وَفِيلِبُّسُ وتُوما وبَرْثُولَمَاوُسُ ومتَّى ويَعقوبُ بْنُ حَلفَى وسِمعانُ الغَيُورُ ويَهُوذا أَخو يَعقوبَ. هؤلاءِ كُلُّهُم كانوا يُواظِبونَ بِنَفسٍ واحِدَةٍ على الصَّلاةِ والطِّلْبَةِ، مَعَ النِّساءِ، ومَريَمَ أُمِّ يَسوعَ، ومَعَ إِخوَتِهِ. وفي تِلكَ الأيَّامِ، قامَ بُطرُسُ في وَسطِ التَّلاميذِ، وكانَ عِدَّةُ أَسْماءٍ مَعًا نَحوَ مِئةٍ وعِشْرينَ. فقالَ: "أَيُّها الرِّجالُ الإخوَةُ، كان يَنبَغي أَنْ يَتِّمَ هذا الـمَكتُوبُ الّذي سَبَقَ الرُّوحُ القُدُسُ فقالَهُ بِفَمِ داوُدَ، عَنْ يَهُوذا الّذي صارَ دَليلاً للّذينَ قَبَضُوا على يَسوعَ، إذْ كان مَعدُودًا بَيْنَنا وصارَ لَهُ نَصيبٌ في هذه الخِدمَةِ. فإنَّ هذا اقْتَنى حَقلاً مِن أُجرَةِ الظُّلمِ، وإذْ سَقَطَ على وَجهِهِ انْشَقَّ مِنَ الوَسَط، فانْسَكَبَتْ أَحشاؤُهُ كُلُّها. وصارَ ذَلِكَ مَعلُومًا عِندَ جَميعِ سُكَّانِ أُورَشَليمَ، حتَّى دُعِيَ ذَلِكَ الـحَقلُ في لُغَتِهم "حَقَلْ دَمَا"، أيْ: حَقْلَ دَمٍ. لأنَّهُ مَكتُوبٌ في سِفرِ المَزاميرِ: لِتَصِرْ دارُهُ خَرابًا ولا يَكُنْ فِيها ساكِنٌ. وَليَأْخُذْ وَظيفَتَهُ آخرُ. فَيَنبَغي أنَّ الرِّجالَ الّذينَ اجْتَمَعوا مَعَنا كُلَّ الزَّمانِ الّذي فيهِ دَخَلَ إليْنا الربُّ يَسوعُ وَخَرَجَ، منذُ مَعمُودِيَّةِ يُوحَنَّا إلى اليَومِ الّذي فيه ارتَفَعَ فيهِ عَنَّا، يَصيرُ وَاحِدٌ مِنهُم شاهِدًا مَعَنا بِقِيامَتِه". فأَقامُوا اثْنَينِ: يُوسُفَ الّذي يُدعى بارْسَابا الـمُلَقَّبَ يُوسْتُسَ، ومَتِّياسَ. وَصَلُّوا قائِلِينَ: "أَيُّها الرَبُّ العَارِفُ قُلوبَ الـجَميعِ، عَيَّنْ أَنْتَ مِن هَذَينِ الاثْنَينِ أَيًّا اخْتَرتَهُ، ليأَخُذَ قُرعَةَ هَذِهِ الخِدمَةِ والرِّسالةِ الّتي تَعدَّاها يَهُوذا ليَذهَبَ إلى مَكانِهِ". ثُمَّ أَلقَوا قُرعَتَهُم، فَوَقَعَتْ القُرعَةُ على مَتِّياسَ، فَحُسِبَ مَعَ الأَحَدَ عَشَرَ رَسُولاً". (1: 9-26)

إنّ الغمامة هي إحدى الرّموز المستعملة في الأدب الرؤيويّ للدلالة على حضور الله أو غيابه. في حَدث الصُّعود، كان الرُّسل يُحدِّقون إلى السّماء لرؤية العمل الخارق الّذي يقوم به الربّ، لكنَّ الرَّجُلَين اللّذين ظهرا للرُّسل أخبراهم أنّ الوَقت قد حان للانطلاق في إعلان كلمة الإنجيل في كافة المسكونة، فالربّ الّذي صَعِدَ ممجَّدًا إلى السّماء، سيعود مجدّدًا إلى الأرض ممجَّدًا. يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل أنّ هذين الرَّجُلَين كانا يرتديان لِباسًا أبيضَ. كانت الشريعة اليهوديّة تَقضي لتصديق أيّة شهادةٍ، أن يتمّ إعلانها على لِسان شاهِدَين، وهذا ما حَصل مع الرُّسل إذ ظهر لهم الرَّجُلان ليُعلنا لهم مِصداقيّة ما اختبروه أمام أعينهم. بعد قيامة الربّ يسوع من الموت، كان المعمَّدون، في الكنيسة الأولى، يرتدون اللِّباس الأبيض، وبالتّالي أراد الإنجيليّ لوقا أن يقول للمؤمِنين إنّ رسالة يسوع الأرضيّة قد انتهت، وقد أكَّدها لنا هذَان الرّجُلان، وقد حان الوَقت الآن للمُعمَّدين، للانطلاق في إعلان قيامة الربِّ في حياتهم، ومن خلال تبشير الآخرين بها. لقد نادى هَذان الرَّجُلان الرُّسُلَ بـ"الجَليليّين"، نسبةً إلى المدينة الّتي مِنها أتوا، لمشاهدة هذا الحَدَث. إنّ الجليل، بالنِّسبة إلى اليهود، هي منطقةٌ منبوذةٌ، إذ لا يَخرُج منها إلّا السَّيئات في نَظَرِهم، كَونَ أهلِها قد خالطوا الوثنيّين. ولكن بمناداتهما الرُّسل بـ"الجَليليّين"، أراد هذان الرَّجُلان التأكيد لهم أنّ رسالة الربّ ستَنطلِق من هذه المدينة المنبوذة، لتصل إلى أقاصي الأرض، من خلال هؤلاء الرُّسل، فَخَلاصُ الربِّ هو للوثنيّين ولليهود على حدٍّ سواء.
إنّ الذهنيّة الوثنيّة لا تزال متجذّرة في عقول المؤمِنِين، وما تصرُّف الرُّسل سوى تأكيدٍ على ذلك: فالرُّسل كانوا ينظرون إلى الأعجوبة لا إلى المعنى الروحيّ لحدَثِ الصُّعود. ونحن اليوم أيضًا، للأسف، لا نزال متمسِّكِين بهذه الذهنيّة، إذ نهتمّ لزيارة الأماكن المقدَّسة حيث تَمَّ الحَدَث، أكثر مِن اهتمامنا بالمعنى الروحيّ والإيمانيّ للحَدَث، ولذا على سبيل الـمِثال نُطلق أسماء المناطق على مزارات القدِّيسين وخاصّةً مزارات العذراء مريم، فنقول سيِّدة حريصا، أو سيِّدة بشوات، أو سيِّدة صيدنايا. إنّ الحَدث هو أهمُّ من المكان الّذي تَمَّ فيه الحدَث، غير أنّ قلوبَنا لا تزال مشدودة إلى الوثنيّة، إذ نسعى على الدّوام إلى النَّظر إلى الله، الّذي نؤمِن به، على أنّه إلهُ مكانٍ لا إلهُ حَدَثٍ. في الكتاب المقدَّس، لم يعرِّف الربُّ يومًا عن نفسه على أنّه إلهُ هذه المدينة أو تلك، بل كان دائمًا يعرِّف عن نفسه، أنّه الإله الّذي أخرج الآباء من الصَّحراء، وأنّه الإلهُ الّذي خلَّص شعبه، فماتَ من أجلهم وقام من الموت ومَنحهم الحياة الأبديّة. إذًا، إنّ الله يعرِّف عن ذاته للمؤمِنِين به، من خلال الأفعال الّتي أنجزَها في حياتهم. إنّ قبول أكثريّة النّاس بمعتقداتي الإيمانيّة لا يعني صِّحة إيماني، فالإيمان لم يكن يومًا مرتبطًا بموافقة الآخرين على قناعاتي، والدّليل أنَّ عددًا مِن القدِّيسِين قد تعرَّضوا للاستشهاد في سبيل الدِفاع عَمّن يؤمِنون به، والّذي لم يكن مقبولاً من الآخرين المحيطين بهم. إنّ الإيمان بالله مرتبطٌ بقناعات المؤمِن الّتي يتنبّاها، فيُعلِن هذا الأخير أنّ إلهَه هو الإله الحقيقيّ ولا إله سواه، حتّى ولو لم تتمكّن الدِّراسات العِلميّة من إثبات معتقداته الإيمانيّة. إنّ إيمان المؤمِن مرتبطٌ بما يُعلِنه له الإنجيل فقط، فيُعلِن أنّ ربَّه وإلـهَه هو يسوع المسيح دون سواه. إنَّ الأعجوبة قد تحصل في أيّ مكانٍ نتواجد فيه، لذا لا داعي للانتقال إلى أماكن بعيدة للتأكُّد من صِحَّة الظهورات، فإيماننا ليسَ مرتبطًا لا بظهورٍ خارقٍ ولا بمكانٍ معيَّن، بل بشخصٍ حقَّق وما يزال يحقِّق الأعاجيب في حياتنا اليوميّة، وإن لم نكن مُدرِكين لها. إنّ إلهَنا هو إلهٌ حَيٌّ، وهذا يعني أنّه يُصغي إلينا ويكلِّمنا، ويطلب منّا أمورًا غير متوقَّعة مِن قِبَلِنا، ممّا يخلقُ فينا تحدِّيًا لمواجهته، ولكن عندما نشعر بعجزِنا لمواجهته، فإنّنا نسعى لإعادته إلى حالة الصَّنميّة القديمة، فلا نعود نُصغي له، بل نَنهال عليه بالطلبات الَّتي نعتقد أنّه عليه تحقيقها لنا، دون أن نمنحه فرصةً لمناقشتنا في ما نطلب منه. هذا التصرُّف الإنسانيّ هو وثنيٌّ تمامًا إذ يعيدُ الإنسان إلى حالة التَّدَين الّتي كان فيها قَبْل مجيء المسيح، ويُفقِده كلّ إيمانه بالربّ، الإله الحَيّ. على علاقتنا بالله أن تكون مربوطةً بالمسيح يسوع، فنحن لا نعرف إلهًا آخر، سوى الله، الّذي أخبرنا عنه يسوع المسيح.
يتوجَّب على الكهنة تعليمَ المؤمِنِين كلمة الله، فتتمكّن هذه الأخيرة من تَغييرهم مِنَ الدّاخل وتحويلهم إلى أناجيل حيّة مفتوحة، فيصيروا مستعدِّين لمساعدة إخوتهم المحتاجين كتعبيرٍ منهم على محبّتهم لله، وتَوقِهم إلى الملكوت. إنّ الذبيحة الإلهيّة لَيْسَت مجرَّدَ مكانٍ يجتمع فيه المؤمِنون لتقديم الذبيحة لله، بل هي وسيلةٌ لتنشيط ذاكِرَة المؤمِنين في ما يختصّ بأعمال الله معهم عبر التّاريخ: إذ إنّهم في هذه الذبيحة يتذكَّرون أعمال الله معهم ومع آبائهم، فيُعَبِّرون عن قبولِهم بهذا الإله، سيِّدًا ومخلِّصًا إلَـهِيًا لهم، لذا يتقدَّمون مِن المناولة الإلهيّة، مُعلِنِين قبولهم دعوة الله لهم ليكونوا أبناءه، وبالتّالي مشارَكَته في الوليمة الإلهيّة. إنّ المؤمِنين يتناولون جسد الربَّ يسوع ودَمَه، هو الّذي وُلِد في أرضِنا، وتألَّم من أجل خلاصِنا، ومات وقام ليمنحنا الحياة الأبديّة، وبالتّالي هو إله الأحداث، لا إلهَ الأمكنة. إنّ الله لم يمت ويَقُم بدلاً عن البشر، بل مات وقام لأجلهم، وهذا يعني أنّ الله لم يَمُت ويَقُم بدلاً عن الإنسان تكفيرًا عن عجزِ هذا الأخير في القيام بما هو مطلوبٌ منه، بل إنّ الله مات وقام حبًّا بالإنسان ليمنَحَه الحياة الأبديّة الّتي خَسِرها بخطيئتِه. إنّ الله كان مستعدًّا للقيام بما قام به حتّى ولو كان المؤمِن وحيدًا في هذه المسكونة، ومن هذا المنطلق نستطيع فَهمَ عظمةِ حُبِّ الربّ لنا. لقد قام الربّ بكلّ عَمَلِه الخلاصيّ من أجل كلّ مؤمِنٍ بمفردِه. إنَّ كلمة "مؤمِنٌ" في اللّغة اليونانيّة، تشير إلى الإنسان الأمين، أي الثّابت في إيمانه، كما تشير إلى الإنسان الّذي ينقل الرِّسالة بكلِّ أمانة، وهي تدلّ أيضًا على الأمان الّذي يناله الإنسان نتيجة أمانَتِه لكلمة الله. وبالتّالي، إنَّ المؤمِن هو ذاك الإنسان الّذي يحافظ على كلمة الله دون تشويه، وينقلها للآخرين بشهادته الصّادقة من خلال عيشه للكلمة الإلهيّة، فينال الأمان بخلاصه الأبديّ.
إنّ العِليّة هي مكانُ اجتماعِ الرُّسلِ الاثني عشر. إنّ إخوةَ يسوعَ هم أقرباؤه إذ لم يكن له من إخوةٍ بشريّين. يخبرنا الإنجيليّ لوقا، عن يهوذا الّذي اشترى حقلاً، بالمال الّذي ناله جرّاء خيانته للربّ، فَقَتَل نفسه فيه، وبالتّالي أصبح عدد الرّسل أحد عشر رسولاً. إنّ الرَّقم "اثني عشر"، كما الرّقم "عشرة"، له أهميّة كبرى في الكتاب المقدَّس فَهُما يرمزان إلى الكمال، لذلك قرّر الرّسل اختيارَ رسولٍ آخر، بدلاً مِن يهوذا. إنّ الرقمّ "مئة وأربعة وأربعين ألفًا" الّذي يورِده سِفر الرؤيا، لا يدلّ كما يدّعي البعض على رقمٍ محدَّد من البشر الّذين سوفَ يخلُصون بل على الشّموليّة التّامة، أي أنّ عدد البشر الّذين سيَخلُصون لا محدود. إنّ الرّقم "مئة وأربعة وأربعين ألفًا"، هو نتيجة عمليّة حسابيّة، تقوم على ضرب الرّقم "اثني عشر" بِنَفسِه، ومن ثمَّ ضَربِ مجموع العمليّة الحسابيّة هذه بألفٍ، الّذي هو حصيلة ضَرب الرّقم "عشرة" بَنَفْسِه ثلاث مرّات متتالية. إنَّ الرّقم "اثني عشر" له مدلولاتٌ كثيرة، في الكتاب المقدَّس: ففي العهد القديم يشير إلى عدد قبائل اسرائيل الاثنتي عشرة، أي الأسباط؛ أمّا في العهد الجديد، فيُشير إلى عدد الرّسل الاثني عشر، أي إلى الكنيسة. لقد قام الرُّسل باختيار شخصَين من الجماعة المؤمِنة، مَشهُودٌ لهما بإيمانِهما الصَّحيح ومعرفَتِهما للربّ؛ ولكنَّ الاختيار النِّهائي للرّسول الّذي سينضمّ إلى جماعة الرُّسل، كان مبنيًّا على صلاةِ الرُّسل للربّ لاختيار الأفضل من بين هذَين الرَّجُلَين لمتابعة المسيرة التبشيريّة معهم، فأُلقِيَت القرعة على مَتِّياس. إنّ قرار الرّسل الأحدَ عشر اختيارَ رسولٍ جديدٍ بدلاً من يهوذا، كان يهدِف إلى إعادة الكنيسة إلى حالتها الأولى أي حالة الشموليّة الـمُطلقة، بعد انتزاع الخيانة منها، لكي تتمكّن من الانطلاق من جديد في إعلان البشارة إلى أقصى الأرض. على الرّسول الـمُختار أن يكون أوّلاً أمينًا لكلمة الله، شاهِدًا ليسوع منذ بدء رسالته العلنيّة إلى يوم قيامته وصعوده إلى السّماء، فتكون شهادته أمام الآخرين صادقة، نابعة من معرفته بالربّ، ومبنيّةً على اختبارٍ شخصيٍ. إذًا، الإصحاح الأوّل من سِفر أعمال الرّسل، يُقدِّم لنا خريطة عمل الرُّسل، المبنيّة على "مواظبة الاثني عشر على الصّلاة بنفسٍ واحدة"، للانطلاق في البشارة وإيصالها إلى العالم كلِّه، كما طلب الربُّ منهم. لقد أشار الإنجيليّ لوقا، إلى وجود مريم بين النِّساء اللّواتي رافَقْنَ الرُّسل في مسيرة الصّلاة هذه، فمريم لم تترك الكنيسة يومًا حتّى بعد موت ابنها وقيامته من بين الأموات، وبذلك، حقّقت مريم الرِّسالة الّتي أعطاها إيّاها ابنها على الصّليب، أن تكون أمًّا ليوحنّا الحبيب، وبالتّالي أمًّا لجميع المؤمِنِين بابنها يسوع. إنّ عبارة "إخوة يسوع" تشير إلى أقرباء يسوع الدّمويّين، ولكنّها تشير أيضًا إلى كلّ شخصٍ أَحَبّ الربّ، أو شَعَر بأنّه محبوبٌ من الربّ، فكان على مِثال يوحنّا الرّسول، الّذي تسَلَّمَ مسؤوليّة الاهتمام بأمّ يسوع، مريم، حين قال له الربّ على الصّليب: "هذه أمُّك". لقد عدَّد الإنجيليّ لوقا أسماء الرّسل في هذا السِّفر بطريقة مغايرة لطريقة تعداده لهم في إنجيله. ففي هذا السِّفر، اجتهد الإنجيليّ في ذِكر أسماء الرّسل بطريقة مزدوجة، فذَكَر اسم رسولٍ باللّغة اليونانيّة مُرفقًا باسم رسولٍ آخر باللّغة اليهوديّة، ليقول لنا إنّ البشارة الّـتي سيُعلِنُها الرُّسل هي بشارةٌ لكلّ الأُمَم: يهودًا وَوَثنييّن على حدٍّ سواء، أمّا في إنجيل لوقا (لو 6: 14-16)، فقد ذَكر أسماء الرّسل بطريقة عشوائية دون اعتماد المعيار نفسه الّذي اعتمده في سِفر أعمال الرُّسل. لم يتمكّن الشَّعب اليهوديّ، وكلّ الّذين ما زالوا متمسِّكين بالذهنيّة اليهوديّة، مِنَ القبول بأنّ الخلاص قد مَنَحَه الربّ للجميع، دون مفاضلته لشخصٍ على آخر، وذلك لأنّ هذه الحقيقة تقضي على عروشهم المزيّفة الّتي بَنوها في نفوسهم، أي أنّها تقضي على "الأنا" المتعاظمة في داخلهم، وتُحقِّق المساواة بينهم وبين سائر البشر، وهذا ما يرفضه الكثيرون. إنّ الربّ قد مَنَحنا الخلاص لا بفضل قداسَتِنا ومجهودِنا، إنّما بفضل حبِّه العظيم لنا، الّذي قاده إلى الموت على الصّليب من أجلنا. إنَّ الحبّ يجعل الحبيب عبدًا ذليلاً أمام محبوبه، والحبّ يدفع الحبيب إلى التخلّي عن كرامتِه لصالح محبوبه. هذا ما نختبره بشكلٍ يوميٍّ في حياتنا، وهذا ما اختبره أيضًا الأقدَمون، فيسوعُ نَفسُه قد اختبر ذلك مع أحبّائه، الّذين تخلّوا عنه، بعد ثلاث سنواتٍ مِنَ التَّلمذة على يدَيه.
يخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن مصائر الرُّسل الّذين أوَصلوا بشارة الإنجيل إلى أقصى الأرض، موضِحًا لنا ذلك المصير الّذي سيلقاه كلُّ من يريد اتِّباع المسيح، والتبشير به بأمانةٍ في كافة المسكونة. إنَّ بطرس وبولس، هما شخصيّتان بارزَتان في سِفر أعمال الرُّسل، لذا يمكننا تسميَة هذا السِّفر بسفر أعمال الرَّسولَين بطرس وبولس. كان هدَف هذَين الرَّسولَين إيصال البشارة إلى المسكونة جمعاء، لذا بشَّر كلّ منهما في بيئة مختلفة عن الأخرى: فبطرس بشَّر بكلمة الله، الشُّعوب اليهوديّة، أمّا بولس فقد انطلق لتبشير الأُمَمَ، أي الوثنيّين. لقد نجح هذان الرَّسولَان من إيصال كلمة الله إلى "أقصى الأرض"، والّتي تشير إلى رُوما، مركز الامبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة، وقد استُشهدا فيها في السَّنة نفسها، أي سنة 67 ميلاديّة: فمات بطرس مصلوبًا عقِبًا على رأس، إذ وَجَد نفسه غير مستحِقٍّ للتشبّه بالمسيح؛ أمّا بولس فمات مقطوع الرأس. إنّ القدِّيس بطرس مات مصلوبًا لأنّه يهوديّ، أي تَمَّ تنفيذ حُكم الشَّريعة فيه، الّتي تقضي بموته، ميتَةَ العبيد، فهي ترمز إلى العار. أمّا القدِّيس بولس الرّسول، فقد كان يملك الجنسيّة الرومانيّة إضافةً إلى جنسيّته اليهوديّة، لذا لم تُنَفَّذ فيه الشريعة اليهوديّة، بل الحُكم الرومانيّ، القاضي بموته مقطوع الرأس.
بعد موت الرَّسولَين بطرس وبولس، لم يبقَ للكنيسة سِوى أعمالهما الّـتي قاما بها في حياتهما، للتأمُّل بها، ومثالاً للتشبُّه بهما. إذًا، أهميّة الرَّسولَين لا تكمن في الأماكن الّتي عاشوا فيها بل في أعمالهما، ولذا لا ضرورة بعد الآن لزيارة تلك الأماكن، للتَبَّرُك من ذخائر هَذَين القدِّيسَين، إنّما هناك هناك ضرورة قُصوى للتشبُّه بمحبّتهما للمسيح، والتبشير به في كلّ مكانٍ. إنّ الفاتيكان لا يَضَع أمامنا قبر القدِّيس بطرس، للبكاء والنّواح على المِيتَةِ الّتي لَقيَها، إنّما للـتأمّل بحبّه للمسيح الّذي قاده للاستشهاد في سبيل إيصال رسالة الخلاص إلى إخوتِه البشر. وبالتّالي عند زيارتنا لهذا المكان المقدَّس، علينا أن ننقل معنا البشارة بالإنجيل الّتي أراد القدِّيس بطرس إيصالها إلى "أقصى الأرض"، في زَمَنِه، إلى "أقصى الأرض" في زَمنِنا، أي إلى أرضٍ جديدةٍ، أي إلى مجتمعِنا. بعد انتهاء بطرس وبولس، من كتابة إنجيلهما، من خلال إعلانهما للبشارة، حان دَورُنا الآن لننقل البشارة إلى أقصى الأرض، وإلى كتابة إنجيلنا الخاصّ من خلال سلوكِنا في هذه الحياة بطريقةٍ منسجمة مع كلمة الله. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
16/10/2018 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الأوّل، آية 1-8 الشَّهادة لكلمة الحقّ
https://youtu.be/IKAEhfnVo9c

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الأوّل
الأب ابراهيم سعد

16/10/2018

هذه السّنة، سنتعمَّق في قراءة سِفر أعمال الرُّسل، لذا أتمنّى على الجميع إحضار إنجيلهم الخاصّ معهم، إذ سنقوم بمقارنةٍ ما بين إنجيل لوقا وسِفر أعمال الرّسل،كونهما للكاتب نفسه، وهو الإنجيليّ لوقا. إنّه في غاية الأهميّة أن يمتلك كلّ منّا إنجيلاً خاصًّا به يدوِّن عليه تأمّلاته، فيتحوّل هذا الكتاب إلى علامةٍ تدلّ على علاقة المؤمِن الخاصّة بالربّ، كما يتحوّل هذا الكتاب أيضًا إلى رفيقٍ له في كلّ ظروفه. وأنا أدعوكم اليوم إلى اختبار ذلك، وإلى مشاركتي في اختباراتكم في اللّقاءات المقبلة، وإن رَحلتُ عن هذه الدّنيا، تذكّروني في صلاتكم، كلّما تأمّلتم في كلمة الله في كتابكم المقدَّس.
لقد أَرسَل الإنجيليّ لوقا كتابه الأوّل، أي الإنجيل، إلى شخصٍ يُدعى "ثاوفيلس"، كما أرسَل إليه أيضًا في وقتٍ لاحقٍ، سِفر أعمال الرُّسل، وهذا ما نكتشفه في مطلع هذين الكتابين. إنَّ اسم "ثاوفيلس" يونانيّ، وهو وثنيّ لا يهوديّ. ويتألّف هذا الاسم "ثاوفيلس" مِن كلمتين: "ثاوُ" وتعني الله، و"فِيلُسْ" وتعني حبيب أو صديق، وبالتّالي يُصبح معنى اسم "ثاوفيلس" حبيب الله أو صديق الله، وهنا يمكننا الاستنتاج أنّ هذين الكتابيَن يوجِّههما الإنجيليّ لوقا إلى كلّ مَن يعتبر نفسه صديق الله وحبيبَه. إنَّ إنجيل لوقا يختلف عن سِفر أعمال الرُّسل، في أنَّ الإنجيليّ لوقا قد أعطى لقبَ "العزيز" لـ"ثاوفيلس" في إنجيله، وهو يُعَدُّ لقبًا تكريميًّا، غير أنَّ هذا اللّقب قد اختفى في سِفر أعمال الرّسل، ممّا قد يشير إلى أنّ "ثاوفيلس" كان ذا منصبٍ مُهِمٍّ في الإمبراطوريّة، ولكنّه خسِر وظيفته حين كُشِف أمره بأنّه أصبح مسيحيًّا. إذًا، في بداية سِفر أعمال الرُّسل، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا عن مصير كلّ مؤمِنٍ بالمسيح، إذ سيتعرَّض للاضطهادات وللمضايقات من قِبَل المحيطين به، بسبب حبِّه للربّ. إنّ عالَمَنا اليوم، يجد صعوبةً في قبول كلمة الحقّ، لذا هو يعمل على الإطاحة بكلّ مَن يحمل لواء الحقّ، محاولاً إسكاته وإِبعاد خَطَرِه عن مصالحِهِ الأرضيّة، وما حياة يسوع الأرضيّة سوى دليلٍ حقيقيٍّ على ذلك: فهو قد قُتِلَ على يد اليهود لإبعاد خَطَرِه عنهم بشكلٍ نهائي. وهذا ما يُوضِحه لنا أيضًا سِفر الرؤيا إذ يُخبرنا أنّ الرُّسلَ والّذين قبلوا، فيما بعد، الإنجيل على يد الرُّسل، قد تعرَّضوا للقتَل بسبب حُبِّهم للمسيح، في محاولةٍ لإبعاد خَطرهم نهائيًّا عن الّذين يحبّون هذا العالم وأهواءه ويرفضون الحقّ.

إنّ حَمْلَنا لبشارة الإنجيل لا يُعطينا الحقّ في إدانة الآخرين، وتقسيمهم إلى مجموعاتٍ انطلاقًا من تصرّفاتهم الصّالحة أو السَّيئة، كما أنّه لا يُعطينا الحقّ أبدًا في التسلُّط عليهم، ولذا علينا التمييز ما بين إضطهاد الآخرين لنا بسبب كبريائنا وقلّة محبّتنا للآخرين، وما بين اضطهاد الآخرين لنا بسبب حَمْلِنا للإنجيل بكلِّ أمانةٍ. ولذا، يمكننا الاعتماد على ردّة فعلِ النّاس على تبشِيرنا بالإنجيل، لمعرفة سبب اضطهادهم لنا: إنّ مديح النّاس لنا بسبب إعلاننا للإنجيل هو دليلٌ قاطعٌ على وجودِ خللٍ في مسيرتِنا التبشيريّة؛ أمّا إنْ أدّى إعلانُنا لكلمة الحقّ إلى عَزلِهم لنا، فهذا قد يكون مؤشِّرًا على صحّة مسيرتِنا التبشيريّة، ولكنّه قد يكون أيضًا مؤشِّرًا على عدم سلوكِنا وِفق تعاليم المسيح الّتي نكرز بها. من خلال مَطلع أعمال الرّسل، نكتشف أنّ لوقا الإنجيليّ أرسل كتابَيه إلى "ثاوفيلس"، وبالتّالي نكتشفُ رغبة الإنجيليّ في إيصال كلمة الله إلى كلّ محبٍّ لله، غير آبهٍ إن كان هذا الإنسان يونانيًا وثنيًا أو يهوديًّا، إذ بالنسبة إليه، جميعُ البشر متساوون في محبّتهم لكلمة الله.

إنّ الخبرة الإنسانيّة أظهرت لنا عبر العصور، رغبةَ الإنسان العميقة في إظهار تَفوقِّه، في كلّ المجالات، على سائر البشر إخوته، وما جريمة قايين وهابيل الّتي يُخبرنا عنها العهد القديم سوى دليلٍ على ذلك. هذا هو جوهر الذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة في الطبيعة الإنسانيّة، والموجودة في داخل الإنسان قبل ظهور الدِّين اليهوديّ. ما مِن إنسانٍ على هذه الأرض، غير يهوديّ الذِّهنيّة، إلّا يسوع المسيح، على الرّغم مِن أنّه يهوديّ في انتمائه الدِّيني. إنّ الرّسل جميعًا كانوا ذوي ذهنيّات يهوديّة، ولكنّهم تمكّنوا مِن التحرُّر منها، حين اختبروا الربّ، وعانقوا الصّليب، أي حين قَبِلوا الموتَ في سبيل البشارة.كان بولس الرّسول يهوديًا أصيلاً، إذ إنّه يهوديّ ابن يهوديّ، وينتمي إلى جماعة الفريسيّين، وقد تَعمَّق في الشريعة اليهوديّة وكان مدافعًا شَرِسًا عنها، ولكنّ الربّ حرّره منها، حين كشف له ذاته، فأعلن بولس إيمانه بالربّ مبشِّرًا به في المسكونة كلِّها، فكان إكليلُ الشَّهادة نَصيبَهُ. إذًا، لا يمكن للإنسان أن يتحرّر مِنَ الذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة فيه إلّا بمعانقته للصّليب، أي باختباره الألم والاضطهادات حبًّا بالمسيح. إنّ عدم مواجهَتِك للصّليب، في إعلانك البشارة للآخرين، هو دليلٌ على ابتعادِك عن الشَّهادة الحقّة للمسيح، لذا عليك إعادة النَّظر في مسيرتِك التبشيريّة، لأنّك في الحقيقة قد وَقعت في أفخاخ الذهنيّة اليهوديّة المبنيّة على "الأنا" المتعاظِمة في قلبِ الإنسان.

لقد قَتَل اليهودُ يسوعَ المسيح لأنّه هَدَمَ لهم كلّ أفكارهم حول أفضليّتهم على بقيّة شعوب المسكونة، إذ كانوا يعتقدون أنّهم "شعب الله المختار" دون سواهم، وأنّ الله هو إلههم حصرًا، دون الآخرين؛ وهذا ما يبرِّر عدم فَهمهم لبعض الآيات الكتابيّة، غير المنسجمة مع هذه الذهنيّة. أمّا الذهنيّة المسيحيّة الّتي يدعونا المسيح إلى اعتمادها، فَهِيَ تقوم على الإيمان بأنّ جميع البشر متساوون أمام الله، فَهُم جميعًا خطأة. ولكن الله أراد من خلال ابنه، يسوع المسيح، أن يَمنَحَ البشر عن غير استحقاقٍ منهم، نِعمَةَ مشاركتهم له في الملكوت السماويّ، وبالتّالي، فإنّ مشاركة المؤمِنِين في الملكوت هي رَهنٌ بقبولهم لِنِعمةِ الله الممنوحة لهم أو بِرَفضِهم لها. إنّ قبولَنا تلك النِّعمة الإلهيّة، أي الملكوت، يتجسَّد من خلال محافظتِنا عليها من خلال تَصرُّفاتِنا وأعمالِنا اليوميّة المنسجمة مع كلمة الله، فإن كانت حياتنا غير منسجمة مع كلمة الله، فهذا دليلٌ يؤكِّدُ عدم قبولِنا نعمة الله المعطاة لنا بمجانيّة، لأنّ الملكوت بالنسبة إلينا، يُنال بعد موتِنا الأرضيّ، وبالتّالي لا ضرورة له في حياتنا الأرضيّة. إنّ الملكوت في الحقيقة موجودٌ في داخلنا، ونكمِلُ عيشَنا له في الملكوت السماويّ، أي بعد انتقالِنا الجسديّ من هذه الحياة.

وما تصرّفات الإنسان مع البشر سوى انعكاسٍ لتصرّفاته مع الله: فالإنسان يرفض عطية الله المجانيّة له، ألا وهي الملكوت على الرّغم مِن تظاهُرِه بقبولها، وذلك لأنَّه يطمح إلى الحصول على الملذّات الأرضيّة لا السماويّة فحَسب. إنّ الشَّعب اليهوديّ، من خلال اختباره، هو مِثالٌ حيٌّ على ذلك: فهو قد أعلَن ظاهريًّا قبوله بالله، إلهًا وحيدًا له، ولكنْ ما إن غاب موسى عن أنظاره، حتّى سارَع الشّعب إلى صُنعِ منحوتاتٍ وثنيّة، أُسوةً ببقيّة الحضارات المحيطة به، لعبادتها وطَلَبِ الأمور الأرضيّة منها. إنّ هذا الشَّعب قد مزج بين عبادته لله وبين عباداته الوثنيّة: معتقدًا أنّه قد تمّم واجباته الدِّينيّة مع الله في الهيكل، ولذا يحقّ له التوجّه إلى عباداتٍ أخرى لتحقيق مصالحه الأرضيّة الزائلة. هذا أيضًا ما نعيشه ونختبره كلّ يومٍ في حياتنا اليوميّة كمسيحيّين: إذ نقوم بأعمال تقوية ونشارك في كافّة الطّقوس الدِّينيّة، الّتي يطلبها الله منّا في الكنيسة، ومن ثمّ نَتَفرّغ لتحقيق نزواتنا الأرضيّة ومصالحنا الدّنيويّة البعيدة كلّ البُعد عن الله وتعاليمه. إنّ هذه الحياة الّتي نعيشها على هذا النّحو تشكِّل انعكاسًا للذهنيّة اليهوديّة المتجذّرة فينا على الرّغم من قبولِنا للعماد وبالتّالي اتِّباعنا للمسيح. إنّ المعموديّة ليست حَدثًا يتمّ مرّةً واحدة وينتهي مفعولها بعد انتهاء الرُّتبة الكنيسة، بل هي حدثٌ يتمّ مرّةً واحدة ولا ينتهي مفعولها إلّا بموتنا الجسديّ، أي بقيامتنا في الملكوت السماويّ. لذلك، فإنّ المعمَّد يموت مع المسيح عن الأمور الدّنيويّة ويقوم معه للحياة كابنٍ لله، ولا يتحقّقُ مفعول المعموديّة النِّهائي، إلّا بموت الإنسان الجسديّ، وبقيامته الحقّة في الملكوت مع المسيح. إذًا، بين موتك الأوّل وقيامتك الأولى في المعموديّة، وموتك الجسديّ وقيامتِك الأخيرة في الملكوت، يمنَحُك الله حياةً أرضيّة تعبِّر فيها عن قبولك بعطيّة الله المجانيّة لك من خلال أعمالك وتصرّفاتك، فتشهد للآخرين أنّك "ثاوفيلس"، أي أنّك حقًّا حبيب الله وصديقه. وعندها سيتمكّن الإنجيليّ لوقا من تقديم وديعة الإيمان لك كما فَعل مع "ثاوفيلس" لتُحافِظ عليها، فتَشهد للمسيح في حياتك اليوميّة.

"الكَلامُ الأوَّلُ أَنشَأْتُهُ يا ثَاوُفِيلُسُ، عن جميعِ ما ابتَدَأَ يسوعُ يَفعَلُهُ ويُعلِّمُ به، إلى اليومِ الّذي ارتفَعَ فيهِ، بعدما أَوصى بالرُّوحِ القدسِ الرُّسُلَ الّذينَ اختَارَهُم. الَّذينَ أَراهُم أيضًا نَفسَهُ حيًّا ببرَاهينَ كَثيرةٍ، بَعْدَ ما تألَّمَ، وهو يَظهَرُ لهم أربعينَ يَومًا، ويتكلَّمُ عن الأُمورِ المختصَةِ بملكوتِ اللهِ. وفيما هو مُجتَمِعٌ معهم أَوصاهُم أنْ لا يَبرَحوا مِن أُورَشليمَ، بل يَنتَظِرِوا "مَوعِدَ الآبِ الّذي سَمِعتُموه منّي، لأنَّ يُوحنَّا عَمَّدَ بالماءِ، وأَمّا أَنْتُم فَسَتَتَعَمَّدُونَ بالرُّوحِ القُدُسِ، لَيسَ بَعدَ هذه الأيّامِ بِكَثيرٍ". أمّا هُمُ الـمُجتَمِعونَ فَسَأَلوهُ قائلينَ: "يا رَبُّ، هَل في هذا الوَقتِ تَرُدُّ الـمُلكَ إلى اسرائيلَ؟ فقال لهم:"لَيسَ لَكم أن تَعرِفوا الأزمِنَةَ والأوقاتَ الّتي جَعَلَها الآبُ في سُلطانِهِ، لَكِنَّكُم سَتَنالُونَ قُوَّةً مَتى حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَليكُم، وتَكونونَ لي شُهودًا في أُورَشليمَ وفي كلّ اليَهوديَّةِ والسَّامِرَةِ وإلى أقصى الأَرضِ". (أعمال 1: 1-8)

في مطلع سِفر أعمال الرُّسل، يُذكِّر الإنجيليّ لوقا "ثاوفيلس"، بالإنجيل الّذي كان قد أرسلَه إليه، مُخبرًا إيّاه فيه عن أعمال يسوع وتعاليمه الّتي أعطاها لتلاميذه، من بداية حياته العلنيّة حتّى يوم صعوده إلى السّماء. ثمّ يتابع الإنجيليّ لوقا، فيُخبرُ "ثاوفيلسَ" أنّ الربَّ بعد قيامته قد ظهر لتلاميذه، مدّة أربعين يومًا مُعطيًا إيّاهم البراهين على قيامته من الموت. وقَبل صعوده إلى السّماء وَعد الربُّ تلاميذه بإرسال الرّوح القدس إليهم بعد أيّام قليلةٍ على صعوده إلى السّماء، ليكون لهم المعزّي والسَّند لهم في رسالتهم التبشيريّة. لقد ربط الإنجيليّ لوقا، "موعِد الآب" للرّسل، ألا وهو الرّوح القدس، بالمعموديّة، ليقول لنا إنّ المعموديّة الحقّة لا تتمّ من دون الرّوح القدس. حين كان الربُّ يكلِّمهم عن الملكوت السماويّ، كان تفكيرُ الرّسلِ موجّهًا إلى الملكوت الأرضيّ، بدليل سؤالهم له عمّا إذا سيشهدون في حياتهم الأرضيّة على استرجاع اسرائيل الـمُلك الدنيويّ. إنّ حديث الرّسل هذا مع يسوع، ما هو سوى دليلٍ حقيقيّ على تَجَذُّر الذهنيّة اليهوديّة في حياتهم، على الرّغم من اتِّباعهم للمسيح.كان هَمُّ الرُّسل في ذلك الوقت استرجاع اسرائيل الـمُلك، ليتمكّنوا من إدانة العالم والـحُكم عليه. أمام هذا التفكير الأرضيّ، كان جواب الربِّ لتلاميذه إنّ وقتَ استرجاع اسرائيل الـمُلكَ هو مِن صلاحيّات الآب وحده، فهو الوحيد العالِمُ بالأوقاتِ والأزمان. إنّ الوقتَ هو جزءٌ مِنَ الزّمن. وبذلك، أراد الربّ أن يُخبرَ تلاميذه أنّ لا سُلطان لهم لا على الجزء وهو الوقت، ولا على الكامل وهو الزّمن. إنّ الربّ سيُعطي تلاميذه كلّ ما يحتاجون إليه في رسالتهم التبشيريّة، لذا لا داعي لقَلَقِهم بشأن الأوقات والأزمان. إنّ الربّ قد طلب من تلاميذه أن يبشِّروا أوّلاً في أورشليم أي في محيطهم الضَّيق، ومتى نَجوا من الاضطهادات فيه، انطلقوا إلى أماكن أبعَد كاليهوديّة والسّامرة، وإن تمكّنوا هنا أيضًا من النَّجاة من الموت، فلينطلقوا حينها إلى أقصى الأرض، الّتي كانت تشير في أيّامهم إلى روما، أي مركز الإمبراطوريّة الرومانيّة الوثنيّة. إنّ الربّ طلب من تلاميذه الذّهاب إلى روما، لتفكيك الأصنام المتجذّرة في عقول النّاس، والشَّهادة للربّ. إنّ سِفر أعمال الرُّسل يُخبرنا عن موت القدِّيسَين بطرس وبولس في روما، وما هذا سوى دليلٍ على أنّ كلام الربّ قد تحقّق، إذ نجح التّلاميذ، أكان بعضهم أو جميعهم، في إيصال الإنجيل إلى كلّ المسكونة.
يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن المشقّات الّتي عانى منها الرّسل، والاضطهادات الّتي تعرَّضوا لها، في سبيل إعلان البشارة، وبالتّالي هو يشكِّل حافزًا لنا للاقتداء بهم، فنُعلن الإنجيل بكلّ بسالةٍ ودون خوف. كما يُخبرنا هذا السِّفر أيضًا عن سيمون السّاحر الّذي أراد شراء مواهب الله المجانيّة للرّسل من بطرس وبولس، بهدف جذب المزيد من النّاس حوله وتحصيل الأموال منهم. لقد عانى بولس الرّسول من هذه الذهنيّة مع أهل كورنثوس الّذين شكِّوا في هدَفه النبيل في إيصال الإنجيل إليهم، فاعتقدوا أنّه يبشِّرهم مقابل حصوله على القوت الأرضيّ منهم.
عندما هُدم الهيكل سنة سَبعين ميلاديّة، اعتبروا أنّهم خسروا كلّ شيء، لأنّ ثرواتهم قد تعرَّضت للسرقة مِن قِبل الرّومان، وهم أشخاصٌ وثنيّون، لا يهود. في إنجيل لعازر والغنيّ، نقرأ أنّ الغنيّ كان لديه خمسة أخوة، والرّقم خمسة في الكتاب المقدَّس يرمز إلى الكُتب الموسويّة، أي إلى الشريعة اليهوديّة. أمّا لعازر، والّذي يعني اسمه، أنّ "الله هو عَونَه الوحيد"، فقد كانت الكلاب تلحسُ قروحه، والكلاب عند اليهود هي مِن الحيوانات النَّجسة. بعد انتقاله مِن هذا العالم، جلس لعازر في حِضن ابراهيم، إنّ الغنيّ، في هذا النصّ الإنجيليّ، هو إنسانٌ يهوديّ إذ كان يهتمّ بثرواته وأمواله غير آبهٍ للعازر الفقير الـمَرمي عند عَتبَةِ قصره.

إنّ الفقير والمحتاج هو سيِّدُ الكنيسة، وبالتّالي هي مدعوّةٌ لإنقاذه من حاجته تلك، مدعوّة اليوم إلى التخلّي عن الذهنيّة اليهوديّة، فتصُبُّ كلّ اهتمامها في خدمة الفقراء، لا في التفكير بمستقبلها لأنّ الله سيعتني به. إنّ الله قد حرّر الشَعب من العبوديّة في مَصر، ووَعدَهم بإعطاهم أرضيّة ليعبدوه عليها، لا أرضًا خاصَّةً بهم كشعب. غير أنّ كلام الله هذا، كان غير مفهومٍ بالنسبة للكثيرين من اليهود، لذا سعوا إلى إنشاء دولةٍ خاصَّةٍ بهم، على أراضي الشُّعوب الأخرى. إنّ الله لم يحرّر شعبه، من العبوديّة في مَصر، ليقوم هذا الأخير بالسيطرة على شعوبٍ أخرى واستعبادها.

إنّ الرّسل هم مجموعةٌ من المؤمِنِين الّذي نجحوا في التحرُّر مِنَ الذهنيّة اليهوديّة، فقرّروا الاستبسال في نشر كلمة الله، ولو كلّفهم ذلك الموت في سبيل البشارة. لقد فضّلوا الموت بذهنيّة المسيح، على الحياة بذهنيّة يهوديّة، لذا سجدوا للربّ وحده رافضين الخضوع لسواه. إنّ لوقا الإنجيليّ يُعلِن في سِفر أعمال الرُّسل استعداده لتسليم أمانة الإنجيل، لكلِّ مُـحبٍّ لله، الّذي يتوجّب عليه إكمال مسيرة البشارة في المسكونة كلّها، والشَّهادة لكلمة الحقّ حتّى ولو قاده ذلك إلى الاستشهاد في سبيلها. هذا هو دَورنا اليوم، كمسيحيّين، إكمال مسيرة الشَّهادة لكلمة الحقّ على مِثال الرُّسل. وبالتّالي علينا الاحتفال بالأعياد المسيحيّة كالميلاد والفصح والعنصرة، لا كأنّها أحداث تاريخيّة حقّقها الربُّ يسوع وانتهى مفعولها، بل علينا عيش روحانيّـتها كي يظهر مفعولها في حياتنا للآخرين فيؤمِنوا بالربّ، ويحصلوا على الخلاص. ليست الزّينة التّي نراها في المتاجر، هي المسؤولة عن إدخال الفرح إلى قلوبنا لنتمكّن من الاحتفال بالعيد، بل على وجود المسيح في حياتنا أن ينعكس فَرحًا وابتهاجًا للآخرين، فنحتفل بالعيد مع الآخرين. من هنا، تظهر ضرورة العمل على تعميد الذهنيّات اليهوديّة فتُصبح منسجمة مع كلمة الله. وهنا يُطرَح السؤال: ما الهدَف مِن معموديّتنا إن كُنّا لا نزال متمسِّكين بالذهنيّة اليهوديّة؟ ليست المعموديّة عمليّة دَهنٍ بالزيت وتغطيس بالمياه، بل هي عمليّة تظهر قبولك لكلمة الله، واعتلان الرّوح القدس لك. إنّ البعض قد يقول إنّه بما أنّنا قد آمنا بالمسيح واقتبلنا العِماد، فما الفائدة في المشاركة في الذبيحة الإلهيّة؟ إنّ المعموديّة تجعلك ابنًا لله، وهي تَمنَحُك الفرصة لمشاركة أبيك السماويّ في مائدته، لذا تذهب إلى القدّاس. ولكن لا يمكننا الاشتراك في المائدة الإلهيّة إلّا إن كنّا مستعدِّين لها، لذا نقوم في بداية القدّاس باستغفار الله قائلين له "يا ربّ ارحم"، ونتأمّل في الكلمة المقدَّسة، ويذكِّرنا الكاهن بضرورة العيش بسلامٍ مع الآخرين ومحبّة بعضنا البعض، كما أوصانا الربّ، وحين نتمكّن من تحقيق كلّ ذلك، نتقدَّم مِنَ المناولة المقدَّسة الّتي تتمّ في ختام الذبيحة. ولكنَّ الإنسان لا يتصرّف بعد انتهاء الذبيحة كابنٍ لله، في حياته اليوميّة، لذا تظهر ضرورة إعادة الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة كلّ يومٍ، لنتمكّن يومًا بعد يومٍ من تحقيق صورة ابن الله فينا. إذًا، في كلّ ذبيحةٍ إلهيّة، يُعلِن المؤمِن من جديد، قبولَه من جديد، لعطيّة الله له، وهي الملكوت، ويسعى إلى عيشها من خلال محاولاته المتكرِّرة لِعَيش كلام الله والمشاركة في المائدة الإلهيّة مع الله أبيه، وبهذه الطريقة يتخلّى رويدًا رويدًا عن ذهنيّته اليهوديّة ليقبل ذهنيّة المسيح فيه. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
9/10/2018 سِفر أعمال الرّسل - مقدمة الجماعة المسيحيّة
https://www.youtube.com/watch?v=GrGQlypNRyQ&t=1340s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
مقدِّمة
الأب ابراهيم سعد

9/10/2018

إنّ سفر أعمال الرّسل، هو مِحوَر دراستنا الإنجيليّة، هذه السّنة. وسِفْرُ أعمال الرّسل، هو في الظّاهر، قصّةٌ تُخبرنا عن أهمّ ما قام به الرّسل الاثني عشر، وبخاصّةٍ الرّسولَيْن بطرس وبولس، في سبيل إيصال بشارة الإنجيل إلى كافة أقطار المسكونة؛ ولكنّه في العمق "إنجيلٌ خامس"، إذ يتضمّن بشارة الإنجيل. إنّ كاتب سِفر أعمال الرّسل هو الإنجيليّ لوقا، كاتب إنجيل لوقا أيضًا، وهَذان الكتابان يشكِّلان معًا خِمس العهد الجديد. من خلال قراءتنا لسِفر أعمال الرّسل، سنكتشف مسيرة كلمة الله عبر التّاريخ ونموَّها في قلوب المؤمِنين: فالكنيسة لم تنمُ من خلال ازدياد عدد المؤمِنين فيها، بل نَمت بفضل نموّ كلمة الله في قلوب المؤمِنِين. إنَّ كلمة الله أظهرَتْ فعاليَّتَها وقوّتَها على مرّ العصور: فَهِيَ تخرج من فمِ الله، ولا تعود إليه إلّا بعد تحقيقها ما أُرسِلَت من أجله، وهي لا تزال إلى يومِنا هذا، فاعلةً في قلوب المؤمِنِين. إنَّ كلمة الله ليست محصورةً بالإنجيل، إذ قد يَنطُق بها إنسانٌ، أو قد يُعبِّر عنها مؤمِنٌ، من خلال تَصرُّف محبّةٍ يَصدُر عنه، في ابتسامةٍ منه للآخرين على سبيل الـمِثال. لَيْسَت كلمة الله مجرَّد أمثولةٍ نتعلَّمها، بل هي "آلة نحتٍ" تترك في سامِعها بَصمةً لا يكتشفها إلّا بَعد حين.كان هَمُّ الرّسلِ إيصال الإنجيل إلى كلّ المسكونة، لذلك انطلقوا للبشارة بكلمة الله دون تكاسلٍ أو استرخاءٍ، إذ اكتشفوا أنّ كلمة الله هي الّتي تُعطي الحياة، لهم وللآخرين، على الرّغم من كَثرةِ خطاياهم. على كلِّ مؤمِنٍ ألّا يسمح لخطاياه، بِعرقلة مسيرةِ الحياة الّتي تمنحه إيّاها كلمة الله.

إنّ سِفر أعمال الرّسل يَضعُنا أمام تحدِّيات كبرى وكثيرة: تَحَدٍّ في مواجهة الاسترخاء الروحيّ والتكاسل، تَحَدٍّ في مواجهة الإحباط، تَحَدٍّ في مواجهة المرض والموت، تَحَدٍّ في مواجهة إغراءات هذه الحياة، تَحَدٍّ في مواجهة التّرهيب، تَحَدٍّ في مواجهة أفخاخ الشيطان الّتي يَنصُبُها لنا مِن خلال زرْع كلماتِ التردّد والشَّك فينا، مِثلَ: "ربّما"، "لعلَّ"، وتَحَدٍّ في تحديد أولويّاتنا في هذه الحياة. إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من عدم وضوح في الرؤية لمفهوم الحياة، فيُعبِّر عن نظرته السَّوداويّة لها حين يتعرَّض للصُّعوبات الحياتيّة كالألم والمرض والموت، في حين أنَّه يعبِّر عن نظرته التفاؤليّة لها حين يكون في حالة السَّعادة والفرَح. إنّ الحياة هِيَ هي، لا تتغيَّر ولكنّ نظرتنا إليها هي الّتي تتغيَّر، انطلاقًا من الظروف الّتي نمّر بها. إنّ الحياة هي عطيّة مجانيّة من الله، أي أنّها نِعمةٌ للإنسان، وبالتّالي هي غير مرتبطة لا بغنى الإنسان ولا بفقرِهِ، لا بأفراحِه ولا بأحزانِهِ، لا بأهوائه ونزواتِهِ ولا بقداستِهِ وطهارتِهِ، لا بلسانِهِ وما يَصدر عنه، ولا بأُذُنَيه وما يدخل إليهما، أي غير مرتبطة بحواسِهِ. إنّ الله قد وَهَبَ الإنسانَ الحياةَ، ليحرِّرَهُ مِن كلّ ما يُكبِّلُهُ: حواسه وخطاياهُ وأفكاره القديمة؛ وليَمنَحَهُ نمطًا جديدًا في رؤيتهِ للحياة من خلال يسوع المسيح، ومن خلال كلّ شخصٍ على مِثالِ يسوع، أكان خاطِئًا أم صالحًا، غنيًّا أو فقيرًا، أَسوَدَ البشرة أو أبيضَ، كريمًا أو بخيلاً، أمُحبَّبًا كان أم لا. يُخبِرُنا سِفر أعمال الرُّسل عن الاثني عشر رسولاً الّذين انطلقوا في كافة أقطار العالم، مُعلِنِين قيامة المسيح ومبشِّرين بمجيئه الثّاني، لا لِيَدِين البشر على أخطائهم وحسب، إنّما ليَمسحَ دموعَ كلّ حزينٍ. إنّ صُوَر الله المخيفة الّتي نرسُمها في مخيّلَتِنا مِن شأنها أن تدفعنا إلى الخوف مِن الله لا إلى محبّته. إنّ الخوف مِن الله يدفعنا إلى التهرُّب مِن تَحمُّل مسؤوليّة أخطائنا؛ أمّا محبّتنا له، فتَدفعُنا إلى مواجهة الأخطاء والاعتراف بها والسَّعي إلى تصحيحها. إنّ الحريّة والمحبّة هما وَجهانِ لِعُملةٍ واحدة، وهي يسوع المسيح: فالتَّعبير عن الحبّ الحقيقيّ لا يَصدُر إلّا عن إنسانٍ حُرٍّ ومتحرِّرٍ مِن كلّ خوفٍ، والتَّعبير عن الحريّة لا يتمّ إلّا من خلال أفعالٍ صادرةٍ عن حبٍّ لا عن خوف. إنّ الرّسل قد تَعرَّضوا للاضطهادات وتحمّلوا الجلد والسّجن والعذابات كلّها لأنّهم أحبّوا المسيح، فكانوا مستعدِّين للموت من أجل إيصال كلمة الله إلى البشر أجمعين، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرَّسول قائلاً: "فالموت يعملُ فينا، والحياة تَعمَل فيكم" (2 كور4: 13). إنّ الرّسل اقتبلوا الموت، وعيونُهم شاخصةٍ إلى السّماء والابتسامةُ تعلو وجوهَهم، لإدراكهم أنَّ بعض البشر قد نالوا الخلاص إذ اقتبلوا كلمة الله في حياتهم. وإليكم مِثالٌ حيّ، من سِفر أعمال الرّسل (8: 26-40)، عن أحدِ الّذين اقتبلوا المسيح نتيجة تبشير الرّسل: إنَّ وَزير مَلكَةِ الحبشة، الّذي كان خِصِيًّا، قد طلب مِن فيلِبُّس أن يفسِّر له سِفر أشعيا لأنّه لم يكن قادرًا على فَهم ما يَقرأ؛ ففسَّر له الرّسول هذا السِّفر وأخبره عن المسيح، فآمن الخِصيُّ واقتبل المعموديّة، إذ اكتشف أنّ في كلمة الله حياةً له.

إنّ الخلاص لم يُعطَ لنا للتفاخُر به على الآخرين، إنّما لنشهد أمامهم لهذا الخلاص الّذي نِلناه بقيامة المسيح من الموت؛ غير أنّنا اليوم، وللأسف، قد تَخلَّينا عن قانون الحبّ الّذي أعطانا إيّاه الربّ، لنعود إلى القوانين القديمة والفتاوى أي الشريعة القديمة. إنَّ قانونَ الحبّ يجعل المؤمِن عبدًا لِمَن يُحِبّ، وبالتّالي يتحوّل حبّه للآخر إلى عبوديّةٍ قد اختارها طَوعًا؛ أمّا القوانين القديمة كالشريعة، فتُخضِعُ المؤمِن للعبوديّة من دون أن يكون له الحقّ في الاختيار، إنّها عبوديّة قسريَّة. إذ لا مرجعيّة في الكنيسة سوى كلمة الله، وما تتَّخذه الكنيسة، مِن قراراتٍ، حين تكون مجتمعةً، من أعلى مراتبها إلى أدناها، حول كلمة الله، مرجَعها الأساسيّ، لتُدرِك مشيئة الله لها. إنّ كلّ الكنائس على اختلافها تدّعي امتلاكها للحقّ دون سواها من الكنائس، غير أنَّ المسيح موجود في قلوب المؤمِنين وينمو فيها، على اختلاف انتماءاتهم الكنسيّة، وبالتّالي ليست الكنيسة مَن تمتلك الحقّ، بل إنّ يسوع المسيح هو الحقّ وحده. إنّ الكنيسة قد نَمت عبر التّاريخ بفضل نموّ كلمة الله في قلوب المؤمِنين، عليها أن تتشبّه من جديد، بكنيسة الرّسل، الّتي كانت مبنيّة على الشّراكة فيما بينهم في الخيرات السَّماويّة والأرضيّة،كما يُخبرنا سِفر أعمال الرّسل، قائلاً: "وكانوا يُواظِبون على تعليم الرّسل والمشاركة وكَسرِ الخبز والصّلوات"(2: 42). وانطلاقًا مِن مفهوم الرّسل للكنيسة، نُدرِك أنَّ الكنيسة ليست مبنيّة على أعدادٍ غفيرة يُطبِّقون الشريعة، بل هي مبنيّة على كلمة الله الّـتي تنمو في قلوب المؤمِنين فيطبِّقونها في حياتهم انطلاقًا من قانون الحبّ الّذي علّمنا إيّاه الربّ يسوع. وهنا يُطرَح السؤال: أين نحن مِن هذا المفهوم للكنيسة؟ كيف نشهد للآخرين على إيماننا بالربّ يسوع الّذي مات وقام من الموت، ومَنَحنا الخلاص، أي الحياة الأبديّة؟ إنّ المؤمِنِين في عالمنا اليوم، يخافون الشَّهادة للمسيح بسبب خَوفِهم مِنَ الآخر، وفيهم يتحقّق قَولُ يوحنّا الرّسول في رسالته الأولى: "لا خوفَ في المحبّة بل المحبّة الكاملة تنفي عنها الخوف، لأنّ الخوف يعني العِقاب، ومَن يخف لم يكن كاملاً في المحبّة" (1يو 4: 18). إذًا، الخوف يجعل مِنَ المؤمِنِين عبيدًا لِمَا يخافونه. إنّ سِفر أعمال الرّسل ينقل إلينا البشرى السّارة، وهي أنَّ الربّ يسوع قد حرَّرنا من كلّ خطيئة، أي أنَّنا لم نَعُد عبيدًا بعد اليوم، لقد حرّرنا من خلال حبِّه العظيم لنا، الّذي جعله عبدًا لنا، إذ قد أحبّنا للغاية حتّى بَذَل نفسه لأجلِنا. وهنا نطرح السؤال: أيجوز لنا بعد كلّ هذا الحبّ الإلهيّ الّذي نلناه من الربّ على الصّليب أن نعود للعبوديّات البشريّة الأرضيّة من خلال القوانين والفتاوى الدينيّة؟ إنّ الجواب على هذا السؤال هو رَهنٌ بكلِّ مؤمِنٍ.

إنّ الهدف من دراسَتِنا لسِفر أعمال الرُّسل، هو اكتشافنا لروحانيّته، فنتمكّن مِن عيشها في حياتِنا اليوميّة على مِثال الرُّسل. لقد وجّه لوقا الإنجيليّ كتابه هذا إلى شخصٍ اسمه "ثاوُفيلُس" أي إلى الشَّخص نفسه الّذي وجّه إليه كتابه الأوّل "إنجيل لوقا". إنّ اسم "ثاوُفيلُس"، هو اسمٌ يونانيّ لا يهوديّ، أي أنّ "ثاوفيلُس" هو شخص أُمَـمِيّ وثني، لا ينتمي إلى الدِّيانة اليهوديّة، ولكنّه آمَن بالمسيح بدليل إرسال الإنجيليّ لوقا إليه كتابَيْن لإطلاعه على البشرى السّارة وعلى مسيرة كلمة الله في قلوب البشر من خلال المسيرة التبشيريّة للرّسل بها. إنّ "ثاوفيلُس"، هو اسمٌ يونانيّ، مؤلَّفٌ من كلِمَتين: "ثَاو" وتعني الله، و"فِيلُس" وتعني حبيب أو صديق، وبالتّالي يُصبح معنى اسم "ثاوفِيلُس"، صديق الله أو حبيب الله، أي أنّ إنجيل لوقا وسِفر أعمال الرُّسل موجَّهين إلى كلّ إنسانٍ يعتبر نفسه حبيبًا لله أو صديقًا له، أكان أُمَـمِيًّا أو يهوديًّا. لقد قصد الإنجيليّ لوقا بعبارة "عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلِّم به"، الإنجيل الّذي يتضمّن كلّ ما قام به يسوع في رسالته التبشريّة إلى يوم ارتفاعه إلى السَّماء. في دراسَتِنا لسِفر أعمال الرّسل، سنُقارِن ما بين "إنجيل لوقا" و"سِفر أعمال الرُّسل"، لنكتشِف أوجه الشَّبه بينهما، وأوجُه الاختلاف. فمثلاً، إنّ الإنجيليّ لوقا يذكر في إنجيله أسماء الرُّسل الاثني عشر، أمّا في "سِفر أعمال الرُّسل" فيذكُر تلك الأسماء ضمن ترتيبٍ مُعيَّن إذ يضع مقابل اسم كلّ رسولٍ يهوديٍّ، اسم رسول يونانيّ، مُلقيًا الضَّوء على أنّ البشارة بالإنجيل موجَّهة لجميع النّاس، للأمَـمِيِّن واليهود على حدٍّ سواء، فالربّ جاء ليُخلِّص البشر جميعًا دون تمييزٍ أو تفرقةٍ بَيْنَهم. وإليكم مِثالٌ آخر، في إطار المقارنة بين هذين الكتابين: ففي إنجيل لوقا، يذكر الإنجيليّ حدث الصّعود، في مكانٍ مُغاير عن المكان الّذي تمَّ ذِكرُه في سِفر أعمال الرُّسل في سَرد الحَدَث نفسه، مع العِلم أنَّ الكاتب هو نفسه، وسنحاول إيجاد أسباب التَبايُناتِ في هذا الحدث وفي سواه من الأحداث، بين الكِتابَين.
في قراءتِنا لسِفر أعمال الرُّسل، سنكتشِفُ رؤية لوقا الإنجيليّ للكنيسة، فهو حين يصِف لنا حالة الجماعة المسيحيّة الأولى قائلاً: "وكانوا يُواظِبون على تعليم الرُّسل والمشاركة وكَسرِ الخبز والصّلوات"(2: 42)، لا يصِف لنا حالة الكنيسة في أيّامه، بل حالة الكنيسة الّـتي يصبو إليها، أي كنيسةٌ منسجمةٌ مع تعاليم المسيح. فإنّه لو كانت حالة الكنيسة كما يتمنّاها الرّسول وكما يتمنّاها الربّ، ما فائدةُ إذًا، كلّ الرّسائل الّتي كتبها بولس الرّسول للكنائس الّتي بشَّرها، محاولاً إيجاد الحلول للانقسامات والخلافات الموجودة فيها، نتيجةَ عدم فَهمِها الصَّحيح لكلمة الله؟ حين يتفاعل البشر مع بعضهم البعض، لا بُدَّ لهم من الاختلاف والانقسام، فالانقسامات بين النّاس هي نتيجة تَمسُّك البعض منهم بحبِّهم لِذَاتهم، بعبارة أخرى، "الأنا" الّتي تتنامى في الإنسان منذ بدء الخليقة، أي منذ آدم إلى يومِنا هذا. منذ بدء الخليقة، وأخطاء الإنسان هي نفسها، ولا تزال كلمة الله هي أيضًا نفسها لا تتغيّر، ثابتةً وفاعلةً في النُّفوس، فالله لم يتَخلَّ عن الإنسان يومًا، ولم يَخلِف في وُعودِه له، بل حقّقَ جميع مواعيده له، خارقًا كلَّ القوانين البشريّة بقانون الحبّ. لقد خَلَقَ اللهُ الإنسانَ على مِثاله، أي أنّه خَلَقَه كائنًا مُحبًّا، ولكنّ هذا الأخير أساء عيش تلك المحبّة، مُعطِّلاً بذلك مشروع لله الخلاصيّ للبشر. ومن أجل إصلاح ما قام الإنسان بتشويهه، أرسل الله ابنه ليُخلِّص الإنسانَ بشكلٍ نهائيّ، مانحًا إيّاه الحياة الأبديّة. لقد أراد لوقا الإنجيليّ في سِفر أعمال الرُّسل إخبارَنا أنَّ مشروع الله ليس مستحيلَ التّحقيق بسبب شرور البشر، بل ممكنٌ تحقيقه إذ تمكّن بعض المؤمِنِين مِن عيش كلمة الله في حياتهم، فكانوا قدِّيسين في محيطهم. إنَّ المسكونة لن تتزعزع، ما دام هناكَ مؤمِنٌ واحدٌ ملتزِمٌ بكلمة الله وأمينٌ لها. إنّ الله قد خلق الكون كلّه بكلمةٍ منه، وقد سلّمه للبشر، وبخاصّة للمؤمِنِين به. إنّنا نتعمَّق في كلمة الله، لا لكي نزداد عِلمًا ومعرِفةً، بل لكي نسمح لكلمة الله بِنَحْتِنا من الدّاخل. إنّ كلّ نحّاتٍ يعمل من أجل صُنعِ منحوتةٍ تسمّى صنمًا، أمّا كلمة الله فَتَنْحَتُنا لتُكسِّر كلَّ صَنَمٍ في داخلنا، لتتمكّن كلمة الله من إحداثِ تغييراتٍ في حياتنا.

نسأل الله في الختام، أن يمنَحنا نعمة الشَّجاعة والصّبر، لنتمكّن من متابعة مسيرة الشَّهادة للربّ، فتَصِل من خلالنا كلمة الله، إلى "أقصى الأرض"، حسب قولِ بولس الرّسول. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
24/4/2018 رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح الثالث عشر روح المحبّة
https://youtu.be/pfj_v0Zk3UI

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدِّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الثالث عشر
الأب ابراهيم سعد

24/4/2018

"هَذِه المَرَّةُ الثَّالِثَةُ آتِي إِلَيكُم. "على فَمِ شَاهِدَينِ وَثَلاثَةٍ تَقومُ كلُّ كَلِمةٍ". قَدْ سَبَقْتُ فَقُلْتُ، وأَسْبِقُ فَأَقولُ كما وَأنا حاضِرٌ المَرَّةَ الثَّانِيةَ، وأَنا غائِبٌ الآنَ، أَكْتُبُ للّذينَ أَخْطَأُوا مِن قَبْلُ، ولِجميعِ البَاقِينَ: أَنِّي إِذا جِئْتُ أَيضًا لا أُشفِقُ. إذْ أَنتُم تَطلُبونَ بُرهانَ الـمَسيحِ الـمُتكلِّمِ فيَّ، الّذي لَيْسَ ضَعيفًا لَكم بل قَوِيٌّ فيكُم. لِأَنَّهُ وَإِنْ كانَ قَدْ صُلِبَ مِن ضُعفٍ، لَكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ الله. فَنَحنُ أَيضًا ضُعفاءُ فيهِ، لَكِنَّنا سَنَحْيا مَعَهُ بِقُوَّةِ الله مِن جِهَتِكُم. جرِّبوا أَنفُسَكم، هل أَنتم في الإيمانِ؟ امْتَحِنُوا أَنفُسَكم. أَم لَسْتُم تَعرِفونَ أَنفُسَكُم، أنَّ يَسوعَ المَسيحِ هُوَ فِيكُم، إِنْ لَمْ تَكُونوا مَرفُوضِينَ؟ لَكِنَّني أَرجُو أنَّكم سَتَعرِفونَ أَنَّنا نحنُ لَسْنا مَرفُوضِينَ. وَأُصلِّي إلى اللهِ أنَّكم لا تَعمَلونَ شيئًا رَدِيئًا، لَيسَ لِكَي نَظهَرَ نحنُ مُزَكَّينَ، بَلْ لِكَي تَصنَعوا أنتم حَسَنًا، ونَكونَ نَحنُ كأَنَّنا مَرفوضُونَ. لِأَنَّنا لا نستطيعُ شيئًا ضِدَّ الحَقِّ، بل لِأَجلِ الحَقِّ. لِأَنَّنا نَفرَحُ حِينَما نَكونُ نَحنُ ضُعفاءَ وأَنتم تَكُونونَ أَقوياءَ. وهذا أَيضًا نَطلُبُهُ كَمالَكُم. لِذَلِكَ أَكْتُبُ بِهَذا وَأَنا غائِبٌ، لِكَيْ لا أَستَعْمِلَ جَزمًا وَأَنا حاضِرٌ، حَسَبَ السُّلطانِ الّذي أَعطاني إيَّاهُ الرَّبُ لِلْبُنيانِ لا لِلْهَدمِ. أَخيرًا أَيُّها الإِخوَةُ افْرَحوا. اِكْمَلوا. تَعَزَّوا. اِهتمُّوا اهتِمامًا واحِدًا. عِيْشُوا بالسَّلامِ، وإِلَهُ الـمَحَبَّةِ والسَّلامِ سَيَكُونُ مَعَكُم. سَلِّموا بعضُكم على بعضٍ بِقُبلَةٍ مُقدَّسةٍ. يُسلِّمُ عَلَيكم جَميعُ القدِّيسِينَ. نِعمَةُ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ، ومحبَّةُ الله، وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَ جَميعِكم. آمِينَ."

يَختِم بولسُ الرّسول رسالتَه الثَّانية إلى أهل كورنثوس، بِبَرَكة الثّالوث الأقدس، قائلاً: "نِعمَةُ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ، ومحبَّةُ الله، وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ مَعَ جَميعِكم". إنَّ المؤمِن يكتشف حُبَّ الله الآب له، بنعمة الربّ يسوع، فيَدخُلُ في شَرِكَةٍ مع الله مِن خلال الرّوح القدس. وهذه البَركة الثّالوثيّةُ تُشَكِّلُ دستور المؤمِن، إذ تعبِّر عن السّلوك الّذي يريد هذ الأخير اتِّباعه في حياته تعبيرًا عن إيمانه بالثّالوث. إنّ المؤمِن الّذي يعيش وِفق هذا الدَّستور، أي وِفقَ نعمة الربّ ومحبّة الله وشَرِكَةِ الرّوح القدس، هو إنسانٌ يعيش في حالة سلامٍ داخليّ، وهذا السّلام يَظهَرُ جليًّا مِن خلال علاقاتِ المودّة الّتي يَبنِيها هذا المؤمن مع الآخرين من حولِه، فيسلِّم عليهم بقبلةٍ مقدَّسة، لا بقبلةِ غشِّ وغدرٍ، كما كانت قُبلَةُ يهوذا لِيَسوع المسيح، يَومَ سلَّمه إلى الموت. في هذا الإصحاح أيضًا، يُوصي بولس الرَّسول أهل كورنثوس بالفرح الدائم، لأنَّ كلّ حزنٍ عالميّ هو حزنٌ باطل، ولا بُدَّ له أن ينتهي مهما طال أَمَدُه. إنّ الحُزن الحقيقيّ الّذي يعيشه المؤمِن، هو حُزنِه لفقدانِه الربّ نتيجة انغماسه في اقترافه الخطايا، ولِعَدم انتباهِه لحبّ الربّ له. ويدعو بولس أيضًا في هذا الإصحاح أهل كورنثوس، إلى عيش السّلام الّذي يَنبَع مِن داخل الإنسان لا مِن خارجه: إذ لَيْسَ توقُّف المعارك العسكريّة هو مَن يمنَحُ السّلام الحقيقيّ للإنسانَ، بل الربّ يسوع. إنّ السّلام هو فِعلٌ لا نتيجة، أي أنّ السّلام ليس نتيجة توقُّف الحروب، بل هو حالةٌ يعيشها المؤمِن ويعبِّر عنها بأفعالٍ تُثمِر نتائجَ إيجابيّةً على المؤمِن نفسه وعلى الآخرين أيضًا. إنّ السّلام لا يكون نتيجةً إلّا إذا كان مِن ثمارِ الرّوح القدس. إنّ بولس يدعو أهل كورنثوس للتَّوبة عن خطاياهم،كي لا يُضطّر إلى التكلُّم معهم بقساوة حين يَحضُر بَينَهُم، لأنّ غايته مِنَ البشارة هي نشر الإنجيل وخلاص النّفوس، لا مراعاة أهواء البشر الأرضيّة. إنَّ بولس هو إنسانٌ مُتَصالِحٌ مع ذاته إذ لا يسعى إلى إرضاء النّاس بل إلى إرضاء الله. ولذلك، هو يدعو أهل كورنثوس إلى امتحان ذواتهم في الإيمان، فيُدرِكون إنْ كانوا يسعون إلى إرضاء الله أم إلى إرضاء النّاس. وهذا الامتحان للذّات لا يتحقّق في وقت الرّاحة والسّلام، بل في وقت الشِّدة والضِّيق: ففي وقت الصّعوبات والأزمات، يكتشف الإنسان ضُعفَه وحاجتَه إلى الله الّذي يمنحه القوّةَ لتَخطّي كلِّ المشاكلِ الّتي تعترِض حياته. إنّ كلّ قوّةٍ يَستخدِمُها الإنسان على الآخرين لا من أجلهم، لِـهَدمهم لا لبُنيانهم، ليست قوّةً من الله، لأنّها لا تزرع التعزية والرّجاء والفرح والسّلام في النّفوس، بل تُظهِر فقط تكبُّرَ الإنسان. إنّ الإنسانَ مدعوّ في كلّ يومٍ، إلى تَخَطّي ذاته، لكي يكون في كلّ يومٍ أفضلَ من اليوم السّابق. إنَّ عدمَ قُدرةِ الإنسان على تَخطِّي حزنه، تؤدِّي إلى غرَقِه في حالةٍ مِنَ الاكتئاب الّتي ينتج عنها ازدياد القلق والكآبة عنده، وإلى معاناته مِنَ الفتور الروحيّ، وإلى تَقلُّصِ طاقته على المحبَّة، ساعيًا إلى الانعزال إذ يعتقد أنّه بتلك الطريقة سينال الرّاحة الداخليّة. هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا إذ لا يستطيعُ أحدٌ أن يمنح الإنسان الرّاحة الحقيقيّة والفرح الّذي لا يزول، إلّا يسوع المسيح، أي كلمة الله الحيّة والفاعلة فينا.

عند مواجهته للحزن، أكان نتيجة فقدانِ عزيزٍ أو نتيجة شِدِّةٍ أو مِحنةٍ في هذه الحياة، يَغرقُ المؤمِنُ في بحرٍ من الأحزانِ، ويَفقد كلّ قدرةٍ له على الفرح. إنّ المؤمِن الّذي يشعر بعدم قدرته على التخلُّص من الحزن، قد سلَّط في الحقيقة الحزنَ عليه، وأعطاه قوّةً للسيطرة عليه، بعبارةٍ أخرى، لقد جَعلَ مِن الحزن إلهًا له، لذا لا يعود اللهُ قادرًا على نَشل هذا المؤمِن من حزنه. في وقت الصّعوبات، يهَب الله المؤمِنِين به، قوّةً إلهيّة تساعدهم على إخراج الحزن من حياتهم، ومَنْحِهم الفرح الّذي لا يزول. إنّ عبادَتنا لله لن تُلغي المشاكل والأحزان من حياتنا، بل على العكس ستزداد هذه الأخيرة، ولكنّ الربّ سيَمنحُنا النِّعمة للمبادرة إلى حلّ الخلاف، فننطلق لمواجهة الآخر بروح المحبّة، باحثين عن سبيل للسّلام بين الطَرفيَن، فتتجلّى فينا تعزيات الرّوح القدس. إنَّ رَفْضَ أحد أطراف النِّزاع الوصول إلى حلٍّ، هو دليلٌ أكيد على رَفضِه للسّلام. إنّ الصّعوبات والشِّدة الّتي يواجهها المؤمِن، تتحوّل إلى حَقلِ اختبارٍ لصحّة إيمانه: فَمِن خلال تصرّفات المؤمِن، يكتشف هو أوّلاً ثمّ الآخرين، إن كان هو المتكلِّم، أم أنّ الربَّ هو المتكلِّم فيه. إنّ المؤمِن يَنتصرُ على الصُّعوبات مِن خلال تمسُّكِه بالصّبر، الّذي يصِفه البعض بـ "صَبرُ القدِّيسين". إنّ المؤمِن يَعتمِد في حياته نهجًا مبنيًّا على تعاليم المسيح وقِيَمِه، لا على قِيَم النّاس ومبادئها، وبالتّالي لا يحقّ للمؤمِن الانزلاق في مبادئ الآخرين وتناسي مبادئه عند نشوء خلافٍ بينه وبين الاخرين. لا يجوز للمؤمِن أن يتخلّى عن مبادِئه المبنيّة على المسيح بسبب مخلوقٍ آخر على مِثاله، ولكن يحقّ للمؤمِن التخلِّي عنها إذا اكتشف أنّه أخطأ في اختيارِ إلهه، أي أنّه لا يحقّ للمؤمِن أن يتناسى عطايا الله وِنعَمه، من أجل مخلوقٍ ضعيفٍ لم يكتشف حُبَّ الربّ بعد، في حياته. إنّ الفرح الحقيقيّ مبنيٌّ على يسوع المسيح، نبعِ كلِّ فرحٍ، ولا يكتشِفه الإنسان إلّا إذا كان متصالحًا مع ذاته. إنّ الّذين يكرهون الحياة، هم في الحقيقة أشخاصٌ يخافون الموت، إذ يرفضون مواجهة صعوبات الحياة لأنّها تقدِّم لهم صُورًا للموت، كفراق الأحبّة، والمرض، وخيبات الأمل. إنّ الانتحار لا يُعبِّر عن رغبة الإنسان في الوصول إلى الملكوت السماويّ، ولقاء الحبيب، يسوع المسيح، وجهًا لوجه؛ بل يعبِّر عن خوف الإنسان من مواجهةِ إحدى صُوَر الموت في هذه الحياة، فيختارُ هذا الأخير الموتَ سبيلاً للتخلّص من تلك المواجهة، وما الخصومات بين البشر إلّا مِثال حيّ عن ذلك.
إنّ الابتسامة على وَجه المؤمِن تشكِّل إحدى وسائل التبشير بالمسيح. ويقول أحدهم: "إنّ الابتسامة أَمْرُها عجيبٌ: إن رَسَمتَها لحبيبٍ شَعرَ بالرّاحة، وإن رَسمتَها لعدوٍ شعرَ بالنَّدم، وإن رَسَمْتَها لِمَن لا تعرِفه تحوّلت إلى صَدَقة. إنّ الابتسامة هي وجهٌ مِن أوجه التبشير بربِّك". إنّ الابتسامة الصّادقة نابعةٌ من القلب، وغير مرتبطة بالظّاهر. ابتسم للآخَر، وإن لم يقبل ابتسامتك، فإنّه لم يَندَمْ أحدٌ يومًا على ابتسامته الصّادقة. إنّ ابتسامتك الصّادقة هي فُرصَةٌ لك لتُعبِّر عن قِيَمِك ومبادِئِك، كما أنّها تعكس مصالحة الإنسان الّذي يقدِّمها للآخر مع ذاته. إنّ الإنسان الّذي يشعر بعدم قُدرَته على الابِتْسام للآخرين، هو في الحقيقة سَجين "امبراطورِه الدّاخليّ"، أي مشاكله الدّاخليّة وبالتّالي يتوجَّب عليه السَّعي إلى حلِّها، كي يتمكّن من "حَملِ الصّليب"، و"مواجهة الفريسيّين" في هذا العالم، والاستعداد لـ"تجارب البريّة" الّتي سيُخضعِك إليها إبليس. لا يستطيع المؤمِن أن يكون ضعيفًا إن كان يؤمِن حقًّا بأنَّ قوّة الله تعمل فيه. على المؤمِن أن يسعى لحلّ مشاكله أوّلاً، قبل السَّعي إلى حلّ مشاكل الآخرين، فإنّ التناقض بين تصرّفات الإنسان وإيمانه بالله يَنبَع من داخله لا من الآخرين.

إنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من مخاوفِه، مِن دون كلمة الله. وهنا يُطرَح السؤال: ما هو دَورُ كلمة الله في حياتك؟ ما هي مكانتُها في قلبك؟ أَتَترّبع على عرش قلبك، كما يترّبع الـمَلِكَ على عرشه؛ أم أنّك تتعامل معها كأنّها مِن "حاشية الـمَلِك"، أي أنّها مجرَّد خادمةٍ لأهوائك، فلا تستعين بها إلّا إن كان فيها ما يبرِّر لك نزواتك الأرضيّة؟ إنّ المؤمِن هو الّذي يحدِّد دَورَ كلمة الله في حياته، فقراره هذا يعكس رغبته في هذه الحياة. إنَّ مُعاشَرَتَكَ لكلمة الله، يُوضِح لك حقيقة الصُّعوبات الّتي تواجهك في الحياة، فلا تُقلِّل من قيمتها ولا تُعظِّم شأنها: فإنّ اهمالها يؤدِّي إلى تفاقم الأمور سوءًا، أمّا تعظيمها فيؤدِّي إلى تفاقم وَضعِك الدّاخليّ، إذ تزرع فيك أوهامًا ومخاوفَ لا وجود لها. أمام صعوبات الحياة، على المؤمِن أن يكون كالرّقم "واحد" في جدول الضّرب، الّذي يُعطي الرّقم المضروب به قيمته الحقيقيّة من دون زيادةٍ أو نُقصانٍ. في وقت الشِّدة، على المؤمِن أن يلتجئ إلى كلمة الله، فيلتهب بنار الرّوح، روح التعزية والسّلام، ليتمكّن من إيجاد الحلول لمشاكله. وإذا فَشِل المؤمِن في إيجاد الحلّ لبعض المشاكل الّتي تواجهه، فعليه الثَّبات في كلمة الله، من دون السّماح لمشاكل هذا العالم بالتأثير على جوهره الدّاخليّ. إنّ محبّة الله تكون سبب فرحٍ للمؤمِن في وقت الرّاحة والسّلام، ولكنّها تتحوّل إلى مصدرِ إزعاجٍ له في وقت الشِّدة والصُّعوبات، لأنّها تفرِض عليه الثَّبات في إيمانه وَقتَ المِحَن. إنّ الثَّبات في الإيمان بكلمة الله، لا يعني أبدًا عدم الحزن في صعوباتنا، بل تعني عدم استسلامِنا للحزن كَمَن لا رجاء لهم، لإدراكنا أنّ هذا الحزن سوف يؤول إلى فَرحٍ لا نستطيع إدراكه الآن. إنّ المؤمِن سيكتشِف مع مرور الزَّمن، أنّه قد نال الخلاص، من خلال تَخطِّيِه لصعوبات الحياة، من دون أن تتمكّن الخطيئة من إغراقه في فِخاخها، وهذا سيسبِّبُ له فرحًا عظيمًا.
إنّ الحياة هي سلسلةٌ من خيبات الأمل يتعرَّض لها المؤمِن، ولكنّها تَحمِل له أيضًا، في طيّاتها، الرّجاء والأمل. على المؤمِن أن يختار إن كان يريد أن ينظر إلى الحياة من منظارِ أنّها سلسلةٌ من خيبات الأمل، أو أنّها سلسلةٌ من الأحداث الّـتي تبعث فيه الرّجاء والأمل. فمثلاً، في سرّ الافخارستّيا، قد يتحجّج بعض المؤمِنين بخطاياهم لعدم التقرّب من سرّ القربان الأقدس، وبذلك تكون خطيئتهم قد نجحت في إبعادهم عن الله؛ أمّا آخرون فقد يتقرّبون من سرّ المناولة المقدَّسة على الرّغم من خطاياهم، لأنّ رَغبَتَهم في التقرّب من الربّ أقوى من خطاياهم. إنّ الربّ قد جاء من أجل المرضى لا من أجل الأصحّاء، فالخطأة يحتاجون إلى الربّ لمساعدتهم على تنقية نفوسهم من الخطيئة، وبالتّالي عليهم التقرُّب، قَبلَ الأبرار، من سرّ المناولة المقدَّسة. في سرّ المناولة المقدَّسة، يَعرفُ الخطأة عدم استحقاقهم لِتَناول جسد الربّ المقدَّس، وبالتّالي يُدرِكون أنَّ تلك المناولة المقدَّسة هي عطيّةٌ مجانيّة من الربّ لهم. إذًا، على الخطأة الاقتراب من سرّ المناولة المقدَّسة لا الابتعاد عنها بسبب خطاياهم.

إنّ المناولة المقدَّسة ليست مكافأة للمؤمِن نتيجة برارته إنّما هي دواءٌ للقضاء على خطيئته. إنّ الله يُعطينا ذاته في سرّ القربان المقدَّس فنتقرَّب منه لننال الغفران والمسامحة والتعزيات الإلهيّةكعطايا مجانيّة منه، على الرّغم من خياناتنا المستمرّة وعدم التزامِنا بوعودنا المتعدِّدة له. وبالتّالي إن كُنّا نقبل عطايا الله لنا، ومسامحته لنا، أفلا يجب أن نُعامِل الآخرين كَما يُعامِلنا الله؟ بلى، علينا أن نتعلّم من الله،كيف نعيش الرّحمة والغفران مع إخوتنا البشر، فنتخلّى عن خلافاتنا الأرضيّة التّافهة، المبنيّة على أوهامٍ بشريّة. على كلّ مؤمِن أن يتذكّر أنّه لا يعرِف ساعة انتقاله من هذه الحياة، لذا عليه أن يعيش كلّ لقاءٍ له مع الآخر، كأنّه لقاؤه الأخير على هذه الأرض، ممّا سيؤدِّي إلى تغيير نظرته إلى الأمور مِن حَولِه. هذا ما نلاحظه جلِيًّا عند إخوتنا المشرفين على الموت، الّذين يحاولون في تلك اللّحظات الأخيرة من حياتهم الأرضيّة طَلب الغفران من الّذين أساؤوا إليهم، ومسامحة جميع المذنبين، عند معرِفتهم باقتراب ساعة لقائهم الأبديّ بالربّ، وخير مِثالٍ حيٍّ لنا هو لصّ اليمين الّذي طلب السّماح من الربّ على ما اقترفه من خطايا، قبل دُخوله للملكوت السماويّ. وهنا نطرح السؤال: هل تستحقّ هذه الحياة أن نستمرّ في خصوماتنا مَع مَن حَولنا؟ ألا تستحقّ هذه الحياة أن نعيشها بسلام مع إخوتنا المحيطين بنا، فنتصالح مع الجميع، كما يفعل إخوتنا المشرفين على الموت، قُبَيل انتقالهم من هذا العالم؟ غريبٌ هو عالم البشر، إذ يعيشون طوال حياتهم الأرضيّة في مخاصماتٍ مع مَن حولهم، وعند ساعة انتقالهم، لا يَذكُر الأحياء في هذه الأرض سوى حسنات المنتقل من بينهم، على الرّغم من السُّمعة السيئة لبعض المنتقلين. أَلَم يكن الأَجدر بنا رحمته حين كان لا يزال في هذه الحياة؟ غريبٌ هو سرّ الموت، الّذي يجعلنا، نحن قُساة القلوب، ينابيع رحمة وحنان تجاه إخوتنا في ساعة انتقالهم من هذا العالم. وهنا السؤال يُطرَح: ما هو سرّ تلك الرّحمة الفُجائيَّة عندنا: أَهوَ خوفُنا من معاملة الربّ لنا بقسوةٍ، حين نحضر أمامه في اليوم الأخير، على مِثال معامَلَتنا لإخوتِنا البشر، أم هو نتيجة اكتشافنا لعظمة محبّة الربِّ ورحمته؟ إنّ المؤمِن وحده يعرِف الجواب على هذا السؤال. وهنا نطرح سؤالاً آخر: إن كان باستطاعتِنا معاملة إخوتنا بالرَّحمة في ساعة الموت، ألا نستطيع عيش الرَّحمة تجاههم طوال أيّام السّنة؟ على المؤمِن أن يتصرّف مع الآخرين لا انطلاقًا من خوفِه من الله، بل انطلاقًا من محبّته لله، وبالتّالي لِتَحيا حياتك بسلام، عليك أن تصفح عن سيِّئات الآخرين تجاهك.

إنّ كلمة "الصَّفح"، تعني المغفرة للآخرين، وبإبدالنا أماكن الحَرفَين الأوّلين من هذه الكلمة، نحصل على كلمة جديدة، وهي "الفِصح"، وتعني القيامة، وهي تعبِّر عن قمّة الرّجاء المسيحيّ. وبالتّالي لا وجود لقيامة حقيقيّة في حياتنا، إن لم نَصفح بعضنا عن بعضٍ. في القيامة، صَفحَ الله عنّا، ومَحا كلّ خطايانا، وفَتَح معنا "صَفحةً جديدة"، فاتحًا لنا أبواب السّماء، وَجَعَلَنا أبناءه، أبناء الملكوت. لذا، علينا التشبُّه بالله، وفَتِح "صَفحاتٍ جديدة"، مع الـمُسيئين إلينا، لنتمكّن من العبور من خلال "الصَّفح" إلى "الفِصح" الحقيقيّ. فمن خلال صَفحِنا للآخرين، يمَنحُنا الربُّ مكافأةً عظيمةً، وهي الفِصح، أي نعمة العبور لمشاركته في ملكوته السماويّ.
بعد حصولِنا على كلّ هذا الفرح السماويّ من الله، ماذا يَنفعنا بعد ذلك استمرارنا في الخصومات مع البشر؟ إخوتي، فلنفرَح، ولنُسامح بعضنا بعضًا، لأنّه لا يوجد في هذه الحياة، ما يستحقّ أن نخسر من أجله الملكوت السماويّ. علينا أن ننظر إلى الحياة فنقول: إنّ الحياة جميلةٌ رُغم بشاعتها، لا الحياة بشِعة رغم حلاوتها. إنّ نظرتنا إلى الحياة هي الّتي تُحدِث فرقًا في حياتنا: فلنعِش حياتنا بسلام، من دون التفكير في محاسبة الآخرين إن كُنّا نرغب حقًّا في مسامحتهم، وعيش الرّحمة تجاههم. إخوتي، إنّ معاملة الآخر لنا، لا تؤثِّر على قيمتنا الحقيقيّة، لأنّ قيمتنا الحقيقيّة نستمِدُّها مِن نظرة الربِّ إلينا. انطلاقًا من هذه النَّظرة الجديدة إلى الحياة، تَحَمَّل بولس عذاباته وتعزّى بكلمة الله، فأخبر أهل كورنثوس بالاضطهادات الّـتي نالها، مُعطيًا إيّاهم تعزية لتَحمُّل صعوباتهم . لقد مات بولس ومات أهل كورنثوس، وبَقِيَت كلمة الله فاعلة في قلوب الّذين قَبِلُوها عبر العصور.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
17/4/2018 رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح الثاني عشر مشاكل كنيسة كورنثوس
https://youtu.be/Q20pBNQuEGU

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدِّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الثاني عشر
الأب ابراهيم سعد

17/4/2018

"إِنَّهُ لا يُوافِقُني أن أفتَخِرَ. فإنِّي آتي إلى مَناظِرِ الربِّ وإِعلاناتِه. أَعرِفُ إِنسانًا في المسيحِ قَبلَ أرْبَعَ عشرَةَ سنةً. أَفِي الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ، أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. الله يَعلَمُ. اخْتُطِفَ هذا إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ. وَأَعرِفُ هذا الإِنسانَ: أَفِي الجَسَدِ أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. اللهُ يَعلَمُ. أَنَّهُ اخْتُطِفَ إلى الفِردَوسِ، وسَمِعَ كَلِماتٍ لا يُنطَقُ بِها، ولا يَسُوغُ لإنسانٍ أنْ يَتَكَلَّمَ بِها. مِن جِهةِ هذا أَفتَخِرُ. وَلَكِنْ مِن جِهةِ نَفسي، لا أَفتَخِرُ إلّا بِضَعَفاتِي. فإنِّي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَفتَخِرَ لا أَكُونُ غَبيًّا، لأَنِّي أَقولُ الحقَّ. وَلَكِنِّي أَتحاشَى لِئَلّا يَظُنَّ أَحَدٌ مِن جِهَتِي فَوقَ ما يَراني أَو يَسمَعُ مِنِّي. وَلِئَلّا أَرتَفِعَ بِفَرْطِ الإِعلاناتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً في الـجَسَدِ، مَلاكَ الشَّيطانِ لِيَلْطِمَني، لِئَلّا أَرتَفِعَ. مِن جِهةِ هذا تَضَرَّعْتُ إلى الربِّ ثَلاثَ مرّاتٍ أَنْ يُفارِقَني. فَقالَ لي: "تَكْفِيكَ نِعمَتي، لِأَنَّ قُوَّتِي في الضُّعفِ تُكمَلُ". فَبِكُلِ سُرورٍ أَفتَخِرُ بِالحَريِّ في ضَعَفاتِي، لِكَي تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الـمَسيحِ. لِذَلِكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ وَالشَتائِمِ والضَّروراتِ والاضْطِهاداتِ والضِّيقاتِ لِأَجلِ الـمَسيحِ. لِأَنِّي حِينَما أَنا ضَعيفٌ، فَحِيْنَئِذٍ أَنا قَوِيٌّ. قَدْ صِرْتُ غَبِيًّا وَأَنا أَفتَخِرُ. أَنتُم أَلزَمْتُمونِي! لِأَنَّهُ كانَ يَنبَغي أَنْ أُمْدَحَ مِنكم، إِذ لَمْ أَنْقُصْ شَيئًا عَنْ فائِقِي الرُّسُلِ، وإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيئًا. إِنَّ عَلاماتِ الرَّسولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُم في كلِّ صَبرٍ، بِآياتٍ وَعَجائِبَ وَقُوَّاتٍ. لِأَنَّهُ ما هُوَ الّذي نَقَصْتُم عن سائِرِ الكَنائِسِ، إلّا أَنِّي أنا لَم أُثَقِّلْ عَلَيْكم؟ سامِحُوني بِهذا الظُّلْمِ! هُوَذا الـمَرَّةُ الثَّالِثَةُ أَنا مُستَعِدٌّ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُم ولا أُثُقِّلَ عَلَيْكم. لِأَنِّي لَسْتُ أَطْلُبُ ما هُو لَكُم بل إِيّاكُم. لِأَنَّهُ لا يَنبَغي أنَّ الأَولادَ يَذْخَرُونَ لِلوالِدِينَ، بَل الوَالِدونَ للأَولادِ. وَأَمّا أنا فَبِكُلِّ سُرورٍ أُنْفِقُ وَأُنفَقُ لِأَجلِ أَنفُسِكُم، وَإنْ كُنْتُ كُلَّما أُحبِّكُم أَكثَرَ أُحَبُّ أَقلَّ! فَليَكُنْ. أَنا لَمْ أُثقِّلْ عَليْكُم، لَكِنْ إذْ كُنتُ مُحْتالاً أَخَذتُكم بِمَكْرٍ! هلْ طَمِعْتُ فيكُم بأَحدٍ مِنَ الَّذينَ أَرسَلْتُهم إِلَيْكُم؟ طَلَبْتُ إلى تِيطُسَ وَأَرسَلْتُ مَعَهُ الأَخَ. هل طَمِعَ فيكم تِيطُسُ؟ أَمَا سَلَكْنا بِذَاتِ الرُّوحِ الواحِدِ؟ أَمَا بِذاتِ الخَطَواتِ الواحِدَةِ؟ أَتَظُنُّونَ أَيضًا أنَّنا نَحتَّجُ لَكم؟ أمامَ اللهِ في الـمَسيحِ نتكلَّمُ. وَلَكِنَّ الكُلَّ أيُّها الأحبّاءُ لأجلِ بُنيانِكُم. لأَنِّي أَخافُ إِذا جِئْتُ أنْ لا أَجِدَكُم كَما أُريدُ، وَأُوجَدَ مِنكُم كَما لا تُريدُونَ. أَنْ تُوجَد بَينَكم خُصُوماتٌ وَمُحاسَدَاتٌ وَسَخَطاتٌ وَتَحَزُّباتٌ وَمَذَمّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وتَكَبُّراتٌ وتَشْوِيشاتٌ. أنْ يُذِلَّني إِلَهي عِندَكُم، إذا جِئتُ أَيضًا وَأَنوحُ على كَثيرينَ مِنَ الّذينَ أَخطَأُوا مِن قَبْلُ وَلَم يَتُوبوا عَنِ النَّجاسَةِ والزِّنى والعَهارَةِ الّتي فَعَلوها."

في هذا الإصحاح، يُعاتِب بولس الرّسول أهل كورنثوس، كما يُعاتِب الأب أبناءه، إذ يرغب في تقدُّمهم الروحيّ في مسيرة الإيمان، لا في بقائهم على حالتهم الّـتي كانوا عليها قَبل قبولهم الإنجيل. إنّ بولس يُعاتِبهم، في غيابه عنهم، من خلال هذه الرِّسالة، كي لا يُضطّر للتكلّم معهم بقسوةٍ، حين يحضر فيما بينهم. لقد شارك بولسُ أهلَ كورنثوس خِبرتَه الروحيّة الخاصّة، حين قال لهم: "أَعرِفُ إِنسانًا في المسيحِ قَبلَ أرْبَعَ عشرَةَ سنةً. أَفِي الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ، أَم خارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعلَمُ. الله يَعلَمُ. اخْتُطِفَ هذا إلى السَّماءِ الثّالِثَةِ". كان الرّسول بولس يتكلّم عن ذاته في قولِه: "أعرِف إنسانًا"، وقد عبَّر عن علاقته المتينة بالله باستخدامه عبارة "السّماء الثّالثة"، للدلالة على عُمق تلك العلاقة وعلى عدم إمكانيّة أيِّ مخلوق إدراكها حتّى بولس نفسه. كان بولسُ الرّسول مُحِبًّا للخدمة الرّسوليّة، لذا طَلب مِنَ الربّ أن يَنزعَ منه كلّ عائقٍ يمنَعُه مِنَ التقدُّم في رسالته التبشيريّة قائلاً: "أُعْطِيتُ شَوْكَةً في الـجَسَدِ، مَلاكَ الشَّيطانِ لِيَلْطِمَني، لِئَلّا أَرتَفِعَ. مِن جِهةِ هذا تَضَرَّعْتُ إلى الربِّ ثَلاثَ مرّاتٍ أَنْ يُفارِقَني". كَثُرت الشروحات حول هذه العبارة، فاعتقد البعض أنّ بولس يُعاني مِن إعاقةٍ جسديّة حركيّة، أو مِن شِحٍّ في نظره، في حين اعتبر البعض أنّه يُعاني من ألَمٍ في مَعِدَته، أمّا آخرون فوَجدوا أنّه يُعاني من مَرضٍ غير معروفٍ إلّا مِن قِبَل الله وبولس فقط. ردًّا على طَلَبِ بولس الرّسول الثّلاثيّ حول نزْعِ شَوكةٍ مِن جسده، أجابه الربُّ قائلاً: "تَكْفِيكَ نِعمَتي، لِأَنَّ قُوَّتِي في الضُّعفِ تُكمَلُ". ليس المقصود بهذا الكلام، أن يحاول بولس الرّسول تحويلَ ضُعفه البشريّ إلى مَصدَرِ قوّةٍ بشريّة، ولا المقصود دَفْعَه للتباهي بضُعفه، بل المقصود أن يسمح هذا الأخير للربّ بأن يُظهِر قوَّته الإلهيّة من خلال ضُعفِ بولس الإنسانيّ. وهذا ما عبَّر عنه بولس بالقول: "لِأَنِّي حِينَما أَنا ضَعيفٌ، فَحِيْنَئِذٍ أَنا قَوِيٌّ". أمّا في عالمنا اليوم، فإنّنا نتحجَّج بضُعفِنا البشريّ لمقاطعة الله، والتهرّب من خِدمة الآخرين. فمثلاً، عندما نكون في حالة غضبٍ أو معاناةٍ من أَلمٍ جسديّ، نتشاجر مع الجميع متحجِّجين بضُعفِنا البشريّ.

ليس من السَّهل على الإنسان الافتخارُ بضُعفِه، فالافتخارُ بالضُّعف يحتاج إلى علاقة متينةٍ مع الله، كما كانت علاقة بولس بالله، وكما كانت علاقة يسوع المسيح بأبيه. لقد كان الربّ يسوع مُعلَّقًا على الصّليب، والصّليب كما هو معروفٌ، هو علامةٌ للعار والضُعف. ولكنّ الربّ بقبولِه الآلام، استطاع إظهار قوّة الله، إذ اعترف قائد المئة عند أقدام الصّليب بحقيقة المسيح، قائلاً فيه: "كان هذا حقًا ابن الله" (لو 23: 47). إنّه لسِرٌّ يصعبُ على الإنسان إدراكُه كيف يتحوَّل ضُعفه البشريّ إلى مكانٍ يُظهِرُ الربّ فيه قوّته الإلهيّة. إنّ قوّة الله تظهر من خلال الضُّعف البشريّ، حين يسلك الإنسان في حياته كما سلك الربّ في حياته، فيتحمّل المؤمِن صعوبات هذه الحياة بإيمانٍ ورجاء، كما تحمَّل المسيح آلامه على الصّليب، فيكون بذلك علامةَ رجاءٍ، وشاهدًا حقيقيًّا لقوّة الله الفاعلة في حياته. إنَّ عبارة "السّماء الثّالثة"، تؤكِّد إيمان المسيحيّين بأنّ السّماء مؤلّفة من عدّة طبقاتٍ، ولكنَّ بولس استخدمها ليُعبّر عن عُمق علاقته بالربّ، إذ يسعى لمطابقة أفكاره بفكر الله، متخلّيًا عن أفكاره البشريّة.
لقد استطاع بولس التمييز بين واجبه الرّسوليّ تجاه أهل كورنثوس، وبين ضُعفه: فهو لم يرضخ للاضطهادات والإشاعات الّـتي تعرَّض لها، بل ثابرَ في رسوليّته ناشرًا الإنجيل في كلّ المسكونة. لقد اتَّهمَ أهل كورنثوس بولسَ الرّسول بطَمَعه في الحصول على القوت الأرضيّ مقابل بشارته لهم بالإنجيل؛ لذا رَفَضَ بولسَ كلّ تقدِماتهم الماديّة مخافةَ أن يُساهم قبولُه بها في تعطيل الإنجيل، إذ إنّ هَدفه من البشارة لا الحصول على القوت الأرضيّ، بل الحصول على أهل كورنثوس أبناءً لله في الإيمان. أمام هذا الافتراء على بولس مِن قِبَل أهل كورنثوس، انتقل بولس إلى مدينة أخرى، مُعيِّنًا أحد تلاميذه وهو تيطس، لمتابعة الرِّسالة في كورنثوس، فسلك هذا الأخير على مِثال بولس معلِّمه، رافضًا كلّ تقدِمات أهل كورنثوس الماديّة، ساعيًا إلى التبشير بالمسيح لِما في ذلك مِن خلاص لنفوس أهل تلك المدينة، عند قبولهم بالإنجيل.
في هذا الإصحاح، عبّر بولس لأهل كورنثوس عن استعداده لإِنفاق كلّ أمواله في خدمتهم في البشارة، وعن استعداده للموت من أجلهم إن كان في ذلك خلاص نفوسهم، إذ قال لهم: "وَأَمّا أنا فَبِكُلِّ سُرورٍ أُنْفِقُ وَأُنفَقُ لِأَجلِ أَنفُسِكُم، وَإنْ كُنْتُ كُلَّما أُحبِّكُم أَكثَرَ أُحَبُّ أَقلَّ!". بالنسبة إلى بولس، إنّ المحبّة تُتَرجم من خلال الخدمة، وقد وَجد نفسه مقصِّرًا في محبّته لأهل كورنثوس نظرًا لمسيرتهم المليئة بالمحاسدات والتحزّبات والنميمات وسواها من الأمور الّتي لا يرضاها الله، لذلك قرّر بولس مُضاعفة حبِّه لهم، ليتمكّنوا من إصلاح مسيرتهم الإيمانيّة. كان باستطاعة بولس الاحتيال على أهل كورنثوس للحصول على رِضاهم، لكنّه فضَّل أن يبقى أمينًا لكلمة الله، ولو كلَّفه ذلك المزيد من الإشاعات والرّفض لرسوليّته.

إنّ الآية الأخيرة من هذا الإصحاح:" أنْ يُذِلَّني إِلَهي عِندَكُم، إذا جِئتُ أَيضًا وَأَنوحُ على كَثيرينَ مِنَ الّذينَ أَخطَأُوا مِن قَبْلُ وَلَم يَتُوبوا عَنِ النَّجاسَةِ والزِّنى والعَهارَةِ الّتي فَعَلوها"، تُلقي الضوء على مشكلة أساسيّة في كورنثوس، وهي عدم رغبة بعض أهلِها إعلان توبتهم عن أخطائهم، على الرّغم من مجيء بولس إليهم عدّة مرّات. في رسالته التبشيريّة، كان بولس يبشِّر مدينة تِلو الأخرى، وما إن يقبل أهلُها الإيمان، حتّى يترك المدينة لرعاية أحد تلاميذه، منتقلاً للتبشير في مدينةٍ أخرى، ولا يعود إليها إلّا للضّرورة القصوى. كان التّلاميذ ينقلون إلى بولس أخبار المؤمِنِين الجُدد، وحين كان يرى بولس ضرورة للتدّخل لحلّ إحدى المشاكل، كانت الرسائل الّتي يُرسلها لهم كافيةً لذلك. إذًا، لم يكن بولس يكرِّر زياراته للـمُدُن الّتي يبشِّرها إلّا عند الضرورة القصوى، أمّا في كورنثوس فهو اضطّر نتيجة كثرة المشاكل فيها، إلى زيارتها ثلاث مرّات وهذا ما لم يكن مألوفًا في مسيرة بولس التبشيريّة.
في ظلّ هذا الوضع المتأزِّم في كورنثوس، نطرح السؤال: ما هو السبب الأساسيّ لوجود كلّ هذه المشاكل؟ بكلمة واحدة، إنّه الخوف. إنّ الخوف يدفع النّاس إلى ارتكاب الخطايا، والتكبُّر على الآخرين. إنّ المتكبِّر هو إنسانٌ يخاف الآخرين، ولا يشعر بالأمان إلّا بإخضاع الآخرين له، أو بإلغائهم؛ وخَيرُ مِثالٍ لنا على ذلك هم الديكتاتوريّون الّذين عَرَفهم التّاريخ البشريّ. ليس بالضرورة أن يكون الإنسان الخائفُ متكبِّرًا، ولكنَّ كلّ إنسانٍ متكبّرٍ هو إنسانٌ خائفٌ بكلّ تأكيد. إنّ الخوفَ يُفقِد الإنسانَ أمانَه، لذلك يلجأ هذا الأخير إلى الانغلاق على ذاته والابتعاد عن الآخرين. هذا ما اختبره الرّسل في العليّة، بعد موت يسوع وقبل حلول الرّوح القدس عليهم، إذ يقول لنا الإنجيليّ يوحنّا إنّه "في مساء ذلك اليوم، يوم الأحد، كان التّلاميذ في دارٍ أُغلِقَت أبوابُها خوفًا مِنَ اليهود" (يو 20: 19). إنّ الخوف يقطع كلّ جسور التواصل بين البشر، أمّا المحبّة فتَبنِيها، ولذلك قال يوحنّا الرّسول: "إنّ المحبّة تطرد الخوف"، وأنا أُضيفُ قائلاً: "والخوف يطرد المحبّة خارجًا"، إذ لا يستطيع الإنسان أن يُحِبَّ مَن يخاف مِنه. فكما أنّ الموت لا يلتقي مع الحياة، كذلك الخوف لا يلتقي مع المحبّة. إنَّ الخوف يرسم لك صُوَر الموت، أمّا المحبّة فتَرسُم لك صُوَر الحريّة الّتي تمنحُكَ الحياة. لا يستطيع الإنسانُ التخلُّصَ مِن خوفه إلّا من خلال كلمة الله المحرِّرة: فكلمة الله وحدها قادرة على طرد كلّ خوفٍ من حياة الإنسان، أخارجيّ كان أم داخليّ بسبب نقائصه؛ وهي قادرة على تحويل ضُعفه البشريّ إلى مكانٍ لإظهار قوّة الله. إنَّ نقائص الإنسان البشريّة، كالمرض والإعاقة، قد تشكّل عائقًا أمام خَدَمته للآخرين، ولكنّها لا تستطيع منعَهُ مِن محبّتهم، وهنا نتذكِّر قول بولس الرّسول إنّ لا شيء يستطيع أن يفصِلنا عن محبّة المسيح: لا شِدّة ولا ضيق، ولا أيّ نوعٍ آخر من الاضطهادات. لقد دَفع الخوفُ آدمَ إلى ارتكابِ الخطيئة، ودفعَ الرّسلَ إلى الهرب بدلاً مِن مرافقة يسوع المسيح، معلِّمهم، في ساعاته الأخيرة على هذه الأرض.

إنّ كلّ مخاوف الإنسان مرتبطةٌ بشكلٍ أساسيّ بخوفه من الموت، وبالتّالي حين يَطمئنُّ الإنسان لاندثار الموت، يزول كلّ سببٍ لخوفه في هذه الحياة. يخاف الإنسان مِن تعرُّضه للمَرَض لأنّه يخاف أن يؤولَ به هذا المرض للموت؛ كما أنّه يخاف من الجوع، بسبب خوفه من الموت. إنَّ الخوفَ نوعان: "خوفٌ مِن"، و"خوفٌ على". إنَّ خَوفكَ على الآخر يدفعُكَ إلى مضاعفةِ حبِّك له، فَيَكون حبُّك سَنَدًا له ودعمًا يساعده في تَخطّي صعوباته، وبالتّالي يكون خَوفك عليه مقوِّيًا لحبِّك له. أمّا الخوف مِن الآخر، فيطرد الحبَّ خارجًا، لذلك فإنّ الإنسان الّذي يخاف من الموت، يموت نفسيًّا وروحيًّا قبل موتِه الجسديّ. إنَّ الإنسان الّذي لا يخاف من الموت هو إنسانٌ لا يرى في الموت إلّا وسيلةً للعبور من هذه الحياة للقاء الحبيب، يسوع المسيح. وبولس الرّسول لا يخاف الموت، بل يعتبره جسر عبورٍ من هذه الحياة للقاء الحبيب، يسوع المسيح، لذلك لم يَخجلْ مِن تعداد مُعاناته أمام أهل كورنثوس. وقد عبّر الرّسول بولس عن شوقه لمغادرة هذه الحياة، حين قال في إحدى رسائله، إنَّ حياتَه هي المسيح، والموت رِبحٌ له. إنَّ بولس يتمنّى الموت من أجل اللّقاء بالربّ، ولكنّه طالما أنّه لا يزال على قيد الحياة، فهو لن يتوقَّف عن خِدمة الكنائس والتبشير بالإنجيل. إنّ الربّ قد حرّر بقيامته من الموت، البشريّة جمعاء مِن خوفها من الموت، إذ انتصر الربُّ عليه وأفقدَه كلّ سُلطانٍ له على البشر. وبالتّالي على البشر، أن يُعطُوا الموتَ قيمتَه الحقيقيّة، فلا يُعظّموه كأنّه نهاية كلّ شيء، ولا يُقلِّلوا من أهميّته، فيعيشوا حياةً لا تعكس استعدادهم للقاء الحبيب، يسوع المسيح. إنَّ الإنسان الّذي يدّعي خَوفه على الله، هو في الحقيقة إنسانٌ يَخاف منه: إذ إنّه، بحجّة الدِّفاع عن الله، يقتلُ الآخرين ويؤذيهم، وهذ ما تقوم به الجماعات الإرهابيّة المتعصّبة، الّتي يخاف أعضاؤها من عقاب الله لهم في اليوم الأخير، لذلك يسعوَن إلى فرضِ معتقداتهم الدِّينية على الآخرين بالقوّة. إنّ خوفَنا على الله نختبرُه في حياتنا اليوميّة، إذ قد نتشاجر مع الآخرين بحجّة الدِّفاع عن الله، فلا نقبل بآرائهم، مُدّعين أنّ الحقيقة هي مِلكٌ حصريٌّ لنا دُون سوانا من البشر. إنّ تَصَرُّفَنا هذا مع الآخرين لا يعكِسُ خوفَنا على الله، إنّما خوفَنا مِن تهميش الآخرين لنا، بعبارة أخرى، خوفَنا من العزلة الّتي تشكِّل إحدى صُوَر الموت. إنّ الإنجيل يتضمّن بشرى سارّة للمسكونة بأسْرِها إذ يُقدِّم لنا صورة الله الحقيقيّة، وهي مُغايرة للصّورة الّتي رسمناها قديمًا عن الله: فالله هو أبٌ محبٌّ للبشر، لا قاضٍ ديّان لهم على أعمالهم السَّيئة.

إنّ غالبيّة مخاوِفنا البشريّة مَبنيّة على أوهامٍ لا على الحقيقة. إنّ الوَهم يُشبِه الحقيقة من حيث الشّكل الخارجيّ، غير أنّه مُغايرٌ لها في المضمون. فمثلاً: قد يراك البعض شاحِب الوجه، فيُوهِمونك بأنّك مريضٌ، فتُصدِّق كلامهم، على الرّغم من إدراكِك بأنّك لا تُعاني من أيِّ مرضٍ في الحقيقة. هذا ما يسعى إليه الشيطان، منذ بدء الخليقة، أي من آدم إلى يومنا هذا، أن يزرع الأوهام في أذهان البشر، مُحاولاً إقناعهم بأنّها الحقيقة. إنّ الشيطان لا يَتعَب مِن نَصب الأفخاخ للبشر، أمّا الإنسان فيسعى إلى الاستراحة من عَمَلِه التبشيريّ في كلّ مناسبةٍ، لأنّه يخاف مواجهة الصُّعوبات في الرِّسالة. إنّ الرّسل قد اختبروا الخوف مِن مواجهة صعوبات الرِّسالة: فَبَعد موت الربّ يسوع على الصّليب، خاف الرّسل من اليهود، فاختبأوا في العليّة وأغلقوا أبوابها إذ وَجدوا فيها مصدَر أمانٍ لهم. بعد موت الربّ، اعتقد الرّسل أنّ اختبارهم معه كان وَهمًا لا حقيقة، فظهر لهم الربّ في العليّة مُظهرًا لهم آثار المسامير ليؤكِّد لهم أنّه حقيقةٌ لا وَهم. إنَّ الربّ وحده يستطيع أن يخلِّص الإنسان من كلّ وَهمٍ، ويمنحه السّلام والفرح اللّذين لا يزولان. لقد تحرّر الرّسل من كلّ مخاوفِهم حين حَلّ الرّوح القدس عليهم بشكلِ أَلسِنةٍ من نارٍ، فشرّعوا أبواب العليّة وانطلقوا للكرازة بالإنجيل، غير آبهِين بالموت، وما عِظة بطرس أمام الجموع، في يوم العنصرة، إلّا دليلٌ على تحرّره من كلّ خوفٍ. إنَّ بطرس لم يأبه للموت، الّذي كان سيكون مِن نَصيبه، عند معرفة اليهود بإعلانه لحقيقة الربّ، فأعلن أمام الجموع من دون خوفٍ أنّ يسوع المسيح الّذي قَتله اليهود، قد جعله اللهُ ربًّا ومسيحًا. إنّ اسطفانوس، أوّل شهداء الكنيسة، لم يأبه للموت فأعلنَ كلمة الله بكلّ شجاعة، وقد كلّفه ذلك الموت رجمًا على يد بولس الرّسول. في لحظات حياته الأخيرة، أي حين تعرَّض للرّجم، غفر القدِّيس اسطفانوس لقاتليه مردِّدًا كلام يسوع على الصّليب: "اغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يَدرون ماذا يفعلون"، ثمّ نظر إلى السّماء مُبتسمًا وأَسلم الرّوح.

إنّ الموت وَهمٌ يزرعه الشرير في فِكر الإنسان، فيُقنِعه أنّ الموت هو نهاية كلّ شيء. يخاف الإنسان مِن الموت لأنّه يرى فيه حِرمانًا مِن ملذّات هذه الدّنيا الزائلة. إنّ الحياة الحقّة هي في السّماء، لا في هذه الأرض، فملذّات هذه الدّنيا هي سلسلةٌ من الأوهام الّتي تزول بالموت الجسديّ. لا يستطيع الإنسان التمسُّك بهذه الحياة وملذّاتها، إن كان يرغب في الحياة الأبديّة، ومعاينة وجه الله. غير أنّ الإنسان طمّاع في طبيعته، لذ يحاول بشتّى الطُرق الحصول على الحياة في هذه الأرض، وعلى الحياة في السّماء أيضًا، ولكنّه فشل في ذلك، إذ تحوّل إلى جلّادٍ لإخوته البشر، بهدف التخلُّص من أوهامه، وحوَّل الإنسان ذاته إلى ضحيّة ضُعفاته في اليوم الأخير، فيسأل الربّ الشفقة عليه لأنّه كان ضحيّة مخاوفه البشريّة. إنّ عبارة "المسيح قام"، ليست مجرَّد تحيّة فصحيّة يتبادلها المؤمِنون عشيّة الاحتفال بالعِيد، بل هي موقفٌ حياتيّ يتخذّه المؤمِن ويعبّر عنه بقوله "المسيح قام". عندما يردّد المؤمِن عبارة "المسيح قام"، فهو يُعلِن لسامعيه أنّه إنسانٌ لا يخاف الموت لأنّه يؤمِن بالربّ يسوع الّذي غلب الموت بقيامته. أمّا المؤمِنون في عالمنا اليوم، فيردّدون هذه التحيّة كتحيّة صباحيّة مُبقين على خصاماتهم المبنيّة على الأوهام الزائلة الّتي يرزعها الشرير في نفوسهم. على المؤمِن في هذه الحياة أن يحمل لواء الحقّ، أي لواء المسيح، ويدافِع عنه، حتّى وَلو كلّفه ذلك في بعض الأحيان، نشوء مخاصماتٍ مع الّذين يحمِلون لواء الباطل. وهنا يجدر بنا القول، إنّ غالبيّة خصوماتنا مع إخوتنا البشر، مبنيّة لا على تمسُّكنا بالحقّ، بل على خوفِنا الأساسيّ من الموت.
لقد سَرَدَ بولس الرّسول في بداية هذا الإصحاح، أمام أهلِ كورنثوس، مجموعةً من الصّعوبات الّـتي تحمَّلها في سبيل إعلانه الإنجيل، قائلاً:"لِذَلِكَ أُسَرُّ بالضَّعَفاتِ وَالشَتائِمِ والضَّروراتِ والاضْطِهاداتِ والضِّيقاتِ لِأَجلِ الـمَسيحِ". وفي ختام الإصحاح نفسه، يسرِدُ لنا بولس سلسلةً من المشاكل الّتي تُعاني منها كنيسة كورنثوس، والّتي أساسها الخوف، قائلاً: "أَنْ تُوجَد بَينَكم خُصُوماتٌ وَمُحاسَدَاتٌ وَسَخَطاتٌ وَتَحَزُّباتٌ وَمَذَمّاتٌ وَنَمِيمَاتٌ وتَكَبُّراتٌ وتَشْوِيشاتٌ". إنّ المسيح قد قام من الموت وما رؤيتنا للقبر الفارغ إلّا لنتأكَّد من حقيقة قيامته. وبالتّالي أمام القبر الفارغ، على المؤمِن إمّا تصديق إشاعة رؤساء اليهود، بأنّ جثمان الربّ يسوع قد تعرّضَ للسَّرقة، وإمّا تصديق الملاك الموجود عند القبر والّذي أعلَن أنّ المسيح قد قام. إنّ الثِّياب البيضاء الّتي كان يرتديها الملاك عند القبر، تدلّ على القيامة، أي على المعموديّة الجديدة، الّتي يقتبلها المؤمِن مُعلنًا من خلالها دَفن العتيق فيه، وتَحَوُّله إلى إنسانٍ جديدٍ، مُعلنًا البشارة السّارة: "المسيح قام".

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...