البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
28/1/2020 سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الثالث، آية 12-22 تحدّيات العالم
https://youtu.be/rD4vSJyPyh0

تفسير الكتاب المقدَّس
سفر رؤيا يوحنّا
الإصحاح الثالث
الجزء الثاني (12- 22)
الأب ابراهيم سعد

28/1/2020

"مَن يَغلِبُ فسأَجعَلُهُ عَمودًا في هيكلِ إلهي، ولا يَعودُ يَخرُجُ إلى خارجٍ، وَأَكتُبُ علَيهِ اسمَ إلهي، واسْمَ مَدينةِ إلهي، أُورشليمَ الجديدةَ النَّازلةِ مِن السَّماءِ مِن عِنْدِ إلهي، وَاسْمِي الجَدِيدَ. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسْمَع ما يَقولُهُ الرُّوحُ للكَنائِسِ". واكْتُبْ إلى ملاكِ كنيسةِ اللَّاوُدِكيِّينَ: "هذا ما يَقولُه الأَمينُ، الشَّاهِدُ الأمينُ الصَّادِقُ، بداءةُ خليقةِ اللهِ: أنا عارِفٌ أعمالَكَ، أنَّك لَسْتَ بارِدًا ولا حارًّا. لَيْتَكَ كُنتَ باردًا أو حارًّا! هكذا لأنَّكَ فاتِرٌ، وَلَسْتَ باردًا ولا حارًّا، أنا مُزمِعٌ أنْ أتقيَّأَكَ مِن فَمي. لأنَّك تَقولُ: إنِّي غَنيٌّ وقد اسْتَغنَيْتُ، ولا حاجةَ لِي إلى شيءٍ، وَلَسْتَ تَعلَمُ أنَّكَ أَنتَ الشَّقيُّ والبَائِسُ والفقيرُ والأعمى والعُريان. أُشِيرُ عَليكَ أَنْ تَشتَريَ مِنِّي ذَهَبًا مُصفَّىً بالنَّارِ لِكَي تَستَغنيَ، وثِيابًا بِيضًا لِكَيْ تَلبَسَ، فلا يَظهَرُ خِزْيُ عُريَتِكَ. وكَحِّل عَينَيْكَ بِكُحْل لِكَي تُبصِرَ. إنِّي كُلُّ مَنْ أُحِبُّهُ أُوبِّخُهُ وأُؤَدِّبُهُ. فَكُنْ غَيورًا وتُبْ. هاءنذا واقِفٌ على البابِ وَأَقرَعُ. إنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وفَتَحَ البابَ، أَدخُلُ إليهِ وأَتَعشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعي. مَن يَغلبُ فَسَأُعطيهِ أنْ يَجلِسَ مَعي في عَرشي، كما غَلَبْتُ أنا أيضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أبي في عَرشِه. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَعْ ما يَقولُه الرُّوحُ للكَنائِسِ."

إنَّ خلاصة القسم الأوَّل من هذا الإصحاح تتركَّز في الآية التَّالية: "لأنَّك حَفِظتَ كلمَةَ صبري، أنا أيضًا سأحفَظُكَ مِن ساعةِ التَّجربةِ العتيدةِ أن تأتي إلى العالم كُلِّه لِتُجرِّبَ السَّاكِنِينَ على الأرضِ". يُخبرنا يوحنَّا الرَّسول بأنَّ هناك تجارب سيتعرَّض لها المؤمِنون بالربّ، ولكنَّ الربَّ سيحفظُهم منها، إذا حَفِظوا كلمته المقدَّسة. إنّ سِفر الرُّؤيا موجَّهٌ في البدء إلى المؤمِنِين بالمسيح في الكنيسة الأولى الّذين كانوا تحت الشِّدة، أي تحت الاضطهاد الّذي كان يقودهم إلى الموت الجسديّ في حال عدم نُكرانهم للمسيح واعترافهم بالامبراطور إلهًا لهم. إنَّ المغزى من سِفر الرُّؤيا هو حثُّ المؤمِنِين على الثَّبات في إيمانهم عند تعرُّضهم للشِّدة، أو مواجهتهم لِتحدِّيات الحياة. إنَّ كلمة "الصَّبر" تعني في اليونانيّة، تحت الضِّيق أو تحت الشِّدة أو تحت الضَّغط. إنَّ المؤمِن مدعوٌّ إلى التّفكير في كلمة الله وتَذَكُّرها خصوصًا في أوقات الشِّدة والصُّعوبات. ولكن للأسف، في وقت الشِّدة، لا يتذكَّر المؤمِن من كلمة الله إلّا ما يحلو له، فيَستندُ إليها ليُضاعِف طِلباته إلى الله، من أجل تحقيق رغباته الأرضيّة البشريّة. إنَّ يوحنّا الرَّسول يتكلَّم على صبر المؤمِن في وقت الشِّدة، وتمسُّكه بكلمة الله، كي يبقى ثابتًا في إيمانه من دون أن يتزعزع هذا الإيمان. عندما يكون المؤمِن لا يزال في بداية إيمانه بالربِّ، يشعر بالحماسة لتغيير العالم بواسطة كلمة الله؛ ولكنْ حين يتعرَّض للصُّعوبات الحياتيّة في مسيرته تلك، يتحوَّل همُّه إلى أن يبقى ثابتًا في إيمانه من دون أن تقوى عليه الحياة فتُغيِّره. في هذه الآية، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أنَّ العالم بأسرِه سيكون أمام تَحدٍّ وهو الاختيار ما بين عبادة إله الامبراطور، أو عبادة يسوع المسيح: فَمن قرَّر عبادة إله الامبراطور، ابتعد عن الخلاص. إنَّ يوحنَّا الرَّسول يوجِّه كلامه في هذا السِّفر بشكل خاصّ إلى المؤمِنِين إذ إنَّهم "الحلقة الأضعف"، فَهُم الأكثر عُرضةً لهذا التحدِّي، فالمؤمِن هو قويّ من أجل نفسه ومن أجل الآخَرين، وليس قويًّا لِفرضِ سُلطَتِه على الآخَرين. فَمَهما كان الشَّر صغيرًا، فإنّه لا بُدَّ له من أن يؤثِّر على المؤمن، ولكن هذا لا يعني بالضَّرورة أن ينتصر الشَّر على المؤمِرلان، إنَّما يعني أنّ المؤمن سيتعرَّض للأذيّة. في هذا الإصحاح، يشجِّع يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين على احتمال فترة الشِّدة الّتي سيتعرَّضون لها والّتي قد تؤذيهم، لأنّها لن تطول كثيرًا، ومهما طالت تلك الفترة، فإنّها لا تُشكِّل إلّا نِصف الزَّمان. لذا، من خلال يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، يقول لنا الرُّوح إنّ "مَن يغلب فسأجعله عمودًا في هيكل إلهي". إنَّ كلّ هيكلٍ يُبنى على الأعمدة الّتي لا يمكن الاستغناء عن واحدٍ منها وإلا تعرَّض للتزعزع. وبالتّالي، حين يقول لنا الله، إنّنا أعمِدَةٌ في هيكله، فهذا يعني أنَّ الربَّ يسوع قد بنى جسده وكنيسته على المؤمنِين به، وهنا نتذكَّر قول الربِّ لبطرس: "وأنا أقول لك: أنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ سأبْني كَنيستي"(متى 16: 18). إنَّ عبارَتَي "أورشليم الجديدة"، و"اسمي الجديد"، تُشيران إلى حالة الملكوت الّتي سيكون عليها المؤمن عند احتماله بِصَبرٍ الشَّدائد الّتي سيُعاني منها. إنَّ عبارة "اسْمَ مدينةِ إلهي، أورشليم الجديدة النَّازلة من السَّماء من عند إلهي" تعني أنَّ الله أصبح في أرض البشر، أي أنَّ الله أصبح معنا. في سِفر الرُّؤيا، تردَّدت العبارة التَّالية، حوالي سَبْع مرّات: "مَن له أُذُنُ فليسمع ما يقوله الرُّوح للكنائس"، وهذه العبارة غالبًا ما ردَّدها الربُّ يسوع في رسالته التبشيريّة. وهنا يُطرَح السَّؤال: أليسَت وظيفة الأُذُن الأساسيّة هي السَّمع؟ إنَّ تَشديد يوحنّا الرَّسول على هذه العبارة يؤكِّد على وجود آذانٍ للسَّمع، وآذانٍ للإصغاء أي للسَّمع بشكلٍ صحيح.

إنَّ "ملاك الكنيسة" هو المسؤول عن الكنيسة أي الأسقف، و"كنيسة اللّاودكيِّين" تعني كنيسة اللّاذقيّة. إنَّ بعض التَّرجمات قد استبدَلَت عبارة "بداءة خليقة الله"، بعبارة "رأس الخليقة"، إذ إنَّ العبارة الأولى قد أُسيءَ فَهمُها مِن قِبَل البِدَع فاعتبروا أنَّ الربَّ يسوع هو المخلوق الأوَّل في خليقة الله، مُنكِرين بذلك ألوهيّة الربِّ. إنَّ عبارة "الأمين" تشير إلى الربِّ يسوع. إنَّ عبارة "الأمين" في اليونانيّة تعني أيضًا المؤمِن. إنَّ عبارة "الأمين" كانت كافية للدَّلالة على الربِّ يسوع إلّا أنّ يوحنّا الرَّسول أراد التَّشديد على صِدق الربِّ وأمانته، فاستعمل عبارة "الشَّاهد الأمين الصَّادق"، وهي عبارات كلُّها تشير إلى الربِّ يسوع. إنَّ البرودة واضحةٌ وهي تُعبِّر عن صِدق المؤمِن في الابتعاد عن الله، وكذلك الحرارة واضحةٌ وتُعبِّر عن صِدق المؤمن في العيش بِقُربِ الله. أمّا الفتور فهي حالة تبعث الحيرة إذ لا يمكننا معرفة ما إذا كان المؤمن حارًّا أو باردًا، فَهو، أي المؤمن، يسعى إلى المزج ما بين عبادته لله الواحد وما بين عبادته لإله الامبراطور للمحافظة على حياته، وهذا التَعدُّد في الآلهة أو "العبادات التَلفِيقيّة" لا يستطيع الله القبول بها. وهنا نطرح السُّؤال: كم من المرَّات نحاول التَّوفيق في حياتنا بين ما يطلبه الله منّا ورغباتنا؟ عندما وَضعَتْ الكنيسة سرّ التَّوبة ونظمَّته، سَعَتْ إلى مساعدة المؤمِن على الاقتراب من الله، غير أنَّ المؤمنِين سعوا إلى تحقيق رغباتهم في هذه الحياة الّتي لا تتوافق مع مشيئة الله، قَبْلَ التوبة عنها من خلال سرّ الاعتراف. إنَّ مِثلَ تلك التصرُّفات تُعبِّر عن استغلال المؤمن للحبّ الإلهيّ، وهذا ما يؤدّي إلى وقوع المؤمِن في حالةٍ من الفتور الرُّوحيّ.
في الإفخارستِيّا، ليس من الضَّرورة أن يشعر المؤمِن بحرارة في الإيمان، فالإفخارستِيّا ليست علاقة على المستوى الشَّخصيّ بين المؤمن والله، ففي الإفخارستِيّا، يؤكِّد المؤمن أُخوَّتَه للمؤمنِين في انتمائه إلى عائلة الله الآب. إنَّ تَقرُّبَنا من المناولة غير مرتبطٍ بإحساسنا بحرارة صلاتنا بل هو تعبير عن انتمائنا إلى عائلة الآب. إنَّ بعض التصرُّفات الّتي تصدر عنّا،كالمشاركة في الذبيحة الإلهيّة من دون الشّعور بِحرارة الإيمان، تُعبِّر عن أمانتنا لله وصِدق محبَّتنا له، ومدى إخلاصِنا له. إنَّ القدَّاس الإلهيّ ليس فقط عطيّة من عند الله، إذ إنَّه أيضًا مسؤوليّة تقع على عاتق المؤمِن لتأكيد موقفه من الله، وهذا الموقف هو عدم خيانة المؤمِن للأُخوَّة الناتجة عن أُبوّة الله للبشر، وبالتّالي على المؤمِن أن يكون سندًا لأخيه الإنسان وأن يكون شفيعًا له، والعكس صحيح. إذًا، في الإفخارستِيّا، على المؤمِن التَمسُّك بالوَحدة مع إخوته، كي لا تتزعزع بسبب أوضاعه النفسيّة.

لا مشكلة عند الله مع الإنسان البارد ولا مع الإنسان الحارّ، إذ إنَّ هذين الموقِفَين يتَّسِمان بالوضوح، أمَّا الإنسان الفاتر فيُعاني الله معه إذ إنَّ موقفَه غير واضحٍ، لذلك نقرأ في هذا الإصحاح عبارة على لسِان الله: "فسأتقيَّاكَ من فمي". إنَّ الحِياد في الكِتاب المقدَّس هو أمرٌ سلبيّ لا إيجابيّ، إذ بين الحقّ والباطل لا حياد، لأنّه إمّا أن يكون الإنسان مع الحقِّ وإمَّا أن يكون مع الباطل. إذًا، لا حياد بين الحقّ والباطل، لأنّه بسبب الباطل فُقِد الحقّ وبالتَّالي على المؤمن أن يكون مع الطرف الثّالث، ألا وهو الحقّ، فيُظهر الحقّ للآخَرين والتوبيخ على الباطل، فيتوب السَّالكون في طريق الباطل. إذًا، يبقى على المؤمِن السَّائر في الحقّ مسؤوليّة إرشاد السَّائرين في الباطل إلى طريق الحقّ، ولكن هذا لا يعني أنّه على المؤمن دينونة إخوته السَّائرين في طريق الباطل، أو التَّفاخر عليهم. إنَّ التَّواضع هو الّذي يحفظ المؤمِن من كلِّ شرّ، فهو فضيلة، أُمّ كلّ الفضائل، أمَّا الكبرياء فهو الّذي يُوقِع المؤمن في كلِّ شرّ. مهما كانت الأمور الأرضيّة الّتي تمنحه القوَّة لتحقيق رغباته ومصالحه الأرضيّة، يبقى المؤمن على الرُّغم من ذلك "شَقيًّا وبائسًا وفقيرًا وأعمىً وعريانًا". إنَّ عبارة "عُريان" تُذكِّرنا بآدم الَّذي ابتعد عن الله، عندما أصغى إلى آخر غير الله، وصَدَّق كلامه. لا يستطيع الإنسان عبادة الله، والعيش بطريقة لا تتناسب مع تعاليم الله. في هذا السِّفر، ينصح الله المؤمِن أن يَغتنيَ به، إذ يستطيع أن يُقدِّم له ذَهبًا مُصَّفًى بالنَّار، أي ذَهبًا لا غِشَّ فيه. إنَّ الثِّياب البيض ترمز إلى الإنسان الـمُعمَّد حديثًا، أي غير الملوَّث بالخطيئة. إنَّ الكُحل يشير إلى استبدال المؤمن نظرته إلى العالم بِنَظرة الله إلى العالم، فيتمكَّن من رؤية الأمور بِعَينَيّ الله. إنَّ الله يوبِّخ المؤمنِين لأنّه يُحبِّهم، وبالتّالي على المؤمِن عدم توبيخ الآخَرين السّالِكين في طريقهم الضّال إنْ لم يتمكَّن هؤلاء من الشُّعور بمحبّة المؤمِن لهم، لأنَّه في تلك الحالة سَيَنظر الآخَرون إلى المؤمِن على أنّه عدُوٌّ لهم، وبالتَّالي لن يُصغوا إليه. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنَّ مَن يُحبّ الآخر يكون كَمَن يَضَع جَمرًا على رأسِ الآخَر، وبالتّالي لا بُدَّ لهذا الآخَر من أن يشعر بمحبّة المؤمِن له، عاجلاً أم آجِلاً. إذًا، على المؤمِن أن يجد الطريقة المناسبة كي يشعر الآخر بحبِّه، فيتمكَّن عندها من توبيخ الآخر على طريقه السيِّئة من دون تحطيمه. إنَّ الله يؤبِّخ المؤمِن ويؤدِّبه. إنّ تأديب الله للمؤمِن يعني تربيته. إنَّ فِعل "أُربِّي" مشتَّقٌ من فِعل "ربَّى"، المشتَّق هو أيضًا من كلمة "ربّ"، وبالتَّالي التَّربية هي إيصال الشَّخص الّذي نُربيِّه إلى الله. إنَّ بولس الرَّسول يقول لنا إنَّ العهد القديم هو "المؤدِّب" أو "الـمُربِّي"، وهي كلمة يونانيّة، تشير إلى ذاك الّذي يقود الإنسان القاصر نحو الخلاص، وبالتَّالي حسب قول بولس الرَّسول، الكِتاب المقدَّس هو الّذي يقود المؤمن إلى الله، أي إلى الخلاص. إنَّ هدف المؤمِن الّذي يُحبّ أخاه السَّالك في طريقٍ ضالّ، توبيخه لِتَربيَتِه، أي ايصاله إلى الله. إنَّ كلمة "تُب"، مشتَّقة من فِعل "تابَ"، الّذي يعني في العِبريّة "شابَ"، ويعني رَجِع أو عادَ. وبالتّالي، التَّوبة لا تعني ترك الخطايا، إنّما تعني العودة إلى الله. إذًا، على المؤمن ألا يترك الخطيئة ويبقى سائرًا في طريقه الضَّال، بل عليه أن يترك الخطيئة ويسعي إلى حماية نفسه منها بتسلُّحه بحارسٍ يحميه من الدَّاخل، ألا وهو الربّ، فلا يبقى مكان الخطيئة في قلبه خاليًا كي لا يعود إليه الشِّرير مُصطَحبًا معه أرواحًا أكثر شَرًّا منه، كما يقول لنا الإنجيل. فَحِين يُقرِّر المؤمن الرُّجوع إلى الله، فإنّه تِلقائيًّا يبتعد عن الخطيئة. لذلك يُسَمّى سرّ العودة إلى الله "سرّ التَّوبة" لا "سرّ الاعتراف"، فلفظة "سرّ الاعتراف" تتخِّذ طابعًا طقسيًّا. ففي سرّ التَّوبة أنت تعترف لا بِتركِك الخطايا، إنَّما تعترف بعودتك إلى الله. عند عودة المؤمن إلى الله في سرّ التَّوبة، يكون الله بانتظارِه تمامًا كما انتظر الأب في مَثل الابن الضَّال، عودة ابنه العائد بعد طول غياب: إذ قَبْل أن يبدأ الابن بالكلام، طلب الأب من خُدَّامه أن يُلبسوه الحلَّة الجديدة والحذاء في رِجليه، والخاتم في إصبعه الّذي يُشير إلى أنَّه وريثٌ لأبيه. إذًا، نحن أيضًا علينا الاقتراب من سرّ التَّوبة بحماسةٍ وحُبٍّ لإدراكِنا أنَّ الله الآب قد أعاد إلينا بُنوَّتنا له الّتي خسرناها بسبب خطايانا. نحن نتقدَّم من سرّ الاعتراف لا لنَطلب من الله مسامَحتنا على خطايانا، بل نحن نتقدَّم من سرّ التَّوبة لأنّ الله سبَق وسامَحنا على خطايانا. فإنّه حين نتقدَّم من سرّ التَّوبة غير متأكِّدين مِن أنَّ الله قد قَبِلَنا كأبناء، فإنَّنا نتقدَّم من سرّ التَّوبة كَعَملٍ قانونيّ لا بُدَّ لنا من القيام به، أمَّا إذا كُنّا مُدرِكين أنَّ الله قَد قَبِلَنا كأبناء له، فإنَّنا نتقدَّم من سرّ التَّوبة كتعبير عن إخلاصِنا لله، معترِفين بِرُبُوبِيَّته وألوهيّته من جديد، وهذا يتطلَّب منّا إنكار خضوعنا لآلهة أخرى، المتمثِّلة في خطايانا. لذا نعترف بخطايانا بِجرأةٍ وبثقة ومن دون خوف. إنَّ المؤمِن لا يعترف للكاهن، إنَّما لله، ولكنَّ الكاهن هو الممثِّل عن الكنيسة الّتي تفرح بعودة المؤمِنِين الخطأة إلى الله. إنَّ الكاهن هو شاهِد ومساعِد للمؤمِن، فَهو يُرشِده إلى الطَّريق كي لا يقع في الخطيئة مجدَّدًا. إنَّ مَهمة الكاهن تقوم على تعزية المؤمن الّذي حطَّمته الخطيئة، مُذَكِّرًا إيّاه بِحُبّ الله له، هذا الحبّ غير المشروط وغير المرتبط بخطايا الإنسان، داعيًا إيّاه إلى الاستفادة من محبّة الله ومن قبولِه له كابنٍ. إنَّ الكاهن ينمو روحيًّا من خلال سماعه اعتراف إخوته المؤمنِين، لأنّه حين يعترف الخاطئ بخطيئته أمام الكاهن، فإنَّه يُذكِّر هذا الأخير بإنسانيّته ويَحُثُّه على العودة إلى الله مع المؤمِنِين. إنَّ الحبّ يفترض توبيخًا وتأديبًا الآخر من أجل توبته.

إنّ الربَّ واقفٌ على باب قلوبنا ويقرعها وينتظر جوابنا، فالربُّ لا يقتحم النّفوس. إنَّ الربَّ يقرع الباب لكن المسؤوليَّة تقع على المؤمِن في فَتحِ الباب له، ليتمكَّن الربُّ من الدُّخول إلى قلب المؤمِن. وهذه الآية تُذكِّرنا بكلام الربّ مع زكَّا العشَّار:" يا زكَّا، أسرِع إنزِل. فاليَوم ينبغي أن أَمكُثَ في بيتِك" (لو 19: 5). فأسرَع زكَّا وفتح بيته لاستقبال الربَّ فَحَصَل الخلاص لهذا البيت. إنَّ الله، بمحبَّته للبشر الّتي لا مثيل لها، هو القادر على سحق البشر وعلى خَلقِ الكون بكلمة، لم يُعطِ لِنَفسِه حقَّ دخول قلوب البشر بالقوَّة. إنَّ الربَّ يسوع، الّذي هو مَلِك الملوك، لا يدخل النُّفوس عنوةً، بل يقف أمام أبواب قلوب البشر ويقرعُها بِخَفرٍ، منتظرًا من هؤلاء فَتحَ الباب له. إنَّ الربَّ يطرق الباب بهدوءٍ لا بالقُوَّة. إنَّ عبارة "أتعشَّى" تُذكِّرنا بالعشاء الفِصحي الأخير الّذي احتَفَل به الربُّ مع تلاميذه، والّذي يحمل في طيَّاته معنىً خلاصيًّا. إنَّ العشاء يُعبِّر عن وَحدة الحال بين الجالِسِين إلى المائدة، إذ أصبحوا واحدًا بِفعل تناول الطَّعام ذاته.

إنَّ عبارة "مَن يَغلُب" تكرَّرت سَبْع مرّات، وهذه هي المرَّة الأخيرة. وفيها نلاحظ إضافةَ الرَّسول للعبارة التّالية "كما غَلبتُ أنا"، أي كما غَلب الربُّ يسوع. إنَّ الربَّ يسوع قَد غَلَب عن طريق الأمانة لله والشَّهادة بموته على الصَّليب. وبالتّالي، أراد الربُّ يسوع القول للمؤمِنِين إنَّه لا انتصارَ لهم إلّا إذا تشبَّهوا به فتَمَسَّكوا بالأمانة لله والإخلاص له حتّى لو قادهم ذلك إلى الاستشهاد أي الموت. إنَّ المسيحيّ الحقيقيّ لا يستطيع أن يَغلُب بالتَّشبه بالعالم، من خلال صَلبِ الآخَرين وقَتلِهم، فالمسيحيّ الحقيقيّ ضَعيفٌ أمام شرِّ العالم، ومقاومة الشَّر تكون إمّا أن يُصبح الإنسان شرِّيرًا، وإمّا بمواجهته للشَّر بكلمة الإنجيل وهذا ما يَنظر إليه العالم على أنَّه ضُعفٌ. إنَّ الشَّر يُعلِّم المؤمن الحقيقيّ بعض الوسائل لمواجهته: فمثلاً، يطلب إلينا الربَّ مواجهة الّذين يتعاملون معنا بإزدراء، من خلال مساعدتهم على نِسيان أذيَّتهم لنا، أي خطيئتهم: "مَن ضَربك على خَدِّك الأيمن، فَدُر له الآخَر"(متى 5: 39) فعندما ينجح المؤمِن في التَّعامل هكذا مع المسيئِين إليه، فإنَّه يساعدهم على التَّوبة؛ عِوضَ حثِّهم على الدِّفاع عن خطيئتهم. إذًا، على المؤمنِ أن يكون فِعله مخالفًا لرَّدة فِعل الإنسان المسيئ. إنَّ الفِعل وَرَدَّة الفِعل، هما مِن الطِّينة نفسها عند الإنسان، غير أنَّ الإنسان المؤمِن مدعوٌّ للقيام بفِعلٍ مخالفٍ لفِعل الأذيّة. إنَّ المسيحيّة ليست ضُعفًا إنَّما هي قوَّةٌ غريبة عن عالم البشر. إنَّ قوَّة المؤمِن مختلفة عن قوَّة بَقيّة البشر: أنتم في هذا العالم ولكنَّكم لستم من هذا العالم. نحن مدعوِّون إلى مواجهة شرّ العالم كما واجهه الربُّ يسوع، وهذا لا يُعَدُّ ضُعفًا، فالربُّ يسوع لم يكن ضَعيفًا، في مواجهته للشَّر. ولكن، على الإنسان المؤمن أن يعرف كيف يوصِل إلى الآخَر أنّ سكوته عن إساءاته له ليس ضُعفًا إنّما هو نتيجةُ وجود حُبٍّ ساكِنٍ في داخِلِه، يمنعه من الردِّ على الأذيّة بأذيّة مشابهة. إنَّ هذا الأمر يتطلَّب عملاً على الذّات. وإليكم مِثالاً مِن حياة يسوع: عند إلقاء القبض على الربِّ يسوع في البستان، قام بطرس باستلال سيفه، وقَطعِ أُذَن أحد الجنود، وكان اسمه مَلخُوس، وهذا الاسم يونانيّ ويدلّ على أنَّ هذا الجنديّ هو وثنيّ لا يهوديّ. فقال الربُّ لبُطرس، بعد شفائه لهذا الجنديّ، إنّه استعمل الطريقة الّتي تمنع هذا الجنديّ من التَّوبة إذ قَطَع له أُذُنه، فلا يستطيع أن يسمع كلمة الله فيتوب. إنَّ الربَّ يسوع قَد غَفرَ لِصالبيه على الصَّليب، وهذا التصرُّف لا يعكس ضُعفَ المسيح بل قوَّته، فالقويّ هو الّذي يَغفر للضَّعيف لا العكس. إنَّ قوَّة غفران الربَّ ظَهرت في إيجاده لصالبيه أسبابًا تخفيفيّة لفِداحة ما قاموا به تجاهه، إذ قال: "إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يَفعلون" (لو 23: 34). إنَّ يوحنّا الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا، يدعو المؤمِنِين إلى فَهمِ ما يقوله لهم. إنَّ الكنيسة قد أدرَكَت أنَّه قد يتمّ فَهم الاستشهاد بطريقة خاطِئة منِ قِبَل المؤمِنِين فيتحمَّسون لِتَسليم ذواتهم إلى المَضَطهِدِين. إنَّ مِثل هذا التصرُّف يُسَمَّى انتحارًا، لا استشهادًا. إنَّ الكنيسة تدعونا إلى الهرب من الاضطهاد، إنْ كان ذلك مُتاحًا لنا، ولكنْ إنْ تَمَّ إلقاء القبض علينا، ولا مفرَّ لنا من الهرب من الموت إلّا بنُكرانِ إيماننا، فهي تشجِّعنا على الثَّبات في إيماننا بالربّ، حتّى ولو كلَّفنا ذلك الاستشهاد في سبيل الشَّهادة لإيماننا بالربِّ يسوع. وهذا ما حَدَث مع عمودَي الهيكل، بطرس وبولس، فَهُما حاولا الهروب من الموت، ولكن حين تمَّ إلقاء القبض عليهما، عبَّرا عن إخلاصِهما للربّ، فمات الأوَّل مصلوبًا رأسًا على عَقب، والآخر مقطوع الرأس. إنَّ بطرس وبولس هما عمودا الهيكل الّذي نُصلِّي فيه، وننتظر فيه مجيء الربِّ الثّاني. آمين.
و
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
10/12/2020 سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الثالث، آية 1 -11 الرجاء في المسيح
https://www.youtube.com/watch?v=mIUF4cytjIY&t=28s

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا
الإصحاح الثالث
الإصحاح الثالث، آية 1-11
الأب ابراهيم سعد

10/12/2019

" واكْتُبْ إلى ملاكِ الكنيسة الّتي في سارْدِسَ: "هذا ما يُقولُهُ الّذي لَه سَبعَةُ أرواحِ اللهِ والسَّبعَةُ الكَواكِبُ: أنا عارِفٌ أعمالَكَ، أنَّ لَكَ اسْمًا أنَّكَ حَيٌّ وأنتَ مَيْتٌ. كُنْ ساهِرًا وَشَدِّدْ ما بَقِيَ، الّذي هو عَتيدٌ أَنْ يَموتَ، لأنِّي لَم أَجِدْ أَعمالَكَ كامِلَةً أمامَ الله. فاذْكُرْ كَيفَ أَخَذْتَ وسَمِعْتَ، واحْفَظْ وتُبْ، فإنِّي إنْ لَمْ تَسهَرْ، أُقدِمْ عَليْكَ كَلِصٍّ، ولا تَعلَمُ أَيَّةَ ساعةٍ أُقْدِمُ عَليْكَ. عِندَك أَسماءٌ قَليلةٌ في سارْدِسَ لَم يُنجِّسوا ثِيابَهم، فَسَيَمْشُونَ مَعي في ثيابٍ بِيضٍ لأنَّهم مُستَحِقُّونَ. مَن يَغلِبْ فَذَلِكَ سَيَلبَسُ ثِيابًا بِيضًا، ولَنْ أَمحُوَ اسْمَهُ مِن سِفرِ الحَياةِ، وسَأَعْتَرِفُ باسْمِهِ أمامَ أبي وأمامَ ملائِكَتِهِ. من لَهُ أُذُنٌ فَليَسْمَعْ ما يَقولُهُ الرُّوحُ للكَنائِسِ".
واكْتُبْ إلى مَلاكِ الكَنيسَةِ الّتي في فِيلادَلْفِيا: "هذا ما يَقولُهُ القُدُّوسُ الـحَقُّ، الّذي لَهُ مِفتاحُ داوُدَ، الّذي يَفتَحُ ولا أحَدٌ يُغلِقُ، ويُغلِقُ ولا أَحَدٌ يَفتَحُ: أنا عارِفٌ بأَعمالَكَ. هاءنذا قد جَعَلْتُ أمامَكَ بابًا مَفتُوحًا ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أنْ يُغلِقَهُ، لأنَّ لَكَ قُوَّةً يَسِيرَةً، وقَدْ حَفِظْتَ كَلِمَتي ولَمْ تُنكِر اسْمِي. هاءنذا أَجْعَلُ الّذين مِن مَجمَعِ الشَّيطانِ، مِنَ القائِلِينَ إنَّهُم يَهُودٌ ولَيسُوا يَهودًا، بَلْ يَكذِبُونَ. هاءنذا أُصيِّرُهُم يَأتُونَ ويَسجُدُونَ أمامَ رِجلَيْكَ، ويَعرِفونَ أنِّي أنا أَحبَبْتُكَ. لأنَّكَ حَفِظْتَ كَلِمَةَ صَبرِي، أنا أَيضًا سَأَحْفَظُكَ مِن ساعَةَ التَّجربةِ العَتيدَةِ أن تأتيَ على العالم كُلِّه لِتُجرِّبَ السَّاكِنينَ على الأرضِ. ها أنا آتي سَريعًا. تَمَسَّكْ بِما عِندَكَ لِئلّا يَأخُذَ أَحَدٌ إكْلِيلَكَ."

في هذا الإصحاح، يتابع الإنجيلي يوحنّا كتابة رسائله الّتي يُملِيها عليه الرُّوح إلى الكنائس السّبع في آسيا الصُّغرى، الّتي ترمز إلى الكنيسة جمعاء، فما قِيل في إحدى الكنائس يَصُّح قولُه في كلّ الكنائس. إنَّ حديث يوحنّا الرَّسول في هذه الرّسائل يركِّز على ثبات المؤمِنِين في إيمانهم، وعدم نُكرانهم لإيمانهم عند وقوعهم في شِدّة أو تعرُّضِهم لإغراءات هذا العالم. إنَّ عبارة "سَبْعَةُ أرواحِ الله" تُشير إلى الرُّوح القدس، فالرَّقم سبعة يُشير إلى الكامل والقدُّوس. وبالتّالي، هذا الكلام الّذي ينقُله إلينا يوحنّا الرَّسول هو كلام الرُّوح القدس، أي أنّه كلامٌ إلهيّ. إنَّ عبارة "لك اسْمًا أنَّك حيٌّ وأنتَ ميتٌ"، تهدِف إلى تشديد المؤمِنِين وتعزيّتهم، هُم المعرَّضون للاستشهاد في أيّ لحظةٍ، بسبب إيمانهم بالربِّ يسوع. إذًا، لا فرق بين الإنسان المعرَّض للموت والإنسان الـمَيْت، فكلاهما سيموتان، ولكنَّ الفرق يكمن في حدوث أمرٍ ما، حال دون استشهاد الإنسان المعرَّض للموت الّذي، عاجلاً أم آجلاً سيموت. وبالتّالي، هنا يُطرَح السُّؤال: هل سيحافظ الإنسان المؤمن على إيمانه طيلة حياته على الرُّغم من الضُّغوطات الّتي سيتعرَّض لها؟ في الكنيسة، الشَّهادة للإيمان نوعان: الشَّهادة الحمراء، أي الاستشهاد الدَّمويّ، والشَّهادة البيضاء الّتي تقتضي الأمانة للربّ في حياتنا اليوميّة. إنّ الشَّهيد الأبيض هو إنسان أمينٌ لإيمانه حتَّى موته، والشَّهيد الأحمر، هو إنسانٌ أمينٌ لإيمانه فمات في سبيل المحافظة على هذا الإيمان. إنَّ منطق الإنجيل يقوم على محافظة المؤمنِ على أمانته لإيمانه بالربّ حتّى الموت: إمّا ميتة ربِّه، وإمّا شَهيدًا. إذًا، إنَّ المؤمِن أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا الموت شُهيدًا في سبيل إيمانه، وإمَّا الشَهادة البيضاء أي إماتة الأهواء للمحافظة على الإيمان، وهنا يتجلّى "صَبرُ القدِّيسِين" بِحَسب تعبير الكِتاب. على المؤمن في صلواته أن يطلب إلى الله منحَه اليقظة الرُّوحيّة فيتمكَّن من التمييز بين ما هو منسجم مع كلمة الله وما هو غير منسجمٌ معها. إنَّ السَّهر الرُّوحيّ يتطلب من الإنسان اتنباهًا لحضور الله، فكلُّ اهمالٍ من المؤمِن لأصغر الأمور يفتح الباب أمام العدُّو أي الشِّرير للدّخول إلى حياته. في الصّلاة الرَّبية، نردِّد العبارة التّالية: "لا تُدخِلنا في التَّجربة لكن نجِّنا من الشِّرير"، إنَّ التَّجربة هي الشُّعور بالنُّعاس الرُّوحيّ، أمّا الخطيئة فهي النَّوم الرُّوحيّ العميق. إنَّ الرُّوح يطلب مِن ملاك الكنيسة السَّهر الرُّوحيّ على نفسه، والعمل على تشديد إخوته في الاضطهادات للثَّبات في إيمانهم بالربّ. إذًا، على المؤمِن السّهر على يقظته الرّوحيّة وعلى مساعدة الآخَرين على يقظتهم الرُوحيّة.

إنَّ القدَّاس الإلهيّ يساعدنا على اليقظة الرُّوحيّة لإيماننا بالربّ، فالقدَّاس الإلهيّ يُحتَفل به جماعيًا لا فَرديّا، لذا في كلّ الصّلوات الّتي نتلوها في أثناء الذبيحة الإلهيّة يتمّ استخدام الضَّمير المتَّصل "نا"، الّذي يشير إلى الجماعة لا الفَرد. نحن في زمن اللَّهو، إذ إنّنا نتراخى في الشَّهادة لإيماننا متسلِّحين بِحُججٍ وهميّة معتقِدين أنّها حقيقيّة. في هذا الزَّمن الّذي نعيشه في وطننا، نُسَخِّر كلّ طاقاتنا للتَّفكير في أمورٍ أرضيّة زائلة، ممّا يدفعنا إلى الشُّعور بالكآبة والحزن، فتتراجع وتيرةُ صلواتِنا، متناسِين "الحَقَّ الحقيقيّ" ألا وهو الربّ.
إنَّ الهدف مِن تدوين سِفر الرُّؤيا هو مساعدتنا على الثَّبات في إيماننا في هذه الأزمنة الصَعبة الّتي نعيشها، فـ"آخر الأزمنة" بالنِّسبة إلى الإنسان المؤمِن هو في كلِّ آنٍ، إذ قد يكون هذا اليوم هو نهاية الأزمنة بالنِّسبة إلى المؤمِن بموته الجسديّ، وبالتّالي ما نَفع انتظار نهاية الأزمنة البشريّة حين تَحُلُّ نهاية زَمن الإنسان؟ إذًا، نحن مدعوِّون لعيش سِفر الرُّؤيا في كلِّ آن، إذ إنّنا معرَّضون للموت في كلِّ آنٍ، إمّا إلى مِيتة طبيعيّة، وإمّا إلى ميتةَ الشَّهادة بسبب عدم رُضوخنا للضُغوطات الّتي نواجهها لنُكران إيماننا بالربّ. على الكنيسة الإكثار من قراءات سِفر الرُّؤيا في صلواتها، لأنّها تَحثُّ المؤمِنين على الثبات في إيمانهم في وقت الضِّيق. على المؤمِنِين أن يَضعوا رجاءهم في المسيح لا في الأمور الأرضيّة إذ إنَّها تُدخِلهم في دوّامة من اليأس والإحباط. نحن مدعوُّون لِسَماع كلمة الله وحِفظها، وبالتّالي العمل على توبتنا إلى الله. إنَّ الإنجيل ليس كتابًا سماويّا بل هو كتابٌ أرضيّ، أي أنّه لم يُدوَّن كي يعيشه الّذين أصبحوا في السَّماوات مع الله، بل دُوِّن لكي يسعى الأرضيّون إلى تطبيقه في حياتهم اليوميّة فتكون السّماء مِن نَصيبهم عند انتقالهم من هذه الفانية. إنّ الكتاب المقدَّس هو أهمُّ كتابٍ على الأرض، إذ عندما يسيطر فِكر المسيح على ذِهن المؤمِن فإنَّ هذا الأخير سينجح في التَّعامل مع كلّ الصُعوبات الّتي تواجهه في حياته الأرضيّة. إنّ الربَّ يسوع قد أعطانا أمثلةً كثيرة عن مجيئه الثّاني، وقد وَصفه بأنَّه آتٍ كاللِّص أي في زمانٍ لا يستطيع الإنسان إدراكه. إنَّ الّذين "لم يُنجِّسوا ثيابهم"، هي عبارةٌ تُشير إلى المؤمِنِين الّذين لا يزالون مُحافِظين على معموديّتهم، أُمناء للربِّ يسوع في حياتهم اليوميّة. إنَّ الثِّياب البيض تُذكِّرنا بالقيامة لأنَّ الملاك عند قبر المسيح كان متَّشِحًا بالثِّياب البِيض، وهو قد أعلن القيامة، أي طريق الملكوت. إذًا، إنَّ كتاب سِفر الرُّؤيا ليس كتابًا يثير الخوف في نفوس المؤمِنِين، بل هو كتابُ تعزيةٍ لهم يساعدهم على احتمال الشَّدائد في هذه الأرض للوصول بهم إلى الملكوت السَّماويّ. إنَّ سرَّ المسيحيّة يكمن في سرّ جَذْب الصّليب للمؤمِنين، خصوصًا أنَّ الصّليب ليس مَصَدر جَذبٍ في الظّاهر، فإشعيا النبيّ يقول: "فإنّه نَبَتَ كَفَرعٍ أمامه وكأصلٍ مِن أرضٍ قاحلة، لا صورةَ له ولا بهاء فننظر إليه، ولا منظَرَ فَنَشتَهِيَه."(إشعيا 53: 2). إنَّ الصَّليب هو باب القيامة، لا رمزًا للعذاب، فالصَّليب هو سرّ الحبّ، وكلُّ حُبٍّ له ثَمنٍ يدفعه الحبيب، وكلَّ محبوبيّة لها ثَمرٌ ينالها المحبوب. إنَّ الله قد أحبّ البشر فقدَّم ابنه ذبيحةً عنهم تعبيرًا عن حبِّه لهم، أمّا البشر فقد نالوا ثمرة تلك الذبيحة على الصّليب ألا وهي الخلاص. في الرِّسالة إلى ملاك الكنيسة في ساردِس، أراد الإنجيليّ يوحنَّا التركيز على أنَّ منَ يثبُت في الإيمان بالربِّ يسوع على الرُّغم من الصُّعوبات، سيقوم من بين الأموات وسينال الحياة الأبديّة لأنَّ معموديّته لن تنتهي، لأنَّ أمانته وإخلاصه للربّ، وصبره وجهوده على الشَّدائد، لن تذهب سُدًى. إنَّ منطق الله مخالفٌ لمنطق البشر فهو ينسى خطايا البشر ولكنّه لا ينسى حسناتهم؛ بعكس البشر الّذين يَنسون حسنات إخوتهم عند أوّل إساءة تَصدر عنهم. إنَّ الاسم يشير إلى حضور الشَّخص وتاريخه، وبالتّالي حين نردِّد عبارة "ليتقدَّس اسمك" في الصّلاة الرَّبية، فهذا يعني ليتقدَّس حضور الله، وجوده وثِقلِه في وَسَطِنا. إنّ الربَّ يُقدِّم تعزية للمؤمِنِين الثّابِتِين في إيمانهم به على الرُّغم من الصُّعوبات بعدم مَحو أسمِائهم من الوجود، في سِفر الحياة. في ختام هذه الرِّسالة، نقرأ العبارة التّالية: "هذا ما يقولُه الرُّوح للكنائس"، أي أنَّ ما قاله الرُّوح لكنيسة سارِدس، هو كلام صالـحٌ لكلّ الكنائس من دون استثناء. فكما تكلَّم الله مع الشَّعب اليهوديّ في العهد القديم، كذلك يكلِّم الله شعبه في العهد الجديد من خلال الرُّوح القدس، فيتمكَّن كلُّ مؤمنٍ بالمسيح مِن نَقل البشارة للآخَرين من خلال شهادته الصّالحة للربّ. إنَّ المؤمِن الّذي يقرأ كلمة الله بشكلٍ صحيح، يستطيع أن يُغيِّر العالم بقوّة الكلمة المزروعة فيه، أمّا الّذي يقرأ كلمة الله بشكلٍ مغايرٍ لمقاصِد الله، فهو يُصاب بالإحباط واليأس عند محاولته تغيير العالم.

إنّ عبارة "مفتاح داود" ترمز إلى الـمَلَكِيّة، وبالتّالي من خلال هذه العبارة، أراد الرُّوح القدس الإشارة إلى الـمَلِك الحقيقيّ الّذي يملِك مفتاح الملكوت السّماويّ، ألا وهو يسوع المسيح. إنَّ الربَّ يسوع الّذي يملِك مفاتيح الملكوت، قد أعطاها للرّسل، حين قال لبطرس رئيس الرُّسل: "وسأعطيك مفاتيح ملكوت السّماوات"(متى 16: 19)، وبالتّالي قد سلَّمهم مسؤوليّة سيُحاسبون عليها في اليوم الأخير لا امتيازًا لهم عن سائر البشر. إنَّ مَن تسلَّم مفاتيح ملكوت السّماوات من الربِّ، عليه أن يستخدم هذه المسؤوليّة لمساعدة إخوته على الوصول إلى الملكوت السّماويّ، وبالتّالي شَفيعًا لهم عند الربّ لدخولهم إلى الملكوت السَّماويّ. في الطّقس الشَّرقيّ، يُردِّد الكاهن عند انتهائه من العِظة في القدَّاس الإلهيّ، الصّلاة التّالية: "ليس أحدٌ من المرتَبِطِين بالشَّهوات واللّذات الجسديّة، مستحقًّا أن يقف أمامك"، وما هذه الصّلاة إلّا دلالة على مسؤوليّة الكاهن عن الشَّعب لذا يتابع القدَّاس الإلهيّ. إنَّ هذه المسؤوليّة لا تقتصر على الكاهن في الذبيحة الإلهيّة، بل هي مسؤوليّة المؤمِنِين أيضًا، إذ عليهم متابعة القدَّاس والتّعبير عن موافقتهم مع إخوتهم البشر على الصّلوات بالقول: "آمين"، قبل تلاوتهم صلاة الأبانا. إنَّ خروج المؤمِنِين مِن القدَّاس قبل هذه الصّلاة دليلٌ على قَطِعهم حَبل الأخوّة الّذي يجمعهم مع إخوتهم بيسوع المسيح وبالله الآب. إنّ مُفتاح داود قد سلَّمه الربُّ يسوع إلى كلِّ مؤمنٍ به، وبالتّالي تَقع على عاتق كلِّ مؤمنٍ مسؤوليّة مساعدة إخوته على الوصول بهم إلى الملكوت. إنَّ الربِّ يسوع قد فَتَح أمامَنا باب الملكوت ولا يستطيع أحدٌ إغلاقه، لذا لا داعي للخوف من عدم قُدرتِك على الدُّخول إلى الملكوت. إنَّ عبارة "حِفظ" كلمة الله، لا تعني تصويرها في ذاكِرِتنا وإسماعها للآخرين عند اللّزوم، كما يُسمِّع التِّلميذ أمثولته، بل تعني صون كلمة الله من كلِّ فسادٍ قد تتعرَّض له بسبب إهمالنا لها. على المؤمِن الاختيار ما بين إعلان إيمانه بالله عند تعرُّضه للاضطهاد وبالتّالي الاستشهاد؛ وبين نُكرانه لإيمانه بالله والاعتراف بإلهٍ آخر للمحافظة على حياته الأرضيّة. إنَّ عبارة "الذّين مِن مَجمع الشّيطان"، تُشير إلى كلِّ يهوديّ شِهد على المؤمِنِين أمام الـمُضطَهدِين، مّما أدّى إلى استشهاد المؤمِنين. في هذه الرِّسالة، يُخبر الربُّ المؤمِنِين به، أنّ كلّ مَن ساهَم في استشهادهم سيأتون سُجَّدًا لهم حين وصول الشُّهداء إلى الملكوت. إنَّ المؤمِن يفرح عند اكتشافه محبّة الله له، لذا يُعلِن عن توبته عن طريقه الضّال والعودة إلى الله. إنّ التوبة تبدأ بِوَعي المؤمِن لمحبّة الله أوّلاً، ثمّ لِخَطيئته. إنَّ المؤمِن قد يندم على خطيئته ولكنّه لا يتوب عنها إلّا عند اكتشافه محبّة الله. إنَّ التوبة تبدأ بِأمرَين: أوّلاً، شعور المؤمن بالإفلاس من وَضعِه كخاطئ، وثانيًا شعوره بمحبّة الله له. إنّ دَور الكاهن في سرّ التّوبة يكمن في مساعدة المؤمِن على اكتشاف محبّة الله لا التَّركيز على خطايا المؤمِن. فسرّ التوبة ليست مسألة "حقوقيّة" فيها بنودًا جزائية عند المخالفة، ولا هي "عمليّة تسديد فواتير" خطايا المؤمن. إنَّ الله قد سدَّد كلّ فواتير خطايانا على الصّليب حتّى قبل ارتكابنا لها، وبالتّالي لا داعي للخوف من التقرُّب من سرّ التَّوبة. في سرّ التوبة، يفرح الكاهن الّذي يمثِّل الكنيسة جمعاء، بعودة المؤمِن إلى الله تائبًا عن خطاياه. إنَّ كلّ إنسانٍ يلتَزم الحقّ، يُعانِقُ الصَّليب، وبالتّالي هناك ضرورةٌ لتحلِّي المؤمِن بالصَّبر، ولذلك قال الربُّ: "لأنَّك حَفِظتَ كَلِمةَ صَبري". إنَّ كلمة الله مرتبطةٌ بالصَّبر إذ إنَّ كلَّ من يلتزِم بها سيُعاني من الضِّيق، وبالتّالي عليه بالصّبر وبالعمل بجهدٍ للمحافظة على إيمانه بالله. إنّ "ساعة التَّجربة"، هي ساعة وقوع المؤمِن تحت نير الاضطهاد، إذ عليه الاختيار ما بين الثبات في إيمانه والاستشهاد، وبين نُكرانِه لإيمانه بالربّ والقبول بالـمُغريات الّتي تُعرَض عليه. إنَّ تعرُّض المؤمِنِين "للتَّجربة العَتيدة"، الّتي تكلَّم عنها الربُّ من خلال يوحنّا الرَّسول، هو الّذي يقسم بين النّاس إلى قِسمين: مؤمنون ثابتون في الربّ، وآخَرون رافِضون للربّ. إنَّ ما يؤخِّر توبة المؤمِن وقداسته هو الاشتراك في الفخّ الشَّيطاني، القاضي بتقسيم النّاس ودينونتهم. إنَّ الشَّرط الأساسيّ لقداسة المؤمن هو تَحَرُّرِه من ظنِّه السَّيئ بالآخَرين. إنّ عبارة "تَمَسَّكْ بما عندك لئلّا يأخُذَ أَحدٌ إكليلَك"، تعني أنّ المؤمِن يملِكُ إكليلاً، أعطاه إيّاه الله. كانت الأكاليل في القديم تُوضَع على رؤوس الملوك، أمثال داود. إذًا، إنَّ المؤمِنِين هُم مُلوكٌ، وهنا نتذكَّر كلمة بطرس الرَّسول، نحن كهنوتٌ ملوكيّ، أمَّةٌ مقدَّسة. إنّ الربّ قد جَعلَنا مُلوكًا إذ وَضَع على رؤوسنا الأكاليل، وبالتّالي على المؤمِنِين الاجتهاد للمحافظة على هذه الأكاليل على رؤوسهم. لذلك، في الصّوم، نحن لا نصوم للحصول على عطايا الربِّ الإلهيّة، بل نصوم لأنّ الربَّ قد سبَقَ وأعطانا كلّ عطاياه، وبالتّالي نصوم للمحافظة على ما حَصَلنا عليه من الربِّ. كذلك الأمر بالنِّسبة إلى الصّلاة، فنحن نُصلِّي للمحافظة على ما حَصَلنا عليه، لا للحصول على العطايا الإلهيّة. إنَّ الربَّ يسوع قد خلَّصنا من كلّ القوانين، وأعطانا كلّ شيء ودعانا للمحافظة على ما حَصَلنا عليه، من خلال التِزامِنا بقانون الحبّ. غير أنَّ الإنسان في الكثير من الأحيان يَحِنُّ إلى قوانين الشَّريعة، لأنّ قانون الحبّ حرَّرنا وجعلنا مسؤولِين عن أعمالِنا.

نحن في زمن سِفر الرؤية، فأَصغوا إلى تعزيات الرُّوح، تتخلَّصون من كلِّ خوفٍ ينتابكم بسبب ما يحصل في العالم. ستُعانون من المزيد من الضِّيق بسبب التزامكم بكلمة الله، ولكنَّ الربَّ يدعوكم إلى الثِّقة به إذ قال لنا: "ثقوا، قد غَلَبْتُ العالم". آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.
3/12/2019 سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الثّاني، 12-29 التّشدّد في الصُّعوبات
https://www.youtube.com/watch?v=HNNOGbLpdRE&t=39s

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا
الإصحاح الثاني - الجزء الثاني، 12-29
الأب ابراهيم سعد

3/12/2019

"وَاكْتُب إلى مَلاكِ الكنيسة الّتي في بَرْغامُسَ: "هَذا يَقولُهُ الّذي لَهُ السَّيفُ الـمَاضي ذُو الـحَدَّيْنِ: أنا عارِفٌ أعمَالَكَ، وأَينَ تَسْكُنُ حَيثُ كُرسِيُّ الشَّيطانِ، وأنتَ مُتَمَسِّكٌ باسْمِي، وَلَمْ تُنكِرُ إيماني حتّى في الأيّامِ الّتي فِيها كانَ أنْتِيبَاسُ شَهيدِي الأَمينُ الّذي قُتِلَ عِندَكُم حَيْثُ الشَّيطانُ يَسكُن. وَلَكنْ عِنْدِي عَليْكَ قَليلٌ: إنَّ عِنْدَكَ هُناكَ قَوْمًا مُتَمَسِّكينَ بِتَعَليمِ بَلعامَ، الّذي يُعلِّمُ بَالاقَ أَنْ يُلقِيَ مَعْثَرَةً أَمامَ بَنِي إسرائيلَ: أَنْ يَأكُلوا ما ذُبِحَ للأوثانِ، وَيَزْنُوا. هَكذا عِنْدَكَ أَنْتَ أيضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكونَ بِتَعلِيمِ النُّقولاويِّينَ الّذي أُبغِضُهُ. فَتُبْ وإلّا فإنِّي آتِيْكَ سَريعًا وأُحارِبُهُم بِسَيْفِ فَمِي. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَعْ ما يَقُولُهُ الرُّوحُ للكَنائِسِ. مَن يَغلِبْ فَسَأُعْطيهِ أَنْ يأكُلَ مِنَ الـمَنِّ الـمُخْفَى، وأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيضَاءَ، وعَلَى الحَصَاةِ اسْمٌ جَديدٌ مَكتُوبٌ لا يَعرِفُه أَحَدٌ غَيرُ الّذي يَأخُذ".
وَاكْتُبْ إلى مَلاكِ الكَنيسَةِ الّتي في ثَياتِيرا: "هَذا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الّذي لَهُ عَينانِ كَلَهيبِ نارٍ، وَرِجلاهُ مِثلُ النُّحاسِ النَّقِيِ: أَنا عارِفٌ أعمالَكَ وَمَحَبَّتَكَ وَخِدَمَتَك وَإيمانَكَ وَصَبرَكَ، وأَنَّ أعمالَكَ الأخِيرَةَ أَكثَرُ مِنَ الأُولَى. لَكِنْ عِنْدِي عَليكَ قَليلٌ: إِنَّكَ تُسَيِّبُ الـمَرأةَ إِيزَابَلَ الّتي تَقولُ إنَّها نَبِيَّةٌ، حتّى تُعلِّمَ وَتَغوِيَ عَبيدِي أَنْ يَزْنُوا ويَأكُلوا ما ذُبِحَ للأَوثانِ. وأَعْطَيتُها زَمانًا لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِناها وَلَمْ تَتُبْ. ها أَنا أُلْقِيها في فراشٍ، والّذينَ يَزنُونَ مَعَها في ضيقةٍ عَظيمةٍ، إنْ كانُوا لا يَتُوبونَ عَن أعمالِهِم. وَأَولادُها أَقْتُلُهم بالـمَوتِ. فَسَتَعرِفُ جَميعُ الكَنائِسِ أنِّي أنا هو الفاحِصُ الكُلى والقُلوبِ، وسأُعطِي كُلَّ واحِدٍ مِنكُم بِحَسَبِ أَعمالِهِ. وَلَكِنَّني أَقولُ لَكُم ولِلباقِينَ في ثِيَاتِيرا، كُلُّ الّذينَ لَيسَ لَهُم هذا التَّعليمُ، والّذينَ لَمْ يَعرِفُوا أَعماقَ الشَّيطانِ، كما يَقُولونَ: إنِّي لا أُلقِي عَليكم ثِقلاً آخَرَ، وَإنَّما الّذي عِندَكُم تَمَسَّكوا بِهِ إلى أَنْ أَجيءَ. وَمنَ يَغلِبْ ويَحفَظْ أَعمالِي إلى النِّهَايةِ فَسَأُعطِيهِ سُلطانًا على الأُمَمِ، فَيَرعاهُم بِقَضيبِ مِن حديدٍ، كَما تُكسَرُ آنيةٌ مِن خَزَفٍ، كَما أَخَذْتُ أنا أيضًا مِن عندِ أبي، وأُعطيهِ كَوكَبَ الصُّبحِ. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَع ما يَقولُهُ الرُّوحُ للكنائسِ".

برغامس هي إحدى المدن في آسيا الصُّغرى. إنَّ الرُّوح طلب من يوحنّا الرَّسول أن يكتب إلى هذه الكنائس السَّبع الموجودة في آسيا الصُّغرى؛ والرَّقم سبعة هو رقم الكمال، وبالتّالي الكنائس السّبعة تشير إلى الكنيسة المقدَّسة جمعاء. إنَّ يوحنّا الرَّسول يكتب إلى كلّ كنيسة من هذه الكنائس السَّبعة، انطلاقًا من واقِعها الخاصّ. إنَّ صعوبات الكنائس في ذلك الزّمان هي صعوباتٌ تتعرَّض لها الكنيسة في كلِّ زمان. إنَّ السَّيفَ هو أداةٌ حادّة، يرمز إلى كلمة الله، وقد استعمل يوحنّا الرَّسول عبارة "سَيف" أكثر من مرّة في هذا الإصحاح: "السَّيف ذو الحَدَّين"، و"سيفِ فَمي". كذلك، لجأ بولس الرَّسول إلى استعمال عبارة "سَيف" في رسائله، قائلاً: "سيَف الرُّوح"، للإشارة إلى كلمة الله. إنَّ كلمة الله تُشدِّد المؤمِن في وقت الصُّعوبات، فَبِدُونِها يشعر المؤمن بالضَّياع، وبالتّالي يشعر بأنَّه غير قادر على اتِّخاذ القرارات الصَّحيحة خصوصًا في أوقات الشِّدة. وفي هذا الإصحاح، يُعبِّر يوحنّا الرَّسول عن خوفه مِن تَزعزع المؤمِنِين في إيمانهم بالربّ، عند تعرُّضهم للإغراءات والتّرهيب. إنَّ كلَّ مؤمنٍ مُعرَّضٌ للوقوع في هذه التَّجارب، وإليكم مِثالٌ على ذلك: في زمن الميلاد، يربط بعض المؤمِنِين شعورهم بفرح العيد بالظروف الاقتصاديّة عِوَض ربطِ شعورهم بالفرح بالإله المخلِّص المولود، فيُخيَّل إلى السَّامِعين أنَّ مَصدَر الفرح الحقيقيّ هو الأمور الخارجيّة لا المسيح يسوع، صاحب العيد. للأسف في عيد الميلاد، نلاحظ غياب المسيح عن أفراحنا، إذ لم يَعُد المسيح موضوع العيد بل وسيلة للاحتفال بالعيد. يَضع الاضطهادُ المؤمِنِين بالربّ، أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا إنكار المسيح للمحافظة على حياتهم الأرضيّة، وإمّا تَمَسُّكهم بالمسيح، كلمة الله، على الرُّغم من كلِّ الضُّغوطات الّتي يتعرَّضون لها. إنّ كلمة الله تمنح المؤمِنِين بها الأمان الحقيقيّ، الّذي لا يستطيع أحدٌ من البشر إعطاءه للمؤمِنِين. إنَّ الأمان الحقيقيّ لا يقوم على محافظة المؤمِن على حياته الأرضيّة، بل يقوم على محافظة المؤمنِ على حياته الأبديّة في السّماء، حتّى ولو كلَّفه ذلك موته الجسديّ، نتيجة تمسُّكه بكلمة الله الحقّة. إنَّ عمل الربَّ الخلاصيّ من أجل البشر ليس مجرَّد قصَّةٍ تتناول قصَّة بطلٍ تاريخيّ، هو يسوع المسيح، بل هو حقيقةٌ لا يستطيع الآخَرون لَمسَها إلّا من خلال شهادة المؤمِنِين بالربِّ من خلال أقوالهم وأفعالهم في حياتهم اليوميّة. إنَّ الربَّ يسوع قد قام بعمله الخلاصيّ لأجلنا وأوكَل إلينا، نحن المؤمِنون به، مَهمَّةَ نقلِ هذه البشارة إلى الآخَرين. يُنهي يوحنّا الرَّسول كلَّ رسالةٍ من هذه الرَّسائل السَّبعة إلى الكنائس السَّبعة في آسيا الصُّغرى بعبارة: "مَن يَغلب"، ولكنّ القِسم الثاني من هذه الـجُملة، يختلف بين كنيسة وأخرى، كلٌّ بحسب وَضعها. إنّ هذه العبارة، الّتي تردَّدت سَبعَ مرّات، لا تتحقَّق إلّا في العبارة الأخيرة: "مَن يغلب كما غلبتُ أنا"، أي كما غلب المسيح يسوع. إنَّ الربَّ يسوع قد أحبَّ البشريّة، فنال الصَّلب نتيجةَ حبُّه لهم، وبالتّالي إنَّ غلبة المسيح لم تكن بموته على الصَّليب بل بحبِّه للبشريّة. أمام رسالة المسيح، على المؤمِن اتِّخاذ القرار: إمّا بقبول حبِّ الربِّ له، فيتعلَّق به ويتبعه؛ وإمّا بِرَفضِ هذا الحبّ الإلهيّ، فيترك المؤمِن الله ساعيًا إلى إلغائه من حياته.

في هذا الإصحاح، يدعو يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين إلى التمسُّك بما عِندهم إلى أن يَجيء المسيح. إنَّ عبارة "الّذي عِندَكُم"، تعني كلمة الله الّتي نالوها حين قَبِلوا الإيمان، وبالتّالي يدعو يوحنّا الرَّسول المؤمِنِين بالربِّ إلى التمسُّك برجائهم المسيحيّ في وقت الاضطهاد. إنّ عبارة "إلى أن أجيء"، ليست عبارةً ذات معنى مجازيّ، إنّما هي عبارة تدلُّ على حقيقة إيمانيّة، وهي مجيء الربّ الثّاني. إنَّ استعدادنا لمجيء الربِّ يكون بالتمسُّك بكلمة الله. لذلك، يقول لنا الرُّوح، من خلال يوحنّا الرَّسول: "مَن يَغلُب فسأعطيه مِنَ الـمَنّ الـمُخفى". إنَّ الـمَنّ يُذكِّرنا بالشَّعب اليهوديّ في الصَّحراء حين كان الله يُرسِل إليهم الـمَنَّ طعامًا، وهو لم يكن مَنًّا مَخفيًا عليهم بل في متناول أيديهم. إنَّ هذا الـمَنَّ الّذي حَصلوا عليه في الصَّحراء هو مَنٌّ أرضيّ، غير قادرٍ على منحهم الحياة الأبديّة. إنَّ بعضًا من الشَّعب اليهوديّ خافوا من عدم حصولهم على الطَّعام في اليوم التّالي، فخبّأوا قِسمًا من المنَّ فأصبح غير صالحٍ لليوم التّالي. وبالتّالي، على المؤمِنِين الثِّقة بالله، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يواجهونها، كما فَعل إبراهيم في العهد القديم. إنّ ابراهيم آمَن بالله، فافتقر من كلّ شيءٍ أرضيّ ليَغتني بالله. هناك فرقٌ كبيرٌ بين الإيمان بالله وبين ابتزاز الله: فالابتزاز يقوم على محاولة إغراء الله بتقويّاتنا للحصول على عطاياه الإلهيّة، أمّا الإيمان فيقوم على تصديق كلام الله والعمل به قَبْلَ حصولنا على البراهين. إنَّ الشَّيطان يعرِف محدوديّته أمام الله، أمّا الإنسان فلا يعرفها إذ يتجرّأ على تهديد الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق لنا ما يطلبه منه. إنَّ "الـمَنّ الـمُخفى" يَعني بِذرة الحياة الأبديّة. إنَّ الحصاة تُذكِّرنا بالعهد القديم إذ كان الشَّعب اليهوديّ يلجأ إليها للقرعة فيُدرِك كلّ فردٍ دَورَه. إنَّ الحصاة الّتي ينالها المؤمن مِنَ الله تُحدِّد له اسمه الجديد، الّذي لا يستطيع أحدٌ معرِفته. إنّ المؤمِن يُصدِّق كلام الله هذا، لذا هو يستمدِّ قوَّته من وعود الله للبشر، أي من كلمته الإلهيّة. إنَّ علاقة ابتزاز المؤمِن بالله معرَّضة للزعزعة في أوقات الشِّدة، لأنّها مبنيّة على مبدأ وجود مُنتَصِر وآخر مَغلوب: والمؤمِن في هذه العلاقة دائمًا هو المنتصر، والله هو المغلوب الدَّائم، لذا يتجرّأ المؤمن على وضع شروطِه على الله. إنَّ الله يدعونا قائلاً: "أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه تُزادوا هذا كُلَّه"(متى 6: 23)، غير أنَّ عددًا كبيرًا من المؤمِنِين غير مقتنع بحقيقة وجود الملكوت، ويعتبرها مجرَّد فكرة فلسفيّة.

إنَّ إيمان الإنسان يتجلَّى في وقت الشِّدة والصُّعوبات لا في أوقات الرّاحة والبحبوحة، وبالتّالي لا يستطيع الإنسان اختبار سِفر الرُّؤيا وفَهمه إلّا عند مواجهته الصُّعوبات. إنَّ الصَّبر لا يختبره الإنسان إلّا عند تعرُّضِه للوجع. إنَّ سؤال الإنسان عن سبب وجود الأوجاع في هذه الدُّنيا يدلّ على قلَّة صبره، أمّا سؤاله عن كيفية مواجهته لها انطلاقًا من إيمانه بالربّ، فهذا يدلّ على عظمة صَبره. وإليكم مَثَلَين من الإنجيل: الأوّل بشارة الملاك لِزَكريّا الكاهن، والثّاني بشارة الملاك للعذراء مريم. في البشارة الأولى، تلَّقى زكريّا الكاهن البشارة من الملاك، غير أنَّه لم يُصدِّقها، فسأل عن براهين لتأكيد صحَّة أقوال الملاك، فأَتاه الجواب بأن يكون صامتًا إلى ساعة ولادة يوحنّا. أمّا في البشارة الثانية، فقَد آمَنت مريم بكلام الملاك لها، ولكنّها طلبَت بعض التوضيحات حول كلامه، إذ لم تكن تملك إمكانيّات تساعدها على فَهم كلامه، فأَتاها الجواب بِنَسيبَتَها أليصابات الحامل في شيخوختها.كان زكريّا الكاهن رَجُلاً متزوِّجًا وبالتّالي لديه إمكانيّة للإنجاب على الرُّغم من أنَّه كان طاعنًا في السِّن، أمّا العذراء مريم فكانت بتولاً أي فتاةً غير متزوِّجة وبالتّالي لا إمكانيّة لديها للإنجاب، وبالتّالي مَن لا يملك إمكانيّة لتحقيق كلام الله آمن به، في حين أنَّ الّذي يملك إمكانيّة لتحقيق كلام الله شكَّ فيه. إذًا، إنَّ كلمة الله تَقلب كلّ المقاييس، رأسًا على عَقِب، مخالِفةً بذلك المنطق البشريّ. فالإنسان لا يستطيع إدراك أفكار الله، وهذا ما يؤكِّده الله ذاته للمؤمِنِين به، إذ يقول: "فإنَّ أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرُقكم طُرقي، يقول الربّ.كما تعلو السَّماواتِ عن الأرضِ،كذلك طُرُقي تَعلو عن طُرُقِكم، وأَفكاري عن أفكارِكم"(إشعيا 55: 8-9). إنَّ كلمة الله هذه الّتي قِيلَت لإشعيا لا تزال فاعلة في أيّامنا هذه، إذ نُسنِد إلى الله أفكارَنا، نطلب منه إنزال العِقاب على هذه الأرض بجميع الـمُسِيئين إلينا، ومحبّة الآخَرين على مِثال محبَّتنا لهم. حاول بولس الرَّسول تقديم إيضاح للمؤمِنِين حول علاقة الله بالكنيسة، فأعطاهم صورة سرّ الزَّواج إذ قال: "ليخضع بعضكم لبعضٍ بتَقوى المسيح. أيّتها النِّساء إخضعن لأزواجكُّنَ خضوعكنَّ للربّ، لأنَّ الرَّجُلَ هو رأس المرأة كما أنَّ المسيح رأس الكنيسة الّتي هي جسده وهو مخلِّصها... أيّها الرِّجال، أحبُّوا نساءكم كما أحبَّ المسيحُ وجادَ بِنَفسِه من أجلها ليُقدِّسَها مُطهِّرًا إيّاها بِغَسلِ الماءِ وكَلِمة تَصحَبُهُ، فيَزُفُّها إلى نفسِه كَنيسَةً سَنِيَّةً لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدَّسة لا عيبَ فيها"(أفسس5: 21-27). في الكنيسة، هناك سرّ زواجٍ واحد، هو سرّ زواج المسيح مع كنيسته، أمَّا الرَّجل والمرأة فيدخلان من خلال زواجهما في سرّ زواج المسيح من كنيسته. إنَّ كلَّ زواج، يتطلَّب وجودَ طَرَفَين: إنَّ المسيح هو الطرف الأوّل في الزَّواج، أمّا الطرف الثّاني فهو الرَّجُل والمرأة مَجتَمِعَين، إذ إنّهما عروس المسيح. إنَّ الزَّواج هو مُمَثِّل للكنيسة الّتي هي عروس المسيح. إنَّ المفهوم الخاطئ لِسِرّ الزَّواج يؤدِّي بالمتَّزوجِين إلى فَتح دعاوى طلاق عند مواجهتهم للصُّعوبات، في حين أنَّ فَهمَهم الصَّحيح لسرّ الزَّواج الكنسيّ يُكسِبهم معنى أعمق لمفهوم التضحية ومفهوم الحبّ. وبالتّالي، يتحوَّل سرّ الزّواج إلى سباق في المحبّة بين الرَّجل وامرأته، كما يتسابق المسيح على محبّة كنيسته بغفرانه جميع خطاياها، دونَ كَللٍ أو مَللٍ. إنَّ المنطق البشريّ في الحبّ، يستند إلى مواصفات الآخَر الحَسَنة؛ أمّا المنطق الإلهيّ في الحبّ، فهو مرتبطٌ بخطايانا، فالله يُحبّ البشر على الرُّغم من خطاياهم لأنّ الله محبَّة، وهو لا يستطيع إنكار حقيقته الإلهية هذه. إنَّ الله خلَّص البشريّة من خطاياها بِفعل محبَّته العظيمة للبشر، وهو لا يطلب من البشريّة إلّا القبول بهذا الخلاص، وإعلان قبولهم هذا من خلال غلَبَتِهم على كلّ معارك الشِّرير في هذه الحياة. إنَّ الغَلبة هي انتصارُ الإنسان في المعركة على العَدُّو، وهو الشَّيطان، وبالتّالي لا غلبة دون معركة. إنَّ الشَّيطان لا يمكنه الدُّخول إلى الكنيسة إلّا من خلال بعض المؤمِنِين الّذين يتماشون مع اعماله، كالنُّقولاويِّين الّذين يذكرهم لنا يوحنّا الرّسول في هذا الإصحاح. إنَّ النُقولاويِّين هم مؤمِنون قد مَزجوا ما بين العبادة الصَّحيحة لله وعبادتهم للأوثان، وهذا عَمَلٌ لا يُرضي الله. إنَّ بلعام هو أحدى شخصيّات العهد القديم، الّذي أراد أن يلعن الله، فتكلَّم الحمار وبارك الله. إذًا، في الكنيسة، أي في دُور العبادة، أشخاصٌ أعداء للمسيح إذ يسعون إلى إبعاد المؤمِنِين عن التَّعليم الصَّحيح عبر بَثِّهم أفكارًا مخالفة لما علَّم المسيح يسوع. إنَّ الرُّوح يطلب من المؤمنِين العودة عن ضلالهم، أي التَّوبة.

وفي رسالته الّتي يوجِّهها إلى كنيسة ثياتيرا، يستخدم الرَّسول صِفات الله الموجودة في العهد القديم، والّتي تُعبِّر عن الألوهة حين يقول: "هَذا يَقُولُهُ ابْنُ اللهِ، الّذي لَهُ عَينانِ كَلَهيبِ نارٍ، وَرِجلاهُ مِثلُ النُّحاسِ النَّقِي". إنَّ المقصود بعبارة "عيناه كلهيب نار"، هو أنَّ الله قادر على رؤية خفايا الكُلى والقلوب، والمقصود بعبارة "رجلاه كالنُّحاس النَّقي"، هو أنَّ كلمة الله لا تتزعزع. يذكر لنا يوحنّا الرَّسول خمسَ صِفاتٍ اتسَّم بها ملاك الكنيسة في ثياتيرا، وهي: "الأعمال والمحبّة والخِدمة والإيمان والصَّبر". إنَّ الأعمال هي نتيجة محبّة الإنسان للآخَرين، والمحبَّة ثمرتها الخدمة، والخدمة مبنيّة على إيمان الإنسان بالله، والثَّبات في الإيمان يتطلَّب صبرًا عند مواجهة المؤمن للصُّعوبات الحياتيّة. بعد ذِكره لحَسنات ملاك الكنيسة في ثياتيرا، يوجِّه الله من خلال يوحنّا الرَّسول، ملامة إليه بخصوص إيزابل، الّتي تدَّعي النبوءة، وتجتهد في حثِّ المؤمِنِين على الزَّنى. إنَّ الزِّنى في الكِتاب المقدَّس يُعبِّر عن ابتعاد الإنسان عن الله، واتِّباعه لآلهةٍ وثنيّة، وهذا ما يقصده الرّسول بعبارة "يأكُلوا ما ذُبِح للأوثان". هذا ما عاناه بولس الرُّسول على سبيل المِثال في كورنثوس الّتي كانت مدينة وثنيّة قبل قبولها الإيمان بالربِّ يسوع: فأَهلُها قد وَجَدوا صعوبةً في تَركِ عاداتهم الوثنيّة، بعد قبولهم الإيمان، لذا قاموا بالـمَزج ما بين العبادة لله الواحد والعبادات الوثنيّة، إذ كانوا يُشارِكون في بعض الاحتفالات الوثنيّة، وهذا ما أدّى إلى تشكيك بعض المؤمنِين. عند معرفته بالأمر، طلب بولس الرَّسول من المؤمِنِين في كورنثوس عدم المشاركة في الاحتفالات الوثنيّة.
إنَّ الكبرياء، أي التَّعالي على الآخَرين هو ناتجٌ عن نقصٍ في المحبّة عند المؤمِن، فالمحبَّة كما يقول لنا بولس الرَّسول:"المحبّة تَصبر، المحبّة تَخدم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تنتَفخ من الكبرياء، ولا تَفعل ما ليس بِشَريف ولا تسعى إلى منفعتها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بالسُّوء، ولا تَفرحُ بالظُّلم، بل تَفرَحُ بالحقّ. وهي تَعذُر كلَّ شيء وتُصدِّقُ كلَّ شيء وتَرجو كلَّ شيء وتتحمَّل كلَّ شيء" (1 كور 13: 4-7). وبالتّالي على المؤمِن مخاصمة الخطيئة والتَّرؤف بالخاطئ. إنَّ الربَّ يسوع يَكره خطيئة الإنسان، ولكنَّه يُحبُّ الإنسان، لذا يُطهِّره ويَغسله من خطيئته ثمّ يدعوه إلى الاتِّحاد به من جديد. إنَّ المسيح هو الذي يُجدِّد عهده مع الخاطئ بعد توبة هذا الأخير؛ وبإعلان الخاطئ توبته، يُجدِّدُ هذا الأخير قبوله بعهد الله. وهذا ما يَحدُث في القدَّاس الإلهيّ، إذ يُجدِّد الله عَهَده مع المؤمِنِين به، على الرُّغم من خطاياهم، ويُعلِن المؤمِنون قبولهم بهذا العهد الإلهيّ قائلين: "آمين".

إنَّ الله يلوم ملاك الكنيسة في ثياتيرا على سماحه للوثنيِّة في الدُّخول إلى الكنيسة. إنَّ الوثنيّة لا تعني عبادة الأوثان، إنّما تعني عبادة الإنسان لإلهٍ آخر غير الله. إنَّ الّذي يَثبُت في إيمانه بالله على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات الَّتي يواجهها في هذه الحياة نتيجة إيمانه بالله، سيَمنحه الله نعمة الجلوس معه على العرش في اليوم الأخير لدينونة الشُّعوب. إنَّ الرَّسول يشترك مع الربِّ في دينونة الشُّعوب إذ يتحوَّل الرَّسول إلى مِثالٍ لكلِّ مؤمنٍ اختار العيش مع الربِّ في الملكوت. إنَّ الرِّعاية هي لله وَحده، ولكنَّ الرَّسول يُصبح على مِثال الله، حين يعيش حياته الأرضيّة طائعًا لكلمة الله. على المؤمِن أن يسعى كي تكون أُذُنه مُصغية إلى كلمة الله، فيتمكّن، من النُّطق بها والسّلوك بموجبها في حياته الأرضيّة، ومواجهة تحدِّيات هذا العالم له بالمحبّة والخدمة والصَّبر.
إنَّ فَرحنا بالمولود الإلهيّ ليس مرتبطًا بالزِّينة الخارجيّة وبالأوضاع الاقتصاديّة الّتي نعيشها، بل بشَخصٍ آخر هو المولود الآتي مِن زمنٍ آخر لينقُلَنا إلى زمنٍ آخر هو زمن الحياة الأبديّة، زمن الملكوت السَّماويّ. وبالتّالي، لا يجوز لنا رَبطَ مصيرنا بالأمور الخارجيّة الفانية. يُخبرنا سِفر الرُّؤيا أنَّ مصير المؤمِن في هذه الحياة متعلِّقٌ بجوابه عن السُّؤال التّالي، عند تعرُّضه للاضطهاد: مَن هو إلهُك؟"، فإذا اعترف بالربِّ وتمسَّك به، نال الموت الجسديّ في هذه الحياة الأرضيّة، ورَبِح الحياة الأبديّة في الملكوت السَّماوي؛ أمّا إذا اعترف بالامبراطور أو الملك إلهًا له، نال الحياة في هذه الأرض وخسر الحياة الأبديّة، إذ انضمّ إلى "جماعة الشَّيطان"، أي من أعداء المسيح الّذي تكلَّم عنهم هذا الإصحاح من سِفر الرُّؤيا. إنَّ هدَف الشَّيطان هو دَفع المؤمنِين إلى الابتعاد عن الله، من خلال ضَرب نِقاط قوَّتهم لا نِقاط ضَعفِهم. إنَّ الشّيطان يسعى إلى إضعاف إيمان كلّ مؤمنٍ، من خلال دَفعِ المؤمن إلى إفراغ أعماله الصّالحة من جوهرها، فيحثُّه مَثلاً على إدانة الآخرين وحَسدِهم. إنَّ سِفر الرُّؤيا موضوعٌ لهذه الأزمنة الصَّعبة الّتي نعاني منها اليوم، فنتمكَّن من خلال قراءتنا له من التشدُّد بإيماننا على الرُّغم من كلّ الصُّعوبات الحياتيّة الّتي نواجهها. يدعونا يوحنّا الرَّسول، من خلال هذا الإصحاح، إلى إعادة النَّظر في إيماننا، والتَّمسُك به إلى يوم مجيء الربِّ في اليوم الأخير. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
26/11/2019 سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الثّاني، 1-11 الثبات في الإيمان
https://www.youtube.com/watch?v=-S_cVRSYJMc&t=1660s

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا
الإصحاح الثّاني،1-11
الأب ابراهيم سعد

26/11/2019

"اُكتُبْ إلى ملاكِ كنيسةِ أَفسُسَ: "هذا ما يَقولُه الـمُمْسِكُ السَّبعةِ الكَواكِبَ في يَمينِه، الماشي في وَسَطِ السَّبْعِ الـمَنايرِ الذَّهَبيَّة: أَنا عارفٌ أعمالَكَ وتَعَبَكَ وصَبرَكَ، وأَنَّك لا تَقدِرُ أن تَحتَمِلَ الأشرارَ، وقَد جرَبْتَ القائلِينَ إنَّهم رُسُلٌ ولَيسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُم كاذِبينَ. وقَدِ احتَمَلْتَ ولَكَ صَبرٌ، وتَعِبْتَ مِن أجلِ اسْمي ولَم تَكِلَّ. لَكِنْ عِندي عَليْكَ: أنَّك تَرَكْتَ مَحبَّتَكَ الأُولى. فاذْكُر مِن أينَ سَقَطْتَ وتُبْ، واعْمَلِ الأعمالَ الأُولى، وإلَّا فإنِّي آتِيكَ عَن قَريبٍ وأُزَحزِحُ مَنَارَتَكَ مِن مكانِها، إنْ لَم تَتُب. ولَكِن عِندَكَ هَذا: أَنَّكَ تُبغِضُ أَعمال النُّقولاويِّين الّتي أُبْغِضُها أنا أيضًا. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَع ما يَقولُه الرُّوحُ للكَنائِسِ. مَن يَغلِبُ فَسَأُعطيهِ أنْ يأكُلَ مِن شَجرةِ الحَياةِ الّتي في وَسَطِ فِردَوسِ اللهِ".
واكْتُب إلى ملاكِ كَنيسَةِ سِمِيرْنا: "هذا يَقُولُه الأوَّلُ والآخِرُ، الّذي كان مَيتًا فَعاشَ: أنا أعرِفُ أعمالَكَ وَضِيقَتَكَ وَفَقْرَكَ مَعَ أَنَّكَ غَنيٌّ. وتَجديفَ القائِلينَ: إنّهم يَهُودٌ وَلَيسُوا يَهودًا، بل هُم مَجمعُ الشَّيطانِ. لا تَخَفْ البَتَّةَ مِمّا أنتَ عَتيدٌ أنْ تتألَّمَ بِهِ. هُوذَا إبليسُ مُزمِعٌ أنْ يُلقِيَ بَعضًا مِنكُم في السِّجنِ لِكَي تُجَرَّبوا، ويَكونَ لَكُم ضِيقٌ عَشَرَةَ أيّامٍ. كُن أمينًا إلى الموتِ فسَأُعطيكَ إِكليلَ الحَياةِ. مَن لَهُ أُذُنٌ فَليَسمَعْ ما يَقولُهُ الرُّوح للكنائسِ. مَن يَغلِبُ فلا يُؤذِيهِ الموتُ الثَّاني".

إنَّ هذا النَّص من سِفر الرُّؤيا، يبدأ بعبارة "أُكتب"، للدَّلالة على أنّ ما يكتبه يوحنّا هو بأمرٍ من الرُّوح. إنَّ عبارة "ملاك كنيسة" تعني المسؤول في الكنيسة، أي ما يُعرَف في أيَّامنا هذه بالأُسقف، فإنَّ كلمة "ملاك" في اللُّغة العِبريّة تعني الرَّسول الّذي تُوكَل إليه مهمَّة إيصال الرِّسالة إلى الآخَرين، وهذه هي مهمَّة الأسقف الأساسيّة: إيصال مشيئة الله إلى الشَّعب المؤمِن، الآن وهُنا. على الأُسقف إيصال الرِّسالة الإلهيّة إلى المؤمنِين اليوم والآن، فيتمَّكن المؤمِنون من اتِّخاذ موقفٍ منها، إمّا بقبولها وإمّا برفضها، فالوقوف على الحياد غير مفيد، إذ يقول الربّ: "أمّا وأنتَ فاترٌ، لا حارّ ولا بارد، فسأتقيّأُكَ مِن فَمي"(رؤيا 3: 16). إنّ المناير السَّبع تشير إلى الهيكل اليهوديّ. إنَّ الرُّوح يمدح الرَّسول على صَبره في الـمِحن، ولكنّه يَلومُه على تراجع محبّته الأوّلى، لذا يدعوه إلى التَّوبة إذ إنَّ الله يعتبر نِسيان الرَّسول لمحبَّـته الأولى خطيئة. إنَّ الله يُذكِّر الرَّسول أنَّ مسؤوليّة الأسقف أو ملاك الكنيسة ليست مسؤوليّة أبديّة، بل هي مسؤوليّة مُعَرَّضة للزعزعة، عند وقوع هذا الأخير في الخطيئة. إنَّ النُّقولاويِّين هم مجموعة من المؤمِنِين الّذين ضلّوا طريق الربّ في اتِّباعهم لشخصٍ يُدعى نيقولاوس، الّذي كان ينشر تعاليم مناقضة لتعاليم الربِّ، لذا كان الرَّسول، أي ملاك كنيسة أفسُسَ في مواجهةٍ دائمةٍ معهم. في العهد القديم، يذكر لنا كاتب سِفر التَّكوين أنَّ الإنسان قَد مُنِع مِن تناول ثِمار شجرة الحياة، إذ إنَّ الربَّ لم يكن يريد أن يعيش الإنسان حياةً أبديّة بمحبَّةٍ ناقصة. لذا يقول لنا الربُّ من خلال الرُّوح الّذي أرسلَه إلى يوحنّا إنَّ المؤمِن الّذي ينال الغلبة بفضل صَبره على الـمِحَن، سيمنحه الربُّ نِعمة الأكل من ثِمار شجرة الحياة. إنَّ "سِميرنا" هي مدينة إزمير في تركيا الحاليّة، وهي إحدى الكنائس السَّبعة في آسيا الصُّغرى الّذي طلبَ الرُّوح من يوحنّا الرَّسول الكتابة إليها. إنَّ الّذي كان "ميِّتًا فَعاش" هو الربُّ يسوع. إنّ عبارة "الأوَّل والآخِر" هي عبارةٌ تُشير إلى الله، وقد أُعطِيَت للابن ممّا يشير إلى ألوهيّة الربِّ يسوع، وبالتّالي إلى مساواة الآب بالابن. إنَّ الربَّ يتكلَّم على موتٍ ثاني، وهذا يؤكِّد وجود موتٍ أوَّل هو الموت الجسديّ، أمَّا الموت الثّاني فهو لن يطال الّذين يعيشون بحسب تعاليم الربِّ. في الإصحاحَين الثّاني والثّالث، تتردَّد عبارة: "مَن يَغلِب" 7 مرّات، مع تغيير في القسم الثّاني من الجملة، ليُخبرنا في الختام أنّ "مَن يَغلِب كما غَلبْتُ أنا"، فالربُّ يدعونا إلى التشبُّه به هو الّذي غلب الموت بقيامته. وبالتّالي، إنَّ كتاب سِفر الرُّؤيا هو كتاب تعزية للمؤمِنِين وتقوية لهم في وقت الشِّدة والصُّعوبات الّتي تقودهم إلى التَّساؤل حول مدى جدوى إيمانهم بالربّ. في هذا النَّص، نلاحظ تركيز الرَّسول على أهميّة الصَّبر في وقت الشِّدة، وعلى المحافظة على المحبّة الأولى في قلب المؤمِن، وعلى أنّ إبليس سيسعى إلى زعزعة المؤمِنِين في إيمانهم بالربّ من خلال تجاربه لهم. ويُخبرنا هذا النَّص أنّ الضّيق سيكون لمدّة عشرة أيّام، والمقصود بعبارة "عشرة أيّام"، مُدّة زمنيّة قصيرة ومؤقتة.

إنَّ المحبّة الأولى لا يمكن للإنسان أن يفهمها إلّا حين يتذكَّر اشتعال قلبه للمرّة الأولى بالحبّ، فيتذكّر أنّ الزَّمن كان العدوّ الأوّل لقوّة الحبّ. وعند قراءتنا لعبارة "ترَكْتَ محبَّتك الأولى"، يُطرح السَّؤال: هل المقصود بتلك المحبّة الأولى محبّة الإنسان لله في لقائه الأوّل، أم اكتشافه محبّة الله له في المرّة الأولى؟ إنّ الإنسان يستطيع أن ينسى اكتشافه للمرة الأولى محبّة الله، إذ إنّ محبَّته لله خاضعة للتغيير فهي مرتبطة بمزاج الإنسان نفسه وأهوائه. إنَّ عدم قبول الإنسان لمحبّة الآخر خصوصًا في وقت الشِّدة، تُنشئ تباعدًا بين البشر وهذا يؤدِّي إلى شعور الجماعة البشريّة بالضُّعف: فالمجموعات البشريّة المتماسكة تشعر بالقوّة في مواجهتها للصُّعوبات، على عكس المجموعات البشريّة المتباعدة الّتي تشعر بالتَّعب والإرهاق عند مواجهتها لأصغر الشَّدائد. في هذا الزَمن، زمن الصُّعوبات، نحن بأمسّ الحاجة لتَذكُّر محبّة الله لنا، ومحبّتنا لله، ومحبَّتنا لبعضنا البعض. وهذه الأنواع الثّلاثة من المحبَّة مترابطة بعضها بِبَعض: فما إنْ تَفتُر إحدى هذه الأنواع من المحبّة، حتّى تتأثّر الاثنتان الأُخريان بهذا الفتور؛ وما إنْ تشتعل واحدة منها حتّى تشتعل الأُخريان. وهذا ما يقوله لنا يوحنّا الرّسول في إحدى رسائله: إنّه كاذب كلّ مَن يدَّعي أنّه يُحبّ الله الّذي لا يراه وهو لا يُحبُّ أخاه الّذي يراه. إنّ سبب كُلِّ خطيئة هو نِسيان الإنسان للحُبّ الأوّل: أوّلاً نسيانه لحبّ الله له، ثانيًا نسيان حبِّه لله، وثالثًا نِسيان حُبِّه للآخَرين. إنّ كلّ أزمة يتعرَّض لها كلُّ مجتمع تكمن في نسيانه لهذا الحبّ الأوّل، الّذي نتكلَّم عنه. إنَّ المحبّة سرٌّ لا يُدرِكه الإنسان إلّا متى وَقع فيه، لذا يُستخدم فِعل "وَقع في الحبّ" في كلِّ اللُّغات للتَّعبير عن حالة الإنسان العاشق. إنَّ فِعل الحبّ ليس فِعل إرادة، بل هو فِعل تتلّقى نتائجه عند وقوع الإنسان فيه. إنّ اختفاء الحبّ من حياة الإنسان يؤدِّي إلى تباعد بين النّاس وهذا يؤدِّي إلى خلق غُربةٍ بين البشر، وبالتّالي إلى خصومةٍ من دون أسبابٍ واضحة، نتيجة نَقصٍ في الـحُبّ. في الآيات الثّلاث الأولى من هذا الإصحاح، يُخيَّل إلينا أنَّ أُسقف أفسس هو إنسانٌ قدِّيس، غير أنَّ الآية الرَّابعة تُظهر ملامة الله لهذا الأُسقف على نِسيانه للمحبّة الأولى. كان أُسقف أفسُسَ يسير وِفق الشَّريعة الّتي تَعلَّمها غير أنّ شريعة الحُبّ هي شريعةٌ قائمةٌ بِحَدِّ ذاتها، لا تندرج ضمن الشَّريعة المكتوبة. إنَّ أكثر النّاس إدانةً للآخَرين هُم أولئك الّذين يعتقدون أنّهم الوحيدون الّذين يسيرون وِفق الشَّريعة، أمَّا الآخَرون فلا. إنَّ المحبَّة هي انتباه الإنسان للآخر وتلبية حاجاته لا رغباته. إنَّ سَعي المؤمِن إلى عيش المحبَّة مع الآخَرين انطلاقًا من هذه النظريّة، تؤدّي إلى تَحرُّرِه تلقائيًّا من روح الإدانة، والحكم على الآخَرين: إذ حين يتعرَّض المؤمِن للأذيّة، يُدرِك أنَّ تلك الأذيّة ناتجة عن نقصٍ في تلبية حاجات الآخر. لذلك، حين يملك المؤمن هذه القدرة على المحبَّة، يُدرِك أنّ الله يُعيِّنه طبيبًا على أخيه الإنسان الّذي توجَّه إليه بالأذيّة لمساعدته. حين يدين المؤمِن أخاه الإنسان الّذي تعرَّض له بالأذيّة، فإنّه يساهم في بقاء الإنسان الخاطئ في خطيئته، وعدم رغبته في إعلان توبته.

إنَّ كلَّ مجتمعٍ لا يتوب عن خطاياه، هو مجتمعٌ قد ترَكَ تلك المحبَّة الأولى، ورفضَ العودة إليها. إنَّ التَّوبة هي كلمةٌ عِبريّة الأصل، مُشتَّقة من فِعل "شابَ" أي تاب، ويعني العودة إلى الله، أي العودة إلى المحبَّة الأولى. إنَّ التَّوبة لا تعني تَرك الخطايا وحسب، بل تعني العودة إلى الله المحبَّة، ممّا يؤدِّي إلى تخلِّي الإنسان عن الوضع الخاطئ الموجود فيه. إذًا، التَّوبة هي اعتراف المؤمِن باكتشافه لمحبّة الله وغفرانه، لذا يُعلِن لله أمام الكاهن قباحة الوضع الّذي كان يعيش فيه، تعبيرًا عن جدِّيَته في قبول غفران الله له، لا في بحثه عن مصلحته الخاصّة مع الله. إنَّ الابن الشّاطر قرَّر العودة إلى أبيه عندما شعر بالجوع، إذ اكتشف النَّعيم الّذي يعيشه العبيد في بيت أبيه. وعندما عاد الابن الشّاطر، رآه أبوه فخرج للقائه مسرعًا، وقبَّله على عنقه، قبلة الأب لابنه، وألبسَه الخاتم للدَّلالة على أنّه ما زال وريثًا له، وألبسه الحذاء للدَّلالة على أنّه سيِّدٌ في هذا المنزل لا عَبدٌ، وألبسه الحلَّة الجديدة للدّلالة على ملوكيّته. إذًا، إنَّ الله مستعدٌّ أن يعيد الإنسان إلى حالة الملوكيّة، حين يُقرِّر الإنسان العودة إلى محبَّته الأولى، حتّى وإنْ كان هذا الأخير قد بدَّد ملكوت الله في ارتكابه الخطايا، في الماضي. إنَّ مشكلة الإنسان تكمن في تصويب نظره على خطيئته والسَّعي إلى التخلِّي عنها، عِوضَ تصويب نظره على الله والسَّعي إلى العودة إليه، لذا يفشل في الإفلات من خطيئته الّتي تستعبده، لأنَّه حين يصوِّب نظره إلى الله، تتلاشى الخطيئة تلقائيًا وتختفي من حياة الإنسان. وهنا نتذكَّر قول الربِّ لنا، إنّه حين نعرف الحقّ، فالحقّ يُحرِّرنا؛ ونحن نُضيف قائلِين: حين نعرف المحبّة فالمحبَّة تُحرِّرنا. إنَّ المحبّة لا تُعاش فرديًّا، بل ضمن جماعة، وبالتّالي وجود الجماعة يساعد المؤمنِ على التحلِّي بالصَّبر لتخطِّي الصُّعوبات. إنَّ هذا الزَّمن هو زمن سِفر الرّؤيا عند المسيحيّين: إنَّ الله قد حرَّرنا من كلّ عبوديّة، وبالتّالي لا يجوز لنا الوقوع في عبوديّة زعمائنا، والابتعاد عن إخوتنا في الإنسانيّة بِسبَبِهم. بفقدان المحبّة، يفقد الإنسان القدرة على الصَّبر على الآخَرين وعلى أوجاعهم، وتزول الألفة بين النّاس، ويفقد القدرة على التمييز. إنَّ الرُّوح يقول لنا اليوم: "من يغلبُ فسأُعطيه من شجرة الحياة". إنَّ آدم لم يُمنَع من أكل ثمار شجرة الحياة لأنّه أخطأ بل لأنّ الله اكتشف نقص المحبّة عنده، لذا منعه من أكل ثمار هذه الشَّجرة، كي لا يعيش حياةً أبديّة بمحبَّةٍ ناقصة، إذ يفقد آدم قُدرته على الصَّبر والمحبّة. إذًا، رحمةً بالإنسان، وَضع الله ملاكَين على باب الفردوس، كي لا يقترب الإنسان من شجرة الحياة ويتناول من ثمارها، فيعيش حياة أبديّة بمحبّةٍ ناقصة. إنَّ الله يدعونا للعودة إلى المحبّة الأولى كي نتمكَّن من تناول ثمار شجرة الحياة.

يوجِّه سِفر الرُّؤيا كلامه إلى كلّ إنسانٍ مؤمنٍ معرَّضٍ للاضطهاد بسبب إيمانه بالربِّ يسوع، ويدعوه للثَّبات في إيمانه بَدلاً من قبوله بمغريات هذه الحياة. للأسف، في زمننا الحاضر، تسعى غالبيّة المؤمِنِين إلى استبدال الإله الحقيقيّ بآلهة وَثنيّة. غير أنّ هناك قِسمًا ضئيلاً من المؤمِنِين لا زال ثابتًا في إيمانه، وهو يشكِّل الخميرة في هذا العالم المظلم. إنّ سِفر الرُّؤيا يدعونا لعدم الاستهانة بحداثتنا، ولا بإمكانيّاتنا مهما كانت ضئيلة، إنْ كُنّا ثابتين في الإيمان بيسوع المسيح. كَتب يوحنّا الرَّسول سِفر الرُّؤيا من منفاه، إلى المؤمِنِين الّذين يتعرَّضون للاضطهاد. فيُوحنّا الرَّسول، كان رَجُلاً عجوزًا يناهز التِّسعين من العُمر، مَنفيًا في جزيرة بطمس، يعاني من الغُربة والضِّيق، لذا قال في الإصحاح الأوّل: إنّه شريكٌ للمؤمِنِين في الضِّيق والملكوت والصّبر. إنَّ التعلُّق بالمحبّة الأولى هو التِّرس والدِّرع للمحافظة على نفوسكم من الاضطهادات الّتي تعانون منها. على المؤمنِ التحلِّي بالرُّوح النبويّة في ظلّ الصُّعوبات على مِثال النبيّ إيليّا الّذي اتَّهمته الملكة إيزابيل بأنّه مُقلق إسرائيل، لأنّه لم يرضَ بالمساومة على الحقّ.كذلك يوحّنا المعمدان الّذي تعرَّض للقتل بسبب إعلانه كلمة الحقّ وعدم مساومته عليها. إنَّ كلمة الحقّ هي الكلمة الوحيدة الّتي لا انتهاء لتاريخ صلاحيّتها، فهي تبقى صالحة لكلّ الأزمنة والأوقات حتّى وإنْ رَفض المؤمِنون الانصياع لها. إنّ كلمة الحقّ الّتي أعلنها أشعيا لم يقبل بها الشَّعب آنذاك، لذا طلب أشعيا من تلاميذه دَفن كلمة الحقّ في الأرض، عسى أن يأتي أحدهم ويكتشف هذا الكنز ويؤمِن به. بعد مرور حوالي ثماني مئة سنة على كلام أشعيا، جاء متّى الرَّسول واستشهد بكلام هذا النَّبي قائلاً:
"ها إنّ العذراء تَحبل وتَلِد ابنًا ويُدعى اسمه عمانوئيل أي الله معنا" (متّى 1: 23). فلو لم يتحلَّ القدِّيسون بالصّبر على شدائدهم لما كانت وصلت إلينا كلمة الله. إنَّ قوّة القدِّيسِين لا تكمن في العجائب، إنّما في تعلُّقهم بالمحبّة الأولى. وبالتّالي، على المؤمِنِين التعلُّم مِنَ القدِّيسِين ثباتهم في كلمة الحقّ وتعلُّقهم بمحبِّتهم الأولى للربّ.
إخوتي، إنّ دعوة الربّ لنا هي أن نتقوَّى ونتشدَّد، لنتمكّن مِن غَلبة رسالة العالم الّتي تدعونا إلى اليأس، وبالتّالي يدعونا الربُّ إلى النَّجاة من الموت الثاّني، لأنّ "من يغلب فلا يؤذيه الموت الثاني". آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
15/10/2019 سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا - الإصحاح الأوّل أهميّة الشَّهادة
https://www.youtube.com/watch?v=jScuCXXh9iI&t=26s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا
الإصحاح الأوّل
الأب ابراهيم سعد

15/10/2019

"إعلانُ يسوعَ المسيحِ، الّذي أعطاه إيّاه الله، ليُرِيَ عَبيدَهُ ما لا بُدَّ في أن يكونَ عن قَريبٍ، وبيَّنَه مُرسلاً بِيَدِ ملاكِهِ لِعَبدِه يوحنّا، الّذي شَهِدَ بكلمة اللهِ وبشهادةِ يسوعَ المسيحِ بِكُلِّ ما رآه. طوبى للّذي يَقرَأُ وللّذينَ يَسمَعونَ أقوالَ النُّبُوَّة، ويحفظونَ ما هو مَكتوبٌ فيها، لأنَّ الوقتَ قريبٌ. يوحنَّا، إلى السَّبعِ الكنائس، الّتي في آسيَّا: نِعمةٌ لَكم وسلامٌ من الكائنِ والّذي كان والّذي يأتي، ومن السَّبعة الأرواحِ الّتي أمام عرشِه، ومِنْ يسوعَ المسيحِ الشَّاهِدِ الأمينِ، البِكرِ من الأمواتِ، ورئيسِ مُلوكِ الأرضِ: الّذي أحبَّنا، وقد غَسَلَنا من خطايانا بِدَمِه، وجَعَلَنا مُلوكًا وكهنةً لله أبيه، له المجدُ والسُّلطانُ إلى أبدِ الأبدِين. آمينِ. هوذا يأتي مع السَّحابِ، وستنتَظِرُهُ كُلُّ عَينٍ، والّذين طَعَنوه، ويَنوحُ عَلَيهِ جَميعُ قبائلِ الأرضِ. نَعم آمين. "أنا هو الألِفُ والياءُ، البِدايَةُ والنِّهايةُ" يَقولُ الربُّ الكائنُ والّذي كانَ والّذي يأتي، القادِر على كُلِّ شيءٍ. أنا يُوحنَّا أَخوكم وشَرِيكُكُم في الضِّيقةِ وفي ملكوتِ يسوعَ المسيحِ وصَبرِهِ. كُنتُ في الجزيرَةِ الّتي تُدعى بَطمُسَ من أجل كلمةِ الله، ومن أجل شهادةِ يسوعَ المسيح. كُنتُ في الرُّوحِ في يومِ الربِّ، وسَمِعتُ ورائي صوتًا عَظيمًا كَصَوتِ بُوقٍ، قائلاً: "أنا هو الألِفُ والياءُ. الأوَّلُ والآخِرُ. والّذي تَراهُ، اكْتُبْ في كِتابٍ وأرسِلْ إلى السَّبع الكنائسِ الّتي في أسيَّا: أفَسُسَ، وإلى سِمِيرْنا، وإلى برغامُسَ، وإلى ثياثيرا، وإلى سارْدِسَ، وإلى فيلادَلفيا، وإلى لاوُدِكِيَّةَ". فالْتَفَتُّ لِأَنظُرَ الصَّوتَ الّذي تَكَلَّمَ مَعي. ولَمَّا الْتَفَتُّ رأيْتُ سَبعَ منايِرَ مِن ذَهَبٍ، وفي وَسَطِ السَّبْع المنايِرَ شِبهُ ابنِ انسانٍ، مُتَسَربِلاً بِثَوبٍ إلى الرِّجلَينِ، ومتمنطِقًا عِندَ ثَديَيْهِ بمنطَقَةٍ مِن ذَهَبٍ. وأمَّا رأسُهُ وشَعرُهُ فأبيضَانِ كالصُّوفِ الأبيضِ كالثَّلج، وعيناهُ كلَهيبِ نارٍ. ورِجلاهُ شِبهُ النُّحاسِ النَّقيّ، كأنَّهما مَحميَّتانِ في أَتُونٍ. وَصَوتُهُ كَصَوتِ مياهٍ كَثيرةٍ. ومَعَهُ في يَدِهِ اليُمنى سَبعَةُ كواكِبَ، وسَيفٌ ماضٍ ذُو حَدَّينِ يَخرُجُ مِن فَمِهِ، وَوَجهُهُ كالشَّمسِ وَهِيَ تُضيءُ في قوَّتِـها. فلمَّا رأيتُهُ سقَطتُ عِندَ رِجْلَيهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمنى عليَّ قائلاً لي: "لا تَخَفْ، أنا هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ، والحَيُّ. وكُنتُ مَيْتًا، وها أنا حَيٌّ إلى أَبَدِ الأبِدِين! آمينَ. ولي مَفاتيحُ الهاويةِ والموتِ. فاكْتُبْ ما رأيْتَ، وما هو كائنٌ، وما هو عَتيدٌ أن يكونَ بَعدَ هَذا. سِرَّ السَّبعَةِ الكواكِبِ الّتي رأيْتَ على يَميني، والسّبع الـمَنايِرِ الذهبيّة: السّبعةُ الكواكِبُ هِيَ ملائِكَةُ السَّبعِ الكنائسِ، والمنايِرُ السَّبعُ الّتي رأيتَها هي السَّبعُ الكنائسِ".

إنَّ سِفر الرُّؤيا هو كتابُ تَعزيةٍ وكتاب تقويّة، وهو أيضًا "كتابُ تخويف للمؤمِنِين بسبب عدم معرفتهم تحديد أولويّاتهم" في هذه الحياة بشكلٍ صحيح، خصوصًا في وقت الصُّعوبة لا في وقت الرَّاحة. في وقت الرَّاحة، يتذكَّر المؤمِن رحمة الله عليه، ويسهل عليه اختيار الربِّ وكلُّ ما هو صالح. ولكنْ حين يتعرَّض المؤمِن لِشِّدةٍ كالمرض والفَقر الماديّ والتهديد بالقتل، فإنَّه يجد نفسه أمام تحدٍّ للاختيار في ما بين الربِّ والشَّهادة له، وما بين اختيار ملذَّات هذه الحياة، والتخلِّي عن إيمانه. غالبًا ما يختار المؤمِن ما يناسبه في هذه الحياة عند وقوعه في الشِّدة، بدلاً من اختيار الصَّح ونَبذِ الخطأ. على الإنسان استبدال مفهوم "الصَّح والخطأ"، بمفهوم "إرضاء الله وعدم إرضائه"، لأنّ "الصَّح والخطأ"، يخضعان لمعايير بشريّة يُحدِّدها البشر نتيجة اتِّفاقيّات في ما بينهم؛ أمّا إرضاء الله أو عدمه، فيستند إلى كلمة الله وحدها، إذ فيها يُحدِّد الله الأعمال الّتي تُرضيه.
بدأ الإنجيليّ يوحنّا، الّذي كان يعيش في المنفى، سِفر الرُّؤيا بعبارة "إعلان يسوع المسيح، الّذي أعطاه إيّاه الله، ليُريَ عبيده، ما لا بُدَّ أن يكون عن قريب". إنَّ عبارة "إعلان"، تعني الكَشف، أي إظهار إلى العَلن ما كان مستورًا إلى الآن عن البشر، وهو حقيقة الربِّ يسوع المسيح. قد يقصُد الإنجيليّ يوحنّا بهذه العبارة أنَّ إعلان يوحنّا للمؤمِنِين سيكون عن الربِّ يسوع، كما قد يقصُد بتلك العبارة أنّه يريد إخبارِنا بما أعلنَه لنا الربُّ يسوع في حياته البشريّة، والـمَعنيان جائزان. يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنَّ الله الآب قد أعطى ابنه الربَّ يسوع إعلانًا، وهذا الإعلان سينكشف للبشر عمّا قريب، إذ سيُرسِل الربُّ يسوع هذا الإعلان إلى يوحنّا الإنجيليّ بواسطة ملاك ويوحنّا هو الّذي سيكشِف هذا الإعلان للبشر. إنَّ الإنجيليّ يوحّنا، صاحب سِفر الرُّؤيا، قد شَهِد بكلمة الله، كما قد شَهِد للربِّ يسوع المسيح. إنَّ الشَّهادة للربِّ يسوع، هي الشَّهادة لكلمة الله. ويُضيف الإنجيليّ يوحنّا فيقول لنا إنّه سيشهد لنا بكلِّ ما رآه. وهنا يُطرَح السُّؤال: ما الّذي رآه يوحنّا، متّى رآه وأين؟ إنّ كلمة "طوبى"، تعني مغبوطٌ، أو هنيئًا. سَمَّى الإنجيليّ يوحّنا كِتابه هذا، كِتاب النُّبوءة لا كِتاب التَّنبُوء للمستقبل. إنَّ النُّبوءة تعني إعلان كلمة الله للجماعة الحاضرة، وفي زَمَاننا الحاضر. إنَّ وظيفة النبوءة غير مرتبطة بالإنسان، غير أنَّ للإنسان دَورًا في إيصال كلمة الله للآخَرين بفعاليّة أكبر، بمعنى آخر، يستطيع الإنسان الخاطِئ إيصال كلمة الله للآخَرين، إذ إنّ كلمة الله لا تتأثَّر بخطيئة الإنسان، ولكنَّ الإنسان يستطيع أن يؤثِّر في الآخَرين أكثر عندما يكون في حالة البرارة، وهنا يكمن دَور الإنسان في ممارسته وظيفة النُّبوءة. يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا عن قراءة شخصٍ لكلمة الله على مسامع المجموعة المؤمِنة، وهي في حالة إصغاءٍ إليه؛ وهذا هو في الحقيقة ما يعيشه المؤمن في القُدَّاس، إذ يقوم أحد المؤمِنِين بتلاوة كلمة الله، كالرِّسالة والإنجيل على المجموعة الحاضرة، وهي تُصغي إليه. إذًا، يريد الإنجيليّ يوحنّا أن يقول لنا إنّ سِفر الرُّؤيا ليس كتابًا تتمّ قراءته بشكلٍ فرديّ، إنَّما هو كِتابٌ يُقرأ ضمن مجموعة مؤمِنة، أي في الكنيسة، فيتمَّ شرحه لها، لتتمكَّن من عيشه بمساندة بعضها البعض في تحمُّل الصُّعوبات الّتي يتعرَّضون لها في وقت الشِّدة؛ إذ في وقت الشِّدة، يكون الإنسان عُرضةً لإنكار إيمانه وتفضيل مصالحه الخاصّة على الربِّ.

إنّ أكبر صراعٍ داخليّ يتعرَّض له الإنسان المؤمِن هو اختياره ما بين مصالحه الخاصَّة وإرادة الله. وهذا ما يقصده بولس الرَّسول في قوله: "كلُّ شيءٍ يَحِلُّ لي، ولكنْ ليسَ كلُّ شيءٍ ينفَع" (1كور 6: 12). إنّ ارتكاب الإنسان الخطيئة هو نتيجة اختياره مصالحه الخاصّة، عِوضَ اختياره مشيئة الله، ولذا عند اكتشافه هذا الأمر، يتوجّه المؤمِن إلى كُرسيّ الاعتراف تعبيرًا عن توبته إلى الله. إنَّ سِفر الرُّؤيا يدعو كلَّ مؤمِنٍ إلى اتِّخاذ قراره، والاختيار ما بين مصالحه الخاصّة وكلمة الله، لأنّه هو الّذي سيتحمّل مسؤوليّة اختياره، في اليوم الأخير عند وقوفه أمام الربِّ للدَّينونة؛ كما أنّه يدعونا إلى حِفظِ كلمة الله في وقت الرَّاحة، لتكون تِرسَنا في وقت الشِّدة. وفي هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول: "إلبسوا دِرع الإيمان..... واحمِلوا تُرسَ الإيمان في كلِّ حال، فَبِهِ تستطيعون أن تُخمِدوا جميع سِهام الشِّرير المشتعلة. واتَّخذوا لكم خوذة الخلاص وسَيف الرُّوح، أي كلمة الله" (أفسس 6: 14و16-17). هذا ما يدعونا إليه الإنجيليّ يوحنّا: التسلُّح بكلمة الله في وقت الشِّدة. إذًا، عندما يُقرأ سِفر النُّبوءة، أي سفر الرُّؤيا، ضمن الكنيسة، فإنّه يساعد الجماعة المؤمِنة على تنظيم ذاتها، والعمل على تصحيح الخلل الموجود في داخلها. إنّ كلَّ خَللٍ في الكنيسة لا يُصحَّح إلّا من خلال العودة إلى شهادة المسيح، باعتبارها المرجعيّة الأولى في الجماعة.

يذكُر الإنجيليّ يوحنّا أنّ كِتابه هذا موجَّه إلى الكنائس السَّبع في آسيا، وهي موجودة فِعلاً على الخريطة، غير أنّ استخدام الرَّقم "سبعة" في الكتاب المقدَّس يُشير إلى الكمال، وبالتّالي يقصد الإنجيليّ يوحنّا بذِكره الكنائس السَّبع، أنّ رِسالته هذه موَّجهة إلى الكنيسة جمعاء، أي إلى كلّ مؤمِنٍ، أينما تواجد في المسكونة، وفي أيّ وقتٍ كان. ليس المقصود بعبارة "الوقت قريب"، يومَنا الحاضِر، فالإنجيليّ يوحنّا كَتَب هذا السِّفر منذ أَلفَي سنة، وهو وقتٌ ليس بقريبٍ أبدًا مِن زماننا الحاضِر؛ وبالتّالي المقصود بهذه العبارة هو الوَقت الّذي كان يعيش فيه الإنجيليّ يوحنّا، حيث كانت الاضطهادات في أَوَجِّها ضدّ المسيحيِّين. إذًا، عبارة "الوقت قريب"، لا تشير إلى تنبوءات الإنجيليّ يوحنّا حول المستقبل، بل تشير إلى وقت الاضطهادات. إنَّ الإنجيليّ يوحنّا قد كَتَبَ سِفره هذا، لتشجيع المؤمِنِين الـمُضطَهَدين على التسلُّح بكلمة الله، وكلام هذا السِّفر هو نافعٌ لا للمسيحيِّين في أيّام يوحنّا الإنجيليّ وحسب، بل هو نافِعٌ للمسيحيِّين الّذين يواجهون الصُّعوبات والاضطهادات في حياتهم اليوميّة، أي أنّه كلامٌ صالحٌ لكلِّ يوم. إنّ النِّعمة والسّلام اللَّتين أشار إليهما يوحنّا، لا تنبعان مِن توقُّف الحروب في محيط المؤمِنِين، واستتباب الأمان والسّلام، بل هما ينبعان مِن الربِّ يسوع المسيح، وهو "الكائن الّذي كان والّذي سيأتي". إنَّ "الكائن" في اللُّغة العبريّة هو "يَهوه" ويشير إلى الله الآب، أمّا في اللُّغة اليونانيّة فَهو "أنا هو"، وهذه عبارة استخدمها الربُّ يسوع. إذًا، يقول لنا الإنجيليّ يوحنّا إنّ النِّعمة والسّلام يأتيان من الثّالوث، مِن الله الآب "الكائن" والله الابن "الّذي سيأتي" والله الرُّوح؛ وبالتّالي هذا السّلام هو سلامٌ ثالوثيّ، والنِّعمة هي نِعمةٌ ثالوثيّة. إنّ الرَّقم "سبعة" هو رقم الكمال، وبالتّالي عندما يستخدم الإنجيليّ عبارة "السَّبعة الأرواح"، أي من الرُّوح الكامل القداسة، ألا وهو الرُّوح القدس.

يُركِّز الإنجيليّ يوحنّا في هذا الإصحاح على أهميّة الشَّهادة، فيستخدم كلّ المفردات المتَعلّقة بها: الشّهادة بيسوع المسيح، شَهِد بكلمة الله، الشّاهد الأمين. إنَّ كلمة "شهادة" في الكِتاب المقدَّس، تشير لا إلى إعلان المؤمِن كلمة الله وحسب، إنّما أيضًا إلى استشهاده في سبيلها. وبالتّالي، إنّ عبارة "الشّاهد"، الّتي استخدمها الإنجيليّ في وَصفِه الربّ، تعني أيضًا أنَّ الربَّ يسوع هو الشَّهيد الأمين لكلمة الله. ويتابع الإنجيليّ يوحنَّا في وَصفه للربّ يسوع قائلاً فيه: "وقد غسَلنا من خطايانا بِدَمه"، ليُشدِّد من جديد على شهادة الربِّ الدَّمويّة. في أيّامنا هذه، يحاول المؤمِنون المحافظة على حياتهم الأرضيّة مُبتَعِدين عن كلِّ ما قد يُسبِّب لهم اضطهادًا أو استشهادًا دَمويًّا. ثمّ أضاف الإنجيليّ يوحنّا قائلاً إنّ الربَّ يسوع هو "البِكر من الأموات"، أي أنّه أوّل القائمين من بين الأموات، وقيامته ليست على مثال قيامة لِعازر الّذي عاد ومات في هذه الحياة، إنّما هي قيامةٌ أبديّة، لا موت بَعدَها، قيامةٌ أخيرة في اليوم الأخير. إذًا، إنَّ تعزيّة المتألِّمين والـمُضطَهَدين في هذه الحياة، لا تكون بِحَثِّهم على التشبُّه بالمسيح الّذي تألَّم ومات وحسب، بل تكون في تَذكُّر قيامته من بين الأموات، فيُدرِكون أنّهم سينالون القيامة الأخيرة على مِثال الربِّ يسوع. إنَّ سِفر الرُّؤيا يقدِّم تعزيةً للمؤمِنِين الّذين يُعانون مِنَ الشّدة، إذ يُذكِّرهم بقيامة الربِّ الأخيرة الّتي هي مثال القيامة في الملكوت، ممّا يدفع هؤلاء إلى الثَّبات في إيمانهم بالربِّ يسوع وقت الاضطهادات. يُخبرنا سِفر الرُّؤيا أنّ الربَّ ينتظر المؤمِنِين به في الملكوت، بعد ثباتهم في الإيمان به على الرُّغم من كلّ الاضطهادات.


بقيامته من بين الأموات، صَعِد الربُّ يسوع إلى السّماء وحضَّر لنا مكانًا في الملكوت، لنكون فيه مُلوكًا على مِثاله هو رئيس ملوك الربِّ، ولنكون كهنةً لله أبيه، أي أنّنا سنكون على مَذبح الله السَّماويّ. إنَّ سفر أعمال الرُّسل يُخبرنا عن صعود الربّ إلى السّماء، فيقول لنا إنّ سحابةً من السّماء قد حَجَبته عن عيون رُسُلِه، حين ظهر لهم ملاكان قائِلَين لهم: إنّ الربَّ سيعود من السّماء كما رأوه صاعدًا إليها، بمعنى آخر إنّ الربَّ سيعود إليهم بطريقة لا يعرفونها. إنّ جميع البشر سَيَرَون الربَّ عند عودته في مجيئه الثّاني. إنَّ عبارة "طعنوه" تُذكِّرنا بموت الربِّ على الصَّليب. إنّ عبارة "آمين" تعني "حقًّا"، أي أنّها تؤكِّد ما نتكلَّم عليه. غريبٌ هو الإنسان، إذ يستعمل كلماته البشريّة لتأكيد وَعده للآخَرين قائلاً لهم: "طبعًا، أكيد"، ويستعمل كلماتٍ إلهيّة لعدم تأكيد وَعده للآخَرين، قائلاً لهم: "إنْ شاءَ الله". إنَّ الربَّ يسوع هو الوحيد الّذي يقول "آمين" في بداية كلامه، أمّا نحن فنقولها في ختام كلامِنا أو صلاتنا؛ لذا نقرأ في الأناجيل أنّ الربَّ يسوع يبدأ كلامه قائلاً: "الحقَّ أقول لكم"، الّتي تعني "آمين". ولكن في إنجيل يوحنّا، نجد شهادة مضاعفة في كلام الربِّ يسوع إذ يقول: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم"، ممّا يدلّ على صِّحة كلامه، استنادًا إلى الشَّريعة اليهوديّة. إنَّ حرف الألف هو أوّل الحروف الأبجديّة، والياء هو آخر حرفٍ منها، وبالتّالي يريد الإنجيليّ أن يقول لنا إنَّ الربَّ يسوع قد قال لنا كلّ الكلام الّذي أراد الله أن يقوله للبشر. إنّ الربَّ يسوع هو البداية والنِّهاية، أي أنّه لا شيءَ قَبلَه، ولا شيءَ بعده. إنَّ عبارة "القادر على كلِّ شيء" تشير إلى الله الآب، وقد أُعطيَت للربِّ يسوع المسيح، وبالتّالي هذا ما يدلّ على مساواة الله الآبن بالله الآب.

إنّ الإنجيليّ يوحنّا يَصِف ذاته بالقول إنّه أخٌ للمؤمِنِين، إذ إنّه يُعاني مِثلهم الاضطهاد والضِّيق، ولأنّه في المنفى بسبب إعلانه لكلمة الله. إنّ الإنجيليّ يوحنّا يقول للمؤمِنِين إنّه شريكٌ لهم في الضّيق والصّبر وفي ملكوت السّماوات، ولكنّه لم يَضع هذه العبارات بهذا التَّرتيب، بل وَضَع عبارة "في ملكوت يسوع المسيح" في الوَسَط، ليَدفع المؤمِنِين لا إلى التركيز على ضرورة احتمال الضِّيقات للحصول على مكافأتهم ألا وهي الملكوت السّماويّ، بل ليَحثَّهم على التَّركيز على ملكوت السّماوات الَّذي حَصَلوا عليه بفضل يسوع المسيح، فيتحمَّلوا ضيقاتهم بصبرٍ. إنَّ عبارة "الصَّبر" في اليونانيّة تعني تحت الشِّدة، وبالتّالي لا يمكننا الكلام عن الصَّبر في وقت الرَّاحة، إنّما في وقت الشِّدة. إنَّ صَبرَ يسوع على آلامه، هو النَّموذج الّذي على المؤمِنِين التشبُّه به: إذ إنَّ صَبر الإنسان قد يتلاشى عند تعرُّض هذا الآخر لاختيار معيَّن في هذه الحياة، أمّا صَبرُ يسوع على الصُّعوبات فهو صَبرٌ عظيمٌ جدًّا، إذ إنَّ الربَّ تمكَّن مِن تخطّي صعوباته بتركيزه على الملكوت. إنّ يوحنّا الإنجيليّ يدعو المؤمِنِين إلى تركيز نظرهم على الملكوت، ليتمكَّنوا مِن احتمال صعوبات الإضطهادات الّتي يتعرَّضون لها، وهو أي الإنجيليّ يوحنّا، خيرُ مِثالٍ لهم على ذلك، إذ إنَّه في المنفى بسبب إعلانه كلمة الله. إنّ وجود يوحنّا في المنفى هو نوعٌ مِنَ الَقتل البطيء. فَعالمنا يعتمد سياساتٍ متعدِّدة في القتل، وإحدى هذه السِّياسات تقوم على قَتل الرَّاعي وتعذيبه، بِهَدف تشتيت الرَّعية.

إنَّ يوحنّا الإنجيليّ يستخدم عباراتٍ كثيرة في رؤياه، مقتبسة من العهد القديم، وخصوصًا مِن كُتب الأنبياء، كالنبيّ حزقيال والنبيّ زكريّا. كان النبيّ حزقيال يستخدم عبارة "كُنْتُ في الرُّوح"، ليشير إلى مدى سُرعة انتشار كلمة الله، وقد تكلَّم النبيّ حزقيال على مَركبةٍ تقودها أربعة حيواناتٍ، كُلٌّ في اتِّجاه، غير أنَّ تلك المركبة تسير وِفق مشيئة الله على الرُّغم من هذه الصُّعوبات. من خلال كلامه على هذه المركبة، أراد النبيّ حزقيال القول إنَّ كلمة الله منتشرة في جِهات العالم الأربعة. وبالتّالي، أراد يوحنّا الإنجيليّ من خلال عبارة "كُنتُ في الرّوح" أن يقول لنا إنَّ كلامه هذا هو كلامٌ من الله. يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنَّه رأى تلك الرّؤيا في يوم الربِّ، والمقصود بذلك يوم الأحد، أي اليوم الّذي تحتفل به الكنيسة بالذبيحة الإلهيّة، وبالتّالي فإنَّ يوحنّا قد رأى تلك الرّؤيا في أثناء الذبيحة الإلهيّة. ندخل إلى الكنيسة شعبًا خاطئًا مسكينًا، فيُشفِق الله علينا ويَتَبنانا، فنُعلِن آنذاك إيماننا به، ونتقدَّم مِنَ المناولة المقدَّسة، وبالتّالي ننال الملكوت السّماويّ. إنَّ خطورة الذهنيّة المسيحيّة، تكمن في تحويل القدَّاس الإلهيّ إلى نوعٍ من التقوى الخاصّة بين المؤمِن وبين الله. إنّ القدّاس هو عملٌ جماعيّ لا عملٌ فرديّ، إذ تشترك فيه كلُّ الجماعة المؤمِنة في سماع الكلمة وتناول القربان المقدَّس. وهنا نلاحظ تفاوتًا بين الفكر الكنسيّ الغربيّ والفِكر الكنسيّ الشَّرقي، إذ يستطيع الكاهن في الكنيسة الغَربيَّة من الاحتفال بالقدَّاس الإلهيّ وحيدًا؛ في حين أنّ ذلك غيرُ ممكنٍ في الكنيسة الشَّرقية، إذ يتطلّب الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة وجود جماعة، أَقَلَّه ثلاثة أشخاص. إنّ الفِكر الشَّرقي في الكنيسة هو فِكرٌ كِتابيّ، إذ يستند على الكِتاب المقدَّس، أمّا الفِكر الغَربيّ فهو فِكرٌ فلسفيّ. إذًا، ما يقوله يوحنّا للمؤمِنِين، في سِفر الرُّؤيا ينطلِق من مفهومه للافخارستِّيا، أي للقدَّاس الإلهيّ. في الكنيسة الشَّرقيّة، يبدأ القدَّاس الإلهيّ بعبارة "مباركَةٌ مملكة الآب والابن والرُّوح القدس"، أي أنّه يبدأ بمباركة ملكوت الله، فالقدَّاس الإلهيّ هو صورة استباقيّة لِمَا سنُعاينه في الملكوت السّماويّ. في القدَّاس الإلهيّ، تَنطَبق كَلِمَتان: إنّه الـمُرتَجى والمحَقَّق: إذ في القدَّاس يرجو المؤمِن الوصول إلى الملكوت، وفي الوقت نفسه يتذوَّق الملكوت في هذه الأرض، من خلال المناولة المقدَّسة، فيُصبح الملكوت حقيقيةً ملموسة في أرض البشر. في العهد القديم، كان الربُّ يحضر في وَسَط شعبه من خلال صوت رعدٍ، أو من خلال ريحٍ شديدة، أو عمودٍ من نار. عند ظهور الربِّ له في الهيكل، يُخبرنا النبيّ إشعيا أنّه رأى أذيال الربِّ، بعد سماعه الملائكة يهتفون "قدُّوس". لذلك، يرتدي الأساقفة أثوابًا طويلة ذات أذيال، للدّلالة على حضور الربِ في كافّة أرجاء الهيكل. إنَّ الفساد قد دخل على كنيستنا، فأفرغ ممارساتنا الإيمانيّة من جَوهَرها، وحوّلها إلى ممارساتٍ مبنيّةً على الخُرافات الّتي لا تَمَّت إلى الإيمان الحقيقيّ بِصِلة، ممّا يجعلنا سريعي التزَّعزع في إيماننا عند كلّ صعوبة. إنّ عدم فَهمنا لسرّ الافخارستِّيا يقودنا إلى القيام بممارسات تقويّة خارجة عن الإيمان. في القدَّاس، يرى المؤمِن وَعدَ الله الّذي منحه للبشر بمجانيّة، وهو يناله مَتَى ثَبُتَ في إيمانه بالربِّ على الرُّغم من كلّ الضِّيقات الّتي سيتعرَّض لها في هذه الحياة. إنّه ليس من باب الصّدفة، أن يؤسِّس الربُّ كنيسته على سرّ الافخارستِّيا، وأن يُكلِّم رُسلَه قبيل موته عن الافخارستِّيا في العشاء الأخير، وأن يكسر الخُبز مع تلميذَي عمّاوس بعد قيامته لتنفتح أعينهما على حقيقة قيامته. عند حلول الرّوح القدس، كان الرُّسل مجتمعِين في العليّة، ويتشاركون كَسر الخبز، أي في الافخارستِّيا. على المؤمِن أن يتقرَّب من سرّ المناولة المقدَّسة في الافخارستِّيا وهو مُدرِكٌ لخطيئته ولرحمة الربّ، ولوجود إخوته المؤمِنِين بالقرب منه. في الكنيسة الشَّرقيّة، يتلو الكاهن صلاةً قبل دعوة النّاس إلى المناولة، يقول فيها: "إنّي أؤمن يا ربّ وأعترف، أنّك أنتَ هو ابن الله الوحيد، الّذي أَتيْتَ إلى العالم، لتُخلِّص الخطأة الّذين أنا أوَّلهم". إذًا، على المؤمِن أن يتقرَّب من سرّ المناولة على الرُّغم من معرفته أنّه خاطئ، وبالتّالي غير مستَّحق لتلك النِّعمة الإلهيّة، الّتي يمنحه إيّاها الله. إنَّ هذه الصّلاة تُشكِّل اعترافًا للمؤمِن بضُعفه الإنسانيّ ولكنّها لا تَحِلُّ محلَّ سرّ التَّوبة. على المؤمِن التمييز بين استحقاقه لجسد الربِّ، واستعداده لتناول جسد الربِّ. إنّ المؤمِن هو غير مستِحقٍّ على الدّوام لتلك النِّعمة الإلهيّة، لكنّه يستطيع أن يكون مستعدًّا لتناول جسد الربِّ. وتُتابع الصّلاة فتقول إنّ هذه المناولة هي "جمرةٌ تُحرِقُ غير المستحقّين"، ولكنَّ المؤمِن يتقدَّم من سرّ المناولة طالبًا الرَّحمة من الله. إنّ آباء الكنيسة، الّذين كتَبوا القدَّاس الإلهيّ، كانوا على دِراية بسِفر الرُّؤيا والكِتاب المقدّس. إنَّ القداس ليس ساعة صلاة إنّما هو إعادة عَملَ الخلاص في ساعة: من الخَلق إلى مجيء المسيح الثّاني. في القدَّاس، يفتح الربُّ أذهاننا فنتمكَّن من رؤية خلاصه والاشتراك فيه في ساعةٍ واحدة. ويقول لنا الإنجيليّ يوحنّا إنّه الْتَفَتَ وراءه ليرى الصّوت، وهذا ما يدعو للاستغراب إذ لا نستطيع رؤية الصّوت بل فقط سماعه. إنَّ المقصود بالصّوت، الكلمة الإلهيّة، يسوع المسيح يسوع.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
8/10/2019 سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا - المقدّمة تعزية المؤمنين
https://www.youtube.com/watch?v=s0i2mYolSVo&t=288s

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر رؤبا القدّيس يوحنّا
المقدّمة
الأب ابراهيم سعد

8/10/2019

بداية، أتمنّى لكم أن يكون هذا الموسم موسمًا مباركًا عليكم، كما أتمنّى لكم أن تكون العطلة الصِّيفيّة الّتي مرَّت عليكم، خاليةً من الأذيّة لكم، لأنَّ الأيّام الّتي تمرُّ على الإنسان تُعلِّم فيه فتُعلِّمه، أي أنّها تترك آثارًا وجروحًا في الإنسان فتُعلِّمه دروسًا في الحياة.
في سِفر الرُّؤيا، سنكتشف أنّ الرَّحمة والحبّ والسَّند لا تأتي إلّا من الله، أو مِن الإنسان الّذي يَضَعه الله في طريق المؤمِن ليَسنُدَه ويُحبُّه ويرحمه. ولكنّ هذه الصِّفات هي صِفات إلهيّة، لذا نادرًا ما نجد رحمةً ومحبّة عند البشر. إنَّ قاموس الحبّ عند الله مختلفٌ عن قاموس الحبّ عند الإنسان: فالحبُّ عند البشر ينطلق من مفهوم "أُحبُّك إذا أنتَ أَحبَبْتَني"؛ أمّا قاموس الحبّ عند الله فهو ينطلق من مفهوم "أُحبُّك وإنْ لَم تُحبَّني". والرَّحمة في قاموس البشر، هي "رحمةٌ مجانيّة"، أي أنَّ الإنسان لا يرحم أخاه إلّا إذا كانت تلك الرَّحمة لا تتطّلب من الإنسان الّذي يرحم تضحيةً تجاه أخيه. بمعنى آخر، إنَّ الإنسان يرحم أخاه إنْ لَم يكن طالبُ الرَّحمة مُخطئًا تجاه الآخر، أمّا إنْ كان طالبُ الرَّحمة مُخطئًا فإنّ الطّرف الآخر لا يمنحه الرَّحمة، مع العِلم أنّ الّذي يحتاج إلى الرَّحمة هو الإنسان الخاطئ لا الإنسان الصّالح. أمَّا في قاموس الله، فالله يرحم الإنسان لأنَّه خاطئ، ولأنَّ الله لا يعرف إلّا الرَّحمة. في قاموس البشر، إنّ الإنسان يُحبُّ أخاه الإنسان أو يكرهه، انطلاقًا مِن تصرّفات هذا الأخير تجاهه وتجاه الآخر. أمّا في قاموس الله، فالله يُحبُّ البشر لأنّ الله هو محبّة ولا يعرف إلّا محبّة البشر، وحبُّه لهم غير مرتبط بتصرُّفات البشر تجاه الله، فالله يُحبُّ حتى الّذين لا يُحبُّونه.

إنَّ سِفر الرُّؤيا، الّذي يخاف منه الكثير من المؤمِنِين، لا يتكلّم على نهاية العالم وعلى الشِّرير واضطهاداته للمؤمِنِين بالربَّ، كما يعتقد البعض، وكأنَّ ما سيَحدث في نهاية العالم لم يَحدُث قبلاً على مدى العصور. إنّ سِفر الرُّؤيا ليس كتاب توقُّعات حول المستقبل، كما يفعل المنجِّمون في أيّامنا، وبالتّالي على المؤمِن عدم قراءة هذا الكتاب على أنّه كذلك، فيُصاب بالإحباط عند سماعه أخبارًا سيِّئة، ويُصاب بالفَرح عند سماعه أخبارًا سارَّةً. إذًا، إنَّ مشكلة الإنسان تكمن في أنّه يجعل كلَّ وَهمٍ يسمعه حول المستقبل يتحوَّل إلى حقيقة في ذِهنه. في الآونة الأخيرة، كَثُر الكلام على انتظار الشَّعب لأعاجيب من الله، تُخلِّصهم مِن الضِّيقات الحياتيّة الّتي يُعانون منها. إنّ الله قد قام بأعجوبة لا مثيلَ لها منذ ألفيَ سنة، عندما حوَّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودَمه. وهنا نطرح السُّؤال: هل للأعجوبة مدّة صلاحيّة؟ للأسف، إنّ المؤمِنِين لا يعترفون بأعاجيب الله في هذه الأرض إلّا إذا تمَّت معهم، من دون سواهم مِن البشر. وعند حصولهم على أعجوبةٍ من الله، يسعون إلى إعطاء أسبابٍ لعدم قيام الله بأعجوبةٍ مع الآخَرين، كأنْ ينسِبوا ذلك إلى قلِّة إيمان الآخَرين أو إلى خطاياهم الكثيرة. غريبٌ هو الإنسان: إذ إنّه حين لا يحصل على أعجوبة خاصّة من الله، يَضع السَّبب على الله؛ وإنْ لَم يَقم الله بأعجوبة مع الآخَرين، يكون السّبب في مسيرة الآخَرين الرُّوحيّة. إذًا، للأسف، إنّ علاقة الإنسان بالله في أغلب الأحيان مبنيّة على مصلحة الإنسان في تلك العلاقة. حين يتعرَّض أحد المؤمِنِين للاضطهاد وبالتّالي للموت في سبيل إيمانه، فإنّنا نجد أنَّ المؤمِنِين الآخَرين يبدأون بالتذمُّر من الله لأنَّه رَضِيَ بموت البّار، في حين أنَّه على المؤمِنِين التعلُّم من ثبات هذا القدِّيس في إيمانه على الرُّغم من الاضطهادات.

إنّ سِفر الرّؤيا يدعو كلّ مؤمِن يتعرَّض للاضطهاد إلى استرجاع كلّ سِفر الرُّؤيا في ذاكرته، مِنَ اللَّحظة الّتي يتمّ فيها اعتقاله إلى لحظة محاكمته، ليتمكَّن من إتِّخاذ قراره: إمّا بإعلان إيمانه بالربِّ يسوع، وإمّا بإعلان إيمانه بالامبراطور وبالتَّالي نُكران إيمانه بالمسيح يسوع. في زمن الاضطهاد، يجد المؤمِن نفسه أمام تحدٍّ كبير، يقوم على الاختيار بين مَن يؤمِّن له معيشته الأرضيّة وهو الامبراطور،؛ وبين مَن يؤمِّن له حياته الأبديّة وهو الربُّ يسوع. أمام هذا التحدِّي، يختار الإنسان المؤمِن الطَّريق الّتي يعتقِد أنّها تَدرُّ عليه رِبحًا أوفَر. إنّه من السَّهل على المؤمن اختيار الربِّ في وقت الرَّاحة، ولكنّه من الصَّعب عليه الثّبات في إيمانه في وقت الصَّعوبة، فاختيار الإنسان يظهر جَلِيًّا عند تعرُّضه للصُّعوبات. وإليكم مِثالاً على ذلك: عندما يُصاب الإنسان بمرضٍ يقود إلى الموت، ويبقى مبتسمًا، فهذا إشارةٌ إلى اختياره اتّباع الربّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يستطيع فَهمه إلّا المؤمِن الّذي يعيش تحت الضَّغط أو تحت الإغراء، فيَجد نفسه نتيجة هذه الصُّعوبة مُجبرًا على الاختيار ما بين اتِّباع المسيح أو إنكار إيمانه به. إنَّ سِفر الرّؤيا هو السِّفر الّذي على مسيحيِّي لبنان قراءته ليتمكَّنوا من التّفكير في طريقة سليمة في هذه الظّروف الصَّعبة، الّتي يُعانون منها. أصبح المسيحيّون في عالمنا اليوم أعداء للمسيح، بسبب عدم اعتمادهم نهج تفكيرٍ صحيح. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو معموديّة الفكر الجديدة للمؤمِنِين بالربّ، إنَّه يساعد المؤمِنِين على إدراك قيمة جسد الربِّ ودَمِه اللَّذين يتناولونهما.

إنَّ يوحنّا الإنجيليّ قد رأى الرُّؤيا الّتي أخبرنا عنها في هذا السِّفر، في يوم الربِّ، أي في يوم الأحد، في اليوم الّذي يحتفل به المسيحيّون بالقدَّاس الإلهيّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا هو الكَشف عمّا هو مستور، لذا يبدأ الإنجيليّ يوحنّا هذا السِّفر بعبارة: "إعلان يسوع المسيح"، وبالتّالي فإنّ عظمة عمل الله الخلاصيّ من أجلِنا يُكشَف لنا في يوم الاضطهاد أي في يوم الصُّعوبات لا في يوم الرَّاحة وفي يوم الفرح. في يوم الفرح، غالبًا ما ينسى الإنسان وجود الله في حياته، ولكنّه يتذكَّره في يوم الشِّدة، لذا يدعونا سِفر الجامعة، قائلاً: "أُذكر خالقَك في أيّام شبابك، قبل أن تأتي أيّام السُّوء"(جا 12: 1).

إنّ كتاب سِفر الرُّؤيا هو كتاب تعزية إذ يقوِّينا على الثّبات في إيماننا على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي نواجهها. إنَّ الربَّ لا يشجِّعنا على محبّة الألم وتقديسه، لأنّه لو كان يُحبُّ الالم، لما كان الربُّ قد شفى المرضى. إنَّ الربَّ يسوع لا يُقدِّس الألم، بل يُقدِّس المتألِّم، كذلك بالنِّسبة إلى الفقر، فالربُّ يسوع لا يُحبُّ الفَقر بل يُحبُّ الفقراء. في إنجيله، لا يدعونا الربُّ يسوع إلى محبَّة الفقر، بل إلى مساندة إخوتنا الفقراء في سدِّ احتياجاتهم، فلا يكونون بعد ذلك فقراء. ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح: هل ممتلكات الإنسان الماديّة قادرة على دَفعِه إلى ترك الربِّ ونكرانه؟ أو، هل وقوع الإنسان في ضيقٍ أو في حزنٍ، يَقوده إلى تَركِ الربِّ من أجل الحفاظ على حياته الأرضيّة؟
إنَّ سفر الرُّؤيا لا يُكلِّمنا على نهاية العالم، إنّما يُكلِّمنا على نهاية كلِّ إنسان، وهنا يُطرَح السُّؤال: ما فائدة المؤمِن من معرفته للأحداث الّتي ستحصل في نهاية العالم، إن كانت نهايته قبل نهاية العالم؟ إنَّ نهاية الإنسان هي نهاية العالم. هناك ثلاثة أنواع من النِّهايات: نهاية الإنسان، ونهاية المجموعة الّتي ينتمي إليها الإنسان، ونهاية العالم؛ وهذه الثلاثة تقود إلى النَّتيجة نفسها. إنَّ سفر الرُّؤيا يتكلَّم على نهاية الإنسان وعلى نهاية العالم، قائلاً لنا، إنّ المؤمنَ الّذي لا يترك الربّ في نهايته الخاصّة، سيكون مع الربِّ في نهاية العالم، أي في الملكوت؛ وإنّ المؤمن الّذي يترك الربَّ في حياته الأرضيّة سيكون بعيدًا عنه في نهاية العالم. على المؤمِن التَّفكير في نهايته الخاصّة إذ إنّها قوَّته للحصول على الملكوت. على الموت ألّا يُخيف الإنسان: لأنّه حين يكون الموت موجودًا، لا وجود للإنسان لأنّه يكون قد مات وطالما أنّ الإنسان هو في الحياة لا وجود للموت، لأنَّه حيّ، وبالتَّالي الموت والحياة لا يلتقيان وجهًا لوجه. وبالتّالي، لماذا أخاف من الموت الّذي لا يستطيع أن يكون موجودًا طالما أنا موجودٌ في هذه الحياة؟ إذًا، إنَّ الموت هو فرصةٌ لإعلان يسوع المسيح فيّ وفي الكون بأسره، غير أنَّه موجعٌ لأنَّه يسبِّب فراقًا بين الأحبَّة، وشوقًا عند الأحبّة إلى رؤية أحبّائهم الّذين غادروا هذه الحياة. إذًا، إنّ الفراق في الموت هو الّذي يسبِّب ألـمًا ووَجَعًا عند المؤمِنِين. إنّ المرض هو الّذي يُسبِّب مشكلة، لأنّه على المؤمِن أن يواجهه يوميًّا. إنّ سِفر الرّؤيا لا يُكلِّمنا على الموت، إنّما يحدِّثنا عن كيفية مواجهة المؤمِنِين للصُّعوبات اليوميّة، قبل مواجهتهم للموت، محافظين على إيمانهم بالربّ. لذا، كان المؤمِنون الـمُضطهَدون يتذكَّرون سِفر الرُّؤيا منذ اعتقالهم من بيوتهم إلى لحظة وصولهم إلى المحاكمة، ليتمكّنوا من الاختيار ما بين الحفاظ على حياتهم الأرضيّة ونكران المسيح، وما بين ثباتهم في إيمانهم حتّى لو كلَّفهم ذلك خسارة حياتهم، لأنّه عند حلول الموت يكون الإنسان قد أصبح في الملكوت مع الربّ. إنَّ يوحنّا الإنجيليّ يُخبرنا عن الشُّهداء ووصولهم إلى الملكوت، لذا هو يحسدهم على المصير الّذي نالوه نتيجة استشهادهم.

إنَّ يوحنّا الإنجيليّ يَصف لنا سِفر الرّؤيا، فيقول لنا إنّه كتاب مقفول بسبعة أختام، ولا يمكن للمؤمن قراءة مضمونه إلّا إذا تمكّن من فكّ كلّ الأختام. ولكن حين يتمكّن المؤمِن من ذلك، يكون قد وصل إلى الملكوت. يُخبرون عن راهبٍ قد سُئِل يومًا: ماذا يفعل إذا عَلِم أنّ الرّب سيأتي الآن؟ فأجاب بأنّه يتابع ما كان يقوم به، لأنّه لا يستطيع تصحيح شيء بعد ذلك، وهو يعيش على الدَّوام في حضرة الله. إنَّ سِفر الرّؤيا يُخبرنا عن مصيرنا الأخير إن لم نتَّبع المسيح، لذا علينا الاختيار منذ الآن، لا انتظار نهاية العالم، لأنّه حينها لا ينفع الاختيار. إذًا، إنَّ سِفر الرّؤيا، هو كتاب الحبّ، كتاب التعزية، سِفر الرَّجاء، لا سِفر الخوف والرُّعب. إنَّ ما سيحصل في نهاية العالم هو تحقيق لِما وَعَدنا به الربّ. وهنا يُطرَح السّؤال: هل وعود الربّ لنا بحاجة إلى براهين كي نُصدِّقها، أم أنّنا نُصدِّق كلام الربّ لمجرّد أنّه تلفَّظ به؟ على المؤمِن أن يعيش كما لو أنّ وعود الربِّ قد تحقَّقت حتّى ولو لم تتحقَّق بعد. إنَّ ابراهيم هو الوحيد الّذي آمَن بالربّ وعاش حسب وعود الربِّ من دون برهان، فَحُسِب له ذلك برًّا. منذ ألفَي سنة، جاء الربّ وعاش كما عاش ابراهيم، مُصدِّقًا وعود الله. إنّ الربّ يدعونا إلى ترك الماديّات، وهذا يعني عدم التعلُّق بالماديّات وفسادها. على المؤمن أن يُشارك الآخَرين في الخيرات الّتي معه لا الاحتفاظ بها لنَفسه، وعدم الشُعور بالحزن لخسرانها لأنّ الربَّ يَعِدُنا بما هو أفضل منها، فلا نكون على مثال اليهود الّذين يطلبون آياتٍ ملموسة للإيمان بالربّ. على المؤمِن أن يعرف كيفيّة طلب الشِّفاءات من القدِّيسين، إذ لا يجوز للمؤمِن أن يشحذ الحبّ من القدِّيسين حين يملك حُبَّ الله بين يديه. على المؤمِن أن يُصدِّق أنَّ الربَّ قادرٌ على كلِّ شيء، لأنَّ الّذي استطاع إقامة الموتى من الموت وشفاء المرضى منذ أَلفَي سنة، يستطيع القيام بذلك في كلِّ حين. إنَّ سؤالنا عن عدم شفاء الربِّ لهذا الإنسان أو ذاك، هو دليلٌ على تغلغل الفكر اليهوديّ في أذهان المؤمِنِين. إنَّ المسيح لا يستطيع أن يسكن إلّا في قلوب القدِّيسين، لا بسبب قلوبهم الطّاهرة إنّما بسبب تصديقهم لكلمة الله وعيشهم لها من دون طَلبهم البراهين على مصداقيتها. إنَّ القدِّيس هو ذلك الّذي يُطبِّق مشيئة الله في حياته من دون طرحه الكثير من الأسئلة وخصوصًا أسئلةً مُشكِّكة بالإيمان به.
إنَّ سِفر الرُّؤيا مليءٌ بالتَّعزيات للمؤمِنِين الّذين يعانون من الاضطهادات والضِّيقات.كتب الإنجيليّ يوحنّا هذا السِّفر حين كان في المنفى، وهو في عُمرٍ يناهز المئة سنة. لقد نُفيَ يوحنّا الإنجيليّ بسبب إعلانه كلمة الله. وقد وجَّه كتابه هذا إلى إخوته وشركائه في الـمِحنة، أي في الاضطهاد، قائلاً لهم: "أنا شريككم في النِّعمة". ثمّ يضيف قائلاً: "أنا يوحنّا أخوكم وشريككم في الضِّيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره"، وبذلك أراد الإشارة إلى أنّ الضِّيق والصَّبر يقودان المؤمِن مَتَى ثَبُت في إيمانه بالربِّ إلى الملكوت. ونحن اليوم،جميعنا شركاء في الضِّيق وعلينا احتماله بصبر للوصول إلى الملكوت.

ملاحظة: دوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
19/2/2019 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الثامن الكلمة الحقّة
https://www.youtube.com/watch?v=pB0Ce8tPdHs&t=9s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الثامن
الأب ابراهيم سعد

19/2/2019

في الإصحاح السّابع من سِفر أعمال الرُّسل، أخبرنا الإنجيليّ لوقا عن استشهاد اسِتفانوس الرَّسول. كانت ميتَةُ الرَّسولِ مُشابهةً لِمِيتَة الربِّ يسوع: إذ غفر الرَّسول لقاتِليه،كما غفر الربُّ لصالبيه. إنَّ شاول، الّذي أصبح فيما بعد بولس الرَّسول، كان حاضِرًا في مقتل اسِتفانوس، وموافقًا على موته، على الرُّغم من عَدَم مُشارَكته في عمليّة القتل. وهنا يُطرَح السؤال: ما سَبَبُ اختيار الربّ لشاوُل ليكون رَسولاً له؟ بالطَّبع لا يستطيع أحدٌ من البشر إدراك فِكر الله، ومعرفة سببِ اختيارِه لِشاول، ولكنْ تَكثُرُ الاجتهادات في هذا الأمر في سبيل محاولات للإجابة عن هذا السؤال. عند ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، تمكَّن بولس الرَّسول من فَهمِ قَصدِ الله في الكتاب المقدَّس: فبولس الرَّسول كان ضليعًا في التَّوراة؛ ولذلك عند ظهور الربِّ له على طريق دِمشق، أدرَك أنَّ كلّ النُّبوءات في العهد القديم قد تحقَّقت في الربِّ يسوع. في فترة اضطهاده للمسيحيِّين،كان بولس الرَّسول ينظر إلى الربِّ يسوع على أنَّه حالةٌ تهدِّد الإيمان اليهوديّ، لذا يجب التخلُّص منها؛ ولكنْ حِينَ ظهر له الربّ يسوع على طريق دِمشق، تمكَّن بولس من إيجاد الرَّابط الحقيقيّ بين العهد القديم وبين الربِّ يسوع، فأدرك أنَّ الربَّ يسوع هو المسيح المنتظر، وهو خاتمة العهد القديم. لقد استنار عَقلُ شاول على طريق دِمشق، فتَمَكَّن من رؤية الحقيقة، فانطلق للبشارة في المسكونة كلِّها بالربِّ يسوع، بعد أن تَتَلْمذ على يد حنانِيَّا، فأصبح رسول الأُمَم. إذًا، لم يَختَر الربُّ يسوعُ شاولَ، لأنّه كان مُضطَهِدًا لكنيسة المسيح، بل اختارَه الربّ، بسبب قُدرَتِه على إيصال البشارة بالإنجيل إلى كلّ المسكونة. وبالتّالي لا يختار الربُّ رُسُلَه انطلاقًا مِن ماضِيهم، بل انطلاقًا من رؤيته لِقُدرة هؤلاء على تحقيق مشيئته في المستقبل، ألا وهي إيصال البشارة إلى المسكونة.
إنَّ كَلمَة الله قد كُشِفَت لجميع البشر، ولكنْ ما يُميِّزُ إنسانًا عن آخر، طريقة تفاعُله مع كلِمة الله انطلاقًا مِن مواهبه الّتي مَنَحه إيّاها الله. إذًا، ليست كلمة الله مَا يـُميِّز البشر بعضهم عن بعض، إنّما تفاعلُ هؤلاء مع البشارة، هو ما يميِّز كلَّ واحدٍ منهم، إذ يَضع الإنسان ذاته في خِدمة الآخَرين تعبيرًا عن فَرَحِه بالبشارة الّـتي تلقَّاها. إنَّ كلَّ مؤمِن سيتعرَّض للاضطهادات مِن قِبَل المحيطين به، حين يُعلِن هذا الأخير كلمة الحقّ لهم، لأنَّ أبناء هذا العالم لا يستطيعون القبول بما لا يُشرِّع لهم أهواءهم الأرضيّة. يُكلِّمنا هذا الإصحاح عن أحد المبشِّرين بالمسيح، وهو فيلبُّس الرَّسول، الّذي وَظَّف كلّ مواهبه في خِدمة البشارة بالإنجيل. إنَّ طريقة إيصال فيلبُّس للبشارة تختلف عن طريقة إيصال بولس أو بطرس للبشارة نفسها، إذ يتميَّز كلَّ واحدٍ منهم بمواهبَ خَصَّه الله بها دون سواه. إذًا، ليست المسألة مسألة مَن يبشِّر أكثر، فالربُّ يَعلم طاقة كلّ واحدٍ، وهو يُحاسِبه على قَدر طاقَته، وهنا نَفهم مَعنى مَثل الوَزَنات الّذي أعطاه الربُّ يسوع في الإنجيل. لذا على كلِّ إنسان أن يقوم بالعَمل المطلوب منه على أكمَل وَجهٍ، من دون تَكبُّرٍ على الآخَرين أو إدانة لهم على تقصيرهم في البشارة، وإليكم مِثالٌ توضيحيٌّ على ذلك. في فرقَةٍ موسيقيّة مؤلَّفة من مئة عازف، لا يمكن لقائد الفِرقة أن يطلب من جميع العازِفين العَملَ نفسه، ولكن يمكنه أن يطلب من كلّ عازف، تأدية الجزء المطلوب منه بكلِّ إتقان، من أجل نجاح هذا العمل الموسيقيّ. فكما أنَّه لا توجد آلةٌ موسيقيّة أهمُّ من الأخرى في فرقة موسيقيّة، كذلك لا يوجد عملٌ تبشيريّ أفضل مِن عَملٍ آخر، فالمطلوب هو خِدمة كلمة الله، كلٌّ حَسَبَ موهبتَه. وهنا نتذكَّر كلام بولس الرَّسول إلى تلميذه طيموتاوس: "لا تدَع أحدًا يستَهِن بشبابِك" (ا تيموتاوس4: 10). إنَّ بعض المؤمِنِين قد تمكَّنوا من جَذب الكثيرين إلى الربِّ من خلال معاملتهم اللَّطيفة للآخَرين وابتسامتهم، أكثر من بعض المؤمِنِين الّذين فُرِزوا للبشارة: إنَّ عَمل محبّةٍ واحد من مؤمِنٍ قادرٌ على أن يُغيِّر حياة الإنسان، أكثر من قضائه ساعاتٍ في التأمّل في كلمة الله.
على المؤمِن أن يُعلِن إيمانه بالربّ: أوَّلاً من خلال التزامِه بالكنيسة، الّذي يتمّ مرّةً واحدة، والّذي يُعبَّر عنه باقتباله سرّ المعموديّة، وثانيًا من خلال إِلزام ذاته بنمَط عيشٍ ينسجم مع إيمانه، فيقوم ببعض الأعمال بشكلٍ يوميّ ولو كانت في بعض الأحيان رُغمًا عنه، تعبيرًا عن التزامِه الأوّل بالربّ. فالعامِلُ يُفضِّل مثلاً الاستراحة والنَّوم، في يومٍ عاصفٍ وممطر، على الذّهاب إلى العَمل؛ ولكنَّه التزامًا منه بِعَمَله، يُلزِم نفسه بالنُّهوض من فراشه والانطلاق نحو مركز عَمَلِه. إذًا، إنَّ إلتزام الإنسان مرتبطٌ بإرادَته لا بِمِزاجِه. إنَّ الرُّسل قد أعلَنوا التزامَهم بالربّ، لذا ألزَموا أنفسَهم بالتَّبشير بكلمة الله، رُغم كلّ الصُّعوبات، حتّى ولو قادَهم ذلك إلى الاستشهاد. للأسف، إنَّ كنيسة اليوم، تعاني من مشكلة أساسيّة تطال الـمُنتَمِين إليها وهي حالة الرَّفاهيّة، إذ مع توقُّف الاضطهاد على المؤمِنِين، تراخى هؤلاء في إعلان كلمة الله للآخَرين. إنّ ذهنيّة الرَّفاهية الّتي يعاني منها المؤمِنون في أيّامِنا، تؤدِّي إلى زرعِ رُوح الكسل فيهم، فيُعطِّلون مسيرة كلمة الله في الوصول إلى الآخَرين. إنّ رُوح الكسل المنتشر عند المؤمِنِين قد أدّى بالبعض منهم إلى اتِّخاذ "سيمون السّاحر"، الّذي يتكلَّم عنه هذا النَّص، مِثالاً لهم.
إنَّ سيمون السّاحر قد اشتهر بأعمالِه السِّحريّة وقد تمكَّن من جَذب الكثيرين إليه، ولكن عندما سَمِع هذا السّاحر كلمة الله، آمَن بالربِّ واعتمد. غير أنَّ هذا السّاحر أراد على الرُغم من إيمانه بالربِّ يسوع المحافظة على عَملِه في السِّحر، الّذي يتعارَض مع إيمانه. وهذا ما يقوم به بعض المؤمِنِين، إذ يتمسَّكون بعاداتهم وتقاليدهم القديمة، غير المنسجمة مع إيمانهم، على الرُّغم من قبولهم كلمة الله في حياتهم. إنَّ سيمون السّاحر البارع في أعمال السِّحر، قد استوقفته الأعاجيب الّتي كان يقوم بها الرُّسل باسم المسيح، فقرَّر شراء تلك الموهبة من الرَّسولَين بطرس ويوحنّا، ولكنَّه فَشِل في ذلك، لأنَّ الرُّسل كانوا يعلمون أنَّ مواهب الشِّفاء وسواها من المواهب الإلهيّة، تُمنَح لهم من الله ولا يستطيع البشر بَيعَها أو شراءَها.
ويُخبرنا هذا النَّص عن رَجُلٍ أثيوبيّ، كان يعمل عند مَلِكة الحبشة مسؤولاً عن أموالها. وكانت العادة في ذلك الزَّمان تقوم على أن يتمّ خَصِي كلّ رَجلٍ يعمل في داخل قَصر الـمَلِكة. كان هذا الرَّجُل الخَصيّ جالسًا في مركَبَته يقرأ نصًّا من سِفر إشعيا (52-53)، فإذا بفيلبُّسُ يقترب من الخَصيّ ويسأله إنْ كان مُدرِكًا لِمَا يَقرأ، فأجابه الخَصيُّ: كيف عساه يَفهم إن لم يكن هناك مَن يُرشِده إلى فَهم كلمة الله؟ عندئذٍ قال فيلبُّسُ للرَّجل الأثيوبي، إنّ هذا النَّص قد تحقَّق في يسوع المسيح، وانطلق الرَّسول في تبشير الخَصيّ بكلمة الله. إنَّ قراءة المؤمِن لكلمة الله قراءةً سطحيّة لا تساعِده على فَهم قصدِ الله منها، لذا هو يحتاج إلى آخر يُرشِده إلى فَهمها بطريقة صحيحة، انطلاقًا مِن خِبرَته الإيمانيّة، وتَعمُّقه في التأمُّل فيها. لقد اكتشف جميع الرُّسل، ما اكتشَفه بولس الرَّسول على طريق دِمشق، فأدركوا أنَّ قَصد الله في العهد القديم قد تحقَّق في المسيح يسوع. لذا، أطلَقَ بولس الرَّسول على العهد القديم، اسم "pedagogos"، أي الـمُربِّي أو المؤدِّب. إنَّ كُتُب التّوراة هي "المؤدِّب" للشَّعب اليهوديّ، ولذا هي تقوده إلى اكتشاف قَصدِ الله في يسوع المسيح ابنه. إذًا، بما أنَّ العهد القديم يقودنا إلى المسيح يسوع، لا يمكننا بالتّالي الاستغناء عنه، كما يدَّعي بعض المؤمِنِين، فكلمة الله هي واحدة في العهدَين القديم والجديد، لذا علينا القبول بها كما هي. إنَّ العهد القديم يُقدِّم لنا صورة مُزعجة لله، إذ تُظهرِه على أنَّه قاضٍ وديّان، لذا يَعمد البعض إلى تَرك العهد القديم جانبًا وتفضيل العهد الجديد عليه. إنّ كلمة الله في العَهدين، القديم والجديد، هي واحدة، ولكنَّ التَّعبير عنها يختلف بحسب اختلاف الشُّعوب عبر العصور، إذ إنَّ لكلّ شعبٍ لُغته الفريدة الخاصّة به. بعد تبشيره بكلمة الله، قرَّر الرَّجل الخَصيّ القبول بكلمة الله والاعتماد على يد فيلبُّس. يُخبرنا النَّص أنَّ فيلبُّس قد اختُطِف بعد إعطائه سرّ المعموديّة للرَّجل الأثيوبيّ. إنّ اختطاف الربّ للرَّسول هو صورةٌ أدبيّة تشير إلى أنّ دَور الرَّسول يقتصر على إعلان كلمة الله والانسحاب بعد ذلك، ليتمكَّن المؤمِن الجديد من الشَّهادة لإيمانه في محيطه. لقد آمَنَتْ أثيوبيا بالمسيح، وقد كانت من أُولى البلاد الّتي أعلنَت إيمانها بالربّ يسوع في العالم. عندما يتعمَّد الإنسان، يُعلِن عن التزامه بالربّ، وبالتّالي يتوجَّب عليه إلزام ذاته بنمطِ حياةٍ يعكس إيمانه بالربّ، كي يكون شهادة صالحة للمسيح داخل مجتمعه.
إنَّ المعموديّة لا تقتصر على رشّ الماء على رأس المعمَد، إذ إنَّ المعمَّد مدعوّ إلى تعميد ذهنه، وحوّاسه لِتَكون منسجمة مع فِكر المسيح. لذا بعد حصوله على سرّ المعموديّة، تتغيَّر نظرة الإنسان إلى الأمور مِن حَوله، إذ إنّ المعموديّة تدعوه إلى النَّظر إلى الأمور مِن حوله كَنَظرة المسيح إليها. فحين يقع المؤمِن في الخطيئة، عليه أن يُسارِع إلى طلب الرَحمة من الربّ والسَّعي إلى تغيير مسيرة حياته، لا هَدر الوَقت الـمُعطى له في هذه الحياة للبشارة في البكاء على خطاياه. مِن حِيَل الشَّيطان، أن يدفع المؤمِن إلى هَدر وَقته في البكاء على خطاياه، محاولاً إقناعه بأنَّه غير أَهْلٍ للبشارة بالمسيح. في هذا الإطار، نتذكَّر قول بولس الرَّسول الّذي يدعونا إلى عدم الانجراف في التَّفكير في الماضي بل إلى النَّظر إلى الأمام، قائلاً لنا: "أيّها الإخوَةُ، لا أعتَبرُ أنِّي فُزتُ، ولكنْ يَهُمُّني أَمرٌ واحدٌ وهو أن أنسى ما ورائي وأُجاهد إلى الأمام" (فيلبيّ3: 13). إلتَزَمَ بولس الرَّسول بالربّ يسوع، فأَلزَم نفسه بالبشارة به في كلّ المسكونة دون هَوادة. أمَّا نحن اليوم، فنسعى إلى التّراجع عن دَورنا التَّبشيريّ مُتَذَرِّعين بانشغالنا بممارسة التَّقويات المزَّيفة كَتَمْضِيَة الوقت في الصّلاة والسُّجود أكثر من اللّازم، للتَّعويض عن خطايانا. إنَّ ما نقوم به هو إحدى صُوَر السِّيمونيّة الجديدة في عَصرِنا.
"وكانَ شاوُلُ راضِيًا بِقَتلِهِ. وَحَدَثَ في ذَلِكَ اليَومِ اضْطِهادٌ عظيمٌ على الكَنيسَةِ الّتي في أُورَشَلِيمَ، فَتَشَتَّتَ الـجَميعُ في كُوَرِ اليَهودِيَّةِ والسَّامِرَةِ، ما عَدا الرُّسُلَ. وَحَمَلَ رِجالُ أتْقِياءُ اسْتِفانُوسَ وعَمَلوا عَلَيْهِ مَناحَةً عَظيمَةً. وَأَمَّا شاوُلُ فَكانَ يَسْطُو عَلى الكَنيسَةِ، وهُوَ يَدْخُلُ البُيُوتَ ويَجُرُّ رِجالاً ونِساءً ويُسلِّمُهُم إلى السِّجْنِ. فالَّذينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبشِّرِينَ بالكَلِمَةِ. فانْحَدَرَ فِيلبُّسُ إلى مَدينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ وكانَ يَكْرِزُ لَهُم بالـمَسيحِ. وَكانَ الـجُموعُ يُصْغُونَ بِنَفسٍ واحِدَةٍ إلى ما يَقُولُهُ فِيلبُّسُ عِندَ اسْتِماعِهم ونَظَرِهِم الآياتِ الّتي صَنَعَها، لأنَّ كَثِيرينَ مِنَ الّذينَ بِهِم أَرواحٌ نَجِسَةٌ كانَتْ تَخرُجُ صارِخَةً بِصَوْتٍ عَظيمٍ. وَكَثِيرُونَ مِنَ الـمَفْلُوجينَ وَالعُرْجِ شُفُوا. فَكانَ فَرَحٌ عَظيمٌ في تِلكَ المَدينَةِ. وَكانَ قَبْلاً في المَدينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ، يَستَعمِلُ السِّحْرَ ويُدهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ، قائلاً إنَّه شَيءٌ عَظيمٌ! وَكانَ الـجَميعُ يَتْبَعُونَهُ مِنَ الصَّغيرِ إلى الكَبيرِ قائِلِينَ: "هذا هُوَ قُوَّةُ للهِ العَظيمَةُ" وَكانُوا يَتْبَعُونَهُ لِكَوْنِهم قَدْ انْدَهَشُوا زَمانًا طَويلاً بِسِحرِهِ. وَلَكِنْ لَمَّا صَدَّقُوا فِيلبُّسُ وَهُوَ يُبَشِّرُ بالأُمورِ الـمُختَّصَةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ وبِاسْمِ يَسُوعَ المَسيحِ، اعْتَمَدُوا رِجالاً ونِساءً. وَسِيمُونُ أَيْضًا نَفسُهُ آمَنَ. وَلَمّا اعْتَمَدَ كانَ يُلازِمُ فِيلبُّسُ، وَإِذْ رَأى آياتٍ وقُوّاتٍ عَظيمَةَ تُجْرَى انْدَهَشَ. وَلَمّا سَمِعَ الرُّسُلُ الّذينَ في أُورشَليمَ أنَّ السَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ اللهِ، أَرسَلُوا إلَيْهِم بُطرُسَ ويُوحَنّا، اللَّذَينِ لَمَّا نَزَلا صَلَّيا لِأَجْلِهِم لِكَي يَقبَلُوا الرُّوحَ القُدُسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُن قَدْ حَلَّ بَعْدُ على أَحَدٍ مِنْهُم، غَير أنَّهمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِاسْمِ الرَبِّ يَسُوعَ. حِيْنَئِذٍ وَضَعَا الأَيادِيَ عَلَيْهِم فَقَبِلُوا الرُوحَ القُدُسَ. وَلَمّا رَأى سِيمُونُ أَنَّهُ بِوَضْعِ أَيْدِي الرُّسُلِ يُعطَى الرُّوحُ القُدُسُ، قَدَّمَ لَهُما دَراهِمَ قائلاً: "أَعْطِيَانِي أَنا أَيْضًا هَذا السُّلطَانَ، حتّى أَيُّ مَن وَضَعْتُ عَلَيْهِ يَدَيَّ يَقْبَلُ الرُّوحَ القُدُسَ". فَقَالَ لَهُ بُطرُسُ: "لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلهَلاكِ، لِأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللهِ بِدَراهِمَ! لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلا قُرْعَةٌ في هذا الأَمْرِ، لِأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيمًا أَمامَ الله. فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا، وَاطْلُبْ إلى اللهِ عَسَى أَنْ يُغفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ، لِأَنِّي أَراكَ في مَرارَةِ الـمُرِّ وَرِباطِ الظُّلم". فَأَجابَ سِيمُونُ وَقَالَ: "اطْلُبا أنتُما إلى الرَبِّ مِنْ أَجْلِي لِكَي لا يَأتيَ عَلَيَّ شَيءٌ مِمّا ذَكَرْتُما". ثُمَّ إنَّهما بَعْدَ ما شَهِدا وَتَكَلَّما بِكَلِمَةِ الرَبِّ، رَجَعا إلى أُورَشليمَ وبَشَّرا قُرىً كَثيرَةً للسَّامِرِيّين. ثُمَّ إنَّ مَلاكَ الرَبِّ كَلَّمَ فِيلبُّسَ قائلاً: "قُمْ واذْهَبْ نَحْوَ الجَنُوبِ، عَلى الطَّريقِ الـمُنحَدِرَةِ مِن أُورشَلِيمَ إلى غَزَّةَ التّي هِيَ بَرِيَّةٌ". فَقَامَ وَذَهَبَ. وَإذَا رَجُلٌ حَبَشِيٌّ خَصِيٌّ، وَزِيرٌ لِكَنْدَاكَةَ مَلِكَةِ الحَبَشَةِ، كانَ على جَميعِ خَزَائِنِها. فَهَذَا كانَ قَدْ جَاءَ إلى أُورشلِيمَ لِيَسْجُدَ. وَكانَ راجِعًا وَجَالِسًا عَلى مَركَبَتِهِ وَهُوَ يَقرَأُ النَّبيَّ إِشِعْياءَ. فَقَالَ الرُّوحُ لِفِيلبُّسَ: "تَقَدَّمْ وَرَافِقْ هَذِه المَركَبَةَ". فَبَادَرَ إِلَيْهِ فِيلبُّسُ، وَسَمِعَهُ يَقْرَاُ النَّبيَّ إِشِعْياءَ، فَقَالَ: "أَلَعَلَّكَ تَفهَمُ ما أَنْتَ تَقْرَأُ؟" فَقَالَ: "كَيْفَ يُمْكِنُنِي إنْ لَمْ يُرشِدْني أَحَدٌ؟" وَطَلَبَ إلى فِيلبُّسَ أَنْ يَصْعَدَ وَيَجْلِسَ مَعَهُ. وَأَمّا فَصْلُ الكِتابِ الّذي كانَ يَقرَأُهُ فَكانَ هذا: "مِثْلَ شَاةٍ سِيقَ إلى الذَّبحِ، وَمِثْلَ خَرُوفٍ صَامِتٍ أمَامَ الّذي يَجُزُّهُ، هَكَذَا لَمْ يَفْتَحْ فاهُ. فِي تَواضُعِهِ انْتُزِعَ قَضَاؤُهُ، وَجِيلُهُ مَن يُخْبِرُ بِهِ؟ لِأَنَّ حياتَهُ تُنْتَزَعُ مِنَ الأَرضِ". فَأَجابَ الخَصِيُّ فِيلبُّسَ وقالَ: عَنْ مَنْ يَقُولُ النَّبيُّ هَذا؟ عَنْ نَفسِهِ أَمْ عَنْ وَاحِدٍ آخَرَ؟ فَقَتَحَ فِيلبُّسُ فَاهُ وابْتَدَأَ مِنْ هَذَا الكِتابِ فَبَشَّرَهُ بِيَسُوعَ. وَفِيما هُما سَائِرانِ في الطَّريقِ، أَقْبَلا على ماءٍ، فَقَالَ الخَصِيُّ: "هُوَذَا مَاءٌ. مَاذا يَمْنَعُ أنْ أَعْتَمِدَ؟" فَقَالَ فِيلبُّسُ: "إِنْ كُنتَ تُؤمِنُ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ يَجُوزُ". فَأَجابَ وَقَالَ: أَنا أُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ المَسيحَ هُوَ ابْنُ اللهِ. فَأَمَرَ أَنْ تَقِفَ المَرْكَبَةُ، فَنَزَلا كِلاهُما إلى الماءِ، فِيلبُّسُ وَالخَصِيُّ، فَعَمَّدَهُ. وَلَمّا صَعِدَا مِنَ الماءِ، خَطَفَ رُوحُ الرَبِّ فِيلبُّسَ، فَلَمْ يُبْصِرْهُ الخَصِيُّ أَيْضًا، وَذَهَبَ في طَريقِهِ فَرِحًا. وَأَمَّا فِيلبُّسُ فَوُجِدَ في أَشْدُودَ. وَبَيْنَما هُوَ مُجْتازٌ، كانَ يُبَشِّرُ جَميعَ المُدُنِ حتّى جاءَ إلى قَيصَرِيَّةَ."

بعد دَفْنِ استِفانوس، تَشتَّت المؤمِنون في المسكونة كلِّها، فحوَّلوا تَشَتُّتَهم هذا إلى مَصدرِ تَبشيرٍ بالمسيح. هرب المؤمِنون من وَجه مُضطَهدِيهم، لأنّ تقديم ذواتهم لِجَلّاديهم يُعبِّر عن غباءٍ لا عن فِطنةٍ مِن قِبَلِهم، إذ أحرى بهم الهروب من الاضطهاد والتَّبشير بكلمة الله، لأنّ في ذلك إفادةً لغير المؤمِنِين الّذين قد ينالون الخلاص بواسِطَتِهم. قَبِلَ الرُّسل الموت في سبيل المسيح، حين لَم يكن هناك مِن حلٍّ آخر سِوى نُكران إيمانهم بالربِّ يسوع. لذا كانت الكنيسة ترفض إقامة صلاة الجُنّاز المسيحيّ من أجل الـمُنتَحِر. فالإنسان الّذي يُقدِّم ذاته للّذي يرغب في قَتلِه، عِوضَ الانطلاق للبشارة، ينتحر.
إنَّ فيلبُّس هو اسمٌ يونانيّ، يعني "صديقَ الحِصان"، أي الفارس؛ وتقوم مهمَّةُ الفارس على الجِهاد في سبيل الوصول إلى الهَدف، ألا وهو الفَوز في السِّباق. عند حضور فيلبُّس، كانت الأرواح الشِّريرة تَخرج من النّاس الّذين يُعانون منها، لأنَّ الأرواح الشِّريرة ترتعب من حضور الله. وهذا ما اختبره أيضًا يسوع المسيح إذ كانت الأرواح الشِّريرة تصرخ إليه قائلة: "ما لنا ولك، يا ابن الله، هل جِئتَ لتُهلِكنا؟". إنَّ حضور بطرس ويوحنّا إلى السّامِرة، ما هو إلّا لإعطاء شرعيّة لتبشير فِيلبُّس، ولإعطاء المؤمِنِين الرُّوح القدس. لقد استمرّ هذا التَقليد في الكنيسة لفتراتٍ طويلة من الزَّمن، إذ كان الأُسقف يأتي إلى مدينةٍ معيّنة بعد اقتبال بعضُ أبنائها سرّ المعموديّة، فيَضَع اليَد عليهم، لِيَمْنحَهم سرَّ التَّثبيت، أو ما يُعرَفُ أيضًا بِسِرِّ الـمَيرون. إنّ وَضَع اليَد على المعمَّدين هي دليلٌ على حصولهم على مواهبِ الرُّوح القدس. إنَّ عبارة "فَتَح فاه" الّتي استخدمها كاتب هذا النَص تُذكِّرنا بالربّ يسوع الّذي "فَتَح فاه"، ليُعلِن كلمة الله للجموع الّتي كانت تَتْبَعُه، والمتعطِّشة لكلمة الله المحيية. يختَتِم القدِّيس لوقا هذا الإصحاح، بالكلام عن حادثة اختطاف الربِّ لفيلبُّس الرَّسول، إذ لم يعد باستطاعة الحبشيّ رؤيته. عند قيامة الربِّ يسوع من الموت، ظهر لمريم المجدليّة، الّتي أرادت الإمساك به، غير أنّه مَنعها من ذلك لأنّ مَعرفتها به بعد القيامة، ستكون مختلفة عن معرفتها الجسديّة به قَبْل الموت والصّلب: فالربُّ يسوع بعد القيامة هو الربُّ الممجَّد، لا يسوع النّاصريّ الّذي كان يسير في الطُّرقات مُعلنًا كلمة الله للبشر وشافيًا المرضى من بينهم. إنَّ صُعود الربِّ إلى السَّماء هو عَمَلٌ إلهيّ لا يستطيع المؤمِن إدراكِه بعقلِه البشريّ. بعد اعتماده على يد فيلبُّس الرّسول، تَحوَّل الخَصيّ إلى حامِلٍ لكلمة الله في مجتمعه، إذ حلّ عليه الرُّوح القدس في المعموديّة.
لقد آمَن الرُّسل بكلام الربّ، فَعَملوا على الإسراع في التَّبشير بكلمة الله، كي يتمكَّن الجميع من الحصول على الخلاص قَبل مجيئه الثّاني. إنَّ الربَّ هو الّذي يُحدِّد ساعة مجيئه الثّاني لا البشر، لذا على المؤمِنِين السَّهر على إيصال البشارة إلى كلِّ المسكونة بسرعةٍ، قبل مجيء الربّ، فتُؤمِن به وتنال الخلاص. على المؤمِن التَّبشير بالربّ، حتّى ولو لم يكن على عِلمٍ بساعة مجيء الربِّ، لأنّه لا يعلم متى تَحينُ ساعته للانتقال من هذا العالم، وللقاء الربِّ وجهًا لوجه. على المؤمِن أن يُعطي ثِمارًا تدلُّ على قبوله الإيمان بالربّ، من خلال محبَّته للآخَرين، فتكون محبّته لهم شهادةً على حُبِّ الله له. هذا ما قام به الخَصيُّ إذ بشَّر محيطه بالربِّ يسوع، وهذا ما حَدَث مع قائد المئة الرومانيّ عند أقدام الصّليب، إذ اعترف بأنَّ المصلوب هو حقًّا ابن الله. وهذا ما حدث مع كورنيليوس، حارسِ السِّجن (أعمال 10). إنَّ كلمة الله تَحصر الإنسان، ولكنّه لا يستطيع أن يحصُرها، لذا لا يستطيع الإنسان أن يُدرِك كيفيّة تفاعُل كلمة الله في داخل الآخَرين وتغيير حياتهم. فَعَلى المؤمن أن يكون مُخلِصًا لكلمة الله، فينشرها في قلوب الآخَرين، ويَتَرُكَ مهمَّة الاعتناء بها لله الّذي يُنمِّيها في النُّفوس.
إنَّ سِفر أعمال الرُّسل، ليسَ كتابًا تاريخيًّا ينقُل إلينا بطولات الرُّسل، بل هو كتابٌ يُخبرنا عن عمل كلمة الله في النُّفوس من خلال الرُّسل، الّذين بشَّروا بها المسكونة جمعاء. حين ينظر المؤمِن إلى سِفر أعمال الرُّسل على أنَّه كِتابٌ تاريخيّ، فإنّه يجد سهولةً للتهرُّب من البشارة بكلمة الله، لأنَّ هذا الكتاب يُخبِره في هذه الحالة عن أعمال أشخاص عاشوا منذ زمنٍ بعيد. ولكنْ حين ينظر المؤمِن إلى سِفر أعمال الرُّسل على أنَّه ثمرَةُ عمل كلمة الله في النُّفوس، فإنَّه سينال تعزية كبرى، إذ سيتشجَّع على التَّبشير بكلمة الله، لأنَّه سيُدرك أنَّ كلمة الله قادرة أن تفعل فِعلها فيه، كما فَعلَت فِعلها في الرُّسل. على المؤمِن أن يسعى لا إلى انتقاد الآخَرين على طريقة إيصالهم البشارة للمسكونة، بل إلى الغِيرة منهم في عملِهم التبشيريّ، والسَّعي إلى الاقتداء بهم والتَّبشير بالمسيح. إنَّ سِفر أعمال الرُّسل هو جِزءٌ من الأناجيل، أي أنَّه يملك القوّة نفسها الّتي تمتلكِها الأناجيل. إنّ كلَّ أسفار الكتاب المقدَّس تحتوي على كلمة الله، لذا على المؤمِن تعميد ذهنه، ليتمكّن من قبولها في حياته، لا انتقاء ما يناسبه منها. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
12/2/2019 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح السابع عمل الله الخلاصيّ
https://www.youtube.com/watch?v=d8tRObLwdSs&t=39s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح السابع
الأب ابراهيم سعد

12/2/2019

إنَّ هذا الإصحاح هو عبارة عن "قدَّاسٍ إلهيّ"، يحتفل به الرَّسول استفانوس إذ يُعلِن من خلاله على مسامِع الشَّعب مُلَخِّصًا، عن عَمَلِ الله الخلاصيّ للبَشر، ويُقدِّم فيه ذاته ذبيحةً لله، باستشهاده. وهذا ما نقوم به نحن في كلّ ذبيحة إلهيّة، إذ نتذكَّر في القسم الأوّل من القدّاس كلَّ عَمَلِ الله الخلاصيّ، من آدم إلى يوم صعود الربّ يسوع إلى السّماء، ثمّ نطلب من الله في القسم الثّاني أن يقبل قرابينَنا الّتي نقدِّمها له، طالِبِين منه أنْ يُحوِّلها إلى جسد ابنه ودَمه، بواسطة الرُّوح القدس. لا يمكن لجماعةٍ معيّنة، أنْ تتوجَّه بالصّلاة إلى الله، قبل تحديد هويّة هذا الإله الّذي تعبده، إذ قد تكون صورةُ الله في فِكرِ أحد أفراد هذه الجماعة مُغايرةً لصورة الله الحقيقيّة الّتي تعبُدُهُا الجماعة كلُّها. لا يملك البشر نظرةً مُوَحَّدة لله: فَهُناك مَن ينظر إليه على أنّه ديّانٌ وقاضٍ، وهناك مَن ينظر إليه على أنّه مُحقِّق الأماني والرَّغبات، ولكنّ المؤمِن يُعلِن أنّ إلهَه الّذي يَعبُدُه، هو الله الآب والابن والرُّوح القدس، وأنّ لا إله سواه، على الرُّغم من إيمان الآخَرين بآلهةٍ أخرى. إنّ كلَّ مجتمعٍ دينيّ يُقدِّم للمُنتَمِين إليه، صورةً عن الله، مُغايرةً لصورة الإله الّذي تَعبُده بقيّة المجتمعات، وكلّ مجتمعٍ يزعَم أنَّه يؤمِن بالله الواحد. إنّ هذا الاعتقادَ خاطئٌ تمامًا لأنّه لو كان الله نفسه، عند جميع المجتمعات، لكان تاريخُ الله مع شعبه موَحَّدًا عند جميع البشر، ولكانت البشريّة احتفلت بِعِيدِ هذا الإله في الوقت نفسه، ولكنّ ذلك لا ينسجم مع الواقع المعيوش. للأسف، إنّ المجتمعات المسيحيّة تسعى إلى ملاطفة بقيّة المجتمعات الدِّينيّة، عِوَض أن تُجاهِر بإيمانِها بالربّ يسوع، مُعلِنةً لهم عن عَمَلِه الخلاصيّ لأجلِهم، وذلك تَفاديًا للاضطهادات الّتي قد تتعرَّض إليها. إنَّ الله لم يُعرِّف عن ذاته للشَّعب من خلال إعطائهم اسمَه، بل من خلال عَرضِ قصَّته مع البشر على مَرِّ العصور: ففي العهد القديم، عرَّف الربّ عن ذاته بأنّه إله ابراهيم واسحَق ويعقوب، وأنّه الإله الّذي خلَّص الشَّعب من العبوديّة في مِصر، وهو نفسه الّذي تجسَّد في العهد الجديد، وخلَّص البشريّة جمعاء بموته على الصّليب، وقيامته. في هذا الإصحاح، جاهَر الرَّسول استِفانوس بإيمانه بالربّ يسوع أمام الشَّعب اليهوديّ، فخاف رؤساؤهم من اتِّباع البعض منهم لتعاليم هذا الرَّسول، إذ إنَّ في ذلك زعزعةً لعروشهم الأرضيّة، لذلك قرَّروا قَتلَه رَجمًا. تمامًا كما حدَث مع الربّ يسوع، الّذي أخافَت تعاليمه عن الله، رؤساء اليهود، ففضَّلوا قتلَه على زعزعةِ عروشهم وسماعِهم للحقيقة.
هناك فرقٌ بين التَّأريخ والـتّاريخ: فالتَّأريخ هو تدوين حَدَثٍ معيَّن معلومِ الزَّمنِ، أي اليوم والشهر والسَّنة الّتي حَدَث فيها؛ أمّا التاريخ فهو رَبط عدَّة أحداث متفرِّقة بعضها بِبَعض، لإيصال رسالةٍ معيّنة إلى السَّامِعين. وإليكم مِثالٌ توضيحيٌّ للفرق بين هاتين العِبارَتين: التَّأريخ يقوم على سبيل المِثال على تدوين يوم ولادة هذا الإنسان العظيم ونَشْأته في طفولته وسواه من الأمور الخاصّة به، غير أنّ ذلك لا فائدة منه إلّا لـمُعاصِريه. ولكن التّاريخ يقوم على ذِكر أهمّ أعمال هذا الرَّجل ورَبطِها بعضها بِبَعض، لما فيها من إفادة للبشريّة بأسرِها كَتَدوين سلسلة الاختبارات الّتي قام بها هذا الرَّجل العظيم، والّتي قادَته إلى اكتشاف دواءٍ معيّن، أو اختراعه لآلةٍ معيَّنة تُسهِّل حياة الآخَرين. لم يكن هَدفُ الإنجيليِّين الأربعة تأريخ حياة يسوع، إنّما إيصال تاريخه الخلاصي للبشريّة جمعاء من خلال رَبط الأحداث التّي قام بها بعضها بِبَعض، من أجل إيصال البشارة السّارة للمسكونة بأسْرِها. لذا لا نَجِدُ في كلّ العهد الجديد، أيَّ تفصيلٍ عن حياة يسوع ما قَبل السَّنوات الاثنتي عشرة، لأنّ لا فائدةَ خلاصيّة لنا مِن ذلك، ولكنّ الإنجيليِّين يَذكُرون لنا كلّ حَدثٍ خلاصيّ قام به يسوع، كشفاء المرضى، وتعاليمه الّتي كَرز بها أمام الشَّعب اليهوديّ، ويقومون بربطِها بعضها بِبَعض، من أجل إيصال البشارة بشكلٍ أفضل. إنَّ التَّأريخ هو جزءٌ من التّاريخ. وهنا يُطرَح السؤال: ما الفرق بين فترة ما قبل التَّأريخ، وما بَعدَه؟ في فترة ما قَبل الـتَّأريخ، أي منذ بدء الخليقة إلى يوم تأريخ الإنسان للأحداث، كان الإنسان يتناقل الأحداث الخلاصيّة شَفهيًّا من جيلٍ إلى جيل؛ ولكن مع بداية التّأريخ، أي مع بداية مرحلةِ تدوينِ الإنسان للأحداث، فإنَّ تناقُلَ الأحداث الخلاصيّة عبر العُصور أصبح يتمّ بواسطة الكتابة. إنّ الإنسان يستطيع تدوين كلّ حَدَثٍ موجودٍ في ذاكِرَته، وبالتّالي إنْ لم يَكُن هناك مِن أحداثٍ موجودة في الذّاكرة الإنسانيّة، فإنّه مِن المستحيل أن يستطيع الإنسان تدوين أيِّ حدثٍ ونَقلَه للأجيال القادِمة. إذًا، تقوم الذّاكِرة الإنسانيّة على ذِكْرِ الإنسان لِحَدثٍ مُعيَّنٍ اختبره، إمّا شَفَهيًّا وإمّا كِتابيًّا. إنّ حصول حَدَثٍ معيَّن، يتطلّب وجود جماعة لا شخصٍ واحد، وبالتّالي حين يتمّ تدوين هذا الحَدَث أو ذاك، فإنَّ ذلك يتمّ من أجل ترسيخ هذا الحَدَث لا في ذاكِرَة المؤرِّخ وَحَسْب، إنّما في ذاكِرة المجتمع بأسرِه، للأجيال القادِمة. إذًا، إنَّ كلَّ مُجتَمَعٍ يُدوِّن الأحداث الّتي يعيشها، ليُرسِّخ ماضيه، في ذاكِرَته، أي تاريخه؛ وبالتّالي فإنَّ كلّ مَن يريد الانتماء إلى مجتَمعٍ معيَّن، عليه الإعلان عن قبولِه بتاريخ هذا المجتمع، والاعتراف بأنَّ تاريخ هذا المجتمع هو جزءٌ من تاريخِ هذا الإنسان. فمثلاً، في عيد الاستقلال، يحتفل الإنسان بِعيدِ بَلَدِه، مُعلِنًا للأجيال الجديدة، قصَّة استقلال البَلَد الّذي ينتمي إليه، وكأنّه كانَ حيًّا في ذلك الحين. يُعلِن الإنسان انتماءَه لهذا البَلَد أو ذاك، مُستَخدمًا صِيغة الجمع. إنَّ المؤمِن بالربّ يسوع، يُعلِن في الذبيحة الإلهيّة، عن انتمائه، إلى شَعب الله، مُتذَكِّرًا قصّة الله مع هذا الشَّعب على مَرِّ العصور. وهذا ما يُسمّى باللِّيتورجيّا.

إنَّ كلمة "ليتورجيّا"، هي كلمة يونانيّة الأصل، تتألَّف مِن كَلِمَتين، هما "لِيتُوس" وتعني الشَّعب، و"إرْغُون" وتعني عَمَلُ، وبالتّالي فإنَّ كلمة "ليتورجيّا"، تعني عَمَلُ الشَّعب. إذًا، تقوم اللّيتورجيا على ممارسة شعبٍ معيَّنٍ عاداتٍ وتقاليدَ وأعرافٍ خاصّة به، متجانسة مع تاريخه. وبالتّالي، فإنّ الإنسان الّذي يرغب بالانضمام إلى مجتَمعٍ معيَّن، عليه أن يمارس عادات ذاك المجتمع وتقاليده. ومِثالٌ على ذلك، هو المرأة المتزوِّجة، إذ تُعلِن عن انتمائها إلى مجتمع زوجِها، من خلال ممارسَتها لعادات ذلك المجتمع الجديد، ومن خلال مشاركَتها في حفلاته وأعيادِه، إذ أصبحت فَردًا من هذا المجتمع على الرُّغم من انتسابِها الحديث إليه. من خلال مجاهَرَته بإيمانه، يُعلِن الإنسان للآخَرين عن تاريخ الله في مسيرة الشَّعب الّذي ينتمي إليه. ولذا حين يُعلِن المؤمِن دُستور إيمانه بالربّ في الذبيحة الإلهيّة، يُصبح رسميًّا رسولاً للمسيح، على مِثال الرُّسل الاثني عشر، وبالتّالي يُصبح مسؤولاً عن نَقلِ البشارة الإنجيليّة للآخَرين المحيطين به. إنَّ الذبيحة الإلهيّة، لا تجعل من المشارِكين فيها قدِّيسين على الرُّغم من خطاياهم، بل هي تُعبِّر عن قبول المؤمِن بالله الّذي يؤمِن به هذا الشَّعب، إلهًا ومخلِّصًا له، وبالتّالي يُعلِن المؤمِن في الذبيحة الإلهيّة أنَّ تاريخ هذا الشَّعب هو جزءٌ من تاريخه الخاصّ. ولذا لا يستطيع المؤمِن بعد ذلك، أن يكون مُحايدًا أمام حَدَثِ خلاص الربّ له، إذ يتوجَّب عليه اتِّخاذ القرار ما بين أن يكون صالبًا للربّ، كما كان رؤساء اليهود؛ أو هاربًا مِن المشاركة في هذا الحدث، كما فَعل الرّسل؛ أو مُتابعًا له، كما كانت مريم ويوحنّا الرَّسول عند أقدام الصّليب. إنَّ كلّ الأسرار الكنسيّة تتضمّن مجموعة من الصّلوات الّتي على المؤمِن المشاركة بها، قَبْلَ حصوله على الأسرار؛ فَسِرُّ المعموديّة على سبيل المِثال لا يقتصر على رشِّ المياه على المعمَّد، بل هناك مجموعةُ صلواتٍ يشارك فيها الحاضِرون، يُعلِنون فيها انتماءهم إلى شعب الله، من خلال استذكار كلّ تاريخ الله مع شعبه على مَرِّ العصور، قَبْلَ دخولِ المعمَّدِ إلى تاريخ هذا الشَّعب بسرّ المعموديّة.

إنَّ الربّ يسوع يدعونا لِتَكون صلاتنا فاعلة في حياتنا، لذا علَّمنا صلاة الأبانا، ودعانا إلى تلاوتها كلّما أردنا التّواصل مع الله الآب، فالصّلاة بالنسبة إلى الله هي علاقة، لا تمتمة كلماتٍ. إنَّ كلمة الله تَحصرُ الإنسان لا الله: إنَّ الله ليس محصورًا في مجموعة شرائعَ دينيّة كالوصايا دون أن يتمكَّن مِن تغيير أيّ حَرفٍ فيها. إنَّ الله قادِرٌ بكلمته المحيية تغيير الأنظمة والشرائع لِـمَا فيه خلاصُ البشر. إنَّ الإنسان لا يستطيع إدراك الله وتكوين فكرةٍ ثابتة وواضحة عنه، فالله يُقدِّم ذاته في كلّ يوم للإنسان، بطريقة جديدة، من خلال اختباراتٍ جديدة في كلّ يوم. إنَّ الكتاب المقدَّس هو أكبر دليلٍ على ذلك، فالشَّعب لم يستطِع إدراك فِكر الله وتحديده، فالله الّذي وَعَدَ شعبه السّاكن في أورشليم، بحماية تلك المدينة، تراجع عن وَعدِه هذا، حين رأى ابتعاد الشَّعب عنه والإصغاء له، فَسَمَحَ لأُمَّةٍ غريبة بالسَّيطرة على أورشليم وسَبي شَعبها؛ وحين كان الشَّعب قد فَقَد الأمل بالعودة إلى أورشليم بعد السّبي إلى بابل، أعادهم الربُّ إلى أورشليم. على الإنسان أن يقترب من الله بذهنيّة الخاطئ الّذي يرجو من الربّ أن يغفر له خطاياه، لا بذهنيّة الإنسان المتأكِّد من حصولِه على غفران الله اليوم كما حصل معه في الأمس، فَعَقلُ الإنسانِ عاجزٌ عن إدراكِ فِكر الله. على الإنسان أن يتقدَّم من الربّ بتواضعٍ وانسحاقِ قلبٍ طالبًا الرَّحمة من الربّ، لا التقَدُّم منه مطمئِّنَ القلب إلى رحمة الله وغفرانه المؤكَّد له، لأنّ صلاة المؤمِن لله عندها ستكون مجرَّد تمتمة كلمات، ولا تُعبِّر عن علاقة حقيقيّة مع الربّ. حين يتقدَّم الإنسان من الله وملؤه الثِّقة بأنّ الله سيغفر له خطاياه، يكون في هذه الحالة قد أدرَك الله وألغى وجوده من حياته. على المؤمِن الحضور إلى الكنيسة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة بذهنيّة الخاطئ الّذي يترجَّى الحصول على المغفرة من الربّ، لا بذهنيّة الـمُبَرَّر، والمؤمِن بالله.

إنَّ هيكليّة الذبيحة الإلهيّة مَبنيّة على حصول الإنسان، الحاضر في هذه الذبيحة، على عطيّةٍ من الله لا يستحِّقها، ألا وهي "الخلاص". وبالتّالي، إنْ حَضَر الإنسان بذهنيّة أنَّه مؤمِنٌ بالربّ وأنّه نال الخلاص، لا يعود لحضوره الذبيحة الإلهيّة من فائدة، لأنّه يكون قد أصبحَ، بنَظَرِ ذاتِه، مستحِقًّا لخلاص الربّ. أمّا إنْ حَضَر المؤمِن إلى الذبيحة الإلهيّة، بذهنيّة أنّه خاطِئٌ، فإنَّه عندها سَيَنالُ الإنسان غُفران الله، ويُدرِك أنّه غير مستحقٍّ للنِّعمة الّتي مَنَحه إيّاها الربّ، ألا وهي الخلاص. إنَّ القدَّاس هو سرّ الافخارستّيا، أي "سِرُّ الشُّكر"، فالمؤمِن يدخل إلى الكنيسة وَثنيًّا بسبب اقترافه للخطايا، ويخرج منها مؤمِنًا، فيُدرِك عظمةَ نِعمةِ الربّ له، الّتي نالها مِن دون استحقاقٍ منه، ويبادِرُ إلى شُكرِ الربِّ عليها. إنَّ المؤمِن الّذي يدخل إلى الكنيسة انطلاقًا مِن كَونه مؤمِنًا بالربّ، سَيَجِدُ في الذبيحة الإلهيّة مجرَّد إتمام لواجباته الدِّينيّة، ولن يُدرِك أهميّة النِّعمة الإلهيّة الّتي حصل عليها من الربّ عن غير استحقاقٍ منه. لذا، في كلّ ذبيحة إلهيّة، يسمع المؤمِنون مِن جديد قصَّة الله الّذي خلَّص شعبه، ومَنحَه الخلاص. إنَّ الذبيحة الإلهيّة، تُقسَم إلى قِسمين: يتألّف القِسم الأوّل من مجموعة قراءات من الكتاب المقدَّس بِعَهدَيه، هي الرِّسالة والإنجيل وبعض المزامير. في هذا القِسم، يتمّ كِرازة البشارة بالمسيح على الحاضِرين الّذين هُم وَثنيِّون، إذ انقادوا للخطيئة مرّاتٍ عديدة، وبعد سماعِهم لكلمة الله، يُعلِنون إيمانهم بالربِّ يسوع، من خلال تلاوتهم قانون الإيمان، بعد العِظة. إنَّ سِرَّ المعموديّة يُمنح للإنسان مرّة واحدة، غير أنّه مُعرَّضٌ في كلّ حينٍ للوقوع في الخطيئة، ويحتاجُ إلى الاعتماد من جديد، ولكنْ هذه الـمَرَّة مِن خلال كلمة الله الّتي يسمعها في الذبيحة الإلهيّة، فيتجدَّد ذِهنه بواسطتها، داعيةً إيّاه إلى تغيير مسيرته، ليتمكَّن من الوصول إلى الربِّ. حين يَقبَلُ الإنسان معموديّة الذِّهنِ، يُصبحُ من جديد ابنًا لله، فيُعلِن المؤمِن فَرَحه بحصوله على نِعمة التبنِّي هذه الّتي نالها من الربّ، في القسم الثّاني من القدَّاس، ويتبادلُ السّلام مع إخوته في الربّ، ثمّ يتلو صلاة الأبانا، قَبْلَ مشاركته في المائدة السماويّة ألا وهي المناولة المقدَّسة. إنّ مائدة الربِّ قد أُعِدَّت لأبناء الله، لا لعبيده أو لِأُجرائه، لذا يتقرَّب المؤمِن مِن سِرِّ المناولة المقدَّسة، بعد إعلانه قبول تَبنيّ الله له. إنَّ الإنسان يدخل إلى الكنيسة كَوَثنيّ ويخرجُ منها وريثًا لملكوت الله بقبوله تبنِّي الله له. ينالُ المؤمِنُ نِعمةَ التَبَنِّي لا عن استحقاقٍ منه، بل بِفَضلِ حُبِّ الله للإنسان.
إنَّ محبّة الإنسان لإخوته البشر تُعبِّر عن قبوله بنعمة التبنّي الّتي مَنَحَه إيَّاها الربّ. وبالتّالي، فإنّ تَكَبُّر الإنسان على الآخَرين وازدراءه لهم وإدانته لهم، تُعبِّر عن رَفضِه لأبوّة الله له. قَبْلَ الذبيحة الإلهيّة، يكون الإنسان في نَظَر الله إنسانًا لَقيطًا يحتاج إلى مَن يهتّم به ويتبنّاه، فيبادِرُ الربُّ إلى ذلك، إذ يجعل مِن البشر أبناءً له، ويُعلِن تَبَنِّيه لهم. قبل مُشارَكته في الذبيحة الإلهيّة، يكون الإنسان وَثنيًّا، عَبدًا لآلهةٍ غريبة، كأهوائه ورغباته الأرضيّة، فيرتكب الخطايا والقبائح، ويُسيءُ إلى إخوته البشر، إذ يسمح للحقد بالسيطرة عليه. ولكن حين يُشارِك الإنسان في الذبيحة الإلهيّة، يسمع كلمة الله من جديد، ويقرِّر تركَ آلهته القديمة، والعودة إلى الله الّذي يجدِّد تَبَنِّيه للإنسان، فيُعلِن هذا الأخير قبوله بتلك النِّعمة في القدَّاس، ويشارك الله مائدَتَه السماويّة. إنَّ القدِّيس باسيليوس الكبير، الّذي كتب القدَّاس الإلهيّ، يقول إنّه يشارِك في الذبيحة الإلهيّة أربع مرّاتٍ في الأسبوع، بسبب ضُعفه وخطاياه، ولكنّه في أعماقه يشتهي المشاركة في الذبيحة الإلهيّة، بشكلٍ يوميّ.
"فقال رئيسُ الكهنة: أَتُرى هذه الأُمور هَكَذا هي؟ فقالَ: أيّها الرِّجالُ الإخوةُ والآباءُ، اسْمَعوا! ظَهَر إِلَهُ المَجدِ لأبينا إبراهيمَ وَهُوَ في ما بَين النَّهرَينِ، قَبلَما سَكَنَ في حارانَ، وقال له: اخْرُج مِن أرضِكَ ومِن عَشيرَتِكَ، وهَلُّمَ إلى الأرضِ الّتي أُريكَ. فَخَرَجَ حِينَئِذٍ مِن أرضِ الكَلْدَانِيِّينَ وسَكَنَ في حارانَ. ومِن هُناكَ نَقَلَهُ، بَعدَ ما ماتَ أَبوهُ، إلى هذه الأرضِ الّتي أَنتُم الآنَ ساكِنُونَ فِيها. وَلَـمْ يُعطِهِ فيها مِيراثًا ولا وَطأةَ قَدَمٍ، ولَكِنْ وَعَدَ أَنْ يُعطيَها مُلكًا لَهُ وَلِنَسلِهِ مِنْ بَعدِه، ولَم يَكُنْ لَهُ بَعدُ وَلَدٌ. وَتَكَلَّمَ اللهُ هَكذا: أَنْ يَكونَ نَسلُهُ مُتَغَرِّبًا في أرضٍ غَريبَةٍ، فَيَستَعبِدُوهُ وَيُسيئُوا إليهِ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ، والأُمَّةُ الّتي يُستَعبَدُونَ لها سَأَدِينُها أنا، يَقُولُ الله. وبَعدَ ذَلِكَ يَخرُجونَ ويَعبُدُونَني في هذا المكان. وأَعطاهُ عَهدَ الـخِتانِ، وهَكَذَا وَلَدَ إسحاقَ وخَتَنَهُ في اليومِ الثَّامِنِ. وإسحاقُ وَلَدَ يَعقوبَ، ويَعقوبَ وَلَدَ رُؤساءَ الآباءِ الاثنَي عَشَرَ. وَرُؤساءُ الآباءِ حَسَدُوا يُوسُفَ وباعُوهُ إلى مِصْرَ، وكان اللهُ مَعَه، وأَنقَذَهُ مِن جَميعِ ضِيقاتِهِ، وأَعطاهُ نِعمَةً وحِكمَةً أمامَ فِرعَونَ مَلِكِ مِصْرَ، فَأقامَهُ مُدَبّرًا على مِصْرَ وعلى كُلِّ بَيتِهِ". ثمّ أتى جُوعٌ على كُلِّ أرضِ مِصْرَ وكَنعانَ، وضِيقٌ عَظيمٌ، فَكانَ آباؤنا لا يَجِدُونَ قُوتًا. وَلَمّا سَمِعَ يَعقوبُ أنَّ في مِصْرَ قَمحًا، أَرسَلَ آباءَنا أَوَّلَ مَرَّةٍ. وفي الـمَرَّةِ الثّانيةِ، استَعرَفَ يُوسُفُ إلى إخوَتِه، واستَعْلَنَتْ عَشيرَةُ يُوسُفَ لِفِرعَونَ. فأَرسَلَ يُوسُفُ واسْتَدعى أباهُ يَعقوبَ وَجَميعَ عَشيرتِهِ، خَمسَةً وسَبعِينَ نَفسًا. فَنَزَل يَعقوبُ إلى مِصرَ وماتَ هُوَ وَآباؤنا، ونُقِلُوا إلى شَكيمَ ووُضِعُوا في القَبرِ الّذي اشْتَراهُ إبراهيمُ بِثَمَنٍ فِضَّةٍ مِن بَني حَمُورَ أَبي شَكيمَ. وكَما كانَ يَقرُبُ وَقتُ الـمَوعِدِ الّذي أَقسَمَ اللهُ عليهِ لإبراهيمَ، كانَ يَنمُو الشَّعبُ ويَكْثُرُ في مِصْرَ، إلى أنْ قامَ مَلِكٌ آخَرُ لَمْ يَكُن يَعرِفُ يُوسُفَ. فاحتالَ هذا على جِنْسِنا وأساءَ إلى آبائِنا، حتّى جَعَلُوا أَطفالَهُم مَنبُوذِينَ لِكَي لا يَعيشُوا. وفي ذلك الوَقتِ، وُلِدَ مُوسى وكانَ جَميلاً جدًّا، فَرُبِّيَ هذا ثلاثةَ أَشهُرٍ في بَيتِ أبيهِ. ولَمّا نُبِذَ، اتَّخَذَتْهُ ابنَةُ فِرعَونَ وَرَبَّتْهُ لِنَفسِها ابْنًا. فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكمَةِ الـمَصرِيِّينَ، وكانَ مُقتَدِرًا في الأقوالِ والأعمالِ. ولَمّا كَمِلَتْ لَهُ مُدَّةُ أربَعينَ سَنَةً، خَطَرَ على بالِهِ أَنْ يَفتَقِدَ إخوَتَهُ بَني إسرائيلَ. وإذْ رأى واحِدًا مَظلُومًا حامى عنه، وأَنصَفَ الـمَغلُوبَ، إذ قَتَلَ الـمِصريَّ. فَظَنَّ أنَّ إخوَتَهُ يَفهَمُونَ أنَّ اللهَ على يدِهِ يُعطيهِم نَجاةً، وأَمّا هُمْ فَلَمْ يَفهَمُوا. وفي اليَومِ الثّاني، ظَهَرَ لَهُم وَهُم يَتَخاصَمُونَ، فَسَاقَهُم إلى السّلامَةِ قائلاً: أَيُّها الرِّجالُ، أَنتُم إخوَةٌ. لِماذا تَظلِمُونَ بَعضُكم بَعضًا؟ فالّذي كان يَظلِمُ قَريبَهُ دَفَعَهُ قائلاً: مَن أقامَكَ رَئيسًا وقاضِيًا عَلينا؟ أَتُريدُ أَنْ تَقتُلَني كَما قَتَلْتَ أَمْسِ الـمِصريَّ؟ فَهَرَبَ مُوسى بِسَبَبِ هذه الكَلِمةِ، وصار غَريبًا في أرضِ مَدْيانَ، حيثُ وَلَدَ ابْنَينِ. وَلَمّا كَمِلَتْ أَربَعُونَ سَنَةً، ظَهَرَ لَهُ ملاكُ الربِّ في بَريَّةِ جَبَلِ سِيناءَ في لَهيبِ نارِ عُلَّيْقَةٍ. فلَمّا رأى مُوسى ذلك، تَعَجَّبَ مِنَ الـمَنظَرِ. وَفِيما هُوَ يَتَقَدَّمُ ليَتَطَلَّعَ، صارَ إليهِ صَوتُ الربِّ: أنا إلهُ آبائكَ، إلهُ إبراهيمَ وإلهُ إسحاقَ وإلَهُ يَعقوب. فارْتَعَدَ مُوسى وَلَمْ يَجْسُرْ أنْ يَتَطَلَّعَ. فقالَ لهُ الربُّ: اخْلَعْ نَعلَ رِجلَيْكَ، لأنَّ الـمَوْضِعَ الّذي أنتَ واقِفٌ عَليهِ أرضٌ مُقدَّسَةٌ. إنِّي لَقَد رأيْتُ مَشَقَّةَ شَعبِي الّذينَ في مِصْرَ، وسَمِعْتُ أَنينَهُم ونَزَلْتُ لأُنقِذَهُم. فَهَلُّمَ الآنَ أُرسِلُكَ إلى مِصْرَ. هذا مُوسى الّذي أَنكَرُوهُ قائِلينَ: مَن أقامَكَ رَئيسًا وقاضِيًا؟ هذا أَرسَلَهُ اللهُ رئيسًا وفادِيًا بِيَدِ الـمَلاكِ الّذي ظَهَرَ لَهُ في العُلَّيقَةِ. هذا أخرَجَهُم صانعًا عَجائِبَ وآياتٍ في أرضِ مِصرْ، وفي البَحرِ الأَحْمَرِ، وفي البَريَّةِ أربَعِينَ سَنَةً. هذا هو مُوسى الّذي قال لِبَني إسرائِيلَ: نَبِيًّا مِثلِي سيُقيمُ لَكم الربُّ إلَهُكُم مِن إخوَتِكم. لَهُ تَسمَعُونَ. هذا هو الّذي كانَ في الكَنيسَةِ في البَرِّيَّةِ، مَعَ الملاكِ الّذي كان يُكلِّمُهُ في جبَلِ سيناءَ، ومَعَ آبائِنا. الّذي قَبِلَ أَقوالاً حَيَّةً ليُعطِيَنا إيّاها. الّذي لَم يَشَأ آباؤنا أنْ يَكُونوا طائِعينَ لهُ، بَلْ دَفَعُوهُ ورَجَعوا بِقُلوبِهم إلى مِصرَ، قائِلينَ لِهَارُونَ: اعْمَلْ لَنا آلِهَةً تَتَقَدَّمُ أمامَنا، لأنَّ هذا مُوسى الّذي أَخرَجَنا مِن أرضِ مِصْرَ لا نعلَمُ ماذا أصابَهُ! فَعَمِلُوا عِجلاً في تِلكَ الأيّامِ وَأَصعَدُوا ذبيحَةً لِلصَّنمِ، وفَرِحوا بِأعمالِ أيْدِيهِم. فَرَجَعَ اللهُ وَأَسْلَمَهُم لِيَعبُدوا جُندَ السَّماءِ، كَما هُوَ مَكتُوبٌ في كِتابِ الأنبِياءِ: هَلْ قَرَّبْتُم لي ذبائِحَ وقرابينَ أَربَعينَ سَنةً في البَريَّةِ، يا بَيتَ إِسرائيلَ؟ بَلْ حَمَلْتُم خَيمَة مُولُوكَ، ونَجْمَ إلَهِكم رَمفانَ، التَّماثيلَ الّتي صَنَعتُموها لِتَسجِدُوا لَها. فَأنْقُلُكُم إلى ما وراءَ بابِلَ. وأَمّا خيمةُ الشَّهادَةِ، فكانَتْ مَعَ آبائِنا في البَرِّيَّةِ، كَما أَمَرَ الّذي كَلَّمَ مُوسى أَنْ يَعْمَلَها على الـمِثالِ الّذي كان قَدْ رآهُ، الّتي أَدخَلَها أيضًا آباؤنا إذْ تَخَلَّفوا عَلَيْها مَعَ يَشُوعَ في مُلكِ الأُمَمِ الّذينَ طَرَدَهُم اللهُ مِن وَجهِ آبائِنا، إلى أيّامِ دَاوُدَ، الّذي وَجَدَ نِعمَةً أمامَ اللهِ، والْتَمَسَ أَنْ يَجِدَ مِسْكِنًا لإلَهِ يَعقوبَ. وَلَكِنَّ سُلَيمانَ بَنى لَهُ بيتًا. لَكِنَّ العَلِيَّ لا يَسْكُنُ في هياكِلَ مَصنُوعاتِ الأيادِي، كَما يَقُولُ النبيُّ: السَّماءَ كُرسيٌّ لي، والأرضُ مَوطِئٌ لِقَدَميَّ. أَيُّ بَيتٍ تَبْنُونَ لي؟ يَقُولُ الربُّ، وَأَيٌّ هُوَ مَكانُ راحَتي؟ ألَيْسَتْ يَدِي صَنَعَتْ هذه الأَشياءَ كُلَّها؟ يا قُساةَ الرِّقابِ، وغَيرَ الـمَختُونِينَ بالقُلوبِ والآذانِ! أَنتُم دائمًا تُقاوِمُونَ الرُّوحَ القُدُسَ.كَما كانَ آباؤُكُم، كَذَلِكَ أنتم! أيُّ الأنبياءِ لَمْ يَضطَهِدْهُ آباؤكُم؟ وقَد قَتَلُوا الّذينَ سَبَقُوا فَأَنبأُوا بِمَجِيءِ البارِّ، الّذي أنتُم الآنَ صِرْتُم مُسَلِّميهِ وقاتِلِيهِ، الّذينَ أَخَذْتُمُ النَّاموسَ بِتَرتيبِ ملائكَةٍ ولَمْ تَحفَظُوه. فَلَمّا سَمِعُوا هذا حَنِقُوا بِقُلوبِهِم وَصَرُّوا بأسْنانِهم عَليهِ. وأمَّا هُوَ فَشَخَصَ إلى السَّماءِ وَهُوَ مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، فَرأى مَجْدَ اللهِ، ويَسوعَ قائمًا عَنْ يَمينِ اللهِ. فقالَ: ها أنا أنْظُرُ السَّماواتِ مَفتُوحَةً، وابْنُ الإنسانِ قائمًا عَنْ يَمينِ اللهِ. فَصَاحوا بِصَوتٍ عَظيمٍ وَسَدُّوا آذانَهُم، وَهَجَمُوا عَليهِ بِنَفسٍ واحدَةٍ، وَأَخرَجُوهُ خارِجَ الـمَدينَةِ ورَجَمُوهُ. والشُّهودُ خَلَعُوا ثِيابَهُم عِنْدَ رِجلَيْ شابٍّ يُقالُ لَهُ شاوُلُ. فكانوا يَرجُمونَ اسْتِفانُوسَ، وَهُوَ يَدعُو ويَقولُ: أيُّها الربُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي. ثمَّ جَثا على رُكبَتَيهِ، وصَرَخَ بِصَوتٍ عَظيمٍ: "يا رَبُّ، لا تُقِمْ لَهُم هذه الخطيئةَ". وإذ قالَ هذا رَقَدَ."

أخضَع رؤساء الكهنة استِفانوس الرَّسول إلى المحاكمة، تمامًا كما فَعَلوا مع الربّ يسوع حين حكُموا عليه بالموت صلبًا. لقد واجه استِفانوس رؤساء اليهود، وخاطبهم قائلاً: "أيّها الرِّجال الإخوة والآباء"، وما هذه العبارة إلّا دليلٌ على أنّ هذا الرَّسول قد ساوى نفسه بالّذين يُحاكِمونه، أي رؤساء اليهود، وعلى عدم خوفِه منهم ومن حُكمِهم عليه بالموت. لقد واجه استِفانوس الرَّسول الرؤساء مُذَكِّرًا إيّاهم بتاريخ الله الخلاصيّ معهم: فبدأ أوّلًا بتَذكِيرهم بإبراهيم الّذي كان يعتبره اليهود "أبا المؤمِنِين"، على الرُّغم من أنّه أتى من بلاد ما بين النَّهرَين، وتحديدًا من مدينة "أُور" الكِلدانيّة، وهي مدينة وَثنيّة لا يهوديّة. أراد كاتب هذا النَّص أنْ يؤكِّد لليهود أنّ الربَّ يُكلِّم الوثنيِّين كما يُكلِّم اليهود، ويدعوهم جميعًا إلى اتِّباعِه. إنَّ الكتاب المقدَّس قد عَرَض لنا قصَّة "أبي المؤمِنِين"، ابراهيم في سِفر التَّكوين، ابتداءً من الإصحاح الثاني عشر منه. إنّ ابراهيم لم ينتقل من "حاران" بعد موت والِده مباشرة، بل انتقل منها بعد وفاة والِدِه بسِتِّين سنةٍ. في هذا النَّص، نلاحظ بوضوحٍ الفرق بين الـتَّأريخ والتَّاريخ: إذ إنّ الكاتب لم يَهدِف إلى سَردِ مسيرة الآباء بكلّ تفاصيلها، إنّما اكتفى بِذِكر أبرز الأحداث التَّاريخيّة، في سبيل إيصال البشارة الخلاصيّة لليهود. لقد لخَّص كاتب هذا النَّص سيرة الآباء مستخدمًا بعض العبارات الّتي تُشير في الوقت نفسه، إلى آباء العهد القديم وإلى الربّ يسوع في الوقت نفسه: فحين تكلَّم عن يوسف الّذي باعه إخوته في مِصر، أراد الإشارة في الوقت نفسه إلى الربِّ يسوع الّذي بِيعَ بثلاثين من الفِضَّة. وحين قال كاتب النَّص في موسى إنَّه "كان جميلاً جدًّا"، أراد تَذكير رؤساء اليهود بأنَّ الله كان راضيًا عن موسى. عندما ظهر الربُّ لموسى في العُلَّيقة، عرَّف الربّ عن نفسه قائلاً له: "أنا إله آبائك: إله ابراهيم، وإله إسحَق وإله يَعقوب"، ولم يَقُل له إنّي إله آبائك: إله ابراهيم واسحَق ويعقوب"، لأنّ كلّ واحدٍ من الآباء قد اختبر الله بطريقة مختلفة عن الآخَر، ولكنّهم تمكَّنوا من الشَّهادة للإله نفسه، فاعترفوا به إلهًا لهم. وكما تعرَّض موسى للرَّفض من قِبَل شَعبه؛ كذلك تعرَّض الربُّ يسوع إلى الرَّفض والموت على يَدِ أهل بيتِه. وبعد هذا السَّردِ الطويل لسيرة آباء العهد القديم، انتقل الكاتب للحديث مع رؤساء اليهود عن الربِّ يسوع (آية 37)، وشرح لهم أنَّ النبيّ الّذي قصَده موسى في كلامه لهم، هو الربّ يسوع، الّذي كان مُرضِيًا لله، إذ قال فيه الله: "هذا هو ابني الحبيب، فَلَهُ اسمَعوا". إنَّ الله قد أعطى الشَّعبَ اليهوديّ نبيًّا آخر على مِثال النبيّ موسى، هو الربَّ يسوع جاعلاً منه فاديًا ومخلِّصًا، ولكنّ الشَّعب ترك الإله الحقيقيّ ليعبدوا الأصنام، تمامًا كما حَدَث مع الشَّعب في البريّة مع هارُون. بعد أن أعلَن استِفانوس الرَّسول عمل الله الخلاصيّ عبر التّاريخ لرؤساء الشَّعب، وشرح لهم حقيقة إيمانه بالربّ يسوع، أسلَم الرُّوح، وقد كان ممتلئًا من الرُوح القدس. لقد استخدم كاتب هذا النَّص العبارة نفسها: "رأى مجد الله"، في كلامِه أوّلًا عن دعوة الله لأبينا ابراهيم من بلاد ما بين النَّهرين (آية 2)، وثانيًا في كلامِه عن موت استِفانوس الرَّسول (آية 55). لقد رأى استِفانوس مجد الله، وهذا ما لا يستطيع أحدٌ من الأحياء رؤيته، إلّا في اليوم الأخير، أي بعد انتقاله من هذا العالم. لقد رأى استِفانوس مجد الله، حين كان على الأرض، قُبَيل موته، وهذا يدلّ على أنَّ كلّ شهيدٍ مسيحيّ سيُعاين مجد الله قَبْلَ سائر القدِّيسين، إذ سينتقل سريعًا في اليوم الأخير إلى الملكوت. لقد كانت ميتة استِفانوس الرَّسول مُشابِهةً لميتَةِ الربِّ يسوع، فكلاهُما مات خارجَ المدينة، لأنَّه لا يحقُّ لليهود قَتل المؤمِنِين بل الغُرباء عن الإيمان فقط. إنَّ شاول هو نفسه بولس الرَّسول الّذي ارتدَّ إلى الإيمان بالربّ على طريق دِمَشق. لقد شبَّه كاتب هذا النَّص موت استِفانوس الرَّسول بموت الربّ يسوع، إذ استخدم العبارات نفسها الموجودة في نصوص صلب يسوع في الأناجيل: فذَكَر لنا أنَّ استِفانوس سأل الله أنّ لا يُقِمْ لراجميه هذه الخطيئة، وفي ذلك إشارة لِما فَعلَه الربّ على الصّليب قبل موته، إذ غَفر لصالِبيه خطيئتهم، قائلاً لله: "اغفر لهم يا أبتاه، لأنّهم لا يدرون ماذا يَفعلون".
إنَّ ستِفانوس الرَّسول قد أقام الذبيحة الإلهيّة إذ أعلَن إيمانه بالربّ يسوع وبمسيرته مع الشَّعب على مرِّ التّاريخ، ثمّ قرَّب ذاته قربانًا مقبولاً للربّ. عند موت الكاهن، تَستُر الكنيسة وَجهَه بالنّافور أي بالسِّتر الّذي كان يَضَعه على القرابين أثناء احتفاله بالذبيحة الإلهيّة، وذلك للإشارة إلى أنَّ الكاهن قد أصبح بموته، القربان الـمُقدَّم لله. يلخِّص هذا الإصحاح كلّ تاريخنا المسيحيّ، إذ بقبولِنا المسيح، قد قَبِلنا بكلّ عَمل الله الخلاصيّ مع شعبه، وبالتّالي أصبح الشَّهيد استِفانوس هو قدِّيس الكنيسة، وتحتفل بِعِيده يوم انتقالِه إلى السّماء. لقد ظَهر الربّ لموسى في العلَّيقة، وعرَّف عن ذاته للنبيّ قائلًا له: "أَهْيه أَشِر أهيه"، أي "أَكُون الّذي أَكُون"، ولا زال اليهود إلى اليوم، يخافون لَفظ هذه العبارة ويستبدلونها بعبارة "أدوناي". لا يستطيع الإنسان أن يُدرِك الله أو أن يعرِفه، فالله يكشف عن ذاته للإنسان في الوقت الّذي يريده هو. إنَّ الإله الوَثني هو إلهُ المكان، أمّا إلهُنا فهو إلهُ حَدَثٍ لا إلهَ مكانٍ: فالله لا يُعرِّف عن ذاته، إلّا من خلال أعماله الّتي قادت الشَّعب إلى مَعرِفته. لذا نقرأ في الكتاب المقدَّس أنّ الله يُعرِّف عن ذاته عند ظهوره لأحد الأنبياء بالقول:" أنا إله آبائك، الّذي أخرجهم مِن أرض العبوديّة، وخلَّصهم". إذًا، إنَّ إِلَهنا ليس حِكرًا على مدينةٍ أو قرية، فهو يَظهر للبشر في كلّ مكانٍ وفي كلّ أوانٍ، ولا يمكن حَصره في مكانٍ معيَّن، وبالتّالي لا فائدة إيمانيّة من زيارة المؤمِنِين للأماكن المقدَّسة، لأنَّ الربّ قادرٌ أن يُكلِّمَ الإنسان لا في المكان المقدَّس وَحَسْب، إنّما في كلّ مكانٍ وفي كلّ زمانٍ، وبالتّالي فإنّ كلّ أماكِن تواجُد المؤمِنِين هي أماكِنُ مقدَّسة، لأنَّ الربّ يُظهر مَجده فيها جميعها دون استثناء. إذًا، إنَّ رحلات الحجّ الدِّينيّة لا تكتسِب أهميّتها بفضل المكان بحدِّ ذاته، إنّما بِفضل الحَدَث الّذي أنجَزه الله مع شَعبه في هذا المكان تحديدًا. على زيارتنا للأماكن المقدَّسة أن تدفعَ بنا إلى لقاء الربّ، لا أن تدفع بنا إلى الانبهار بجمال المكان الطبيعيّ. وبالتّالي، حين نزور على سبيل المِثال القدِّيس شربل في عنايا، على زيارَتنا هذه، أن تدَفعنا إلى لقاء القدِّيس الّذي يُرشِدنا إلى طريق الربّ، فنَتبَعه لنتمكَّن من لِقاء الربّ. إنَّ إله المكان يفقد هويّته وأهميّته، حين يُغادِرُه المؤمِن، لأنَّ أهميّته تكمن في وجوده في هذا المكان حصرًا، من دون إمكانيّة انتقاله إلى مكانٍ آخر، كما هي حال الآلهة الوثنيّة في أثينا مَثلاً. على المؤمِن أن يلتقي بإله الحَدَث، الّذي يُطلِق كلمَته في هذا العالم، ولا تعود إليه إلّا بعد إتمامِها المهمَّة الّتي مِن أجلِها أُرسِلَت.
إنّ محاكمة استِفانوس الرَّسول وموته على مرأى مِن شاول، قد أدّت إلى تغيير ذهنيّة هذا الأخير، فالتقى بالربّ لا في مكان مَهد المسيح ولا عند قَبرِه، بل على طريق دِمَشق، أي خارج اليهوديّة، وبالتّالي يستطيع الإنسان أن يلتقي بالربّ في كلّ الأماكِن لا في أماكِن العبادة فقط. إنَّ بولس الرَّسول الّذي تغيَّرت حياته، بعد لقائه بالربّ على طريق دِمشق، لم يبدأ على الفور التبشيرة بالإنجيل، بل خَضَع لتَلمَذَة على يد حنانيّا، فاستطاع بعد أربع عشرة سنة من التَّلمذة أن ينطلق في إعلان كلمة الله في المسكونة كلِّها. لا يستطيع الإنسان أن يُعلِن البشارة الإنجيليّة إلَّا إذا قَبِل بمعموديّة الذِّهن، من خلال كلمة الله. إنَّ بولس الرَّسول هو تلميذ المعلِّم غملائيل، الّذي كان بِدَورِه تلميذًا للمعلِّم هلّال، مؤسِّس المدرسة اليهوديّة، الّتي نظَّمت الكتب المقدَّسة- العهد القديم، كما هو متعارَفٌ عليه اليوم. لقد تمكَّن القدِّيس بولس من إدراك مَقصَد الله من الكِتاب المقدَّس، فوَجد أنَّ كلّ نبوءات العهد القديم قد تحقَّقت في الربّ يسوع، فأعلن إيمانه به، وهذا ما رَفضه رؤساء اليهود، فاضطهدوا بولس الرَّسول وَقتلوه. لقد أدرَك رؤساء اليهود، حقيقة الربِّ يسوع، فقَتَلوه، وقرَّروا قَتل كلَّ مَن يُعلِن تلك الحقيقة للشَّعب، فكان الموت قَتلاً مصيرهم. ونحن اليوم في حياتنا اليوميّة، نشابه رؤساء اليهود، إذ نُدرِك أنَّ الربّ يسوع هو الله، ولكنّنا نرفُض الإصغاء لكلمته حين لا تنطبق مع أهوائنا الأرضيّة. نسأل الله أن يجعلنا على مِثال الرُّسل، ساعِين إلى تحقيق مشيئته في حياتنا، شاهِدين حقيقيّين له، على الرُّغم من كلّ الاضطهادات الّتي سنتعرَض لها خلال إعلاننا بشارته. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
5/2/2019 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح السادس انتقال الإنجيل الحيّ
https://www.youtube.com/watch?v=U9hl5E3RkDs&t=42s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح السادس
الأب ابراهيم سعد

5/2/2019

يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن انتقال "الوديعة الحيّة" أي الإنجيل، من جيلٍ إلى جيلٍ: فيَبدأ بالكلام أوّلا عن الربّ يسوع الّذي ظهر لتلاميذه، بعد قيامته من بين الأموات، وأوصاهم بالبشارة به في كلّ المسكونة، وقد وَعَدَهم بإرسال الرُّوح القدس إليهم. وبعد حلول الرُّوح القدس، انطلق الرُّسل للكرازة باسم يسوع في المسكونة كلِّها، كاشِفين للآخَرين عن السِّر الإلهيّ الّذي سَبَق الربُّ وكشَفَه للرُّسل في حياته الأرضيّة، فآمَن الكثيرون بالربّ وانضمَّوا إلى جماعة المؤمِنِين واضِعين كلّ مواهبِهم في خدمة تلك الجماعة. وإِثرَ تطوُّر مسيرة كلمة الله في المسكونة، ازداد عدد المؤمِنِين بالربّ، فظهرت الحاجة إلى تنظيم أمور الجماعة المؤمِنة، إذ لم يتمكَّن الرُّسل من خدمة الكلمة الإلهيّة وخِدمة الموائد في آنٍ. ففي هذا الإصحاح، نقرأ عن تَذمُّر بعض الأرامل مِن تقصير الرُّسل في خدمتهنَّ، ممّا دَفع بالرُّسل إلى طَرح المشكلة على جميع المؤمِنِين في سبيل إيجاد حلّ لها، إذ إنَّ مَهمَّة التبشير بالربّ تَتطلَّبُ تَفرُّغًا كاملاً لذلك.

"وَفِي تِلكَ الأيّامِ إذْ تَكاثَرَ التَّلاميذُ، حَدَثَ تَذَمُّرٌ مِنَ اليُونانيِّينَ على العِبرانيِّينَ أنَّ أرامِلَهم كُنَّ يُغفَلُ عَنهنَّ في الخِدمَةِ اليوميَّة. فَدَعا الاثنا عَشَرَ جُمهورَ التَّلاميذِ وقالوا: "لا يُرضِي أنْ نَتْرُكَ نحنُ كلمةُ الله ونَخدُمَ موائِدَ. فانْتَخِبوا أيُّها الإخْوَةُ سَبْعَةَ رِجال مِنكُم، مَشهودًا لَهُم ومَملُؤينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَحِكمَةٍ، فَنُقيمُهُم على هذه الحاجةِ. وأمَّا نَحنُ فَنُواظِبُ على الصَّلاةِ وخِدمةِ الكلمةِ." فَحَسُنَ هذا القَولُ أمامَ كلِّ الجُمهورِ، فاخْتاروا اسْتِفانُوسَ، رَجُلاً مَـمْلوءًا مِنَ الإيمانِ والرُّوحِ القُدُسِ، وفِيلُبُّسَ، وَبُرُوخُورُسَ ونِيكانُورَ، وتِيمُونَ، وبَرمِيناسَ، ونيقُولاوُسَ دَخِيلاً أَنْطَاكِيًّا؛ الّذينَ أَقامُوهُم أمامَ الرُّسُلِ، فَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِم الأيادِيَ. وكانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنمُو، وعَدَدُ التَّلاميذِ يَتكاثَرُ جِدًّا في أُورَشَليمَ، وَجُمهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الكَهَنَةِ يُطيعُونَ الإيمانَ. وأَمَّا اسْتِفانُوسُ، فَإذْ كانَ مَمْلُوءًا إيمانًا وقُوَّةً، كانَ يَصنَعُ عَجائِبَ وآياتٍ عَظيمَةً في الشَّعبِ. فَنَهَضَ قَومٌ مِنَ المَجمَعِ الّذي يُقالُ لَهُ مَجمَعُ اللِّيبرَتْينِيِّينَ والقَيرَاوَنِيِّينَ والإِسْكَنْدَرِيِّينَ، وِمنَ الّذينَ مِنْ كِيليكيَّا وأَسِيَّا، يُحاوِرُونَ اسْتِفانُوسَ. ولَم يَقدِرُوا أَنْ يُقاوِمُوا الحِكمَةَ والرُّوحَ الّذي كانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ. حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجال يَقُولُونَ: "إنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكلَّمُ بِكَلامِ تَجْدِيفٍ على مُوسَى وعلى الله." وَهَيَّجُوا الشَّعبَ والشُّيوخَ والكَتَبَةَ، فَقَامُوا وَخَطَفُوهُ وأَتُوا بهِ إلى المَجمَعِ، وَأَقامُوا شُهودًا كَذَبَةً يَقُولُونَ: "هذا الرَّجُلُ لا يَفتُرُ عَنْ أَنْ يَتَكلَّمَ كَلامًا تَجديفًا ضِدَّ هذا الـمَوضِعِ المُقَدَّسِ والنَّامُوسِ، لأنّنا سَمِعناهُ يَقُول: إنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ هذا، سَيَنْقُضُ هذا الـمَوضِعَ، ويُغيِّرَ العَوائِدَ الّتي سَلَّمَنا إيَّاها مُوسى." فَشَخَصَ إلَيهِ جَميعُ الجالِسِينَ في الـمَجمَعِ، وَرَأَوا وَجهَهُ كأنَّهُ وَجهُ مَلاكٍ."

قبل البدء بشرح هذا النَّص، نتوقّف عند بعض العبارات الّتي تحتاج إلى بعض التوضيحات: أوّلاً، ذَكَرَ لنا هذا النَّص أنّ نيقولاوس كان دخيلاً أَنطاكيًّا، وهذا يعني أنّه كان رَجُلاً وثَنيًّا مِن مدينة إنطاكيّة، دَخل إلى الدِّين اليهوديّ، قَبلَ أن يُصبِحَ مسيحيًّا. ثانيًا، إنَّ عبارة "وَضْع الأيادي"، تشير إلى اختيار الرُّسل للمؤمِن كي يكون مكرَّسًا لخدمة الربّ من خلال خِدمة المائدة. إنّ رُتبة "وَضْعِ الأيادي"، لا زالت إلى يومِنا هذا، إذ يقوم الأسقف بِوَضع اليَد على كلّ طالبٍ للكهنوت، فيُعلِن بذلك اختيار الكنيسة لهذا المؤمِن كي يكون مكرَّسًا للربّ. ثالثًا، إنّ عبارة "الكهنة"، الّتي تَرِدُ في هذا النَّص، لا تُشير إلى الكهنة في الجماعة المسيحيّة، بل إلى الكهنة اليهود الّذين آمنوا بالربّ، فانضمّوا إلى الجماعة المؤمِنَة بالربِّ يسوع. ففي الكنيسة الأولى، لم يكن هناك "كهنة"، بل "شيوخٌ"، مَهمَّتهم مراقبة عيش التَّعليم الرَّسوليّ في الجماعة المسيحيّة. ونلاحظ في هذا النَّص أيضًا، أنَّ مشكلة رؤساء اليهود مع اسْتِفانوس الرَّسول، لم تكن بسبب قيامِه بالآيات والشِّفاءات، بل بسبب ذِكرِه لاسم الربّ يسوع، وإيمانُ عددٍ كبيرٍ من اليَهود بالربّ، لذلك قام رؤساء اليهود بحياكة المؤامرات لِقَتلِه، من خلال شهادات الزّور والإشاعات الكاذِبة. في الشِّفاءات الّتي قام بها اسْتِفانوس، نجد تطبيقًا حِسيًّا لِقَول المسيح لتلاميذه، إنّهم سيقومون بأعمال أعظم مِن الّتي قام بها هو نفسه، حين كان في هذه الأرض. إنَّ عبارة "رأوا وَجهَه كأنَّه وَجه ملاك"، تُشير إلى مقتل استِفانوس، وسنقرأ في الإصحاح السّابع، عن موت هذا الرَّسول رَجمًا، هو الّذي ردَّد في لحظة موتِه الأخيرة، كلامَ الربِّ يسوع على الصّليب: "اغفر لهم لأنّهم لا يَدرون ماذا يَفعلون".

في القسم الأوّل من هذا النَّص، نقرأ عن تَذمُّر بعض الأرامل بسبب تقصير الرُّسل في خِدمتهنَّ، وبالتّالي بُروز الحاجة إلى تنظيم حياة الجماعة اليوميّة، خاصّة بعد ازدياد عدد المؤمِنِين، وانشغال الرُّسل في خدمة الكلمة الإلهيّة أي التبشير باسم الربّ. طَرح الرُّسل هذه المشكلة على المؤمِنِين، فكان الحلّ في اختيار سبعةَ مؤمِنِين لخدمة الموائد. ولكنَّ اختيار هؤلاء السَّبعة لا يتمّ عشوائيًّا، بل استنادًا إلى بعض الشروط الأساسيّة، وهي أن يكون هؤلاء مملوئين من الرّوح والحِكمة، إضافة إلى أن يكون مشهودًا لهم في الجماعة، أي أن يكونوا ذوي صيتٍ حسنٍ. هذه المواصفات المطلوبة هي ميزة الإنسان الملتزم بالربّ يسوع، وتحديدًا خدَّام الموائد، فكم بالحريِّ توافُرها في خدَّام الكلمة الإلهيّة. إنّ خدَّام الموائد قد تمكَّنوا بِدَورهم مِنَ التَّبشير بيسوع المسيح لا من خلال الكرازة به كما فَعل الرُّسل، إنّما من خلال خِدمتهم للمؤمِنِين، وَصِيْتِهم الحسن في المجتمع، ممّا أدَّى إلى ازدياد عدد المؤمِنِين بالربّ يسوع، وَوُصول كلمة الله إلينا بكلّ أمانةٍ. لقد قُتِل استفانوس رَجمًا بالحِجارة لأنّه كان يبشِّر بيسوع المسيح الّذي دَعا اليهود إلى التخلِّي عن العادات القديمة، وَتَبنيّ مفاهيم جديدة مبنيّة على كلمة الله. إنَّ فيلبُّس الرَّسول الّذي تمّ اختياره لخدمة الموائد، قد تمكَّن مِن تبشير خادم الملِكة في الحبشة، إذ شرح له الكتب المقدَّسة، فآمَن بها هذا الأخير، واعتمد مع عائلته كلِّها على يد فيلبُّس.

لقد اختار المؤمِنون سبعة من بينهم من أجل خدمة الموائد، ووضَع الرُّسل الأيادي عليهم، فكانت بداية الرُّتَب الكهنوتيّة في الكنيسة. في الكنيسة الأولى، كان هناك شمامسة وشيوخٌ: إنّ دَور الشَّماس يقوم على خِدمَة المائدة، أمّا الشَّيخ فكان دَوره تَرَؤّس الصّلاة، وهذا هو دَور "الكاهن"، في كنيستنا اليوم. لم تكن كلمة "كاهن" مألوفة في الكنيسة الأولى، إذ إنَّ هذه الكلمة وثنيّة الأصل وتُطلَق على خدَّام الأوثان، أمّا اليهود فقد أطلقوها على خُدَّام الهيكل. إنّ كلمة "الخوري" هي يونانيّة الأصل، وهي مشتَّقة من كلمة "خُورا"، وتعني القريَة، وبالتّالي يُصبح "الخوري" هو خادم القرية؛ ومن هذه الكلمة اليونانيّة، اتَّخدت بعض القُرى في لبنان أسمائها، على سبيل الـمِثال "الكورة". في الكنيسة الأولى، كان هناك أيضًا ما يُسمّى بالأُسقف، فَحَصل اِلْتِباسٌ عند المؤمِنِين في مفهوم دَور "الشَّيخ" ودَور "الأُسقف". في مُعظم الأحيان، كان "الشيخ" هو نفسه "الأُسقف"، في الكنيسة الأولى. إنّ "الأُسقف" هي كلمة يونانيّة الأصل، episcopos، وتُشير إلى "الّذي يراقب من فَوق"، وهذا تمامًا ما كان مطلوبًا من الأُسقف، أن يراقب عَيْش المؤمِنين للتَّعليم الرَّسولي، واكتشاف المواهب عند المؤمِنين، والسَّهر على نموِّ الكلمة، فيتدخَّل حين يجد ضرورةً لتصحيح مسار المؤمِنِين في عَيْشِهم للكلمة الإلهيّة. في الكنيسة الأولى، كانت هناك حاجةٌ إلى الشَّماس لخدمة المائدة، وإلى الشَّيخ أو الأسقف، لترؤّس الصّلاة ومراقبة التَّعليم؛ ولكن مع ازدياد المؤمِنِين، ظهرت الحاجة إلى رُتبةٍ ثالثة هي الأُسقفيّة، فأصبحت الرُّتب الكهنوتيّة في كنيستنا اليوم، على الشَّكل التَّالي: الشمامسيّة، الكهنوتيّة والأسقفيّة، وأمّا الألقاب الأخرى الَّتي يتمّ استخدامها في كنيستنا، كـ"الخُورأُسقف" أو "الارشمندريت"، فما هي إلّا تسميَات إداريّة تندرج ضمن إحدى الرُّتب الثلاث المذكورة سابقًا.
إنّ ازدياد عدد المؤمِنين بالربّ، قد أثَّر سلبًا على انتشار كلمة الله في المسكونة، إذ حاولَ الرُّسل الـجَمْعَ بين خِدمة الكلمة الإلهيّة أي التبشير بها، وبين خِدمة المائدة، فكانت النتيجة تقصيرهم في خدمة الموائد، وهذا ما أدّى إلى تَذمُّر بعض الأرامل. إذًا، هناك حاجةٌ ضروريّة إلى اختيار سبعة شمامسة لخِدمة الموائد،كي يتمكَّن الرُّسل من متابعة مسيرتهم التبشيريّة بالمسيح في كافة أنحاء المسكونة. إنّ القانون هو وَليدُ الحاجة، لا وَليدُ تَرَفٍ فِكريّ عند بعض أعضاء هذه الجماعة أو تلك. فمثلاً، إنّ رغبة الأهل في تربية أولادهم تربية صالحة، تدفعهم إلى وَضْعِ قوانين لأولادهم من أجل الحدِّ من إدمانهم على بعض الأمور كمشاهدة التِّلفاز إلى ساعاتٍ متأخِّرة من اللَّيل، والإفراط في استعمال وسائل التواصل الاجتماعيّ. إنّ القانون لا ينطوي على أبعادٍ لاهوتيّة إنّما على أبعاد تنظيميّة إداريّة بَحتة، وبالتّالي ليس القانون أمرًا مقدّسًا، لذا يجوز لنا تغييره عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، لِتُلائم حاجات المجتمع الّذي وَضَعه. إنّ هَدف القانون هو بُنيان المجتمع لا هَدمه، لذا هو يضمّ لائحةً بالأمور غير المرغوب القيام بها لما فيها من تأثير على هَدم المجتمع، ولائحةً أخرى بالأمور المطلوب القيام بها، لما فيها من فائدةٍ للمجتمع كلِّه. غير أنّ بعض العادات في المجتمع قد تحوَّلت نتيجة ممارستها لفتراتٍ زمنيّة طويلة، إلى قوانين وعقائد، يَصعُب علينا تغييرها في سبيل تطوير المجتمع. وهذا ما يظهر جلِيًّا في الأمور الدِّينيّة، إذ يرفض المؤمِنون التخلِّي عن بعض الممارسات التقويّة، مثل النُّذورات، إذ يَعتبرون ذلك إخلالًا في العقيدة الإيمانيّة. فمثلًا، قد تدعو الحاجة في إحدى القرى، بسبب ازدياد عدد المؤمِنِين فيها، إلى إنشاء كنائس أكبر من تلك الموجودة، لِتَكون قادرة على استقبال جميع المؤمِنِين للصّلاة. غير أنّ البعض قد ينهمكون في دَفع الأموال الباهظة من أجل بنيان كنيستهم، من دُون أن يتمكَّنوا من إكمالها إلّا بعد مرور سنين طويلة، عِوضَ البحث عن مكانٍ يكون أَهلاً لاستقبال جميع المؤمِنِين. إذًا، لقد تحوَّل بِناء الكنائس في أيّامِنا هذه، من مكانٍ يضمّ جميع المؤمِنين للصّلاة، إلى مكانٍ ذي عظمة عمرانيّة، وسبب تفاخُر المؤمِنِين بعضهم على بعض، بسبب التَّقاليد الكنسيّة القديمة. للأسف، لقد تجاهل المؤمِنون ما هو جوهريّ في عمليّة بناء كنيستهم ألّا وهو الصّلاة، ليتعلَّقوا بالقشور، ألّا وهي ضخامة العمران وفخامته. على المؤمِنِين عيش روحانيّة الإيمان، لا حرفيّته، لأنَّ "الرُّوح يُحيي، أمّا الحَرف فيقتل". لقد أدرَك الرُّسل هذا الأمر، لذا سَعوا إلى اختيار قدِّيسين من بينهم، مشهودًا لهم، وممتلئين بالرُّوح والحِكمة، لخِدمة الموائد، كي يتمكّن الرُّسل من التفرُّغ الكامل لإعلان البشارة. إنَّ استِفانوس، الّذي كلَّمنا عنه هذا الإصحاح، هو أحد الشَّمامسة السّبعة الّذين تمّ وَضع اليَد عليهم، لأنّه كان مشهودًا له، وممتلئًا من الرُّوح القدس، بعبارةٍ أخرى، كان قدِّيسًا، إذ نَقلَ للآخرين كلمة الله بكلِّ أمانةٍ، مِن خلال سلوكه الّذي يعكس إيمانه بالربّ. إنَّ تَعلُّق المؤمِن بالعادات القديمة ورَفضَه التخلِّي عنها، يعكس خوفه من الله ومِن القدِّيسِين، إذ يعتقد المؤمِن أنّ ما يُعاني منه في حياته اليوميّة من صعوبات يعود إلى إخلاله في ممارسته إحدى الشَّعائر الدِّينيّة، ولكنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، إذ إنَّ عدم تلاوتنا المسبحة بشكلٍ روتينيّ، على سبيل الـمِثال، ليس السَّبب الرئيسيّ "لغضب الله"، وتَعرُّضنا للصُّعوبات الحياتيّة. خلال الحرب اللبنانيّة، قام أحد المحاربين، الّذي يَدِّعي إيمانه بالله الواحد، بتشويه أيقونة للقدِّيس أنطونيوس الكبير حين رأى قَولاً مدوَّنًا على تلك الأيقونة، يقول: "أنا لا أخاف الله لأنّي أحبُّه"، إذ إنَّ هذا المحارب يعتقد أنَّ محبّة المؤمِنِين لله تقضي الخوف منه. إنّ المحبّة تطرد الخوف خارجًا، والخوف يطرد المحبَّة خارجًا، كما يقول بولس الرَّسول في إحدى رسائله، إذ لا يمكننا محبّة إلهٍ نخاف منه. على خدَّام الكنيسة أن يكونوا ممتلئين من الرُّوح القدس والحِكمة، كي لا تتحوَّل الجماعة المسيحيّة إلى مؤسَّساتٍ خاليةٍ من الرُّوح ومتعلِّقة بالـحَرف الّذي يقتل.

إنّ استِفانوس هو اسم يونانيّ الأصل، يعني "الإكليل".كان استِفانوس رَجُلاً مملوءًا إيمانًا وقوَّةً، بدليل قيامه بالأعاجيب والشِّفاءات باسم يسوع المسيح. إنّ الأعاجيب هي ثمرة الإيمان الثابت بالله، لا العكس، أي أنَّ الأولويّة في حياة المؤمِن يجب أن تكون للإيمان بالله لا للأعاجيب. لقد تعرَّض استفانوس الرَّسول، إلى الحَسَد والغِيرة مِن قِبَل رؤساء اليهود، فتآمَروا عليه، بحجَّة دِفاعهم عن الله وتمسُّكِهم بالشريعة اليهوديّة، فاتَّهموا زورًا الشَّماس استِفانوس بالتَّجديف على الله وعلى موسى. لقد أعلن الرَّسول استِفانوس كلمة الله لليهود، قائلاً لهم: إنّ الربّ يسوع قد جاء إلى أرضِنا وأبطل كلّ العادات القديمة، وبالتّالي عليهم التخلِّي عنها، وهذا ما لم يَقبل به رؤساء اليهود، إذ اعتبروا هذا الكلام مُـخالِفًا للشَّريعة اليهوديّة. إنَّ رؤساء اليهود، قد شعروا بفقدان سُلطتِهم على الشَّعب، نتيجة إيمان البعض بكلام استِفانوس وارتدادهم إلى المسيحيّة؛ لذا قرَّروا قَتل استِفانوس وإلغاءه من الوجود لأنّه كما قال قيافا، رئيس المجمع، يومَ محاكمة يسوع: "خيرٌ أن يموت واحدٌ عن الأمّة مِن أن تهلك الأمّة كلِّها" (يو 11: 50). لم يَدعُ استِفانوس الشَّعب اليهوديّ إلى تَرْك الدِّيانة اليهوديّة، بل إلى التخلِّي عن الذِّهنيّات اليهوديّة المتجحرّة، كما دعاهم إلى اعتمادِ طريقة سلوكٍ جديدة في حياتهم تُعبِّر عن إيمانهم الحقيقيّ بالله. إنّ يسوع كان وسيبقى "حجرَ عثرةٍ"، أمّام كلّ الذهنيّات المتحجِّرة، في وجه رؤساء اليهود الّذين يَسعُون إلى استِعباد الشَّعب والسَّيطرة عليه، من خلال تسلُّحهم بالدِّين. إنَّ انغلاق الذِّهن مرتبطٌ بقوَّة الدِّين؛ أمّا انفتاح الذِّهن، فمرتبطٌ بقوّة الإيمان. إنَّ اسِتـفانوس تمَّ رَجمُه بسبب إعلانه اسم يسوع. إنَّ مشكلة اليهود، لا تكمن في قبولهم الإيمان بيسوع المسيح، بل تكمن في أنَّ إيمانهم بالربّ يسوع سيؤدِّي إلى زعزعة عروشهم، وهذا ما يرفُضونه رَفضًا قاطعًا.
إنَّ الانتقاد نوعان: الأوّل هو انتقادٌ يهِدف إلى هَدِم الآخَرين، ويمارِسه المؤمِن الّذي يشعر أنَّه بارٌّ، فلا ينتبه إلى خطاياه، بل ينتبه فقط إلى خطايا الآخَرين؛ أمّا الثّاني، فَهو انتقادٌ يَهِدف إلى بُنيان الآخَر، إذ يشعر المؤمِن أنّه كالآخَرين، مجبولٌ بالخطايا، ولكنَّه يَبذُل كلَّ جُهودِه في تصحيح مسار الآخَرين، من خلال السَّعي الدائم إلى تصحيح مسيرته أوّلاً. إنَّ الكنيسة هي عبارة عن مجموعةٍ من المؤمِنِين متراصِفِين جنبًا إلى جَنبٍ، لمساعدة بعضهم البعض للوصول إلى هَدَفهم الوحيد، ألا وهو الملكوت، أي العيش مع الربّ، بفرحٍ دائم؛ وهم يرتبطون ببعضهم البعض برباط السّلام والمحبَّة. إنّ الله سلَّمنا مسؤوليّة كبرى، وهي بناء الآخرين، وسيُحاسِبنا على تلك العَطيّة في اليوم الأخير؛ لذا فلنسعَ أوّلاً إلى التفكير بعظمة محبّة الله لنا الّتي قادته إلى الموت على الصّليب من أجلنا، لنتمكَّن من محبّة الآخَرين وانتقادهم بطريقة بنّاءة، فنحثَّهم على العَمل على تصحيحِ مسارهم ليتمكَّنوا من الوصول إلى الملكوت، إلى الله. إنَّ هذه الحياة هي فُرصَةٌ قد أُعطِيت لنا، لا لإدانة الآخرين وهَدمهم بانتقاداتِنا خطاياهم، بل لنزرع الرَّجاء والتعزيَة في القلوب المنكسرة، نتيجة صعوبات الحياة المتعدِّدة. إنَّ الحياة مليئة بالأثقال والهموم الحياتيّة اليوميّة، ولن نتمكَّن مِنَ التَّخفيف من حِملِها على الآخَرين، إلّا إذا كُنَّا ممتلئِين بالرُّوح القدس والحِكمة.
إنَّ الحِكمة هي إحدى ثِمار الرُّوح القدس، وهي إحدى صِفات الله، لذا لا يمكننا تحديدها بكلمة واحدة، إنَّما يمكننا شرحها من خلال قصّة أو عبرةٍ. إنَّ الحِكمة هي المحافظة على الحياة والسَّعي إلى حياةٍ أفضل. وغالبًا ما تكون الحِكمة مرتبطة بعدد السِّنين الّتي يعيشها الإنسان، لذا غالبًا ما يكون العجوز حكيمًا والشّاب متهوِّرًا. إنّ الحِكمة مرتبطة بخبرة الإنسان في هذه الحياة، وقد قام العديد من الحُكماء بتلخيص خبراتهم الحياتيّة بأمثالٍ، أصبحت مشهورةً في مجتمعاتنا: "مَن جدَّ وَجد، ومَن زرع حَصَد". إنَّ ميزة هذه الحِكَم أو الأمثال هي أنّها تأتي نتيجة خبرة الإنسان الطويلة في هذه الحياة، وبالتّالي هي صالحة في كلّ الأزمنة، وفي مختلف البيئات الاجتماعيّة. فمثلاً، إنَّ الأمثال الصِّينيّة هي حِكَمٌ صالحةٌ لمجتمعاتِنا، لأنّها تُعبِّر عن خبرة الإنسان في هذه الحياة، حتّى ولو كانت ثمرة خبرة الشَّعب الصِّيني المختلف عنّا في التّقاليد والعادات. إنَّ الحِكمة صالحةٌ لكلّ الأزمنة والأوقات وفي مختلف الحضارات، ولا يمكنها أن تكون استنسابيّة، وهذه الصِّفات تنطبق على الله وحده، فهو يبقى كما هو، "الأمس واليوم وإلى الأبد"، على الرُّغم من اختلاف الأزمنة و الأوقات والحَضارات الإنسانيّة. قال بولس الرَّسول في المسيح إنّه حِكمة الله الأزليّة، إذ إنَّ الربّ هو الوحيد القادر على إعطائنا الحياة والحياة الأفضل، ألّا وهي: الحياة الأبديّة. إذًا، حين يكون المؤمِن ممتلئًا من الحِكمة، فهو قادرٌ على الحصول على الحياة الأفضل، مهما كانت وَظيفته في الحياة، أكان خادمًا للمائدة، أو خادمًا للكلمة الإلهيّة. نقرأ في سِفر الِحكمة، العهد القديم، أنَّ الحِكمة الأزليّة قد نزلت من السّماء وتمشَّت في الأزِقَّة بين البشر، وهذا ما نراه مجسَّدًا في المسيح يسوع، الحِكمة الأزليّة، إذ تَرَكَ سماءه وتجسَّد في أرضِنا ليمنحنا الحياة الأفضل، أي الحياة الأبديّة. إنَّ الإنسان الحَكيم هو ذاك الإنسان الّذي يسعى إلى عَيْش هذه الحياة وِفق الحِكمة الأزليّة، يسوع المسيح، الّذي أرشَدنا إلى الطريق الأفضل، طريق الملكوت. إنَّ الحِكمة هي ثمرةُ خبراتِ الإنسان المتكرِّرة، والّتي تدعوها إلى استخلاص العِبَر الّتي لا يمكنها أن تكون أبدًا خاطئة، بل تكون صالحةً لكافة الأزمنة والأمكنة، وفي مختلف الحَضارات. إنَّ الحِكمة مُطلَقةٌ أكثر من العِلم؛ إذ بعد مرور فترةٍ من الزَّمن، قد تتغيّر بعض النَظريّات العِلميّة نتيجة كثرة الاختبارات اليوميّة ونتيجة تطوُّر الاكتشافات العِلميّة، أمّا الحِكمة فتبقى مُطلقة وثابتةً لأنّها نتيجة خبرة الإنسان الّذي لا يتغيَّر على الرُّغم من اختلاف الحَضارات والأزمنة والأمكنة.
إذًا، على الإنسان أن يختار ما بين الحياة في هذه الأرض، والحياة الأفضل الّتي يُعطيها له يسوع: فإن اختار الحياة الأفضل، فهذا يتطلَّب منه التمسُّك بالّذي يُعطيه الحياة الأفضل، ألا وهو يسوع المسيح. إنَّ مشكلة رؤساء اليهود مع استِفانوس، تكمن في أنَّهم لم يقبلوا بما كان يبشِّرهم به الرّسول، وهو أنّ يسوع المسيح هو الوحيد القادر على أن يُعطيهم الحياة الأفضل. فضَّل رؤساء اليهود التَمسُّك بالـحَرف الّذي يَقتل، على الرُّوح الّذي يُحْيِيهم، فرَفَضوا شريعة المحبّة الّتي يمنحهم إيّاها يسوع، وتعلَّقوا بشريعة النّاموس. للأسف، بعد مرور أَكثر من أَلفَي سنةٍ من التبشير الرَّسوليّ، لا زال بعض المؤمِنِين بالربّ يسوع، متمسِّكين بشريعة الـحَرف، بالعادات والتَّقاليد والتقويّات غير القادرة على مَنحِهم الحياة الأفضل، قاتِلين الرُّوح فيهم، بدليل مراقبتهم لبعضهم البعض في زمن الصَّوم، فيُميِّزون بين الصّائم وغير الصّائم، سامِحين لأنفسِهم بإدانة بعضهم البعض انطلاقًا من شريعة الصّوم المفروضة على المؤمِنين كإحدى وصايا الكنيسة. على المؤمِن أن يقدِّم طعامه، الّذي يمتنع عنه في زمن الصَوم، لأخيه المحتاج، فيكون عطاؤه هذا "مناولةً مقدَّسةً يوميّة" له في هذا الزّمن، إذ إنَّ عملَه هذا هو عَمَلٌ يُرضي الله. في زمن الصَّوم، تدعونا الكنيسة لا إلى الانقطاع عن الطَّعام من أجل الطَّعام بحدٍّ ذاته، بل إلى التعبير عن محبّتنا لله من خلال محبّتنا للآخَرين والابتسامة لهم، وتقديم الأطعمة الّتي ننقطِع عنها في هذا الزَّمن، لِمَن هُم بحاجة للطَّعام. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
29/1/2019 سِفر أعمال الرّسل - الإصحاح الخامس شِّفاءات على يد الرُّسل
https://www.youtube.com/watch?v=Z2B61xqMMZw&t=550s

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر أعمال الرّسل
الإصحاح الخامس
الأب ابراهيم سعد

29/1/2019

"وَرَجُلٌ اسْمُهُ حَنانِيَّا، وامْرَأَتُهُ سَفِّيرَةُ، باعَ مُلْكًا واخْتَلَسَ مِنَ الثَّمَنِ، وَامْرَأَتُهُ لَـهَا خَبَرُ ذَلِكَ، وَأَتى بِجُزءٍ وَوَضَعَهُ عِندَ أَرجُلِ الرُّسُلِ. فقَالَ بُطرُسُ: "يا حَنَانِيَّا، لِـمَاذا مَلَأَ الشَّيطانُ قَلبَكَ لِتَكذِبَ على الرُّوحِ القُدُسِ وتَختَلِسَ مِن ثَمَنِ الحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهوَ باقٍ كان يَبقى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيْعَ، أَلَم يَكُنْ في سُلطانِكَ؟ فَما بَالُكَ وَضَعْتَ في قَلبِكَ هذا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكذِبْ على النَّاسِ بَلْ على اللهِ". فَلَمَّا سَمِعَ حَنانِيَّا هذا الكَلامَ وَقَعَ وماتَ. وَصارَ خَوفٌ عَظيمٌ على جَميعِ الَّذينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ. فَنَهَضَ الأحْداثُ وَلَفُّوهُ وَحَمَلُوهُ خارِجًا وَدَفَنُوهُ. ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ ثَلاثِ ساعاتٍ، أنَّ امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ، وَلَيْسَ لَـهَا خَبَرُ ما جَرَى. فَأَجابَها بُطرُسُ: "قُولِـي لي: أَبِهَذَا الـمِقْدارِ بِعْتُما الحَقْلَ؟ فَقَالَتْ: "نَعَمْ، بِهَذا المِقْدارِ". فَقالَ لَـها بُطرُسُ: "ما بَالُكُما اتَّفَقْتُما على تَجرِبَةِ رُوحِ الربِّ؟ هُوَذا أَرْجُلُ الّذِينَ دَفَنُوا رَجُلَكِ على البابِ، وَسَيَحمِلُونَكِ خارِجًا". فَوَقَعَتْ في الحالِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَمَاتَتْ. فَدَخَل الشَّبابُ وَوَجَدُوها مَيْتَةً، فَحَمَلُوها خارِجًا وَدَفَنُوها بِجانِبِ رَجُلِها. فَصَارَ خَوفٌ عَظيمٌ على جَميعِ الكَنيسَةِ وعلى جَميعِ الّذينَ سَمِعُوا بِذَلِكَ. وَجَرَتْ على أَيدِي الرُّسُلِ آياتٌ وعَجائِبُ كَثيرَةٌ في الشَّعبِ. وكانَ الجَميعُ بِنَفسٍ واحِدَةٍ في رِواقِ سُلَيْمانَ. وأَمَّا الآخَرُونَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُم يَجْسُرُ أَنْ يَلتَصِقَ بِهِمْ، لَكِنْ كانَ الشَّعْبُ يُعَظِّمُهُم. وكانَ مُؤمِنُونَ يَنضَمُّونَ للرَبِّ أَكْثَرَ، جَماهِيرُ مِنْ رِجال ونِسَاءٍ، حَتَّى إنَّهُم كانوا يَحمِلُونَ الـمَرضَى خارِجًا في الشَّوارِعِ وَيَضَعُونَهم على فُرُشٍ، حتّى إذا جاءَ بُطرُسُ يُخيِّمُ وَلَوْ ظِلُّهُ على أَحَدٍ مِنْهُم. واجْتَمَعَ جُمهُورُ الـمُدُنِ الـمُحيطَةِ إلى أُورَشَليمَ حامِلِينَ مَرضَى ومُعَذَّبينَ مِن أرواحٍ نَجِسَةٍ، وكانوا يُبْرَأُونَ جَميعُهم. فَقَامَ رَئيسُ الكَهَنَةِ وَجَميعُ الّذِينَ مَعَهُ، الّذينَ هُمْ شِيعَةُ الصَّدُّوقِيِّين، وامْتَلَأوا غَيْرَةً فَأَلقَوا أَيْدِيَهُم على الرُّسُلِ وَوَضَعُوهُم في حَبْسِ العَامَّةِ. وَلَكِنَّ مَلاكَ الربِّ في اللَّيلِ فَتَحَ أبوابَ السِّجْنِ وَأَخْرَجَهُمْ وقَالَ: "اذْهَبُوا قِفُوا وَكَلِّمُوا الشَّعْبَ في الهَيْكَلِ بِجَميعِ كَلامِ هذه الحياةِ". فَلَمَّا سَمِعُوا دَخَلُوا الهَيكَلَ نَحْوَ الصُّبحِ وَجَعَلُوا يُعلِّمُونَ. ثُمَّ جاءَ رَئيسُ الكَهَنَةِ والَّذينَ مَعَهُ، ودَعَوُا الـمَجمَعْ وَكُلَّ مَشْيَخَةِ بَنِي إسرائِيلَ، فأَرْسَلُوا إلى الحَبْسِ ليُؤتَى بِهم. وَلَكِنَّ الخُدَّامَ لَمَّا جاءُوا لَمْ يَجِدُوهُم في السِّجْنِ، فَرَجِعُوا وَأَخْبَرُوا قائِلِينَ: "إنَّنا وَجَدْنا الحَبْسَ مُغلَقًا بِكُلِّ حِرْصٍ، والحُرَّاسَ واقِفِينَ خارِجًا أمامَ الأَبوابِ، ولَكِنْ لَمَّا فَتَحْنا لَمْ نَجِدْ في الدَّاخِلِ أَحَدًا". فَلَمّا سَمِعَ الكاهِنُ وقائِدُ جُندِ الهَيْكَلِ وَرُؤساءُ الكَهَنَةِ هَذِه الأَقوالَ، ارْتابُوا مِنْ جِهَتِهِم: ما عَسَى أَن يَصيرَ هَذَا؟ ثُمَّ جاءَ واحِدٌ وَأَخْبَرَهُم قائِلاً: "هُوَذَا الرِّجالُ الّذينَ وَضَعْتُموهُم في السِّجنِ هُم في الهَيكَلِ واقِفِينَ يُعَلِّمُونَ الشَّعبَ!". حِيْنَئِذٍ مَضَى قائِدُ الجُندِ مع الخُدَّامِ، فَأَحْضَرَهُم لا بِعُنفٍ، لأنَّهُم كانوا يَخافُونَ الشَّعبَ لِئَلّا يُرجَموا. فَلَمَّا أَحضَرُوهُم أَوقَفُوهُم في الـمَجمَعِ. فَسَأَلَهم رَئيسُ الكَهَنَةِ قائِلاً: "أَمَا أَوصَيْناكُم وَصِيَّةً أَنْ لا تُعلِّمُوا بِهذا الاسْمِ؟ وها أَنْتُم قَدْ مَلَأتُم أُورَشَليمَ بِتَعلِيمِكُم، وتُريدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَليْنا دَمَ هَذا الإِنسانِ". فَأَجابَ بُطرُسُ وَالرُّسُلُ وَقالُوا: "يَنْبَغي أَنْ يُطاعَ اللهُ أَكثَرَ مِنَ النَّاسِ. إلَهُ آبائِنا أَقامَ يَسُوعَ الّذي أَنْتُم قَتَلْتُموه مُعَلِّقِينَ إيَّاهُ على خَشَبَةٍ. هذا رَفَّعَهُ اللهُ بِيَمِينِهِ رَئيسًا ومُخلِّصًا، ليُعطِيَ إسرائِيلَ التَّوبَةَ وغُفرانَ الخَطايا. وَنَحنُ شُهودٌ لَهُ بِهذِهِ الأُمورِ، والرُّوحُ القُدُسُ أَيضًا، الّذي أَعطاهُ اللهُ للَّذينَ يُطِيعُونَهُ". فَلَمّا سَمِعوا حَنِقوا، وَجَعَلُوا يَتَشاوَرُونَ أَنْ يَقتِلُوهُم. فَقَامَ في الـمَجمَعِ رَجُلٌ فَرِّيسِيٌّ اسْمُهُ غَمَالائِيلُ، مُعَلِّمٌ للنَّاموسِ، مُكَرَّمٌ عِنْدَ جَميعِ الشَّعْبِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ الرُّسُلُ قَليلاً. ثُمَّ قَالَ لَهم: "أَيُّها الرِّجالُ الإسْرائِيليُّونَ، احْتَرِزوا لأَنفُسِكُم مِن جِهَةِ هَؤلاءِ النَّاسِ في ما أَنتُم مُزمِعُونَ أَنْ تَفعَلُوا. لأنَّهُ قَبْلَ هذه الأيَّامِ قامَ تُوداسُ قائلاً عَن نَفْسِهِ إنَّهُ شَيءٌ، الّذي الْتَصَقَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الرِجالِ نَحْوُ أَرْبَعِمِئَةٍ، الّذي قُتِلَ، وَجَميعُ الّذينَ انْقادُوا إليهِ تَبَدَّدوا وصارُوا لا شيءَ. بَعْدَ هذا قامَ يَهُوذا الـجَلِيلِيُّ في أَيَّامِ الاكْتِتَابِ، وأَزَاغَ وَراءَهُ شَعبًا غَفيرًا. فَذَاكَ أَيْضًا هَلَكَ، وَجَميعُ الَّذينَ انْقادُوا إليهِ تَشَتَّتُوا. والآنَ أَقولُ لَكُم: تَنَحُّوا عَن هؤلاءِ النَّاسِ واتْرُكُوهُم! لأنَّهُ إِنْ كانَ هذا الرَّأيُ أو هَذَا العَمَلُ مِنَ النَّاسِ فَسَوفَ يَنْتَقِضُ، وإنْ كانَ مِنَ اللهِ فلا تَقدِرُونَ أَنْ تَنْقُضُوهُ، لِئَلّا تُوجَدُوا مُحارِبينَ للهِ أَيْضًا". فانْقادُوا إِلَيْهِ. وَدَعُوا الرُّسُلَ وَجَلَدُوهُم، وَأَوْصُوهُم أَنْ لا يَتَكَلَّموا بِاسمِ يَسوعَ، ثُمَّ أَطلَقُوهم. وأمَّا هُم فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِن أمامِ الـمَجمَعِ، لأنَّهم حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهانُوا مِن أَجلِ اسْمِهِ. وكانوا لا يَزالُونَ كُلَّ يَومٍ في الهَيكَلِ وفي البُيوتِ مُعلِّمِينَ وَمُبَشِّرِينَ بِيَسُوعَ المسيحِ."

يؤكِّد لنا هذا النَّص أنَّ تُهمَة الرُسل كانت ذِكرهم اسم المسيح أي التبشير به، لا قِيامهم بالأعاجيب والشِّفاءات. إنَّ قيام الرُّسل بالأعاجيب والشِّفاءات، كان كفيلاً بأن يَجعلهم زعماء للشَّعب اليهوديّ لولا ذِكرهم لاسم الربِّ يسوع. وكما تعرَّضَ الربُّ يسوع مِن قِبل اليهود للمؤامرات في سبيل قَتلِه،كذلك حصل للتَّلاميذ، إذ لا تلميذَ أفضَل من معلِّمه. لا يستطيع الإنسان أن يكون لامُباليًا تجاه كلمة الله الّتي يتمُّ إعلانها على مسامِعه، فإمّا أن يقبل بها ويُعلِنها بدَوره، وإمّا أن يرفضها محاوِلاً القضاء على مَن يُعلِنها لأنّ كلمة مزعجةٌ لأهل الباطل. إنَّ المسيح هو المحارب الأوّل والوحيد لكلِّ مجتمعٍ منغلقٍ على ذاتِه، ويدَّعي احتكار الله؛ بعبارةٍ أخرى، إنّه المحارب الوحيد لجميع الأديان. إنّ سماع الشَّعب لكلمة الله يدفعهم إلى التغيير وتَرْكِ عاداتهم القديمة الأرضيّة، وهذا ما يؤثِّر سلبًا على سُلطة رؤساء الأديان، الّذين يبحثون عن إخضاع الشَّعب لعبوديّتهم.

في هذا الإصحاح، نقرأ عن زَوجَين هما حنانيَّا وسفِّيرة، قرَّرا الانضمام إلى جماعة الرُّسل، تعبيرًا عن إيمانهما بالربِّ يسوع.كانت جماعة الرُّسل تضمّ جميع المؤمِنِين بالمسيح، وكانوا يهتمّون بحاجات بعضهم البعض، لذا كان يقوم البعض بِبَيع ممتلكاته الأرضيّة ووَضْعِ أثمانها عند أقدام الرُّسل لتوزيعها على الأكثر حاجة مِن بَيْنِهم. إذًا، لقد عاهد هذان الزَّوجان الله على عيش تعاليمه، وِفق هذه الجماعة، فقرَّرا بَيْعَ حقلٍ كانا يمتلكانه، ووَضْعَ ثمنه عند أقدام الرُّسل،كما كان يفعل سائر المؤمِنِين. بعد بَيعِهما هذا الحَقل، قرّرا اختلاس قِسمًا من ثَمنه، ووَضْع القسم الآخَر من المال على أقدام الرُّسل. إنَّ هَذين الزّوجين، قد كذبا على الله لا على جماعة الرُّسل، فالحقل هو مِن ممتلكاتهما، ولا يحقُّ لأحدٍ مشاركتهما به، وبالتَّالي كان بإمكانهما الاحتفاظ به إذ لا أحد يستطيع إجبارهما على التخلِّي عنه. ولكن حين قرَّرا بَيعه ومقاسمة ثَمنه مع الآخَرين، كان يتوجَّب عليهما وَضْعُ ثمنه كاملاً على أقدام الرُّسل، وبالتّالي عند اختلاسِهما مِن ثمن هذا الحقل، أخلّا بالتزامهما أمام الربّ. ولكن ما يثير الغرابة في هذه القصّة، هو أنَّ هذين الزَّوجَيْن قد ماتا بعدما وجّه إليهما بطرس كلامًا سألهما فيه عن الـمُحرِّض الأساسيّ على اتِّباع الرّوح الشِّريرة وتجربة الله، فيُخيَّل للسّامِع أنَّ الموت هو السَّبب المباشر لخطيئتهما. ولكن لو كان الأمر كذلك، لكانت البشريّة بأَسْرِها قد فَنِيَت لأنَّها خاطئة. إنّ الرَّجل يُدعى "حنانيَّا" ومعنى اسمه في العبريّة، "حنان الله"، وزوجته تُدعى "سَفِّيرة"، ومعنى اسمها في العبريّة "الباب"، وغالبًا ما كان يُطلق هذا الاسم على باب الهيكل الجميل، وبالتّالي أراد الإنجيليّ لوقا، كاتب هذا السِّفر، القول إنّ الموت سيكون مصير كلُّ إنسانٍ يقرِّر إغلاق باب حنان الله، أي من خلال تجديفه على الرُّوح القدس، فَمَن يُجدِّف على الرُّوح القدس، يَعزِل نفسه عن حنان الله. هذا ما فعله تمامًا آدم وحوّاء إذ رَفضَا عطيّة الله لهما، وهي الفردوس، وقرَّرا البحث عن الفِردوس والحصول عليه من خلال مجهودهما الخاصّ، فكانت النتيجة فشَلِهما في مخطَّطهما، فكان الموت مصيرهما، على مِثال مَصير حنانيَّا وسفِّيرة.
عندما انطلق بطرس والرُّسل في إعلان البشارة، آمَن الكثيرون بالربّ واعتمدوا وانضمّوا إلى جماعة المؤمِنِين بالمسيح. غير أنّ بعضًا منهم، قرَّروا المحافظة على الذِّهنيّة اليهوديّة القديمة على الرّغم من قبولهم
بذهنيّة المسيح، وهذا ما حدث مع حنانيّا وسفِّيرة، فكان الموت مصيرهما. إنّ الإيمان بالربِّ وحده لا يكفي، كي ينال المؤمِن الحياة الأبديّة، إذ على المؤمِن أن يتفاعل مع كلمة الله، فيتغيَّر من الدَّاخل، لِيَنال الملكوت. إنَّ موت حنانيَّا وسفِّيرة، لم يدفع بالسَّامِعين لكلمة الله إلى التّراجع عن قبولها، بل عل العكس، فالنَّص يقول لنا إنَّ عدد المؤمِنِين كان في ازيادٍ على الرُّغم مِن موت هذين الزَّوجَين. فالكنيسة إذًا، هي عبارة عن "نفقٍ" مفتوحٍ من الجِهَتين، لا عن مجتمعٍ منغلقٍ على ذاته، فالإنسان يستطيع الدُّخول إلى الإيمان أو الخروج عنه في أيّ وقتٍ كان، وما تصرُّفات الإنسان إلّا دليل على قراره: فإذا كانت تصرّفات الإنسان منسجمة مع كلمة الله، عَبَّرت عن قرار الإنسان بالبقاء داخل "النَّفق"، أمّا إذا كانت غير منسجمة مع كلمة الله، فهذا يدلّ على خروجه تلقائيًّا من هذا "النَّفق". إنَّ الكنيسة مدعوَّة إلى استقبال أيّ إنسان يُعلِن قبوله كلمة الله، أي أنَّها لا تُشبه المجتمعات اليهوديّة المنغلقة على ذاتها، فَرِسالة الكنيسة هي إيصال البشارة إلى كلِّ المسكونة لِيَنال الجميع الخلاص باسم يسوع. ما مِن إنسانٍ يستطيع البقاء على الدَّوام في هذا "النَّفق" إلّا بنِعمةٍ من الله، فذلك يتطلَّب ثبات الإنسان في إيمانه بكلمة الله.
يُخبرنا هذا النَّص عن الشِّفاءات الّتي قام بها الرُّسل، فيَقول لنا إنَّ ظِلَّ بطرس كان كافيًا لشفاء المرضى، وهذا ما يدعونا إلى تَذَكُّر قول المسيح لتلاميذه إنّهم سيقومون بأعمال أعظمَ من الّتي قام بها هو نفسه، حين كان في وَسَطِهم. لقد أثارت تلك الشِّفاءات الكثيرة الّتي قام بها الرُّسل حَسَدَ رؤساء اليهود وغِيرتَهم وخوفَهم على سُلطَتهم على الشَّعب، لذا قرّروا التآمُر عليهم محاولِين قَتلَهم، فاضطهدوهم بوسائل عديدة منها السَّجن والمحاكمات الظالمة، وإطلاق الإشاعات لِرَدع النّاس عن سماع كلمة الله الّتي يُعلِنها الرُّسل. إنّ محاكمات رؤساء اليهود للرُّسل، تدفعنا إلى تَذكُّر محاكمتهم ليسوع. لقد قام رؤساء اليهود بسَجن الرُّسل، ولكنَّ ملاك الربّ أطلق سراحهم، لأنّ الربّ يريد إيصال الخلاص لجميع المسكونة من خلال إعلان الرُّسل لكلمة الله. لم يكن هدف الإنجيليّ لوقا من خلال ذِكره أعجوبة إطلاق سراح الرُّسل من السِّجن، إلقاء الضوء على الأعجوبة بحدِّ ذاتها، إنّما أراد القول إنّ لا أحد يستطيع إيقاف مسيرة كلمة الله نحو الآخَرين، فإنْ رَفضَ الإنسان إعلان البشارة، يحترم الربُّ حرّيتَهُ فيختار آخرَ لإعلان كلمته للشَّعب، فما يهمُّ الربّ هو إيصال كلمته إلى كلّ المسكونة، كي تنال الخلاص. على كلمة الله أن تكون في الشَّوارع تُعلَن على ألسنَةِ الرُّسل، لا في السِّجن كما يرغب رؤساء اليهود، لذا خلَّص الربّ رُسلَه من السِّجن مُطلِقًا سراحهم. إنّ ما حَدَث مع الرُّسل، يذكِّرنا بأشعيا النبيّ الّذي رَفضَ في البدء، المهمَّة الّتي اختاره الله لها، وهي إعلان البشارة للشَّعب، بحجَّة أنّه "نَجِسُ الشَّفتين"، فقام الربّ بإرسال ملاكه إلى النبيّ ليُطهِّر له شفتيه، بجمرةٍ مِنَ المذبح، فأعلن حينها استعداده للانطلاق في البشارة.

إنّ الربّ لا يضع شروطًا محدَّدة لاختياره الرّسول، أو توقيتًا محدَّدًا لإعلان هذا الأخير كلمة الله، ولا يحتاج الله إلى سببٍ معيَنٍ لتحديد وقت البشارة، فكلّ وقتٍ هو وقتٌ مناسبٌ لإعلان كلمة الله، وكلّ إنسانٍ هو إنسانٌ صالحٌ لإعلان كلمة الله، بدليل أنّ كلمة الله قد تلمس قلبك في بعض الأحيان حين يُعلِنها شخصٌ لا تتوقَّعه. وإليكم مِثالٌ على ذلك، إنّ الأمّ تريزيا دو كالكوتا الّتي عاشت حياتها في الخفاء بين الفقراء والمحتاجين، قد تمكَّنت من إيصال كلمة الله إلى العالم أجمع، لا من خلال الكرازة بكلمة الله إنّما مِن خلال أعمالها المتواضعة مع المحتاجين لخدمتها وحبِّها. لم تكن تلك القدِّيسة ذات شُهرةٍ واسعة في البدء، إذ كانت تسكن في الأحياء الفقيرة الّتي لا يرغب أحد في زيارتها أو العيش فيها. لقد بشَّرت تلك القدِّيسة الآخَرين بالمسيح من خلال "عطائها الموجع" للفقراء والمرضى، الّذي يَنبَعُ مِنَ القلب. إنَّ هذه القدِّيسة قد تمكَّنت بِصَمتها وأعمالها مِن جَذب الكثيرين إلى المسيح، في حين أنّ رؤساء مسيحيِّين كُثُرًا في العالم قد ساهموا في ابتعاد عددٍ كبيرٍ مِنَ المؤمِنِين عن الربّ بسبب فسادهم ومسيرتهم الّتي لا تعكس إيمانهم بالربّ يسوع.

إنَّ كلمة "مسؤول"، لا تعني الزّعيم أو الرئيس، بل تعني وجود شَخصٍ قد طَرَح سؤالاً على شخصٍ آخر، فأصبح هذا الأخير مسؤولاً، ويتوجَّب بالتّالي عليه الإجابة عن السؤال المطروح عليه. عندما ارتكب آدم الخطيئة، سأله الله: ماذا فعلت؟ فلم يتمكَّن آدم من الإجابة عليه، فألقى مسؤوليّة خطئه على حوَّاء إمرأته، الّتي كان يعتبرها قبل الخطيئة، عَظمًا من عظامِه ولحمًا من لَـحْمه (تك 2: 23). لقد نجحت الحيّة في غشِّ آدم وحوّاء، فأكلا من ثمرة الشَّجرة الّتي مَنعَهما اللهُ عنها، مخالِفَين بذلك وصيَّةَ الله لهما. إنَّ الله قد أعطى الإنسانَ الفِردوس، ولكنَّ هذا الأخير قد قرَّر التخلِّي عن تلك العطيّة بوقوعه في أفخاخ إبليس. إنّ كلَّ إنسانٍ يَدفعُك إلى الابتعاد عن الله، هو "إبليس"، مهما تعاظَم شأنه في المجتمع أو في الكنيسة. لقد تعرَّض الرُّسل للاضطهاد مِن قِبَل رؤساء الكهنة، أي مِن قِبَل كبار المسؤولِين في الدِّين اليهوديّ، الموكلة إليهم مَهمَّة إيصال كلمة الله للشَّعب. وهنا يُطرَح السؤال: لماذا قام رؤساء اليهود، المسؤولِين عن إعلان كلمة الله، باضطهاد الرُّسل الّذين يقومون بتلك الـمَهمَّة عنهم؟ وهُنا نتذكَّر قول أحد رؤساء اليهود: "خيرٌ لكم أن يموت رَجُلٌ واحدٌ عن الشَّعب ولا تهلك الأمَّة بأسْرِها" (يو 11: 50). إنَّ ذِكر اسم "يسوع" سيؤدِّي إلى إيمان الشَّعب به وقبولِهم بكلمة الله، وبالتّالي إلى تلاشي سُلطة الرُّؤساء في المجتمع اليهوديّ، لذلك، قام اليهود باضطهاد الرُّسل، ولهذا السَّبب عَينِه تمَّ قَتلُ يسوع.

إنَّ مشكلة الإنسان الأساسيّة، تكمن في عدم قبوله الآخَر المختلف عنه، وهذا ما أدّى إلى انقسام الكنيسة، على سبيل المِثال، إذ تسلَّح كلّ مسؤولٍ فيها بِنَظرته الخاصّة إلى الله رافِضًا الإصغاء إلى نظرة الآخَر المختلفة عن نظرته إلى الله. إنّ الله لم يخلق حوّاء من رأس الرُّجل، كي لا تتسلَّط عليه؛ ولم يخلقها من رِجْل آدم، كي لا يسيطر عليها ويستعبِدها، بل خلقَها من ضِلعِه، أي من جِوار قلبه، كي يهتمَّ كلّ واحدٍ منهما بالآخر ويحبَّه. عندما يَفتُر الحبّ بين الزَّوجين، تُسيطر على أحاديثهما لغة الحقوق والواجبات، كما يسيطر الضمير المنفضل "أنا" على حوارهما، ما يؤدِّي إلى التباعد بينهما، ويؤشِّر إلى وجود الخلافات في علاقتهما. هذه هي مشكلة اليهود أيضًا، إذ يرفضون قبول ارتداد غير اليهود إلى الإيمان بالله، فَهُم يَنظُرون إلى الآخَرين نظرةً فَوقيّةً، إذ يعتقدون أنَّهم مستحقِّون الخلاص والملكوت أكثر من سِواهم من البشر. هذه كانت مشكلة حنانيَّا وسفِّيرة أيضًا، إذ اعتقدا أنّهما أفضل من سواهم، فباعا الحقل مُنجَرِفَين وراء الرّوح الشِّريرة، الّتي سمّاها بطرس تجربة روح الله والتآمر عليه، في حديثه معهما.
في البريّة، أَخضع الشِّريرُ الربَّ يسوع لثلاث تجارب: أوّلها، تحويل الحجارة إلى خبز. لقد طلب إبليس من الربّ المحافظة على حياته الجسديّة بقوّته الذاتيّة من دون اللُّجوء إلى الله، من خلال تحويل الحجارة إلى خبز، كي يتحاشى الموت الأرضيّ. إنّ هذه التجربة الأولى الّتي تعرَّض لها يسوع في البريّة، هي تجربة آدم نفسُها، إذ طلبَتْ الحيّة من آدم المحافظة على حياته بمعزلٍ عن الله. أمّا التجربة الثانية، فهي تجربة رَمي الربِّ نفسه من أعلى الجبل، وطَلَبِ النَّجدة مِنَ الملائكة. من خلال هذه التجربة، يطرح الشِّرير على الربّ مسألة خوف الإنسان من الموت الأرضيّ، ورغبة الإنسان في المحافظة على حياته الأرضيّة. أمّا التجربة الثَّالثة والأخيرة، فهي تجربة الشُّعور بالعَظَمة. لقد طَلَبَ الشِّرير من الربّ يسوع، السُّجود له، من أجل منحِه السُّلطة على جميع ممالِك الأرض. في هذه التّجارب الثلاث، حاول الشِّريرُ إقناع الربِّ يسوع بالابتعاد عن الله كونه يملك القدرة والقوّة لذلك، ولكنَّ محاولاته باءت بالفشل. في التَّجربة الأولى، تجربة تحويل الحجارة إلى خبز، أجاب الربّ يسوع على الشِّرير بكلمة الله حين قال له: "ليسَ بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمةٍ تَخرج من فَم الله" (متّى 4: 4). في التجربة الثَّانية، جرَّب الشيطانُ الربَّ يسوع مُستخدمًا كلامًا مُجتَزئًا من المزامير إذ قال له: "يُوصي ملائكته بِكَ، فَعَلى أيدِيهم يَحمِلونَك، لئلّا تَصدِمَ بِحجرٍ رِجْلَكَ"(متى 4: 6). ولكنّ الربّ يسوع لم يقع في هذه التجربة أيضًا لأنّه عالم بالكتاب المقدَّس، فأدرك أنّ الشيطان قد انتقَصَ عبارةَ "في كلّ طُرُقِك" مِن كلام المزامير. إنَّ الربّ يسوع واثقٌ بأنَّ الله الآب يهتمّ به ويدافع عنه، وبالتّالي لا داعي لتجربة ما هو أكيدٌ منه. إنَّ آدم قد وَقع في الخطيئة لأنّه شَكَّ بكلام الله الآب الّذي منَحَه الفردوس، وسلَّطه على كلّ الخليقة. للأسف، إنَّ الإنسان يَثِق بالشِّرير الّذي يُغويه بأكاذيبه، ولا يُصدِّق الله الّذي يُعَبِّر له باستمرار عن استعداده للموت مِنْ أجله، تعبيرًا عن حبِّه له. إنَّ الشَّك يهدِم كلّ علاقة بين البشر، كذلك بين الله والبشر. فهل يحقُّ للإنسان التساؤل حول عيش طاعته لله الّذي لا يتردّد في التعبير له عن مدى حبِّه، مُعلِنًا استعداده للموت من أجله؟ إنّ الإنسان يُسيء فَهْم الطاعة لله، إذ يعتبرها عبوديّةً له، وهو يريد أن يكون سيِّدًا لا عبدًا.
إنّ هذا الصِّراع الّذي يعيشه الإنسان مع خالقه، يُسمِّيه الكتاب المقدَّس حماقةً أو غباوة، فَيُخبرنا الإنجيليّ لوقا (لو12: 13-21) عن غنيّ جاهل، أراد تأسيس حياته بعيدًا عن الله، فقام بتوسيع أهراءاته لتُصبح أهلاً لاستقبال غلّاته الأرضية، ولكنَّ الله كلَّمه في ساعةٍ لا ينتظرها قائلاً: "يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُستَرَدُّ نفسُكَ منكَ، فَلِمن يكون ما أعددته؟ (لو 12: 20). إنّ المجتمعات الدِّينيّة وبخاصّة المسيحيّة في هذا الشَّرق، تشكو من تضاؤل عدد الملتزِمين بها، فتسعى إلى ملاطفة الآخَرين وكَسب وِدِّهم، في محاولةٍ منهم لِدَرء خطر تعرُّضِها للاضطهاد مِن قِبَلِهم، عِوَضَ إعلان كلمة الله للآخَرين بكلّ جرأة. هذا ما عانى منه اليهود أيضًا، إذ خافوا مِن تضاؤل عددهم جرّاء إيمان الشَّعب بالربّ، وارتدادهم للمسيحيّة، فقرَروا قَتل الربّ والرُّسل فيما بعد، طالِبِين الدَّعم والحماية من الرُّومان الوثنيِّين. إنّ حنانيَّا وسَفيِّرة، هما آدم وحوّاء في العهد الجديد، إذ ارتكبا الخطيئة، وقرَّرا رَفض عطيّة الله لهما. لقد هدَم حنانيَّا وسفِّيرة، الملكوت الّذي مَنَحه الربُّ لهما، بِكَذِبهما على الربّ، وبالتّالي إنْ لم يتمَّ استئصال الشَّر من الجماعة، فإنّه سينتقل إلى الأجيال القادمة، الّتي ستختار هَدم ملكوت الربّ. إذًا، في العُصور الأولى، سَعَتِ الكنيسة إلى عَيْشِ رؤية الإنجيليّ لوقا، حين قال فيها، إنّها قد جعَلَتْ كلَّ شيءٍ مشتركًا بين أعضائها (أعمال 2)، ولكنّ واقع الحياة في الكنيسة لم يكن على هذا النَّحو، بدليل أنَّ بولس الرُّسول على سبيل الـمِثال قد أرسل رسائل عديدة إلى الكنائس الّتي بشَّرها بسبب المشاكل الموجودة فيها، وبسبب سوء فَهْمِهم للبشارة الّتي أعلنها لهم، وبالتّالي بسبب سُوء عَيْشِهم لها. إنَّ جَمْعَ الصّواني في الكنيسة، نشأ نتيجة إرادة المؤمِنِين عيش إيمانهم الصَّحيح، كما تكلَّم عنها لوقا الإنجيليّ، من خلال جمعِ المال أثناء الذبيحة الإلهيّة لتقديمها للأكثر حاجة بين المؤمِنِين، ولكنَّ هذا المفهوم قد تعرَّض للتشويه عبر العصور، خاصّة بعد فقدان المؤمِنِين الثِّقة في رُعاتهم الكنسيِّين، نتيجة تحويل البعض منهم هذه الأموال لأهدافٍ أخرى، مُغايرة لِهَدفها الأساسيّ. إنَّ إحدى أَهَم أفخاخ الشيطان، الّتي ينصبها للمؤمِنِين هي الرَّشوة والغِشّ. لذا، على سبيل المِثال، يجد الإنسان صعوبةً في الاعتراف بخطئِه أمام الآخَرين، ويفضِّل الاعتراف به سرًّا بينه وبين الله، لا أمام الكاهن. إنّ المؤمن يتهرَّب على الدّوام مِن تحمُّل مسؤوليّة أخطائه، راميًا المسؤوليّة في ذلك على الآخَرين. إنّ هذه الرُّوح نابعة من ثقافة "الأنا" عند الإنسان. إنّ ذهنيّة حنانيّا وسفِّيرة قد تغلغت في أذهان المؤمِنِين، إذ يسعى الكثير إلى اعتماد الغشّ، والكَذِب على الله. يتمّ القضاء على هذه الذهنيّة في العالم، "بخروج الرّسل من السِّجن"، أي من خلال تحرير كلمة الله وتبشير الآخَرين بها. إنَّ مَهمَّة المؤمِن تقوم على إيصال كلمة الله للآخَرين، على الرُّغم من خطاياه، فَسَماعُ الآخَرين لها، يُثمر فيهم توبةً، أي عودةً إلى الله، أي حصولاً على الخلاص، بعبارةٍ أخرى على الملكوت السَّماويّ. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...