البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
6/3/2018 رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح الحادي عشر الصّعوبات في الرسالة
https://youtu.be/wiXCM4JpZKc

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الحادي عشر
الأب ابراهيم سعد

6/3/2018

"لَيتَكُم تَحتَمِلونَ غَباوَتِي قليلاً! بل أَنتُم مُـحتَمِلِيَّ. فإنِّي أَغارُ عليكم غَيرَةَ اللهِ، لأنِّي خَطَبتُكم لِرَجُلٍ واحدٍ، لأُقدِّمَ عذراءَ عفيفةً للمَسيحِ. ولَكِنَّنِي أَخافُ أنَّه كما خَدَعَتِ الحيَّةُ حوّاءَ بِمَكرِها، هكذا تُفسَدُ أَذهانُكم عنِ البساطَةِ الّتي في المسيحِ. فإنَّهُ إنْ كانَ الآتِي يَكرِزُ بِيَسوعَ آخرَ لَم نَكرِزْ بهِ، أَو كُنتُم تأخُذُونَ رُوحًا آخرَ لَم تأخُذُوه، أو إنجيلاً آخرَ لم تَقبَلوه، فَحَسنًا كُنتُم تَحتَمِلون. لأنِّي أَحسِبُ أنِّي لم أَنقُصْ شيئًا عَنْ فائِقِي الرُّسُل. وإِنْ كُنتُ عامِّيًّا في الكلامِ، فَلَستُ في العِلْمِ، بل نَحنُ في كلِّ شيءٍ ظاهِرونَ لَكم بين الـجَميعِ. أَمْ أَخطأتُ خَطيئةً إذْ أَذلَلْتُ نَفسِي كَي تَرتَفِعوا أَنتُم، لِأَنِّي بَشَّرتُكم مَجَّانًا بإنجيلِ اللهِ؟ سَلَبْتُ كَنائِسَ أُخرى آخِذًا أُجرةً لأجلِ خِدمَتِكم، وإذا كُنتُ حاضِرًا عِندَكُم وَاحْتَجتُ، لَم أُثَقِّلْ على أحدٍ. لِأنَّ احتياجي سَدَّهُ الإِخوَةُ الّذينَ أتَوا مِن مَكدُونيَّةَ. وفي كُلِّ شيءٍ حَفِظْتُ نَفسِي غيرَ ثَقيل عليكم، وسَأَحفَظُها. حَقُّ الـمَسيحِ فيّ. إِنَّ هذا الافتِخارَ لا يُسَدُّ عَنِّي في أَقالِيمِ أَخائِيَةَ. لِمَاذا؟ أَلِأَنِّي لا أُحِبُّكم؟ اللهُ يَعلَمُ. وَلَكِنْ ما أَفعَلُهُ سأَفعَلُهُ لأَقطَعَ فُرصةَ الّذينَ يُريدُونَ فُرصَةً كَي يُوجَدوا كَما نَحنُ أَيضًا في ما يَفتَخِرُونَ بِهِ. لأَنَّ مِثلَ هَؤلاءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلةٌ ماكِرُونَ، مُغيِّرونَ شَكلَهم إلى شِبهِ رُسُلِ المسيحِ. ولا عَجَبَ. لِأَنَّ الشَّيطانَ نَفسَهُ يُغيِّرُ شَكلَهُ إلى شِبهِ ملاكِ نورٍ! فَلَيسَ عَظيمًا إِنْ كان خُدَّامُهُ أيضًا يُغيِّرونَ شَكلَهم كخُدَّامٍ للبِرّ، الّذينَ نِهايَتُهم تَكونُ حَسَبَ أَعمالِهم. أَقولُ أَيضًا: لا يَظُنَّ أحدٌ أَنِّي غَبِيٌّ. وإلّا فاقْبَلُوني وَلَو كَغَبِيٍّ، لِأَفتَخِرَ أنا أيضًا قليلاً. الّذي أَتَكلَّمُ بهِ لَسْتُ أَتكلَّمُ بهِ بِحَسبِ الربِّ، بل كأنَّهُ في غباوةٍ، في جسارةِ الافتِخارِ هذهِ. بِما أنَّ كَثيرِينَ يَفتَخِرونَ حَسَبَ الجَسَدِ، أَفتَخِرُ أنا أيضًا. فإنَّكُم بِسُرورٍ تَحتَمِلونَ الأغبياءَ، إذ أنتم عُقلاءُ! لِاَنَّكُم تَحتَمِلونَ: إِنْ كانَ أَحدٌ يَستَعبِدُكُم! إِنْ كانَ أَحدٌ يأكُلُكم! إنْ كانَ أَحدٌ يَأخُذُكم! إِنْ كانَ أَحدٌ يَرتَفِعُ! إِنْ كانَ أَحَدٌ يَضرِبُكم على وُجُوهِكم! على سبيلِ الـهَوانِ أَقولُ: كَيفَ أَنَّنا كُنَّا ضُعَفاءَ! وَلَكِنَّ الّذي يَجتَرِئُ فيهِ أَحدٌ، أَقولُ في غباوةٍ: أنا أيضًا أَجتَرِئُ فيهِ. أَهُمْ عِبرانِيّون؟ فأنا أيضًا. أَهُمْ إسرائيليّونَ؟ فأنا أيضًا. أهُم نَسْلُ ابراهيمَ؟ فأنا أيضًا. أهم خُدّامُ الـمَسيح؟ أَقولُ كَمُختَّلِ العَقلِ، فأنا أَفضَلُ: في الأتعابِ أَكثَرُ، في الضَّرباتِ أَوفَرُ، في السُّجونِ أَكثَرُ، في الـمِيتاتِ مِرارًا كَثيرةً. مِن اليَهودِ خَمسَ مرّاتٍ قَبِلْتُ أربَعينَ جَلدةً إِلّا واحدةً. ثلاثَ مرّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصيّ، مَرَّةً رُجِمتُ، ثلاثَ مرّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفينَةُ، ليلاً وَنَهارًا قَضَيْتُ في العُمقِ. بأَسفارٍ مِرارًا كثيرةً، بأَخطارِ سُيُول، بأخطارِ لُصوصٍ، بأَخطارٍ مِن جِنْسِي، بأَخطارٍ مِنَ الأُمَمِ، بأَخطارٍ في الـمَدينةِ، بأَخطارٍ في البريَّةِ، بأَخطارٍ في البَحرِ، بأَخطارٍ مِن إخوةٍ كَذَبةٍ. في تَعَبٍ وَكَدٍّ، في أَسهارٍ مِرارًا كثيرةً، في جُوعٍ وعَطَشٍ، في أَصوامٍ مِرارًا كثيرةً، في بَرْدٍ وَعُرْيٍ. عَدا ما هُوَ دُونَ ذلِكَ: في التَّراكُمُ عليَّ كلَّ يومٍ، الاهتمامُ بِجَميعِ الكَنائِسِ. مَن يَضعُفُ وأنا لا أَضعُفُ؟ مَن يَعثُرُ وأنا لا أَلتَهِبُ؟ إِنْ كان يَجِبُ الافـتِخارُ، فسأَفتَخِرُ بأُمورِ ضُعفي. اللهُ أَبو رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، الّذي هو مُبارَكٌ إلى الأبدِ، يَعلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكذِبُ. في دِمشقَ، وَالِي الحارِثِ الـمَلِك كانَ يَحرِسُ مَدينَةَ الدِّمَشقِيِّينَ، يُريدُ أَنْ يُمسِكَني، فَتَدَلَّيْتُ مِن طاقةٍ في زَنْبِيل مِن السُّورِ، ونَجَوتُ مِن يَدَيهِ."

في هذا الإصحاح، يُخبرنا بولس عن الصّعوبات الّتي واجهَتْهُ في رسالته التبشيريّة إلى أهل كورنثوس، بسبب إخوةٍ مُعتَبَرين رُسلاً أو تلاميذَ رُسُلٍ، ولكنّهم في الحقيقة إخوةٌ كَذَبة، لأنّهم سعوا إلى تعطيلِ الإنجيل من خلال تشويهِهم لسُمعة بولس الرّسول. حاول هؤلاءِ الإخوةُ التشكيكَ بمصداقيّة بشارة بولس لأهل كورنثوس، من خلال التشكيك برسوليّته فقالوا فيه إنّه ليسَ بِرسولٍ أصيلٍ لأنّه ليسَ مِن رُسل يسوع الاثني عشر. إنّ بولس الرّسول قد كرَّس ذاته للبشارة بالإنجيل، وبالتّالي هو يجد أنَّ الردّ على ما يَطاله شخصيًّا من إشاعاتٍ هو مَضيعةٌ للوقت، لذا وَصَفَ بولسُ ردَّه على تلك الإشاعات، بـ"الغباوة". لقد اضطّر بولس إلى الدِّفاع عن نفسه، عندما رأى أنّ تلك الإشاعات ستؤدِّي إلى تعطيل الإنجيل، وإلى عرقلة مسيرة الخلاص في الوصول إلى النُّفوس. بعد أن دافع بولس عن نفسه، شكر أهل كورنثوس على إصغائهم إلى غباوته تلك. إنّ المؤمِنِين في عالمنا اليوم، يُعانون أيضًا ممّا عانى منه بولس: إذ تتعرَّض سُمعة كلِّ مؤمِنٍ يسعى إلى نقل البشارة للآخرين إلى التشويه، بهدف تحويل تفكير السّامعين له من السماويّات إلى الأرضيّات.
لقد وَلد بولس أهل كورنثوس في الإيمان، إذ إنّه هو الّذي بشَّرهم بالإنجيل، فاقتبلوا منه البشارة. إذًا، إنّ بولس يعتبر أنّ أهل كورنثوس هم أبناؤه في الإيمان وأنّ واجب رعايتهم مُلقىً على عاتقه. وكما أنّ الأب يقدِّم ابنته لعريسها في يوم زفافها، كذلك يقدِّم بولس رعيّته في كورنثوس، عروسًا لعريسها، يسوع المسيح، وهذا ما قصده بالقول: "لأنّي خَطَبْتُكم لِرَجُلٍ واحدٍ، لأُقدِّمَ عذراء عفيفةً للمسيح". إنّ غيرة بولس الرسوليّة على أهل كورنثوس هي غيرةُ أبٍ على أبنائه وقد تجرّأ على وَصفها بأنّها على مِثال "غيرة الله عليهم"، إذ إنَّه يهتمّ بهم ويقلق على مصيرهم الخلاصيّ، ويسعى لما فيه سعادتهم. إنَّ بولس الرّسول حذّر أهل كورنثوس من الوقوع في فخاخ الإخوة الكَذَبة الّذين يسعون إلى تشويه سُمعة الرُّسل، كما وَقعت حوّاء حين أصغت إلى مَكر الحيّة. كما حذّر بولس أهل كورنثوس من عدم السّماح لهؤلاء الإخوة بانتزاع بساطتهم الإنجيليّة الّتي نالوها من الربّ حين آمنوا به ربًّا ومُخلِّصًا. كما طلب منهم رَفضَ كلّ تعليمٍ مخالفٍ للإنجيل الّذي سَمِعوه منهم. لقد دافع بولس عن نفسه أمام أهل كورنثوس قائلاً لهم إنّه رَسولٌ كبقيّة الرُّسل، وإنّه نَقَل لهم البشارة بكلّ أمانة كما فَعل سائر الرُّسل الاثني عشر في المناطق الّـتي بشَّروا بها. ثمّ أضاف بولس قائلاً لهم إنَّ إخبارهم بالبشارة ببساطة، لا يدلّ أبدًا على عدم عِلمِه بالأمور اللّاهوتيّة، بل يدلّ على مدى محبّته لهم إذ حاول إيصال البشارة لهم بطريقة سهلة وبسيطة، كي يتمكّنوا من إدراكها بشكل أفضل، وهذا ما قصده بقَوله لهم: "أم أخطأتُ خطيئةً إذ أَذلَلْتُ نفسي كي ترتفعوا أنتم". إنَّ معاناة بولس مع أهل كورنثوس تُذكِّرنا بمعاناة يسوع مع تلاميذه، في اللّيلة الّتي كان يستعدّ فيها لآلامه الخلاصيّة: غلَب النُّعاس على التّلاميذ في بستان الزيتون، حين كان يسوع يصلّي للآب بعيدًا عنهم. لقد استاء يسوع لذلك التصرّف لأنّ التّلاميذ لم يتمكّنوا من السّهر معه في السّاعات الأخيرة من حياته، هو الّذي سَهِر على تلمَذَتهم، فعاتبهم بالقول: "ما بالكم نائمين؟"(لو 22: 46). لقد عانى يسوع أيضًا في تلك اللّيلة من خيانة يهوذا تلميذه، إذ سلَّمه إلى الجنود الرومانيّين، أي إلى الموت، بقُبلةٍ، أي أنّه استخدم إحدى علامات الحبّ وحوَّلها إلى علامةٍ للخيانة والـمَكر. لقد عاتب يسوع يهوذا بالقول: "يا يهوذا، أَبِقُبلةٍ تُسلِّم ابن الإنسان؟" (لو 22: 48).

لم يقبل بولس الرّسول بتقدِمات أهل كورنثوس، كي لا يتعطّل الإنجيل، إذ اتَّهموه بأنّه يبشِّرهم بكلمة الله، كي يحصل على القوت الأرضيّ منهم. فقرّر العمَل في كنائسَ أخرى مقابل أَجرٍ، ليتمكّن من تأمين احتياجاته الأرضيّة واحتياجات الرِّسالة في كورنثوس. وقد أخبر أهل كورنثوس بذلك، حين تعرّضَ لخيبة أملٍ كبيرة مِن قِبَلِهم، قائلاً لهم: "سَلَبْتُ كنائسَ أُخرى آخذًا أجرةً لأجل خدمَتِكم، وإذا كنتُ حاضرًا عندَكم واحتَجْتُ، لم أُثقِّل على أحدٍ". إنّ الكنائس الأُخرى الّتي خَدَمها بولس وبشَّرها، كانت تُرسِل إليه المساعدات حين كان في كورنثوس، ولم يتردّد يومًا في قبولها، لأنّه كان يعلم أنّ تقدِمات تلك الكنائس له تعبِّر عن محبّتها له، وبالتّالي فإنَّ الإنجيل فيها لن يتعطّل في قبوله لتلك العطايا.

إنّ الّذين حاولوا تشويه سُمعة بولس في كورنثوس، لم يكونوا من المؤمِنين الضُّعفاء النّفوس، بل كانوا من الرُّسل، أي من أصحاب السُّلطة والنّفوذ، بدليل اضطرار بولس للدِّفاع عن نفسه أمام تلك الإشاعات الّتي انتشرت بسرعةٍ بين المؤمِنِين. فمثلاً، حيت تصدر إشاعة من المؤمِنِين تجاه أحد الكهنة، فهي سُرعان ما تتبدّد، ولكن حين تصدر من رئيس كنسيّ ضدّ هذا الكاهن، فإنّها تؤدِّي إلى إثارة بلبلة في صفوف المؤمِنِين لأنّها صَدَرت من شخصٍ مسؤول في الكنيسة. لقد وَصَف بولس المشوِّهين لسُمعَته بأنّهم "رُسلُ كذَبة"، لا للدّلالة على أنّ ما يقولونه هو افتراء، بل للدّلالة على أنّهم خسِروا صِفتهم الرسوليّة حين سَعوا إلى تعطيل الإنجيل بإشاعاتهم هذه. كما أطلق عليهم صِفة الـمَكر أي أنّه شبَّههم بالحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير، إذ قال فيهم، إنّهم "فَعَلةٌ ماكِرون". فكما أنّ الشِّرير يُغيّر شكلَه مرتديًا ثيابَ ملاكِ النّور ليغِشَّ المؤمِنِين،كذلك هؤلاء "الإخوة الكَذَبة"، قد ارتدوا ثياب الرّسوليّة بهدف تعطيل الإنجيل. إنَّ شخصيّة بولس قد استفزّت العديد من الرّسل في الكنيسة، على الرّغم من أنَّه لم يكن صاحب مركزٍ في الكنيسة. لقد كان بولس رسولاً كبقيّة الرّسل، يعلِن كلمة الحقّ بكلّ أمانة، ولكنّ إعلانه لكلمة الحقّ قد أثرّت على مصالح بعض الرُّسل، فقرّروا تشويه سُمعته عند المؤمِنِين. إنّ جميع القدِّيسين في الكنيسة قد اختبروا معاناة بولس، إذ تعرّضوا لتشويه السُّمعة مِن قِبَل إخوتهم في الرّهبنة أو في الكهنوت، فَقِيل على سبيل الـمِثال في القدِّيس نكتاريوس إنّه شاذٌ جنسيًّا، وفي القدِّيس يوحنّا الذّهبي الفمّ إنّه تخلّى عن السماويّات واهتمّ بالأرضيّات لأنّه كان يستحمّ يوميًّا، مخالفًا بذلك التّقاليد الرّهبانيّة والكهنوتيّة في عصرِه، الّتي كانت تقوم على أن تكون رائحة جسد الرّاهب كريهةً تعبيرًا منه على نَبذِه لمجد الأرض، واهتمامه بمجد السّماء. غريبةٌ هي تلك العادات الّتي أدّت إلى تشويه سُمعة يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، في حين طَلَبَ الربُّ من أتباعه المؤمِنِين الاهتمام بنظافتهم وبشكلهم الخارجيّ، في قَوله لهم:"ادهِن رأسكَ واغسل وَجهك، لكيلا لا يظهر للنّاس أنّك صائمٌ، بل لأبيكَ الّذي في الخُفية، وأَبوك الّذي في الخفية هو يُجازِيك" (متى 6: 17-18). لقد اتُّهِم يوحنّا الذّهبيّ الفمّ بأنّه يهتمّ بالأرضيّات لا بالسّماويّات، لأنّه كان يأكل عسلاً، إذ كان يعلَم أنَّ العسل هو دواءٌ مُفيدٌ لكلّ داء. لقد نال القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ إقبالاً عند المؤمِنِين إذ كانوا يُصغون إلى عِظاته الطويلة من دون ملل، وكانوا يُصفِّقون له تعبيرًا عن إعجابهم بكلماته، أمّا هو فقد كان ينزعج من ذلك التَّصفيق، لأنّه كان يرغب بأنْ يتحوّل هؤلاء السّامعون بعد مُضي ثلاث سنوات على سماعه لعِظاته، إلى مبشِّرين بكلمة الله، في الكنائس المجاورة. وهنا السؤال يُطرَح: ماذا تُراهم سيَفعلون رعاة كنيستنا لو تمكّنوا من سماع عِظات القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: أكان نَمطُ حياتهم سيَتغيّر، أم تُراهم سيقومون بتشويه سُمعته للمحافظة على مصالحهم الخاصّة؟ إخوتي، إنّ الإنسان الحقود يفضّل قَتل الآخر معنويًّا من خلال الإشاعات، أكثر من قَتلِه جسديًّا، لأنّ القَتل الجسديّ قد يُحوّل الآخر إلى شهيدٍ في نظر الآخرين، أي إلى بطلٍ؛ أمّا في القَتل المعنويّ، فيتحوّل الآخر إلى أداةٍ للتحقير والسخريّة بسبب سُمعَته الّتي تتشوّه يومًا بعد يوم، وهذا ما يصبو إليه الإنسان الحقود.

أعلن بولس كلمة الله بكلّ أمانة، فقال إنّ الربّ قد مَنَح الخلاص لجميع المؤمِنِين دون تفرقة. إنّ هذه الحقيقة الإيمانيّة لم تلقَ ترحيبًا عند المسيحيّين الّذين كانوا من أصلٍ يهوديّ، فأطلقوا الإشاعات على بولس بهدف تشويه سُمعته، لأنّ ما يبشِّر به بولس، يخالف مصالحهم، فَهُم كانوا يعتقدون أنّ على كلِّ مؤمِنٍ مسيحيّ أن يعتنق اليهوديّة أوّلاً قبل إعلان اعتناقه المسيحيّة، لأنّه بحسب نَظَرِهم، جاء الخلاص للبشريّة من خلال اليهود. بالنسبة إلى بولس، إنّ جميع المؤمِنِين ينالون الخلاص متى آمنوا بالربّ، أكانوا من أصلٍ وثنيّ أم يهوديّ، وبالتّالي لا أفضليّة لأُمّةٍ على أُخرى، في الإيمان. إنّ هَدف بولس من البشارة هو تحقيق مجد الله لا مجد النّاس، لذا لم يراعِ خواطر "الإخوة الكَذَبة"، بتشويه الحقيقة، فكان أمينًا لكلمة الله. إنّ هذه البشارة لم تنَلْ إعجاب المؤمِنِين من أصلٍ يهوديّ، إذ كانوا يطمحون إلى التّباهي على بقيّة الأمُمَ، وهذا ما تطمح إليه بشريًّا كلّ أمّةٍ في الأرض، إذ تسعى إلى إبراز تمايُزِها عن الأُخرَيات، مُعتَبِرَةً ذاتها: "إنّها خَيرُ أمّةٍ أُخرِجَت للنّاس". هذا ما تعيشه كنيستُنا اليوم، فأصبحت كلّ كنيسةٍ تسعى للتّباهي على الأُخرى، مُعتَبرَة ذاتها أنّها الأفضَل، وأنّها الوحيدة في امتلاك حقيقة يسوع المسيح. على المؤمِنِين الحقيقيّين بالربّ يسوع المسيح، أن يسعوا لِنَقل بشارة الإنجيل بكلّ أمانة، فيعترفوا بأنّ جميع المؤمِنِين متساوون في الخلاص بإيمانهم بالربّ يسوع، كما يعترفوا بأنَّ إيمانهم بالربّ هو عطيّة مجانيّة منه، لذا عليهم نَقْلُ اختبار حبّ الله لهم للآخرين بفرح، وبمجانيّة تامّة. إنّ جميع المؤمِنِين بالمسيح، متّفقون على أنّ الربّ قد مات على الصّليب وقام من بين الأموات لأجل خلاصهم، وقد مَنحهم بقيامته الحياةَ الأبديّة، وبالتّالي لا خلاف مع بولس على هذا الصّعيد، ولكن ما شكَّل سببًا للخلاف بين بولس و"الإخوة الكَذَبة" هو اعتراف بولس أنّ جميع المؤمِنِين متساوون في الإيمان أمام الربّ.

إنّ كلامَ بولسَ غير مقبولٍ بشريًّا بدليل أنّ معظم الخلافات بين البشر سببُها الأساس، هو أنَّ أحد أطراف النِّزاع ينظر بفوقيّة إلى الطرف الآخر، إذ يعتبر نفسه أفضَل منه، وبالتّالي تكمن مشكلة البشر في عدم قبولهم بمساواتهم مع الآخرين. وهنا نطرح السؤال على ذواتنا: كيف نطبِّق إيماننا بالمساواة مع جميع البشر، في حياتنا اليوميّة؟ إنّ جميع النّاس وبخاصّة المؤمِنِين منهم، يسعون إلى الظّهور والجلوس في المراتب الأُولى: فمثلاً في احتفالات العشاء الّتي تنظِّمها المنظّمات الكنسيّة، نلاحظ أنّ بعض المؤمِنِين يسارعون إلى مغادرة الحَفل، عندما يجدون أنّ طاولاتهم بعيدةٌ عن الأضواء. كما أنّنا نجد بعض المؤمِنِين يسارعون إلى الجلوس في الصُّفوف الأماميّة في الكنيسة، نظرًا للمركز المرموق الّذي يحتلّونه في الحياة المدنيّة، ولِلَفت الأنظار إليهم،كونُهم لا يحضرون إلّا نادِرًا إلى الكنيسة أي في المناسبات الكبرى. وإن تجرّأ أحد الكهنة على إعطاء ملاحظة لأولئك في هذا الشأن، عرَّضوا سُمعته للتشويه في كافّة مجالسهم، فيتعطّل الإنجيل إذ يُنبَذ الكاهن في رعيّته، فلا يعود كلامه مسموعًا منهم. إنّه من الصَّعب على الإنسان القبول بالمساواة بينه وبين سائر النّاس، وهذا ما يختبرُه المؤمِنون يوميًّا، في تربيتهم لأطفالهم ونقاشهم معهم، في حديث المعلِّمين مع تلامِذَتهم وحديث التّلامِذة مع معلِّميهم، في حديث أرباب العمل مع أُجرائهم وحديث هؤلاء مع أرباب عَمَلِهم. وإليكم في هذا الصَّدد، مَثلٌ إنجيليٌّ، لتوضيح هذه المسألة، وهو مَثل الكرّام الّذي ذَهب لإحضار فَعلةٍ إلى كرمِه، منذ الصّباح الباكر. وفي ختام هذا النّهار، ساوى ربّ العمل جميع الفعلة، فأعطاهم جميعًا الأَجر نفسه، ممّا أدّى إلى ثورة عمّال الصّباح لأنّهم تَعبوا أكثر من سواهم، وبالتّالي كانوا ينتظرون أَجرًا أفضل من الّذين عَملوا ساعةً واحدة. إنّ ما اختبره هؤلاء العمّال، يختبره أيضًا بعض المؤمِنِين في الكنيسة في زمن الفِصح، إذ يعتقد المؤمِنون الّذين التزموا بمسيرة الصّوم أنّهم أفضل من إخوتهم الّذين لم يتمكّنوا من الالتزام بالصّوم، ولذا يتفاجأون حين يجدون أنّ الّذين لم يتمكّنوا من المشاركة في الصّوم الكبير يشعرون بفرَح الفِصح أيضًا كسِواهم من الصائمين، لا بل ويسارعون قبل الآخرين إلى الحصول على المناولة القربانيّة. إخوتي، إنّ الصّوم لا يُعطينا أفضليّة على سوانا من المؤمِنِين،كما أنّ فَرح العيد ليس مرتبطًا بمدى التزامنا بالصوّم الكنسيّ. إنَّ الله في جوهره يعلِّمنا على المساواة: فالله هو ثالوثٌ أي أنّه ثلاثة أقانيم: الله الآب، والله الابن، والله الرّوح القدس، وجميع هذه الأقانيم متساوية في الجوهر، أي أنّ كلّ واحدٍ منهم فريدٌ في عملِه، من دون أن يكون لأيّ أقنوم من الأقانيم أهميّة أكبر من الأقنومَين الآخرَين. إنّ الله، بجوهره وطبيعته، يدعونا إلى التمثُّل به وإلى عيش المساواة بين بعضنا البعض.

إذًا، ليست المساواة، فِكرةً بشريّة من اختراع بولس، بل هي فِكرة إلهيّة من تصميم الله. إنّ المحبّة تُعاش أفقيًّا، أي بالمساواة، لا عاموديًّا، أي بالفوقيّة أو الدونيّة بين البشر. كان بولس على حقٍّ في ما أعلنه للمؤمِنِين، وبالتّالي بأيِّ حقٍّ شوّه الإخوة الكَذَبة سُمعَة بولس؟ لقد أكّد بولس على فِكرة المساواة بينه وبين سائر الرّسل من حيث الهويّة حين قال:" أَهُمْ عِبرانِيّون؟ فأنا أيضًا. أَهُمْ إسرائيليّونَ؟ فأنا أيضًا. أهُم نَسْلُ ابراهيمَ؟ فأنا أيضًا". أمّا من ناحية الخِدمة الرسوليّة، فتجرّأ بولس على القول إنّه أفضل من سائر الرّسل، كَونه عانى أكثر منهم في الرِّسالة، معدِّدًا أمام أهل كورنثوس ما ناله من الاضطهادات جرّاء إعلانه لكلمة الله: "أَهُم خُدّامُ الـمَسيح؟ أَقولُ كَمُختَّلِ العَقلِ، فأنا أَفضَلُ: في الأتعابِ أَكثَرُ، في الضَّرباتِ أَوفَرُ، في السُّجونِ أَكثَرُ، في الـمِيتاتِ مِرارًا كَثيرةً. مِن اليَهودِ خَمسَ مرّاتٍ قَبِلْتُ أربَعينَ جَلدةً إِلّا واحدةً. ثلاثَ مرّاتٍ ضُرِبتُ بالعِصيّ، مَرَّةً رُجِمتُ، ثلاثَ مرّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفينَةُ، ليلاً وَنَهارًا قَضَيْتُ في العُمقِ. بأَسفارٍ مِرارًا كثيرةً، بأَخطارِ سُيُول، بأخطارِ لُصوصٍ، بأَخطارٍ مِن جِنْسِي، بأَخطارٍ مِنَ الأُمَمِ، بأَخطارٍ في الـمَدينةِ، بأَخطارٍ في البريَّةِ، بأَخطارٍ في البَحرِ، بأَخطارٍ مِن إخوةٍ كَذَبةٍ. في تَعَبٍ وَكَدٍّ، في أَسهارٍ مِرارًا كثيرةً، في جُوعٍ وعَطَشٍ، في أَصوامٍ مِرارًا كثيرةً، في بَرْدٍ وَعُرْيٍ." لم يفتخر بولس بمركزٍ ناله في البشارة، بل هو افتخر بالعذابات الّتي نالها في أثناء عملِه كرسول. إنّ البشر يفتخرون بإنجازاتهم لا بهَوانهم، أمّا بولس فيفتخر بضعفه لا بقوّته، ولذا لا يتردّد في عرض لائحة بالاضطهادات الّـتي عاناها في مسيرته التبشيريّة بالربّ. إنّ بولس الرّسول هو مِثال الرّاعي الحقيقيّ: فهو يتألّم، حين يرى أحد أبنائه متعثّرًا في الإيمان، أي أنّه يريد التّراجع عن إيمانه بالربّ نتيجة الصّعوبات الّتي تواجهه في حياته. إنّ بولس قد تعرَّض للملاحقة مِن قِبَل والي الدِّمشقيّين، فما كان مِن بولس إلّا أن أسرع بالهرب منه، متدلِّيًا مِن أعلى السّور في سلّة.

إنّ بولس يُذكّر أهل كورنثوس، في هذا الإصحاح، أنّه عانى الكثير من الاضطهادات في سبيل البشارة بكلمة الله، وبالتّالي مَن تَحمّل كلّ تلك الآلام في سبيل الرِّسالة، أيستطيع تعطيل الإنجيل من أجل منصبٍ، أو قوتٍ أرضيّ، أو مجدٍ دنيويّ؟ إنّ بولس يؤكِّد لأهل كورنثوس أنّ هَدَفه من تبشيرهم بالإنجيل هو حصولهم على الخلاص الّذي لا يستطيع أحدٌ منَحهم إيّاه سوى الربّ. إنّ عالـمَنا اليوم، بأمسّ الحاجة إلى رُسل أمثال بولس، إذ لا يعود بإمكاننا اعتبار بعض المؤمِنِين الّذين يقفون على أبواب الكنيسة لجمع التبرعات "رُسُلاً"، عندما نسمع بمعاناة بولس في سبيل الرِّسالة. كيف يمكننا أن نسمّي أنفسَنا رُسلاً عندما نَجِد أنّ بعضًا منّا، نحن المؤمِنِين يتجرّأ على التشكيك بمصداقيّة البشارة الّتي وَصَلت إلينا من خلال الرُّسل؟ إنّ متّى الرّسول كان يُطلق على الرّسل، عبارة "تلاميذ"، في حين أنّ يوحنّا الرّسول يُطلق على يسوع عبارة "الرّسول"، أي أنّه حَسب متّى، التّلاميذ يبقَون تلاميذَ للربّ، مهما تقدّموا في معرفتهم له؛ أمّا حسب يوحنّا، فلا وجود لرسولٍ آخر سوى يسوع المسيح، فهو "الرّسول" الوحيد، أما الرّسل الاثني عشر، ونحن الرّسل في هذا العالم، فمتساوون في نَقل البشارة للآخرين، فلا فرقَ بين بطرس أو بولس، وبيننا، نحن المؤمِنِين في هذا العالم، في نَقل البشارة، فنحن جميعًا متساوون في التّلمذة. قد يقول البعض إنّ بطرس هو أفضل منّا وأعظم منّا لأنّه رأى الربّ وعاش معه، أذكِّركم بأنَّ الربّ نفسه قد أعطى الطوبى لنا، إذ قال حين ظهوره لتوما: "طوبى للّذين آمنوا ولم يَروا". إنّ الربّ قد باركنا، نحن المؤمِنِين به، قَبل أن نولَد من أحشاء أمّهاتنا، ودعانا للإيمان به. إذًا، لا فرقَ بيننا وبين الرّسل الاثني عشر من حيث التّلمذة، أو دعوة الربّ لنا للإيمان والتبشير به. إنّ الربّ هو الرّسول الوحيد، هو الوحيد الّذي يملك حقيقة الربّ، وقد أظهرها لنا، وطلب منّا إخبار الآخرين بها. إنّ الربّ قد ساوانا بالرّسل الاثني عشر، فمَن أين نحصل على الحقّ للتمييز بين المؤمِنِين؟ إنّ التمييز بين المؤمِنِين يدلّ على عِطلٍ في التفكير البشريّ.
إنّ المساواة بين المؤمِنِين انطلاقًا من إيمانهم بالربّ، لا تعني أبدًا المساواة بينهم على مستوى المواهب: فقد يبرعُ مؤمِنٌ في القيادة وآخر لا، وبالتّالي لا يجوز لنا إعطاء القيادة لِمَن لا يستطيع القيادة متسلِّحين بفكرة المساواة، لأنّ التسلُّح بالمساواة هنا قد يؤدِّي إلى غرق السَّفينة وإهلاكِها. إنّ الربّ قد سلّم مسؤوليّة قيادة الكنيسة إلى رعاتها، وبالتّالي لا يحقّ لهم، مراعاة خواطِر البعض عندما يتعلَّق الأمر بإيمان الكنيسة، لأنّ الربّ قد وَضع بين أيديهم مسؤوليّة هلاك النّفوس أو خلاصِها. إذًا، جميع البشر سينالون الخلاص نفسه من الربّ إن آمنوا به، ولكن حين يتعلَّق الأمر بِبُنيان الكنيسة، فلا يجوز لنا التَهاون في ذلك، من أجل الحصول على مديحِ النّاس، فنُعطي مسؤوليّةً معيّنة في الكنيسة لِمَن ليس أهلاً لها، مراعاة لخواطِر البعض، بحجّة المساواة. إنّ قبولَنا بإعطاء المسؤولية لِمَن لا يستحقّها يجعلنا "إخوة كَذَبة"، أي أنّنا نهدِف في مهمّتنا الرسوليّة إلى إرضاء النّاس لا إلى إرضاء الله، وهذا سيؤدِّي إلى فشلٍ وانقسامٍ في جسد المسيح السريّ. إنّ بولس لم يتهاوَن في المسؤوليّة الّتي أَوكَلَه بها الربّ، لذا تخلّى عن كلّ تلاميذه الّذي ساهموا في تعطيل الإنجيل في بعض الكنائس، أمثال برنابا، وبالتّالي لم يبقَ معه سوى تلميذٍ واحدٍ، هو تيموثاوس. كذلك الربّ لم يتهاوَن أبدًا مع تلاميذه، حين كانوا يُعطِّلون مسيرته الخلاصيّة، إذ قد تجرّأ الربّ على القول، لبطرس، رئيس رُسُلِه:"سِر خلفي يا شيطان"، حين كانت أفكاره غير منسجمة مع تفكير الله. لم يكن الإنجيل قادرًا على الوصول إلينا بالشَّكل الّذي وَصل به إلينا، لو أنّ الربّ سعى إلى إرضاء بطرس في أفكاره، وبولس سعى إلى إرضاء رغبات سامعيه. إنّ الرّسول النّاجح في رسالته هو ذاك الّذي يسعى بكلّ طاقاته، إلى إرضاء الله وحده من دون الآخرين، غير آبهٍ لمحبّة الآخرين لشخصه، وتعاطفهم معه، إذ على الرّسول إيصال كلمة الحقّ وحدها بكلّ أمانة، ومن دون مراوغة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
27/2/2018 رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح العاشر التّعليم والرعاية
https://youtu.be/g0nZaUElzn8

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح العاشر
الأب ابراهيم سعد

27/2/2018

"ثُمَّ أَطلُبُ إِلَيْكُم بِوَداعَةِ المسيحِ وَحِلمِه، أنا نَفسِي بُولسُ الّذي في الحَضرَةِ ذَليلٌ بَينَكُم، وَأَمَّا في الغَيْبَةِ فَمُتَجاسِرٌ عليكُم. وَلَكِنْ أَطلُبُ أنْ لا أَتجاسَرَ وأنَا حاضِرٌ بالثِّقَةِ التّي بِها أَرَى أَنِّي سَأَجتَرِئُ على قومٍ يَحسَبُونَنا كَأَنَّنا نَسلُكُ حَسَبَ الجَسَدِ. لِأَنَّنا وَإِنْ كُنَّا نَسْلُكُ في الجَسَدِ، لَسْنا حَسَبَ الجَسَدِ نُحارِبُ. إذ أَسْلِحَةُ مُحارَبَتِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قادِرَةٌ باللهِ على هَدمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرتَفِعُ ضِدَّ مَعرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِيْنَ كلُّ فكرٍ إلى طاعةِ المسيحِ، وَمُستَعِدِّينَ لِأَن نَنتَقِمَ على كلٍّ عِصْيانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طاعَتُكُم. أَتَنظُرُونَ إلى ما هُوَ حَسَبَ الحَضْرَةِ؟ إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيحِ، فَلْيَحسِبْ هذا أَيضًا مِن نَفسِهِ: أَنَّهُ كَما هُوَ للمَسيحِ، كَذَلِكَ نَحنُ أيضًا للمَسيحِ! فَإِنِّي وَإِنْ افتَخَرْتُ شَيئًا أَكثَرَ بِسُلْطانِنا الّذي أَعطانا إِيَّاهُ الرَّبُ لِبُنيانِكُم لا لِهَدمِكُم، لا أُخْجَلُ. لِئَلّا أَظهَرَ كَأَنِّي أُخيفُكُم بالرَّسائِل. لِأَنَّهُ يَقولُ:"الرّسائِلُ ثَقِيلَةٌ وقَوِيَّةٌ، وَأَمَّا حُضُورُ الجَسَدِ فَضَعيفٌ، وَالكَلامُ حَقيرٌ". مِثْلُ هذا فَلْيَحْسِبْ هذا: أَنَّنا كَما نَحنُ في الكَلامِ بالرَّسائِلِ وَنَحنُ غائِبونَ، هَكَذا نكونُ أَيضًا بالفِعلِ وَنَحنُ حاضِرُونَ. لِأَنَّنا لا نَجتَرِئُ أَنْ نَعُدَّ أَنفُسَنا بينَ قَومٍ مِنَ الَّذينَ يَمَدَحُونَ أَنفُسَهُم، ولا أَنْ نُقابِلَ أَنفُسَنا بِهِم. بَلْ هُم إذ يَقيسُونَ أَنْفُسَهُم على أَنْفُسِهم، ويُقابِلُونَ أَنفُسَهُم بِأَنفُسِهِم، لا يَفهَمُونَ. وَلَكِنْ نَحنُ لا نَفتَخِرُ إلى ما لا يُقاسُ، بَلْ حَسَبَ قِياسِ القانونِ الّذي قَسَمَهُ لنا اللهُ، قِياسًا للبُلُوغِ إِلَيْكُم أَيضًا. لِأَنَّنا لا نُمَدِّدُ أَنفُسَنا كَأَنَّنا لَسْنا نَبلُغُ إلَيْكُم. إِذ قَدْ وَصَلْنا إِلَيْكُم أَيْضًا في إِنجيلِ الـمَسيْحِ. غَيرُ مُفتَخِرينَ إلى ما لا يُقاسُ في أَتعابِ آخَرينَ، بل رَاجينَ إذا نَما إيمانُكُم أنْ نَتَعَظَّمَ بَيْنَكُم حَسَبَ قانُونِنا بِزِيادَةٍ، لِنُبَشِّرَ إلى ما وَرَاءَكُم. لا لِنَفتَخِرَ بالأُمورِ الـمُعَدَّةِ في قانونِ غَيْرِنا. وَأَمَّا:"مَن افتَخَرَ فَليَفْتَخِرْ بالرَّبِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفسَهُ هُوَ الـمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الربُّ."

يَختُمُ بولس الرّسول هذا الإصحاح بالقول إنَّ ليس الـمُزكّى مَن يَمدَح نفسه أو يتلقَّى الـمَديح من الآخرين، بل الـمُزكّى هو مَن ينال الـمَديح مِن الربّ. إنّ الربّ يَمدَح المؤمِنِين به في اليوم الأخير، أي في يوم الدّينونة لا في هذه الحياة، وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يسعى للقيام بما يجعله مستحقًّا لـمَديح الربّ في يومِ انتقاله من هذا العالم، حين يقف أمام عرشه للدينونة. إنّ مَديح النّاس لنا مرتبطٌ بمدى انسجامِ أعمالِنا مع أهوائهم ورغباتهم الأرضيّة، لا بمدى تَطابُقِ أعمالِنا مع كلمة الله الحقّة، أي أنّنا ننال الـمَديح من النّاس عندما نقوم بما يُرضيهم لا بما يُرضي الله. ففي بعض الأحيان، قد يقوم إنسانٌ بما يستحقّ الـمَديح من دون أن ينالَه من النّاس لأنّ ما قام به لا يُرضي أهواءهم؛ في حين أنّ آخرَ قد يقوم بعملٍ سيِّئٍ ويحصل على الـمَديح لأنّ ما قام به أرضى أهواء النّاس ورغباتهم. إذًا، إنَّ مَديح النّاس لنا لا يدلّ على أنَّ ما قُمنا به هو صالحٌ وحقّ، بل يدلّ على أنّ ما قُمنا به تلاقى مع مِزاجيّتهم. وهنا نستنتج أنّه ليس على الإنسان الافتخار بممتلكاته الأرضيّة ومَديح النّاس له، بل عليه الافتخار فقط بالربّ الّذي منه ينال الـمَديح الحقيقيّ.

أعطى بولس الرّسول أهل قورنتس تعليمًا إيمانيًّا في الرسائل الّتي كَتبها إليهم، أي في غيابه عنهم، وقد خاطبهم بقساوة وحزمٍ، لأنّ التَّعليم لا يقبل تهاونًا أو مراوغة. أمّا حين كان يزورهم، فإنّه كان يفتقدهم كالأب الّذي يحرص على رعاية أبنائه، فيقوِّم مسيرة الّذين ضلّوا الطريق ويُثَبِّت السّالكين في طريق الحقّ، ولذلك كان يتعامل مَعهم باللِّين خاصّة أنّه كان مُدرِكًا أنَّ بعضًا من أهل هذه المدينة يشكِّكون في رسوليّته كَونه لم يكن مِن تلاميذ يسوع الاثني عشر. وهذا ما قصده في بداية هذا الإصحاح، بقوله لهم: "أنا نَفسِي بُولسُ الّذي في الحَضرَةِ ذَليلٌ بَينَكُم، وَأَمَّا في الغَيْبَةِ فَمُتَجاسِرٌ عليكُم". لقد اتَّهم البعض من أهل قورنتس بولسَ الرّسول ومعاونيه في الرِّسالة أنّهم "يسلِكون بحسب الجسد"، أي أنّهم يبشِّرون بكلمة الله لا مِن أجل خلاص النّفوس، بل من أجل الحصول على القوت الأرضيّ. عند سماعه تلك الإشاعات، وَجَدَ بولس ضروةً للدّفاع عن نفسه لا مِن أجل الحفاظ على كرامته وكرامة معاونيه، بل مِن أجل الحفاظ على البشارة الّتي يُعلنونها، إذ في انتشار مِثل تلك الإشاعات تعطيلٌ للإنجيل، وهذا ما لا يستطيع بولس القبول به. لم يكن هدف أولئك المشكِّكين برسوليّة بولس، الخوف على خلاص نفوس أهل كورنثوس والحفاظ على إيمانهم من دون أيّ زعلٍ، بل كان هدفهم تشويهَ سُمعةِ بولس كي يُصبح غير مقبولٍ بين أهل كورنثوس، وبالتّالي تُصبح بشارته أيضًا مرفوضة. لقد كان بولس مُدرِكًا أنّه يخوضُ حربًا لا ضدّ أشخاصٍ جسديّين، بل ضدّ "حُصون"، أي ضدّ أفكارٍ وظنون سيئة. في عالمنا اليوم، نخوض، نحن المسيحيّين، حروبًا لا ضدّ لحمٍ ودَمٍ بل ضدّ أفكار هذا العالم، ضدّ بِدَعٍ تهدف إلى إلغاء المسيح وتعاليمه من عالمنا. إنّ هذا النّوع من الحروب لا يمكن التغلّب عليه إلّا من خلال إصرار المؤمِن على طاعته لكلمة الله والعيش وِفقها على الرّغم من كلّ الصّعوبات الّتي يواجهها في حياته اليوميّة.

إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من العُصيان لكلمة الله، أي أنّه يسعى إلى التمردّ على كلمة الله ورَفضِها في حياته. وحالة العُصيان هذه، تؤدّي إلى زعزعة ملكوت الله الحاضر فيما بيننا، والّذي لا يعود إليه سلامُه إلّا من خلال عودة المؤمِنِين إلى طاعة كلمة الله. ليست الطاعة لله مبادرةً تَصدرُ عن الإنسان تجاه الله، بل هي جوابُ الإنسان على مبادرة الحبّ الّتي قام بها الله تجاهه وتجاه البشر جميعًا. إنّ الطّاعةَ نوعان: طاعةٌ لا إراديّة كطاعة العبد لسيِّده، وطاعة إراديّة كطاعة الحبيب لحبيبه. إنَّ طاعة العبد لسيِّده هي طاعةٌ لا إراديّة، وهي تنطوي على حقدٍ وكراهيّة في داخل العبد على سيِّده، إذ يسعى العبد للثّورة على ظُلمِ سيِّده عند أوّل فرصةٍ. أمّا الطاعة الإراديّة فهي طاعةُ الحبيب لحبيبه، وهي تنطوي على الحبّ، فيطيع الحبيبُ حبيبَه لا خوفًا منه، بل لأنّه يجد في ذلك وسيلةً لإسعاد حبيبه، وهذا هو هدفُ حبِّه له. ولكن حين لا يطيع الحبيب حبيبه ويطرح السؤال على ذاته حول مسألة ضرورة الطاعة لحبيبه أو عدمها، فهذا يشير إلى وجودِ خللٍ في تلك العلاقة، وهو: إمّا عدم شعور الحبيب بأنّه محبوبٌ من الطرف الآخر، أو أنّ الحبيبَ يرفض الحبّ من الطرف الآخر على الرّغم من شعور الحبيب بحبّ الطرف الآخر، أو أنّ الحبيبَ يشعر بعدم قدرته على مبادلة الطرف الآخر الحبّ. في أثناء الاحتفال برتبة الإكليل المقدَّس، تُتلى على مسامِعنا قراءاتٌ من مار بولس فيه تذكير للنِّساء بضرورة الطّاعة لأزواجهنَّ، وتذكيرٌ للرِّجال بضرورةِ محبّةِ نسائهم على مثال حبّ المسيح لكنيسته؛ فَبُولس الرّسول في رسالته إلى أهل أفسس يقول: "أيتّها النِّساء، اِخضَعْنَ لِأَزواجِكنَّ" (أفسس 5: 22)، و"أيّها الرِّجال أحبّوا نساءَكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وجاد بنفسه مِن أجلها" (أفسس 5: 25). لم يكن هدف بولس أن يحافظ على طابع الذكوريّة الموجود في مجتمعنا، وأن يقوم بإصلاحٍ إجتماعيّ للنِّساء والرِّجال، بل كان هدَفه أن يعطي توجيهًا لاهوتيًّا للمؤمِنِين من خلال سرّ الزّواج، مفادُه أنّه على الحبّ البشريّ أن يشكِّل انعكاسًا لحبّ المسيح لكنيسته. لن تتردّد المرأة في طاعة زوجِها، عندما تجد فيه حبًّا عظيمًا لها يقوده للموت من أجلها على مِثال المسيح الّذي بَذَل نفسَه من أجل خلاص كنيسته. ولكن حين تشكّك المرأة في حبّ زَوجِها لها، ستطرَح السؤال على ذاتها حول إلزاميّة الطاعة لزَوجها، وعندئذٍ ستضطرب علاقتهما. كذلك هي حالة المؤمِن مع ربِّه: فحين يشعر المؤمِنُ بحبّ الله له، فإنّه لن يتردّد في طاعته وفي حِفظ كلامه وسيتعامل معه كابنٍ مع أبيه أو كحبيب مع حبيبه، وسيكون قانون الحبّ هو الّذي يحكم تلك العلاقة. أمّا إن لم يشعر المؤمِن بحبّ الله، فهو سيرفض طاعته، وسيتعامل معه كالعبد مع سيِّده أو كأجيرٍ مع ربّ عَمَلِه، وهنا تظهر ضرورةُ وجود قانون يحكم تلك العلاقة، غير قانون الحبّ. إنّ الوصايا قد أُعطِيَت للشَّعب، لأنّ الشَّعب لم يعد يشعر بحبّ الله له، ممّا أوجَب ضرورة وجود قانون آخر غير قانون الحبّ ليحكم علاقة الله بشعبه، فكانت الوصايا وسيلةً تساعدهم على اكتشاف حبّ الله لهم من جديد. إنّ المؤمِن يشعر براحة الضَّمير حين يطبِّق الوصايا، لأنّه يرى فيها تطبيقًا لمشيئة الله.

إنَّ عالمنا اليوم يدعو المؤمِنِين بالمسيح إلى التخلّي عن طاعتهم له والتمردّ عليه، من خلال القبول بما يُقدِّمه لهم هذا العالم من أفكارٍ وذهنيّات جديدة، وبِدَعٍ مناهضة للإنجيل ولتعاليم الربّ. على رعاة الكنيسة، في ظلّ هذا الصِّراع الّذي يعيشه المؤمِنون، أن يسهروا على تثبيت هؤلاء في الإيمان الصّحيح، وأن يطلبوا من الربّ مَنحَهُم نعمةَ التّمييز ليُرشِدوا المؤمِنِين إلى أفكار الله لا إلى أفكار العالم. إنّ هذا الأمر يفرِض على الكهنة أن يتخلّوا عن حبّهم لإظهار ذواتهم أمام الشَّعب للحصول على الـمَديح منهم. على الكهنة أن يسهروا على ذواتهم كي لا يتحوّلوا إلى أداةٍ في يد الشِّرير تهدِف إلى تقسيم جسد المسيح. وفي هذا الصَّدد، نتذكّر صلاة بولس الرّسول إلى أهل فيلبيّ: "وما أطلبُ في الصّلاة هو أن تزدادَ محبّتُكم معرِفةً وكلُّ بَصيرَةٍ زيادةً مُضاعفة، لتميِّزوا الأَفضل فتُصبحوا سالمين لا لومَ عليكم في يوم المسيح، ممتلئِين من ثَمَرِ البِرِّ الَّذي هو مِن فضلِ يسوعَ المسيح تمجيدًا وتسبيحًا." (فيلبي 1: 9-11).

كانت كورنثوس مدينة وثنيّة، وقد قَبِلَت البشارة بالإنجيل على يد بولس الرّسول، فعَبَّر بعضُ أبنائها عن قبولهم للمسيح، فاقتبلوا سرّ العماد وأصبحوا مسيحيّين. عندما اقتبل أهل كورنثوس البشارة، أصبحوا في حيرةٍ مِن أمرِهم ما بين تطبيق العادات الوثنيّة ونَقلِها إلى المسيحيّة وما بين رَفضِها، وإحدى تلك العادات الّـتي أثارت بلبلةً بين المؤمِنِين، هي تغطية الرأس. ففي الوثنيّة، كانت المرأة تضع منديلاً على رأسها ولا تخلعه إلّا من أجل إغراء إلهها واسترضائه. أراد بعض المؤمِنِين في كورنثوس المحافظة على تلك العادات، بينما رَفَضَ البعض الآخر المحافظة عليها في تعبيرٍ منهم على تخلِّيهم عن الوثنيّة وعن عاداتها. وعندما وَجد بولس أنّ هذه المسألة قد تفاقمت وكادت تؤدِّي إلى انشقاقٍ في الكنيسة، أي إلى انقسام جسد المسيح، تَدَخّل بولس محاوِلاً إيجاد حلٍّ لها، فطلبَ مِن النِّساء المحافظة على تلك العادة، كي لا يشكِّكنَ بتصرّفاتهنَّ ضُعفاء النّفوس في الإيمان. في معالجته لهذه المسألة، أظهر بولس دوره الرِّعائي لأهل كورنثوس، إذ لم يتدخَّل في حلّ تلك المسألة للتركيز على موضوع أخلاقيّ وهو الحِشمة، أو لإظهار نوعٍ من العنصريّة تجاه المرأة، بل تَدخَّل ليحمي ضُعفاء النّفوس من الانزلاق من جديد نحو الوثنيّة، عاملاً على تشديدهم في الإيمان.

إنَّ عالمنا اليوم، يُعاني من خطر العودة إلى الوثنيّة. ففي حين لم يعد الكشف عن الرأس يشير إلى عبادتنا لآلهةٍ غريبةٍ، نجد أنّ بعض النِّساء لا يزَلْن محافظات على هذه العادة خاصّة أثناء الصّلاة. والـلّافِت للنَّظر أنّ النِّساء المكشوفات الرأس يَسْمَحْنَ لأنفسهنَّ بانتقاد النِّساء المحافظات، في حين أنّه في الماضي كان الأمر معكوسًا. هنا يظهر دور رعاة الكنيسة في توضيح هذه المسألة للمؤمِنِين، فيخبرون هؤلاء أنّ الهدف مِن المحافظة على هذه العادة الوثنية هو التزام الحِشمة، وبالتّالي على النِّساء المكشوفات الرأس احترام النِّساء اللّواتي غطَّيْنَ رؤوسهنَّ، كما أنَّه على النِّساء المكشوفات الرأس الالتزام بأبسط قواعد الحِشمة، إذ ليست الكنيسة مكانًا لإظهار مجدنا الشخصيّ بل هي مكانٌ كي يظهر مجد الله من خلالنا. على الرّعاة أيضًا أن يشدِّدوا على أنّ الحِشمة ضروريّة في الكنيسة لأنّه كما أنّ الربّ قد سَتَر عيوبَنا بموتِه وخلَّصَنا، علينا نحن أيضًا أن نستُرَ أجسادنا كي لا تُسبِّب قلّة حِشمتنا سببًا لعثرة ضُعفاء النّفوس في الإيمان. قبل توجيه الملاحظات للمؤمِنِين، على الرّعاة أوّلاً أن يُعلِّموا الشَّعب ويشرحوا له معنى الحِشمة. على الرّعاة أن يوجّهوا ملاحظاتهم للمؤمِنِين من دون أذيّةِ مشاعرهم، كي لا تتحوّل تلك الملاحظات إلى سببٍ لابتعاد المؤمِنِين عن الله وعن كنيسته. إنّ جسد الإنسان كلّه يتألّم حين يعاني أحد أعضائه من الألم؛ كذلك نحن أيضًا، إذ إنّ الكنيسة بأسرها تتألّم حين يبتعد أحد أبنائها عنها، لأنّ المؤمِنِين يشكِّلون جسد المسيح السريّ، وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يَنتَبِهَ لتصرّفاته خاصّة في الكنيسة فلا يكون سببَ عثرةٍ لأخيه، ضعيف الإيمان. على الرّعاة، أن يوجّهوا الملاحظات إلى المؤمِنِين لِبُنيانِهم لا لهَدمهم، فتكون تلك الملاحظات سببًا في خلاص إخوتهم المؤمِنِين لا في هلاكهم. على المؤمِنِين طاعة رؤوسائهم الروحيّين والإصغاء إلى إرشادتهم لِـما للمسؤولين من إلمامٍ روحيّ وتعمّق في كلمة الله، ولكن على الرّعاة عدم استخدام هذا الحقّ في طاعة المؤمِنِين لهم، لِتَحويل هؤلاء إلى عبيدٍ لهم، وأن يُعطوا أنفسَهم الحقّ في السيادة عليهم، لأنّ الرِّعاية هي أمانةٌ من الربّ أُعطِيَت للرّعاة من أجل إيصال المؤمِنِين إلى طريق الخلاص. على الرُّعاة أن يوجِّهوا الشَّعب إلى تحقيق مجد الله من خلال تحقيقهم لمشيئته القدّوسة في حياتهم، لا إلى تحقيق رغبات الرُّعاة وأهوائهم. على الرّعاة أن يسهروا على توعية المؤمِنِين وتنشئتهم، من خلال نَقلِ المعرفة اللّاهوتيّة الّتي يتمتّعون بها إلى المؤمِنِين، قبل أن يتصرّف الرّعاة بما قد يثير الشَّكّ في النّفوس الضَّعيفة إيمانيًّا. على الرّعاة احترام النّفوس الضَّعيفة ومساعدتها لا تَجاهُلَها وتشكيكَها.

لم تكن العادة الوثنيّة القائمة على تغطية الرأس، العادة الوحيدة الّتي كادَتْ تَتَسبَّب بانقسامِ الكنيسة في كورنثوس، بل إنّ مشاركة المؤمِنِين في الاحتفالات الوثنيّة قد تحوّلت إلى إشكاليّة تَطلّبت تَدخُّل بولس الرّسول لِـحلِّها. إنّ الوثنيّين في كورنثوس، كانوا يَذبحون تقدماتهم الحيوانيّة للآلهة، ويتشاركون في أكلِها مع ضيوفهم. إنّ مشاركة بعض المؤمِنِين لإخوتهم الوثنيّين في كورنثوس في مأدُبة الطّعام المؤلّفة مِنَ الذبائح الّتي كانت تُقدَّم للأوثان، شكلّت سببَ عثرة لِضُعفاء النّفوس في الإيمان، إذ اعتبر هؤلاء أنّ في اشتراك المؤمِنِين بالطّعام مع إخوتهم الوثنيّين اشتراكٌ أيضًا في العبادة، في حين أنّ مؤمِنِين آخَرين اعتبروا أنَّ تلك الذبائح هي مجرَّد طعام لإسناد الجوع البشريّ. أمام هذه المعضلة، تَدخَّل بولس فقال إنّه لا مشكلة، على الـمستوى اللّاهوتيّ، في مشاركة المؤمِنِين للوثنيّين في الطّعام، ولكنّ بما أنّ ذلك قد يُسبِّب عثرةً لضعفاء النّفوس، فالأفضل للمؤمِنِين الامتناع عن تناول اللّحم طوال أيّام حياتهم إن كان في ذلك خلاصُ نفوس إخوتهم في الإيمان. إخوتي، على المؤمِنين طلب نعمة التمييز والحكمة من الله، لِيُدرِكوا كيفيّة التصرّف في بعض الحالات: فمثلاً، عند ذهابك إلى أحد البيوت الفقيرة لتقديم عطائك لها في زمن الصّوم، عليك أن تشارك العائلة بما تقدِّمه لك من طعام كتعبيرٍ منها عن حبّها لك وامتنانها لعطائك، حتّى وإن كان ذلك الطّعام لا يتناسب مع نظامِك الغذائي في الصّوم. إنّ امتناعك عن مشاركتها الطّعام سيؤدِّي إلى خلق جُرحٍ في نفوس أفراد هذه العائلة لأنّهم سيشعرون أكثر فأكثر بعَوَزهم، وسيشعرون باليأس من حالتهم كَونهم لم يتمكّنوا من الاشتراك كسائر المؤمِنِين في الصّوم الكبير. في هذا الصدّد، نتذكّر نشيد مار بولس فنقول: إنّ المحبّة هي أقوى من صومِنا وكبريائنا وتكبُّرنا على المحتاجين. وما هذه الأمثلة إلّا تأكيدٌ على أنّ حربَنا الروحيّة ليْسَت مع بشرٍ، إنّما مع أفكارٍ وذِهنيّات.

لم تنتهِ مشاكل أهل كورنثوس عند العادات الوثنيّة وحَسْب، بل تَوسّعت لتشمل شكواهم لبولس على تلميذه تيموثاوس. إنّ مشكلة تيموثاوس، بالنسبة إلى أهل كورنثوس، تكمن في كونِه مولودًا من أمٍّ يهوديّة وأبٍ غير يهوديّ، أي أنّ عليه الاختتان كما تفرِض الشريعة اليهوديّة، قبل انتمائه إلى المسيحيّة. لقد جاءَت هذه الشَّكوى على تيموثاوس مِن قِبَل مثقفين وعالِمين في الدِّين، لا مِن ضعيفي النّفوس في الإيمان، لذا كان على بولس أن يردّ على تلك الشَّكوى استنادًا إلى تعاليم الإنجيل حتّى وإن كان ذلك سيؤدِّي إلى انقسامٍ في الكنيسة. فرَفَضَ بولس هذه الشَّكوى واعترض على هؤلاء قائلاً: إنّ المسيح قد جاء ليُحرِّرنا ويُخلِّصنا مِن عبوديّتنا للشريعة، أَفَنَعود بعد انتمائنا للمسيح إلى ما هو قديم؟ بالطبع لا، إنّ المسيح بموته أعطانا حياةً جديدةً، وبالتّالي لا ضرورةَ للختانة اليهوديّة، لأنّ الشريعة قد أُبطِلت، ليُصبِح الحبّ شريعَتَنا الوحيدة. إنّ ممارسة بعض العادات الإيمانيّة غير المألوفة عند الكثيرين منهم، لا تؤدّي إلى تشويهٍ في الإيمان،كما أنّها لا تؤدِّي إلى إصلاحٍ في الكنيسة. ولكنّه يتوجّب على الرّاعي توضيح تلك العادات الإيمانيّة، الغريبة بالنسبة لبعض المؤمِنِين، قبل المباشرة بممارستها في الرعيّة، كما أنّه من المفضَّل أن يَطلُب مِنَ المسؤولِين في الكنيسة الإذن للبدء بممارستها، كي يحفظ نفسه من تشويهٍ لسُمعَتِه، ويحافظ على إيمان النّفوس الضَّعيفة في الإيمان. فمثلاً: في القرون الأولى للمسيحيّة، كان المؤمِنون يتقرّبون من سرّ القربان الأقدس، ويتناولونه بأيديهم، من دون أن يشكِّل ذلك عثرةً لضُعفاء النّفوس. أمّا اليوم، فالعودة إلى هذه العادة المسيحيّة قد تشكّل عثرةً للبعض، إذ إنّ هؤلاء يعتبرون أنّه من غير الجائز للمؤمِنِين العلمانيّين لمس القربان المقدَّس بأيديهم، وأنّ هذا العمل هو مِن صلاحيّات الكاهن الّذي أُعطَي له هذا الحقّ من خلال سرّ الكهنوت. هنا تبرز ضرورة حصول الكاهن على موافقة خطيّة مِنَ الأُسقف، ونشرها في الرعيّة، قبل مباشرةِ الكاهن بإعادة إحياء تلك العادة الإيمانيّة القديمة. في أثناء الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، تُوضَعُ جانبًا كلّ العلاقات الّـتي تجمع الرِّجال بالنِّساء: ففي الكنيسة، يُصبح جميعُ المؤمِنين متساويين في الإيمان، وإخوةً في المسيح يسوع، فيكون هو الرّابط الوحيد بين جميع المؤمِنين، فلا يجوز للزّوج أن يناول زوجته القربان المقدَّس، والعكس صحيح. في الذبيحة الإلهيّة، يتوحَّد جميع المؤمِنِين بواسطة جسد المسيح ودَمِه، فيُصبحون إخوةً للمسيح، وأعضاءً في جَسَدِه السريّ، وبالتّالي على كلّ مؤمِنٍ أن يسعى إلى المحافظة على إيمان أخيه في الإيمان بتصرّفاته غير المشكِّكة له. إنّ قانون المحبّة هو الّذي يُطبَّق بين الإخوة، ولكن حين تَفتُر المحبّة بينهم، يُصبح اللّجوء إلى القوانين ضرورة لتفادي أيّ نزاع فيما بينهم. فمثلاً: إنْ كان إشعال المكيِّف يزعج بعض الحاضرين، فإنّ قانون المحبّة يقضي بإطفائه تعبيرًا عن محبّة الحاضرين لإخوتهم الّذين يشعرون بالانزعاج منه؛ أمّا القانون البشريّ، فيَقضي إلى ممارسة الديمقراطيّة والسَّير في القرار الّذي يتمّ اتِّخاذه بالأكثريّة. إنّ القانون الّذي يُطبَّق في الكنيسة، هو قانون يسوع المسيح، قانون كلمة الله، أي الإنجيل، وبالتّالي لا وجود لديمقراطيّة في الكنيسة، بل هناك وجود فقط للـ"يَسوعقراطيّة".
في هذا الإصحاح من الرّسالة الثّانية إلى أهل كورنثوس، يطرَح بولس نَظرته إلى الرِّعاية حسب كلمة الله، الّتي لا تتوافق مع النّظرة البشريّة للرّعاية الّتي تعتمد على المساواة بين البشر. إنّ قانون المساواة هو ضدّ قانون المحبّة. فمثلاً، عند تَناوُلِ مجموعة معيّنة مِنَ المؤمِنِين الطّعام معًا، ينالُ كلّ مؤمِنٍ حصّةً غذائيّة واحدة، استنادًا إلى قانون المساواة بين البشر؛ أمّا استنادًا إلى قانون المحبّة، فعلى كلّ فردٍ أن ينال حاجته الضّروريّة من الطّعام، بتعبير آخر، قد يحصل أحد الأفراد على أكثر من حصّة غذائية إذ كان هناك أسبابٍ صحيّة لذلك. إنّ قانون المحبّة يتخطّى قانون المساواة البشريّة. إنّ المحبّة غير الـمَبنيّة على تَفهُّم الآخر لا تسمّى محبّة، بل هي عمليّة استلطاف للآخرين وبحثًا عن مجدٍ شخصيّ عالميّ يكمن في إظهار ذواتِنا للآخرين، من أجل الحصول على مَديحٍ منهم. على الكاهن أن يُحضِّر عظته قبل تلاوتها على المؤمِنِين، فتكونَ ذات فائدةٍ روحيّة للسّامعين وسببًا مباشرًا لتَوبتهم وعودتهم إلى الله، لا مجرّد كلمات متراصفة ومُنَمَّقة تهدف إلى إرضاء السّامعين واستلطاف مسامعهم من أجل الحصول على التبجيل والمديح منهم. في الـجَنَّازات، على الكاهن أن يعزِّي النّاس لا بكلماته الخاصّة إنّما بكلمات الإنجيل، لأنّها الوحيدة القادرة على تخفيف ألم فراق الأحبّة على المحزونين. لا يحقّ للكاهن أن يردِّد على المؤمِنِين كلامَ المسيح بهدَف إظهار ذاته ومن أجل الحصول على مديحٍ أرضيّ، بل عليه أن يردّدها بهَدَف تذكير المؤمِنِين بمواعيد المسيح لهم، ليمجِّدوا الله من خلال ما سمعوه من الكاهن وتَتَغيّر حياتهم، عندها يكون الكاهن أهلاً للمديح السماويّ لا لِلـمَديح الأرضيّ. لا أحد يعرف ساعة انتقاله من هذا العالم، لذا على الكاهن أن يُحضِّر عظته كي يكون أهلاً للوقوف أمام عرش الربّ الديّان، إن دعاه الربّ بعد انتهائه من إلقاء عظته على المؤمِنِين للقائه الأبديّ، كما أنّ على الكاهن أن يزرع من خلال عظته الرّغبة في نفوس سامعيه في التوبة والعودة إلى الله، فينال هؤلاء الخلاص إن انتقلوا إلى بيت الآب بعد سماعهم لهذه العظة. على الكاهن مساعدة النّفوس على الحصول على الخلاص من خلال عِظته. وفي هذا الصّدد، يقول بولس الرّسول في إحدى رسائله إلى أهل كورنتس إنّ هدَفه مِن تبشيرهم بالإنجيل أن يُخلِّص "بعضًا" منهم. إنّ عبارة "بعضًا" تدلّ على عددٍ يتراوح بين الثلاثة والتسعة أشخاصٍ كحدٍّ أقصى، لذا لم يتهاوَن بولس مع الّذين سَعوا إلى تشويه سُمعتِه، لأنّ في تصديق المؤمِنِين لتلك الإشاعات تعطيلاً للإنجيل. لقد اجتهد بولس من أجل إيصال البشارة لأهل كورنثوس، غير أنّه لم يقبل بتقدماتهم الماديّة، لأنّهم اتَّهموه بأنّه يبشِّرهم من أجل الحصول على القوت الأرضيّ، لذا قرّر العمل في صناعة الخيام، من أجل تأمين قوتِه الأرضيّ، كي لا يتعطّل الإنجيل في كورنثوس. حين كان بولس في السِّجن، أرسَل إليه أهل فيلبيّ المساعدات الماديّة، وقد قَبِلَها منهم لأنّه يعرِف مدى محبّة أهل هذه المدينة له، ولأنّه يعلم أنّ قبوله بهذه العطايا لن يؤثِّر على مسيرة الإنجيل فيها. إنّ قبول بولس بعطايا أهل فيلبيّ يُعبِّر عن تقديره لمحبّتهم له، الّتي تجسِّد إيمانهم بالربّ يسوع، فالمحبّة لا يُعبَّر عنها إلّا بالعطاء كما تقول الأم تريزيا.

لقد بادل بولس الرّسول محبّة أهل فيلبيّ له الّتي تُرجِمَت بالعطايا المقدَّمة له، بالصّلاة من أجلهم كي يتحلّوا بنعمة التمييز بين ما هو صالحٌ ونافع، وبين ما هو شريرٌ وغير مفيدٍ لخلاصهم. إنَّ صلاة مار بولس لأهل فيلبيّ تشكِّل دعوةً لنا نحن المؤمِنِين، للتمييز في أمور هذه الأرض، فلا نبدي أراءنا على الفَور في الأمور الّتي نشاهِدها في عالمنا، بل نُخضِعها للاختبار كي نتأكَّد إن كانت من الله، أم مِن الشِّرير. فمثلاً، عندما نَسمع أخبار الأعاجيب الّتي تحصل هنا أو هناك، علينا أن نسعى إلى توظيف تلك الأخبار لما فيها البُنيان الروحيّ للمؤمِنِين بها، ساعين إلى تحويل أنظارهم إلى الربّ يسوع الّذي يَهِب المقدرة لقدِّيسيه للقيام بتلك الأعمال الخارقة، كما أنّه يتوجّب علينا بُنيان الّذين لا يؤمِنون بتلك الأعاجيب روحيًّا، من خلال تركيزنا معهم على أهميّة بناء العلاقة الشخصيّة مع الربّ يسوع. على المؤمِنِين إذًا، السَّعي الدائم لبُنيان بعضهم البعض روحيًّا من خلال زرع المحبّة في قلوب بعضهم البعض، إذ لا يمكن للخاطِئ أن يصطلح إن لم يشعر بأنّه محبوبٌ من إخوته المؤمِنِين على الرُّغم من أخطائه. وبالتّالي فإنّ الخاطئ يحتاج إلى جهودٍ مضاعفة من المؤمِنين كي يتوب عن طريقه الّـتي يسلك فيها، أكبر من الجهد الّذي يتطلّبه البارّ للثبات في إيمانه. إنّ الحبّ وحده كفيلٌ بمعالجة كلّ مشاكل الإنسان: فالإنسان يلجأ إلى الإجرام والمشاغبة حين لا يشعر أنّه محبوب من الآخرين؛ ولكنّه يعود عن طريقه السيئة هذه، عندما يشعر بأنّه محبوب، فيُطيع القوانين تعبيرًا منه عن عدم رغبته بالقيام مجدّدًا بما يؤذي مَن شَعر بمحبّتهم له.

لم يبحث بولس يومًا في بشارته، وخاصّةً إلى أهل كورنثوس عن المجد الأرضيّ، بل عن مجد الله؛ لذا خاطبهم بقساوة في رسائله، لأنّ هَدَفه هو بُنيانهم الروحيّ لا إسماعهم ما يستعذبون سماعه من أجل الحصول على مَديحهم. على الإنسان أن يقارِن تصرّفاته وأعماله بما يرتضيه الله لا بما يرتضيه البشر، غير أنّ بعضًا مِن أهل كورنثوس لم يَفهموا هذا الأمر، فسعَوا إلى مقارنة أنفسِهم بأنفسِهم. إنّ أساسَ حياتِنا الروحيّة هو العمل على إرضاء الله؛ ولا يمكننا التعرُّف إلى مشيئة الله في حياتنا إلّا من خلال تأمُّلِنا في كلمته المقدَّسة. إنّنا نستطيع أيضًا معرفة مدى تَطابُق أعمالِنا مع مشيئة الله، من خلال ثمارِها: فإنْ تَمَكَّنا من خلال أعمالِنا زرعَ الحبّ في الآخرين، فهذا دليلٌ على أنَّ ما قُمنا به يُرضي الله. لا ينال المؤمِن الغفران على خطاياه إلّا من خلال محاولته زرع الحبّ في قلوب الآخرين، لا من خلال القيام بما يستعطف الله كالبكاء على الخطايا والصّلاة له طالبين منه الرَّحمة. عندما نزرع الحبّ في قلوب الآخرين، فإنّنا نسير في طريقنا صوب الله، أي في مسيرة القداسة. ليس علينا الذّهاب إلى أقاصي الأرض للتبشير بالمسيح، إذ نستطيع التبشير به في مجتمعاتنا، من خلال زرع الحبّ في قلوب الآخرين. إنّ الله هو محبّة، وعندما نزرع الحبّ في قلوب الآخرين، نكون بهذا الفعل، قد أدخلنا إلى قلوبهم الله، وهذا يسمّى عملاً تبشيريًّا. لقد أوصانا الربّ أن نُحبّ بعضُنا بعضًا كما أحبَّنا هو، وبالتّالي عندما نُعبِّر للآخرين عن محبّتنا لهم، فإنّنا ندفعهم إلى اكتشاف محبّة الله العظيمة لهم، والتعبير عن قبولهم بتلك المحبّة الّتي تسكن في قلوبهم من خلال محبّتهم بِدَورِهم لآخرين، وهكذا تعمّ المحبّة كلّ المسكونة.
في الذبيحة الإلهيّة، حسب التقويم الشرقيّ، يُذكِّر الكاهن المؤمِنِين بكلام المسيح قائلاً: "ليُحبّ بعضُنا بعضًا"، وبعدها يتمّ إعلان الإيمان بالله، وما هذا إلّا دلالة على أنّ الحبّ أقوى من الإيمان. في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، يتكلّم بولس الرّسول عن الفضائل الإلهيّة الثّلاث: الإيمان والرّجاء والمحبّة. ثمّ يُضيف قائلاً إنّ أعظم تلك الفضائل هي المحبّة: فالإيمان ينتهي عند رؤيتنا لله وجهًا لوجه في الملكوت، والرَّجاء ينتهي عندما نصل إلى ما نصبو إليه ونتمنّاه، أمّا المحبّة فإنّها تنتقل معنا من هذه الحياة الفانية إلى الحياة الأخرى. لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى القداسة دُفعةً واحدةً،كما أنّه لن يتمكّن من النَّجاح في ممارسة هذه الفضائل من المرّة الأولى، فهذه كلّها تتطلّب تمرُّسًا واجتهادًا روحيًّا كبيرًا. على المؤمِن ألّا يُقارِن نفسه بالآخرين فيسعى إلى حَمل ما لا يستطيع حَملَه تشبُّهًا بالآخرين، لأنّ الله أعطى كلّاً منّا طاقة معيّنة لا يستطيع تجاوُزَها وإلّا أُصيب بالإحباط واليأس والكآبة. إنّ الله يدعونا كي نكون أُمناء على القليل الّذي يَمنحنا إيّاه، فيَجعلنا أُمناء على الكثير. على المؤمِن أن يسهر على المواهب الّتي أعطاه إيّاها الله ويُفعِّلها في حياته فتنمو فيه، فيكون أمينًا للقليل الّذي أعطاه إيّاه الله، محقِّقًا بأمانته هذه، ما يُرضي الله. إنّ القانون الّذي أراده الله للكنيسة هو الحبّ، ولكن حين وَجَدَت الكنيسة أنّ تلك المحبّة قد فَتُرَت بين المؤمِنِين، رُعاةً ومؤمِنِين، لجأت إلى القوانين لتُذكِّر هؤلاء بمحبّة الربّ لهم. نطلب من الله، أن يُشعِل بحبِّه كنيسته، فتعمّ المحبّة جميع البشر، فلا يعود هناك حاجةٌ للقوانين الأرضيّة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
30/1/2018 رسالة القدّيس بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح التاسع بركة الصوم
https://youtu.be/00SjB8Zh97I

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح التاسع
الأب ابراهيم سعد

30/1/2018

إنّ الترتيلة الّتي أُنشدَتْ في بداية هذا اللّقاء، "الرّوح يجمعنا"، تدفعنا إلى طرح السؤال على ذواتنا: هل يستطيع الرّوح القدس حقًّا أن يجمعنا، إن كُنّا، نحن المؤمنين، لا نرغب في الاجتماع معًا؟ إخوتي، إنّ الرّوح القدس يُلهِم المؤمنين على الاجتماع معًا باسم المسيح، ولكن إن لم يرغب هؤلاء بالاجتماع، فإنّه لا يُجبرهم على ذلك بالقوّة، إذ ليس الرّوح القدس كائنًا بشريًّا يُلزم الآخرين على الالتزام به رُغمًا عنهم. أمّا إنْ رغِبَ المؤمنون بالاجتماع باسم المسيح، فإنّ الرّوح القدس يعمل على تسهيل أمورهم كي يتمّ هذا اللّقاء. إنّ الإنسان يملك ملء الحريّة في محبّة الله أو في الانصياع للشِّرير، فلا اللّه يُجبر أحدًا على محبّته والسير وِفقَ مشيئته الإلهيّة، ولا الشِّرير يُجبر أحدًا على السّماع له، إذ إنَّ القرار النِّهائي يعود للإنسان الّذي عليه الاختيار ما بين اتِّباع اللّه أو اتّباع آلهةٍ أخرى غير اللّه. إنَّ حُبَّ الله للإنسان غير مرتبطٍ بتصرّفات هذا الأخير، فاللّه يستمرّ في حبّه للإنسان على الرّغم من خطيئته، وعلى الرّغم مِن رفض الإنسان لهذا الحبّ الإلهيّ في بعض الأحيان.

"فإنَّه مِنْ جِهَةِ الخدمةِ للقدِّيسين، هُوَ فُضُولٌ مِنِّي أن أَكْتُبَ إليكم، لأَنِّي أَعلَمُ نَشَاطَكُم الّذي أفتَخِرُ به مِن جِهَتِكم لدى الـمَكدُونيِّين، أنَّ أَخائيَةَ مُستَعدَّةٌ مُنْذُ العام الماضي، وغَيرَتُكُم قَد حرَّضَت الأكثَرينَ. وَلَكِنْ أَرْسَلْتُ الإِخوَةَ لِئَلّا يتعطَّلَ افتِخارُنا مِن جِهَتِكم مِن هذا القبيلِ، كي تَكونوا مُستعدِّينَ كما قُلْتُ، حتّى إذا جاءَ مَعي مَكدُونيِّون وَوَجَدُوكُم غيرَ مُستعدِّينَ، لا نُخجَل نَحنُ، حتّى لا أَقولُ أنتم، في جسارةِ الافتخارِ هذه. فَرَأَيْتُ لازِمًا أَن أَطلُبَ إلى الإِخوَةِ أَن يَسبِقُوا إلَيكُم، ويُهيِّئوا قَبلاً بَرَكَتِكُم الّتي سَبَقَ التَّخبيرُ بها، لِتَكُونَ هِيَ مُعَدَّةً هَكَذا كأَنَّها بَرَكَةٌ، لا كَأَنَّها بُخلٌ. هَذا وَإنَّ مَن يَزرَعُ بالشُّحِ أيضًا فَبالشُّحِ يَحصُدُ، وَمَن يَزرَعُ بالبَرَكاتِ فبالبَرَكاتِ أيضًا يَحْصُدُ، كُلُّ واحدٍ كما ينوي بِقَلبِهِ، لَيسَ عن حُزنٍ أَو اضطرارٍ، لأنّ الـمُعطِيَ الـمَسرورَ يُحبُّهُ اللّه. واللّهُ قادِرٌ أَن يَزيدُكُم كُلَّ نِعمَةٍ، لِكَي تَكونوا وَلَكُم كُلُّ اكتفاءٍ كُلَّ حينٍ في كُلِّ شيءٍ، تُزادُونَ في كلِّ عملٍ صالحٍ. كَما هُو مَكتُوبٌ: "فَرَّقَ. أعطى الـمَساكينَ. برُّهُ يبقى إلى الأبدِ." وَالَّذي يُقدِّمُ بِذارًا لِلزّارعِ وخُبزًا للأَكْلِ، سَيُقدِّمُ ويُكثِّرُ بِذارَكُم وَيُنَمِّي غَلّاتِ بِرِّكُم. مُسْتَغْنِينَ في كُلِّ شيءٍ لِكُلِّ سَخاءٍ يُنْشِئُ بِنا شُكرًا للّهِ. لِأَنَّ افتِعالَ هذه الخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إعوازَ القدِيسين فقط، بَل يَزيدُ بشكرٍ كَثيرٍ للّه، إِذْ هُم باختِبارِ هذه الخِدمَةِ، يُمَجِّدُونَ اللّهَ على طاعَةِ اعتِرافِكُم لإِنجيلِ المسيحِ، وَسَخاءِ التَّوزيعِ لَهُم وَلِلجميعِ، وبِدُعائهم لأجلِكُم، مُشتاقينَ إِلَيكُم مِن أجلِ نِعمَةِ اللّه الفائقةِ لديكم. فَشُكرًا للّه على عَطِيَّتِه الّتي لا يُعبَّرُ عنها."

إنّ بولس الرّسول الّذي أنشأ كنيسة كورنثوس حين بشَّرها بالكلمة الإنجيليّة، وَجد نفسَه مُتَطَفِّلاً عليها حين أراد توجيه بعض الملاحظات لها، إذ يقول: "هو فُضولٌ منِّي أنْ أكتُبَ إليكم". لقد عبّر بولس الرّسول عن العطاء الإنسانيّ مستخدمًا كلمة "بَرَكَة" لا كلمة "كَرَمٍ". إنّ استخدام بولس لكلمة "اضطرار"، تُشير إلى أنَّ البعض يقوم بالعطاء كَمن يقوم بواجبٍ دينيّ، لذا تكلّم بولس عن الـمُعطي المسرور، ليُشير إلى وجود "مُعطٍ غير مسرور".
في هذا الإصحاح، يُعالج بولس الرّسول موضوع العطاء، أي الكَرَم. إنّ العطاء بسرور، هو انعكاسٌ لعلاقة الإنسان بربِّه، وهذا العطاء لا يُسمّى كَرَمًا بل "بركَةً" بحسب تعبير بولس الرّسول. إنّ العطاء غير المسرور، يعكس سَعْيَ الإنسان إلى المجد الشخصيّ، ورغبته في الحصول على التَّصفيق من قِبَل المحتاجين لعطائه، ولا يعكس علاقته بالربّ يسوع. إنّ الصّلاة لا تنفع الإنسان المحتاج، لأنّ حاجته تكمن في حصوله على الأمور الماديّة لا الأمور الروحيّة. فما فائدة الصّلاة للإنسان الجائع مثلاً؟ إخوتي، إنّ اللّه لا يملك مالاً في السّماء ليُرسِله إلى الفقراء في هذه الأرض، كما أنّه لا يملك مستودعاتٍ بأمور ماديّة. إنَّ اللّه ليس ساحرًا، أي أنّه لا يستطيع إرسال ملائكته لإعطاء المحتاجين الطّعام السّاخن والألبسة الجاهزة من السّماء، ولهذا السبب، يتكِّل اللّه على المؤمنين به فيضع المحتاجين للأمور الماديّة على دروب حياتهم اليوميّة من أجل تأمين احتياجاتهم. إنَّ اللّه يملك في السّماء ما لا يملكه البشر على هذه الأرض، كما أنَّ البشر يملكون في الأرض ما هو غير موجودٍ في السّماء، وبالتّالي على الإنسان عدم لَوْمِ اللّه، حين لا يستجيب لطلباته الماديّة الدّنيويّة لأنّها غير متوافرة في السّماء. إنّ اللّه لا يَصمُّ آذانه عن احتياجاتِ البشر وطِلباتهم، ولكنّه غير قادرٍ على مَنْحِهم ما لا يملكه.
إنَّ العطاء بسرور، بالنسبة إلى بولس، هو مِن مواهب الرّوح القدس في الكنيسة. إنّ المؤمنين الّذين يُعطُونَ بسرورٍ في الكنيسة، يَسُدّون عَوَزَ المحتاجين مِن بينهم، فيشكِّل عطاؤهم هذا مدعاةَ شكرٍ للّه عند المحتاجين، على النِّعم الّتي نالوها من اللّه بواسطتهم. إنّ بولس يُشجِّع أهل كورنثوس على الاستمرار في تقديم البركات للكنائس المحتاجة، كي تتمكّن هذه الأخيرة مِنَ الاستمرار في العيشِ في هذه الحياة. إنَّ النّاس يَجِدُون صعوبةً في التمييز بين العطاء - الكرم، وبين العطاء - البركة، إذ يعتقدون أنّ اللّه سيُرسِل إليهم البركات بطُرُقٍ سحريّة؛ غير أنّ اللّه في الحقيقة يُرسِل بركاته إلى المؤمنين بشكلٍ دائم، ولكنّها تبقى غيرَ ظاهرةٍ للآخرين إلّا حين يقوم هؤلاء بالعطاء للمحتاجين، فيُقال فيهم إنّ بركة اللّه قد حلّت على المحتاجين بواسطتهم. على المؤمن ألّا ينتظر حلول بركة اللّه عليه كي يُعطي للآخرين وِفقَ احتياجاتهم، بل عليه أن يبادر إلى العطاء فيكتشف بركة اللّه الّتي فيه، ويكتشفها الآخرون من خلاله.

إنّ مفهوم الصّوم الفصحيّ عند المؤمنين هو مفهومٌ بوذيّ فلسفيّ، لا يَمتُّ إلى الإنجيل بِصِلَة: فالصّوم بالنسبة لهم، هو تطهيرٌ للنّفس، تنقية للذِّهن، وضبط للأهواء. غير أنَّ كلّ تلك الأمور الّتي صنَّفَها المؤمنون تحت إطار مفهوم الصّوم هي أمورٌ مطلوبة منهم في كلّ يومٍ، لا في زمن الصّوم وحسب، فالصّوم ليس مناسبةً لإلقاء الضَّوء مجدَّدًا على ما هو مطلوبٌ من المؤمنين بشكلٍ يوميّ، كما أنّه ليس مناسبةً لتبرير تقاعس المؤمنين عن ضبط أهوائهم خارج زمن الصّوم. إنّ الصّوم الإنجيليّ، لا علاقة له بضبط الأهواء، وتنقيه الذِّهن، وتطهير النَّفس.

إنّ الكنيسة هي "افخارستِّيا"، أي أنّها جماعة المؤمنين الّتي تُقدِّم الشُّكر للّه. إنّ المؤمنين يتشاركون معًا، في الكنيسة، بكلّ الاحتفالات الأسراريّة واللِّيتورجيّة: فيشتركون معًا في تناول جسد ابن اللّه ودمه، ويحتفلون بالمعموديّة بحضور الجماعة، ويشاركون جماعيًّا في المآتم ويصلّون معًا من أجل راحة أنفس موتاهم. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا يتمّ الصّوم انفراديًّا بعكس كافة الاحتفالات الكنسيّة، الّـتي تتمّ بحضور الجماعة المؤمنة؟ على الصّوم أن يتمّ بشكل جماعيّ كما هي سائر الاحتفالات، ولكنّ الصّوم في أيّامنا يتَّخذ بُعدًا فردِيًّا إذ يصوم المؤمن من أجل طهارته وتوبته، أي من أجل نفسه لا من أجل الجماعة. إنّ الهدف من الصّوم بحسب المفهوم الإنجيليّ، هو من أجل الآخر المحتاج لا من أجل الصائم بحدِّ ذاته، لذا يستطيع المؤمن الامتناع عن الصّوم وشكلّياته حين يُعطي الآخر احتياجاته الماديّة. إنّ الصّوم في هذه الحالة يكون أكثر بركةً للصّائم وللمحتاج.
إنّ هدف الصّوم هو إفراح الآخر بتلبية احتياجاته، لا إفراح النّفس بضبط الأهواء، وتنقية الضمير. إنّ المؤمن يرتكب الخطيئة لأنّه فكَّر في ذاته فقط، أي في ما يسبِّب له فرحًا آنيًّا. أمّا العطاء، فيقوم على تفكير المؤمن بأخيه الإنسان المحتاج. لذا فالعدّو الأساسيّ للخطيئة هو العطاء لأنّه يدفع بالمؤمن إلى التفكير في الآخرين لا في ذاته، أي إلى التفكير بطريقة معاكسة للخطيئة، وبالتّالي يستطيع المؤمن التخلُّص من كلّ خطيئة تُكبِّله من خلال العطاء. إنّ أحد الآباء القدِّيسين ينصح المؤمنين بكَسْرِ كلّ تعلُّقٍ لهم بالخطيئة من خلال العطاء، لأنّه يُخرج المؤمن مِن ذاته صوب الآخر. إنّ المؤمِن لا يصوم للمسيح الّذي مات على الصّليب وقام في اليوم الثّالث، بل يصوم من أجل الآخر المهمَّش الّذي جاء المسيح من أجل خلاصه. على المؤمن أن يُصلّي ويقدِّم صومه من أجل المهمَّش كي يتمكّن هذا الأخير من إدراك قيمته في نظر اللّه الّذي لا يتوقّف عن الاهتمام به من خلال عطاءات المؤمنين. حين يكتشف هذا المهمَّش قيمته في نظر اللّه، سيعيش فرح القيامة وبركاتها قبل حلولها في العيد؛ كما أنّ المؤمن سيختبر بدَوره بركات القيامة حين يجعل صومه من أجل إفراح الآخر وسدِّ احتياجاته. إنّ العطاء ليس أمرًا مفروضًا على المؤمن تجاه الآخرين، بل هو وسيلةُ تعبيرٍ عن محبّة المؤمن لإخوته المحتاجين.

إنّ الكنيسة، من خلال آبائها القدِّيسين الّذين يشكِّلون مرجعيّة مهمَّة لها في الفكر واللّاهوت، قد نظّمت الصّوم وأعطته شكلاً مُحدَّدًا حين لاحظت فُتورًا في المحبّة عند المؤمنين. إنَّ القانون يُصبح ضرورةً حين تنقُصُ المحبّة في القلوب، أمّا إنْ كانت المحبّة مشتعلة في القلوب فلا ضرورة عندها للقانون. ولكن بما أنّ الصَّوم يتَّخذ بُعدًا جماعيًا، فمن المفضل أن يصوم جميع المؤمنين في الوقت نفسه. في الصّوم، يكثِّف المؤمنون صلواتهم للّه، غير أنّ الصّلاة هي ذات أبعادٍ ثلاثيّة، أي أنّها لا تقتصر على علاقة المؤمن بربِّه بمعزلٍ عن الآخر، فالصّلاة تُتَرجم وتَتحقَّق من خلال أعمال المؤمِن مع أخيه الإنسان. إذًا، انطلاقًا مِن هذا المفهوم الجديد للصّوم، يمكننا القول إنّ الصّوم لا يقتصر على حياة الإنسان الداخليّة الخاصّة، إنّما يشمل أيضًا واجب المؤمِن زرعَ كلمة اللّه في النّفوس. إنّ المؤمِن يستطيع أن يزرع كلمة اللّه الحيَّة في النّفوس إمّا من خلال التبشير بها، وإمّا من خلال خدمته للآخرين فيتمكّن هؤلاء من اكتشاف كلمة اللّه السّاكنة في داخل المؤمن من خلال أعماله. إنّ الصّوم هو ذات بُعد جماعيّ، أي أنّه يجب أن يُمارس على صعيد جماعي لا على صعيد فرديّ، ولكنّ هذا لا يمنع أن يصوم المؤمن خارج هذا الزّمن من أجل العمل على تحسين ذاته بهدف التخلُّص مِن بعض الرذائل الّتي يُعاني منها.
إنّ الصّلاة هي ترجمة لعلاقة الحبّ الّتي تجمع الإنسان باللّه مِن خلال الآخر، وهي ليست إذًا، دواءً مُضادًا للكآبة. إنّ العلم تمكّن مِن شرح العوامل الّتي تؤدي إلى شعور الإنسان بالإحباط والكآبة، كما تمكّن مِن إيجاد العلاجات الطبيّة المناسبة لها، وبالتّالي أصبح بإمكان الإنسان التخلّص مِن حالة الاكتئاب الّتي يُعاني منها، مِن دون العودة إلى الصّلاة. إخوتي، إنَّ الصّلاة ليست عملاً سحريًّا يلجأ إليه المؤمن للحصول على الشِّفاء أو المعجزات، فالصّلاة لا تستطيع أن تمنح المؤمن أيَّ شيءٍ من ذلك. ليست الصّلاة الّتي تمنح الإنسان الشِّفاء بل اللّه الّذي يوجّه المؤمن إليه صلاته. إنّ المؤمن لا يتوجّه في صلاته إلى إلهٍ مجهول الهويّة بالنسبة له، بل هو معروف الهويّة، فالإنجيل يُخبرنا عن إلـهنا الّذي هو أبو يسوع المسيح. وبالتّالي، فإنّ علاقة المؤمن باللّه هي واضحة لأنّه يعلم هويّة الإله الّذي يتوجّه إليه. إنّ الصّلاة هي تعبيرُ حبٍّ مِن المؤمن تجاه اللّه، وبالتّالي على المؤمِن ألّا ينتظر مقابلاً لصلاته، لأنّ الحبّ الحقيقيّ يكون مجانيًّا ولا ينتظر مكافآتٍ مِن الطرف الآخر. إنَّ هذا الحبّ الحقيقيّ يختبره الإنسان في عائلته، بين الأهل وأطفالهم: فالأهل لا يحبّون أولادهم منتظرين مكافآتٍ منهم، بل يحبّونهم لأنَّ ذلك الحبّ يُعطيهم الفرح والمعنى لحياتهم، على الرّغم من كلّ التَّعب. في العلاقات البشريّة، لا يهدف الحديث بين الأحبّاء إلى حصول الحبيب على مكافأةٍ من حبيبه، بل إنّ الحبيب يتحدّث مع حبيبه لأنّه يرغب في رؤية قيمته في عينيّ الّذي يحبّه، وفي تلك النَّظرة يجد الحبيب راحته وسعادته. وهنا يُطرَح السؤال: إذا كانت علاقات الحبّ بين البشر، لا تقوم على انتظار الحبيب المكافآت من حبيبه، فَلِمَ لا يمكن للبشر أن يحبُّوا اللّه بمجانيّة من دون انتظار المكافآت منه على صلاتهم له؟ إنّ المؤمن يصلّي إلى اللّه كي يطلب منه أمرًا معيّنًا: يصلّي له ليطلب منه الغفران أو الشِّفاء، وما الذبيحة الإلهيّة إلّا دليل على ذلك، إذ تتكرّر فيها بوفرة عبارة "من الربّ نطلب"، أو "نسألك يا ربّ"، حتّى إنّ صلوات الشكران الّتي يوجِّهها المؤمن إلى اللّه مبنيّة على شُكر اللّه على عطاياه السّابقة له، سائلاً إيّاه الاستمرار في فيض النِّعَم عليه في المستقبل.

إنّ بعض المؤمنين يعتقدون أنّ صلاتهم تعبِّر عن قناعتهم الكاملة أنّ اللّه هو كلّ شيءٍ بالنسبة لهم، طالما أنّه يحقِّق لهم ما يطلبونه في الصّلاة. ولكن السؤال الّذي يُطرَح هو: ماذا ستكون ردّة فعل هؤلاء، إن لم يستجب لهم الربّ في المستقبل؟ إنّ ردّة فِعلِهم ستكون: إمّا تبرير اللّه مُخفِّفين مِن وطأة خيبة الأمل الّـتي تعرَّضوا لها، وإمّا لَومُ اللّه فيتحوَّلون إلى مُلحِدين. إنّ غالبيّة الـمُلحِدين في العالم، كانوا مِن أكثر المؤمنين تمسُّكًا بإيمانهم، ولكنَّهم صُدِموا حين لم يستجِب اللّه لهم حين كانوا في أمسّ الحاجة له. إنّ علاقة هؤلاء مع اللّه كانت مَبنيّة على أنّ اللّه دائمُ الاستجابة لرغبات أبنائه، وقد صُدِموا حين اكتشفوا عدم صِحّة اعتقادهم هذا. وهنا يُطرَح السؤال: كيف يجب أن تكون علاقة المؤمن باللّه؟ إنّ علاقة المؤمن باللّه لا تنجح إذا كانت علاقة أجيرٍ بربِّ عمله، أو علاقة عبدٍ بسيِّده، بل تنجح إذا كانت تلك العلاقة علاقة ابنٍ بأبيه، أو حبيبٍ بحبيبه. على المؤمن أن يشعر بحاجته إلى اللّه، فيهرَع إلى أحضانه،كما يفعل الطِّفل مع أبيه، أمّا الإنسان الّذي لا يشعر بحاجته إلى اللّه، فهو لن يتمكّن من بناء علاقة صحيحة مع الربّ. إنّ أحد الآباء القدِّيسين يُشدِّد على حاجة الإنسان للحبّ، وبالتّالي إمّا أن يكون الإنسان عاشقًا لامرأةٍ أو رجلٍ فيتزّوجان، وإمّا أن يكون عاشقًا للّه فيترَّهب. لا يستطيع الإنسان الّذي لم يختبر الحبّ في حياته أن ينجح في الحياة الرّهبانيّة، لأنّه يحتاج في هذه الحالة إلى معالَجةٍ نفسيّة. إنّ الإنسان يستطيع أن يحوِّل عشقَه لامرأة أو لرَجُلٍ إلى عشقٍ للّه، رغبةً منه في السّمو بعشقه إلى السماويّات، تاركًا وراءه كلّ ما له علاقة باللَّحم والدَّم. على طالبِ التَّرهب أن ينتسب إلى الرّهبانيّة لا هربًا من صعوبات الحياة، بل طلبًا لحضن اللّه أبيه الّذي لا يتركه رغم كلّ الصُّعوبات.
كي تكون العلاقة بين المؤمِن واللّه علاقة صحيحة، عليها أن تكون أوّلاً علاقة ابنٍ بأبيه، ولتوضيح تلك العلاقة أكثر، أودّ أن أخبركم عن اختباري الشَّخصي مع والِدي. كان أبي يعود من عمله، في الوقت المخصّص للَّعب مع الأصدقاء. وعند رؤيتي له، كنت أهرع إليه، طالبًا منه أن يشتري لي ولرفاقي بعض المرّطبات، فإذ به يشتري لنا جميعًا ما طَلَبْتُ منه. وبعد مرور فترة من الزّمن على هذا المنوال، قرّر أبي ألّا يُعطيني مالاً إلّا ما يكفي لشراء زجاجةً واحدة من المرَطِّبات، فما كان منّي إلّا أن شاركت رفاقي بزجاجة المرَطِّبات الخاصّة بي. عند رؤية أبي لهذا المنظر، قرَّر أن يعاود إعطائي مالاً كافيًا لشراء المرَطِّبات لجميع الرِّفاق. إنّ شُعور المؤمن بالبنوّة للّه الآب يدفعه إلى رؤية حاجات الآخرين والعمل على تلبيتها كأنّها حاجاته الخاصَّة. إنّ العلاقة الّتي تجمع المؤمن باللّه قد يغلب عليها طابع الحبّ، فيتصرّف المؤمن مع اللّه على أنّه حبيبه، فلا يشعر المؤمِن بطول الوقت الّذي يُمضيه مع الربّ، كما أنّه يُصبح قادرًا على مواجهة صعوبات الحياة لأنّه يشعر بحضور اللّه وحبِّه له. حين يشعر الإنسان بأنّه محبوب من اللّه، سيتعامل مع إخوته البشر بمحبّة ولطفٍ وصبرٍ، وسيتمكّن من مسامحتهم حين يُخطِئون إليه، ويُحقِّق المحبّة بين البشر كما وصفها بولس الرّسول في نشيد المحبة (1كور 13). إذًا، حين تكون علاقة المؤمِن باللّه علاقةَ ابنٍ بأبيه، سينجح الإنسان في النّظر إلى حاجات الآخرين كأنّها حاجاته وبالتّالي سيطلب من اللّه أن يساعده على تلبية تلك الحاجات كأنّها حاجاته الخاصّة. وحين يتعامل المؤمِن مع اللّه على أنّه حبيبه، فإنّ خطايا الآخرين تجاه المؤمن لن تؤثِّر على علاقته باللّه، وبالتّالي سيتحوَّل اهتمامه من إدانة الآخرين على أخطائهم إلى العمل على تحسين ذاته تعبيرًا عن حبِّه للّه، وبالتّالي سيجد سهولةً في مسامحة الآخرين على أخطائهم تجاهه.

إنّ التحضير للصّوم في الكنائس الأرثوذكسيّة، أي الّتي تتبع التقويم الشرقيّ، يتمّ عبر أَحَدَين، هما: أحد مرفع اللّحم وأحد مرفع الجُبن. في أحد مرفع اللَّحم، يُتلى على مسامع المؤمنين إنجيل الدَّينونة: "ما لم تفعلوه لأحد إخوتي هؤلاء الصِّغار فإليّ لم تفعلوه"، لذا يُسمّى أحد الدَّينونة. ويلي هذا الأحد، أَحدُ مرفع الجُبن، وهو أحد مدخل الصّوم أيضًا، ويقرأ فيه إنجيل: "إغفروا لإخوتكم زلّاتهم فيغفر لكم أبوكم السماويّ زلّاتكم"، ولذا يُسمّى أحد الغفران لأنّ هذا الإنجيل يدعو المؤمنين إلى المغفرة لبعضهم البعض. إذًا، إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تضع أمام المؤمنين هذين الأحدين قبل بدء الصّوم، لتُشجِّع المؤمنين منذ بداية صومهم على السَّعي لمساعدة الآخرين واعتبارها مساعدة للّه، وعلى الغفران لكلِّ مَن يُسيء إليهم، على مثال غفران الربّ للبشر زلاتهم. إذًا، لم تعد الإماتات وضبط الأهواء والتقشفات تعبِّر عن حقيقة الصّوم إذ إنّ كلّ تلك الأمور مطلوبة من المؤمن طوال الأيّام، أمّا ما هو مطلوبٌ منه بنوع خاصّ في زمن الصّوم فهو التفاتته إلى المحتاجين لمساعدتهم، إضافةً للرّحمة والمغفرة للآخرين زلّاتهم. وبالتّالي لم يعد عدم الانقطاع عن الطّعام في زمن الصّوم يشكِّل خطيئةً، لأنّ هدف الصّوم بحسب الإنجيل، الاهتمام بحاجات الآخرين وغفران الزلّات للمخطئين إلينا.

إخوتي، إنّ المفهوم الجديد للصّوم لا يُعفينا من الالتزام بقانون الصّوم الّذي وضعته الكنيسة، إذ إنّ عدم الالتزام بالقانون يؤدّي إلى نشوء فوضى في صفوف المؤمنين. إخوتي، على الإنسان أن يميِّز بين الحريّة والفوضى، فالحريّة لا تعني أبدًا الفوضى. إنّ الحريّة قد تكون مسؤولة فينتج عنها أشخاصٌ في الحقيقة أحرارًا، كما أنّ الحريّة قد تكون غير مسؤولة وتُنتج عنها فوضى. إنّ الحريّة المسؤولة تبني المؤمن والآخرين، أمّا الحريّة غير المسؤولة فتَهدُمهم. إنّ الحريّة لا تُعطي الحقّ للإنسان في التعدّي على ممتلكات الآخرين، فإنّ قام الإنسان بِمِثل تلك الأعمال، كانت حريّته غير مسؤولة. إنَّ تناول الطّعام أو الانقطاع عنه، لن يُسبِّب أزمةً للمؤمِن الّذي يرى في اللّه أبًا أو حبيبًا، لأنّه يُدرِك أنّ الربّ جاء إلى أرضنا كي يُحرِّر المؤمنين به من قانون الممنوع والمسموح، وليُعبِّر لنا عن حبّه المجانيّ الّذي لا يخضع للقانون. فمثلاً، عند زيارة المؤمِن للعائلات المحتاجة، عليه أن يقبل كلَّ ما تُقدِّمه له هذه العائلة من أطعمة للتعبير عن امتنانها لعطائه، فلا يرفض مشاركتها الطّعام كونه لا يتلاءم مع قطاعة الصّوم الأربعينيّ، لأنّه في مشاركته لهم تعبيرًا عن مدى حبّه لهم. إنّ الطّاهي في بلادنا الشرقيّة، يضع من ذاته في الطّعام الّذي يُحضِّره، لذا لا يترّدد في تقديم هذا الطّعام لضيوفه عند مشاركتهم له في مائدة الطّعام، ولذا يُقال "أصبح بيننا خِبزٌ ومِلحٌ". إنّ رَفضَ الضُّيوف المشاركة في الطّعام يُعبّر عن قلّة احترام لأصحاب البيت. إخوتي، إنّي لا أدعوكم بهذا الكلام إلى عدم الصّوم، وبالتّالي إلى الفوضى، بل أدعوكم إلى التحرّر من الطّعام أمام الإنسان المحتاج.

إنّ الربّ يسوع قد صار عبدًا لأجلنا، فقَبِلَ أن نكون نحن أسياده، تعبيرًا عن محبّته لنا وعن رغبته في خلاصنا، فبادلناه تلك المحبّة بالحُكم عليه بالموت. على المؤمن أن يتشبّه بالمسيح فيقبَلَ أن يكون عبدًا لكلّ مَن يحتاجه، وأن يكون المحتاج سيِّدًا عليه، فمتى قَبِلَ المؤمن بتلك العبوديّة، عبَّر عن مدى حبّه للفقير وعن فَهمِه لعمل المسيح الخلاصيّ. لا يستطيع المؤمن أن يعيش تلك العبوديّة الطوعيّة رغمًا عنه، إذ إنّها تشكِّل اختياره الخاصّ النابع من إرادته الحُرَّة، كما أنّه لا يستطيع القبول بصيرورة المسيح عبدًا لأجله، مِن دون أن يرضى أن يُصبح هو بِدَورِه عبدًا لإنسانٍ آخر مهمَّشٍ ومرذولٍ من الآخرين. إنَّ المؤمِن الّذي يصوم بذهنّية مختلفة عن هذه، هو إنسانٌ يعيش في حالة من الغشِّ لذاته، وبالتّالي يعيش حالةً من الفريسيّة، فالفرِّيسيون يصومون خارجيًّا من دون الاهتمام بالآخر المحتاج. إنّ ممارسة المؤمنين للصّوم بشكله الخارجيّ لا يدلّ على الّذين سيختبرون روح الفصح حقيقةً، إذ إنّ كثيرًا مِن غير الممارسين لشعائر الصّوم قد يختبرون روح الفصح أكثر من الصّائمين أنفسهم، وبالتّالي لا يستطيع أحد، سوى اللّه، أن يعرف مَن مِنَ المؤمنين قد اختبر حقًّا روحيّة الفصح. إنّ الصّوم يزرع الوهم في نفوس هؤلاء "الفريسيّين"، في أنّهم على استعداد للقاء الربّ بفضل صومهم، أكثر مِنَ غير الصّائمين. إخوتي، إنّ اللّه لا يهتمّ للأمور الخارجيّة بل إلى داخلها، ولكن هذا لا يعني عدم التزام الصّوم، بل يعني أنّه لدينا الحريّة الكاملة ما بين الصّوم أو عدمه، إن كُنّا نلتزم بهذه الذهنيّة، الّتي تعبِّر عن إدراكنا لمفهوم حبّ اللّه لنا، وعمله الخلاصيّ لأجلنا. إنّ الفوضى تكمن حين لا يلتزم المؤمن بشكلّيات الصّوم، ولا يلتزم كذلك بذهنيّة الصّوم الّتي تكلّمنا عنها. إنّ قبول المؤمن بمفهوم الصّوم الجديد، سيدفعه حتمًا إلى تغيير نهج حياته واعتماد مفاهيم جديدة، أكثر انسجامًا مع مفاهيم الإنجيل.

إنّ محبّة المؤمِن لإخوته البشر ستبقى على الدّوام ناقصة ولن تصل إلى كمالها، لذا على المؤمن الاستعانة دائمًا بالقوانين الّتي تضعها له الكنيسة علَّه يصل من خلالها إلى كمال المحبّة. وهنا يُطرَح السؤال: صَوْمُ أيّة كنيسة هو الأفضل والأصحّ؟ أَصَوْمُنا اليوم هو أفضل مِن صوم آبائنا القدِّيسين في القرون الوسطى؟ أم أنّ صوم آبائنا الرّسل القدِّيسين هو أفضل من صَومِنا اليوم؟ إذا كان صومُنا اليوم هو أفضل من صَوم أبائنا، فهل هذا يعني أنّ أصوامهم لم تكن مقبولة عند الربّ؟ إنّ الصّوم قد تطوّر على مراحل، عبر التّاريخ: تَطَوُّرٌ في الزّمان وفي المكان أيضًا. قد يقول البعض إنّ صَومَنا هو أفضل لأنّ الرّسل والآباء القدِّيسين لم يكونوا على دراية بهذا المفهوم الجديد للصّوم. وهنا يحقّ لنا السؤال: هل أتى الخلاص للبشر على مراحل أم دُفعةً واحدة؟ هل نال الإنسان كلمة اللّه على مراحل أم دُفعةً واحدة؟ إخوتي، إنّي لا أدعوكم إلى عيش الفوضى في مفهوم الصّوم، بل إنّ رغبتي هي رؤية الصّوم من منظار آخر هو ناموس الحبّ، الّذي منحنا إيّاه الربّ يسوع في تجسُّده على أرضنا. إنّ ناموس الحبّ هذا، يحرِّر المؤمن من عبوديّته للنّاموس، ويمنحه حريّة أبناء اللّه، تلك الحريّة المسؤولة، كما يمنحه نعمة اختياره العبوديّة الطوعيّة للآخر تعبيرًا عن فَهمِه لمفهوم حبّ اللّه له، أي أن يكون على مثال المسيح الّذي صار عبدًا لأجل خلاص البشر. إنّ بعض المؤمنين لا يتردّدون في أن يمنحوا ذواتهم بكلّيتها للآخرين غير آبهين للانتقادات الّتي سيتعرَّضون لها، كأنّ يتمّ وَصْفُهُم بالسَّذاجة والبساطة.
منذ بداية الخليقة، يرفض الإنسان كلّ أمرٍ يُفرَض عليه، ويتَّجه صوب الأمور الّتي تمنحه الحريّة. إنّ الإنسان عبر التّاريخ، يرفض كلّ أشكال العبوديّة، ويسعى إلى التحرُّر منها. وقد برهن التّاريخ أنّ الثّوار كانوا وليدة رفضهم للعبوديّة الّتي أُجبروا عليها، فتحدّوها وقد كانت لهم ردّات فعل قاسية في بعض الأوقات، وأدّت إلى نشوء فوضى في مجتمعاتهم. إنّ كلّ حالات التمرُّد الّتي نقرأ عنها في التّاريخ كانت نتيجة رفض البعض لقانون المسموح والممنوع. إنّ معاناة الأهل مع أولادهم المراهقين هي أكبر دليل على رفض الإنسان لكلّ أشكال العبوديّة، لذا على الأهل أن يلجؤوا إلى كلّ وسائل الإقناع لردع أولادهم عن ارتكاب الشُّرور، دون اللّجوء إلى لغة الأمر، أي لغة "الممنوع والمسموح". على الأهل رعاية أولادهم، لا التعامل معهم كَمَن يُخضِعهم للاستجواب والتحقيق. على الأهل مساعدة أبنائهم على تخطيّ الصّعوبات الّتي تعترضهم لا إخضاعم لقانون "الممنوع والمسموح". إنّ عالمنا اليوم أصبح مجتمعًا استهلاكيًّا بامتياز، لذا علينا أن نتصرّف بحكمةٍ، فنكون في هذا العالم، دون أن نغرق في شروره، متذكِّرين قول المسيح في المؤمنين به: "أنتم في هذا العالم، لكنّكم لستم من هذا العالم". كي نتمكّن من تحقيق كلام المسيح فينا، علينا أن نتسلَّح بالحكمة وبصبر القدِّيسين، ونتمتَّع بالفطنة الروحيّة. على المؤمن ألّا يحوّل الصّوم إلى شريعة دينيّة فارغة من معناها، لأنّ المسيح يريد "رحمةً لا ذبيحة"، أي أنّه لا يهتمّ بالصّوم وشكليّاته إنّما يهتمّ للذهنيّة الّتي تدفع المؤمِن إلى التزام الصّوم.


ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
23/1/2018 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح الثامن مساندة الكنائس المحتاجة
https://youtu.be/yfL8xp-9p5k

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الثامن
الأب ابراهيم سعد

22/1/2018

"ثُمَّ نُعرِّفُكُم أَيُّها الإِخوةُ نِعمَةَ اللهِ الـمُعْطاةَ في كنائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ في اختِبارِ ضِيقَةٍ شَديدَةٍ فاضَ وُفُورِ فَرَحِهِم وَفَقْرِهِمِ العَميقِ لِغِنى سخائِهم، لأنَّهُم أَعطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنا أَشْهَدُ، وَفَوقَ الطَّاقَةِ، مِن تِلقاءِ أَنفُسِهِم، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلبَةٍ كثيرةٍ، أَن نَقبَلَ النِعمَةَ وَشَرِكَةَ الخِدمَةِ الَّتي للقدِّيسِينَ. وَلَيْسَ كَما رَجَوْنا، بَل أَعْطَوْا أَنْفُسَهُم أوّلاً للربِّ، وَلَنا، بِمَشِيئَةِ اللهِ. حَتَّى إِنَّنا طَلَبْنا مِن تِيطُسَ أَنَّهُ كَما سَبَقَ فابْتَدَأَ، كَذَلِكَ يُتَمِّمُ لَكُم هَذِهِ النِّعْمَةَ أَيضًا. لَكِنْ كَما تَزْدَادُونَ في كُلِّ شيءٍ: في الإِيمانِ وَالكَلامِ والعِلْمِ وَكُلِّ اجْتِهادٍ وَمَحَبَّتِكُم لنا، لَيْتَكُم تَزدَادُونَ في هَذِهِ النِّعمَةِ أَيضًا. لَسْتُ أَقُولُ على سَبيلِ الأَمْرِ، بل باجْتِهادِ آخَرينَ، مُخْتَبِرًا إِخْلاصَ مَحَبَّتِكم أَيضًا. فَإِنَّكم تَعرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنا يَسوعَ المسيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنيٌّ، لِكَي تَسْتَغْنُوا أَنْتُم بِفَقْرِهِ. أُعْطِيْ رَأْيًا في هذا أَيضًا، لِأَنَّ هذا يَنْفَعُكُم أَنْتُم الَّذينَ سَبَقْتُم فابْتَدَأْتُم مُنذُ العامِ الماضِي، لَيْسَ أَن تَفعَلُوا فَقَط بَلْ أَنْ تُرِيدُوا أَيضًا. وَلَكِنِ الآنَ تَمِّمُوا العَمَلَ أَيضًا، حتَّى إنَّهُ كَمَا أَنَّ النَّشاطَ للإِرادَةِ، كَذَلِكَ يَكُونُ التَّتْمِيمُ أَيضًا حَسَبَ ما لَكُم. لِأَنَّهُ إِنْ كانَ النَّشاطُ مَوجودًا فَهوَ مَقبُولٌ على حَسَبِ ما للإِنسانِ، لا على حَسَبِ ما لَيْسَ لهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ لِكَي يَكُونَ لِلآخَرينَ راحةٌ وَلَكُمْ ضِيقٌ، بَلْ بِحَسَبِ الـمُساواةِ. لِكَيْ تَكونَ في هذا الوَقتِ فُضَالَتُكُم لإِعْوازِهِم، كَي تَصيرَ فُضَالَتُهُم لإِعْوازِكُم، حَتَّى تَحْصُلَ الـمُساواةُ. كَما هُوَ مَكْتُوبٌ: "الّذي جَمَعَ كَثيرًا لَم يُفضِلْ، والَّذي جَمَعَ قليلاً لَمْ يُنقِصْ". وَلَكِنْ شُكرًا للهِ الّذي جَعَلَ هذا الاجْتِهادَ عَينَهُ لأَجْلِكُم في قلبِ تيطُسَ، لِأَنَّهُ قَبِلَ الطِّلْبَةَ. وَإِذْ كانَ أَكْثَرَ اجْتِهادًا، مَضَى إِلَيْكُم مِن تِلقاءِ نَفسِهِ. وَأَرْسَلْنا مَعَهُ الأَخَ الّذي مَدْحُهُ في الإِنجيلِ في جَميعِ الكَنائِسِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فَقَط، بَلْ هُوَ مُنتَخَبٌ أَيضًا مِنَ الكَنائِسِ رَفيقًا لَنا في السَّفَرِ، مَعَ هَذِهِ النِّعمَةِ الـمَخدُومَةِ مِنَّا لِمَجدِ ذَاتِ الربِّ الواحِدِ، وَلِنَشَاطِكُم. مُتَجَنِّبِينَ هَذا أَنْ يَلُومَنا أَحَدٌ في جَسامَةِ هَذِهِ الـمَخدومَةِ مِنّا. مُعْتَنينَ بأُمورٍ حَسَنَةٍ، لَيْسَ قُدَّامَ الربِّ فَقَط، بَلْ قُدَّامَ النَّاسِ أَيضًا. وَأَرْسَلْنا مَعَهُما أَخانَا، الّذي اخْتَبَرْنا مِرارًا في أُمورٍ كَثيرَةٍ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، وَلَكِنَّهُ الآنَ أَشَدُّ اجْتِهادًا كَثيرًا بِالثِّقَةِ الكَثيرَةِ بِكُم. أَمَّا مِن جِهَةِ تِيطُسَ، فَهوَ شَريكٌ لي وَعَامِلٌ مَعي لِأَجْلِكُم. وَأَمَّا أَخَوانا فَهُما رَسُولا الكَنائِسِ، ومَجْدُ المَسيحِ. فَبَيِّنوا لَهُم، وَقُدَّامَ الكنائِسِ، بَيِّنَةَ مَحَبَّتِكُم، وافْتِخارِنا مِنْ جِهَتِكُم."

في هذا الإصحاح، يُعالج بولس الرّسول موضوع العطاء قائلاً إنّه يتوجّب على الكنائس الغنيّة أن تهتمّ بحاجات الكنائِس الفقيرة. وفي هذا الصّدد، يلتقي بولس الرّسول مع لوقا الإنجيليّ الّذي نقل إلينا في سفر أعمال الرّسل، صورةً مِثاليّة عن الشراكة في الخدمة، الّتي كانت تعيشها الكنيسة الأولى، قائلاً: "وكانوا يُواظبون على تعليم الرّسل، والمشاركة وَكسْرِ الخبز والصّلوات" (أعمال 2: 42). إنّ الشراكة في الخدمة لا تقوم على المشاركة في الطّعام وحَسب، إنّما تقوم أيضًا على مشاركة المؤمنِين بعضهم البعض الهموم الحياتيّة، ليتمكّن الأغنياءُ مِنهم مِن سدِّ حاجات الإخوة المحتاجين، محاولين بذلك القضاء على الفقر، بعطاءاتهم، مُتغلّبين على التّجربة الأخطر الّتي ينصبها لهم الشِّرير وهي بثُّ شعورٍ بالتَّقصير تجاه حاجات إخوتهم الـمُعوَزين. يتعرّض المؤمِنون الـمَيسُورون أيضًا لإحدى أخطر تجارب الشِّرير، وهي قائمة على تحليلهم لأوضاع المحتاجين قبل تقديمهم العطايا لهم،كوَسيلةٍ للتهرّب مِن تلبية الحاجات المطلوبة. على الكنائس الغنيّة أن تمدَّ يد العَون إلى الكنائس المحتاجة، لأنّ مَن يعرِض عليهم حاجةَ تلك الكنائس، هو بولس الرّسول الّذي بشَّر الكنائسَ الغنيّة والكنائس الفقيرة على حدٍّ سواء، أي أنّه يعرف حاجةَ كلٍّ مِن تلك الكنائس، ولذلك فهو لن يترددّ في طلب المساعدة كلّما رأى حاجةً لذلك. إنّ العطيّة الماديّة الّتي يُقدِّمها المؤمِن، هي "نِعمةٌ مِنَ الله" للمحتاج، حَسْبَ تعبيرِ بولس الرّسول. فالغنى الماديّ هو عطيّةٌ مجانيّة مِن الله للإنسان، ولذا فإنّ الإنسان الّذي يُقدِّم عطيّةً للمحتاج إليها، يدخل بعمله هذا في شراكة الخدمة، ويُدخِل المحتاجين بعطائه هذا في شراكة المحبّة معه.

في هذا الإصحاح، يبدو واضحًا دَور بولس الأبويّ والرِّعائي تجاهَ أهل كورنثوس، إذ يستخدم أسلوبًا لطيفًا معهم لتوجيه الملاحظات: فبولس الرّسول لا يوجّه الملاحظات لأهل كورنثوس بغاية دينونتهم، إنّما لتشجيعهم على تحسين مسيرتهم الإيمانيّة؛ كما أنّه يمدحهم لا لزرع الغرور في نفوسهم إنّما مِن أجل حثِّهم على متابعة مسيرتهم في العطاء للآخرين. إنّ بولس الرّسول هو أبٌ روحيّ للكنائس الّتـي بشَّرها، أي أنّه يعرف طاقة كلٍّ منها على العطاء، كما يعرف إحتياجات كلِّ واحدةٍ منها. ولذا فإنّه عندما يطلب مساعدةً ماديّة مِن إحدى الكنائس، فإنّه لا يطلب منها ما يزيد عن قُدرتها، إنّما هو يطلب منها حسب طاقتها. لذا على الكنائس لا أن تُقلِّل من كميّة عطاءاتها للآخرين، بل أن تُعطي على حسب قُدرتها، وهذا ما قصده بولس الرّسول بعبارة "على حسب الطّاقة". إنّ كلام المديح الّذي ناله أهل كورنثوس مِن بولس الرّسول على عطاءاتهم للكنائس الأخرى يشكِّل تعزيَةً لهم، وتحفيزًا لمتابعة تلك المسيرة. وما نعيشه في عالمنا اليوم هو أكبر دليلٍ على ذلك، إذ إنّ الحاجات الماديّة كبيرة في مجتمعاتنا، وتفوق في بعض الأحيان قدرة المؤمِنين الـمَيسُورين على سدِّها، لذا على الرّعاة في الكنائس أن يلجأوا إلى كلام المديح والتَّحفيز على العطاء، لا اللّجوء إلى كلام التوبيخ الّذي يقتل روح الخدمة في النّفوس، زارعًا فيها شعورًا بعدم جدوى عطاءاتهم المتواضعة. ليس على الرّاعي أن يدين المؤمِنين على عطاءاتهم الصَّغيرة، بل أن يشكرهم على ما قدَّموه مهما كان قليلاً، لأنّ كلّ عطاءٍ يقوم به الإنسان تجاه أخيه المحتاج، هو ذو قيمةٌ كبيرةٌ في نظر الله. غريبٌ هو منطق الإنسان: إذ ينسى كلّ حسناتِ أخيه الإنسان، يومَ يفقدَ هذا الأخير كلّ قُدرةٍ على الإحسان إليه، أو يومَ يُسيء إليه عن غير قصدٍ منه. إنّ منطق الله مختلفٌ كلّ الاختلاف عن منطق الإنسان: فهو أي الله ينسى كلّ سيئات الإنسان يومَ يقوم هذا الأخير بعملٍ واحدٍ صالحٍ، ولا يعود الله يذكرِ من ماضي الإنسان سوى ذلك العمل الصّالح الّذي قام به، وهذا ما يبرِّر قَولنا إنّ "لا إله إلّا الله".

إنّ الإنسان الّذي يُعطي المحتاجين، مِنَ النِّعَم الّتي نالها مِن الله بمجانيّة، ينال بدلاً عن تلك العطاءات الأرضيّة فيضًا وافرًا من النِّعَم. وبالتّالي لا يقتصر الشُّكر على الإنسانِ المحتاجِ للإنسان المِعطاء، بل يطال الإنسان المِعطاء أيضًا: إذ على الإنسان المِعطاء أن يشكر لا الإنسان المحتاج الّذي قَبِلَ العطيّة وحَسب، بل الله أيضًا على فيضِ نِعَمِه عليه. إنّ العطاء يزرع في قلب الإنسان المحتاج فَرَحًا كونه حصل على حاجته الّتي يُنشِدُها، كما أنّ الإنسان المِعطاء يشعر بالفرح أيضًا كَونه أفَرَح قلب الآخر، فالإنسان المِعطاء يشتَرِكُ مِن خلال عطائه في شركة الخدمة والمحبّة. إنّ العطاء لا يُشعر الإنسان المِعطاء بالتّقصير تجاه الآخر، بل إنّه يزرع في قلب المحتاج والـمُعطي فَرَحًا لا يمكن وَصفه. إنّ الفرح الّذي يزرعه العطاء في قلب الإنسان لا يختبره إلّا الإنسان الّذي يُعطي مِن عُمقِ حاجته، وكذلك الإنسان المحتاج الّذي حصل على عطاءٍ بعد أن كان قد قطع كلَّ أملٍ بالتفاتة الآخر نحوه. إنّ "نعمة الله" الّتي يمنحها مؤمِنٌ لآخرٍ محتاج، تقتل في نفسِ الإنسان الـمُعوَز كلّ إحباطٍ ويأسٍ، كما أنّها تقوّي فيه الإيمان بالربّ الّذي يهتمّ به، وبالتّالي ينال تعزيةً مِن عند الربّ حين يرى أنّه لا يزال في العالم أشخاص صالحون مستعدّون لتلبية حاجات إخوتهم. إنّ الأعاجيب لَيْسَت الأعمال الخارقة الّتي يقوم بها الله مع أبنائه على الأرض، من خلال قدِّيسيه الّذين انتقلوا من بيننا إليه، بل الأعاجيب هي الشِّفاءات الدّاخليّة الّتي يحصل عليها المؤمِنون الـمِعطائون، والمؤمِنون المحتاجون نتيجة فِعل العطاء. على المؤمِنين تحاشي الوقوع في فخّ التّقصير الّذي يزرعه في داخلهم الشِّرير، كما أنّه عليهم تحاشي الوقوع أيضًا في فخّ تحليل أوضاع المحتاجين قبل إقدامهم على تقديم العطايا لهم. على الإنسان أن يُعطي الآخر بفرحٍ تعبيرًا عن حبّه له. إنّ العطاء "على حسب الطّاقة"، يخلق في الآخر المحتاج، طاقةً أكبر وأعظم لمتابعة هذه الحياة، إذ ينال بفضل "نعمة الله" هذه، معنىً جديدًا لوجوده في هذه الحياة. إنّ أعظم فضائل الإنسان هي تلك المحبّة الـمُترجمة خدمةً وانتباهً للآخر لأنّه مهما كان الإنسان بارعًا في الوَعظ والتَّعليم والعِلم، فإنّ مواهبه هذه كلِّها، تبقى ناقصة ولا جدوى منها إن لم تكن مقرونة بالتفاتةِ محبّة صوب الآخر، قادرة على زرع الرّجاء والتّعزيَة في نفوس الآخرين. إنّ كلام بولس الرّسول لأهل كورنثوس في هذا الإصحاح، لم يكن "على سبيل الأمر" أي أنّ كلامه في موضوع العطاء لم يكن مِن أقوال الربّ، بل هو نتيجة اختباره واختبار آخرين لشراكة الخدمة أي العطاء، وهذا ما قصده بقوله:"لَسْتُ أَقُولُ على سَبيلِ الأَمْرِ، بل باجْتِهادِ آخَرينَ، مُخْتَبِرًا إِخْلاصَ مَحَبَّتِكم أَيضًا".

في هذا الإصحاح، يطرح بولس الرّسول على أهل كورنثوس ذهنيّة جديدة وبسيطة، تقوم على اكتشاف كلّ مؤمِن للنِّعم الّتي منحه إيّاها الله في حياته، فيتمكّن مِنَ الاشتراك بها مع الآخرين. على كلّ مسيحيّ أن يتسلّح بهذه الذهنيّة: فيشكر الـمُعطي العاطي، أي الله، واهِبه كلَّ تلك النِّعَم، ليتمكّن مِن إدراك قيمة وجوده من خلال مساعدة الآخرين وإدخال الفرح إلى قلوبهم؛ كما يشكر المحتاجُ اللهَ، لأنّه نال "نعمةً منه"، بفعل التفاتةِ مؤمِنٍ لحاجته، فأكَّد له بعطائه حقيقةَ وجود الله في الحياة، وأدرَك بالتّالي معنى وجوده. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
9/1/2018 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الاصحاح السابع قرار العودة إلى الربّ
https://youtu.be/WWFPNZE3NcY

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح السابع
الأب ابراهيم سعد

9/1/2018


"فإذْ لَنا هذهِ المواعيدُ أيُّها الأحِبَّاءُ لنُطَهِّر ذواتِنا مِن كلِّ دنَسِ الجَسَدِ والرُّوحِ، مُكَمِّلينَ القداسَةَ في خوفِ الله. اِقْبَلونا. لمْ نَظلِمْ أحدًا. لَم نُفسِدْ أَحدًا. لَمْ نَطمَع في أحدٍ. لا أقولُ هذا لأجلِ دينونةٍ، لأنِّي قَدْ قُلتُ سابقًا إنَّكُم في قلوبِنا، لِنَموتَ مَعَكُم وَنَعيشَ مَعكُم. لي ثِقَةٌ كثيرةٌ بِكُم. لي افْتِخارٌ كثيرٌ مِن جِهَتِكم. قَدِ امْتَلأْتُ تَعزيةً وازدَدْتُ فَرَحًا جدًّا في جميع ضِيقاتِنا. لِأَنَّنا لَمَّا أَتَيْنا إلى مَكدُونيَّةَ لَمْ يَكُن لِجَسَدِنا شيءٌ مِنَ الرَّاحةِ بل كُنَّا مُكْتَئِبينَ في كلِّ شيءٍ: مِن خارِجٍ خُصُوماتٌ، مِن داخِل مخاوِفُ. لكنَّ اللهَ الَّذي يُعزِّي المُتَّضِعِينَ، عَزَّانا بمجيءِ تيطُسَ. وَلَيسَ بِمَجيئِهِ فَقَط بَلْ أيضًا بالتَّعزيَّة الّتي تَعزَّى بها بسَبَبِكُم، وهُوَ يُخبِرُنا بِشَوقِكُم ونَوحِكُم وغَيرَتِكُم لأجلي، حتّى إنِّي فَرِحْتُ أَكثَرَ. لأنِّي وإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحزَنْتُكُم بالرِّسالةِ لَسْتُ أندَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فإنِّي أرى أنَّ تلكَ الرِّسالةَ أَحْزَنَتْكُم وَلَو إلى ساعةٍ. الآنَ أنا أَفرَحُ، لا لأنَّكم حَزِنْتُم، بل لأنَّكم حزِنتُم للتَّوبة. لأنَّكم حَزِنْتُم بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله لكي لا تَتَخَسَّرُوا مِنّا في شيءٍ. لِأَنَّ الحُزنَ الّذي بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله يُنشِئُ توبةً لِخَلاصٍ بِلا ندامةٍ، وأمَّا حُزنُ العالَم فيُنشِئُ مَوتًا. فَإنَّهُ هُوَذا حُزنُكم هذا عيْنُهُ بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله، كَم أنشَأَ فِيكُم: مِنَ الاجْتِهادِ، بَل مِنَ الاحْتِجاجِ، بَلْ مِنَ الغَيظِ، بَلْ مِنَ الخَوفِ، بَلْ مِنَ الشَّوقِ، بَلْ مِنَ الغَيْرَةِ، بَلْ مِنَ الانتقامِ. في كلِّ شيءٍ أَظهَرتُمْ أَنفُسَكُم أنَّكم أَبرياءُ في هذا الأَمرِ. إذًا وَإنْ كُنتُ قَدْ كَتَبْتُ إلَيكُم، فَلَيسَ لأجلِ الـمُذْنِبِ ولا لأجلِ الـمُذنَبِ إليهِ، بَلْ لِكَي يَظهَرَ لَكُم أمامَ اللهِ اجْتِهادُنا لِأَجلِكُم. مِن أَجلِ هذا قَدْ تَعَزَّينا بِتَعزِيَتِكُم. ولَكِن فَرِحْنا أَكثَرَ جدًّا بسَبَبِ فَرَحِ تيطُسَ، لأنّ رُوحَهُ قد استراحَتْ بِكُم جميعًا. فإنِّي إِنْ كُنتُ افتَخَرْتُ شيئًا لَدَيْهِ مِن جِهَتِكُم لَمْ أُخْجَل، بَلْ كما كَلَّمناكُم بِكُلِّ شيءٍ بالصِّدقِ، كذلِكَ افتِخارُنا أيضًا لَدى تيطُسَ صار صادِقًا. وَأَحشاؤُهُ هِيَ نَحوَكُم بالزِّيادَةِ، مُتَذَكِّرًا طاعَةَ جميعُكُم، كيفَ قَبِلتُموه بِخَوفٍ ورَعدَةٍ. أنا أَفرَحُ إذًا أَنِّي أَثِقُ بِكُم في كلِّ شيءٍ".

في لقائنا الأوّل بعد مرور فترة الأعياد المجيدة، أتمنّى أن يكونَ جميعُ الحاضرين قد تمكّنوا من اختبار عمقٍ روحيٍّ في هذه المناسبات، ومِن عَيشِ مفاعيلها في حياتهم اليوميّة، فلا تكون حياتهم صورةً عن حالة الحزن الّـتي تكلّم عنها بولس في هذا الإصحاح. إنّ تيطس هو تلميذُ بولس الرّسول، وقد زار كورنتوسَ استجابةً لطلب مُعلِّمه. إنّ بولس يُذكِّر أهل كورنثوس برسالته الأُولى إليهم، الّتي سبَّبت لهم بعض الحُزن، ثمّ يقوم بمَدحِهم لا من أجل زرع الغرور في نفوسهم إنّما مِن أجل تعزيَتهم وحثِّهم على متابعة مسيرتهم مع الربّ.
في هذا الإصحاح، يقول لنا بولس الرّسول: "لِأَنَّ الحُزنَ الّذي بِحَسَبِ مَشيئَةِ الله يُنشِئُ توبةً لِخَلاصٍ بِلا ندامةٍ، وأمَّا حُزنُ العالَم فيُنشِئُ مَوتًا". في هذه الآية، يميِّز بولس نَوْعَين من الحُزن: حُزنًا يؤدِّي إلى موت الإنسان؛ وحُزنًا يُعطي الحياة للإنسان إذ يدفعه للعودة إلى الربّ أي إلى التوبة. إنّ كلمة "توبة"، في اللّغة العبريّة، مشتقَّة مِن فِعلِ "شَابَ"، ومعناه تابَ أي عاد إلى الله. أمّا في اللّغة اليونانيّة، فكلمة "توبة"، تعني "مِيتانويا"، وهي مشتقَّة مِن كلِمَتين: "مِيتا" وتعني الانقلاب، و"نُوس" وتعني أعلى مراتب الذِّهن أو الفِكر، وبالتّالي يُصبح معنى كلمة "توبة" في اليونانيّة، انقلاب الذِّهن، وهذا هو المعنى الحقيقيّ للتوبة. إنّ الكلمة اليونانيّة "مِيتانويا" قد تُرجمَت إلى العربيّة فأصبحت "مطانيّة"، وهي تشير إلى تلك الحركة الجسديّة الّتي يقوم بها المؤمِن ليعبّر عن توبته العميقة فينحني حتّى تُلامس جبهته الأرض. في هذه الحركة الجسديّة يُعبِّر الإنسان عن رغبته العميقة لتغيير مسيرة حياته وعودتِهِ إلى الربّ مُعلنًا توبته عن خطاياه. إنّ التّوبة لا تقتصر على النّدامة أي على اعتراف المؤمِن بخطاياه، بل تتطلّب أن يتَّخِذ المؤمِن قرارًا بالعودة إلى الربّ. فالإنسان قد يعترف بخطيئته مِن دون أن يعود بالضرورة إلى الله. إذًا، النّدامة هي "الرّجوع عن"، أمّا التّوبة فهي "الرّجوع إلى".

إنّ بعض الأحداث الّـتي يتعرَّض لها الإنسان في حياته، كما بعض الأقوال الّتي يسمعها، قد تُسبِّب له حُزنًا في داخله لأنّها تُذكّره بحالته، أي بابتعاده عن الله. إنَّ هذا الحزن الّذي يختبره الإنسان هو "حُزنٌ بحسب مشيئة الله" حسب قولِ الرَّسول، لأنّه يدفعه إلى اتِّخاذ القرار بتغيير مسيرته والعودة إلى الله. أمّا حُزنُ العالم فهو حُزنٌ يتعرَّض له الإنسان نتيجة ما يحدث معه في حياته، فيدفعه للغرق في اليأس والإحباط. إنّ الخصومات بين البشر تؤدِّي حتمًا إلى موت الإنسان روحيًّا لأنّها تقتل فيه كلّ قدرة على الحبّ والمسامحة وكلّ قدرة على الإصغاء للآخرين؛ كما تخلق فيه قلبًا قاسيًا غير قادر على التّعاطف والإحساس مع الآخرين. إنّ تعرُّضَ الإنسان لحالةِ مرضٍ أو ألمٍ أو موتٍ في حياته تُساهم هي أيضًا، إضافةً إلى الخصومات بين النّاس، في خلق حالةٍ من الحزن الدُّنيويّ عند الإنسان، يؤدّي إلى حالةٍ مِنَ الفتور في علاقة الإنسان مع ربِّه. إنّ الربّ ليس مسؤولاً عن أحزاننا، بل إنّ أحزاننا في غالبيّة الأوقات تكون ثمرة انشغالاتنا الدُّنيويّة وتعلّقاتنا الأرضيّة الّتي لا تستطيع أن تمنحنا الفرح الحقيقيّ. إنّ الكآبة الّتي يتعرَّض لها الإنسان تخلق فيه حُزنًا من دون أن تدفعه إلى التّوبة، وبالتّالي هذا الحزن هو مِن أحزان العالم لا مِن الأحزان الّتي بحَسَب مشيئة الله تدفع بالإنسان إلى التّوبة وبالتّالي إلى حصوله على الخلاص. إنّ حزن العالم هو حزنٌ يتعرَّض له الإنسان، ولكنّه يدفع الإنسان إلى الغرق في حالة الحزن؛ أمّا الحزن الّذي هو مِن الله، فهو حُزنٌ يتبدّد سريعًا لأنّه يجعل الإنسان يشعر بظمئه إلى الربّ وبالتّالي يخلق فيه الرّغبة بالعودة إلى أحضان الربّ الّذي يفتح يديه على الدّوام ليضمّ إلى قلبه كلّ خاطئٍ يعود إليه فيقبّله في عُنُقِه.

بين أهل كورنثوس خصوماتٌ كثيرة أدّت إلى حالةٍ من الحزن في نفوس هؤلاء. كان بولس يتخوّف مِن استمرار تلك الخصومات، وبالتّالي مِن هلاك نفوس أهل كورنثوس، وهذا معنى كلامه: "مِن خارج خصومات، ومِن داخل مخاوف". لقد شعر بولس بالفرح، حين عَلِم مِن تلميذه تيطس، أنّ الرّسالة الأُولى الّتي أرسلها إلى أهل كورنثوس قد خلقَتْ فيهم حُزنًا دفعهم إلى التّوبة، وبالتّالي إلى خلاص نفوسهم. ولذا قال: "إنِّي فَرِحْتُ أَكثَرَ. لأنِّي وإِنْ كُنْتُ قَدْ أَحزَنْتُكُم بالرِّسالةِ لَسْتُ أندَمُ، مَعَ أَنِّي نَدِمْتُ. فإنِّي أرى أنَّ تلكَ الرِّسالةَ أَحْزَنَتْكُم وَلَو إلى ساعةٍ. الآنَ أنا أَفرَحُ، لا لأنَّكم حَزِنْتُم، بل لأنَّكم حزِنتُم للتَّوبة". في بعض الأحيان، قد يخلق فينا حُزن الآخر فرحًا، في حالَتين: أولاً حين نشعر برغبة في الشماتة في الآخرين لفشلهم في تحقيق ما يصبون إليه؛ وثانيًا، حين نختبر أنَّ حُزنَهم قد ساهم في إنشاء توبةٍ في نفوسهم، فعادوا إلى الربّ ونالوا الخلاص. إنّ بولس يشعر بالحزن حين يجد أنّ المؤمِنين قد أساوؤا فهمَ كلمة الله، ولذا هو يتمنّى الموت في ذلك الحين، لأنّه يشعر بأنّه فَشِلَ في إيصال الله لهم كما ينبغي. وكما هي حال بولس، كذلك هي حال كلّ مسؤول في الكنيسة عن نشر الكلمة، إذ يشعر بالحزن والكآبة حين يرى أنّ المؤمِنين قد أساؤوا فَهم كلمة الله المحيية، فجعلوها صنمًا ممّا أدّى إلى انحرافاتٍ في العبادة الحقيقيّة لله الواحد، وبذلك يحقِّقون أهواءهم الأرضيّة الزائلة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
28/11/2017 ميلاد الربّ يسوع بحسب إنجيل متى إنّ مفهوم عيد ميلاد الربّ يسوع قد تَشَوَّه بسبب المباهج الدّنيويّة
https://youtu.be/zOyDwX-D9g8

"الميلاد بحسب انجيل متى"
مع الأب ابراهيم سعد

28/11/2017

في زمن ميلاد الربّ يسوع، نتأمّل في رواية الميلاد كما نقلها إلينا متّى الإنجيليّ، علَّ ذلك يساعدنا للدّخول من خلال هذا الحدث الخلاصيّ في حالةٍ من الفرح الدّاخليّ.
إنّ مفهوم عيد ميلاد الربّ يسوع قد تَشَوَّه بسبب المباهج الدّنيويّة الّتي يسعى وراءها المؤمنين، والتّي حوّلت أنظارهم من النّور الحقيقيّ، يسوع المسيح، إلى الأضواء الميلاديّة، واستبدلت الفرح الحقيقيّ، الفرح بالمولود، بالمرح والفرح الزائل. إنّ جوهر هذا العيد هو في عيش المؤمن يقظةً روحيّةً تدفعه إلى التفكير في حقيقة العيد، الّذي تمّ في الماضي ويتحقّق اليوم أيضًا، وفي عيشه لمفاعيل هذا العيد في حياته اليوميّة.

إنّ هذا الحدث الخلاصيّ يدفعنا إلى طرح السؤال حول هويّة الأشخاص المعنيّين بهذا الخلاص، قائلين: لِمَن جاء المسيح؟ ولِمَن أُعطي الخلاص؟ استنادًا إلى روايات الإنجيل الخاصّة بهذا العيد، يمكننا أن نستخلص أنّ المسيح قد جاء ليُخلِّص جميع البشر: الّذين ينتظرونه، وأيضًا الّذين لا ينتظرونه أي إلى الّذين لم يسمعوا به حتّى ينتظروا مجيئه. إنّ الإنسان موجودٌ في فكر الله منذ الأزل، لذلك خلق الله آدم الترابيّ وأراده أن يكون إنسانًا كاملاً. غير أنّ هذا الأخير رفض مشروع الله الخلاصيّ له، لذا أَرسل الله ابنه الوحيد، يسوع المسيح إلى أرضنا، ليتجسّد فيها ويعيد للإنسان إنسانيّته. يقول أحد القدِّيسين في هذا الحدث الخلاصيّ إنّ الله صار إنسانًا ليؤَلِّه الإنسان. في تَجسُّد المسيح، أعطى اللهُ الآب آدمَ الترابيّ، مثالاً عن الإنسان الكامل، وهو يسوع المسيح، يسوع الناصريّ. في سفر التكوين، نقرأ أنّ الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله. إنّ أيقونة الله وصورته هي الحبّ، وبالتّالي إنّ الله خلق الإنسان على صورة الحبّ الإلهيّ، أي يسوع المسيح، ولكنّنا لم نتمكّن نحن البشر مِن فَهمِ ذلك إلّا في التجسُّد. إنّ آدم الترابيّ قد شوَّهَ صورة الحبّ فيه، ورَفَضَ محبّة الله المزروعة في قلبه.

يقول الكتاب المقدَّس إنّه "لـمّا حلّ ملء الزّمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس". إنّ عبارة "لـمّا حلّ ملء الزّمان" تعني أنّه حين باءت كلّ محاولات الله لـِمَنح الإنسان الخلاص من خلال الأنبياء والـمُرسَلين بالفشل، قرّر الله إرسال إبنه الوحيد ليكشِف للبشر من خلاله عن السبب الحقيقيّ للخَلِق. إنّ الله قد خلق البشر كي يُصبحوا على صورة المسيح، أي كاملين لا عيب فيهم. إنّ الله أرسَل ابنه يسوع إلى أرضنا، فوُلِد من امرأةٍ ليفتديَ جميع الّذين هم تحت النّاموس، ويمنحهم نعمة التبنيّ. إذًا، إنّ يسوع قد وُلِد في أرضنا كي يجعل من جميع البشر أبناءً لله، غير أنّ المؤمنين في زمن الميلاد يهتمّون بأمور دنيويّة كثيرة مُتجاهلين تحضير ذواتهم كأبناء الله للاحتفال بهذا العيد. إنّ الكتاب المقدَّس يُضيف قائلاً إنّنا لم نعد عبيدًا لله بل أحبّاءه. بِتَجسُّد يسوع المسيح في أرضنا، حرّرنا الله من كلّ عبوديّة وجعلنا أبناءً له. قد يتحرر الإنسان من العبوديّة من دون أن يصبح ابنًا لله. إنّ الله لم يكتفِ بتحرير الإنسان من عبوديّته للخطيئة ولآلهةٍ أخرى، بل جعله ابنًا له، وبالتّالي وريثًا لملكوته السماويّ بيسوع المسيح: هذا هو الفرح الحقيقيّ في هذا العيد. لا يستطيع الإنسان أن يفهم عظمة حبّ الله له، ولكنّه يستطيع أن يقبل بهذا الحبّ الّذي لا وصف له الّذي يمنحه إيّاه الربّ في سرّ التَجسُّد.

يَعرِض لنا الإنجيليّ متّى في بداية إنجيله، سلالة يسوع البشريّة المملّة والمخجلة، ليؤكِّد على تجسُّد الله المسيح في بشريّتنا من أحشاء مريم، من أجل خلاص البشريّة الضعيفة. يبدأ متّى بتِعداد تلك السلالة بعبارة "كتاب ميلاد يسوع". استنادًا إلى الترجمة الأصليّة لهذا النّص، نجد أنَّ عبارة "كتاب ميلاد يسوع"، يُقصَد بها "كتاب نَسَب يسوع"، أي سلالته البشريّة. إنّ هذه السلالة البشريّة تحتوي أسماء شخصيّات اشتهرت بخطاياها الجسيمة، كما تتضمّن أسماء شخصيّات غير يهوديّة. إنَّ هدف متّى مِن عرضِه لهذه السلالة البشريّة هو زَرِع الرّجاء في قلوب المؤمنين مؤكِّدًا لهم أنَّ المسيح قادرٌ على الولادة فيهم مِن جديد على الرّغم مِن خطاياهم العظيمة.لم يعد بإمكان أيّ مؤمن استثناء نفسه من هذا الحدث الخلاصيّ، إذ لا أحد من البشر يستحقّ هذه النِّعمة، ولكنّ الله بفيضِ حبّه منحنا خلاصه وبالتّالي ميراثه، إذ أصبحنا أبناءه. فهل يمكن أن نسمّي تصرّف الإنسان حكمةً حين يَرفضُ ميراث الله ليبحث عن ميراث آخر دنيويّ؟
في الإصحاح الأوّل من إنجيل متّى، وفي الآية الأولى منه، نقرأ اسْمَين مهمَّين هما: داود وابراهيم. إنّ داود هو شخصيّة يهوديّة معروفة جدًّا، أمّا ابراهيم فهو إنسانٌ غير يهوديّ، إذ إنّه عاش في مرحلة ما قبل النّاموس، أي قبل وجود موسى، وبالتّالي قبل تكوين الشَّعب اليهوديّ. إذًا، إنّ يسوع هو ابن البشريّة كلّها لأنّه من سلالة داود اليهوديّ، وأيضًا من سلالة ابراهيم غير اليهوديّ. إنّ متّى ولوقا قد تفرَّدا عن بقيّة الإنجيليِّين بعرضِهما لسلالة يسوع البشريّة: نلاحِظُ فرقًا بين هذَين الإنجيلِيَّين، إذ يعرض الإنجيليّ متّى هذه السلالة ابتداءً من ابراهيم وصولاً إلى يوسف زوج مريم، بينما يعرضها لوقا بطريقة معاكسة أي مبتدئًا بيوسف ليصل إلى آدم، واصفًا هذا الأخير بابن الله. لقد ذَكَرَ هذان الإنجيليّان سلالة يسوع البشريّة ليؤكِّدا لنا انتماء يسوع إلى سلالة آدم الّذي رفض أن يكون ابنًا لله، وأنّ يسوع بِتجسُّده قد أعاد نعمة البنوّة لله للبشريّة جمعاء. تتمة...
14/11/2017 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح السادس صفات المؤمن المخلِص
https://youtu.be/UzZcWgrWzZA

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدِّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح السادس
الأب ابراهيم سعد

14/11/2017

"فَإذْ نحنُ عامِلُون مَعَهُ، نطلُبُ أنْ لا تقبَلُوا نعمة الله باطلاً. لأنَّه يقولُ: "في وقتٍ مقبول سَمِعْتُكَ، وفي يومِ خلاصٍ أَعَنْتُكَ". هوَذا الآنَ وقتٌ مقبولٌ. هُوَذا الآنَ يومُ خلاصٍ. وَلَسْنا نَجعَلُ عَثَرةً في شيءٍ لِئلّا تُلامَ الخِدمَةُ. بل في كلِّ شيءٍ نُظهِرُ أَنفُسَنا كخُدّامِ الله: في صبرٍ كثيرٍ، في شدائدَ، في ضَروراتٍ، في ضِيقاتٍ، في ضَرباتٍ، في سُجونٍ، في اضطرباتٍ، في أَتعابٍ، في أَسْهارٍ، في أَصوامٍ، في طَهارةٍ، في عِلمٍ، في أَناةٍ، في لُطفٍ، في الرُّوحِ القُدُس، في محبَّةٍ بلا رِياءٍ، في كلامِ الحقِّ، في قُوّةِ اللهِ بسِلاحِ البِّرِ لليَمينِ وَلِليَسارِ. بِمجدٍ وَهَوانٍ، بِصيتٍ رديءِ وصِيتٍ حَسَنٍ. كَمُضِلِّينَ ونحنُ صادقونَ، كَمَجهولِين ونحنُ معرُفونَ، كَمائِتينَ وها نحن نحيا، كَمُؤدَّبينَ ونحنُ غَيرُ مَقتُولِينَ، كَحَزانى ونحنُ دائمًا فَرِحُونَ، كَفُقراءَ ونحنُ نُغني كثيرينَ، كَأَنْ لا شيءَ لنا ونحن نَملِكُ كلَّ شيءٍ. فَمُنا مفتوحٌ إليكُم أيّها الكورنثيّون. قَلبُنا متَّسِعٌ. لستُم مُتَضَيِّقينَ فينا بل مُتَضَيِّقينَ في أحشائِكم. فَجَزاءً لذلِك أقولُ كما لأَولادي: كونوا أنتم أيضًا مُتَّسِعينَ! لا تكونوا تحتَ نِيرٍ مع غيرِ المؤمنينَ، لأنّه أيَّةُ خلطةٍ للبرِّ والإثمِ؟ وأيَّةُ شَرِكَةٍ للنُّورِ مَعَ الظُّلمَةِ؟ وأيُّ اتِّفاق للمسيحِ مع بَلِيعال؟ وَأَيُّ نصيبٍ للمؤمنِ مع غير المؤمن؟ وأيّةُ موافقةٍ لهيكلِ الله مع الأوثان؟ فإنَّكم أنتم هيكلُ الله الحيّ، كما قال الله: "إنّي سأسكُنُ فيهم وأَسيرُ بينَهم، وأَكونُ لهم إلهًا، وهم يكونونَ لي شعبًا. لذلك اخرجوا مِن وَسَطِهم واعتَزِلوا، يقول الربُّ. ولا تمَسُّوا نَجِسًا فَأَقبَلَكم، وأَكونَ لكم أبًا، وأنتم تكونون لي بَنينَ وبناتٍ، يقولُ الربُّ، القادرُ على كلِّ شيءٍ".

في هذا النّص، يشدّد بولس الرّسول على المؤمنين بعدم المزج بين أمور الله، وأمور الدُّنيا أي أمور الوثنيّين.كانت كورنثوس مدينة وثنيّة قَبْلَ أن تصلِها البشارة بواسطة بولس. وبعد أن سمِعَ أهلُها بالمسيح، آمن بعضهم، وأصبح مسيحيًّا، بينما بقيَ قسمٌ آخرُ منهم وثنيًّا. إنَّ المشكلة الّـتي يتحدَّث عنها بولس، في هذا الإصحاح، تكمن في مخالطة المسيحيّين الكورنثيّين للوثنيّين أبناء مدينتهم، لا على مستوى الصداقة والقُربى وحسب، إنّما أيضًا على مستوى العبادات والعادات الوثنيّة. إنّ اشتراك المؤمنين مع الوثنيّين في أمور العبادة تؤثِّر سلبًا على المسيرة الروحيّة لهؤلاء المؤمنين الجُدد بالمسيح. وفي هذا الإصحاح أيضًا، يشدِّد بولس على أنّ لا شيء يستطيع أن يقفَ حاجزًا في طريق وصول كلمة الله إلى الآخرين، لذا يُعدِّد بولس كلّ معاناته في أثناء مسيرته التبشيريّة، مؤكِّدًا أنّ كلّ تلك الصّعوبات لم تتمكّن من إيقافه عن متابعة مسيرته الرسوليّة. إنّ عبارة "سلاح البرّ لليمين ولليسار"، الّتي استعملها بولس، في هذا الإصحاح، تُتَرجَم في أماكنَ أخرى بعبارة "سلاح الهجوم وسلاح الدِّفاع". إنّ سلاح الهجوم يستعمله المحارب كي يهجم على المعتدي ويقتله، أمّا سلاح الدِّفاع فيستعمله كي يدافع عن نفسه، ويردّ عنه كلّ أذى يتعرَّض له من قِبَل المعتدي. إنَّ بولس قد استخدم هذا التعبير "سلاح البرّ لليمين واليسار"، ليُخبر أهل كورنثوس أنّه يُجنِّد كلّ طاقاته في سبيل ثباتهم في الإيمان الصَّحيح. يبدأ هذا الإصحاح بعبارة "عاملون معه"، وقد تمّ توضيحُها في ترجماتٍ أخرى عبر استبدالها بعبارة "نحن مع عمل الله"، إذ لا يمكن للرّسل أن يكونوا في شراكةٍ مع الله في عمله لأنّ الرّسل ليسوا من طبيعة الله، فالشراكة تفترض أن يكون الشَريكَيْن مِن المستوى ذاته، وهذا لا ينطبق على الرّسل مع الله. إنّ الرّسل يؤيِّدون الله في ما يقوم به، وَيَسعُون إلى تفعيل عمله فيهم من خلال نقلهم البشارة للآخرين. إنّ بولس الرّسول يدعو أهل كورنثوس للاختيار ما بين السير وِفقَ مشيئة الله، وبين السَير وِفقَ مشيئة العالم، إذ لا يمكنهم الاستمرار في العيش على النّحو الّذي يعتمدونه: أحيانًا مع مشيئة الله، وأحيانًا أخرى مع مشيئة العالم.

إنّ المؤمنين، في عالمنا اليوم، يُشبِهون أهل كورنثوس، إذ إنّهم يريدون اتِّباع يسوع المسيح وتعاليمه مِن دون الامتناع عمّا لا يُرضيه. إنّ مشكلة مسيحيّي اليوم تكمن في ارتكابهم للأخطاء، مع القرار بالتوبة عنها لاحقًا. إنّ بولس يُحذِّرنا مِن العيش بهذه الطريقة لأنّه لا يجوز لنا المزج بين هيكل الله وهيكل الأوثان. لذا، سرد لنا بولس الرّسول، في القسم الأوّل من هذا الإصحاح، صفات المؤمن الـمُخلِص لكلمة الله، الّذي لا يتراجع عن إيمانه وعن مسيرته التبشيريّة بالمسيح على الرّغم من كلّ الاضطهادات، والضيّقات الّـتي تواجهه. إنّ مسيرة بولس الرّسول التبشيريّة، كما سائر الرّسل، لم تكن سهلة على الإطلاق، بل على العكس مِن ذلك تمامًا، فَقَدْ كلّفتهم اضطهاداتٍ وضيقات على شتّى أنواعها، كثمنٍ لإعلانهم البشارة بيسوع المسيح. إنّ الرّسل قد تعرَّضوا مرّات كثيرة إلى الإحباط واليأس في مسيرتهم التبشيريّة، عند عودة المؤمنين الجُدد بالمسيح إلى تصرّفاتهم الوثنيّة عند رحيل الرّسل عنهم للتبشير في مكانٍ آخر؛ ولكنّ الفرح والتعزيّة كانا يملآن قلوب الرّسل حين يشعرون بأنّهم يشاركون من خلال رسالتهم التبشيريّة اللهَ في عمله. إنّ فرح الرّسول في عمله التبشيريّ لا يأتيه من النّاس الّذين يبشِّرهم، إنّما مِن كلمة الله.

إنّ عودة المؤمنين الجُدد بالمسيح إلى تصرّفاتهم القديمة قد أدخلت بولس الرّسول في حالةٍ من الإحباط، لأنّ بولس الرّسول كان على قناعةٍ تامّةٍ أنّ المسيح آتٍ وأنّه لن يتأخّر في مجيئه، لذا كان يتصرّف وكأنّ الربَّ آتٍ قريبًا، أمّا هُم فكانوا يتصرّفون وكأنّ الربّ سيتأخّر في مجيئه. إنّنا، نحن المؤمنين اليوم، نتصرّف على مثال أهل كورنثوس، إذ نعتقد أنّ الربّ سيتأخّر في مجيئه، لذا نرتكب الأخطاء مقرِّرين التوبة عنها لاحقًا، فإنّه لو كُنّا مقتنعين حقًا أنَّ الربّ آتٍ عمّا قريب، لَكُنّا تَخَلَّينا عن أهوائنا ونزواتنا الأرضيّة. فمثلاً على المستوى البشريّ، حين يَجزِم المؤمنون أنّ الكاهن سيتأخّر عن موعد المحاضرة، فإنّهم سيتأخرّون في الحضور إلى قاعة الاجتماع؛ أمّا إن كانوا يَعلَمون أنَّ الكاهن سيأتي في الوقت المحدَّد، فإنّهم سيستعجلون في الحضور إلى قاعة الاجتماع كي لا يَفُوتُهم شيءٌ مِن تعليمه لهم. هذا على المستوى البشريّ، فكيف إن كان الأمر يتعلَّق بمجيء الربّ في مجده؟ لقد حاول شهود يهوه، مرَّاتٍ عديدة، معرفة زمن مجيء الربّ وفشلوا في ذلك، لأنّ الأمر متعلِّق بالربّ وحده دون سواه، فهو الّذي يقرِّر ساعة مجيئه. إنّنا نحن المؤمنين نُشابه شهود يهوه، في تحديد موعد مجيء الربّ، فهم يستعجلون حضوره، أمّا نحن فنؤخِّر مجيئه. إخوتي، لا يحقّ لأحدٍ أن يُحدِّد للربّ يوم مجيئه، لأنّه عندها، يُعطي الإنسان نفسه حقَّ الاسترخاء والاستسلام لأهوائه ومغريات هذا العالم، إذ في نظره سيتأخّر الربّ في مجيئه. على المؤمن أن يكون مستعدًّا على الدَّوام لمجيء الربّ، فتكون تصرّفاته وحياته منسجمة مع تعاليم الربّ. إنّ بولس يُخبر أهل كورنثوس، أنّ هذا اليوم هو يوم الخلاص، لذا عليهم الاستفادة مِن هذا الوقت، لا إضاعته في الانشغال بمحاولة معرفة يوم مجيء الربّ. إنّ بولس الرّسول منزعجٌ من تصرّفات أهل كورنثوس، لأنّها لا تعكس إيمانهم بالربّ يسوع، بل تُعبِّر عن انزعاجهم الداخليّ. إنّ بولس يدعو أهل كورنثوس إلى التحلّي بقلبٍ متَّسع على مثاله، فبولس يُعبِّر لهم عن اتِّساع قلبه من خلال رعايته الأبويّة واهتمامه بهم، إذ لا يمانع مِن تبشيرهم مرّة أخرى إن كان لذلك ضرورةٌ، وهذا ما يقصده بعبارة "فمُنا مفتوحٌ لكم". إنّ بولس يستخدم في بعض الأحيان، صورة الأب مع أبنائه، مع الّذين يبشِّرهم كما هي الحال في هذا الإصحاح؛ كما يستخدم في أحيانٍ أخرى، صورة الأمّ الّتي تتحضّر للولادة بالمخاض، حين يقول للمؤمنين إنّه يتمخَّض بهم ليُتَصوَّر المسيح فيهم، فبالنسبة إليه، هو يلدهم للمسيح من خلال تبشيره إيّاهم. إنّ هذه العبارات الّتي يلجأ إليها بولس الرّسول تعبّر عن مدى حبّه للمسيح، وإخلاصه للبشارة، على الرّغم مِن كلّ الشّدائد الّتي يعاني منها كي يتمكّن من ولادة الّذين يبشِّرهم أبناءً لله.
إنّ التبشير بكلمة الله يُشبه مخاض المرأة الحُبلى، فالتبشير كالولادة لا يتمّ بسهولة، فالمبشِّر يتعرَّض لصعوبات وضيقاتٍ كثيرة في أثناء نقله البشارة للآخرين، كما تتعرَّض الأمّ للآلام أثناء ولادتها. إنّ ألم الخطيئة الّذي يُعاني منه المؤمن حين ارتكابه لها، أقلّ وجعًا من الألم الّذي يتحمّله الرّسول في أثناء نقله البشارة للآخرين: فألم المؤمن عند ارتكابه الخطيئة هو ألم متعلِّقٌ به وحده، أمّا الألم الّذي يتعرَّض له الرّسول أثناء قيامه برسالته، فيطاله أوّلاً إذ يتألّم من عدم قبول الآخرين بالمسيح، ومن ثمّ يطال السامعين لهذا الرّسول، الّذين يرفضون التخلّي عن حياتهم القديمة نتيجة تعلُّقهم بأهوائهم ونزواتهم الأرضيّة، على الرّغم من اقتناعهم بالمسيح وتعاليمه. إنّ بعض المؤمنين يَضطَهِدون إخوتهم المبشِّرين بالمسيح، لأنّهم يرفضون التوبة عن مسيرتهم الخاطئة، والعودة إلى كلمة الله، لأنّ في ذلك تهديدًا لمصالحهم الخاصّة ولأهوائهم. إنّ يسوع هو الحقيقة، لذا على المؤمنين اتِّخاذه مَرجَعًا لهم في حياتهم وبخاصّة عند وقوع خلافات في ما بينهم. إنّ المؤمنين يتصرّفون كأنّ الربّ سيتأخّر في مجيئه، فيرتكبون الخطايا مع الوعد بالعودة عنها لاحقًا. ولكن ماذا لو جاء الربّ إليك بعد ارتكابك للخطيئة، وقبل أن تتمكّن من التوبة؟ استمرّ بولس في التبشير بكلمة الله على الرّغم من كلّ المشَّقات والأوجاع الّـتي تعرَّض لها في مسيرته الرّسوليّة. وهنا يُطرَح السؤال: هل كُنّا، نحن كمؤمنين بالمسيح، سنستمرّ في التبشير، إنْ تعرَّضنا لِمَا تعرَّض له بولس؟ إنّ بولس يُشجِّع أهل كورنثوس على تحمّل الصّعوبات والضِّيقات الّتي يتعرَّضون لها من جرّاء إيمانهم بالربّ يسوع، كما يدعوهم إلى عدم الحزن بل إلى الفرح لأنّ كلمة الله تنتشر بفضل احتمالهم لتلك الشَّدائد. إنّ ما عانى منه أهل كورنثوس، قد عانى منه أيضًا كلّ المبشِّرين: فالرّسل، على الرّغم من كلّ الضِّيقات الّتي عانوا منها في مسيرتهم التبشيريّة، تسلّحوا بكلمة الله الّـتي كانت تمنحهم فرحًا لا يزول. إنَّ المبشِّرين هم أغنياء بكلمة الله، ولكنّهم فقراء على مستوى الممتلكات الأرضيّة: إنّهم لا يملكون شيئًا في هذه الأرض، سوى رجائهم بالربّ يسوع وثقتهم أنّه سيُحقِّق كلّ وعوده لهم بمنحهم الحياة الأبديّة.

إنّ بولس يطلب من أهل كورنثوس ألّا يقبلوا بأن يكونوا تحت النِير مع غير المؤمين. إنّ النير هو عبارة عن عصا فيها بعض المسامير، توضع على ظهر البهائم أثناء فلاحتها للأرض، ويستخدمها الفلّاح لمنع بهائمه من الشُّرود عن أرض الفلاحة. لا يجوز للمؤمنين، حسب قول بولس الرّسول، الاختلاط مع غير المؤمنين، وخاصّة في أمور العبادة لأنّه من غير الممكن الرَّبط بين البرّ والإثم، بين النّور والظلمة. إنّ بولس يحذِّر أهل كورنثوس من الاستمرار في العيش على هذا المنوال، لأنّهم سيعتادون على الظلمة، وعندها سيكون مصيرهم الهلاك لا الخلاص. إنّ تصرّفات أهل كورنثوس تؤكِّد عدم قناعتهم باقتراب يوم مجيء الربّ، لذا يسمحون لأنفسهم بالاختلاط مع أبناء الظلمة. إنّ قبول المؤمنين بأمورٍ لا تتماشى مع إيمانهم، هو في الحقيقة مساومة على البرّ وبالتّالي قبول بالخطأ وتشريعه. إنّ المسيح لا يستطيع التعايش مع بليعال، أي الشِّرير، لأنّه لا يمكن للظلمة والنّور أن يلتقيا، فإمّا أن يكون هناك نور وإمّا ظلمة. إنّ بولس يذكِّر أهل كورنثوس بأنّهم هيكل الله الحيّ، ويحثِّهم على تصحيح مسارهم. إنّ بولس استشهد في كلامه مع الكورنثيّين بعبارة من العهد القديم حين قال إنّ الله سيسكن في وسطهم، وإنّ الله سيكون لهم إلهًا.

إنّ المشكلة الّتي يطرحها بولس في هذا الإصحاح، هي مخالطة المؤمنين لغير المؤمنين وخاصّة في أمور العبادة، وعودة المؤمنين إلى العادات الوثنيّة بعد قبولهم الإيمان بالمسيح. لم يقصد بولس بكلامه هذا، إنشاء عداوةٍ بين المؤمنين وغير المؤمنين، إنّما قصد بكلامه وجوب عدم مخالطة المؤمنين للوثّنيين في ما يختصّ بأمور العبادة فقط، لأنّها تؤدِّي إلى اكتسابهم عادات لا تَمُّت بصِلَة إلى الإيمان الّذي قَبِلوه. إنّ بولس يشجِّع المؤمنين من أهل كورنثوس على مساعدة الفقراء غير المؤمنين على المستوى الماديّ، من دون مخالطتهم على مستوى الإيمان. إنّ مخالطة المؤمنين لغير المؤمنين عبر التّاريخ أدّت إلى تَسرُّب الفكر الوثنيّ إلى فكر المؤمنين بدليل انتشار أمثالٍ شعبيّة بين المؤمنين لا تُجسِّد إيمانهم، فنسمعهم مثلاً يقولون عند تعرُّضهم للأذيّة من الآخرين: "إنْ لم تكن ذئبًا أكلتكَ الذِّئاب". لقد عرضَ بولس على أهل كورنثوس، لائحة بالاضطهادات الّتي عانى منها جرّاء تبشيره بالمسيح، وبالنِّعَم الّتي نالها من الربّ، مِن دون أن تتمكّن الصُّعوبات مِن تغييره مِنَ الدّاخل. إنّ صراع المؤمنين لم يكن يومًا صراعًا مع لحمٍ ودمٍ بل مع أفكار شيطانيّة تدخل إلى أعماق الإنسان وتُغيِّره. في عالمنا اليوم، يمزج المؤمنون بين أمور الله وأمور الدُّنيا فيحوِّلون مثلاً عيدًا دينيًّا إلى عيدٍ وطنيٍّ على الرّغم من اختلاف وجهات النَّظر في شأن هذا العيد بين المؤمنين وغير المؤمنين. إخوتي، إنّ الله يدعونا إلى إطعام الجياع، زيارة المرضى، وما شابه ذلك من أعمال رحمة مع غير المؤمنين الفقراء، لكنّه لم يدعُنا يومًا إلى مشاركتهم ذهنيّاتهم القديمة. إنّ عدم اختلاط المؤمنين مع غير المؤمنين لا يعني أبدًا أنّ المؤمنين أبرار وأنّ الآخرين أشرار. على المؤمن أن يرفض كلّ ما يؤدّي إلى هلاك نفسه لأنَّ المسيح قد جاء من أجل خلاص النّفوس لا مِن أجل هلاكها. إنّ جميع البشر متساوون على المستوى الإنسانيّ، غير أنّهم لا يتساوون على المستوى الإيمانيّ. إنّ جميع البشر مثلاً يحتاجون إلى الطّعام الأرضيّ، وبالتّالي فإن جاع الإنسان أكان مؤمنًا أم لا، على المؤمن أن يُسارع إلى تلبية تلك الحاجة لأخيه في الإنسانيّة بِغَضّ النّظر إلى إيمانه. يستطيع المؤمن أن يساند أخاه الإنسان، مهما كان إيمانه، في الأمور المعيشيّة كالمطالبة بالتعليم والعمل، وتأمين الأمور الأساسيّة لحياتهما كالماء والكهرباء. ولكن لا يجوز للمؤمن مشاركة غير المؤمن في عباداته لأنّ في ذلك إشراكًا لله الحيّ مع آلهةٍ أخرى، وهذا يؤدِّي إلى هلاك نفس المؤمن.

كان المسيحيّون في أيّام بولس الرّسول، يُشاركون الوثنيِّين في أعيادهم، فيذهبون إلى هياكلهم حيث يقدِّمون الذبائح لآلهتهم. إنّ هذا الأمر هو في غاية الخطورة، إذ كان المؤمنون يستقدمون من هذه الاحتفالات عادات وثنيّة لا تعكس إيمانهم بالربّ يسوع ويُدخِلونها إلى حياتهم؛ لهذا السَّبب دعا بولس المؤمنين من أهل كورنثوس إلى مقاطعة الوثنيّين في الاحتفالات الدِّينيّة. إنّ بولس يدعو المؤمنين المتجذِّرين في إيمانهم إلى الابتعاد عن كلّ ما مِن شأنه أن يُشكِّك إخوتهم في الإيمان. فمثلاً، حين يُشارك المؤمنون في أعياد الوثنيّين، يأكل بعض المؤمنين من الطّعام المقدَّم لهم من الوثنيّين، إذ لا يعتبرون تناولهم له اشتراكًا في الإيمان مع غير المؤمنين، بل هو مجرَّد طعامٍ يساعدهم للاستمرار في العيش، فقناعتهم ثابتة أنّ لا إله إلاّ الله. غير أنّ هذا التصرّف مِن قِبَل بعض المؤمنين قد يشكِّك ضُعفاء النّفوس لذا مِن الـمُفضَّل عدم مشاركة المؤمنين المتمرِّسين في الإيمان في أعياد الوثنيّين، إذ إنّه خيرٌ للمؤمن الانقطاع عن تناول اللّحوم طول حياته إن كان تناوله لها يؤدِّي إلى هلاك نفوس إخوته المؤمنين. إذًا، على المؤمن المتعمِّق في إيمانه أن يهتمَّ بأخيه الضَّعيف بالإيمان، فلا يقوم بما يقتل الرّوح فيه بل يقوم بما يساعد أخاه على النّمو في الإيمان وإحياء الرّوح فيه.

على المؤمن عدم المساومة على الحقيقة، بقبوله الخطيئة، إذ لا يجوز له المزج بين الإثم والبرّ. على المؤمن رفض الخطيئة لا الخاطئ، وبالتّالي عليه احتضان الخاطئ ومحبّته، لا إدانته، فالمحبة تدفع بالخاطئ إلى التوبة، أمّا الإدانة فتدفعه إلى الانغماس أكثر فأكثر في الخطيئة، وابتعاده عن الله. إنّ الخاطئ يحتاج إلى الشُّعور بالمحبّة والمساندة من إخوته المؤمنين كي يتمكّن من العودة إلى الله وتصحيح مساره الخاطئ. إنّ المؤمن يُدرِك تمامًا أنَّ الله يُحبّه، وسيمنحه الغفران عندما يطلب المؤمن ذلك، لذا يجد المؤمن سهولةً في ارتكاب الأخطاء، لأنّه متأكِّدٌ أن الله سيغفر له كلّ زلّاته عندما يتوب عنها. إنّ تصرّف المؤمن هذا مع الله، يشكِّل إنعكاسًا لتربيته في الطّفولة، إذ في أغلب البيوت، يَعلَم الطِّفل أنَّ أهله يُحبّونه، لذا هو يستسهل القيام بالأخطاء، إذ لمجرَّد الاعتذار من والدَيه يَنسى أهله ما أساء به إليهم. على الطِّفل أن يتعلَّم منذ حداثة سنِّه، أن يدفع ثمن أخطائه، فلا يجد بعد ذلك سهولةً لارتكاب الأخطاء.
أراد الله أن يجعل من شعبه أبناءً وبناتٍ له، ولكنّ الشَّعب وجد صعوبةً في تصديق ذلك الأمر، فاستمرّ في التعامل مع الله على أنّه خالقٌ وديّان، لا على أنّه أبوه المحبّ والحنون. لذا اضطُرَّ الله إلى إرسال ابنه الوحيد يسوع المسيح إلى شعبه، ليعرِضَ عليهم من جديد البُنوّة المجانيّة لله، فقبل البعض منهم بتلك البُنوّة، فأصبحوا أبناءً لله. غير أنّ هؤلاء الأبناء، لا يكفُّون محاولة التفلُّت من تلك النّعمة، لاشتياقهم إلى الحالة الّـتي كانوا فيها قبل قبولهم بتلك البنوّة. وعندما ينجحون في العودة إلى حالتهم القديمة، يكتشفون عدم جدوى وجودهم من دون الله، فيعودون إليه، وهو يقبل توبتهم تلك ويسامحهم، ويقبلهم من جديد أبناءً له، لأنّه ملءُ الحبّ. إنّ تصرّف الله مع البشر يُعبّر عن جنون حبّه لهم، لا عن حكمةٍ منه. إنّ قداسة القدِّيسين والرّسل تكمن في فَهمِهم لمدى عمق محبّة الله لهم وقبولهم بها، لذا نجحوا في أن يكونوا أبناءً حقيقيّين لهم على مثال يسوع المسيح.

إنّ الأزمات الّـتي تُعاني منها الكنيسة والعالم، ناتجة عن عدم عيش المؤمنين لروحانيّة "صلاة الأبانا" الّتي علّمنا إيّاها الربّ يسوع حين تجسَّد في أرضنا. فالمؤمنون يتوجّهون إلى الله الآب بصلاة الأبانا، طالبين منه البقاء في سمائه، وعدم التدخُّل في حياتهم الخاصّة، فهم يريدون العيش حسب أهوائهم ورغباتهم الدُّنيويّة، الّتي تؤدِّي إلى هلاك نفوسهم. لم يُعلِّم الربّ يسوع تلاميذه صلوات متعدّدة، بل علَّمهم صلاة واحدة "صلاة الأبانا"، لأنّ جوهرها يستند على أن يكون المؤمن مُدرِكًا لحضور الله في حياته، فيتصرّف مع الآخرين مميِّزًا الأمور الّتي يمكنه الاشتراك فيها مع إخوته البشر، من الأمور الّتي لا يجوز له الاشتراك بها معهم لأنّها تـمُّس بإيمانه بالله. على المؤمن أن يميِّز بين الخطيئة والخاطئ، فيتجنّب الخطيئة قدر المستطاع، لأنّه لا يمكن للنّور أن يلتقي بالظُّلمة، ويُحبّ الخاطئ فتكون تلك المحبّة دافعًا له لترك طريقه المعوجّ والعودة إلى الله. إخوتي، يدعونا بولس الرّسول في هذا الإصحاح، إلى عدم الاشتراك في احتفالات غير المؤمنين، لأنّه مهما تعاظم شأن المؤمن على مستوى العلم والمعرفة، إلّا أنّ تلك العبادات الغريبة تبقى أكبر منه، ولكنّ الله يبقى أكبر من كلّ العبادات. لذا على المؤمن أن يتمسَّك بيد الله، كي يتمكّن من النّجاة منها، والوصول إلى برّ الأمان، أي إلى الخلاص، وبالتّالي إلى الحياة الأبديّة. فكلّما كان المؤمن متمسِّكًا بالله وقريبًا منه، كلّما نجح في تخطّي صعوبات هذه الحياة على الرّغم من شِّدتها، ولكن ما إن يُفلِت يد الله ويبتعد عنه حتّى يغرق في هموم هذه الحياة.
إنّ التمييز بين أمور الله وأمور الدُّنيا، يتطلّب رصانة وجِدِّية كبرى من المؤمن. يستطيع المؤمن أن يؤكِّد صحّة إيمانه بالله الحقيقيّ للآخرين من دون أن تكون له الحاجة إلى القصص الخرافيّة الّتي ينسجها، أو القصص الخارقة عن القدِّيسين. إنّ الصّلاة ليست عملاً سحريًّا، ولا هي مجرّد حركات طقسيّة خارجيّة فارغة من معناها. ها هو موسم الميلاد يقترب، وها هي زينَتُه تنتشر في الأسواق التِّجاريّة. إخوتي، إنّ شعورنا بفرح عيد الميلاد ليس مرتبطًا بالمظاهر الخارجيّة والتِّجاريّة للعيد، إنّما هو مرتبطٌ بإيماننا بالربّ يسوع. إنّ زينة الميلاد هي في غالبّيتها من صناعة غير المؤمنين إذ إنّها تأتينا من الصِّين ومن البُلدان المجاورة لها، ذات الغالبيّة الوثنيّة، أي أنَّ هؤلاء العمّال لا يتضرّعون إلى الله الحيّ أثناء صناعتهم لهذه الرّموز الدِّينيّة. وبالتّالي على المؤمن أن يتمتّع بالحكمة الكافية فيُدرِك كيفيّة استعماله تماثيل القدِّيسين وشخصيّات المغارة، حين يضعها في بيته. إخوتي، لقد حان الوقت كي يُدرِك الشَّعب المؤمن مسؤوليّته الإيمانيّة الحقيقيّة، فيرفض المصنوعات التِّجاريّة الّـتي تمسُّ جوهر إيمانه.

إخوتي، إنّ الفرق ساشعٌ بين التَّدين الفارغ من جوهر الإيمان، وبين الإيمان الحقيقيّ بالله. على المؤمن أن يكون على مثال الأنبياء في العهد القديم، فيكون صدًّا منيعًا بوجه الباطل، أَصَدر ذلك عن علمانيّ أم عن رجل دينٍ. إخوتي، إنّ القدِّيسين هم مؤمنون نجحوا في الوقوف بوجه الباطل لإعلان كلمة الحقّ دون خوفٍ أو مواربةٍ. إنّ يوحنّا المعمدان قد قُطِع رأسه، لأنّه رفض الخضوع للباطل، معلنًا كلمة الحقّ، قائلاً لهيرودس الملك إنّه مِن غير الجائز له الزّواج بامرأة أخيه. إنّ وجود يوحنّا في السِّجن، وبالتّالي عدم قدرته على التبشير بكلمة الحقّ، لم يكن كافيًا لإزالة الاضطراب، الّذي أحدثه يوحنّا، من قلب هيروديّا، بإعلانه لها كلمة الحقّ، لذا طلبَتْ إسكاته نهائيًا عبر قطع رأسه، معتقدةً أنّها بتلك الطريقة ستتمكّن من إسكات كلمة الحقّ. إخوتي، في هذا العالم، "هيروديا" كثُر، يطالبون بقطع الحقّ من أصوله علَّهم ينجحون في إسكاته كما أنّ هذا العالم مليء بالأباطرة الّذين ينجرُّون وراء "هيرودِّيا"، أي وراء الباطل، في سبيل تحقيق ملذَّاتهم ونزواتهم الأرضيّة الزّائلة، معتقدين أنّ الربّ سيتأخّر في مجيئه.

إنّ مؤمنين كُثُرًا يعتقدون أنّ الربّ يسوع سيتأخَّر في مجيئه، لذا يؤجِّلون التفكير في الموت، والاستعداد له. إخوتي، كُثُرٌ هم الأغنياء الّذين حاولوا إلغاء تلك السّاعة، ساعة الموت، من خلال ثرواتهم وممتلكاتهم ولكنّهم بالطَّبع فشلوا، لأنّ لا أحد يستطيع الهرب منها مهما عَظُمَ شأنه في هذه الأرض. إنّ أسلوب تفكيرنا، نحن المؤمنين، هو مزيج من التفكير اليهوديّ والتفكير الوثنيّ، بنفحةٍ مسيحيّة. إنّ أفكارنا المسيحيّة لا نستخدمها إلّا في أوقات الشِّدة، لا في أوقات الرّاحة والسّلام، ففي أوقات الـمِحنة، يُسارع المؤمن إلى الله، أمّا في أوقات الراحة فيلجأ إلى أفكاره اليهوديّة والوثنيّة. فمثلاً، حين يُصاب أحد المؤمنين بمرضٍ ما، يقول إنّها إصابةٌ بالعين من بعض الحاسدين، كما أنّ هناك عددًا هائلاً من المسيحيّين الّذين لا يتحرّكون من بيوتهم قبل سماعهم لأقوال المنجِّمين عن أبراجهم. إخوتي، إنّ أقوال هؤلاء الـمُسحاء الدّجالين لن تفيدنا أبدًا في مسيرتنا صوب القداسة، لذا فلنتخلَّ عن سماع أقوالهم، ولنُصغِ إلى الربّ وتعاليمه في الإنجيل المقدَّس لأنّ فيه وحده خلاصنا. إنّ إدماننا على سماع أقوال المنجِّمين لا يمكنه إلّا أن يُزعزع إيماننا بالربّ يسوع وإلى هلاكنا، لذا فإن أردنا التسلية، فلنلجأ إلى أمور سليمة من شأنها بُنيان الإنسان لا هدمه، كالرّياضة على أنواعها على سبيل المثال. إنّ وجوهنا تكشف للآخرين عن داخلنا، فإن كنّا مُدمين على أقوال المنجِّمين لا يمكن للمسيح أن يظهر على وجوهنا، فهو لا يظهر إلّا من خلال وجوه المؤمنين الّذين يتمسَّكون بكلمته وتعاليمه الواردة في الإنجيل. إنّ كلامي هذا لا يهدف إلى إحباطكم، بل إلى حثِّكم على التمسُّك أكثر فأكثر بـ"عمود الحقّ"، حسب تعبير مار بولس لتلميذه طيموتاوس، أي بيسوع المسيح وحده.
إنّ المسؤوليّة الّتي يُلقيها الربّ على عاتق المؤمنين كبيرةٌ جدًّا تُعبِّر عن مدى ثقته بنا، فمسؤوليّتنا لا تقتصر على تربية الأولاد تربيةً صالحة. إنّ المؤمن لن يتمكّن من إكتشاف مسؤوليّته الإنجيليّة الحقيقيّة إلّا من خلال رؤيته للتغيير في حياة الآخر، جرّاء سماعه عبارة أو كلمة من المؤمن، عندها سيُدرِك معنى كلام الربّ حين قال في المؤمنين به إنّهم نور العالم. إخوتي، لا يستهِن أحد منكم بحداثة سنِّه، فقد يتحوّل المؤمن إلى مشروع شهيدٍ حين يُعلِن كلمة الله للآخرين، كما عليه أن يكون شاهدًا لها طول حياته. إنّ الله يتبنّى كلّ مؤمن به، في يوم عماده، ويجعله ابنًا له، كما يجعله شريكًا له في تحقيق مشروعه الخلاصيّ للبشر. على كلّ مؤمن أن يعي تلك المسؤوليّة الّتي وَضَعها الله على عاتقه، فيسعى إلى تحقيقها عبر التبشير بالله أينما تواجد، وهنا يجب القول إنَّ نقل البشارة للآخرين لن يتمّ بسلامٍ أبدًا، بل إنّ هناك صعوباتٍ كثيرة واضطهادات سيتعرَّض لها الرّسول، فكثيرون سيسعون إلى إسكاته بمختلف الطرق لأنّهم يجدون في إعلانه لكلمة الحقّ عرقلةً لمصالحهم الخاصّة. إنّ الرّسول في أيّامنا هذه، لن يكون أفضل حالاً من بولس الرّسول، فكما تعرَّض بولس لشتّى أنواع الاضطهادات، كذلك سيتعرَّض الرّسول في أيّامنا، فيعاني من تشويه الصِّيت، من السَّجن، من التَّعب، ومن الضِّيق، ومن أمور أخرى كثيرة. إنّ بولس قد شوِّهت سمعته حين قيلت فيه الإشاعات، فاضطرَّ بولس إلى العمل في حياكة الخيام، كي لا تتعرّقل بسببه كلمة الإنجيل. إنّ عددًا كبيرًا من القدِّيسين قد تحمّلوا الآمهم بصمت، وتحدّوا الأوجاع راسمين على وجوهم الابتسامة، وقد خلقوا تغييرات جذريّة في نفوس جميع الّذين التقوا بهم في حياتهم الأرضيّة. فمثلاً إنّ سمعان العاموديّ عاش طوال حياته على العمود، ليتمكّن من مناجاة الله والتكلُّم معه، مبتعدًا بتلك الطريقة عن ضجيج البشر الّذين كانوا يقصدونه للاسترشاد وطلب المعونة. إنّ هذا القدِّيس لم يبحث يومًا عن المجد الأرضيّ أي عن تصفيق المؤمنين له، بل كان هدفه في هذه الحياة، أن يعبّر بوجوده مع المؤمنين عن وجود الله في هذه حياته. عسى أن نكون على مثال هؤلاء القدِّيسين ساعين لتحقيق مجد الله، لا مجدنا الأرضيّ من خلال كلّ أعمالنا. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا تتمة...
31/10/2017 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح الرابع واقع المبشِّر
https://youtu.be/cxEClbG-x74

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الرابع
الأب ابراهيم سعد

31/10/2017

"مِن أجلِ ذلِك، إذ لنا هذه الخِدمةُ كما رُحِمْنا لا نَفشَلُ، بَل قَدْ رَفَضْنا خَفايا الـخِزْيِ، غيرَ سالكِينَ في مَكرٍ، ولا غاشِّينَ كلمةَ اللهِ، بل بإظهارِ الحقِّ، مادِحينَ أَنفُسَنا لَدَى ضميرِ كُلِّ إنسانٍ قُدَّامَ اللهِ. وَلَكِن إنْ كان إِنجيلُنا مَكتُومًا، فإنّما هو مكتُومٌ في الهالِكين، الّذينَ فيهِم إلَهُ هذا الدَّهرِ قد أعمى أَذهانَ غيرِ المؤمنينَ، لِئلّا تُضيءَ لهم إنارةُ إِنجيلِ مَجدِ المسيحِ، الّذي هو صُورَةُ الله. فإنَّنا لَسْنا نَكرِزُ بأَنفُسِنا، بل بالمسيحِ يسوعَ ربًّا، ولكن بأَنفُسِنا عبيدًا لكم من أجلِ يسوعَ. لأنَّ اللهَ الّذي قال: "أَنْ يُشرِقَ نورٌ مِن ظُلمةٍ"، هوَ الّذي أشرَقَ في قُلُوبِنا، لإنارةِ مَعرِفَةِ مَجدِ اللهِ في وَجهِ يسوعَ المسيحِ. ولَكِن لَنا هذا الكنزُ في أَوانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكونَ فَضْلُ القوَّةِ لله لا مِنّا: مُكتَئِبينَ في كلِّ شيءٍ لكن غيرَ مُتضايقينَ، مُتَحَيِّرينَ لَكن غيرَ يائِسينَ، مُضطَهَدِينَ لَكِن غيرَ متروكينَ، مَطرُوحينَ لَكِن غيرَ هالِكينَ. حامِلِينَ في الجَسَدِ كُلَّ حينٍ إِماتةَ الربِّ يسوعَ، لِكَي تُظهَرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في جَسَدِنا، لِأَنَّنا نَحنُ الأحياءَ نُسَلَّمُ دائمًا للموتِ مِن أجلِ يسوعَ، لِكَي تَظهَرَ حياةُ يسوعَ أيضًا في جَسَدِنا المائِت. إذًا، الموتُ يَعمَلُ فينا، ولَكن الحياةُ فيكم. فإذْ لَنا رُوحُ الإيمانِ عينُهُ، حَسَبَ الـمَكتوب: "آمَنْتُ لِذلِك تَكَلَّمتُ"، نَحنُ أيضًا نُؤمِن ولِذَلِكَ نتكلَّمُ أيضًا، عالِمِينَ أنَّ الّذي أَقام الربَّ يسوعَ سيُقيمُنا نَحنُ أيضًا بِيَسوعَ، ويُحْضِرُنا مَعَكم. لأنَّ جَميعَ الأَشياءِ هِيَ مِن أَجلِكم، لِكَي تَكونَ النِّعمَةُ وَهِيَ قَدْ كَثُرَتْ بالأَكثَرينَ، تَزيدُ الشُّكْرَ لِـمَجدِ الله. لذلِك لا نَفشَلُ، بل وإنْ كان إنسانُنا الخارِج يَفنى، فالدَّاخِلُ يتجَدَّدُ يومًا فيومًا. لأنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنا الوَقْتِيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فَأَكثَرَ ثِقلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غيرُ ناظِرينَ إلى الأشياءِ الّتي تُرى، بل إلى الّتي لا تُرى، لأنَّ الّتي تُرى وَقتِيَّةٌ، وأمّا الّتي لا تُرى فَأَبديَّةٌ."

إنّ هذا الإصحاح من رسالة كورنثوس الثانية هو أحدُ أروع النّصوص الوِجدانيّة الصَّميميّة، حسب رأيي، لأنّه ينقل إلينا حقيقة واقع المبشِّر أي الحالة الّـتي يعيشها نتيجة عمله الرّسولي، متحلِّيًا بنعمة الصّبر ومتمسِّكًا بالرّجاء في مسيرته التبشيريّة بكلمة الله؛ كما ينقل إلينا تأثير كلمة الله الّتي ينطق بها المبشِّر في نفوس الّذين يبشِّرهم. إنّ البشارة بكلمة الله، تتطلّب جهدًا وتعبًا مِن قِبَل المبشِّر، كما أنّها تترافق مع اضطهادات وشِدَّة تطال الرّسول، ممّا يدفعه إلى الشُّعور بالاحباط واليأس والوَحدة. إنّ المبشِّر ينسى كلّ ما عاناه من شِدَّة وضِيقات حين يرى قبول الّذين بشَّرهم بكلمة الله، أي حين يراهم أحياءً في المسيح يسوع.

إنّ بولس استخدم صورة الآنية الخزفيّة والكنز، ليُعبِّر عن حقيقة ما يعيشه المبشِّر. إنّ هذه الآنية الخزفيّة الّتي يتكلّم عنها بولس هي آنية غير صالحة لشيء، ولكنّها تحوي في داخلها كنزٌ ثمينٌ. إنّ الآنية الخزفيّة هي ذات جبلة ضعيفة، أي أنّها معرّضة في كلّ أوان إلى التلاشي، لذا فالسؤال الّذي يُطرَح، هو: مَن الّذي يحمِل مَن: أَهيَ الآنية الّتي تحمِلُ الكنز أم أنَّ الكنز هو الَّذي يحمل تلك الآنية؟ إنّ الجواب واضحٌ تمامًا، وهو أنَّ الكنز هو الّذي يحملُ تلك الآنية لا العكس. فإنّه حين ينظر النّاس إلى هذه الآنية، فإنّهم لا يوجّهون أنظارهم إلى الآنية بحدِّ ذاتها، إنّما إلى الكنز الموجود في داخلها، وبالتّالي فإنَّ النّاس يُعطون المجد للكنز الموجود في تلك الآنية الخزفيّة لا إلى الآنية الخزفيّة بحدِّ ذاتها. على الرّسول إذًا، ألّا يترجّى الـمَدح مِنَ الّذين يبشّرهم، بل حَسبُه أن يكون ضميره مُرتاحًا تجاه الرسالة الّتي أَوكَلَهُ الله بها. إنّ الكآبة التّي يتكلّم عنها بولس هي ثمرةُ خيبة الأمل الّتي ينالها الرّسول مِنَ الّذين يبشِّرهم، وهذا ما يخلق في داخله حُزنًا كبيرًا. إنّ الكآبة تترافق غالبًا مع شعورٍ بالضِّيق، غير أنّ بولس يقول لأهل كورنثوس إنّه يشعر بالكآبة لكنّه لا يشعر بالضِّيق. إخوتي، إنّ الكآبة هي ثمرة عوامل خارجيّة لا علاقة للرّسول بها، أمّا الشعور بالضِّيق فهو يأتي من داخل المبشِّر، لذا فإنّ عدم شعور بولس الرّسول بالضيّق هو نتيجة تفاعله مع القوّة الموجودة في داخله، لأنّ قُوَّتَه تأتي مِن الكنز في داخله، أي مِن يسوع المسيح.

يُخبرنا بولس الرّسول عن صراعه الدّاخليّ، وهو صراعٌ يُعاني منه كلّ رسول. إنّ هذا الصّراع هو نتيجة عوامل خارجيّة يتعرَّض لها الرّسول تدفعه إلى التّراجع عن مسيرته التبشيريّة، مقابل قوّة داخليّة تدفعه إلى السير قُدُمًا في تلك المسيرة. فإن فازت، في هذا الصّراع، العوامل الخارجيّة على القوّة الدّاخليّة عند الرّسول، شَعَرَ هذا الأخير بالاكتئاب والضّيق والوَحدة وباضطهاد الآخرين له، إضافةً إلى شعوره بالحيرة نتيجة عدم سماع الآخرين لكلمة الله الّتي يبشِّرهم بها وعدم قبولهم بها، ممّا يدفعه إلى الشعور باليأس والإحباط. إنّ التَّجربة الّتي يتعرّض لها جميع النّاس دونَ استثناء هي تجربة الرّضوخ للأهواء الشخصيّة، غير أنّ الرّسول يسعى باستمرار إلى التحرُّر من تلك الأهواء من خلال تثبيت نظره على الكنز الموجود في داخله، ألا وهو المسيح يسوع. إضافةً إلى هذه التّجربة العامّة، يتعرَّض الرّسول إلى تجربة أخرى وهي رغبته في التراجع عن التبشير بكلمة الله، حين لا يجد لها قبولاً مِن قِبَل الآخرين، أي حين يشعر بأنّ لا فائدة من العمل الّذي يقوم به، فيُصاب بالإحباط واليأس. في هذه التجربة يشعر الرّسول برغبة في الاستقالة من مَهَمَّته الّتي تُشكِّل في الوقت نفسه هويّته الخاصّة.

إنّ بولس يُعرِّف عن نفسِه على هذا النّحو: أنا بولس المدعوّ رسولاً. إنّ تعريف بولس عن نفسه بهذا الشَّكل مُستَغرَبٌ بعض الشيء، إذ كان عليه أن يُعرِّف عن نفسه كما يلي: أنا الرّسول المدّعو بولس. في تعريف بولس عن نفسه، نجد أنّ رسوليّة بولس أصبحت اسمه وهويّته ومَهَمَّته. إنّ هذه الهويّة الّتي ينالها الرّسول هي سببُ شعوره بالمرارة والاضطهادات الّتي يُعاني منها، غير أنّ الله يمنحه قوّةً داخليّة تدفعه إلى متابعة هذه المسيرة. وبالتّالي إنّ قوّة الرّسول لا تأتي منه بل مِن الله؛ فبِدون الربّ يتراجع الرّسول عن تلك المسيرة أمام الضِّيقات الخارجيّة الّتـي تعترِض مسيرته الرسوليّة.
إنَّ الربّ يُعطي الرّسول قوّة تُمكِّنه مِن زرع الحياة في نفوس المؤمنين، على الرّغم من كلّ الاضطهادات والضِّيقات الّـتي يَتعرَّض لها، وهذا معنى كلام الرّسول بولس: إنَّ الحياة تعمل فيكم، والموت يعملُ فينا. إنّ الاضطهادات، والقهر والكآبة تُعبِّر عن الموت، ولكن ما يهمُّ بولس الرّسول هو أن تُعطى الحياة لكلّ الّذين يسمعون كلمة الله من خلاله ويقبلون بها. إنَّ كلّ معاناة بولس تنتهي حين يرى إنسانًا واحدًا يُعلِن قبوله لكلمة الله الّتي يبشِّر بها. يُشبِّه بولس قبول المؤمنين بكلمة الله على يده بعمليّة الولادة، لذا يقول في إحدى الرسائل الّتي كتَبَها إنّه يتمخّض فيهم، أي في الّذين يبشِّرهم، كي تتصوَّر فيهم صورة المسيح يسوع. ينظر بولس الرّسول إلى كلّ الّذين آمنوا على يده، على أنّهم أبناؤه في الإيمان، فعلى الرّغم من أنّ لهم آباءً ومعلِّمين كُثُرًا، ولكن بالنسبة إلى بولس، يبقى هو أباهم لأنّه هو الّذي وَلَدهم بالإيمان. إنّ بولس على ثقة تامّة أنّ الخِدمة الّتي يقوم بها تجاه هؤلاء المؤمنين لن تَفِشل، لأنّ اعتماده ليس على الجماهير الّتي تتبعه، إنّما على كلمة الله الفاعلة في نفوسهم. فكما أنّ عدم استفادة بعض المرضى من دواءٍ ما، لا يعني أبدًا أنّه عديم الفائدة، إذ إنّه ذو فائدة لأمراض معيّنة؛كذلك هي كلمة الله، فإنّ عدم قبول بعض السّامعين لها، لا يعني أبدًا أنّها مِن دُون فائدة، بل يعني ذلك استمرار خضوع هؤلاء السّامعين لرئيس هذا العالم. إن لم تتمكّن كلمة الله مِن أن تزرع الحياة فيك، فإنّ هذا دليل على أنّك ما زلت تحت عبوديّة أهوائك، لذلك لم تتمكّن من تصحيح رؤيتك إلى الأمور الّـتي تحيط بك. في الإنجيل، إنّ كلّ العُميان الّذين شفاهم يسوع كانوا من اليهود لأنّهم لم يتمكّنوا من رؤية الله الّذي كان متجسِّدًا أمامهم؛ أمّا كلّ الصُّم والبُكم الّذين شفاهم يسوع فقد كانوا من الوثنيِّين لأنّ كلمة الله لم تصل إليهم لذا لم يتمكّنوا من عيشها في حياتهم وإعلانها للآخرين. إنّ بولس أراد أن يقول لأهل كورنثوس إنّ الربّ يريد أن يُعطيهم من خلاله آذانًا كي يتمكَّنوا مِن سماع كلمة الله وبالتّالي إعلانها للآخرين، فالمؤمن الّذي يسمع كلمة الله ويقبل بها، لا يمكنه أن يحتفظ بتلك البُشرى لنفسه، بل إنّه يندفع لإعلانها للآخرين كي ينالوا هم أيضًا خلاص الربّ.
إنّ إيمانك هو هويّتك، وبالتّالي على صورة المسيح أن تكون مُجسَّدة فيك، فيتمكّن كلُّ مَن ينظر إليك من رؤية المسيح يسوع من خلالك، لا صورةَ إنسانٍ مُستعبَدٍ لأهوائه الأرضيّة. إنّ المؤمن يتميَّز مِن غير المؤمنين بأنّه يستطيع تمييز الخير الآتي من الربّ مِنَ الشَّر الّذي يلبس لباس النّور ليَغِشَّ المؤمنين ويُوقِعهم في حبائل التجربة. إنّ الإنسان الّذي يقوم بأعمال حسنة يستحقّ المديح، ولكنّ الشُّعور بالنَّشوة نتيجة مَديح الآخرين، يؤدّي إلى أذيّة هذا الإنسان لأنّه سيشعر بالغرور، وبالتّالي لن يقبل أيّ فشلٍ قد يتعرَّض له في المستقبل لأنّ سيُشعِره بالإحباط واليأس. على الإنسان ألّا يستسلم للإحباط والفشل، بل عليه أن يُحاول النّهوض في كلّ مرّة يتعرَّض فيها للتجربة، وهو لن يتمكّن من ذلك إلّا متى اعتمد على الله، وبالتّالي سيُدرِك أنّ قوّته لا تأتي منه بل مِن الله. إنَّ شعور الإنسان بالتفاخر على الآخرين جرّاء مَديح النّاس له لأعماله الحسنة، سيؤدّي به إلى الاعتقاد بأنّه هو الّذي يحمل الكنز لا العكس، وبالتّالي سيقع في التَّجربة نفسها الّتي وقع فيها إيلّيا النبيّ حين اعتقد أنّه المؤمن الوحيد في هذه الأرض الّذي لا يزال متمسِّكًا بإيمانه بالربّ. إنَّ مِثلَ هذا الإنسان يُعاني من الكبرياء، والكبرياء يُغيِّر مفهوم العطاء عنده: فَعِوَض أن يقوم الإنسان بالأعمال الحسنة من أجل إسعاد فقير من خلال تلبية احتياجاته، يتحوَّل العطاء عند ذلك الإنسان إلى مناسبة لسماع الـمَديح من الآخرين. إنّ مِثلَ هذا الإنسان لا يبحث عن مجد الله في الأعمال الّتي يقوم بها، إنّما عن مجده الأرضيّ، الذي يدفعه إلى التكبُّر على الآخرين.

إنّ الإنسان يَغِشُّ كلمة الله حين يستخدم تلك الكلمة من أجل تحقيق أهوائه، أي حين يستخدم تلك الكلمة الإلهيّة لا ليُبشِّر الآخرين بها شارحًا لهم ما الّذي يريد الله قوله للبشر من خلالها، بل ليُفسِّرها انطلاقًا مِن خدمة مصالحه الخاصّة. فقد يلجأ مثلاً أحد الرّاغبين بالانتقام إلى استخدام كلمة الله، ليُبرِّر أفعاله الشِّريرة، فيقول "كما تريدون أن يفعل النّاس بكم، افعلوه أنتم أوّلاً لهم". حين قال الربّ تلك الكلمة، كان يريد أن يُشجِّعنا على معاملة الآخرين بالحُسنى، حتّى وإن أساؤوا إلينا لا إلى الانتقام منهم. فالإنسان إذًا، قد يلجأ إلى الاحتيال على كلمة الله لتبرير تصرّفاته الّتي لا يرضاها الله. إنّ الإنجيل يُصبح ضعيفًا حين يستخدمه الإنسان لا ليعيش وِفقَ مضمونه الحقيقيّ، إنّما ليختار منه ما يخدم مصالحه، فيتحوّل الإنجيل إلى مُحفِّز لهذا الإنسان لاستغلال الآخرين. إنّ غير المؤمنين سيُجدِّفون على الله وكلمته بسبب إنسان يدّعي الإيمان، وهو يُفسِّر كلمة الله على هواه لا حسبَ قصدِ الله. إنّ غير المؤمنين يُمجِّدون الله حين يُشاهِدون مؤمنًا يسلك في الطريق الصّحيح، أي حين تعكس تصرّفاته كلام الله حقيقةً. لا يبحث بولس في مسيرته التبشيريّة عن مَديح النّاس له في هذه الفانية، بل عن إيمانهم على يده بكلمة الله، فقبولهم بكلمة الله وعيشهم بموجبها، هو مديحٌ لبولس وسببٌ لافتخاره، حين يقف في حضرة الله في اليوم الأخير.

لا يحقّ لأيِّ مؤمِن أن يقسم النّاس ما بين هالكين وغير هالكين، بل عليه أن يُعلِن كلمة الله للآخرين مِن دون تمييز أو تفرقة بين البشر. وبالتّالي، فإنَّ طريقة تصرّفنا مع الآخرين هي الّتي تجعل الإنجيل مكتومًا عنهم أم مُعلَنًا لهم: فإن كانت تصرّفاتنا مُطابقة لتعاليم الإنجيل،كان الإنجيل مُعلَنًا لهم، أمّا إذا كانت غير ذلك، فالإنجيل يبقى مكتومًا عنهم. إنّ المقصود بإله هذا الدّهر هو "الشيطان"، وقد يتخِّذ أشكالاً متعدِّدة: المال، السُّلطة، أو خطيئة معيّنة. إنّ هذه الأشكال المتعدِّدة لإله هذا الدّهر هي الّتي تجعل الإنسان غير قادر على الرؤية بطريقة صحيحة، فيَصُمُّ أُذنيه عن سماع كلمة الله وما تطلبه منه تلك الكلمة. فالإنسان مثلاً، الّذي يشعر بأنّه أساء إلى أخيه الإنسان، بكلمة جارحة، لا يطيق سماع عظةٍ حول "مَن قال لأخيه يا أحمق، يستحقّ نار جُهنَّم". لذا عند سماعه تلك الكلمة، فإمّا أن يُعلِن توبته عن ما صدَر عنه مِن كلامٍ جارح، وإمّا أن يَصُمَّ أذنيه عن سماع تلك الكلمة، وكأنَّ تلك الكلمة لا تعنيه، فيخرج من الكنيسة كما دخل أي مِن دُون أن يسمح لكلمة الله بأن تلمس كيانه، وتُغيّر قلبه. إنَّ كلمة الله تمتحن الإنسان، وعند هذا الامتحان الكبير، تظهر حقيقة هذا الإنسان فيتبيّن إن كان من أبناء هذا الدّهر، أم من أبناء الملكوت. يقول بولس الرّسول إنّ معركتنا ليست مع لحمٍ ودم، إنّما مع سلاطين هذا العالم، أي مع أفكار هذا العالم، بدليل أنّه عند حصول أيّة مشاجرةٍ، فإنّ الإنسان لا يتشاجر مع الآخر بسبب جسدِه، إنّما بسبب أفكاره الّـتي لا تنطبق مع أفكار الطرف الآخر. إنّ اختلافًا في الرأي حول فكرة معيّنة أو فلسفة، قد تؤدّي إلى قيام مظاهرات شعبيّة، وهذا ما نراه جَلِيًا في المجموعات المتطرِّفة الّتي تدافع عن فلسفة تؤمن بها، لذا تقتل الآخرين بحجّة الدّفاع عن هذه العقيدة الّتي تتمسَّك بها. وهذا هو "السّلوك بمكرٍ" الّذي تكلّم عنه بولس، إذ قد يتباهى بعض المؤمنين بالسَّنوات الّتي أمضُوها في الصلاة، على الرّغم من أنّ تصرّفاتهم لا تعكس إيمانهم بالله، بل تعكس إيمانهم بإله هذا الدّهر. إنّ بعض المقتدرين يتباهَون بالعطاء، فيطلبون تسجيل أسمائهم على ألواح نُحاسيّة كي يتمكّن جميع المؤمنين من رؤية عطاياهم وشُكرِهم عليها. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ البعض الآخر منهم، يتبرّع للمحتاجين في الخفاء، أي مِن دُون أن تُعرَف أسماؤهم. أقول لكم إخوتي، إنّ هؤلاء قد تأمّلوا في كلمة الله في الإنجيل وعاشوا وِفق ذهنيّته، أمّا أولئك فإنّهم لا يعرِفون بماذا يُؤمنون، إذ إنّهم لم يتصفّحوا الإنجيل بدليل تصرّفهم وِقف ذهنيّة إله هذا الدّهر. إنَّ بعض المفاهيم الإيمانيّة تحتاج إلى تصحيح في عقول المؤمنين.
إنّ بولس يُشدِّد على أنّه لا يكرز بنفسه، إنّما هو يكرز باسم يسوع المسيح، وبالتّالي يريد بولس أن يُركِّز أمام أهل كورنثوس على أنّ الربّ يسوع هو الّذي يقود حياته، أي أنَّ أعماله تُعبّر عن استجابته لمشيئة الله. إنّ بولس يُشجِّع أهل كورنثوس على أن يتخِّذوا منه مثالاً لهم، فلا يسمحوا لأهوائهم وحساباتهم الخاصّة وأحقادهم من السيطرة عليهم. إنّ بولس يُعلِن عن استعداده بأن يكون عبدًا للّذين يبشِّرهم بكلمة الله، إن كان ذلك يخدم الهدف الّذي يصبو إليه، وهو: أن يتصوّر المسيح فيهم. إنّ بولس يُذكِّر أهل كورنثوس بأنّ الله قادرٌ على أن يُشرقَ في الظلمة ويفيض نورهم، وبالتّالي هو قادرٌ على أن يُشرِق في نفوسهم المظلمة ويُنيرها. إنّ هذا النّور الّذي يَفيض فيهم هو كفيلٌ بأن يجعلهم قادرين على رؤية مجد الله، على رؤية حضوره الله في حياتهم، من خلال وجه المسيح. إنّ الإنسان يستطيع أن يرى مجد الله في وجه يسوع- الإنسان، إذ قد عكس لنا المسيح كلّ ما في الله مِن مجدٍ. حين يتمكّن الإنسان مِن رؤية المسيح في وجه كلّ إنسان يلتقيه، فإنّه في هذه الحالة يكون قد تمكّن من معرفة الله حقًّا، غير أنَّ ذلك سيجعله يتعرَّض للاضطهادات، وبالتّالي إلى الشُّعور بالمرارة والإحباط لأنّ هذا العالم يرفض كلمة الله، كلمة الحقّ، ويضطهدها لأنّها تُهدِّد مصالحه.
إنّ بولس يُخبر أهل كورنثوس أنّه يتعرّض للموت في كلّ يوم، بسبب إعلانه كلمة الله: فيقول لهم إنّه تعرَّض للجلد والسَّجن، مرّات عديدة، ثمّ يُخبرهم بأنّه كان أيضًا مُعرَّضًا للموت حين انكسرت فيه السفينة في وسط البحر مرّات عديدة، وأنّه أيضًا تعرَّض للجوع، وللعيش في العراء مرّات كثيرة في سبيل خدمة كلمة الله وإعلانها للبشر أجمعين. إنّه يُخبرهم بذلك، ليُشدِّد أمامهم، على استعداده للموت من أجل يسوع المسيح، وأنّه تحمّل الكثير في جسده المائت الفاني، كي يُوصِل الكنز الموجود فيه، هو الآنية الخزفيّة الهشَّة، إلى جميع الأمم. إنّ كلّ ما عاناه بولس مِن شدّة واضطهادات لم يدفعه إلى اليأس، بل شدّده في متابعة المسيرة، لأنّ هدفه هو نقل الحياة الجديدة إلى كلِّ الأمم، من هنا كلامه لأهل كورنثوس: إنّ الموت يعمل فينا، أمّا الحياة فتعمل فيكم.

إنّ عالمنا اليوم يحتاج إلى أشخاص يؤمنون بالربّ، ويعيشون وِفق تعاليمه، إذ إنّ إنساننا اليوم قد أضاع مفاهيم الإنجيل الصَّحيحة، لذا يتزعزع إيمانه أمام الصّعوبات الّتي تواجهه، ويشعر بالإحباط واليأس فيتراجع عن مسيرته الإيمانيّة. إنّ كلام بولس إلى أهل كورنثوس يُذكِّرنا بأنّ الرّسول الحقيقيّ للمسيح، يتسلّح بالصّبر، ولا يتوانى عن محبة الآخرين على الرّغم من كلّ الشدائد الّتي يُعانيها، وذلك لأنّه يصبو إلى عيش الإنجيل وتبشير كلّ المسكونة به. إنّ الإنجيل يُشجِّعنا على ذلك أيضًا إذ يقول لنا: "طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كلّ كلمة من أجل اسمي". لا يحقّ للمؤمن أن يستخدم كلمة الله من أجل هَدم الآخرين وانتقادهم، بل على المؤمن أن يستند إليها من أجل بنائهم ودَفعهم إلى العودة عن طريقهم الضّالة مستخدمًا لغة المحبّة الّتي علّمنا إيّاها الربّ يسوع. في مساء كلّ يوم، على المؤمن أن يفحص ضميره، فيُدرِك أعماله الخاطئة الّتي ارتكبها في النّهار ويتوب عنها، راجيًا الله أن يرحمه ويغفر له كلّ ذنوبه. على كلّ مؤمن أن يُجاهر بإيمانه مهما كانت حالته، أكان إنسانًا بارًّا أم خاطئًا، لأنّ الأساس هو إظهار الكنز الموجود في داخل كلّ مؤمن، وهو يسوع المسيح، لا أن يُظهر المؤمن نفسه للآخرين. وبالتّالي لا يحقّ للمؤمن أن يتذرّع بخطاياه كي يتراجع عن إعلانه لكلمة الله، متحجِّجًا بأنّه حين يُصبح صالحًا يُكمِل تلك المسيرة. إخوتي، إن انتظار الإنسان وصوله إلى مرحلة القداسة والكمال لإعلان كلمة الله، هو مجردُ خيالٍ، لأنّ الإنسان في هذه الحالة لن يتمكّن من إعلان كلمة الله أبدًا في هذه الحياة، فالكمال في هذه الحياة ليس ممكنًا أبدًا، لأنّ الله وحده هو الكامل دُون سواه. إنّ المسيح يستطيع إصلاح الإنسان من خلال كلمته، حين يُجاهر هذا الأخير بالكنز المدفون في داخله، فكلمة الله قادرة على إصلاح الخطأة ولا يستطيع أحد منعها من أن تفعل فِعلها في حياة الإنسان الّذي يسمعها. إنّ بعض المؤمنين لا يتقرّبون من سرّ المناولة الإلهيّة بحجّة أنّهم غير مستّحقين لذلك.

إخوتي، على الجميع التقرُّب من سرّ المناولة، لأنّ الكلمة الإلهيّة الّتـي نتناولها هي الّتي تجعلنا مستحقّين لها، إذ لا أحد من البشر يستحقّ تلك النِّعمة. إخوتي، إنّ المناولة الإلهيّة هي الّتي تجعل الإنسان عظيمًا وهو لا يستطيع أن يُصبح عظيمًا من دون تلك النِّعمة الإلهيّة. إخوتي، إنّ سرّ المناولة ليس حِكرًا على أحد، بل هو نعمة إلهيّة تُمنح لجميع المؤمنين، لذا فعدم اقترابك منها، يجعلك أنت الخاسر الوحيد لتلك النِّعمة، لذا لا تتكبّر على الله، وتعال واقترب مِنه. إنّ خطاياك لا يُمكن أن تُشكِّل حاجزًا بينك وبين الله، فإنّ الله قد نَسيَ كلّ خطاياك، وهو لا يهتمّ إلاّ بخلاصك. إنّ غالبيّة المؤمنين ينظرون إلى كلمة الله على أنّها قصاصٌ من الله لهم على ما ارتكبوه من أخطاء، غير أنّ الحقيقة هي عكس ذلك تمامًا، فكلمة الله هي الكلمة الشّافية لجميع المرضى. إنّ جميعنا خطأة، ونحتاج إلى الشّفاء من أخطائنا، ووحدها كلمة الله تمنحنا هذا الشِّفاء. إنّ نظرة الإنسان الخاطئة إلى كلمة الله تدفعه إلى التعامل مع الله لا كابنٍ له، بل كأجيرٍ أو عبدٍ عنده. بالنسبة إلى بولس، إنّ إيمان أهل كورنثوس بالله على يده، يُشكِّل بطاقة عبوره إلى الملكوت. غير أنّ بولس يشعر بالانزعاج، حين يرى أنّ أهل كورنثوس قد استسلموا لأهوائهم الّتي قد سيطرت عليهم، وخاصّة بعد أن بشَّرهم بكلمة الله بكلِّ إخلاصٍ وتفانٍ، وصدق. إنّ أهل كورنثوس قد رفضوا بولس في مدينتهم بعد أن بشَّرهم بكلمة الله، لأنّهم قد صدّقوا بعض الإشاعات الـّتي لفَّقَها بعض المؤمنين الحاسِدين لعمل بولس. إنّ بولس لم يستطع القبول بأن تتعطّل كلمة الإنجيل بسبب هؤلاء المؤمنين الحاسِدين، لذا عبّر عن انزعاجه من تصرّفاتهم في رسائل عديدة، فقد نَعَت الغلاطيّين بالأغبياء، حين صدّقوا مِثل تلك الإشاعات.

حين يرفض المؤمِن ما يُقدَّم لأجله مُصِّرًا على البقاء في حالة العبوديّة، فهذا لا يُعبّر عن حكمته بل عن جهله وحماقته. إنّ بشارة بولس بكلمة الله لن تفشل لأنّ نعمة الله قد فاضت في الكثيرين. إنّ بشارة بولس بكلمة الله، قد كلّفته تعبًا وجُهدًا واضطهادات كثيرة، غير أنّه لا يبالي بكلّ تلك المتاعب لأنّ الحياة عاملة في داخله، وهي الّـتي تُجدِّده وتدفعه إلى المثابرة في مسيرته التبشيريّة، على الرّغم من أنّ جسده مائت، أي مجبول بالضُّعف. فكما أنّ الحبّ لا يموت طالما أنّه يتجدّد يوميًّا، كذلك هي الحياة، فإنّ الإنسان الّذي لا يتجدّد يوميًّا يُعبِّر عن موت الحياة فيه على الرّغم من أنّه لا يزال على قيد الحياة. إنّ الحياة الموجودة في داخل الإنسان قادرة على تجديده يوميًّا حتّى وإن مات جسديًّا. إنّ الحياة لا تتجدّد بالرَّتابة اليوميّة الّتي نعيشها في حياتنا، إنّما تتجدّد الحياة يوميًّا من خلال التحدّيات الّـتي تواجه الإنسان في حياته. إنّ كلمة الله الحيّة في داخلك، قادرة على كسر كلّ رتابة في حياتك، ولكن متى أمات الإنسان كلمة الله في داخله، قتل الحياة فيه، وألقى المسؤوليّة في كلّ أخطائه على كلمة الله. إنّ بعض المؤمنين يتوقَّفون عن الصّلاة لأنّ الله لم يُحقّق لهم ما يطلبونه، وهذا ما يُعبّر عن قتلهم كلمة الله في حياتهم، لأنّها لم تُجدِّدهم. إنّ أسهل أمرٍ يقوم به الإنسان هو إلقاء مسؤوليّة أخطائه، إمّا على الله، وإمّا على الشِّرير، مِن دُون أن يُحمِّل نفسه أيّة مسؤوليّة. لذا، نجد أن المؤمن يلجأ إلى استخدام الضمير: "أنا"، لا ليقول "أنا خاطئ" فيتوب عن خطاياه، إنّما للإشادة بأعماله الصّالحة على حساب الآخرين الّذين يُلقي عليهم مسؤوليّة أيّ تقصير في عمله. إنّ فَرَح الإنسان لا يكمن في التباهي بالماضي إنّما في السّعي للحصول على الخيرات الآتية. لذا فلنتوقّف إخوتي، عن النظر إلى عطايا الله للآخرين، ولننظر إلى عطاياه لنا في كلّ يوم، ساعين إلى تفعيلها في حياتنا، عِوَض لوم الله على عطاياه للآخرين وَحَسْدِهم عليها. إخوتي، إنّ الأطبّاء النفسيّين يؤمِّنون معيشتهم من الأزمات الإيمانيّة الّتي يُعاني منها المؤمنون، الّذين ابتعدوا عن الله، وعن قراءة كلمته في الإنجيل. إخوتي، إنّ المؤمنين الّذين يتعمَّقون في كلمة الله، ينالون الشِّفاء الحقيقيّ، لذا فلنسعَ إلى التعمّق أكثر في كلمة الله، ولنسعَ إلى الأمور الّتي لا تُرى، لأنّ تلك الّتي تُرى وقتيّة وزائلة أمّا تلك الّتي لا تُرى فهي أبديّة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
24/10/2017 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح الثالث تذكير المؤمنين بكلمة الإنجيل
https://youtu.be/55DYRgEgR1U

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس
الإصحاح الثّالث
الأب ابراهيم سعد

24/10/2017

"أَفَنَبتَدِئُ نَمْدَحُ أَنفُسَنا؟ أَم لَعلَّنا نَحتاجُ كَقَومٍ رسائلَ توصيَةٍ إليكم، أو رَسائِل توصيةٍ منكم؟ أنتم رِسالتُنا، مكتوبةً في قلوبِنا، معروفةً ومقروءةً مِن جميعِ النّاسِ، ظاهرين أنَّكم رِسالةُ المسيح، مَخدومةً مِنّا، مكتوبةً لا بِحِبرٍ بل بِرُوحِ اللهِ الحيِّ، لا في ألواحٍ حَجَريّةٍ بل في ألواحِ قلبٍ لَـحْمِيَّةٍ. ولكن لنا ثقةٌ مِثْلُ هذه بالمسيحِ لدى اللهِ: لَيْسَ أنّنا كُفاةٌ مِن أنفُسِنا أَنْ نَفتَكِر شيئًا كأَنَّه مِن أنفُسِنا، بل كِفايَتُنا مِن الله، الَّذي جَعَلَنا كُفاةٌ لأَن نَكون خُدَّامَ عَهدٍ جديدٍ، لا الـحَرفِ بل الرُّوحِ، لأنَّ الـحَرفَ يَقْتُل ولكنَّ الرّوح يُحيِي. ثُمَّ إن كانَت خِدمَةُ الموتِ، الـمَنقوشَة بأحْرُفٍ في حِجارةٍ، قَد حَصَلَتْ في مجدٍ، حتّى لم يَقْدِرْ بَنو إسرائيلَ أنْ ينظُروا إلى وجه مُوسى لِسَببِ مجدِ وَجهِهِ الزَّائلِ، فكيفَ لا تكونُ بالأَوْلَى خِدمَةُ الرُّوحِ في مجدٍ؟ لأنَّه إن كانت خِدمَةُ الدَّينونَةِ مجدًا، فبالأَوْلَى كثيرًا تَزِيدُ خِدمَةُ البِرِّ في مجدٍ! فإنَّ الـمُمَجَّدَ أيضًا لَـمْ يُمَجَّدْ مِن هذا القبيلِ لِسَببِ الـمَجدِ الفائِق، لأنَّهُ إنْ كان الزَّائِلُ في مجدٍ، فبالأَولَى كثيرًا يكونُ الدَّائمُ في مجدٍ! فإذْ لنا رَجاءٌ مِثلُ هذا نستَعمِلُ مُجاهَرَةً كَثيرةً. وَلَيسَ كما كانَ مُوسى يَضَعُ بُرقُعًا على وَجهِهِ لكي لا يَنظُرَ بَنو إسرائيلَ إلى نهاية الزَّائِلِ، بل أُغْلِظَتْ أَذهانُهم، لأنَّهُ حتّى اليوم ذَلِكَ البُرقُعُ نفسُهُ عند قراءةِ العَهدِ العتيقِ باقٍ غيرُ مُنكَشِفٍ، الّذي يُبطَلُ في المسيح. لكنْ حتّى اليوم، حينَ يُقرأُ مُوسى، البُرقُعُ موضوعٌ على قَلبِهم. ولكن عندما يَرجِعُ إلى الربِّ يُرفَعُ البُرقُعُ. وأمّا الربُّ فَهوَ الرُّوحُ، وَحيثُ رُوحُ الربِّ هناك حُرِيَّةٌ. ونحن جميعًا ناظِرينَ مَجدَ الربِّ بوجهٍ مَكشوفٍ،كما في مِرآةٍ، تتغيَّرُ إلى تلكَ الصُّورةِ عينِها، مِن مجدٍ إلى مَجدٍ، كما مِن الربِّ الرُّوحِ."

تتَّضح لنا جليًّا الأسباب الكامنة خلف كتابة بولس لتلك الرّسالة وهي أنّ بعض المؤمنين في كورنثوس يشكِّكُون في رسوليّة بولس، إضافةً إلى أنَّ بعضًا منهم، وَهُم مِن أصلٍ يهوديّ، يريدون فَرضَ الشريعة اليهوديّة على كلّ مؤمن وثنيّ يريد اعتناق المسيحيّة. إنّ مشكلة العودة إلى الشريعة اليهوديّة قبل اعتناق المسيحيّة هي مشكلةٌ رافقت كلّ العهد الجديد، إذ بالنسبة للمسيحيّين الّذين هُم مِن أصل يهوديّ، لا يمكن للمؤمن الوثنيّ الّذي ارتدّ إلى المسيحيّة أن ينال مفاعيل وَعدِ الله للشَّعب اليهوديّ إن لم يدخل ضمن مسيرة ذلك الشَّعب الّذي نال الوَعد الإلهيّ. إنّ نظريّة هؤلاء المسيحيّين تجعل الإنجيل وكلّ ما قام به يسوع باطلاً ولا نفع منه، لأنّه حسب هؤلاء، لم يكن الصّليب كافيًا كي ينال البشر الخلاص. إخوتي، لقد دخل بولس في صراع مع هؤلاء المؤمنين، وقد ربِح معركته، لأنّه لو فَشِل في ذلك، لكانت الشريعة اليهوديّة تُطبَّق على كلّ مسيحيِّي اليوم، أي لكانوا جميعًا مِن أصل يهوديّ، على الرّغم من تَجَسُّد المسيح ومَنحِه الخلاص لجميع البشر. إخوتي، لا مُشكلة عند يهود اليوم، في الاعتراف بيسوع المسيح ابنًا لله، لكنّ مُشكِلَتَهم تكمن في أن يكون المسيح يسوع مُخلِّصًا لجميع البشر، لا مُخلِّصًا حصريًّا لهم. إنّ المسيح لم يطرح إنجيله انطلاقًا مِن منظارٍ فئويّ، لأنّه لو فَعَل ذلك لكان تَحوّل المسيح إلى زعيم يهوديّ زمنيّ، ولكان اليهود طالبوا بإطلاق سراحه بدلاً من إطلاق سراح برأباس لأنّ المسيح في هذه الحالة كان سيُحقِّق مصالحَ اليهود الخاصّة، ولكن لكانت بالتأكيد ضاعت كلّ بشارته بالخلاص.

إخوتي، إنّ الشَّعب المؤمن يميل إلى الـحَرف لا إلى الرّوح، أي أنّه يميل إلى تطبيق الشريعة اليهوديّة لأنّه على الرّغم مِن أنّ الشريعة تُقيّد المؤمن، غير أنّها تُخفِّف عنه المسؤوليّة في كلّ الأخطاء الّتي قد يرتكبها، لأنّ الرّوح يُحرِّر المؤمن من كلّ القيود، ولكنّه يُلقي عليه المسؤوليّة في تحمّل الأخطاء الّتي قد يرتكبها. لقد أظهر التاريخ البشريّ أنَّ الإنسان منذ بداية الخليقة يرفض تحمّل مسؤوليّة أخطائه، وما قصّة آدم وحوّاء إلّا دليلٌ على ذلك: فآدم ألقى اللّوم على حوّاء حين أصبح أمام الله، وكذلك فعلت حوّاء إذ ألقت اللّوم على الحيّة. في عالمنا اليوم، يُلقي المسيحيّون المسؤوليّة في ارتكابهم الأخطاء على الشيطان. إخوتي، إنّ هذه المسؤوليّة الكُبرى الّتي يُلقيها المؤمن على الشيطان مبالغٌ فيها لأنّ المسيح قد جاء إلى أرضنا وحرّرنا من كلّ القيود وبالتّالي أَصبحنا المسؤولين المباشرين عن كلّ ما نقوم به، لذا لن يكون الإنسان مُبرَّرًا أمام الله في اليوم الأخير، حين يُلقي مسؤوليّة ارتكابه الأخطاء على الشيطان. إخوتي، لماذا نتكلّم عن الشيطان وكأنّه هو القويّ ونحن الضُّعفاء؟ ليس الإنسان ضعيفًا بسبب قوّة الشيطان، إنّما الشيطان قويّ بسبب ضُعفِ الإنسان، وبالتّالي ليس الشيطان قويًّا، إنّما الإنسان هو ضعيفٌ لذلك يَظهر الشيطان على أنّه قويّ. إنّ الشيطان يبقى ضعيفًا طالما نحن في حالة النِّعمة ونجاهد للبقاء في تلك الحالة. إنَّ الحريّة هي سيفٌ ذو حدَّين إذ إنّها من جِهة تُعطي الإنسان قيمته، غير أنّ الإنسان يتهرَّب مِن تحمّل نتائج أعماله الّتي تمنحه إيّاها الحريّة إذ في قلبه حنين للعبوديّة الّـتي تُعفيه من أيّة مسؤوليّة. إنَّ هدف الشيطان هو أن يجعل الإنسان متَّهَمًا أمام أبيه، وهو ينجح في ذلك حين يُواجه الإنسانُ اللهَ بخطاياه في اليوم الأخير انطلاقًا من أنّه خليقة ضعيفة وأنّ الشيطان هو المسؤول عن وقوعه في الخطايا. إنّ إلقاء الإنسان المسؤوليّة على الشيطان في الأخطاء الّـتي يرتكبها، يُقلِّل من قيمة عمل المسيح الخلاصيّ لأجله، إذ يعتبر الإنسان بهذا التصرّف أنّ موت المسيح على الصّليب ما كان كافيًا ليُحرّره من كلّ قيوده.

إنّ بولس يقيم مقارنةً بين شريعة موسى، وبين الشريعة التّي أتى بها يسوع في العهد الجديد. إنّ موسى قد صعد إلى الجبل لينال لَوْحَي الوصايا مِن الله، غير أنّه وَضَع بُرقعًا على وجهه إذ لا يستطيع أحدٌ أن يُعاين نور الله ويبقى حيًّا. إنَّ لَوْحَي الوصايا هما شريعة الشَّعب اليهوديّ، أي القانون الّذي عليه الالتزام به والسَّير بموجَبِه كي يُرضي الله. إنّ الهدف من الشريعة اليهوديّة هو إعطاء الحياة الأبديّة للإنسان، لكنّها لم تتمكّن من ذلك، إذ لم يتمكّن أحدٌ من المؤمنين أن يُطبِّقها. وبالتّالي شعر المؤمنون أنّهم سيبقون في خطيئتهم مهما فعلوا، أي أنَّ نصيبهم سيكون الموت الأبديّ بسبب عدم قُدرَتهم على تطبيق الشريعة بحَرفيّتها. إن كانت الشريعة اليهوديّة، ذلك النّاموس القديم قد حصل على المجد الّذي أتى به موسى على الجبل، فكم بالأحرى العهدُ الجديدُ، النّاموس الحقيقيّ، الّذي أتى به المسيح يسوع؟ إنّ بولس يقيم مقارنة بين عبوديّة النّاموس مع موسى، وبين حريّة المسيح.

إخوتي، إنّ الكنيسة تُعاني مِن أزمةٍ كبيرة في هذا الإطار: إذ إنّ أبناءها الّذين نالوا الرّوح بيسوع المسيح، لا يزالون يسلكون بحسب الجسد، وهذا ما نراه جَلِيًّا حين يهرع المؤمنون، على سبيل المثال، إلى طَرح الأسئلة على الكهنة عمّا هو مسموح به وما هو ممنوع في فترة الصّوم، وحين يُحرِّم رؤساء الكنيسة على المؤمنين الاحتفال ببعض الأسرار في هذا الزّمن كالزّواج مثلاً. إنّ الأسرار الّتي نحتفل بها تُعبِّر عن حضور الله، وبالتّالي يجوز الاحتفال بها في كلّ الأوقات. إنّ تربية المؤمنين لا تكون عبر حِرمانهم من الاحتفال ببعض الأسرار الكنسيّة في زمن الصّوم، إنّما عبر تنشئتهم على معناها الحقيقيّ. إنّ ذهنيّة النّاموس، أي ذهنيّة الـحَرف، ما زالت مُسيطرة في عالمنا اليوم، وقد انتصرت، للأسف، على ذهنيّة الرّوح، إذ إنّ غالبيّة المؤمنين يسيرون وِفق ذهنيّة الحَرف لا الرّوح. إنّ إرضاء الله لا يقوم على تميم المؤمن لواجباته الدّينيّة كما تقتضيها الشريعة، إذ ليس على المؤمن أن يقوم بالأعمال الحسنة لينال مُكافأةً مِن الربّ، بل على المؤمن القيام بها إنطلاقًا من علاقة البنوّة الّـتي تجمعه بالله أبيه، فيجد الله في أعمال المؤمن مسرَّته وافتخاره. إنّ إلَهنا ليس كبقيّة الآلهة الوثنيّة الّتي تُعاقب البشر على أخطائهم، وتُكافئهم على أعمالهم الصّالحة، بل إنّ إلَهَنا هو آبٌ مُحبّ يفرح بأعمال أبنائه الصّالحة ويحزن لارتكابهم الأخطاء الّتي تؤدّي بهم إلى الهلاك. وبالتّالي فما نُعانيه نحن البشر من تغيُّرات مناخيّة أو مصائب قد نقع فيها لا تُعبِّر أبدًا، كما كان يقول اليونان في القديم، عن "غضب الله على شعبه"، مِن جرّاء كثرةِ خطاياهم. هذه هي الذهنيّة اليهوديّة المبنيّة على الحَرف والّتي تغلغلت في مجتمعاتنا المسيحيّة، على الرّغم من أنّ المسيح قد مَنَحنا الحريّة.

إنّ بولس يُشجّع أهل كورنثوس، وبالتّالي جميع المؤمنين، على التعبير عن حريّة المسيح الّتي نالوها، وإلى نَزع كلّ بُرقُعٍ يمنعهم مِن مُعاينة نور وجه الله؛ غير أنّهم في أحيانٍ كثيرة، قد يَضَعون مِن جديد هذا البُرقع إمّا تعبيرًا عن خجلهم من اقترافهم الأخطاء، وإمّا لشعورهم بالحنين إلى العبوديّة. إنّ كلّ مؤمنٍ ينجح في نزع هذا البُرقُع عن وجهه، إنّما هو ينجح في الترقِّي من مرتبة الأجير إلى مرتبة البنوّة في علاقته مع الله الآب. إنّ علاقة الابن بذَويه في هذه الأرض هي خير مثال على علاقة المؤمن بربّه، فكما أنّ الابن يقوم بأعمال تُرضي ذَويه تعبيرًا منه عن مدى حبّه لهم، لا خوفًا من القصاص في حال كان عمله سيئًا؛ كذلك على علاقة المؤمن بربّه أن تكون، إذ على المؤمن أن يقوم بما يُرضي الله لا خوفًا من القصاص، إنّما تعبيرًا عن حبّه له. إنّ الإنسان لا يحتاج إلى ناموس في تعامله مع ذَويه، وبالتّالي لا حاجة به إلى ناموسٍ يحكم علاقته بالله الآب. إنّ الكتاب المقدّس ينقل قول الله لشعبه إنّه سيقطع معهم عهدًا جديدًا لا كالعهد القديم الّذي قطعه مع آبائهم حين كانوا في الصّحراء، وهذا العهد مكتوبٌ في قلوبهم أي على ألواحٍ من لحمٍ ودم لا على ألواحٍ جحريّة أو مكتوبةٍ بحبرٍ وموضوعة عصائب على عيونهم. إنّ لقاءنا مع الربّ يسوع، يدفعنا إلى رَفض ناموس الحَرف والتمسّك بناموس الرّوح. إنّ بولس لا يهمّه أن ينال المجد من النّاس في هذه الأرض، بل أن يكون إيمان هؤلاء بالربّ يسوع على يده سببًا لمجده أمام الله في اليوم الأخير. إنّ بولس لا يحتاج إلى أيّة رسالة في شأن رسوليّته ليُقدِّمها إلى أهل كورنثوس، لذا يتجرّأ ويقول لهم:"أنتم رسالَتُنا، مكتوبةٌ في قلوبنا". إنّ عبارة "أنتم رسالتنا"، تُشير إلى أنّ أهل كورنثوس هم رسالة بولس الّتي تَسَلَّمها من الله ليُبشِّر الأمم، وهذه الرّسالة مقروءةٌ من جميع الّذين يسكنون في محيط كُورنثوس، إذ يشهدون على إيمانهم بالربّ يسوع، وقبولهم البشارة على يد بولس الرّسول. إنّ شهادة هؤلاء على إيمان أهل كورنثوس هو دليل على نجاح بولس في رسوليّته وسَبَبْ افتخارٍ له، وهي بمثابة رسالة توصية من أهل كورنثوس لبولس إلى الأمم الّتي سيبشِّرها على أنّه رسول حقًّا. إنّ بولس يَطرح على أهل كورنثوس سؤالاً حول تراجعهم عن الشّهادة للإنجيل الّذي قبلوه، في ظلّ هذه الأزمة الّتي يُعانون منها. إنّ بولس يُشجِّعهم من جديد على التمسُّك بشريعة الرّوح لا الحَرف، والمثابرة على الشهادة للإنجيل فيتمكّن المحيطون بهم مِن معرفة مفاعيل الحريّة الّتي أتى بها المسيح ومَنَحها لكلّ مَن يؤمن به. إنّ الّذين يُحيطون بنا لن يتمكّنوا مِن فَهم العهد الجديد إلّا مِن خلال شهادتنا له، ولكنّ الربّ قادرٌ أيضًا على أن يُلهِب قلوب غير المؤمنين من خلال الكتاب المقدّس مِن دون أن يكون هناك مبشِّر أو شاهدٌ لكلمة الله. لقد سألتُ يومًا أحد المرتَدِّين إلى الكنيسة عن سبب ارتداده، فقال إنّه ارتَدَّ لا بسبب المسيحيّين الّذين التقى بهم إنّما من خلال تأمُّله في كلمة أحد الآباء القدِّيسين. هذه هي قُدرة الرّوح على العمل في قلوب البشر من خلال الكلمة.

إنّ الهدف من رسائل بولس هو تذكير المؤمنين بكلمة الإنجيل الّـتي قبلوها، وإلى تصحيح مسارهم عند ضلالهم. إنّ بولس وجّه رسالته هذه إلى أهل كورنثوس حين لَمسَ عندهم شكًّا في هويّته كرسول، وبالتّالي في الكلمة الّتي نقلها إليهم. لقد كان أهل كورنثوس يعيشون الإنجيل على هواهم لا كما يريده الربّ لذا أرسل إليهم بولس هذه الرسالة للحزم في بعض الأمور السلوكيّة. لقد اتّهم بعض المؤمنين في كورنثوس بولس بأنّه ليس رسولاً وأنّه يبشِّر بكلمة الله من أجل مصالح شخصيّة، وما عانى منه بولس يُعاني منه أيضًا كلّ حاملٍ للواء الحقّ، لواء المسيح. إنّ بولس يقول لأهل كورنثوس في هذا الإصحاح إنّ الله قد جعله كَفُوءًا للقيام بالرسالة الّتي أوكله إيّاها وهي تبشير أهل هذه المدينة. ثمّ يُضيف فيقول لهم إنّ الحَرف يقتل، أمّا الرّوح فيُحيي: في القديم، كان الهلاك سيكون نصيب المؤمنين لأنّهم لم يتمكّنوا من عيش حَرفيّة الشريعة، غير أنّ هذا المصير لن يكون مصير الجميع لأنّ الربّ يسوع مَنَح المؤمنين به شريعة الرّوح، وبالتّالي حرّرهم من كلّ خطاياهم وأعطاهم بالرّوح القدس روح التبنيّ، فأصبحوا أبناءً لله. إنّ الله الآب سيُجلِس جميع المؤمنين به على مائدته في الملكوت، لأنّ جميعم قد قبلوا أن يكونوا أبناءه. أمام هذا الحبّ المتفاني من الله، لا يجوز للمؤمن أن يقبل بأن تبقى خطاياه حاجزًا يَحول دُون مشاركته الآب وليمته الّتي أعدّها لجميع أحبّائه. وبالتّالي على كلّ مؤمن التخلّي عن خطاياه لا خوفًا من العقاب إنّما كتعبيرٍ منه على حبّه لله ورغبته في مشاركته الملكوت. على المؤمن أن يتخلّص من خطاياه انطلاقًا مِن ذهنيّة الرّوح الّذي يُحيي لا الحَرف الّذي يقتل، فيتخطّى كلّ أحزانه وعثراته، ليتمكّن من أن يكون فرِحًا في الربّ. على المؤمن إذًا، لا أن ينتظر كي تتغيّر الظروف ليتخلّص من خطاياه، إنّما عليه أن يتخلّص من كلّ خطاياه على الرّغم من كلّ الظروف، فينال الفرح الدّاخليّ الّذي لا يستطيع أحدٌ انتزاعه منه.

إنّ النّاموس بحسب بولس، هو لخدمة الموت، أي أنّ جميع النّاس هالِكون استنادًا إلى هذه الشريعة. إنّ النّاموس قد ناله موسى حين رأى مجد الله على الجبل، أمّا نحن فقد عاينَّا مجد الله حين تجسَّد يسوع ومَنحنا حريّة أبناء الله. إخوتي، لا يمكننا المقارنة بين ذهنيّة الحَرف الّتي أتى به النّاموس ونتيجتها هلاك جميع البشر لأنّهم لم يتمكّنوا من تطبيقه، وبين ذهنيّة الرّوح الّتي أتى بها المسيح، ونتيجتها الحريّة والحياة الأبديّة لكلّ الّذين يقبلون به مخلِّصًا وفاديًا لهم. لذا علينا ألّا نقبل، نحن المؤمنين، أن تسير الكنيسة وِفق شريعة الحَرف، بل علينا أن ندفعها للسَّير من جديد وِفقَ شريعة الرّوح، آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
17/10/2017 رسالة القدّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنثوس - الإصحاح الثاني الكنيسة جسد المسيح السريّ
https://youtu.be/IEu6CBn4ezk

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدِّيس بولس الرّسول الثانية إلى أهل كورنتس
الإصحاح الثّاني
الأب ابراهيم سعد

17/10/2017

"ولكنّي جَزَمْتُ بهذا في نفسي أن لا آتي إليكم أيضًا في حُزن، لأنّه إنْ كُنتُ أُحزِنُكم أنا، فـمَن هو الّذي يُفرِحُني إلّا الّذي أُحزَنْتُه. وكتبْتُ لكم هذا عينِه حتّى إذا جئتُ، لا يكون لي حُزنٌ مِن الّذين كان يجب أن أفرحَ بهم، واثقًا بجميعكم أنَّ فرحي هو فرح جميعكم. لأنّي مِن حُزنٍ كثيرٍ وكآبة قلبٍ كَتبْتُ إليكم بدموعٍ كثيرة، لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرِفوا المحبّة الّتي عندي، ولا سيَّما مِن نحوِكم. ولكنْ إنْ كان أحدٌ قد أَحزَنَ، فإنّه لم يُحزِنْي، بل أَحزَن جميعُكم بعض الحزن لكي لا أَثقُلَ. مِثلُ هذا يكفيه هذا القصاص الّذي مِن الأكثرين. حتّى تكونوا - بالعكس- تُسامِحونه بالحَرِيّ وتُعزّونَه، لِئلّا يَبتلع مِثلُ هذا مِن الحُزنِ المفرط. لذلك أطلب أن تُمكِّنوا له المحبّة، لأنّي لهذا كَتَبْتُ لكي أعرف تزكيتكم، هل أنتم طائعون في كلّ شيء، والّذي تُسامِحونه بشيء فأنا أيضًا. لأنّي أنا ما سامحْتُ به- إن كنْتُ قد سامَحْتُ بشيء- فَمِن أجلِكم بحضرة المسيح، لئلّا يطمع فينا الشيطان، لأنّنا لا نجهل أفكاره. ولكن لَمَّا جِئتُ إلى تَرواس، لأجل إنجيل المسيح، وانفَتَحَ لي بابٌ في الربّ، لم تكن راحة في روحي، لأنّي لم أجد تيطس أخي. لكنْ وَدّعتهم فخرجتُ إلى مَكدونيّة. ولكن شُكرًا لله الّذي يقودُنا في موكِب نُصرَتِه في المسيح كلَّ حين، ويُظهر بنا رائحة معرِفَتِه في كلِّ مكان. لأنّنا رائحة المسيح الذكِّية لله، في الّذين يَخْلُصون وفي الّذين يهلِكون. لهؤلاء رائحة موتٍ لموت، ولأولئك رائحة حياةٍ لحياة. ومَن هو كَفوءٌ لهذه الأمور. لأنّنا لسنا كالكثيرين غاشِّين كلمة الله، لكن كما من إخلاص، بل كما مِن الله، نتكلّم أمام الله في المسيح."

إذًا، يتَّضح لنا، في هذا الإصحاح، عَتَب بولس على بعض المؤمنين الّذين أحزنوا الكنيسة بتصرّفاتهم. لقد غضب بولس من تلك التصرّفات، لذلك دعا أصحابها إلى إعلان توبتهم عنها، وشجّع أهل كورنثوس إلى احتضانهم والتعبير عن محبّتهم لهم كي تكون توبتهم سبب فرحٍ لهم وللكنيسة جمعاء في كورنثوس. في نهاية هذا الإصحاح، يقول بولس الرّسول: "لأنّنا لسنا كالكثيرين غاشِّين كلمة الله"، ممّا يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ تلك التصرّفات الخاطئة الّـتي صَدرت عن بعض المؤمنين قد طالت موضوع رسوليّة بولس. لقد بشَّر بولس بكلمة الله، التّي كانت رفيقته الدائمة في مسيرته الرسوليّة، كما رافقَه في تلك المسيرة كلام النّاس، الّذي لم يتوانَ عن تشويه سُمعته إلى يوم مماته. مهما كانت الأسباب الّتي دفعت إلى تشويه سُمعة بولس: أكان الحسد، أم الجهل، أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد، فالهدف واحد وهو تعطيل وصول كلمة الله إلى أكبر عددٍ من البشر. إنّ بولس لم يُضيِّع وقته في الردّ على الإشاعات الّتي كانت تطال شخصه، مِن دُون أن تؤثّر على مسيرته التبشيريّة، لذا كان يحتملها متابعًا مسيرته التبشيريّة ليتمكّن من إيصال كلمة الله إلى النّاس أجمعين. غير أنّه لم يكن باستطاعته التهاون مع الإشاعات الّـتي كانت تؤثِّر على بشارته بكلمة الله، لذا كان يسعى إلى إظهار عدم صِدقها، خوفًا من أن يُصدِّقها الّذين يُبشِّرهم، فلا يقبلون بعد ذلك الإصغاء للبشارة الّـتي يُعلنها، فيتعطّل الإنجيل. لقد عمد البعض إلى تشويه سُمعة بولس عند المؤمنين، فقالوا فيه إنّه يُبشِّر بكلمة الله من أجل منفعته الخاصّة أي من أجل الحصول على الطّعام، فردّ بولس على تلك الإشاعات الّتي انتشرت في كورنثوس من خلال هذه الرسالة، لأنّ بولس لا يستطيع المساومة لا على رسوليّته ولا على كلمة الله. عند سماعه تلك الإشاعات، لم يستطع بولس السّكوت، بل دافع عن نفسه لأنّ في دفاعه عن نفسه، دفاعًا عن رسوليّته. لقد دافع عن رسوليّته كي لا يذهب تعبه وجُهدَه في الرسالة سُدىً، إذ إنّ التبشير بكلمة الله، حَسَب بولس، هو واجبٌ على الرّسول، لا مدعاة لتفاخره.

إخوتي، ما عانى منه بولس من تشويهٍ لسُمعته نتيجة تبشيره بكلمة الله، ما زال مستمرًّا إلى يومنا هذا، ويعاني منه كلّ مبشِّرٍ. في الكنيسة، هناك مجموعتان: الأولى تعمل وِفق حساباتها الخاصّة البشريّة، أمّا الثانية فتعمل وِفقَ حسابات الله أي وِفق إرادته. وتُعاني المجموعة الّـتي تُبشِّر بكلمة الله بكلّ أمانة، مِن الاضطهادات مِن قِبَل المجموعة الّتي تعمل وِفقَ حساباتها الخاصّة، إذ تلجأ هذه الأخيرة إلى إسكات المجموعة الأخرى بكافة الوسائل: أوّلاً بتشويه السُّمعة من أجل زعزعة ثقة المؤمنين بالمبشِّرين بكلمة الله، وإن لم ينجحوا في ذلك فإنّهم يلجؤون إلى إسكاته بالقوّة أي بالقتل. وتبرِّر المجموعة التّي تَضطهد المبشِّرين تصرّفاتها بأنّها تنتقد شخص المبشِّر نفسه لا عمله التبشيريّ، مُدَّعيَةً أنّها تدافع عن كلمة الله، عالمةً ضِمنًا أنّها بهذه التصرّفات تُعطِّل الإنجيل. إنّ كلمة الله الّتي يُعلنها الإنسان الخاطئ، تَفضحُه وتَفضحُ إخوته البشر الخطأة، وَعِوَض أن تكون ثمرةُ هذا الإعلان توبة الخطأة، تنهال الاضطهادات على الّذي أعلن كلمة الله.

لقد عانى بولس أيضًا من الاضطهادات من قِبل بعض المؤمنين، ولكنّ ردّه على ذلك كان عنيفًا إذ استخدم في هذا الإصحاح عبارة: "نحن رائحة المسيح الذكيّة لله". إنّ الرائحة تنتشر بسرعةٍ، ولا يستطيع أحد أن يُعفي نفسه مِن الشَّم، أو إنكار وجود رائحةٍ في الأجواء، سواء أَأَحبّها أم لا. إنّ للإنجيل رائحة ذكيّةً، وهي ستصل إلى الجميع بواسطة المبشِّرين، فمَن يقبلها يَنَلْ الحياة الأبديّة، ومَن يرفضْها، يَكُن مصيره الهلاك. إخوتي، في حديثنا مع الآخرين عن الخلاص، علينا تجنُّب استخدام بعض التّعابير مِثل: "قصاص، عقاب، حُكْم"، لأنّ الخلاص ليس حُكمًا يُصدِره الله بحقّ البشر الخطأة، إنّما الخلاص هو ثمرة أعمال المؤمن ومواقفه: فإن كانت مواقف الإنسان تُعبِّر عن قبوله الحياة الأبديّة وإيمانه بها، فإنّه حتمًا سينالها في اليوم الأخير، أمّا إن كانت تصرّفاته لا تُعبِّر عن ذلك، فالهلاك سيكون مصيره لأنّ أعماله تُعبِّر عن رفضه للحياة الأبديّة. إذًا، لا ينال الإنسان الخلاص استنادًا إلى أحكام الله، إنّما استنادًا إلى أعمال الإنسان، أي أنّ خلاص الإنسان مرتبطٌ بقبوله له، لا بحُكم الله عليه، فالله لا يستطيع منح الإنسان الخلاص بالقوّة. إنّ استخدامنا لِلُغة القصاص في كلامنا مع الآخرين عن الخلاص، يدفعهم إلى الخوف من العودة إلى الله، وإلى التردّد في إعلان توبتهم، إذ سيشعرون بأنّه لا فائدة من التوبة لأنّ العقاب هو نصيب كلّ مَن يرتكب الخطايا. أمّا إذا أخبرنا النّاس أنّ خلاصهم مرتبطٌ بأعمالهم في هذا العالم، فإنّهم حينها سيشعرون بالفرح لاستطاعتهم تغيير مصيرهم عند تغيير سلوكهم، وبالتّالي سيشعرون بضرورة التوبة، وسيتقرّبون من الله من جديد بفرحٍ سائلين الربّ مغفرة الخطايا لهم. إذًا، إخوتي، لا يحقّ لأيّ إنسان أن يُحدِّد مصير أخيه الإنسان، بل إنّ أعمال كلّ إنسان ومسلكيّاته هي الّتي تُحدِّد مصيره، وبالتّالي فإنّ إمكانيّة العودة عن الضَّلال والتوبة إلى الله متوافرة في كلِّ آنٍ. إنّ هذا الكلام لا يعني أبدًا التَّساهل مع الخطيئة، إنّما يعني عدم زجّ الآخرين في سجن تصرّفاتهم الماضية والخاطئة، عبر إعطاء الفرصة لكلّ إنسان لتصحيح ما ارتكب من أخطاء والتوبة عنها.

إنّ بولس يشرح لنا في هذا الإصحاح أنّ هناك أزمة حقيقيّة بين الّذين تصرّفوا بطريقة خاطئة في الكنيسة، وبين الّذين نالوا الأذيّة نتيجة تلك التصرّفات. إنّ بولس يدعو الّذين أخطأوا إلى التوبة،كما يدعو الآخرين الّذين يعانون نتيجة هذه التصرّفات، إلى التوقّف عن الحزن، وإلى قبول عودة هؤلاء الخطأة ومحبّتهم. إنّ بولس يشعر بالحُزن الكبير نتيجة التصرّفات السيئة لبعض المؤمنين، بدليل استخدامه لمفردات الحُزن بكثرةٍ في هذا الإصحاح. يُقسَم هذا الإصحاح إلى قسمين: القسم الأوّل يتناول الحُزن، أمّا القسم الثّاني فهو يشدِّد على ضرورة المسامحة. إنّ الخطيئة تخلق جُرحًا عميقًا عند الّذي يرتكبها، وبالتّالي عندما يتلقَّى المسامحة من الآخرين، فإنّه ينال بلسمةً منهم لتلك الجِراح الناتجة عن خطاياه. إنّ المسامحة تمنح الخاطئ تعزيةً إلهيّة، وتدفعه إلى العمل على تحسين ذاته، والتعويض عن أخطائه. على الإنسان الّذي يُسامِح ألّا يشعر بالافتخار لدى مسامحته الآخر، لأنّ المسامحة ليست امتيازًا يحصل عليه البعض، إنّما هدف المسامحة بلسمة جِراح الخاطئ ودَفعُه إلى التوبة عمّا ارتكب من أخطاء. إنّ المسامحة لا تعني نِسيان الخطايا، إنّما تعني تخلّي الإنسان الّذي تعرَّض للأذى عن شعوره بالكراهية للّذي أَذنبَ تجاهه. وبالتّالي، إنّ المسامحة غير مرتبطة بمدى مقدرة الخاطئ على التغيير في مسلكيّاته أو لا، بعد حصوله على المسامحة. على المؤمن، انطلاقًا من إيمانه بالمسيح، أن يسامح الآخرين الّذين أَذنبوا إليه، تاركًا الحريّة للرّوح كي يعمل في قلب الآخر، على بلسمة جُروحاته وتغييره من الدّاخل. إنّ عدم المسامحة تعني أنّ هناك شخصين يحتاجان للعلاج: أوّلاً الخاطئ، ومن ثمّ الّذي تعرَّض للأذيّة. إنّ الله يُعَيِّنك في اللّحظة نفسها، الّتي تتلقّى فيها الأذيّة، طبيبًا على أخيك الّذي وجّه لك الأذيّة: فالّذي تعرَّض لك بالأذيّة هو شخصٌ مريضٌ مُصابٌ بالجُروح، وبالتّالي يحتاج إلى معالجة، وهذه المعالجة هي رَهنُ يَديك إذ إنّك عندما تسامحه تُفسِح له المجال بالشُّعور بأهميّة التوبة. إنّ الإنسان الّذي يُسامح يُشبه في تصرّفاته الطبيب الّذي يُعالِج مريضًا: فالطبيب لا يُناقش المريض في إمكانيّة العلاج، بل يُعطيه العِلاج اللّازم لشفائه، والطبيب لا يتفاخر بنفسه عند إجرائه عمليّة جراحيّة بل يفرح لأنّ آخرَ قد نال الشِّفاء بواسطة عمله الطبيّ هذا. إذًا، الهدف مِن المسامحة، يتعلَّق بالّذي قام بالأذيّة لا بالّذي تعرَّض للأذيّة، أي أنّ الهدف من المسامحة هو الآخر لا أنا. إنّ بولس يُركِّز على ضرورة المسامحة، لأنّ مَن يُسامِح يُصبح شريكًا لله في خَلق الآخر مِن جديد: فإنّك عندما تُسامِح الآخر، تدفعه إلى التّغيير والتحسين في ذاته، كي يُصبح خليقةً جديدة. إخوتي، مَن لا يُسامِح أخاه الإنسان، هو إنسانٌ قد حَكم على الآخر بعدم المقدرة على التغيير، وبالتّالي حَكم عليه بالموت. مَن لا يُسامِح هو إنسان لا يملك القدرة، أو بالأحرى يرفض أن يُصدِّق ويرى أنّ باستطاعة الآخرين أن يتحلّوا هم أيضًا مِثلَه، بالطّيبة والقلوب النقيّة. إخوتي، على المؤمن أن يُسامح الآخرين، لا أن يدينهم بسبب أخطائهم، لأنّه متى سامح الإنسانُ الآخرَ الـمُذنِب شَعَرَ هو بالرّاحة والسّلام الداخليّ، وأعاد الحياة إلى الّذي أخطأ إليه. لا يحقّ لأيٍّ من المؤمنين أن يُعطِّل مشروع الله : فالربّ يسوع قد جاء إلى أرضنا من أجل عودة الخطأة ولذا على كلّ مؤمن بالمسيح أن يُسامِح مَن أذنَب إليه فيُعيد إليه الحياة. إخوتي، إنّ عودة السّلام الداخليّ إلى قلبك هو أمرٌ في غاية الأهميّة، لكنّ الأهمّ هو عودة الحياة إلى خاطئ، قد أصابته الخطيئة بجروحٍ عميقة.
ما يهمّ بولس هو: عدم زعزعة الكنيسة، جسد المسيح السريّ، أي تعطيل الإنجيل، مسيرة الكنيسة. لذا إنّ بولس لا يجد أيّة صعوبة في طردِ أيّ إنسان خارج الكنيسة إن كان هذا الأخير يسعى إلى زعزعة الكنيسة وهدم جسد المسيح السريّ. إنّ موقف الكنيسة تجاه الهراطقه، هو موقف بولس نفسه تجاه هؤلاء الّذي يُساهمون في تعطيل الإنجيل. في أثناء ممارسة الكهنة سرّ الاعتراف، عليهم الانتباه جيّدًا كي لا يُظهروا للتائبين صورة الله الآب على أنّه الدَيّان الّذي لا يهتمّ إلّا لمعاقبة البشر على شرورهم، بل عليهم أن يُظهروا لهم صورة الله المحبّ الّذي ينتظر عودة أبنائه بشوقٍ كبير. فبحسب قول أحد المعلِّمين الروحيّين، على الكاهن أن يرفع النبرة عاليًا في العظة أثناء احتفاله بالذبيحة الإلهيّة، فيَتَنَبَّه المؤمنون إلى خطاياهم ويتوبوا عنها، أمّا في سرّ التوبة، فعلى الكاهن أن يجمع شَملَ حُطام هذا الإنسان البائس الخاطئ، مستخدمًا لغة المحبّة لا التخويف من جُهنَّم، فيشعر هذا الإنسان التائب بالفرح لعودته عن ضلاله إلى أحضان الله الآب، فيسعى إلى التغيير في ذاته.

لقد استخدم بولس الرّسول عبارة: "بدموعٍ كثيرة"، ليدّل على الكآبة الكبيرة الّتي يُعاني منها نتيجة هذه الأزمة الّتـي تَمرُّ بها كنيسة كورنثوس. على المؤمن الّذي يُسامح ألّا يدين الآخر على نواياه، فيقول في الآخر: إنّني سامحت مَن أخطأ إليّ، لكن هذا الأخير ما زال يُضمِر لي الشَّر في قلبه. إخوتي، لا نأخُذنَّ مكان الله أبدًا، فالله هو الوحيد القادر على معرفة ما في الكِلى والقلوب. إخوتي، ليس كلُّ الخطأة أشرارًا، والدّليل هو وجودكم أنتم المؤمنين في هذه القاعة، الّذين تُصغون إلى كلمة الله مع عِلمِكم أنّكم في الحقيقة خطأة وضُعفاء، غير أنّكم لستم في الحقيقة أشرارًا. حين يرفض الإنسان المسامحة، رابطًا مسامحته للآخر بنوعيّة الخطيئة المرتكبة، فإنّ هذا التصرّف يدلّ على أنّ المشكلة لا تكمن في الشخص الـمُذنب إنّما في الّذي يُسامِح. يُحاول بولس الرّسول، في هذا الإصحاح، أن يجمع بين المؤمنين، الخطأة منهم والصّالحين، داعيًا الصّالحين إلى احتضان الخطأة ومعاملتهم بمحبّة لدى عودتهم عن طريق الضّلال. ولكنّ الـلّافت في الأمر هو أنّ بولس يقول:"لئلّا يطمع فينا الشيطان"، وفي هذا الكلام تذكيرٌ منه لأهل كورنثوس أنّهم كمؤمنين يعلمون أفكار الشيطان، ويعلمون أيضًا أنّه لا يستسلِم أبدًا، وهو يرغب في إبعاد أكبر عددٍ منهم عن الإيمان الصّحيح. إنّ الشيطان يُشبه النّار الّتي تبقى مشتعلة ما دام الحَطَبُ مُؤَمَّن، فالشيطان يبقى قويًا ما دام قادرًا على زرع الخلافات بين المؤمنين، والمحافظة على وجودها فيما بينهم. لا يرغب الشيطان في إبعاد المؤمن عن الله وَرَميه في جُهنَّم فحَسْبُ، بل يرغب كذلك في شَقِّ الكنيسة كي لا يتمكّن المؤمن بعد ذلك من العودة إلى الله من خلال أسرار الكنيسة متى اكتشف مدى فظاعة أخطائه، فهَمُّ الشيطان هو زرع الشِّقاق والخلافات في الكنيسة.

ويتابع بولس الرّسول حديثه إلى أهل كورنثوس قائلاً إنّه ليس كالكثيرين "غاشِّين" لكلمة الله، ليُشدِّد على إخلاصه لكلمة الله، على عكس بعض المؤمنين مِن أهل كورنثوس الّذين يسعون إلى تعطيل الإنجيل، وبالتّالي إلى هدم جسد المسيح السريّ. إنّ الغِشّ يقوم على أن يتوهّم الإنسان أنّ ما يُعاكس الحقيقة هو الحقيقة فعلاً. إنّ أكبر غِشٍّ لكلمة الله هو حين يستخدم أحد المبشِّرين كلمة الله لا من أجل إيصالها إلى المؤمنين، إنّما بغاية أن يصل هو إلى الآخرين، أي من أجل مصالحه الخاصّة. إخوتي، هذا الكلام لا يعني أبدًا أنّه إذا وصلتني كلمة الله من خلال أحد البشر الخطأة الّذين يسعون جاهدين إلى تغيير ذواتهم ولم يفلحوا بعد في ذلك، لا يُعتَبَر ذلك غِشًّا، لأنّ كلمة الله لا تتغيّر وهي صادقة حتّى وإن صَدرت مِن فم أحد الخطأة. فمثلاً: إنّ قال أحدهم إنّه لا يجوز لنا الكذب، وهو يكذب، فهذا لا يعني أبدًا أنّ الكَذب أصبح مُباحًا، بل على هذا الكلام أن يُشكِّل دعوةً لسامعيه كي يتذكَّروا أنّ الكذِب هو خطأ، حتّى وإن لم يتمكّن بعد، ذاك الّذي نطق بهذه الكلمة الإلهيّة، مِنَ التوقّف عن الكَذِب. لا يجب التوقّف عند حقيقة ذلك الإنسان الّذي يُبشِّرنا بكلمة الله وإدانته، بل علينا أن نسعى للعمل بكلمة الحقّ الّتي ذكَّرنا بها.

إنّ الكنيسة في عالمنا اليوم، تُعاني من أزمة كبيرة، وهي أزمة ثقةٍ بين رجال الدِّين والشَّعب. هذا هو فرح الشيطان أن يتمكّن مِنْ قَطعِ رباط الثِّقة بين أبناء الكنيسة. إنّ المسيح قد قال "إنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة"، غير أنّني أقول لكم إنّ الشيطان يستطيع ذلك إن تمكّن مِنْ قطع الثِّقة بين أعضاء جسد المسيح السريّ. إنّ الشيطان قادرٌ على إيقاع البشر في حبائل مكائده الّتي ينصبها لهم، ولكنّه لن يتمكّن من السيطرة على الكنيسة، جسد المسيح السريّ إذا بقيَ أبناؤها مجتمعين حول يسوع المسيح. فمتى فُقِدَتِ الثِّقةُ بين أعضاء الجسد الواحد، مات الجسد كلّه. إنّ الكاهن هو المسؤول الأوّل عن إيصال كلمة الله إلى كافة المؤمنين. ليس الكاهن هو مَن يمنح الخلاص للشَّعب، إنّما هو المسؤول عن إيصال الخلاص لهم. إنّ كلام الربّ يسوع لرُسله: "ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السّماء وما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السّماء"، لا يُشكِّل أبدًا امتيازًا لهم، إنّما مسؤوليّة كُبرى سلَّمهم إيّاها الربّ وسيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. إنّ سرّ الاعتراف ليس امتيازًا للكهنة على باقي المؤمنين، إنّما مسؤوليّة ودينونة لهم في اليوم الأخير. إنّ سرّ الاعتراف هو تأكيد لاستمراريّة المسؤوليّة الّتي سلَّمها الربّ لرُسُلِه، وبالتّالي للكهنة. إنّ الإنسان يجد سهولةً في إدانة الآخرين بينما يصعب عليه التّعامل معهم بالرّحمة. إنّ الرّحمة هي صفة إلهيّة، لا يرغب كثيرون من المؤمنين بالتحلّي بها مع الآخرين. إنّ القضاء والعدل مِن دُون رحمة هو ظُلمٌ للبشريّة الّتي تُحاكَم. إنّ لجوء المؤمنين إلى استخدام لغة التَّعميم، قائلين مثلاً "إنّ جميع النّاس هم غشَّاشون أو كذَّابون"، هو دلالةٌ على أنّ الشيطان قد سكن في الهيكل، أي أنّه نجح في إدخال الشَّك إلى قلوب بعض المؤمنين وإلى خلق شِقاقات في صفوفهم. إنَّ التركيز على هفوات الآخرين لا يؤدّي إلى دَفع الآخرين إلى تصحيح أخطائهم، إنّما يهدف إلى زعزعة الثِّقة بين أعضاء الكنيسة وفُقدانها، وهذا ما يريده الشيطان. إنّ بولس يسعى في هذه الرسالة إلى تحذير أهل كورنثوس من الاستمرار في السير في هذه الطريق الملتوية، وهو يدعوهم إلى الصّلاة كي يتمكّنوا من تصحيح مسار بعض المؤمنين الآخرين مِن دون إدانتهم. إخوتي، على "كلمة الحقّ" أن تحكم كنيستنا اليوم، من جديد. إخوتي، عبر التّاريخ، كان الشَّعب المؤمن هو حافظ وديعة "الإيمان"، وعلى شعبنا المؤمن اليوم أن يسهر، كما العادة، على تلك الوديعة، فيُساهم في تفكيك مُخطّطات الشِّرير الّذي يرغب في زرع الشِّقاق في الكنيسة، وبالتّالي إلى خرابها.

إخوتي، إنّ الكاهن هو كسائر البشر مُعرَّض للوقوع في الخطيئة، فهو لا يُخلَق قدِّيسًا بل يسعى إلى الوصول إلى مرحلة القداسة. لذا علينا ألّا نضع هالة القداسة حول أيٍّ من الكهنة، بل علينا أن نسعى إلى اصلاحه بالمحبّة وروح التواضع متى أخطأ، فالإنسان الّذي يشعر بأنّه محبوبٌ سيسعى إلى إصلاح ذاته، أمّا الّذي لا يشعر بمحبّة الآخرين بل بإدانتهم له فإنّه لن يسعى إلى تحسين ذاته. لا يجب أن ننسى حسنات الآخرين عند ارتكابهم الأخطاء، بل علينا أن نُحيطهم دائمًا بالمحبّة كي يتمكّنوا من إصلاح ذواتهم في كلّ مرّةٍ يقعون فيها في إحدى تجارب الشِّرير.

إخوتي، إنَّ كنيستنا اليوم، يُعوِزها مجد الربّ. وإنّ الأزمة التّي تُعاني منها كنيستنا لا نستطيع أن نجد لها حلاًّ عبر تناقل أخطاء المسؤولين فيها بالنميمة والثرثرة، إنّما بالصّلاة والثّبات في الإيمان فنكون نحن شعب الله،كما عَهِدَنا تاريخنا، حافظي وديعة الإيمان عبر الدّهور. إخوتي، لن نتمكّن من إصلاح المسؤولين في الكنيسة أو بالأحرى كلّ المؤمنين الّذين يرتكبون الأخطاء الفادحة إلّا إذا تمسَّكنا بكلمة الإنجيل، وَتَحلَّينا بروح المحبّة والتواضع، لا بروح الشِّقاق والانتقاد والحقد والكراهية، طالبين من الله أن يمنحنا صبر القدِّيسين في مسيرة إصلاحنا للكنيسة ودَرء الخطر عنها، خطر الشِّقاق الّذي هو مُخطَّط الشِّرير. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...