البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
25/10/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح الثاني الإنجيل هو خطاب الله الأخير لشعبه
https://youtu.be/rKdVZ9Rl2DQ

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الثاني
الأب ابراهيم سعد

25/10/2016


"لذلك يجب أن نتنبَّه أكثر إلى ما سمِعنا لئلّا نَفُوتَه. لأنّه إن كانت الكلمة الّتي تكلّم بها ملائكةٌ قد صارت ثابتةً، وكلُّ تعدٍّ ومعصيةٍ نال مجازاةً عادلةً، فكيف ننجو نحن إن أهمَلْنا خلاصًا هذا مقداره؟ قد ابتدأ الرّبّ بالتّكلّم به، ثمّ تَثَبَّت لنا مِن الّذين سمِعوا، شاهدًا الله معهم بآياتٍ وعجائب وقوّاتٍ متنوّعةٍ ومواهب الرّوح القدس، حسب إرادته. فإنّه لملائكةٍ لم يُخضِع العالم العتيد الّذي نتكلّم عنه. لكن شهِدَ واحدٌ في موضعٍ قائلاً: "ما هو الإنسان حتّى تذكره؟ أو ابن الإنسان حتّى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة. بمجدٍ وكرامةٍ كلّلته، وأقمته على أعمال يديك. أخضَعتَ كلّ شيءٍ تحت قدميه". لأنّه إذ أخضع الكلّ له لم يترك شيئًا غير خاضع له. على أنّنا الآن لسنا نرى الكلّ بعد مُخضَعًا له. ولكنّ الّذي وُضِعَ قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكلّلاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كلّ واحدٍ. لأنّه لاقَ بذاك الّذي من أجله الكلّ وبه الكلّ، وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد، أن يُكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام. لأنّ المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحدٍ، فلهذا السبّب لا يستحي أن يدعوهم إخوةً، قائلاً "أُخبِّر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبِّحك" وأيضًا: "أنا أكون متوكِّلاً عليه". وأيضًا: "ها أنا والأولاد الّذين وهبهم لي الله" إذ قد تشارك الأولاد في اللّحم والدّم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الّذي له سلطان الموت، أي إبليس. ويُعتِق أولئك الّذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة. لأنّه حقًّا ليس يُمسِك الملائكة، بل يُمسِك نسل إبراهيم. من ثمّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كلّ شيءٍ، لكي يكون رحيمًا، ورئيس كهنةٍ أمينًا في ما لله حتّى يُكفِّر خطايا الشّعب. لأنّه في ما هو قد تألّم مُجرَّبًا يقدر أن يعين الـمُجرَّبين." (عبرانيين 2)

إنّ هذه الرسالة تهدف إلى إعطاء جواب عن سؤال واحدٍ هو: من هو يسوع؟ ومن هذا السؤال تَفرّع أسئلة أخرى هي: ما هو هدف حضور يسوع؟ ما هو عمله؟ وإلامَ يرمي كلّ ما قام به؟ ومن هم المعنيّون بهذا العمل، أي إلى من يتوجّه المسيح في عمله؟ وللإجابة عن السؤال الأساسيّ عن ماهيّة يسوع، وَجُب علينا التّكلّم عن قصّة يسوع ورسالته، لأنّ رسالة يسوع هي قصّته. والغاية من طرح هذا السؤال ليس إعطاء براهين وأدلّة على أنّ يسوع هو ابن الله ومسيحه، إنّما التركيز بأنّ المسيح هو لنا، أي أنّ كلّ ما فَعَلَهُ كان من أجلنا نحن البشر، فهو قد تحمّل الآلام والصّلب والموت من أجل فدائنا.

في العهد القديم، كان الله يُكلِّم شعبه من خلال وسائل عدّة ومن بينها الملائكة، وقد كان يسوع بمثابة التوقيع والختم على كلّ ما نقلته الملائكة للشعب عن لسان الله بأنّه حقًّا كلام الله. إنّ كاتب الرسالة يضيف قائلاً إنّ كلام الله قد تُثبِّت لنا من خلال كلّ الّذين سمعوه، إذ إنّ رسالة المسيح لا تقتصر على سماع كلام الله إنّما تتخطّى ذلك، لتشمل نشر البشارة من خلال كلّ مؤمن يسمع كلمة الله. ومن هنا يمكننا القول إنّ الّذي يسمع كلام الله له دورٌ فاعل في رسالة يسوع، أي أنّ مهمّته في نشر الكلمة تبدأ حين سماعه بها، بمعنىً آخر، إنّ كلمة الله تبقى ناقصة ما لم تصِل للآخرين، وهنا لا أقصد أنّ كلمة الله هي ناقصة، بل أقصد بأنّها تبقى ناقصة إذ لم تتمكّن من تحقيق هدفها في وصولها إلى كافة البشر عبر الّذين سمعوها. ومن هنا، تتّضح لنا عظمة مسؤوليّة المؤمن في نقل البشارة إلى الآخرين، لذا لا يجب أن يسمع كلمة الله كمن يشاهد فيلمًا تاريخيًّا يروي أحداث حياة المسيح، بل عليه أن يسمع كلمة الله ويعي الدور الّذي أوكله إيّاه المسيح في نقل البشارة إذ إنّه جعله حاملاً لكلمة الله الأزليّة، على الرّغم من جبلته الضعيفة والمعرّضة للسقوط والهوان في شتّى الخطايا، إذ قد أصبح كلّ سامع لكلمة الله إنجيلاً متنَّقِلاً ورسالة الله المتنَّقلة بين البشر. إذًا، إنّ يسوع هو ذاك الّذي أتى وحمّل كلّ مؤمن به كلمة الله الأخيرة، وأوكله بأن يوصلها بدوره للآخرين، لذا ليس على المؤمن أن يستهين بكلمة الله ولا بنفسه أيضًا. إنّ أكبر خِدَع الشيطان هي إقناع الإنسان بأنّه ليس مستحقًّا ولا أهلاً، لينقل كلمة الله للآخرين وذلك بسبب ضعفه وخطاياه الكثيرة. إنّ الشيطان لا يهمّه الإنسان بل إنّ ما يشكّل همّه الوحيد هو عرقلة وصول كلمة الله للعالم بأسره. إنّ الشيطان يكون الرابح الأكبر عندما ينغلق الإنسان على ذاته مكتفيًا برؤية نقائصه، ومتجاهلاً أهميّته في نقل البشارة؛ وبالتّالي، يدخل الإنسان في مشروع الشيطان عوض أن ينتمي إلى مشروع الله الخلاصيّ. ولذا، ومن أجل إفشال مشروع الشيطان ومخطّطه هذا، على المؤمن عدم التلهّي في تحسين ذاته ليصل إلى الكمال قبل الشروع في نقل البشارة، إذ إنّه بتلك الطريقة يقوم بتعطيل كلمة الله. إنّ الله اختارك أيّها المؤمن، على الرّغم من نقائصك وخطاياك، لتوصل البشارة إلى الآخرين. إخوتي، إنّنا لا نبشّر بذواتنا، بل بكلمة الله، ولذا علينا عدم الانتظار للوصول إلى الكمال كي نبدأ البشارة، فإيّاكم أن تعتقدوا أنّ عليكم أن تكونوا الـمَثل الصالح للنّاس لتبدأوا البشارة، إذ إنّ لا مَثَل صالح سوى المسيح يسوع. إنّ القدِّيسين أنفسهم لم يسعوا إلى الظهور والتكلّم عن ذواتهم، بل سعوا إلى الاختفاء لكي تظهر كلمة الله وحدها من خلالهم. إنّ القدّيسين لم يسعوا ولم يتهافتوا يومًا للتسويق لخبراتهم مع الله، كما هو حاصل اليوم مع القدِّيسين وعلى سبيل المثال لا الحصر، القدّيس شربل: فلو أدرك القدّيس شربل حينها ذلك، لكان سعى إلى المزيد من الامحّاء في سبيل أن يظهر المسيح. إنّ الأمر نفسه حصل مع بقيّة القدِّيسين إذ بحثوا عن الامّحاء من أجل أن تظهر وتنمو كلمة الله في البشر من خلالهم، وبالتّالي ينطبق على قدِّيسينا كلام يوحنّا المعمدان الوارد في الإنجيل: "لي أن أنقص وله أن ينمو".

إنّنا لا نقصد بعدم التلهّي بخطايانا، عدم السّعي للتخلّص منها، بل إنّنا نقصد بذلك عدم جعلها حاجزًا يقف في طريق انطلاقنا للبشارة بكلمة الله. يتوجّب على كلّ مؤمن العمل على تحسين ذاته من خلال السّعي إلى التخلّص من خطاياه، فإنّه إن لم يفعل، فخطاياه ستكون سبب معثرة للآخرين، وبالتّالي لن يسمعوا كلمة الله مجدّدًا، ولن يعطوها أي قيمة. على كلّ مؤمن إذًا، ألّا يسمح لخطاياه بأن تكون سببًا في تعطيل العمل الّذي جاء المسيح من أجله، كما أنّه لا يجوز للمؤمن أن يسمح لخطاياه بأن تشكّل حاجزًا له يمنعه من البشارة بكلمة الله. فالسؤال الّذي يُطرح الآن هو، أيّهما الأهمّ: كلمة الله أم خطاياك؟ فإن كانت كلمة الله هي الأهمّ بالنسبة لك، فعليك الانطلاق للبشارة محاولاً في الوقت نفسه التخلّص من خطاياك، إذ لا يمكنك الانتظار كي تكون كاملاً لتبدأ برسالتك، إذ قد تموت قبل أن تبدأ بالرسالة وقَبْلَ أن تصل إلى الكمال، وها إنّي أقول لك: إنّك لن تصل إلى الكمال على هذه الأرض. والسؤال الّذي يُطرح الآن هو، ما سيكون موقفك أمام الله حين تقف في حضرته أي في الملكوت، حين يسألك عن عدم إيصالك البشارة إلى الأشخاص الّذين كانوا سيَخْلُصون بسبب سماعهم للكلمة من خلالك؟ إنّ الإنسان عندما يقبل المسيح في حياته ويعتمد، يدخل في زمن يسوع، وبالتّالي لا يعود هناك وقت للتلهّي بأمور أخرى سوى البشارة، فالحياة ليست سوى لحظات تمرّ سريعًا، قبل دخولنا إلى ملكوت الله للقاء المسيح، وعلى كلّ مؤمن أن يسعى ليحضّر العالم لمجيء المسيح الثاني عبر التبشير به المسكونة بأسرها. وبالتّالي فإن حياتك على هذه الأرض، ليست إلّا فرصةً لك للبشارة. إيّاكم، إخوتي، أن تعتبروا حياتكم صدفةً، لأنّكم بهذا الفعل تكونون قد أخرجتم ذواتكم من التّاريخ الإلهيّ، بل اجعلوا من حياتكم فرصة، فتتمكّنوا من كتابة أسمائكم في الإنجيل غير المكتوب بعد، أي في الكتاب الأخير، في الملكوت. إنّ بولس الرّسول يقول في هذه الرسالة إنّ الله قد ثبَّتَ كلمته في الّذين سمعوها وحملوها إلى الآخرين، بآيات وعجائب، وقوّات ومواهب الرّوح القدس، وذلك ليؤكّد صحّة كلامه، لكلّ من يسمع كلمة الله عن طريق المبشِّرين.

إنّ كلمة الله صادقة غير أنّ تصرّفات المؤمن وطريقة عيشه قد تُكذِّبها في العديد من الأحيان. إخوتي، إنّ مسؤوليّة نشر كلمة الله تقع على عاتقنا نحن المؤمنين بها، ونحن الّذين نجعلها إمّا وهمًّا وخيالاً، وإمّا حقيقةً مُـحقَّقَة بالنسبة للّذين يسمعونها منّا وذلك من خلال تصرّفاتنا. إنّ الكنيسة وبالتّالي كلمة الله، تتعرّضان لهجوم كبير من قِبَل البِدَع.
إنّ الإنجيل ليس كتاب أشعار وحِكَم كما يستخدمه البعض: "إن كنت ...، فافتح المزمور...."، ولا هو أيضًا كتاب علم العلوم. إنّ العلم والدّين لا يتعارضان بتاتًا، ولكنّه لا يجوز لنا المقارنة بينهما إذ إنّ مجال عمل كلّ واحدٍ منهما مختلف عن الآخر، ولكي تصحّ المقارنة بين أمرين، فإنّه يجب أن يكونا على المستوى نفسه، غير أنّ العلم والدّين ليسا كذلك. ولكن إن قام العلماء باكتشاف أمرٍ ما، أدّى إلى مفاجأة بعض المتديّنين الّذين لم يتقبلوا هذا الاكتشاف ولم يفهموه، فهذا لا يشير أبدًا إلى أنّ العلم والدّين يتعارضان. إنّ العلم هو بابُ اكتشافاتٍ كثيرة ومذهلة، ولا أحد يستطيع الوقوف عائقًا في طريق تلك الاكتشافات العلميّة، ولكن السؤال الّذي يُطرح هو تسخير الإنسان لهذه الإكتشافات في سبيل خدمة الإنسان أو من أجل هدمه. إنّ الكنيسة تستطيع أن تنصح النّاس والمؤمنين بعدم اللّجوء إلى الاستنساخ لكنّها لا يمكن أن تمنعهم من القيام به. ولكن قد يمتنع أحد علماء الطبّ الملتزمين مسيحيًّا من ممارسة الاستنساخ بطريقة تُحقِّر الطبيعة البشريّة، وتهدمها وذلك توافقًا مع قناعاته الإيمانيّة.
إنّ الإنجيل هو خطاب الله الأخير لشعبه، وفيه يعبّر لهم أنّ الوقت قد حان لخلاصهم من كلّ عبوديّة. وبولس الرّسول يقول:"ويعتق أولئك الّذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة". إنّ مشكلة الإنسان الأساسيّة هي خوفه من الموت، وهذا ما يؤدي به إلى الشعور بالقلق والاضطراب وارتكابه الخطايا، فالموت يرتدي أوجهًا عديدة: العزلة، الفقر، عدم الشفاء من المرض، عدم الشعور بالحبّ. إنّ فلسفة السرقة مثلاً، هي نابعة من خوف الإنسان من الموت إذ إنّ الإنسان يلجأ إلى السرّقة في البداية رغبةً منه في العيش وخوفًا من الموت، لكنّها قد تتحوّل فيما بعد إلى عادة وطبيعة. إنّ كلّ أذيّة يقوم بها الإنسان هي نابعة من خوفه من الموت: إنّ الّذي يقتل، يقتل مخافة أن يصبح مقتولاً من الآخر، والّذي يشعر بالكراهيّة تجاه الآخر نتيجة خصامٍ معيّن، يقوم بأذيّته كلاميًّا، والتجريح به، مخافة أن يغلبه الآخر بآرائه، فيحظى حينها بالحبّ والاهتمام من الآخرين، وبالتّالي في هذه الحالة إنّنا نتكلّم عن خوف الإنسان من العزلة وأن يكون مرفوضًا من الآخرين. إنّ إدمان الإنسان على المخدّرات أو على سائر مفاسد الدّنيا، سببه عطش هؤلاء وحاجتهم للشعور بأنّهم محبوبون، فالّذي لا يشعر بأنّه محبوب، يحسّ بأنّ لا قيمة لوجوده. إذًا، إنّ الإنسان يتعرّض لعبوديّات كثيرة نتيجة أهوائه وخطاياه، ويأتي بولس ليؤكدّ أنّ كلمة الله وحدها هي الكفيلة بتحرير الإنسان من خوفه من الموت، ولكنّها لا تحرّره من الموت. إنّ هذا الأمر قد فُهِم بطريقة خاطئة من قِبَل النّاس، إذ اعتقد البعض أنّ قبولهم لكلمة الله سيحررهم من الموت الجسديّ، غير أنّ ما قصده بولس في كلامه هو أنّ كلمة الله هي قادرة، إن سمح لها الإنسان بذلك، أن تحرّره من خوفه من الموت، وهو لا يزال على قيد الحياة. أمّا السؤال الّذي غالبًا ما يطرحه النّاس، فهو: ماذا بعد الموت؟ وهذا السؤال لا جواب له إلاّ عند الله، غير أنّ الإنسان يجد صعوبة في أن يصدّق كلام الله له عمّا سيكون بعد الموت. إنّ كلمة الله تحمل للإنسان المجد والكرامة والخلاص، وهذا من شأنه أن يمنح الإنسان التعزيّة والقوّة والقدرة على مواجهة كافة أنواع العبوديّات.
إنّ الملحد الّذي يعلن عدم إيمانه بالله، يعبد شيئًا آخر بالتأكيد، إذ لا يوجد إنسان من دون عبادة. فالعلم قد أثبت وجود خلايا في دماغ الإنسان خاصّة بالإيمان، فالإنسان مفطور منذ ولادته على الإيمان بأمرٍ معيّن أو بشخصٍ معيّن. فكما أنّ هناك خلايا في دماغ الإنسان مسؤولة عن تعبيره عن خوفه من أمرٍ ما، وأخرى مسؤولة عن تعبيره عن حاجته للطّعام، كذلك هناك خلايا تعبّر عن حاجته إلى الإيمان بأمرٍ ما أو شيءٍ ما، وبالتّالي لا يوجد إنسان غير مؤمن بشيءٍ على الإطلاق. فإنّ الملحدين الّذي يستخدمون عبارة "أنا لا أؤمن بالله" كتعبير عن عدم إيمانهم به، يملكون في تفكيرهم صورة معيّنة عن الله يرفضونها، لذا هم يعلنون عدم اتّباعهم لله على الرّغم من يقينهم بأنّه موجود. فالإنسان لا يستطيع استخدام عبارة معيّنة دون أن يكون لديه تصوّر عنها، أقلّه في فكره. إنّ مشكلة الّذين يعلنون رفضهم لله ليست مع الله بالتحديد إنّما مع أتباعه. وبالتّالي، فإنّ تصرّفات الّذين يعلنون أنّهم مؤمنون بالله، هي الّتي تدفع الآخرين إمّا إلى طرد الله من حياتهم أو إلى زرع الله في كيانهم.
إنّ بولس في هذا الإصحاح يريد أن يلقي الضوء على أهميّة الإنسان الّتي خصّه بها الله إذ ميّزه عن الملائكة، وخصّه بالمجد والكرامة دون الملائكة. إنّ يسوع هو صورة الإنسان الكاملة. والله قد وضع الإنسان في مرتبةٍ أقلّ من الملائكة، وقد أعفى الملائكة من هموم هذه الدّنيا، وفرزهم من أجل تسبيحه وتمجيده. إنّ الله قد وضع إكليل المجد والكرامة على رأس الإنسان دون الملائكة، على الرّغم من أنّه أدنى مرتبة منهم من حيث التركيبة البشريّة. وعلى الرّغم من هذا المجد الّذي أعطاه الله للإنسان، فإنّ الإنسان لم يتمكّن من إدراك مدى عظمته وقيمته في نظر الله. إنّ المسيح يسوع، الّذي أصبح إنسانًا، وشابه الإنسان بالمجد والكرامة اللّذين منحهما إيّاه الله، قد ذاق الموت من أجل كلّ إنسان. إنّ الكتاب لم يقل إنّ المسيح قد ذاق الموت من أجل كلّ من سيؤمن به بل قال إنّه مات من أجل كلّ إنسان على وجه الأرض، وهذا يعني أنّ المسيح قد مات من أجل ذلك الأكثر صلاحًا كما أنّه مات من أجل ذلك الأكثر شرًّا بين البشر دون أي تمييز. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول عدل الله إذ يساوي بين الإنسان الّذي قَبِله منذ البدء، وذاك الّذي لم يَقْبَله. إنّ المسيح قد مات من أجل ذلك الإنسان الأكثر شرًّا على الأرض، غير أنّ هذا الأخير لم يقبل بموت الله من أجله. فمثلاً، إن أحضر أحدهم هدايا لجميع الحاضرين ههنا، وقد رفض أحد الموجودين تسلّم هديّته فهذا لا يعني أنّ هذا الإنسان قد تمّ نسيانه دون هديّة بل إنّ هذا الإنسان هو الّذي رفض هذه الهديّة، والهديّة ستبقى حاضرة له إلى حين يكون مستعدًّا لاستلامها. وبالتّالي لا يمكننا الشكّ في عدل الله، فهو قد قدّم هديّة خلاصه لجميع البشر، غير أنّ البعض قَبِلَها والآخر لم يقبلها. ومن قَبِل هذه الهديّة من الله، هو أكثر فَرحًا من ذلك الّذي رفض تلك الهديّة إذ لا يمكنه أن يتذوق الفرح الحقيقيّ الناتج عن علاقة الإنسان بربّه.
إنّ الفرق شاسع بين مشيئة الله وتصرّف الإنسان، ولا يجوز الخلط بينهما بتاتًا. إنّ الله لا يغيّر طبيعته الإلهيّة بسبب تصرّفات الإنسان. إنّ الله لا يُفرِّق في محبّته، فهو يُحِبّ الشرير كما يحبّ الصالح، غير أنّ الشرير لم يَقبَل بمحبّة الله ولذا فهو لا يستطيع الاستفادة منها، كما أنّه لا يستطيع الاستفادة من الخلاص الّذي منحه إيّاه الله، وذلك لأنّ هذا الإنسان الشرير قد رفض الخلاص بقرارٍ حرّ شخصيّ، وإنّ الله لا يستطيع فرض الخلاص عليه بالقوّة. إنّ تصرّفات النّاس المخالفة لتعاليم الإنجيل، كانت سببًا في إلحاد الكثيرين. إنّ مشكلة كارل ماركس، صاحب الفلسفة الماديّة، هي مع رجال الدّين. إنّ الفكر السائد في المجتمع حول رجال الدّين هو خاطئ، وهو يقوم على مشابهة النّاس للكهنة بالله، ممّا أدّى إلى اعتبار بعض النّاس الكهنة آلهةً، أي أنّهم معصومون من الخطيئة، وهذا ما يتنافى مع الحقيقة. فالكهنة هم بَشَر قرّروا عدم السماح لخطاياهم بالوقوف حاجزًا دون بشارتهم بالكلمة الأزليّة. غير أنّ البعض من هؤلاء الكهنة لم يجهدوا إلى تحسين ذواتهم والتخلّص من خطاياهم، ممّا دفع إلى تعطيل كلمة الله ومنعها من الوصول إلى النّاس، بسبب تصرّفاتهم.
إنّ بولس كان يقول إنّ خادم الهيكل، مِنَ الهيكل يأكل. غير أنّ خوف بولس من أن تتعطّل كلمة الله عند النّاس نتيجة تشويه البعض لِصِيتِه في المجتمع الّذي كان يبشِّر فيه، قرّر أن يعيش نتيجة عمله في صنع الخيام. إنّ تشويه الصِّيت، هي عمليّة قتل يوميّة للشخص المعنيّ. فهَمُّ بولس الأساسيّ هو عدم تعطيل وصول الإنجيل إلى الآخرين، لذا عَمِلَ في الخيام. وعمله هذا في صنع الخيام، أدى إلى شحّ نظره، وأصبح غير قادر على الرؤية بشكلٍّ جيد، وبالتّالي غير قادر على كتابة الرسائل، لذا كان يفرز أحدهم ليساعده على كتابة الرسالة، الّتي كان يختمها بعبارة أنّه كتبها بخطّ يده، تعبيرًا منه عن محبّته للّذين كان يُرسل إليهم الرسائل. إنّ بولس عانى من آلام وتقرّحات في معدته، وعلى الرّغم من مرضه، فهو لم يقبل عطايا إلّا من الّذين كانوا يُشعِرُونَه بمحبّتهم الصّادقة له، كأهل فيلبيّ مثلاً.

إنّ عطاء الشخص المحبّ للمحبوب في وقت الضعف، من شأنه أن يقّويه، لكن إن كان العطاء غير مقرون بالحبّ فإنّه يتحوّل إلى نوع من أنواع الاستعباد. إنّ من يعطيك طعامًا مثلاً، فإنّك لا محالة سوف تشعر بأنّك مَدينٌ له، أكان ذلك عن قصدٍ من العاطي أم لا، أمّا إن كان العطاء من المحبوب، فإنّك لن تشعر بالدّونية تجاهه، لأنّ علاقتكما يحكمها الحبّ لا غير. إن كان أحدهم يعطي عن حبّ، لشخص آخر محتاج لا يبادله هذه المحبّة، فعِوَض أن يستعبده العاطي نتيجة عطائه له، فإنّ المحتاج في مثل هذه الحالة قادر على استعباد العاطي بكراهيّته له، فإنّ من يحبّ يصبح ضعيفًا أمام الّذي يحبّه. إنّ من يعطيك عن حبّ، يقّويك وينشلك من ضعفك، أمّا من يعطيك عن شفقة من دون حبّ، فإنّه يُشعِرُك بالضعف، ولذا تَشعُر بضرورة قتله إذ إنّك ترفض وجوده. إنّ هذا ينطبق على يسوع أيضًا إذ إنّ اليهود قد قتلوا يسوع لأنّهم رفضوا حبّه لهم، غير أنّ هؤلاء كانوا من أكثر النّاس تصديقًا لحقيقة يسوع بأنّه ابن الله، وهم فاقوا الرّسل تصديقًا له، إذ إنّ الرّسل قد خافوا وهربوا حين تمّ صلب يسوع. إنّ الّذين قتلوا يسوع كانوا مصدّقين للحقيقة، غير أنّهم لم يَقبَلوا به إلهًا، أي أنّهم رفضوه، ورفضوا الإيمان به. إنّ رَفْضَك لحبّ أحدهم لا يجعلك شخصًا حياديًّا تجاه هذا الشخص، نائيًا بحبّه عنك، إنّما يجعلك تُحوِّل الآخر إلى عدوٍّ لك بقرار شخصيّ نابع منك. إنّ كلّ محبّة تُتعِب الإنسان، جرّاء الجهود المبذولة في سبيل الآخر، غير المتجاوب مع هذا الحبّ، وتتراجع عن بذل المزيد، وتحوّل العلاقة بين الاثنين إلى عداوة، نتيجة تصرّفات الرافض للحبّ، إذ إنّ هذه المحبّة أو الحبّ لم يكن حبًّا صادقًا. إنّ المسألة لا تتعلّق بما فَعَلْتَه في سبيل المحبوب الّذي لم يتجاوب مع أفعال المحبّة الّتي أظهرتها له، بل إنّها تتعلّق بما أنت عليه اليوم حقيقةً.
إنّ قمّة هذا النّص من العبرانيّين تكمن في كلامه عن مشاركة الابن أي يسوع المسيح لبشريّتنا، فهو "قد شاركنا باللّحم والدّم لكي يُبيد بالموت ذاك الّذي له سلطان الموت أي إبليس". إنّ يسوع المسيح قد شاركنا في إنسانيّتنا لكي يخلّصنا لأنّه "ما لم يُتَّخذ لا يُخلَّص". إنّ الخطيئة ليست من صُلب الطبيعة الإنسانيّة، لذا لم يتّخذها يسوع إذ إنّ الإنسان هو الّذي يدعو الخطيئة إلى طبيعته الإنسانيّة، ولذا لم يتّخذها يسوع. إنّ الله قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وهذه هي حقيقة طبيعته البشريّة: لقد اشترك يسوع بضعف الطبيعة البشريّة، إذ إنّه جاع وعطش ونام، وتألّم وبكى غير أنّه لم يُـخطئ الهدف، كما فعل الإنسان بارتكابه الخطيئة. إنّ الخطيئة في اللّغة العبريّة هي "حاطا"، أي أخطأ الهدف: فعندما تُطلق قوس النشّاب باتجاه الهدف، وتُخطِئُه، يُقال إنّك "حاطا" أي إنّك أخطأت الهدف إذ إنّ القوس لم يَسِر في الطريق الصحيح صوب الهدف. إذًا، الخطيئة هي عدم إصابة الهدف، وسلوك الطريق الخاطئ. إنّ يسوع لم يُخطئ الهدف، إذ إنّه يعلم مصدره والهدف الّذي يريد الوصول إليه، فهو يعلم "من أين أتى وإلى أين يمضي"، ولذا فالطريق وصعوباتها ما عادت تشكّل له مشكلة، حتّى وإن اضطُر إلى الموت مصلوبًا كالعبيد. إنّ ما سببّ وجعًا ليسوع ليس الموت على الصّليب، إنّما رَفْضُ الإنسان لحبّ يسوع له، وهذا ما دفعه إلى قتله مستخدمًا أسلوب موت العبيد، لأنّ الإنسان يحبّ استعباد الآخر. إنّ يسوع قد شاركنا باللّحم والدّم، بهدف إلغاء سلطان الموت علينا، أي كي "ويعتق (يُحرّر) أولئك الّذين خوفًا من الموت، كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة". إذًا هدف يسوع هو خلاص الإنسان.

إنّ كلمة إبليس تعني diable. في اللّغة اليونانيّة كلمتان متعارضتان، الأولى: sympolon وتعني الّذي يجمع، أمّا الأخرى diapolos فتعني الّذي يزرع الشِّقاق. إنّ اسم الشيطان مرتبط بوظيفته، فوظيفته هي السّعي إلى جعل الإنسان يقطع علاقته بالله. وعندما ينجح الشيطان في تحقيق هدفه هذا، فإنّ الإنسان يضيع وتتشوَّش رؤيته للأمور فيخطئ الهدف. إذًا اسم إبليس يعني الّذي يزرع الشقاق، ويسعى إلى الفتنة والتقسيم. كما نستخدم كلمة اخرى للإشارة إلى إبليس وهي satan، وتعني المدّعي العام. إنّ وظيفة المدّعي العام هي تجريم الـمُتَهَّم، ودفع القاضي إلى إصدار الحكم بحقّ المتهّم. فإن حاول المدّعي العام تبرئة المتهّم تحوّل إلى مدافعٍ عنه، وبالتّالي خسر وظيفته كمُدّعٍ عام. إنّ المدّعي العام يهدف إلى خلق عداوة بين القاضي والمتهّم، أي أنّه يسعى إلى خلق فتنة بينهما. إنّ يسوع المسيح جاء ليزيل هذه العداوة بين الله والإنسان، فيتمكّن الإنسان حينئذٍ من رؤية الهدف من جديد، فيصل إليه من جديد.

هذه هي حياتنا، هذا هو جهادنا الروحيّ: فعلى كلّ مؤمن أن يجهد إلى عدم إضاعة الهدف، وإلى السّعي للوصول إليه، مستخدمًا نظارات خاصّة هي كلمة الله الفاعلة فيه. فلا مشكلة، إن استمّر المؤمن برؤية الهدف، وما زال يستمّر في الإخطاء في إصابة الهدف، فإنّ الله سيرى هذا الجهاد، ويعرف أنّه يهدف إلى الهدف، ولا محالة سيصل إليه حتّى وإن مات في نصف المسيرة، فمجرّد المحاولة، هي كبيرة عند الله.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
18/10/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - الإصحاح الأول حقيقة يسوع المسيح
https://youtu.be/2_5o2sTUyYM

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين
الإصحاح الأوّل
الأب ابراهيم سعد

18/10/2016

"اللهُ، بعد ما كلَّم الآباء والأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرةٍ، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به أيضًا عَمِل العالَمِين، الّذي، وهو بهاء مجده، ورسم جوهره، وحاملٌ كلّ الأشياء بكلمة قدرته، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس عن يمين العظمة في الأعالي، صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم. لأنّه لِمَن من الملائكة قال قطّ (أيضًا): "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك؟" وأيضًا: "أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا؟". وأيضًا متى أدخلَ البكر إلى العالم يقول: "ولتسجد له كلّ ملائكة الله". وعن الملائكة يقول: "الصانع ملائكته أرواحًا وخدّامه لهيب نارٍ". وأمّا عن الابن: "كرسيُّك يا الله إلى دهر الدّهور. قضيب استقامةٍ قضيب مُلكِكَ. أحببتُ البرّ وأبغضتُ الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهُكَ بزيت الابتهاج أكثر من شركائك". و"أنت يا ربُّ في البدء أسَّست الأرضَ، والسّماوات هي صنع يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلّها كثوبٍ تبلى، وكرداءٍ تطوِيها فتتغيَّر. ولكن أنتَ أنتَ، وسِنوكَ لن تفنى". ثمّ لِمَن مِن الملائكة قال قطّ: "اجلس عن يميني حتّى أضع أعداءَك موطِئًا لِقَدَمَيك؟" أليس جميعهم أرواحًا خادمةً مرسلةً للخِدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص!".

إنّ بولس الرسول في هذه الرسالة، يربط ويقارن بين العهد القديم أي الكتب الموسويّة (التّوراة) وبين العهد الجديد. ويبدأ بولس الرسول هذه المقارنة بإظهار الفرق بين الملائكة والربّ يسوع ابن الله، فيقول لنا إنّ الله قد ميزّ يسوع المسيح من الملائكة إذ أخبره أمورًا، دون الملائكة. قديمًا، كان الله يكلّم شعبه من خلال الملائكة، أمّا في نهاية الأزمنة، فقد كلّمهم من خلال الربّ يسوع. إنّ "شهود يهوه" يزعمون أنّ المسيح يسوع هو الملاك ميخائيل، وقد تمّت ترقيته من قِبَل الله ليصبح ابنًا له. إنّ ذلك يهدف إلى نكران ألوهيّة المسيح وربوبيّته. إنّ كلام شهود يهوه هذا، هو نتيجة تأثير الفلسفة اليونانيّة القديمة، الّـتي كانت تؤمن أنّ الآلهة ترسل إلى الأرض فيضاناتٍ، وأهمّ فيضان تُرسِله هو الكلمة logos. وتشكّل الكلمة أعلى الخلائق كلّها، وتسمو على البشر. إنّ الله كلّم الشعب بواسطة الملائكة في العهد القديم، فهو يخبرنا على سبيل المثال عن زيارة الملائكة الثلاثة لإبراهيم في إشارة إلى أنّ الله كلّمه بواسطتها. إنّ كلمة "ملاك"، في اللّغة العبريّة، تعني رسول، وهذا يعني أنّ الله كان يُرسِل إلى شعبه رُسلاً هم الملائكة، فيخاطبهم من خلالهم. إنّ الله كان يستخدم في بعض الأحيان البرق والرعد، النسيم العليل والعاصفة، وعمود النّار، كوسائل ليكلّم شعبه من خلالها. إذًا، كان الله يكلّم شعبه بطرق عديدة ومتنوّعة في العهد القديم. إنّ بولس في رسالته إلى العبرانيين، استخدم عبارة "كلّم" ليشير إلى أنّ الله لم يوفّر وسيلة من أجل إيصال إرادته ومشيئته للبشر. إنّ الكلمة هي الجسر الّذي نتواصل من خلاله مع الآخرين. إنّ كلمة "كلّم" لها معنى آخر، غير ذلك المتعارف عليه، وهو جَرَحَ، فالكلوم هي الجروح. وبالتّالي، فالتكلّم مع شخص معيّن يعني إمّا محادثته أو جرحه. إذًا، إنّ الكلمة تترك علامةً أي تأثيرًا عند سامِعِها.

إنّ العهد القديم يقدّم لنا مفهومًا جديدًا للكلمة، فيبدأ سفر التكوين بالقول إنّ الله خلق النّور وكلّ شيءٍ بكلمته، فالخلق إذًا تمّ بكلمةٍ من الله: "قال الله ليكن...، فكان...". إنّ الله خلق العالم بأسره بقوّة كلمته، غير أنّه لم يخلق الإنسان بالكلمة إنّما بالعمل، ففي سفر التكوين لا نجد أبدًا: "قال الله ليكن الإنسان، فكان الإنسان"، بل نجد "وصنع الله الإنسان على صورته ومثاله"، وبالتّالي فإن الإنسان تطلّب في خلقه عملاً من الله. إذًا، الإنسان هو الخليقة الوحيدة الّتي كانت نتيجة عمل الله لا كلمته، وهذا ما يميّزه من سائر المخلوقات. إنّ سفر التكوين يخبرنا أنّ الله استعان بالطين ليخلق الإنسان وأنّه نفخ فيه من روحه، أي أنّ الله وضع في الإنسان شيئًا منه، وهذا ما يشكِّل ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، ثمّ أعطاه الله سلطانًا على كافة المخلوقات وبالتّالي، جعله سيّدًا عليها. إنّ الإنسان الّذي ميّزه الله عن سائر المخلوقات، إذ صنعه بيديه ولم يخلقه بقوّة الكلمة، ترك الله بسبب الكلمة الّتي نطقت بها الحيّة. إذًا، إنّ الإنسان تعامل مع الله بالطريقة الّتي لم يعامله الله بها عندما خلقه؛ وبالتّالي، فكأنّ الإنسان يقول لله إنّه لا يريد أن يكون مميّزًا عن سائر المخلوقات، بل يرغب في أن يكون مثلها مخلوقًا جامدًا دون نموّ. إنّ الكلمة إخوتي، هي خلاّقة، إذ إنّها لا تخلق في أذهان سامعيها صورةً معيّنة فقط بل تخلق فيهم كذلك قصّة. فمثلاً، إن لفَظْتُ اسم "يسوع" أمام أحد الأشخاص، فلن يتوارد إلى ذهن السّامع الشكل الخارجيّ ليسوع فحسب، بل كلّ العمل الخلاصيّ الّذي قام به الربّ يسوع من أجل البشر، إضافةً إلى الخبرة الشخصيّة لهذا الشخص مع "يسوع"، فقد يجعل البعض هذا الاسم عدوًّا لهم لا مخلِّصًا.
إنّ استخدام بولس الرسول لعبارة "الأيّام الأخيرة"، يعني أنّ لا أيّام بعد تلك الأيّام، وأنّ الأيّام الآتية هي من النوعيّة نفسها لتلك الأيّام. وبالتّالي عبارة "الزّمان الأخير" تشير إلى أنّ لا زمان بعد ذلك الزمان، وأنّ المؤمنين بالمسيح اليوم، يعيشون في هذا الزمان الأخير، الّذي بدأ بمجيئه. إنّ الله قد قال كلّ شيء للبشر بيسوع المسيح ابنه، وبالتّالي لم يعد هناك كلام آخر. إنّ يسوع المسيح هو المعيار الّذي يجب على كلّ مؤمن الاستناد إليه ليعرف إن كانت الكلمة الّتي يسمعها هي من الله أم لا. فعلى المؤمن أن يرفض كلّ كلمة يسمعها إن كانت لا تنسجم مع أقوال المسيح وبشارته الّتي أعلنها لنا.

إنّ الابن "أصبح وارثًا لكلّ شيء": هذه العبارة تشير إلى أنّ الميراث كلّه أصبح بين يديّ الربّ يسوع، وبالتّالي مَن يريد الحصول على ميراث الله، فعليه اللّجوء إلى الربّ يسوع، إذ لا يستطيع ذلك دون رضى الربّ يسوع. ولذا، فإن كنت تريد الحصول على الميراث، فعليك اتبّاع المسيح والسير وفق تعاليمه، فالخلق تمّ بالابن. إنّ هذا الاصحاح من الرسالة إلى العبرانيين يشكّل أحد أهمّ النّصوص الّتي تتكلّم عن الثالوث، إذ تَظهر من خلاله، مشاركة الأقانيم الثلاثة في عمل الخلق. إنّ كلمة "مجد" تشير إلى الحضور والثقل. إنّ الربّ يسوع هو بهاء مجد الله أي إنّه يشكّل حضور الله بين البشر، وبالتّالي فقد أصبح من المستحيل أن يصلّي الإنسان إلى الله من دون العبور بالمسيح، فالمسيح هو الوسيط في العلاقة الّتي تجمع الإنسان بالله. إذًا، إنّ مشيئة الله هي مشيئة يسوع المسيح، ورضى الله هو رضى يسوع المسيح. إنّ أحد تلاميذ الربّ يسوع، وهو فيلبّس، سأل يسوع قائلاً له: "يا ربّ، أرِنا الله وكفانا". فكان جواب يسوع له: "من رآني فقد رأى الآب"، وبالتّالي فإنّ الربّ يسوع يعكس صورة الله وهو بهاءُ مجده أي علامة حضوره بين البشر. إنّ الجوهر لا نستطيع رؤيته ولكنّنا نستطيع أن نعطيه صورةً كي نتمكّن من شرحه للآخرين، وبالتّالي فإنّ يسوع المسيح هو صورة الله الّتي تعبّر عن جوهره، وهذا يشير إلى الوحدة الموجودة بين الله الآب وابنه يسوع. إذًا، لا تستطيع رؤية جوهر الله إلاّ من خلال يسوع المسيح.
إنّ بولس الرسول كتب هذه الرسالة حين كانت البِدَع منتشرة، والمسحاء الكذّابون متواجدين بكثرة. إنّ هذه البدع وهؤلاء المسحاء الدّجالين كانوا يوهمون المؤمنين بأنّ الإيمان بالمسيح وحده لا يكفي للحصول على الخلاص، ولذا عليهم، الانتماء إلى الدّين اليهوديّ أوّلاً، والقيام بكلّ ما تطلبه الديانة الموسويّة كالتطهير مثلاً للرّجال قبل إعلان إيمانهم بالمسيح، لينالوا الخلاص. إنّ بولس الرسول أراد أن يقول من خلال هذه الرسالة للمؤمنين جميعًا إنّ الخلاص قد تمّ بالمسيح يسوع، لذا لا مبرِّر لوجود نبيّ أو مسيح آخر، فما قام به الربّ يسوع على الصّليب كان كافيًا لكي يكون الخلاص شاملاً. وكما كان صعبًا على اليهود أن يقبلوا انتماء المهتدين إلى المسيحيّة من دون العودة إلى الدّين اليهوديّ، كذلك هو الأمر معنا نحن مسيحيّي اليوم: فمتى قبل أحدهم البشارة بيسوع المسيح عن يدنا، لا نقبل به لمجرّد إعلانه الإيمان بالمسيح، فنحن نسعى لإعلان انتمائه للمسيح من خلال تبنيه لإحدى الكنائس، إذ نريد تصنيفه. وفي مراجعة سريعة لتصرفاتنا مع الآخرين نجد أنّ الفكر اليهوديّ ما زال سائدًا في أوساطنا المسيحيّة، إذ على كلّ مهتدٍ أن يحصل على رضى الجماعة الّتي ينتمي إليها، وكأنّ رضى الله وحده على الإنسان لا يكفي. إنّ يسوع المسيح، كلمة الله، له ملء السّلطان والقدرة، والإنجيل يقدِّم لنا مثلاً واضحًا عن قدرة الكلمة وسلطانها من خلال شفاء خادم قائد المئة، إذ جاء القائد طالبًا من الربّ يسوع أن يشفي خادمَه بقوّة كلمته. إنّ النّص الإنجيليّ يخبرنا أنّ هذا القائد أخبر الربّ يسوع أنّه لديه السلطة على جنوده، فيقول لهذا تعال ولذلك اذهب، فيقومان بما طُلب منهما دون تردّد أو طلب للشرح، وبالتّالي هذا المثل يوضح لنا قدرة الإنسان والسّلطان اللّذين يملكهما بواسطة كلمته. إذًا، القدرة تعبّر بالكلمة، وهي تُعطي سلطانًا. إنّ المسيح يسوع على الصّليب قدّم نفسه ذبيحة، وبتقديم ذاته ذبيحة عنّا قام بتطهيرنا من خطايانا. وبعد أن أتمّ هذا العمل، جلس على يمين العظمة في الأعالي أي على العرش السماويّ، ذلك العرش الّذي لا يجلس عليه سوى الله. إنّ البِدَع تتغاضى عن رؤية هذا العمل الخلاصيّ، لكي تنكر ألوهيّة المسيح، غير أنّ المسيح قد تجسّد وقد رأينا عمله الخلاصيّ. إنّ المسيح قد ورث اسمًا أفضل من جميع الأسماء، وهو "كيريوس"، أي الرّب. وهذا الاسم لم يعطِه الله الآب للملائكة، إنّما فقط للمسيح يسوع.

إنّ عبارة "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك"، هي عبارة مأخوذة من المزمور الثاني الّذي كان ينشده الشعب يوم تنصيب الملك على العرش. إنّ الملك في العهد القديم هو صورة للإله الّذي يعبده الشعب، وهو بالتّالي يعكس صورة الله وقدرته وسلطانه. ولذا يأتي الإله في المرتبة الأولى، ثمّ الملك، ثمّ المملكة من حيث أولويّات الشعوب ذات الأنظمة الـمَلكيّة. إنّ الملك هو صلة الوصل بين الشعب والله، فما يعلنه هو بالنسبة للشعب هو كلام الله وواجب عليهم إطاعته، وهو ينقل إلى الله كلّ طلبات الشعب. إنّ الشعب اليهوديّ، في العهد القديم، قد سأل الله إعطاءهم ملكًا تشبّهًا بسائر الأمم، إذ إنّ الله هو مَلِكُهم ولكن صورته غير منظورة، فأعطاهم الله ملكًا، وأصبحوا كباقي الشعوب، لديهم إله ومملكة، ومَلِكًا، ولكن هل سيكون هذا الملك المنتخب من بينهم قادرًا على أن يعكس لهم مشيئة الله وسلطانه ورحمته، أم سيعكس لهم مشيئته الخاصّة وسلطانه وقسوته؟ إنّ النبيّ، عند سماعه لطلب الشعب لـمَلِك أرضيّ، نبّههم من أن طلبهم هذا سيؤدي إلى دمار المملكة، وهذا فعلاً ما أثبته التّاريخ إذ تعرّض الشعب إلى انقسام مملكته بين مملكة يهوذا ومملكة اسرائيل، ومن ثمّ اندثار المملكتين، وقد تعرضتا أيضًا للسَبي والتهجير. وبالنسبة إلى كاتب الكتاب المقدّس، فإنّ المآسي الّتي عانى منها شعب الله هي نتيجة طلبه التشبّه بسائر الأمم. إنّ سائر الشعوب تذهب للسجود لإلهها في قصر الملك، وبالتّالي فقد أصبح الملك هو إلهها. إنّ كلمة "هيكَل" في اللّغة العبريّة تعني القصر، وكلمة "معبد" تعني الهيكل. وبالتّالي يصبح القصر هو الهيكل والمعبد أي أنّ العبادة تتمّ في قصر الملك، فقد أصبح الملك هو الإله بالنسبة لسائر الشعوب.

إنّ زعماء عصرنا والأغنياء فيه، يَقُومون بتشييد كنيسة صغيرة في قصورهم سائلين أحد كبار رجال الدّين بمباركتها. إنّ هؤلاء لا يقومون بهذا العمل عن سوء نيّة، إنّما نتيجة تقاليد تمّ توارثها عبر الأجيال. إن عدنا إلى التّاريخ لوجدنا أن الخلاف بين ملك بريطانيا هنري الثالث والبابا حول زواج الملك ثانيةً بُغية إنجاب البنين، هو في الأساس مرتكز على اعتقاد الملك أن إرادته ورغباته، هي إرادة الله ورغباته. إنّ الملك كان يعتقد أنّ المملكة تزول إن لم يكن له وريث، إذ إنّه بالنسبة لهذا الملك، إرادة الله هي أن يكون للملك نسل من أجل بقاء المملكة. إنّ السلطة الكنسيّة الممثَّلة بالبابا، لم تقبل بطلاق الملك، فما كان من الملك إلّا أن شقّ الكنيسة من جديد، فكانت الكنيسة الانغليكانيّة. إنّ مفهوم استمراريّة المملكة، في نظر الملوك البشريّين، تكمن في ثلاث نقاط أهمّها: وجود وريث ليضمن استمراريّة الحكم، وحماية المملكة من العداوات الّتي تأتي من الممالك الأخرى، وأخيرًا الحكم الدّاخلي، أي حماية المملكة من الثورات والمؤامرات الّتي من شأنها إنهاء الحكم الملكيّ، فحدوث خلل في إحدى هذه النقاط يشكِّل تزعزعًا للملك وبالتّالي للملكة. عانت الممالك في القرون الوسطى، من الثورات والتمرّد الآتي من داخل المملكة، فقد كان المتمرّدون يسعون إلى قتل الوريث أوّلاً، ومن ثمّ يقومون بإقالة الملك، وعندها يتمّ تغيير النّظام الملكيّ. إنّ الأمر مشابه تمامًا لما فَعَلَه اليهود، إذ قاموا بقتل ابن الله لأنّه الوريث، ليحافظوا على سلطتهم، وحكمهم للشعب. إذًا، لكلّ ملك عرش، وعلى كلّ مَلِك عدم ترك العرش وإلاّ شكّل ذلك خطرًا على المملكة، وإن تَرِك الملك للعرش قد يؤدي إلى الإطاحة به من قِبَل المتمرّدين.

إنّ سفر التكوين كُتب في الإمبراطوريّة البابليّة، حيث كان الشعب يخضع للملك ويأتمر بأوامره، وقد كان الشعب البابليّ يعتبر أنّ الملك هو صورة الله دون سواه، فجاء كاتب السفر ليذكِّر الشعب أنّ الله هو خالق الكون بكلمته الخلّاقة، وأنّ الإنسان هو من صُنْعِ الله وقد نفخ الله فيه من روحه. إذًا، جاء كاتب سفر التكوين، ليذكّر شعب الله، بأنّ كلّ إنسانٍ هو على صورة الله ومثاله، فالملك ليس الوحيد المخلوق على صورة الله ومثاله، وبالتّالي، قام كاتب هذا السفر بنقض النّظام الملكيّ من جذوره، وحقّق ثورة في عصره. غير أنّ اختيار الشعب فيما بعد، لـمَلِك من بينهم أُسوَةً بباقي الشعوب، أعاد من جديد، نَسبَ صورة الله ومثاله إلى الملك، وتناسى الشعب أنّ كلّ فردٍ من بينهم هو على صورة الله ومثاله، هذا ما يبرِّر إنشادهم للمزمور الثاني عند تنصيب الملك على العرش إذ¬ يقولون: "أنت ابني وأنا اليوم ولدتك". فبالنسبة للشعب، إنّ الله يَلِد الملك ابنًا له في يوم تنصيبه ملكًا ولذا على الجميع إطاعته والشعور بالخوف منه، تمامًا كأنّه الإله.

إنّ العهد الجديد جاء ليرسم صورة جديدة للملك، إنّها الصورة الحقيقيّة للملك الّذي يريده الله. فالملك الّذي يريده الله، عليه أن يتحلّى بالصِّفات الواردة في سفر أشعيا، الّذي كُتب قبل 700 سنة لمجيء المسيح، وهي أن يكون ملكًا لا يفتح فاهه، وقصبةً مرضوضةً لا يَكْسِر، ولا يُسمَع صوته في الشوارع، بل أكثر من ذلك أنّه يُساق كشاةٍ إلى الذّبح. إنّ هذه الصورة للملك معاكسة تمامًا للصورة الّتي يملكها الشعب عن الملك، إذ إنّه على الملك، بالنسبة لهم، أن يتمتّع بالسّلطة والقضاء. إنّ الشعب لم يستطِع أن يجد بين أفراده إنسانًا يتحلّى بهذه الصفات ليقدّمه لله فيُنَصبّه ملكًا عليهم. لذلك قام الله بإرسال ابنه الجالس على العرش، لا ليكون ملكًا كسائر ملوك الأمم، إنّما ليصبح ملكًا كالبشر، بل أكثر من ذلك، مَلِكًا على صورة البشر في أدنى مستوياته، أي كالعبد بين البشر. إنّ الربّ يسوع، هذا الملك الّذي هو بحسب إرادة الله، نال عقاب العبيد من البشر، إذ صُلب كما يُصلَب العبيد. إنّ الربّ يسوع، الّذي أطاع الله حتّى الموت، موت الصّليب، كان سبب سرور الآب، وقد أشار الله الآب إلى البشر بوجوب السمّاع له. إنّ عبارة "له اسمعوا"، الّتي وضعها العهد الجديد على لسان الله الآب، هي عبارة تشير إلى أنّ الابن، أي يسوع المسيح، هو الوحيد الكفيل بنقل كلمة الله وإرادته للبشر، فيسوع المسيح هو كليم الله، وعلى شعب الله أن يسمعوا له. إنّ يسوع الإنسان، لم يعتدّ بنفسه، فهو قَبِلَ العقاب الذي أنزله به البشر، لم يستخدم امتيازه بأنّه مساويًا لله الآب في الجوهر ليتخلّص من هذا العقاب، بل على العكس من ذلك فهو قد تمكّن من الوصول إلى أقصى درجات الاتّضاع والإمّحاء. إنّ يسوع المسيح بقبوله للصّليب، شكّل الذّبيحة المقبولة عند الرّب، وبهذه الذبيحة تمّ تطهيرنا من كلّ خطايانا. وهذا ما يقوله بولس في رسالته إلى أهل فيلبيّ في نشيد الإخلاء. إنّ الاسم هو الوجود: إنّ الإنسان يستطيع أن يعطي الآخرين ممتلكاته، وكلّ ما يملك من ثروات، لكنّه لا يستطيع إعطاءهم اسمه، لأنّه بذلك يكون قد ألغى ذاته، ولم يعد من مبرِّر لوجوده. إنّ الله وحده هو الّذي يستطيع أن يعطي اسمه لآخر من دون أن يزول، فالله قد أعطى اسمه ليسوع الإنسان. إنّ الله أعطى يسوع الإنسان الاسم الّذي كان له منذ البدء، أعطاه ليسوع الإنسان وليس لملكٍ معيّنٍ أو مسؤول محدّد، وبالتّالي فإنّ الله قد أصبح مشابهًا لكلّ انسان.

إنّ الربّ يسوع قد جلس على يمين العظمة على العرش. إنّ الله الآب جالسٌ على العرش وكذلك الابن، فهذا هو سرّ الثالوث، إذ في المنطق البشريّ لا يمكن أن يجلس على عرشٍ واحد ملكان في الوقت نفسه. إنّ الله عندما تجسّد وجلس على العرش فيما بعد، سمح لكلّ انسانٍ، على مثال الابن، أن يجلس حول العرش ويفرح وكأنّه جالس على العرش، عندما يكون في حضرة الله في الملكوت، أي عند العبور من هذه الحياة إلى الحياة الثانية. إنّ عطاء الله ومحبّته للإنسان يفوقان الوصف، إذ لم يعطِ هذا الامتياز للملائكة إنّما أعطاه فقط للإنسان: أن يشاركه في الملكوت حول العرش. وهذا ما يحدث في أثناء الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، إذ يحصل الإنسان على الله عندما يتناول غير أنّ الملائكة غير قادرة على ذلك، وهذا دليل على قيمة الإنسان الكبيرة في عينيّ الله، على الرّغم من حنين الإنسان إلى الانحدار والهوان والابتعاد عن الله، والضياع والاضطراب اللّذين يعاني منهما، إذ يرغب الإنسان في بعض الأحيان إتبّاع الله وفي أحيانٍ أخرى، يسعى وراء السّلطة والمصالح الشخصيّة والأهواء.

إنّ البكر لا يعني الولد الأوّل في عائلة ما، إنّما يعني وريث الأبوّة، وقصّة يعقوب وعيسو هي خير مثال على ما نقوله. فعندما أصبح اسحق مسنًّا وصار يعاني من ضعف النّظر، أراد تسليم البركة لابنه البكر ليُكمِل السلالة من بعده. على الرّغم من أنّ عيسو هو البكر، غير أن يعقوب هو الّذي حصل على البركة ومعه تابعت السلالة البشريّة انضمامها إلى شعب الله. وفي انجيل متّى نقرأ ما يلي في النصّ الّذي يتكلّم عن ولادة الربّ يسوع: "لم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر وسمّاه يسوع"، إنّ ذلك يشير إلى أنّ يوسف لم يكن له دور في إعلان الله لمريم بأنّ من وَلَدَتْه هو بكر الله وهو وريثه. إنّ تلك الآية قد أُسِيءَ فهمها من قِبَل البروتستانت و"شهود يهوه"، إذ اعتقدوا أنّ ليسوع إخوة بشريّين أي من اللّحم والدّم نفسه. إنّ هدف الإنجيل ليس التبشير ببتوليّة مريم إنّما إعلان البشارة بملكوت الله. وفي دراسة سوسيولوجيّة للمجتمع، وجدنا أنّ الكثيرين تمنّوا وجود ملائكة على عرش الله، لا ابنًا وارثًا لله. وهنا يجدر الإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى صلواتنا إلى ملائكتنا الحرّاس، إذ في إحدى الصّلوات الّتي نتلوها نحن الشرقيّين للملاك الحارس نقول: "أيّها الملاك الحارس، الملازم لنفسي الشقيّة، سامحني". إخوتي، إنّ الملاك غير قادر على مسامحتنا، إنّ الله هو من يستطيع مسامحتنا على خطيئتنا. إنّ ملاكنا الحارس هو الربّ يسوع ولا أحد سواه، ولكن بما أنّ المسيح يسوع هو على العرش الآن ونحن ما زلنا في حالتنا البشريّة، فللتّعبير عن صلة الوصل بيننا وبين الله نستخدم عبارة "ملاك"، وهي مجرّد عبارة نستخدمها أدبيًّا للتعبير عن صلة الوصل بين الله وبيننا نحن البشر. ويقول الربّ يسوع في إحدى النصوص الإنجيليّة: إنّ ما فعلناه لأحد إخوته الصّغار فله قد فعلناه، وإنّ ملائكتهم حاضرة في السّماء. تُرى هل لله ملائكة تقوم بإرسال التقارير له عن كلّ انسان؟! إنّ الملائكة هي الله يسوع المسيح نفسه غير أنّنا نجد صعوبة في أن نقول إنّ لا وسيط بيننا وبين الله، لذا نستخدم عبارة الملائكة في لغتنا البشريّة. في العهد القديم، أي قبل مجيء المسيح، لم يكن يتجرّأ الإنسان على التعامل مع الله من دون تكلّف، غير أنّنا اليوم، بعد مجيء المسيح، بِتْنا نستطيع ذلك، إذ لا وسيط بيننا وبين الله سوى المسيح يسوع، وهذا ما يؤكّد عليه بولس الرّسول إذ يقول إنّ يسوع هو وسيطنا الوحيد في علاقتنا مع الله.

إنّ هذه الرسالة إذًا هدفها أن تُظهِر لنا نحن المسيحيّين حقيقة يسوع المسيح، كما تهدف إلى ضرب كلّ التفكير اليهوديّ، إذ يريد اعتماد هذا التفكير المسيحيّ الجديد، مع إبقائه على العهد القديم. وهذا أمر غير ممكن، إذ يجب التخلّي عن التفكير اليهوديّ القديم، كي نقبل التفكير الجديد الّذي حصلنا عليه بيسوع المسيح، فيفعل بنا ويثمر. آمين.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة من قِبلنا بتصرّف. تتمة...
11/10/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين - المقدّمة العهد القديم والعهد الجديد
https://youtu.be/lS3-EJdpTwE

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى العبرانيين
مقدّمة عامّة
الأب ابراهيم سعد

11/10/2016

هذه السنة سوف نشرح رسالة مار بولس إلى العبرانيين. وشرح الرسالة لا نقصد به بتاتًا تفسير آياتها جميعها، إذ إنّ ذلك يتطلّب الكثير من الوقت، لذا سوف أبدأ في مرحلةٍ أولى، بشرح بُنيَة الرسالة وتركيبتها. إنّ رسالة مار بولس إلى العبرانيين، ليست رسالة، ولا بولس هو كاتبها، ولا هي موجّهة إلى العبرانيين، إنّما عظة ليتورجيّة يتمّ فيها شرح إحدى الرُتَب الكنسيّة، كالقدّاس الإلهيّ أو العماد. أودّ الإشارة إلى أنّ الاسلوب المستخدم في هذه الرسالة ليس أسلوب بولس المتعارف عليه في بقيّة الرسائل. فعندما يُغيّر أحد الكتّاب أسلوبه، يتجرّأ القارئ على القول إنّ الّنص الّذي بين يديه ليس حقًا للكاتب المقصود بل لآخر، وكقارئ وناقد أدبيّ، أسعى إلى تأكيد وجهة نظري عبر الطعن بالنّص وإظهار أين يكمن هذا الاختلاف في الأسلوب، وهذا ما يُطلق عليه "النقد الأدبيّ". فمثلاً، إن قرأت نصًّا قيل إنّه لشكسبير ووجدت فيه اختلافًا في الأسلوب، أستطيع أن أطعن في النّص مقدّمًا البراهين على اختلاف الأسلوب. فالنّص قد يكون لأحد تلاميذ الكاتب وليس للكاتب نفسه، ولكنّه مكتوب بروح الكاتب. هكذا هو الأمر بالنسبة إلى رسالة مار بولس إلى العبرانيين، فالمرجّح أن يكون قد كتبها أحد تلامذة بولس، أو أحد الأشخاص الّذين عرفوه، بدليل الاختلاف في الأسلوب بين هذه الرسالة وباقي رسائل مار بولس، فالعبارات الّتي غالبًا ما يستخدمها بولس في الرسائل غير متوافرة في هذه الرسالة. إذًا، هذا أحد الأدلّة على أنّ هذه الرسالة ليست لبولس مع أنّ التقليد الكنسيّ يؤكِّد عكس ذلك. إنّ هذه الرسالة ليست موجّهة إلى العبرانيين، لأنّه إن كان بولس كاتبها، فهو غالبًا ما يوجّه رسالته إلى مدينة معيّنة كقورنتس، فيلبيّ، أفسس، وغيرها من الـمُدُن، فما من رسالة وجّهها بولس إلى اليونانيين مثلاً، أو إلى العبرانيين. وبالتّالي، فإنّ هذه الرسالة مجهولة المرسَل إليه، إذ لا يوجد أيّ كنيسة أو قرية أو مدينة تُسمّى بالعبرانيين. وهذه الرسالة ليست موجّهة إلى العبرانيين، لأنّ بولس قد توجّه في بشارته للأمم أي للوثنيين، فهل يستطيع أن يوجّه أحد رسالة إلى من لا يعرفهم، أو من لم يبشِّرهم؟ لذلك فمن المحتمل ألّا تكون الرسالة لبولس. أمّا الّذي نسب هذه الرسالة إلى بولس، فهدفه، على ما أعتقد، أن يقيم مقارنة بين هذه الرسالة وبين الكتب الموسوية الخمسة (التكوين، الخروج، تثنية الاشتراع، العدد، اللّاويين).

إنّ هذه الرسالة تشكِّل صلة وصلٍ بين العهد القديم والعهد الجديد، وهذا ما أراده الكاتب، على ما أعتقد، من كتابة الرسالة بهذا الشكل. إن هدف كاتب هذه الرسالة هو أن يستبدل العبرانيون التوراة بهذه الرسالة الّتي تشكّل العهد الجديد بالنسبة إليهم. إنّ الكاتب قد حاول تفسير الكتب الموسويّة في هذه الرسالة، وقد قام بتقسيمها إلى قسمين، فالقسم الأوّل منها متَّصلٌ بشكل مباشر بسفر التكوين. إنّ سفر التكوين يتكلّم عن الخلق، وفي هذه الرسالة يتكلّم الكاتب عن الخلق أيضًا إذ نقرأ: "الله، بعد أن كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطُرُقٍ كثيرة، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به أيضًا عمل العالَمِين"، ففي هذه الآيات يتكلّم عن الملائكة والخلق، وبهذا تشبه هذه الرسالة سفر التكوين. ويتابع الكاتب شارحًا عن الخلق فيقول:"وأنتَ يا ربّ في البدء أسَّست الأرض، والسّماوات هي عمل يديك". إن القسم الثاني من الرسالة لا يبدأ بالضرورة من الإصحاح الثاني منها. فالرسالة تُقسم إلى قسمين متوازيين من حيث عدد الآيات، استنادًا إلى آية تفصل بين القسمين إذ تشكِّل "حجر الزاوية" للرسالة، وعليها يستند بناؤها، إذ بدونها تسقط الرسالة بأكملها، فهذه الآية تشكِّل الإعلان الصريح عن يسوع المسيح.

الآن، سوف ننتقل لتحديد الإطار العامّ للرسالة. إنّ أحد المسؤولين في الكنيسة سُئِلَ مرّةً عن ماهيّة المسيح بالنسبة له فكان جوابه:"الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرةٍ، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه، الّذي جعله وارثًا لكلّ شيءٍ، الّذي به صنع العالمين، الّذي، وهو بهاء مجده، ورسم أقنومه (جوهره)، وحاملُ كلّ الأشياء بكلمة قُدرتِه، بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا، جلس عن يمين العظمة في الأعالي"(عب ا/ 1-3)، وعندما سُئِلَ بعدها مباشرة، عن ماهيّة الرّسول "محمَّد"، فأعطى بكلِّ هدوءٍ الجواب نفسه. فبالنسبة لنا نحن المسيحييّن، يشكِّل المسيح خاتمة الأنبياء، فالله قد قال كلّ ما لديه من خلال ابنه يسوع المسيح، "كلمة الله"، الّذي أرسله في نهاية الأزمنة. إنّ المسيح هو الرسالة وكلّ ما هو خارج عن المسيح هو مرفوض، وغير مقبول. وقد عبّر بولس الرّسول عن هذه الفكرة قائلاً إنّه إن بشَّركم أحد من الملائكة، أو من البشر حتّى لو كنت أنا نفسي بولس، بإنجيلٍ آخر مختلف عمّا بشَّرتكم به في السّابق، فلا تقبلوه، بل انبذوه واطردوه من بينكم.

إنّ الزّمان لم يبدأ مع يسوع بل انتهى معه. ونحن المسيحيّين لا نقوم بتعداد الأيّام الماضية المنصرمة، إنّما ننظر إلى الأيّام المقبلة، بكلّ رجاء. وهذا هو الفرق بين من يقوم بتمزيق ورقة أحد أيّام الروزنامة، فرحًا بمُضِي يومٍ، وبين آخر ينتظر الأيّام المقبلة وهو في حالة توق وانتظار لمجيء المسيح. فحالة الانتظار للمسيح هذه تدفعنا إلى أن نسعى كي نكون على مستوى هذا اللّقاء، وهذا سيشكِّل همّنا الوحيد الّذي يؤدي إلى خلق اهتمامات أخرى لدينا لنكون على مستوى هذا اللّقاء. لكنّ الخطورة تكمن في أن يتشتّت الإنسان ويُضيّع الهدف، فيعتقد أنّ كلّ اهتماماته تصبّ في الهدف ذاته، ولكنّها ليست كذلك في الحقيقة. إنّ هذا الهمّ، وهذا الاهتمام الأوحد بأن نكون على مستوى اللّقاء بالرّب، يدفعنا إلى التحلّي بالهمّة والنشاط والحماس لتحقيق هذا اللّقاء بالرّبّ يسوع. إنّ هذا الاهتمام وهذا الهمّ وهذه الهمّة لا يتمّ البرهان عنها إلاّ من خلال الآخر الّذي نعيش معه. فكلامنا عن انتظارنا للمسيح الآتي الّذي نؤمن به، لا يمكن أن يقتصر على العلاقة بين الإنسان والله فقط، إنّما يتخطّاها ليشمل علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وخاصّة المختلف عنه. إنّها حكمةٌ فائقة الوصف، حكمة الله، إذ لم تخلق البشر متشابهين، بل جعلت كلّ شخص منّا فريدًا بحدّ ذاته، ولم يتمكّن الإنسان إلى اليوم، من فهم تلك الحكمة الإلهيّة، على الرّغم من كلّ ما توّصل إليه من علومٍ واختراعات وتقدّم. إنّ حكمة الله لم تكتفِ بخلق النّاس، كلّ واحدٍ مختلفٍ عن الآخر، بل تخطّت ذلك، لتصل إلى إتخاذ يسوع المسيح ابن الله جسدًا كسائر البشر ومشاركتنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، فقد شاركنا بطبيعتنا البشريّة إذ أخذ لحمًا ودمًا بشريّين (عبرانيين 2/ 14). لقد شاركنا المسيح يسوع في طبيعتنا البشريّة وذلك ليخلّص البشريّة بأسرها من الموت. فلو تناسى يسوع اتّخاذ أي شيء من بشريّتنا لما كان قد خُلِّص هذا الشيء، لأنّه ما لم يُتخَّذ لم يُخلَّص. إنّ المسيح لم يتّخذ الخطيئة، لأنّها ليست من الطبيعة البشريّة، فهي أمرٌ طارئ على الإنسان، وليست من صُلب إنسانيّته. إنّ الرّبّ يسوع قد أخذ طبيعتنا البشريّة الّتي تأكل وتجوع، تحزن وتبكي وتعاني الآلام وتموت. إنّ جسد يسوع لم يُفنَ ويُبلَ لأنّه لم يتخّذ الخطيئة، فاستطاع أن يقوم من بين الأموات. إنّ هدف المسيح من تجسّده بين البشر، لم يكن إعطاءهم تعليمًا عقائديًا، بل إظهار ملء حبّه للبشر. إنّ كلّ تعليمٍ عقائدي للدّين يُنتج أشخاصًا بعيدين كلّ البُعد عن الإيمان الحقيقيّ بالمسيح. إنّ واجبنا، إذًا، يعتمد على إظهار حبّ الله لنا لسائر البشر، ليندفعوا ويتحمسّوا للتقرّب من المسيح ومعاشرته، فيكتشفوا، في خطواتٍ لاحقة، حبّ الله الشخصيّ لكلّ منهم: هذه هي أعظم بشارة في العالم.

فإن لم يتمكّن النّاس الّذين نبشِّرهم من التماس حبّ الله لنا، فهم لن يؤمنوا بأنّ الله يحبّ البشر، ولن ينتظروا كي يتمكّنوا من اكتشاف ورؤية حبّ الله لهم. إنّ على حبّ الله لنا أن يصبح مرئيًا من خلالنا. إنّ العهد القديم يستند على فكرة عبادة الشعب لله دون سواه من الآلهة، لأنّه الوحيد الّذي يستطيع أن يعطيهم الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول، وكلّ خللٍ قد يطرأ على هذه العبادة من إشراكٍ لآلهة أخرى في هذه العبادة، ستؤدي حتمًا إلى الموت والهلاك.

إنّ الخير كلّه يكمن في الله، وكلّ ما هو خارج عن الله هو شرّ. إنّ اختصار الشّر بالشيطان فقط، إنّما هو تصغير لحجم الشّر، إذ إنّ كلّ ما هو خارج عن الله هو شرّ. إنّ الشّر قد يتجسّد من خلال كتاب أو عمل أو إنسان. إنّ الشّر ليس الإنسان بحدّ ذاته، إنمّا هو الإنسان الّذي يدفعك إلى الابتعاد عن الله. وكذلك بالنسبة إلى الكتاب، فإن زرع كتابٌ معيّن فيك الحماس للابتعاد عن الله فهو شرّ. والمال في حدّ ذاته، هو خير، ولكن إن دفعك امتلاكه إلى ارتكاب الشّر، فهو يتحوّل إلى شّر. إذًا، الشّر هو كلّ ما يدعوك ويشجّعك على الابتعاد عن الله، حتّى وإن عرض عليك مجرّد المحاولة في الابتعاد عن الله؛ وتصديقك لإمكانيّة وجود إلهٍ آخر غير الله، هو شرّ. إنّ العالم الّذي نعيش فيه، يعيش في أزمةٍ كبرى، نتيجة ابتعاده عن الإله الحقيقيّ، وعدم اكتفائه به. إنّ الاكتفاء بالله لا يعني عدم اللّجوء إلى الأمور الّتي تحتاجها طبيعتنا البشريّة كالأكل والشرب، وغيرها من الأمور الحياتيّة، فالمسيح نفسه قد جاع وأكل ونام. فحذارِ أن يُزايد أيّ إنسانٍ منّا في تقواه على تقوى المسيح يسوع. إذًا، علينا أن نعيش حياتنا بطريقة طبيعيّة أي أن نأكل ونشرب، ونعمل ونهتّم بصحّتنا. إنّ تأثّرت علاقتك بالله، بفقدانك لأمرٍ ما كان يشكِّل لك مصدر أمانٍ، فهذا دليل على أنّ ما فقدته كان إلهًا آخر، بالنسبة لك. فإن سبّب مثلاً فقدانك للمال، الّذي هو أحد مصادر الأمان عندك، اهتزازًا في علاقتك بالله وفي نظرتك إليه، فهذا دليل على أنّك كنت تعبد المال الّذي احتلّ في حياتك مكان الإله الحقيقيّ. وإن دفعك فقدانك لأحد الأشخاص الأعزّاء في حياتك إلى قطع العلاقة مع الله، فهذا يشير إلى أنّ هذا الشخص أصبح مركز أمانك كلّه، وأصبح بالتّالي إلهًا آخر لك بدلاً من الإله الحقيقيّ. إذًا، الصعوبة لا تكمن في علاقة الإنسان بالله، بل تكمن في العيش بعيدًا عن الله.

إنّ الله قد خلق العالم بكلمته الخلاّقة، فما إن قال على سبيل المثال ليكن نورًا، حتّى كان النّور. وليس على سبيل الصدّفة أن يُسمّى يسوع المسيح بـ"كلمة الله"، فالله قد خلق به العالم، وبه قال الله كلّ شيء للبشر. إنّ المسيح هو كلمة الله الخلاّقة. فكلّ شيء يستطيع أن يكون بعيدًا عنك إلّا كلمتك، فهي تنطلق منك باتّجاه الآخر لكنّها تبقى في داخلك. فالكلمة إذًا، تستطيع وحدها أن تكون في مكانين في آنٍ معًا: في داخلك، وفي داخل كلّ سامعٍ لها. إنّ ابن الله، يسوع المسيح، قد استطاع أن يصل إلى الإنسان، مع بقائه على العرش السماويّ في الوقت نفسه، لذلك هو حقًا "كلمة الله الأزليّة". إنّ كلّ كلمة يتفوّه بها الإنسان هي كلمة خلاّقة إذ تخلق في فكر الانسان السّامع لها صورةً معيّنة تُجسِّد الكلمة المنطوق بها. فما إن أقول مثلاً تفاحةً، سيّارةً، أو امرأةً، حتّى يتبادر إلى أذهانكم صورةً معينّةً عن كلّ كلمة من هذه الثلاث، مع اختلاف بعض الشيء فيما بين الصُوَر. ولكن إن تلفّظت باسم شخصٍ معيّن كـ"أوباما"، "البابا فرنسيس"، "الأمّ تريزيا"، فإنّه ليستحيل تصوّر هذه الشخصيّات بأشكالٍ مختلفة، إذ إنّ ذكر الاسم يفترض ظهور صورة محدّدة في ذاكرتنا لهم، دون أن يحقّ لنا إجراء أي تعديل على تلك الصُوَر. إنّ ذكر اسم شخص محدّد، لا يجعل صورته فقط تتبادر إلى أذهاننا، إنّما يخلق له ذكر هذا الاسم حضورًا دامغًا وثابتًا، من دون أن نتمكّن من إلغائه، أو تشويه صورته، مع المحافظة على حقّنا في رفض هذا الإنسان. إنّ الله، بعد أن كلّم شعبه قديمًا بكلّ الطرق، قرّر في آخر الأزمان أن يقول كلّ شيءٍ لشعبه، بواسطة كلمته، أي بواسطة يسوع المسيح الّذي تجسّد في أرض البشر. وبعد أن قال الله كلمته في آخر الأزمان، لم يعد لنا من مبرِّر لنبحث عن كلمات أخرى لله عبر ظهوراته لقدّيسيه، فهو قد قال كلّ شيء بيسوع المسيح "كلمة الله الأزليّة". وكلّ الكلمات الّتي تَلتْ مجيء الرّبّ، ما هي إلّا تعبير أو ترنيم لله، وهذه كلّها لا يجب أن تنفصل عن يسوع المسيح، فكلّ الكلمات متعلّقة لا محالة بالمسيح.

إخوتي، علينا نَبِذ كلّ ما لا ينسجم مع كلمة الله، حتّى وإن كان يحوي بعض الصّحة، لأنّ الكتاب يخبرنا قائلاً إنّ الله، في آخر الأزمنة، كلّمنا بابنه الّذي جعله وارثًا، لكلّ شيء، وهذا مفاده أن كلّ الميراث قد حصل عليه يسوع المسيح. وإن كنّا نريد الحصول على هذا الميراث، فعلينا اتبّاع المسيح، وأمّا إن كنّا نبحث عن ميراثٍ آخر، فمصيرنا الهلاك بالتأكيد. وهذا بالتحديد ما حصل مع آدم، إذ إنّ الله أعلن له الحقيقة، إذ قال له موتًا تموت إن قرّر الابتعاد عن الله، ولم يكن ذلك الكلام عقابًا من الله لآدم على خطيئته، إنّما كان إعلانًا مسبقًا لنتائج أعمال آدم. وإليكم مثالٌ: إن اشترى أحد أولادكم قطعة حلوى قد تعرّضت للشمس على الرّغم من نصيحتكم له بعدم شرائها. فإن قلت له:"لا يجوز لك شراؤها لأنّك موتًا تموت"، فهذا لا يعني بتاتًا أنّك تعاقبه لأنّه لم يمتثل لكلمتك، بل إنّ ما فعلته هو فقط إعلانٌ مسبقٌ له عمّا سيحدث نتيجة تناوله لها، إذ إنّ صحّته ستتدهور. في هذا المثل، لم يعاقب الأب ابنه لأنّه رفض سماع كلمته، بل إنّ الأب حذّر ابنه بهذا الكلام من نتيجة أعماله الطائشة. إذًا، من هذا المنطلق، فالله لم يعاقب آدم على أعماله، وابتعاده عنه، إنّما قام فقط بتنبيهه لما سيحدث جرّاء أعماله. إنّ الله يعطي الحريّة للإنسان كي يكون مسؤولاً عن اختياراته وتصرّفاته، من دون أن يتوانى عن تقديم المشورة له باستمرار حين يطلبها. غير أنّ الإنسان يحاول دائمًا أن يكون سيّد ذاته غير آبهٍ لمشورة الله له، فيقوم بأعمال تؤدي به إلى الهلاك. إنّ النبيّ هوشع يذكّر أنّ لا إله حقيقيًّا سوى الله الّذي يعبدونه، وأنّ ما يعتبرونه حياة لهم ليس إلاّ وَهمًا، فيعيد لهم قصتّهم حين كانوا في الصّحراء، حيث لا ماء ولا نبات ولا حياة، حين اكتشفوا أنّ لا أحد يكترث لحالتهم إلاّ الله وحده، الّذي أسرع إلى نجدتهم حين صلّوا إليه وتوسلوه تخليصهم من الموت في الصحراء، فاستجاب الرّبّ لأدعيتهم. إنّ الله قادرٌ على إعطائنا الحياة، حتّى من قلب الصّحراء، غير أنّنا لا ندرك نعمة الحياة وسواها من النِّعَم الّتي يفيضها علينا الرّب عندما نكون في بحبوحة وراحة. فعندما تحتاج إلى شيء وتدرك أنّك لا تستطيع الحصول عليه بقدرتك، وتحصل عليه على الرّغم من ذلك، فتأكدّ حينها أنّ الله هو من منحك إيّاه لأنّك تحتاجه، فلا تتجّرأ على نسب الفضل في ذلك إليك.

إنّ كلمة الله أعطيت اسمًا وهو "يسوع المسيح"، لقد أصبح لها حضور، وهي لا تتفوّه إلاّ بالحقيقة، وتَدُلُّك عليها. وعندما يصبح لكلمة الله حضور، فهذا يفترض منك أن تتناقش معها انطلاقًا من حوار وتحدٍّ. إنّ كلمة الله هي حياة، فإن لم تناقشها ولم تتحدّاها، فهذا يعني أنّك ميّت، أو أنّ تلك الكلمة ميّتة، وبما أنّه من المستحيل أن تموت كلمة الله فهذا يعني أنّك أنت الميّت. إنّ بعض النّاس هم أموات على الرّغم من أنّهم أحياء، والبعض الآخر هم أحياء على الرّغم من أنّهم أموات. فكلمة الله لا تبحث عن إغنائك بالمعلومات إنّما بحضورها أمامك تخبرك عن الحقيقة. والسؤال الّذي يجب أن يطرحه كلّ إنسانٍ على ذاته هو: كيف أحيا في حضرة الله؟ إنّ هذا السؤال من شأنه أن يخلق فيك همًّا واهتمامًا وهمّة، فتقرّر نوعيّة علاقتك مع إخوتك البشر. فعلى علاقتك بالله أن تُتَرجَم من خلال علاقتك بالبشر، وعليك أن تتذّكر دائمًا أنّ إلهك قد أصبح بشرًا وقد ساوى نفسه بهم، وجعلهم أحبّاء له، لكن حذارِ أن تستبدل الله بالبشر. لذا عليك أن تنظر إلى أخيك الإنسان وترى فيه المسيح، وتتعامل معه من هذا المنطلق أي أنّ المسيح هو الّذي يسكن فيه. إنّ كلّ مسيحيّ يعاني من غشاوة في الرؤية حين ينظر للآخر، إذ يرى تارةً المسيح فيه، وطورًا يرى الإنسان فقط دون المسيح. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يدخل الملكوت من دون المسيح ومن دون الآخر فهما يشكّلان معًا الباب الّذي تدخل من خلاله إلى الملكوت. يجب على الإنسان أن يخدم الآخر المحتاج حقًّا إلى مساعدة، إذ لا يجب أن يسمح للآخر بأن يستغلّه، فيصبح خادمًا لرغباته، وشهواته.

إنّ المسيح قرّر أن يتماهى مع المظلوم، وليس مع الظالم. إنّ المظلوم يحصل على فرصة للخلاص بمعزلٍ عن خطاياه، لأنّه تعرّض للظلم. فإن تعرّض خاطئٌ للظلم، فإن رحمة الرّبّ ستؤازره أكثر من ذلك الّذي لم يرتكب خطيئة، وقام باستمرار بالأعمال الحسنة، ولم يُظلَم. وخير دليلٍ على ذلك هو نصّ لعازر والغنّي في الإنجيل. إنّ الغنّي كان رجلاً يقيم الولائم ويتنعمّ بها ولم يتمكّن من الانتباه إلى ذلك الفقير لعازر المطروح عند بابه، والّذي عانى من القروح فكانت الكلاب تداوي له جروحه فتلحسها. فعندما مات الغني ودُفِن يقول الكتاب: أما لعازر فقد ذهب إلى أحضان ابراهيم بعد موته، أي أنّه حصل على الرفاهية في الحياة الثانية. إنّ كلّ إنسان على هذه الأرض، هو إنسان خاطئ، وبالتّالي لا يمكن أن يكون لعازر وحده معصومًا من الخطيئة، فهو بالتأكيد قد ارتكب الخطايا في حياته. غير أنّ لعازر عانى من الظّلم في هذه الحياة، ومظلوميّته هذه هي الّتي محت كلّ خطاياه أمام الرّبّ بعد مماته، لذلك ذهب إلى أحضان ابراهيم. أمّا بالنسبة إلى الغنيّ، فحتّى ولو كان إنسانًا صالحًا من خلال قيامه بكلّ واجباته الدّينيّة، فإنّ كلّ هذه الفضائل ما عادت مرئية للرّب، وذلك لأنّه ظلم أخيه الإنسان، أي لعازر، إذ لم ينتبه لاحتياجاته. إنّ المسيح يدعونا إلى الانتباه إلى جميع المظلومين في هذه الحياة إذ يقول لنا: كنت عطشانَ، مريضًا، ومسجونًا، فإن لم ننتبه إلى مظلوميّة هؤلاء، أصبحنا ظالمين لهم من دون قصدٍ منّا. إن عذاب الغنيّ كان في عدم انتباهه لمظلوميّة لعازر في هذه الحياة. لكن حذارِ من أن تظلم نفسك لتتجنّب الهلاك الأبديّ، لأنّك تكون في هذه الحالة ظالـمًا لذاتك، وبالتّالي فلن تُفلت من العقاب والهلاك الأبديّ. إنّ كلّ مظلوميّة تظهر أمام عينك، عليها أن تدفعك لتطرح السؤال على نفسك عن مدى الرّحمة الّتي تُظهرها تجاه هؤلاء المظلومين. فكلّ مظلوميّة تتعرّض لها، تمنحك فرصةً كي تعيش الرّحمة تجاه الآخر. ولكن السؤال هو: كيف يمكن أن يكون المظلوم، راحمًا في الوقت نفسه؟ هذا ما أتمّه يسوع على الصليب: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"، لقد أصبح يسوع المظلوم، إذ تعرّض للصّلب، راحمًا لكلّ من صلبوه، إذ حاول أن يبرّر لهم ظلمهم حين قال إنّهم لا يدرون ماذا يفعلون، مع أنّه يُدرك تمامًا مع الآب، أنّهم يدرون ماذا يفعلون. هذه هي الرّحمة الحقّة، الّتي لا توفِّر طريقة في سبيل حصول الآخر عليها. إنّ الرّحمة مفتاحٌ للتوبة، لأنّه إن عاملت من أخطأ إليك بالرّحمة، تكون قد فتحت أمامه طريقًا للعودة عن ظلمه لك، وبالتّالي طريقًا لتوبته. هنا تجدر الإشارة إلى أنّ الآخر لا يتوب جرّاء تعاملك معه بالرّحمة، إذ إنّ التوبة هي قرارٌ شخصيّ. إنّ أهمّ أسلوب من أساليب الرّحمة، هو أن تجعل الآخر المخطئ بحقّك ينسى خطيئته تجاهك من خلال طريقة كلامك معه وتصرّفك معه. وهذا ما يطلبه الرّب منّا إذ يقول لنا إنّه علينا أن ندير للآخر الذي آذانا، الخدّ الأيمن، في محاولة لجعل الآخر ينسى أذيّته لنا، إذ لا يعود قادرًا على رؤية الخدّ الأيسر حيث ضربنا. إنّ يسوع لم يقصد بكلامه هذا، أن نسمح للآخر في التمادي في أذيّتنا. عادةً، عندما يضرب أحدهم آخرًا على خدّه، فإن تلك الضربة يجب أن تكون على الخدّ الأيمن، لكنّ يسوع قال من ضربك على الخدّ الأيسر، ويقصد بذلك، من تعامل معك باحتقار ومذّلة، وقلّة احترام. عندما تتعرّض للاحتقار والمذّلة، تصبح مظلومًا، وإنّ يسوع في هذه الحالة يدعوك إلى أن تصفح عن أخيك الظالم عندما تدير له الخدّ الأيمن حين تلتقي به من جديد، لينسى أنّه قد تسببّ بالآلام لك، فيحصل على رحمتك له، الّتي تشكِّل فرصةً له للتوبة. أمّا إذ التقيت بظالمك، مرّة أخرى، وتعاملت معه على أساس أنّك لم تنسَ له الأذيّة وأنّك تتحيّن الفرصة لتؤذيه، فإنّك بهذه الطريقة، أصبحت أنت الظالم، والمشكلة لم تتوقَّف عند الآخر، بل تخطّته لتصل إليك، فالمشكلة إذًا تكمن فيك الآن. إنّ الإنجيل يقدّم لنا مثلاً واضحًا في هذا الموضوع، فنرى أن يسوع قد تعامل مع الفريسيّ الّذي يأتيه طالبًا جوابًا عن سؤال يشغل تفكيره، فإنّه يتعامل معه بكلّ احترامٍ ويعطيه مطلبه؛ ولكنّه عندما كان يريد يسوع توبيخ الفريسيّين فإنّه لم يكن ليتهاون مع أفعالهم السيئة أبدًا. فإن أساء إليك أحد، لا تحاول أن تذهب إليه لتضع إصبعك على أخطائه، مدّعيًا أنّك تريد الخير له، فإنّك لن تُصلحه بهذه الطريقة، لأنّه يشعر بأنّك لا تريد الخير له، إذ إنّك لا تحبّه. إنّك بتلك الطريقة، تعطي لذاتك صلاحيّة إدانة الآخرين. إنّك تلعب دور الحمل الوديع، مع العلم أنّك أسدٌ زائر تريد أن تلتهم الآخر، إنّك شيطانٌ ترتدي ثياب ملاك النّور. عندما تتحضّر للقاء شخص قد تعرّض لك بالأذيّة، حاول أن تخلق فيه صدمةً إيجابيّة، لم يكن ليتوقّعها منك بعد الأذيّة الّتي وجّهها إليك. فإنّ مثل تلك الصدمة قد تشكِّل له الفرصة لكي يتوب. ولكن، إن تعاملت مع الشخص الّذي أذاك في كلّ مرّة تراه، انطلاقًا من الوجع الّذي سبّبه لك، أي من خلال نبرة صوتٍ عاليّة وقلّة احترام، فإنّك تشّرع له بهذه الطريقة الحقّ في الاستمرار في أذيّتك.

فلنتعاملْ مع بعضِنا البعض، إخوتي، كما يتعامل الرّب معنا. فتخيّلوا معي، لو أنّ يسوع يذكِّرنا في كلّ يومٍ نقف أمامه بالخطايا الّتي ارتكبناها خلال النّهار! فإنّنا بالتأكيد بعد توبيخ يسوع لنا في هذه الحالة، لن نعود نؤمن بحقيقة غفران الله لخطايانا نحن البشر. إنّ الرّب لا يفرح بخطيئتي، لكنّه يتعاطى معي على أنّني شخص مريض، مكسور وبحاجة للاهتمام والعلاج. إنّ بولس يعود ليكرّر كلام المسيح بطربقة أخرى فيقول إنّ المحبة لا تفرح بالخطيئة، لا تفرح بالظلم، لا تفرح بالسوء (1قور 13). علينا المحاولة دائمًا أن نتصرّف كما تصرّف يسوع، حتّى وإن تعرّصنا لانتقادات من مجتمعنا غير القادر على تقبّل مثل تلك التصرّفات الّتي تعبّر عن الرّحمة والمحبّة للآخر. إخوتي، إنّ يسوع نفسه لم يتمكّن من إرضاء كلّ محيطه: إن يسوع قد تعرّض لأنّ يتمّ إلغاء اسمه، فعندما مات أطلق عليه اليهود اسم "الـمُضلِّل". لقد خاف اليهود من يسوع لذلك قاموا بإلغاء اسمه وحاولوا إلغاءه عندما قتلوه، لقد خافوا من صدقه في تحقيق ما كان يقوله عن قيامته في اليوم الثالث، لذلك، قاموا برشوة الحرّاس ونشر أخبار كاذبة كأن يقولوا إنّ التّلاميذ قد سرقوه ليلاً. لقد حاولوا إلغاء حضوره بإلغائهم اسم يسوع، لقد حاولوا إلغاءه عندما قتلوه، إذ أعطوا لذواتهم الحقّ الشرعيّ ليقتلوه، فجعلوه غريبًا عنهم: لقد غربّوه فقتلوه، وعندما قتلوه، قام وجعلهم أحبّاء له.

في هذه الرسالة، سوف نكتشف هذا الإله الّذي كلّمنا في آخر الأيّام بابنه يسوع، كما يقول الكتاب. ويضيف الكتاب فيقول عن الله إنّه هو الّذي أسّس في البدء السمّاوات والأرض، وهي عمل يديه، وأنّه هو الوحيد الأزليّ. في القرى الجنوبيّة اللّبنانيّة، عندما يُحمَل نعش الميّت، يصرخ الشعب قائلاً إنّ الله وحده أزليّ، لا يموت، وفي ذلك، إعلانٌ صريحٌ لحقيقة إيماننا المسيحيّ، بأنّنا كلنّا زائلون ما عدا الله. استوقفتني مرّة إحدى النّساء لتخبرني عن صديقة طفولتها الّتي قامت بأذيتّها، وقد شوّهت صيتها في المجتمع، وهي غير قادرة على مسامحتها، وهي ما زالت تغضب عند رؤيتها، أمّا جوابي لها فكان أنّه ما نفع الاستمرار في الغضب تجاه تلك الصديقة، فإن الأذيّة قد وقعت، والغضب المستمّر من تلك الصديقة لن يفيد أحدًا، فإن لم تتَمَكَّني من التعامل معها بلطف فهذا يعني أنّكِ لم تسامحيها فعلاً، وبالتّالي أصبحت المشكلة عندك. إنّ الغضب من الأذيّة الّتي يوجّهها إليك الآخرين، لَهُو مضيعة للوقت، إذ يجعلك تحيد عن الاهتمام الأساسيّ وهو تحضير ذاتك لكي تكون على مستوى اللّقاء بالمسيح. في اللّيتورجية الشرقيّة الارثوذكسيّة، قبل أن يُصعِد الكاهن القرابين إلى المذبح، يرتِّل: "لنطرح عنّا كلّ اهتمامٍ دنيويّ، إذ إنّنا مزمعون أن نستقبل ملك الكلّ". إذًا، في الوقت الّذي ننتظر فيه مجيء ملِك الكلّ، لا يجب أن نلتهيَ بالأمور الدنيويّة الزائلة. إنّ هذا الهمّ الأساسيّ بلقاء المسيح، يجب أن يضمّ كلّ اهتماماتنا الآخرى.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبلنا بتصرّف. تتمة...
19/4/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح الحادي عشر الخلاص للجميع
https://studio.youtube.com/video/-gVsk_BnsPE/edit

تفسيرالكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية
الإصحاح الحادي عشر
الأب ابراهيم سعد

19/4/2016

"فَأَقُولُ: أَلَعَلَّ اللهَ رَفَضَ شَعْبَهُ؟ حَاشَا! لِأنّي أَنا أيضًا إِسْرائِيليٌّ مِنْ نَسِلْ إِبراهِيمَ مِنْ سِبطِ بِنْيامِينَ. لَمْ يَرفُضِ اللهُ شَعْبَهُ الَّذي سَبَقَ فَعَرَفَهُ. أَوَ لَسْتُم تَعْلَمُونَ ماذا يَقُولُ الكِتابُ في إِيلِيَّا؟ كَيْفَ يَتَوَسَّلُ إلى اللهِ ضِدَّ إِسْرائِيلَ قائِلاً: يا رَبُّ، قَتَلُوا أَنبِيَاءَكَ وَهَدَمُوا مَذَابِحَكَ، وَبَقَيتُ أَنا وَحْدي، وَهُمْ يَطلُبُونَ نَفْسِي! لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ لَهُ الوَحْيُ؟ أَبْقَيْتُ لِنَفْسِي سَبْعَةَ آلافِ رَجُل لَمْ يُحْنُوا رُكْبَةً لِبَعْل.فَكَذَلِكَ فِي الزَّمانِ الحاضِرِ أَيضًا قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ اختِيارِ النِّعمَةِ. فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيسَ بَعْدُ بِالأعمالِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. فَإِنْ كَانَ بِالأعْمالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً، وَإِلاَّ فَالعَمَلُ لا يَكُونُ بَعْدُ عَمَلاً. فَماذا؟ مَا يَطْلُبُهُ إِسْرائِيلُ ذَلِكَ لَمْ يَنَلْهُ. وَلَكِنْ المُخْتارُينَ نالُوهُ. أَمَّا الباقُونَ فَتَقَسَّوْا، كَما هُوَ مَكْتُوبٌ:"أَعطاهُمُ اللهُ رُوحَ سُباتٍ، وَعُيُونًا حَتَّى لا يُبْصِرُوا، وَآذانًا حَتَّى لا يَسْمَعُوا إِلى هَذا اليَومِ". وداوُدَ يَقُولُ:"لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ فَخًّا وَقَنْصًا وَعَثَرَةً وَمُجازاةً لَهُمْ".

أذَكِّرُكم بداية بالآية الأخيرة من الاصحاح العاشر، "ولكنّ الله يقول في إسرائيل: بَسَطتُ يديَّ طول النَّهار لِشَعْبٍ معاند ومقاوم مُتَمَرِّد". إنّ الشعب كان متمردًا على الله. وفي المقطع الأوّل من الاصحاح الحادي عشر، يعرض بولس فكرة أساسيّة جدًّا وهي أنّ كلّ النّاس يتشابهون في أفكارهم. وما يميّزني أنا كمسيحيّ ليس أنّني مسيحيّ، بل أنّ المسيح الّذي أعبده يختلف عن بقيّة الآلهة، أمّا أنا فلست مميّزًا عن غيري من البشر. لنلاحظ معًا الكلام الّذي قاله بولس لأهل رومية في شأن إِيليّا النبيّ. إنّ النبيّ عرض لله أمره قائلاً إنّه بقي وحيدًا في عبادته لله بعد أن قام الوثنيون بقتل كلّ أنبياء الله وبهدم مذابحه، وكأنّه بذلك يقول لله إنّه بقي العابد الوحيد لله وإنّه دافع عنه. إنّ أكبر إحساس يؤدي بنا إلى السير في الطريق الخطأ وإضاعة بوصلة الطريق، هو عندما نعتبر نفسنا ندافع عن الله. إنّ الله أخبر النبيّ إيليّا بأنّ هناك سبعة آلاف رَجُلٍ لم يحنوا رُكَبِهم لبعل ذلك الاله الوثنيّ، وبالتّالي هناك آخرون غير إيليّا ما زالوا محافظين على إيمانهم ولم يسجدوا إلاّ للإله الحقيقيّ. إنّ لبّ وعمق عمل يسوع المسيح على الصّليب هو أنّ يسوع قد خلَّص جميع النّاس. إنّ الخلاص هو للجميع وبالتّالي من يُحَدِّد مَنْ هو مُخَلَّص أم لا، هو الله وليس نحن، وهو كذلك مَنْ يُحَدِّد من هو المؤمن ومَنْ هو غَيْر المؤمِن. إنّ الله لم يعطِنا السّلطان لكي نَقسُمَ النّاس إلى قسمين بين مؤمِنين وغير مؤمنِين. إنّ أساس مشكلتنا مع النّاس ومع ذواتنا هي أنّنا نريد أن نقسم النّاس بين مؤمنٍ وغيرَ مؤمنٍ، عندما نقرِّر من هو مؤمن أو لا، فسنكون بهذا الفعل قد أخذنا مكان الله. إنّنا لا نؤمن بالله بُغية أن نأخذ مكانه، بل نحن نؤمن بالله كي نأخذ مكانًا قد سبق وأعدّه لنا، لذلك لا يحقّ لنا أن نقسم النّاس. فمن منّا يستطيع حقًّا أن يعرف قلب الآخر وداخله وعلاقته الداخليّة مع الله؟ فأكثر ما يستطيع الانسان الوصول إليه هو الحكم على المظاهر والأعمال والسّلوك.

هل تستطيع أن تعلم عمق الأمور؟ الحمد لله أن لا أحد غير الله يستطيع معرفة بواطن النّاس وخفايا القلوب. وبما أنّنا لا نعرف داخل الانسان وخفايا قلبه، فإن حُكمَنا على الآخر ليس عادلاً وليس مضمونًا، وبالتّالي فَرَحمَتُنا لا تستند على مبادئ، إنّما هي مستندة على مصالح، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حبّنا تجاه الآخر، فهو مرتبط بما يفيدنا وما لا يفيدنا، لذلك نحن نحبّ شخصًا معيّنًا اليوم ونكرهه غدًا. إنّ الله هو الوحيد الّذي يحبّنا الأمس واليوم وغدًا، فحبّه لنا ليس مرتبطًا بأعمالنا أو بنوايانا أو بقلوبنا، لذلك"لا إله إلاّ الله". أن يكون منطقنا كمنطق الله- وهذا ما على فكرنا أن يكونه "أمّا نحن فلنا فكر المسيح"، على حدّ قول بولس الرّسول- هذا يجعلنا غير قادرين على أن نحكم على النّاس بل رافضين لهذه الصلاحيّة. إنّه ليس من شَرٍّ مطلق في أحد، وليس من خيرٍ مطلق في أحد، كل إنسانٍ فيه خير وفيه شَرّ. إنّ المشكلة بيننا وبين الله، أنّه يركِّز على الأعمال الصالحة فينا بينما نركّز نحن على الأعمال الشريرة في الآخرين. فإنّنا لا نرى إلاّ الاعمال السيئة في الآخر، حتّى وإن كان لم يرتكب سوى عمل شريرٍ واحدٍ، فنحن لا نغفر له. إنّ الله لا يرى إلاّ العمل الصالح في الانسان حتّى وإن ارتكب آلاف الأعمال الشريرة، فإنّه يسامحه ويرحمه من أجل هذا العمل الصالح الوحيد. إذًا، يختلف منطقنا وفكرنا عن منطق الله وفكره، وهذا ما يظهر جليًا في تعاملنا مع بعضنا البعض. إنّ بولس الرّسول يقول لنا إنّنا نحاول أن نظهر أمام الله كأنّنا ندافع عنه، غير أنّنا نكتشف أنّ الموضوع لا يتعلّق بالله، بل يتعلّق بكيفيّة وجودنا وأهميّة وجودنا، متسربلين بثياب التّقوى. إذا استطعنا أن نفهم عمل المسيح على الصّليب، فإنّنا سنرتاحُ من دينونة الآخرين، من الظنون بهم، ومن الحكم المسبق عليهم. إنّ المسيح على الصّليب أعلن الغفران لقاتليه، وهم لم يتوبوا ولم يعتذروا، بقوله: "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!" إنّ المسيح غفر لهم من دون أن يتوبوا، وكان بحاجة إلى سببٍ كي يغفر لهم، فكانت حجته أنّهم لم يدروا ماذا يفعلون. إنّ الإنسان يبحث عن حجة وعن سببٍ كي لا يغفر لأخيه الإنسان بل ليدينه ويحكم عليه. فإن كنّا نَعُدّ أنفسنا من الّذين يتبعون المصلوب لا نستطيع أن نُصدر الاحكام على الآخرين. غير أنّنا إن كنّا من أتباع الصالب، فنستطيع عند ذلك أن نحكم وندين، فهذا ما فعله الّذين صلبوا بيسوع، فَهُم قد أدانوه. إنّ كلّ موقف نأخذه فيه روح إدانة، نكون عندئذٍ نتمرّد على الله حتّى وإن كنّا أقدس القدّيسِين إذ أنّنا بذلك نهدم مملكة الله ومشروعه للبشر. إنّ روح الإدانة يمنع الخاطئ من التوبة. إمّا روح الرّحمة، وإن لم يتب الخاطئ بعد، فيعطيه فرصةً كي يتوب. إنّ اللطف والحبّ يستطيعان أن يفتحا الطريق أمام الخاطئ لكي يتوب.

من ناحية أخرى، الكنيسة هي جماعة من الخطأة تقوم بمسيرة لتنقية ذاتها، وليست جماعة من المؤمنين بالرّبّ يسوع. نحن نعلم أنّنا كلّنا خطأة وهذا مؤكد، لكنّنا لا نستطيع أن نعرف مَن هو مؤمِن ومن هو غير مؤمِن، وبالتّالي لا نستطيع أن نحكم. إذًا، الكنيسة ليسَت جماعة مؤمنِين بل جماعة خطأة، إنّها جماعة من الخطأة يتطّهرون، يتنّقون بكلمة الله وروحه. وبالتّالي هذا التّعريف للكنيسة يجعلنا متساوين مع سوانا من البشر. فإن كنّا كبقيّة البشر، فكيف نستطيع أن نحكم على الآخرين؟ فإن كنّا نعتقد أنّ بعض الأعمال الّتي نقوم بها في الكنيسة تعطينا إمتيازًا على الغير، فنحن مخطئون في ذلك، لأنّنا نخلُص بفعل النّعمة وليس بفعل الأعمال، فالنّعمة تأتي من المسيح. إنّ الله قد أمطر على الجميع نِعَمَهُ، لكنّنا لا نستطيع أن نعرف من يستفيد من نِعَم الله ومن لا يستفيد. علينا أن نكون متأكدين من أمرٍ واحدٍ هو أنّنا لن نستطيع الحكم على النّاس مطلقًا. وبالتّالي يُمنع علينا التّعامل مع الآخرين مستندين على حكمٍ مسبق عليهم. إنّ الأمور في الدنيا بأسرها تتغيّر، إن تعاملنا معها من دون حكمٍ مسبقٍ. حتّى وإن كنّا بحسب علمنا، وفهمنا وخبرتنا ومعلوماتنا، نعلم أمرًا معيّنًا عن شخصٍ ما، فإنّه لا يجوز لنا أن نتعامل معه إنطلاقًا من أعماله إنّما من أهميّة وجوده في نظر الله؛ إذ إنّه يمكن ألاّ يكون هذا الشخص ذا أهميّة في نظرنا. إنّ أهميّة وجود الآخر في نظر الله هي سبب وجوده. إنّ كلّ إنسان يمشي على هذه الأرض يصبح بمستوى يسوع المسيح كائنًا من كان: هذا هو مشروع الله. فإن اعترضنا وقلنا إنّه لم يؤمن، أتانا الجواب من الله أنّه لم تصله البشرى بالخلاص. إذًا، نحن لا نستطيع أن نقطع الأمل في خلاص أي إنسان، فنحن لا نعرف الطريق الّذي سيتّبعه الله كي يصل إلى هذا الشّخص. إنّ الله يصل إلى كلّ منّا بطريقة مختلفة عن الآخر ومثالاً على ذلك، سِيَر أكبر الملحدين وأكبر المجرمين والوثنيّن والرّسل، وأكبر القديسين، فهم لم يؤمنوا جميعًا بالطريقة نفسها. نحن نسأل الآخر:"ماذا كنتَ؟" بينما الله يسألنا:"من أنت؟"، وهذا الفرق كلّه. إنّ العديد من الأمور قد تتغيّر لو أنّنّا نتعامل مع بعضنا كما يتعامل الله معنا وكما ينظر إلينا.

أنّ الرّحمة لا تعني أن نغفر الخطايا فقط، بل تعني أن نرى الآخر كما يراه الله. الله إذًا، لا يقطع الأمل في أحد. فلو تاب يهوذا، بعد أن بكى بكاءً مرًّا، لكان الله قد قَبِلَهُ، بدليل أنّ الله قد غفر لآخر وهو بطرس عندما تاب. غير أنّ يهوذا ندم ولكنّه لم يتب، وهنا الفرق. ندم يهوذا على خطئه وبقي هناك، فهو لم يعد إلى الله. إنّ فعل تاب بالّلغة العبريّة "شابا" تعني أن تعود إلى الله. إنّ بطرس ارتكب الخطأ نفسه الّذي ارتكبه يهوذا. خيانة يهوذا ليسوع وإنكار بطرس له هما جِهتان لعُملَةٍ واحدة، فكلاهما قد تخليا عن يسوع. لكنّ الفرق بينهما هو في تصرّفهما بعد النّدامة، فإنّ بطرس قد صدّق الكلام الّذي كان قد سبق وقاله للرّبّ: "إلى من نذهب يا ربّ وكلام الحياة الأبديّة عندك؟" إنّ بطرس قد تذكّر هذا الكلام بعد أن أخطأ، فأدرك أنّ لا مكان يذهب إليه أفضل من الرّبّ، عندئذٍ تاب وعاد إلى الرّبّ. أمّا يهوذا فقد اعتبر أنّ لا حياة له بعد خطيئته، فالأمر بالنسبة له مرتبط بخطيئته وليس بموقف الله منه. هذا هو الفرق بين الإنسان الّذي لا يعرف رحمة الله، وذلك الّذي يعرف رحمة الله. فالإنسان الّذي لا يعرف رحمة الله له، هو انسانٌ قد منعته خطيئته من رؤية رحمة الله. والانسان الّذي يعرف رحمة الله هو الّذي كشفت له خطيئته الرؤية فاستطاع رؤية رحمة الله له. لذلك، لا تيأس يا إنسان مهما حصل معك، فأنت تضمن رحمة الله لك وهي كبيرة جدًّا. إن ضماننا لرحمة الله وحبّه لنا لا يجعلنا نستغل هذه الرّحمة وهذا الحبّ، بل يجعلنا نتخلّى عن وضعنا كخطأة ونذهب إلى الرّبّ. فإن رأينا، في طريقنا ومسيرتنا صوب الله، أنّ الآخرين لم يصلوا إلى الرّبّ بعد، وهم لا يزالون بعيدين عنه، فهذا لا يعطينا الحقّ في أن نحكم عليهم، بل علينا أن نشفق عليهم، ونصلي لهم ونساعدهم عبر مرافقتنا في الطريق صوب الربّ، وبهذه الطريقة سوف تصطلح الدّنيا بأسرها. فلننظر إلى ما تعاني منه الكنيسة، وإلى المشاكل الّتي نتتج عن العلاقات بين البشر وبخاصّة بين الّذين يدّعون أنّهم يتبعون الله، فلا أحد يخيفني غير أتباع الله. والمثال على ذلك هو انقسام الكنيسة: فموضوع الانقسام بين الكنيستين لم يكن الله هو السببب فيه، بل الحجة الّتي استندوا عليها كي ينقسموا، فالعقيدة هي حجة إتّخذوها ليختلفوا، أمّا السبب الأساسي للانقسام فهو الخلاف على السلطة والنفوذ وشهوة المال. إنّنا نرتدي لباس التّقوى وحماية الله والدّفاع عنه، ولكن عندما يعبّر الآخر بطريقة مختلفة عنّا بما يؤمِن به نشعر حينها بخطر على الإيمان فتشتعل فينا رغبة الدّفاع عن الإيمان. لذلك نسعى إلى أن نسيطر على الآخر ونُخضعه لما نؤمِن به أو يكون مصيره الإلغاء، فنحن لا نبحث عن التّحاور معه، فالحوار بالنسبة لنا هو إعطاء الآخر المزيد من الوقت كي يؤمن بما نحن نؤمِن به..إنّ الحوار، يا إخوتي، هو أن نعترف بأنّنا على حقٍّ بجزءٍ معيّن لكنّنا على خطأ في جزءٍ آخر، وكذلك هي الحال مع الآخر المخطئ في قسمٍ ما فيما يقوله، لكنّه مُحِقّ في قسمٍ آخر. ففي الحالة الأولى، عندما نقول إنّ الحقّ كلّه معنا، وأنّ الآخر مخطئ تمامًا، وأنّ الحوار معه يقضي بأن نقنعه بما نؤمن فيتوب، فيؤمن بما نؤمن به ويعتمده، فهذا لا يسمّى حوارًا بل يسمّى عرض مواقف، وينتج عن ذلك إمّا إخضاع الآخر، إمّا إلغاء الآخر، فإن لم نُلغِه بالقوّة والعنف والقتل نلغيه من فكرنا، نلغيه من اهتمامنا، نلغيه من عالمنا الّذي قد رسمناه لذواتنا. فلنفكِّر في خصوماتنا الّتي من حولنا، فهي ترتكز على أنّ الآخر قد تعرّض لنا بالأذية وعوض أن نرحمه ونغفر له، نبادله بالأذية. إذًا، قِيَمُنا هي موسميّة وغير مرتبطة بعلاقتنا بالله، بل بما يفعله النّاس بنا. أمّا الّذين يتعلّقون بالله وبمبادئه وفكره، لا تزعزعهم تصرّفات النّاس معهم. إنّ ذلك لا يعني أن نقبل الخطأ والأذية، فعلينا أن نرفض الخطأ ويجب عدم المساومة على الصواب. أمّا السؤال فهو: لماذا تجعلنا تصرفات الآخرين نتحوّل إلى إنسانٍ آخر؟ لماذا نتحوّل إلى دَّيانين ومعاقِبين وحاقدين على الآخرين جرّاء تصرّفاتهم معنا؟ إنّ من يتحلّى بعلاقة حقيقيّة وداخليّة مع الرّبّ لا يستطيع أن يَدين الآخر، وأن يحكم عليه، وأن يحقد عليه.

أين هو التغيير الداخليّ فينا الّذي ينتج عن إيماننا بالله، وعن معرفتنا بكلمته، وعن صلواتنا له؟ وإذا حصل هذا التغيير الدّاخلي فينا، فلماذا نعود إلى الحالة الأولى بسبب تصرّف أحدهم؟ إنّ الاختلاف والتخاصم يحصل على مستوى الفكر، ولكن عندما يصبح في القلب حينها وإن وُجد الحلّ لهذا الخصام في الفكر، فالتلاقي يُصبح بغاية الصعوبة لأنّ البُعد في القلب قد حصل. إن الأشخاص المتخاصمين يشعرون بالغضب تجاه بعضهم البعض، لذلك عندما يتحادثون، يصرخون ويتكلّمون بصوت مرتفع على الرغم من وجود الشخص الخصم بالقرب منهم جغرافيًّا، ذلك لأنّ القلوب ابتعدت واصبحوا يشعرون بمسافة كبيرة بينهم وبين الآخر، لذلك يصرخون كي يسمع الآخر. أمّا المتحابون فيتهامسون عندما يتكلّمون سويًا إذ إنّ القلوب أصبحت قريبة فيشعرون بقرب المسافة فلا حاجة بهم إلى الصّراخ. هل الأمر يستحق أن نخسر كلّ ما تسلّمناه من نِعَم من الله، من رحمته ومن حبّ الله والتّي لا فضل لنا بها؟ فهل نعتقد أنّ الله رحمنا وأحبّنا بسبب قداستنا، أم بسبب ضعفنا وخطايانا؟ إنّ الله رحمنا بسبب ضعفنا وخطايانا. إنّ محبة الله ورحمته تزدادان كلّما ازدادت خطايانا. أمّا نحن، فتزداد نقمتنا على الآخر وحُكمَنا عليه، كلّما ازداد شعورنا بأن الآخر لا يحبّننا ولا يسمعنا، وليس بالضرورة أن يكون الآخر قد أخطأ إلينا. إنّ ذلك لَظُلمُ لا يساويه ظلم. لذلك مَن لم تحرقه جمرة الحبّ الإلهيّ وجمرة الرّحمة الإلهيّة لا يستطيع أن يحبّ وأن يرحم، هو فقط يدين ويحكم، وهو بالتّالي يتمرّد على الله لأنّ الـحُكم هو مِن صلاحيّة الله ولا يستطيع أحد أن يأخذها منه. إنّ الله قد أعطانا قداسته وقد أعطانا ميراثه وكذلك الملكوت، لكنّه لم يُعطِنا صلاحيّة الجلوس على العرش والحكم، غير أنّ الإنسان يفهم ذلك على أنّ الله لا يحبّه بما يكفي، كونه احتفظ بالعرش والحكم. إنّ الله محبته لنا كبيرة لذلك، لم يعطِنا صلاحيّة الجلوس على العرش، لأنّه يدرك أننا كُنّا لنُلغي الجميع، وما كان لِيُوجَد مخلوق يخالفنا الرأي بسبب ظلمنا. إنّه لمن المفيد ألاّ تعرف النّاس خطايا بعضها البعض، فماذا لو عرفنا خطيئة الكاهن الّذي يقف أمامنا اليوم وهو يتكلّم بكلمة الله منذ فترة عشر سنين في هذه الجماعة؟ إنّه من المؤكد أنّه لن يعود أحد ينتصح بكلامه بل يذهب سدىً، هكذا هو الأمر بالنسبة للكاهن. فكم بالأحرى الأمر بالنسبة لسائر البشر غير المكرّسين؟ أنا لا أقول لكم مسبقًا، أنّني خاطئ وعليكم قبولي بخطيئتي، بل أخبركم كم أنّ جمرة الرّوح قد ألهبتكم.

إنّ بداية تأسيسنا لهذا الاصحاح الحادي عشر الصعب ترتكز على مفهوم أنّ هناك آخرٌ يحبّ الله مثلنا لا بل أكثر منّا، وهو مؤمن بالله ونحن نجهل هويّته، ونحن نريد أن نعرف من هو هذا الآخر الّذي يفوقنا إيمانًا وحبًّا بالله، وذلك ليس لنتعزّى به، بل من أجل أن نفجِّر انتقامنا وغضبنا في الآخرين. إذًا، نحن لدينا روح الانتقام، روح الدينونة. فليس في سبيل الصدفة أن يكون لباس الكهنة أسودًا، إذ إنّ هذا اللّون يجعل الكاهن ينتبه لأقلّ لمسة غبار قد تلوّث ثيابه، إذ إنّه يصبح مرئيًا من الآخرين، والنّاس لا ترحم. إنّ النّاس تحبّ أن تضع هالةً على الكهنة، وذلك لأنّ حكمهم عليهم يصبح أكثر قسوةً عندما يُخطئ. ويتحجّج النّاس عند إخطاء الكاهن وحُكمهم عليه بأنّه هو اختار هذا الطريق. أنا لا أبرّر خطيئة الكاهن، إنّما أدعوكم لكي تنتبهوا إلى إنسانيته، لأهميّة وجوده كخاطئ بنظر الله. فأهميّة وجوده كخاطئ في نظر الله يساوي تمامًا أهميّة وجودك بنظر الله كخاطئ. وهنا نعود إلى دينونته لأنّه مكرّس لله وهو اختار ذلك. نحن نعيش في زمنٍ لا نفهم فيه عمل الله على الصليب ونعتقد أنّه من واجبنا نحن الدّفاع عن الصليب. الويل لنا إن ظهر المصلوب الآن، وأخبرنا ما نحن فاعلون به. إنّ اليهود هم أكثر لطفًا به منّا نحن المسيحيين، إذ إنّهم تحجّجوا ليظلموه بأنّهم لم يعرفوه، أمّا نحن فما هي حجتنا؟ نحن لأنّنا عرفناه، ظلمناه. هم قتلوه، لأنّهم عرفوه طبعًا، فَهُم قد عرفوا أنّ المسيح هو ربّ المجد لذلك قرّروا إلغاءه، لأنّه لا يتناسب ومصالحهم. ألا نفعل نحن الأمر نفسه؟ أفضل صلاة نتلوها هي"أبانا الّذي في السّماوات"، لكنّنا عندما نصليها نطلب من الله البقاء في سمائه، فحضوره في عالمنا وحياتنا وتفاصيلها لا يناسبنا فهو سيغيير فيها كلّ شيء. إنّ المسيح هو بمثابة فيروس يغيِّر نوعيّتنا، إذا دخل جسمنا، وكياننا. أمّا نحن، فنحبّ أن يكون المسيح كقطعة سكريّات أو حلوى، فنجعله لذيذًا. فنعبِّر مثلاً للكاهن أن القدّاس كان جميلاً، والعظة سريعة وجميلة. ألا نعلم أنّ الكلمة اللّذيذة الّتي نتناولها في القدّاس، هي لذيذة في الفمّ لكنّ طعمها مرٌّ في الجوف، في أحشائنا، لأنّها ستُفتِتنا من الدّاخل؟! ألم يكن هذا ما قاله صاحب الرؤيا، إنّه أكل السفر، فكان طعمه حلوًا في فمه، ولما وصل إلى أحشائه أصبح مرارةً، إنّه اكتشف أين هو؟ أنا أطلب منكم أن تنظروا إلى النّاس بنظر الله. إنّ الله قد ألبسنا عينه في المعموديّة، عندما آمنّا، عندما قبلناه، عندما تسميّنا باسمه. إنّ المسيح عندما صُلب وقام وصعد إلى السّماء وأرسل الروح القدس إلينا، فعل ذلك من أجل "كلّ ذي جسد". إنّ المسيح قد نظر أيضًا إلى الّذين يضطهدون المسيحيين ويقتلونهم، إنّ المسيح قد نظر إليهم، لكنّهم لم يقبلوه. أنا لا أطلب منكم أن نُشَرِّع لهم قتلنا وظلمنا، إذ علينا أن نكون ضدَّ الخطيئة وأن نحاربها. علينا أن ننظر الى الخاطئ بعين الرّحمة وذلك من أجل أن نفتح له نافذة كي يتوب. فليس المطلوب، أن نقبل وضعه، أي أن نقبل الخطيئة الّتي يرتكبها. فهل المسيح قَبِل أحد في خطيئته؟ عندما أتوا يسوع بالمرأة الزانيّة، قال لهم: من منكم بلا خطيئة فليرجمها بأوّل حجر. ولكن عندما ذهب الجميع، قال لها "اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة". إنّ طبيعة الله هي الحبّ وهو لا يستطيع إلاّ أن يحبّنا. إنّ الإله الّذي نعبده، طبيعته هي محبّة، فإنّ الله لم يقم بعمل محبّة بل إنّه كائن محبّ.

إنّ الله عندما قال في الكتاب لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا، كان يعني أنّه خلقنا على مثاله كائنًا محبًّا. أوّل صدمة تلقاها الله من الانسان كانت من آدم الّذي قال له إنّ المرأة الّتي أتاه بها هي السبب في أكله من الشجرة. أمّا قبل الخطيئة، فقدكانت المرأة بالنسبة لآدم لحمًا من لحمه وعظمًا من عظامه. عندما أتت الشهوة والمصلحة والكبرياء، أصبحت المرأة سببًا في فساد الأمور. كذلك قايين الّذي قتل أخاه لأنّ الله نظر إلى تقدمة هابيل بنظرةٍ لم تعجب قايين. إنّ هذه، مجرّد أمثلة لأمور كثيرة في هذه الدنيا. إنّ المسيح قد قُتل لأنّه قال إنّه يجوز العمل نهار السبت وهذا الأمر هو ضدّ الله بالنسبة لليهود، فَهُم اعتقدوا أنّهم بتلك الطريقة أي بقتل يسوع، يدافعون عن الله. عندما ندخل في مسألة الدّفاع عن الله، نصبح متّمردين وعاصين له. فإنّ كلّ الأصوليّات هي عدوّة لله، وكلّ المتشدّدِين هم أعداء الله مع أنّ همّهم هو الدّفاع عنه. هناك سبعة آلاف رجل لم تركع رِكَبُهم لبعل، فهل أنت يا إيليّا النبيّ ستدافع عن الله؟ فكان جواب الله على دفاعه هذا، بأنّه اختار نبيًّا آخر مكان إيليّا، إذ أصعده على مركبة ناريّة يفرح بها النّاس، لكنّه لن يعود بعد ذلك الحين نبيًّا. فعلينا الانتباه إلى أنّ ليست كلّ ترقية هي بالأمر الحسن. أنظروا إلى هؤلاء الّذين تتمّ ترقيتهم وإعطائهم الدروع إحتفالاً بنهاية خدمتهم، فالدرع هو تشريع الإلغاء. إنّ إيليّا انتهى دوره، عندما قرّر أن يدافع عن الله، حتّى القدّيسين ينتهي دورهم إن دافعوا عن الله، فالله لا يميّز بين هذا أو ذاك. نحن لا ندافع عن الله، إنّما نشهد له. إنّ الشهادة لله تكون نتيجتها صَلبُنا، بينما الدّفاع عن الله فنتيجته هي صلب الآخرين. أن نشهد لله نتيجته أنّنا نُصلَب، بينما نتيجة دفاعنا عن الله هي أن نَصلُب الآخرين. إن كنّا نتبع المسيح، فلا يحقّ لنا أن نحكم على هذا أو ذاك إن كان مؤمنًا أم لا، فحينها نكون قد دخلنا في مسألة الدّفاع عن الله، فلننتبه لذلك كي لا يسلِّمنا الله دروعًا . فآمل أن لا تستلموا دروعًا في حياتكم، وأن يتمّ إنهاء دوركم وإلغاؤكم.آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
12/4/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح العاشر إظهار بِرّ الله
https://youtu.be/DpJKqAmbGng

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية
الإصحاح العاشر
الأب إبراهيم سعد

12/4/2016

"أَيُّها الإِخوَةُ، إنَّ مَسَرَّةَ قَلبي وَطَلبَتي إلى اللهِ لأَجلِ إِسرائِيلَ هِيَ للخَلاصِ. لأَنِّي أَشهَدُ لَهُم غَيرَةً لله، وَلَكِنْ لَيسَ حَسَبَ المعرِفَةِ. لأَنَّهُم إذْ كانوا يَجهَلُونَ بِرَّ الله، وَيَطلُبُونَ أَن يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِم لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ الله. لأنَّ غايَةَ النَّاموسِ هِيَ: المسِيحُ لِلبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤمِنُ. لأنَّ مُوسى يَكْتُبُ في البِرِّ الّذي بالنَّاموسِ: إنَّ الانسانَ الّذي يَفعَلُها سَيَحيا بِها. وَأَمَّا البِرُّ الّذي بالإيمانِ فَيَقُولُ هَكَذا: لا تَقُلْ في قلبِكَ: مَنْ يَصعَدُ إِلى السَّماءِ؟ أَيْ لِيُحْدِرَ المسيحَ، أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلى الهاوِيَةِ؟ أَيْ لِيُصعِدَ المسيح مِنَ الأَمْواتِ. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ "الكَلِمَةُ قَريبَةٌ مِنْكَ، في فَمِكَ وَفي قَلبِكَ" أَيْ كَلِمَةُ الإيمانِ الَّتي نَكْرِزُ بِها: لأَنَّكَ إِنْ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقامَهُ مِنَ الأَمواتِ، خَلَصتَ. أنَّ القَلبَ يُؤمَنُ بِهِ لِلبِرِّ، والفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلخَلاصِ. لأَنَّ الكِتَابَ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لا يُخْزَى. لأَنَّهُ لا فَرقَ بَيْنَ اليَهُوديِّ واليُونانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا واحِدًا لِلجَميعِ، غَنِيًّا لِجَميعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ. فَكَيفَ يَدعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيفَ يَسْمَعُونَ بِلا كارِزٍ؟ وَكَيفَ يَكرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرسَلُوا؟ كَما هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا أَجمَلَ أَقْدامَ المُبَشِّرينَ بالسَّلامِ، المُبَشِّرينَ بالخَيراتِ. لَكِنْ لَيسَ الجَميعُ قَدْ أَطاعُوا الإِنجيلَ، لأَنَّ إِشَعياءَ يَقُولُ: يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنا؟ إِذًا الإِيمانُ بِالخَبَرِ، وَالخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ. لَكِنَّني أَقُولُ: أَلَعَلَّهُم لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! إِلَى جَمِيعِ الأَرضِ خَرَجَ صَوتُهُم، وَإِلَى أَقاصِي المَسكُونَةِ أَقوالُهُم. لَكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسرائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلاً مُوسَى يَقُولُ: أَنا أُغِيْرُكُم بِما لَيسَ أُمَّةً، بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُم. ثُمَّ إِشَعياءُ يَتَجاسَرُ وَيَقُولُ: وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُوني، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي. أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرائِيلَ فَيَقُولُ: "طُولَ النَّهارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعانِدٍ وَمُقاوِمٍ".

في هذا الفصل، يتكلّم بولس عن الّذين اتّخذوا النّاموس دينًا لهم ولكنّهم لم يفهموا مقصد الله منه، فاهتّموا بإظهار بِرِّ أنفسهم بسلوكهم وليس إظهار برّ الله. هذا من ناحيةٍ، أمّا من ناحية أخرى، فيركِّز بولس على البِرِّ بالإيمان. إنّ البِرَّ بالإيمان لا يقتصر على تصديق قصّة يسوع، فلكي تكون بارًّا بالإيمان عليك أن تؤمن بيسوع المسيح مخلِّصًا، وأن تؤمن بما قام به، عندئذٍ تكون بارًّا. إنّ الإيمان بيسوع المسيح يصل إلينا عبر الكرازة، أي عبر التبشير بكلمة الله. وفي حديث مار بولس مع أهل رومية، نلاحظ نفحته الأبويّة الرعائية، إذ يقول إنّ لديه مسّرة داخليّة وإنّه يصّلي دائمًا من أجل إسرائيل كي يَخلُصوا. إنّ كلمة "اسرائيل" في الكتاب المقدّس هي كلمة لاهوتيّة ليتورجيّة ولا تعني أبدًا المكان الجغرافيّ ولا تدّل على مجموعة النّاس الّذين لديهم هوّيات اسرائيليّة. أنت تنتمي إلى "إسرائيل" عندما يكون سلوكك وإيمانك بالله إيمان اسرائيل، إذ لا يكفي أن تكون مولودًا من يهوديّة لتكون اسرائيليًا. حين لا يظهر إيمانك بالله من خلال سلوكك أو حين ترفض الله والإيمان به، فأنت ما عدت اسرائيليًا وإن كنت مولودًا من أمٍّ يهوديّة. فكلمة "اسرائيل" تعني: الّذين لبّوا صرخة الله، فإنّ كلمة الله هي نداؤه لشعبه، ومتى نادى الله على من سمع النّداء أن يلبّي. فإن لبيّت نداء الله وتبعته، تنتمي إلى الكنيسة “ecclesia”. إنّ كلمة Ecclesia اليونانيّة متجذِّرة من فعل caleo ويعني "نادى". فالكنيسة، وهي كلمة موجودة في العهد القديم، تعني الجماعة الّتي سمعت نداء الله فاستجابت لندائه وأطاعته. إذًا لا يمكننا الحديث أو التّكلم عن كنيسة تضع لنفسها حدودًا، بمعزل عن سبب وجودها الّذي هو نداء الله لها. ومتى قَبِلْنا بهذا التعريف للكنيسة تصبح الكنيسة في حالة صيرورة دائمة لأنّ نداء الله دائم، وكلمة الله دائمة في التّاريخ وفي الزّمان والمكان. وطالما أنّ كلمة الله هي باقية ومستمرّة، تبقى الكنيسة مستّمرة طالما هي مرتبطة بكلمة الله، ومتى انقطعت الكنيسة عن كلمة الله لا يعود هناك وجود لها حتّى وإن استمرّت بأعضائها لكنّها لا تعود اسمها كنيسة إذ انفصلت عن كلمة الله، وهذا هو الأساس. غير أنّنا ما زلنا نقع في الفخ اليهوديّ إذ نعتقد أنّه مهما فعلنا نبقى كنيسة الله، وهذا أمرٌ خاطئٌ. إنّ الله سيبقى موجودًا أآمنّا به أم لا. صحيح أنّ الله قال إنّ أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة، تلك الكنيسة المؤلفة من خطأة. غير أن أبناء الكنيسة بتصرّفاتهم قادرون أن يَقْووا على الكنيسة ويهدموها، بل إنّهم أكثر خطورة عليها من أبواب الجحيم. فعندما يتصرّف أبناء الكنيسة كأنّ لا علاقة لهم بنداء الله، يتحوّلون إلى "مسيحيي هويّة" فقط، ويصبحون بالتّالي حزبًا وطريقة وجودٍ ويشبهون عندئذٍ الفريسيين. إذًا ماذا يميّز المجموعات عن بعضها؟ الّذي يميّزها هو أنّ هناك مجموعة اعتبرت كلمة الله سبب حياتها ووجودها كمجموعة، وهي لا تستطيع قطع "حبل الصرّة" بينها وبين كلمة الله لأنّها إذ ذاك تموت. هذا هو شعورها، هذا هو إيمانها وعقيدتها. وطريقة وجود هذه المجموعة، أي الكنيسة، ترتبط بطريقة شهادتها وسلوكها، وطريقة ظهورها للعالم. وكلّ نقاش بولس مع أهل رومية يدور حول هذا الموضوع وهو أن تمسّك اليهود بحرفية النّاموس، قد أفرغه من معناه. إنّ النّاموس وضعه الله لكي يكون صلة الوصل بينه وبين شعبه، فتكون كلمته هي الجسر الّذي يصل من خلاله ما يريده الله من شعبه. غير أنّ كلمة الله لا تُقيَّد بل إنّها قادرة أن تصل إلى جميع الشعوب، وإن لم يكونوا يهودًا.


أمّا أهل رومية فقد احتكروا وظنّوا أنّ لا أحد سواهم سوف يخلّص كونهم يؤمنون بالله، وقد فهموا كلام الله لهم "من يؤمن بي فيخلص"، على أنّ الخلاص محصورٌ بهم، إنّ الله لم يُعطِهِم حقّ الاستنتاج. إنّ الله تحدث معنا وطلب منّا أن نؤمن به فنخلص، ولكنّه لم يعطِنا الحقّ في تقرير مصير بقيّة الشعوب الّتي لم تؤمن به. إنّنا، نتيجة استنتاجاتنا لكلام الله، قد رسمنا صورتنا الخاصّة عنه غير أنّها ليست صورته الحقيقيّة. إنّ الله هو غير مُدرَك، ومجهول دائمًا أي أنّ عقولنا لا تستطيع احتواءه وفهمه. وهنا أتذّكر قصّة الراهب الّذي كان يمشي على شاطئ البحر وهو يفكِّر كيف يستطيع فهم الله والثالوث والعقيدة، واحتواءه بعقله. وبينما هو يمشي، ظهر له طفلٌ وطلب منه أن يُفرِغ البحر في حفرة على الشاطئ. لكن الراهب اعترض على ذلك قائلاً إنّ ذلك لأمرٌ مستحيل. عندئذٍ قال له الطفل إنّ عليه أن يُدرِك أنّ الله لا يُدرَك، ولا يستطيع عقله البشري احتواء الله. نحن لا نستطيع أن نفهم الله وبالتّالي لا نستطيع أن نحتوي إرادته، ومشيئته، وخياراته، وطريقته. إن الله يُخلِّص مَن يريد، ويسامح مَن يريد، هذا شأنٌ إلهيّ لا علاقة للإنسان به، ومتى فهمنا ذلك خفّ اضطرابنا وقلقنا. إنّ مسألة خلاص البشر أجمعين هي مسؤوليّة الله، وإيماني به يجب أن يكون محصورًا في علاقتي به. غير أنّ الطريف هو أنّنا نريد ان نحصر الله فينا، نحن شعبه. إن كلمة الله والنّاموس كانت لكي تَحصُر الشعب بالله الواحد غير أنّه لا يمكننا أن نحصر الله فينا وحدنا، فكلمته هي لتحصرنا نحن ولا تستطيع أن تَحدَّهُ أو تَحصُره ولا يحقّ لنا بالتّالي أن نحاسب الله على كيفيّة خلاصه لمن ليسوا بشعبه. أمّا الامر الأصعب فهو أن تبرهن أنّك على علاقة طيّبة بكلمة الله وأنّك خاضع لها ويُسَرّ الله فيك، وذلك من خلال تصرّفك مع آخر وغالبًا ما يكون غريبًا عنك أي أنّه ليس من جماعتك. فيصبح مقياس علاقتك بالله ثلاثيّة وليست ثنائية. فمشكلة اليهود مع النّاموس هي أنّهم اعتقدوا أنّ النّاموس هو أنّ الله حصر علاقته بهم فقط وبالتّالي أصبح سؤالهم عمّا يجب فعله ليكونوا على علاقة طيّبة بالله. في كلّ الديانات، يستطيع المؤمن أن يُعدِّد لك الأمور المطلوبة منه ليكون قريبًا من الله إلاّ في المسيحيّة، فالمؤمن لا يستطيع ذلك، لأنّ الله لا يطلب منه شيئًا.
إنّ المسيحيّ لا يعرف ما هو المطلوب منه كي يرضي الله. غير أنّنا لا نقبل بهذا الجواب من الله، إذ اننّا كبشر نسعى لنكون مرتبطين بقانون، والانسان لديه ميل ليكون خاضعًا لقانون كي يرتاح نفسيًّا. إليكم مثالًا، فعندما تتسلّم وظيفة وتكون لك مطلق الصلاحيّة، تجد نفسك مرتبكًا لا تدري ما هو المطلوب منك تحديدًا، لذلك تطالب أن تحدّد مسؤوليتك في العمل، فتكون مطمئن الضمير. إنّ الله لا يطلب من الانسان شيئًا سوى أن يعيش كلمة الله في حياته اليوميّة أي مع شخص آخر وهذا الآخر لا يمكن أن يكون الله لأنّه ليس من الطبيعة الانسانيّة، ولكنّ الله أرسل ابنه لنا، وعلمنّا كيف نتعامل مع بعضنا البعض ونعبّر عن علاقتنا بالله من خلال الآخر. ولكن عندما أدرك الانسان أن لا شيء محدَّدًا مطلوبًا منه، فضَّل القانون والفتاوى والنّاموس، وهذا ما كان يقوله بولس لأهل رومية، إنّ الله لا يطلب منهم شيئًا محدّدًا وإنّهم فضّلوا النّاموس. إنّ بولس يبدأ بكلام لطيف ومديح لأهل رومية ليعود بعد ذلك فيوبخّهم على سيئاتهم: هذه هي طريقته في التعبير إذ يستعمل طريقة ليجذب إليه السّامع عبر استخدام كلام المدح للسّامع ثمّ يعود لينتقده، ويخبره ما يجب فعله. بدأ بولس حديثه مع اهل رومية قائلاً إنّ مسرّة قلبه وطلبته إلى الله هي من أجل خلاصهم، ثمّ مدحهم قائلاً إنّه لمس عندهم غيْرة على كلمة الله لكنّها ليست مقرونة بالمعرفة وبذلك أرادوا أن يثبتوا برّ أنفسهم وبالتّالي فإنّهم لم يخضعوا لبرّ الله أساسًا. وعندما يتكلّم بولس عن الكلمة يقول: "إنّ الكلمة قريبة منك". إنّ كلمة "قريبة" لا تعني القُرب في الزمان أو المكان، فكلمة قريبة منك تعني أنّها في فمك، وهذا ما يعود فيفسِّره بولس لاحقًا فيقول إنّها قريبة منك، في فمك، وفي قلبك والمقصود بذلك كلمة الإيمان الّتي نكرز بها. إن بولس يربط بين الكلمة في الفمّ، والكلمة في القلب: فإن كانت الكلمة في الفمّ فقط دون القلب، فهذا ما يسّمى بالكلام النّظريّ ولا يمّت إلى الواقع بصلة؛ أمّا إن كانت الكلمة في القلب فقط دون الفمّ فلن يسمع الآخر ما أنتَ تؤمن به. إذًا من الواجب أن يكون هناك تزاوج بين الكلمة الّتي في فمك وبين الكلمة الّتي في قلبك، وهذه مسؤوليّة المسيحيّ المؤمن. لكن الخطر هو وجود عدم انسجام بين الكلمة في فمك ومفعولها في قلبك: إذ لا تستطيع أن تتكلّم عن تغيير الكلمة في حياتك في حين أنّك تدفنها في قلبك وأنت قد وضعت عليها حجرًا لن يتزعزع ولن تسمح بأن يدحرجه أحد؛ ولا تستطيع أن تستحي بالشهادة لحبّ الرّبّ الّذي قد تكون قد اختبرته. غالبًا ما نقع في هذا الفخ فنتردّد في أن نتكلّم وأن نشهد خوفًا من أن نُعَيَّر من قبل النّاس إن شهدنا لإيماننا، ونقوم بحسابات كثيرة ونضع أحكامًا مسبقة لما ستكون ردة فعل النّاس على كلامنا، وبعد طول تفكير، نتراجع عن الشهادة بإيماننا إذ إنّنا قرّرنا ذلك استنادًا لشكوكنا وظنوننا وتفكيرنا. لذلك فإنّ مثل تلك الحسابات الكثيرة قد تمنع الحقيقة من أن تنتقل إلى الآخرين، وقد يكون في انتقالها إليهم من فمك سببًا لخلاصهم. فلا تستهينوا بالفرصة التّي يمكنكم استغلالها من أجل أن تشهدوا لإلهكم، لأنّها قد تكون فرصة للخلاص.
فإنّ إيمانك الّذي تخبئه ولا تعترف به لا يخلص أحد به. أمّا إيمانك المترجم والّذي يصل إلى الآخرين فهو يؤدّي إلى الخلاص حتّى وإن هلكتَ. حين تريد أن تشهد للمسيح لا تجعل من أولوياتك تنقيّة ذاتك تمامًا من كلّ خطاياك وأن تصبح طاهرًا أوّلاً، فإن فكِّرتَ هكذا فأنت لن تبشِّر بالمسيح أبدًا لأنّك لن تكون طاهرًا كليًا إذ إنّك ستبقى مجبولًا بالخطايا حتّى مماتك، وسيأتي المسيح في مجده ثانيّة قبل أن تبشِّر به. إنّ في ذلك كبرياء، إذ تعتقد أنّك المثل الصالح غير أنّ يسوع هو المثل الصالح، علينا التبشير بالمسيح وليس بذواتنا. فلا تضعوا حججًا واهيّة مثل أنّك لا تستطيع التبشير بعدم الكذب إن كنت أنت تكذب، فإنّ الكلمة الّتي تعترف بها قد تصل إلى مستمع آخر يسمعها ويفهمها بطريقة مختلفة عنك، لذلك إن لم تفعل الكلمة فيك فعلها، حتمًا ستفعل فعلها في شخصٍ آخر وتغيِّره وتخلِّصه حين يسمعها منك. وبالتّالي مسؤوليتنا كمؤمنين كبيرة جدًّا: إنّه لمهمٌّ جدًّا أن تعترف بالكلمة وتخبر بها. إن الانسان يبحث على أن تكون نتيجة عمله بحسب روزنامته في توقيته المناسب له. أمّا توقيت الله فمختلف عن توقيتك، وطريقة تفكيره في الامور مختلفة عن طريقتك، وكيفيّة حصول الامور بالنسبة لك مختلفة عن كيفيّة حصولها بالنسبة لله.
وهنا عدنا إلى مسألة مدى معرفتك بمنطق الله، كن متأكدًّا إنّك لا تعرف منطق الله تمامًا. لم يقبل اليهود فكرة كونهم متساوين أمام الله مع أولئك الّذين آمنوا بالله وهم ليسوا يهودًا في الأصل.
الشرط الأوّل هو أن تؤمن بالله، وكي تؤمن يجب أن تكون البشرى قد وصلت إليك، أي أن أحدهم أخبرك بها، وهنا نرى أهميّة الكارز أي المبشِّر. إن كلمة كارز تأتي من فعل kirissoباليونانيّة وهي تأتي من كلمة kirigma وتعني البشارة أو التبشير والتعليم المرتكز على أساس التبشير. إنجيل بولس إلى أهل كورنتس هو أنّ المسيح مات من أجل خطايانا، ودفن وقام وظهر للرّسل. فإنجيل بولس يُركزّ على أن المسيح ظهر للرّسل، فلو لم يظهر المسيح للرّسل، مَنْ كان سيخبرنا بحقيقة القيامة؟ إذًا إنجيل الخلاص يتضمّن بشارات الرّسل بالمسيح القائم. وهنا نكتشف كيف أنّ الله ربط نفسه بالإنسان لكن المشكلة تكمن في مزاجيّة الانسان الّتي قد يستخدمها للتبشير أحيانًا وقد تدفعه إلى الاعتكاف عن ذلك أحيانًا أخرى، فعلى المبشِّر أن يتحيَّز الفرصة ليشهد لإيمانه وليبشِّر به. وعندما تسنح لك الفرصة كي تبشِّر وأنتَ تتردّد وتتراجع، إن ذلك من شأنه أن يجعل أشخاصًا يهلكون في حال لم تتكلّم وتخبر النّاس بالكلمة. هذا أمرٌ يختبره الكاهن كثيرًا خاصّةً عندما يعِظ، إذ إنّ العِظة تكون له فرصة للشهادة. فالكاهن يشعر بالرهبة عند إلقائه عظة على مسامع المؤمنين، إذ إنّه في حال مات بعد العظة، سيسأله الله عن عظته هل كانت مجرّد كلمات منمّقة أم أنّها كانت سببًا لخلاص أحدهم، وهل كانت هذه العظة صالحة لتجعل أحدهم يتوب ويرجع إلى الله ويقول: "ارحمني يا الله، أنا الخاطئ".

فإن لم يشعر الكاهن أنّ وقت العظة هو الوقت الوحيد المتبقي من حياته كي يشهد للمسيح، فهو سيتفوّه بأمور لا فائدة منها. على الكاهن أن تكون تعزيته في عيون النّاس الّذين سمعوه يبشِّر بكلام الله فأحدثت الكلمة فيهم تغييرًا. أن تقول كلمة الله هي الفرصة الّتي تجعلك تموت حين تنتهي من الكلام، أم تجعل الآخر يموت حين انتهائك من الكلام. إنّ الشيطان لديه حِيَل مهولة وإحدى أبرز هذه الحِيَل هي أن يقنعك بأنّ كلامك فارغ وغير مهمّ، فتتراجع عن الشهادة لإيمانك بالله. إن ما يهمّ الشيطان هو ألاّ تقال كلمة الله. فإن لم يستطع أن يُسكِتَك بالحسنى أي بالإغراء فإنّه يفعل ذلك بالقوّة. أنتَ تبشِّر بالسّلام وبالخير، ومع أنّ الكثيرين يبشرون بالكلمة لكن لم يُطِعْ الجميع الانجيل. إن بولس يتكلّم عن واقع، إذ إنّ البعض لم يصدِّقوا كلمة الله. إذًا الإيمان بالخبر ولكن ليس بأي خبر، الخبر بكلمة الله. إنّ الكلمة قد وصلت إلى أقاصي الأرض، فلم يكن أحدٌ مستثنى. موسى قال لهم إنّهم إن لم يطيعوا كلمة الله فإنّه سيرسل لهم أمّة غبيّة ويغيظهم بغباوتها. إنّ العلم والمعرفة كانا لدى اليهود، لكنّهم لم يقبلوهما، وأصبحوا كأيّ أمّة غبيّة في العالم ولا فرق بينهما. إنّ الله دائمًا يبسط يديه لشعبه لكنّ شعبه يعاند ويتمرَّد.

إن الكلمة قادرة على أن تصل إلى كلّ الاماكن وخاصّة إلى الاماكن الّتي لا نتوقعها، وبخاصّة إلى الاماكن الّتي لا نتوّقع أن يخرج منها شيءٌ صالح:" أيخرج من النّاصرة أمرٌ صالح؟". سألتُ مرّةً أحد السجناء عن مدّة وجوده بالسّجن، فأجابني عن مدّة سجنه الّتي هي سبع وعشرون سنة كما يلي: أنا مسجون منذ ست وعشرين سنه ومحرّر منذ سنة، أي حين بدأت أقرأ الكتاب المقدّس. هناك أشخاص في هذه الاماكن بدأوا يعرفون نعمة الله وهم موجودون في هذه الاماكن المظلمة وقد استناروا. ولكن هناك أشخاص أيضًا لم يتغيّروا. إذًا نحن لا نستطيع أن نعرف إلى أين تذهب كلمة الله وكيف تعمل خاصّة مع الاشخاص الّذين قد استسلمنا وقطعنا كلّ رجاءٍ بهم بأن يتغيّروا ويتحوّلوا صوب الأفضل. لذلك على الانسان أن يتعلّم أن يرحم الآخر، وعندما يرحم غيره، يكون ذلك بمثابة إنجاز قداسة. فالقداسة هي أن يكون لدينا ميل صوب الرّحمة. الرّحمة هي أن نقبل أنّ هناك أشخاصًا قد تتوب دون أن نقطع الأمل من اصطلاحهم وتَغَيُّرِهم. ولا يمكننا أن ندين الآخر ونشّك في توبته إذ أنّنا لسنا الله ونحن لا نقدر أن نعرف الكِلَى والقلوب كما هو الله. فمن كانت كلمة الله محفورة في داخله، فإنّ الغشاوة الّتي على عينيه تكون أقلّ من تلك الّتي ليست محفورة في داخله كلمة الله. فعندما تكون العين غليظة فهي غير قادرة على الرؤية بشكل واضح لأنّ القلب متصلِّب وقاسٍ. وعندما يكون القلب ليّنًا، تصبح العين قادرة على الرؤية بشكل أفضل وأوضح. فإنّ كانت كلمة الله محفورة في قلبك، فإنّك تملك عندئذٍ عيونًا مختلفة عن الّذين يعتبرون الامور الدينيّة نواميس وفتاوى: أي أنّه يجب القيام بهذا أو لا يجب القيام بذلك. إنّ مسرة قلبي وطلبتي إلى الله من أجلكم هي للخلاص.

ملاحظة: لقد دوِّنت هذه المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
6/3/2016 الاسبوع العظيم كيف يموت البّار دون خطيئة؟
https://youtu.be/V_cjAVmvhP0

"الاسبوع العظيم"
الأب إبراهيم سعد

6/3/2016

إنّي محتارٌ ماذا أريد أن أقول لكم لأنّنا قادمون على موسم غريب عجيب: موسم الفصح. إنّه غريبٌ عجيبٌ، لأنّنا غير قادرين على إدراك فهم هذا السّر العظيم بعقلنا البشريّ. وغالبًا ما يكون الأمر الذّي لا نقبله بعقلنا مرفوضًا من قِبَلِنا، إذ أنّ الانسان يرفض كلّ ما لا يفهمه ولا يدركه بعقله البشريّ، فإنّ الانسان عدّو ما يَجهل. إنّ ما حصل ونستذكره في الاسبوع العظيم، هو أمرٌ لا يستطيع العقلُ البشريّ أن يفهمه. إنّ هذا الأسبوع يتطلّب من الانسان أن يُكرِّسُ بعضًا من وقته للصمت من أجل قراءة معمّقة للعمل الذّي قام به يسوع. ومهما كان الانسان سيئًا معكم، فإنّه عندما يرى أنّ حبَّكم له ما زال قويًّا وثابتًا فإن لم يجعله ذلك يصبح شخصًا صالحًا، فأقلّه هذا الحبّ سيكون قادرًا على ردعه عن سيئاته. ومن الممكن ألا يفهم الآخر بشكل صحيح حبّكم له، فعندئذٍ لن يتغيَّر هذا الانسان. إنّ كلّ إنسان يستطيع أن يعطي عذرًا لنفسه، عندما يتصرّف بطريقة خاطئة مع الآخر كأن يكونَ غير مقتنعٍ ومدركٍ لحبِّك له فيعبِّر عن ذلك على هذا النحو قائلاً أنّك لا تحبّه، وأنّ ما تقوم به تجاهه غير مفهوم بالنسبة له. كلّ من يريد التمسّك بسيئاته وعدم السعي للتغيير يقوم بِلَوم الآخرين وإتهامهم أنّهم لا يحبونّه وبهذا الفعل يكون يستَدِّرُ منهم المزيد من العاطفة، يتصرّف هكذا ليستدِّر تشريعًا لموقفه الذّي يقوم به أكثر ممّا هو طلب للعاطفة. كلّ واحدٍ منكم يعاني من وجود شخص قريب منه، لا يفهم حبّه له بطريقة صحيحة. لذلك نرى هذا الشخص مُهملًا، ويؤذي نفسه، غير مبالٍ، ويؤذي الآخر دون سبب. لكن فليخبرني أحدكم ما هو ذنب الرّب؟ ما الذّي فعله الرّبّ؟ ما الذّي يتوجَّب على الرّب بعد أن يُظهِرَه لكم غير تحقيق أهوائكم يا بشر؟ عمليًا، ما من أمرٍ يجب القيام به لإظهار الحبّ لم يقم به الرّبّ. ولكنّنا كي نصدِّق أنّ الرّبّ يحبنا، ننتظر منه أن يحقِّق لنا رغباتنا لنرى في ذلك فقط تصديقًا من قِبَلِنا لحبّ الرّبّ لنا وكلّ ما يقوم به لأجلنا عدا ذلك لا نفهمه تعبيرًا عن حبّه لنا. وكأنّ تحقيق الرغبة والهوى هو الحبّ. مشكلتنا مع الرّبّ تكمن في مفهومنا للحبّ.

في هذا الاسبوع، يرينا الله عظمة الحبّ. كيف يمكن أن يكون شخص قادر على كلّ شيء ضعيفًا أمام شخص آخر غير قادر على القيام بأي شيء؟ كيف يمكن لله القادر على كلّ شيء أن يُخضِعَه انسانٌ لا يستطيع أن يفعل شيئًا؟ إنّ هذا الأمر لا نستطيع أن نفهمه. كيف يمكن أن يكون هناك شخص لا يريد منك شيئًا سوى أن تحبّه وتقبل حبّه وأنتَ تعاتِبُه وكأنّه يريد كلّ شيء منك؟ إنّه لا يريد شيئًا بل إنّه يعطيك ويريدك أن تأخذ منه أمّا أنتَ تعاتبه وكأنّك تَمُنُّ عليه بكلّ شيء! هناك مشكلةٌ ما عند الانسان.

إنّ هذا الاسبوع العظيم يكشف لنا أنّنا في أزمة مع أنفسنا: هذا الرّجل، هذا الانسان الذّي صلبتموه صارَ ربًّا ومسيحًا. ولنفترض أنّنا أخطأنا ولم نعرف أنّه المسيح فقتلناه وصلبناه، ولكن اليوم، بعد أن أدركنا الحقيقة، ما الذي يبرّر ما نقوم به أي الاستمرار في خطئنا وأذيتنا؟! هذه هي المشكلة. علينا أن نقتنع أنّ الله لا يريد شيئًا منّا وعلينا أن نفهم ذلك، إنّه يريد فقط أن نحبّه. ما الذّي يخيفنا: هل هو التغيير الداخلي الذّي يتطلبه منّا فَهمُنا لهذا الحبّ، حبّ الرّب لنا، وأنّنا نجد أنفسنا غير قادرين على هذا التغيير، لذلك نفضِّل اللجوء إلى الصمت؟ هل نخاف أن نقبل حبّه، لأنّ كلّ حبّ يملك طاقة على حرق الخطأ والخطيئة؟ إنّ الحبَّ مثلُ النّار يحرق القش والخشب، ويظهر الذّهب. إنّ الله الذّي عُلِّق على الصليب، إستطاع أن يفهمه الغرباء، ولم يفهمه من هم قريبون منه لأنّهم لم يريدوا ذلك. إنّ قائد المئة الوثني، الضابط الرومانيّ الذّي يستمِّد سلطته وقوتّه من الظلم والقساوة، سجد أمام هذا الانسان المصلوب المهان
الضعيف. وأمّا الباقون، الذّين تأتي سلطتهم من الله إذ إعتقدوا أنّهم جنوده، مارسوا تلك السلطة لكي يقتلوا الله، وهم يثغرون الشفاه، مبتسمين، ويقول الإنجيل إنّهم استهزؤوا به قائلين: "خلَّص آخرين ونفسه لم يستطع أن يخلِّصها". لقد أعطوه صفة الضعيف لكي يعتقدوا بأنّهم قادرون على السيطرة عليه، غير أنّهم كانوا مخطئين في ذلك إذ أنّ المسيح هو الذّي سمح لهم أن يروه ضعيفًا فيمارسوا سلطتهم عليه ويسحقوه. هل يستطيع أحد أن يجد تفسيرًا لمثل هذا
الحبّ؟ لا أحد، إذًا فلنختبئ خلف الصمت. بهذا، علّم يسوع رؤساء الكهنة اليهود أنّ المحبة هي إنتباه للآخر وإلى حاجته وتلبيتها. فالكهنة اليهود فَهِمُوا المحبة على أنّها انتباه الآخر إلى رغبتي وتلبيتها أكانت خاطئة أم صحيحة. لم يعترض المسيح على النّاموس، لم ينتقده مع علمه أنّه لم يخلِّص أحدًا. إنّ النّاموس هو كلمة الله، فإن لم يستطيع الانسان أن يعيشه فهذا لا يعني أنّ كلمة الله غير صالحة. عندما أحضر اليهود المرأة الخاطئة الزانية أمام يسوع ليحكم عليها فيرجموها بالحجارة لأنّ القانون ينّص على هذا الأمر، لم يمنعهم المسيح من رجمها كي لا يُعاكس النّاموس، بل قال لهم من منكم بلا خطيئة فليرجمها بأوّل حجر. إنّ المسيح ليس ضّد النّاموس إنّما هو مع تنفيذه بشكلٍ صحيح، وبالتّالي من كان منكم خاطئًا، عليه أن يُرجم هو أيضًا. فإن كان الأمر كذلك فلن يبقى إنسان على هذه الأرض. إنّ اليهود يعلمون القانون جيّدًا، علموا أنّه لم ينتقد القانون لكنّه أحرجهم لذلك إنسحبوا. هذه المرأة نفسها أنفقت ثروةً على قدميّ يسوع، لأنّها فهمت أنّه غفر لها فكان ذلك جوابها على حبه لها. "أحبّت كثيرًا لأنّه قد غُفِرَ لها الكثير"، ولم يقل يسوع أنّه غُفِر لها لأنّها أحبَّت كثيرًا. فالغفران ليست نتيجة الحبّ إذ أنّه ليس شرطًا للغفران إنّما غَفَرَ لها المسيح ولم يطلب منها لقاء ذلك أن تحبّه بل هي التّي أرادت أن تحبّه. فما معنى أنّ يحبّ أحدٌ الآخر؟ إنّ ذلك يعني أنّ شخصًا ما قد قَبِل أن يكون وجوده مرتبطًا بوجود الآخر. أنا ضّد الانتحار لكنّني أفهم أن يكون هناك شخص ينتحر نتيجة فقدانه الحبّ، نتيجة فسخ علاقة مع محبوبته. فذلك الشخص قد فهم الحبّ بجزءٍ منه وفهم أنّ الحبّ يعني أنّه لا معنى لوجوده دون المحبوب. الحياة لا تبقى حياة عند ذلك، وتصبح عدّوة لك تحاربك لتهرب منها وتلتجئ إلى شيءٍ آخر هو الموت.

وبالتّالي عليك أن تختار إمّا الحياة وإمّا الموت، فإذا حاربتك الحياة فإنّك تذهب إلى الموت. فبعد أن عَلِمَ المسيح بمقولة أنّ "دون حبّ لا حياة"، وهو يعلم أنّنا غير قادرين على حبّه، وهو لا يبني أمالاً على وهم أن نحبّه، وجد المسيح حلاً ثالثًا لهذا الأمر غير الموت والحياة، فقرّر أن يذهب إلى الموت ويلغيه حتّى إذا هرب الانسان من الحياة ومعانيها صوب الموت وكلّ صُوَرِه-والخطيئة هي إحدى صُوَر الموت-لا يجد موتًا بل حياةً أفضل. هل يستطيع أحدٌ أن يفهم مثل ذلك الحبّ؟ أليس الأفضل أن نصمُت! إذًا في البدء، كان هناك خياران بين الحياة وبين الموت، لكن مع المسيح، أصبح الخياران إمّا حياة قصيرة وإمّا حياة أبديّة. لذلك من يوجد فيه شيء من حبّ الله يعيش حياةً أبديّة في هذه الحياة القصيرة، لذلك ترتسم على مُحياه أي على وجهه، علامات التعزية والفرح والسلام والامان فيضيء للآخرين ويُتَرجم ذلك خدمةً وعطاء وغفرانًا ومسامحة. لذلك أكثر الذّين يحقّ لهم أن يتكلّموا عن فصح يسوع هم القديسون الذّين لم يتكلّموا عن فصح يسوع، إذ أنّهم سكبوا الانجيل بقالبٍ جديدٍ من خلال ترتيلةٍ، أو صلاةٍ أو رسمٍ أو عملٍ أو خدمةٍ أو إرشاد، فهم لم يأتوا بشيء خارج عن الانجيل. لذلك نجد أن صلوات الفصح هي عبارة عن القصة المكتوبة في الانجيل ولكن بطريقة مرتّلة ولا شيء آخر خارج عنه أو زيادة عليه: هذا المسيح الذّي جعلتموه غريبًا فَهِمَه الغرباء، ذاك الذّي جعلتموه معزولاً قد أصبح مفهومًا من قِبَل المعزولين، الذّي جعلتموه مجرمًا فهمه المجرمان اللذّان كانا مصلوبين معه على الصليب إذ قال أحدهم عن يسوع إنّه بار وإنّه حقًا ابن الله. إنّ أفضل طريقة كي تقتل أحدهم هو أن تجعله غريبًا: غرّبوه فقتلوه. ويقول الانجيل:"وأخذوه خارج المحلّة"، وبالتّالي لم يعترفوا به أنّه واحدٌ من جماعتهم، فأخرجوه خارج أورشليم. وعندما أقول أنّي قد طردتُ أحدًا من حياتي، هذا يعني عمليًا أنّني أصبحت لا مباليًا تجاهه وأنّه لا يعنيني، لا بل أُصبِح مُباليًا بأذيته وأسعى إليها حتّى لو اضطررتُ إلى الاستعانة بشهود زور من أجل ذلك: "وأتوا بشاهدَيّ زور". ما هي شهادة شاهِدَي الزُّور على يسوع؟ الشهادة هي أنّه قال إنّه سيهدم الهيكل ويَبنيهِ في ثلاثةِ أيامٍ. إنّ الجهلَ كان عدّو المسيح، إذ لم يفهم اليهود ما الذّي قاله لهم، وما الذّي يعنيه في كلامه هذا. إذًا من هو عدّو المسيح؟ الجهل هو عدّو المسيح، فجهلنا لحبّ المسيح لنا هو بمثابة المسيح الدّجال. فالمسيح الدّجال لن يأتي عبر إعلان أحد الأشخاص أنّه المسيح، ومن ثمّ نُدرك أنّه المسيح الدّجال، فنحن لن نعرف المسيح الدّجال إذ أنّه يشبه المسيح الحقيقيّ. ولن يعرف أحدٌ أنّه المسيح الدّجال إلاّ من كان لديه علاقة صحيحة ومتينة مع المسيح الحقيقيّ. إنّ الأمر يشبه شخصًا متزوجًا من إحدى الفتيات التّي لديها أخت توأم، إنّه هو الوحيد القادر على معرفة مَن مِنَ الاثنتين هي إمرأته حقًّا ولا يستطيع أحد أن يغشّه، فهناك سرّ العلاقة التّي تجمع بينهما ولا يستطيع أحد أن يميّزه غيرهما. فإنّ كنّا نملك سّر العلاقة مع المسيح، لن يغرّنا المسيح الدّجال ولن يوهمنا أو يغشّنا المسيح الدّجال. لكن جهلنا لهذا الحبّ ولهذه العلاقة يخلق فينا المسيح الدّجال ولأنّ المسيح الدّجال يُعيِّشُنا في وَهمٍ ويُدَّخِل فينا صلاحيةً لرغباتنا وليس صلاحية لحاجاتنا فنتبعه ونترك المسيح. "من تريدون أن أطلق لكم؟ أبرأباس أم يسوع؟". أتريدون ذاك الذّي تعتقدون أنّ معه ستحصلون على الحريّة، فبرأباس هذا كان قائدًا عسكريًّا، مهمته تحرير اليهود من ظلم الرومان. أتريدون هذا الذّي يجلب لكم وَهمَ الحريّة لتتعاطفوا معه أم تريدون يسوع. إن إسم برأباس مؤلف من كلمتين: "بار" و"أبّا". كلمة بار تعني باللغة الارامية الابن وأبّا تعني الآب.

إنّ يسوع فقط في الانجيل من استطاع أن ينادي الآب أبّا، فهذه الكلمة لا يستطيع أحد سوى الابن الحقيقيّ أن يقولها للآب الحقيقي. وبالتّالي السؤال المطروح على الشعب هو أي نوعٍ من "ابن الآب" تريدون، أتريدون النّوع الذّي يهتّم لرغباتكم ولأهوائكم ولشهواتكم ويلبيها لكم على طريقتكم، أم ذاك الذّي يهتّم بحاجاتكم وبنائكم لكن على طريقته؟ هنا تكمن المشكلة: أتريدون طريقتكم أم طريقته، وهنا يأتي الفصح ليقول لنا إنّنا أمام موقف علينا أن نتخذّه. نحن نختبئ ليس بالصمت إنّما خلف الدَّمعة المزيفة: فالدمعة المزيفة ليس أنّكم تقصدون أن تكون دمعتكم مزيقة إنّما المقصود بها هو عندما يتحوّل أسبوع الآلام إلى اسبوع بكاءٍ وحزن على يسوع، على ما فعله به اليهود، ونصبح في حالة شفقة على يسوع، وهنا يكمن التزيِّف. فيسوع لا ينتظر شفقتنا عليه، فهذا لا يفيده شيئًا. وهل نحن نبكي على يسوع المصلوب، ونحن نعلم أنَّ الصليب هو باب القيامة؟ فكيف نبكي على ما ورثناه بموت المسيح؟ فالبكاء على ما أورثنا إيّاه المسيح هو في قمّة الغباء وهذا يدّل على أمرين إمّا أنّنا لا نُدرك أهميّة وقيمة ما ورثناه من موت المسيح، وإمّا أنّنا لا نصدّق حقيقة وجود هذه الورثة. هناك بعض الكنائس تُزَنِّر بالسوّاد، وهناك كهنة وأناسٌ يرتدون الأسود يوم الجمعة العظيمة.كيف استطعنا أن نُدخِل يسوع إلى عالمنا عِوَضَ أن نُدخِل عالمنا على حياة يسوع، هناك خلل معيّن في مكان ما. إن الاسبوع العظيم هو أسبوع الصمت، فيسوع يدعونا إلى الصمت، وعلينا أن نسكت ونسمع ما الذّي حدث وسيحدث لأجلنا. هناك إنسان يحبّ انسانًا آخر فأتاهُ بشيء معيّن وذلك لأنّه ينبع من صدقه ومحبته غير أنّ الآخر لم يفهم الأمر بهذه البساطة أعتقد أنّ الآخر أي الحبيب يغرّه بهذه الهدّية لأنّه يشعر بالذنب لاقترافه أمرًا معيّنًا، أم لسببٍ آخر. نحن نطبِّق طرق تصرّفاتنا مع الآخرين في علاقتنا بالله. لكن السؤال الذي يُطرح هو ما الذّي يمكن أن يُجبر الله على أن يقوم بكلّ ما قام به من أجلنا؟ إنّه الله لذلك هو يجد نفسه مُجبرًا. إنّنا نقول أنّ لا أحد أقوى من الله غير أنّني أقول لكم أنّ هناك من هو أقوى من الله، حبّه لنا هو أقوى منه، لأنّه لو كان الله هو الأقوى لاستطاع أن يتغلَّب على حبِّه لنا وحاكمنا بالعدل، غير أنّ حبّه لنا هو أقوى منه فغلبه وعندئذٍ حاكمنا بالرّحمة، وليس فقط بالرّحمة، حاكمنا بطريقة غير موجودة في قاموس قانوننا البشريّ: كيف يموت البّار دون خطيئة؟ والدليل هو ما نقوله في أحاديثنا: كم أنّ الدّنيا هي ظالمة إذ يموت الأخيار ويستمِّر الاشرار في العيش.

فإن كنّا لا نقبل أن يموت الانسان البّار ويبقى الانسان الشرير في حياتنا اليوميّة، كيف استطعنا قبول موت البّار عندما تعلّق الأمر بيسوع؟ وهنا نلقي اللّوم على اليهود حينها الذّين قبلوا ونتبرى من قرارهم هذا. أقول لكم إنّه في ذلك الحين ما كنّا لنكون أفضَل منهم، فكنّا إخترنا بين موقف يهوذا أو بطرس أو اليهود أو كالذّين هربوا. هل نحن مستّعدون لنكون مثل مريم ويوحنّا الحبيب الّلذين وصلا إلى أقدام الصليب؟ إنّ يوحنّا الحبيب استّعد لأنّه كان يرى ليس الصليب إنّما المصلوب، وهنا الفرق. تتمة...
1/3/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح التاسع موضوع الخلاص
https://www.youtube.com/watch?v=R3jlVvQfWO0

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل روميه
الإصحاح التّاسع
الأب إبراهيم سعد

1/3/2016

"أقول الصّدق في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهد لي بالرّوح القدس، إنّ لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإنّي كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد، الّذين هم إسرائيليّون، ولهم التّبنّي والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد، ولهم الآباء، ومنهم المسيح حسب الجسد، الكائن على الكلّ إلهًا مباركًا إلى الأبد، آمين. ولكن ليس هكذا حتّى إنّ كلمة الله قد سقطت. لأنّ ليس جميع الّذين من إسرائيل هم إسرائيليّون، ولا لأنّهم من نسل إبراهيم هم جميعًا أولاد. بل بإسحاق يدعى لك نسل، أي ليس أولاد الجسد هم أولاد الله، بل أولاد الموعد يحسبون نسلًا، لأنّ كلمة الموعد هي هذه: أنا آتي نحو هذا الوقت ويكون لسارة ابن، وليس ذلك فقط، بل رفقة أيضًا، وهي حبلى من واحد وهو إسحاق أبونا، لأنّه وهما لم يولدا بعد، ولا فعلا خيرًا أو شرًّا، لكي يثبّت قصد الله حسب الاختيار. ليس من الأعمال بل من الّذي يدعو، قيل لها: "إنّ الكبير يستعبد للصّغير، كما هو مكتوب: أحببت يعقوب وأبغضت عيسو"، فماذا نقول؟ العل عند الله ظلمًا؟ حاشا، لأنّه يقول لموسى: إنّي أرحم من أرحم، وأترأف على من أترأف. فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل لله الّذي يرحم، لأنّه يقول الكتاب لفرعون: إنّي لهذا بعينه أقمتك، لكي أظهر فيك قوّتي، ولكي ينادى باسمي في كل الأرض. فإذًا هو يرحم من يشاء، ويقصي من يشاء، فستقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأنّه من يقاوم مشيئته؟ بل من أنت أيّها الإنسان الّذي تجاوب الله؟ العل الجبلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطّين، أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان، فماذا؟ إن كان الله، وهو يريد أن يظهر غضبه ويبيّن قوّته، احتمل بأنّاة كثيرة آنية غضب مهيّأة للهلاك، ولكي يبيّن غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدّها للمجد، الّتي أيضًا دعانا نحن إيّاها، ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضًا. كما يقول في هوشع أيضًا: سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والّتي ليست محبوبة محبوبة، ويكون في الموضع الّذي قيل لهم فيه: لستم شعبي، أنّه هناك يدعون أبناء الله الحيّ، وإشعياء يصرخ من جهة إسرائيل: وإن كان عدد بني إسرائيل كرمل البحر، فالبقية ستخلص، لأنّه متمّم الأمر وقاضِ بالبرّ. لأنّ الرّبّ يصنع أمرًا مقضيًّا به على الأرض، وكما سبق إشعياء فقال: لولا أنّ ربّ الجنود أبقى لنا نسلاً، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة عدم إيمان إسرائيل. فماذا نقول؟ إنّ الأمم الّذين لم يسعوا في أثر البرّ أدركوا البرّ، البرّ الّذي بالإيمان. ولكن إسرائيل، وهو يسعى في أثر ناموس البرّ، لم يدرك ناموس البرّ. لماذا؟ لأنّه فعل ذلك ليس بالإيمان، بل كأنّه بأعمال النّاموس. فإنّهم اصطدموا بحجر الصّدمة، كما هو مكتوب: ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة، وكل من يؤمن به لا يخزى".

إنّه من أكثر الفصول وجدانيّة في هذه الرسالة، وهنا علينا القيام بشرح بسيط لنفهم مغزى كلّ رسالة مار بولس إلى أهل رومية. إنّ اليهود اعتقدوا أنّ كلّ يهودي مولودٌ من أمٍّ يهودية دخل بهذا الفعل في الميثاق الإلهيّ أي انتمى إلى شعب الله المختار أي أنّه بالنسبة لليهود إنّ الولادة الجسديّة من أمٍّ يهوديّة تكفي لينّضم الإنسان إلى شعب الله المختار. غير أنّ بولس قال لهم أنّ الأمر ليس كذلك، فليس كل شخص إسرائيلي هو حقًا إسرائيلي. إنّ كلمة "إسرائيل" في الكتاب المقدّس هي كلمة لاهوتيّة غير أنّها أصبحت في عالمنا اليوم كلمة تقنيّة تعبّر عن دولة. إنّ الله لم يُسَمِّ دولة اسمها إسرائيل ولم يشرِّع وجودها. إنّ الله لم يتكلّم عن دولة إسرائيل اليوم، وهذا ما يُجمِع عليه اليهود المتشدّدون، ومن بينهم جماعة اسمها "ناتوري كارتا"، التّي ترفض فكرة أنّ لليهود دولة وتقع هنا في قسم من أنحاء العالم. فإنّ الله لم يعد اليهود بدولة محدّدة، إنّ الله وعدهم بالخلاص المشروط بحفظ الوصايا والعمل بها. وبالتّالي لا يكفي أن تكون مولودًا من أمٍّ يهوديّة لكي تنتمي إلى شعب الله وتكون مُخَلَّص، بِغَضِّ النّظر إن آمنت أم لا. وهنا بولس يقوم بتصحيح هذه الذهنيّة الخاطئة عند اليهود. وتصحيح هذه الذهنية شكَلَّت مشكلة كبرى لدى اليهوديّ.

بدأ الأمر مع إبراهيم، هذا الرجل العجوز الذي لم يكن لديه أولاد، وعنده جارية اسمها هاجر. وبعد مشورة بشريّة ومشيئة إنسانيّة، رأى إبراهيم وسارة ضرورة وجود أولاد للمحافظة على بكوريّة إبراهيم، لذا تَقرَّر إنجاب إبراهيم لولد له من هاجر وهذا ما حصل. إنّ ذلك كلّه هو مشيئة إنسانيّة بحتة: هذا ما قرّره البشر فكانت الثمرة إسماعيل. أمّا من جِهة أخرى، إنّ الله زار إبراهيم من خلال الملاك، وَوَعدَهُ بأنّ يحقِّق وعده له وخاصّة بعد أن قام إبراهيم بترك أرضه وعشيرته وكلّ ما يملك، استجابة لطلب الرّبّ. إنّ الله سيحقِّق وَعدَهُ لإبراهيم، لأنّه يريد أن يحقِّق مشروعه الخلاصيّ. إنّ وعد الله هذا، جعل إبراهيم يطرح تساؤلات واستغرابا في أمر تحقيق هذا الوعد. أمّا سارة فضحكت عند سماعها هذا الوعد المستحيل بشريًّا فهي قد أصبحت غير قادرة بشريًّا على الإنجاب إذ أنّها كانت مُسِّنَّةً. عند سماع ضحكة سارة، قال الملاك لإبراهيم أنّ الطفل سيكون اسمه:" اضحك"، أي إسحق، وذلك لكي يتذّكرا دائمًا أنّ الله سيحقِّق وعده لهما. ولم يقل كاتب هذه الرواية في العهد القديم: "وعرف إبراهيم امرأته فولدت إسحق"، وذلك ليقول لنا بهذا الأمر أنّ ولادة إسحق هي قرار إلهيّ وليس محض بشريّ أي أنّه ليس فقط نتيجة علاقة جسديّة. إنّ هذه الولادة هي نتيجة تدّخل إلهيّ، وولادة اسحق لا تشبه ولادة إسماعيل، تلك الولادة التّي كانت محض بشريّة. إنّ إسماعيل هو ابن الجارية أمّا إسحق فهو ابن الحرّة، وبالتّالي إنّ الله سيحقِّق مواعيده، وهو مستّعد لذلك، حتّى وإن كان ذلك على حساب القانون البشريّ الطبيعيّ، فالذّي يهمّ الله هو تحقيق مشروعه الخلاصيّ. وبالتّالي إنّ الولد البكر هو الذّي يرث الأب، إنّه يرث اسم العائلة أيضًا، هذا بحسب القانون البشريّ. إنّ الله هو الذّي يُقرِّر من هو البكر ولمن تُعطى البركة، كما فعل مع يعقوب وعيسو إذ أعطى الله البركة ليعقوب، مع العلم أنّ هذا الأمر في القانون البشريّ يسمّى تزويرًا، غير أنّنا لا نستطيع الاعتراض على ما فعله الله، فجبلة الطين لا تستطيع أن تلوم صانعها على ما فعله بها. إنّك لا تستطيع أن تلوم الله على ما فعل أي على تغيير كلمته، إذ نكون الفعل خرجنا عن الإيمان. إنّ الله قال كلمته أي القانون البشريّ، قالها لكي يَضبُطَك ويضع لك حدًا. ولكن لم يقل كلمته من أجل أن يَحصُرَ نفسه ويقيِّد ذاته. فالله هو الخالق ونحن جبلته: هذا هو الله، فإنّ كنت لا تريد أن تعبد الله بحجة أنّه ديكتاتوري، لا تعبده، أنتَ حُرّ.

علينا أن نتخلّى عن ذهنيّة أنّ الله محبّ ورحيم، وبالتّالي لا يحقّ له خرق القوانين الطبيعيّة التّي صنع. لا نستطيع كبشر منع الله من أن يخرق القوانين فالله هو حرّ ولا نستطيع تقييده أو أسرِه. فعندما يقول إنسانٌ ما أنّ الله مُحِبّ فهو يضع تفسيرًا خاصًّا به يناسبه لكلمة محبّة. فتفسير الانسان لكلمة محبّ أو رحوم، لا تنطبق بالضرورة تمامًا مع تفسير الله لمعنى هاتين الكلمتين. والدليل هو عندما يقول الانسان إنّ الله، كونه محبًّا، عليه ألاّ يفعل ما فعل، بل كان عليه أن يفعل أمورًا محدّدة، وذلك حسب مفهوم الانسان لكلمة محبّ. فإذا سلَّمنا جدلاً بهذا المنطق، وطلبنا بالمقابل أن تفسِّر لنا ما الذّي تفهمه أنتَ بكلمة محبّ لنرى إن كان يتطابق مع مفهوم الله للمحبّة كي تستطيع أن تلوم الله على ما يفعل. فهل كلمة محبّ بالنسبة لك يا إنسان، تعني أن إن أخطأ أحدهم إليك سبعين مرّة، تبقى على محبتك له؟ بالطبع لا يفعلها الإنسان. إذًا كيف تستطيع أنتَ يا إنسان أن تطلب من الله أمورًا أنتَ لا تستطيع فعلها وتلومه على ما يقوم به، فعليك يا إنسان ألّا تنسى إنّك الجبلة والله هو الجابل، فلا تعترض على ما يقوم به الله، فإنّ الله لديه تفسير آخر للحبّ ويعرض علينا تفسيره للحبّ ويدعونا لنقبل به. فإن قبلنا مفهوم الله للحبّ، نستطيع عند ذلك أن نلوم الله على ما يفعله. وبالتّالي لا نستطيع لوم الله لمحبته ورحمته للنّاس انطلاقا من مفاهيمنا الضيّقة لهذه الكلمات.


إذًا هناك تفسيران ومفهومان مختلفان. وهذا أيضًا ما نراه في المفهوم البشريّ لكلمة معيّنة، فكلمة واحدة يختلف اثنان على تفسيرها مثالاً على ذلك، الجمال فإنّ ما هو جميل بالنسبة لك هو بشع بالنسبة لآخر وكذلك الآمر بالنسبة للذكاء ومفاهيم أخرى. أكثر المشاكل الإنسانيّة ترتكز على اختلافهم في تفسيرهم للكلمات. علينا أن نتّفق أوّلاً على معنى الكلمات التّي نستعملها وليس على الكلمات بحدِّ ذاتها. إنّ كلمة "الله"، لا يفهمها جميع النّاس بالطريقة نفسها. المشكلة تكمن في أنّنا نختلف في تفسير المفاهيم، والحلّ يبدأ بعرض كلّ طرف تفسيره للكلمات المستعملة ليدور النقاش حول اختلافي معك في تفسيري لكلمة معيّنة، ومن ثمّ يطرح السؤال إن كنت أستطيع لوم الآخر انطلاقا من مفهومه لكلمة معيّنة. إنّ العلاقات البشريّة هي هكذا: لوم الآخرين على كلمات تفوّهوا بها وقد فسّرناها نحن كسامعين بغير المعنى الذّي قصده المتّكلم. هكذا هو الأمر بين العاشقين وبين الازواج والاولاد. إنّ السّامع يسمع كلمة الآخر ويفسِّرها انطلاقا من حالته النفسيّة الآنيّة، وليس من قصد المتكلّم بها. فإن كنت أعيش في حال من الضغط النفسيّ أفهم الكلمة انطلاقاً من الضغط الذّي أعيشه وتفسيري للكلمة حينها يختلف عما يقصده المتكلّم نفسه. وهذا يؤدي إلى أزمة ومشكلة لا تُحَلّ إلاّ بالمصارحة والتّفاهم. علينا إذًا أن نتعاطى مع الله وكأنّه حبيبنا وصديقنا وقريبنا فنستطيع عند ذلك أن نفهمه. فإذا تصّرفنا مع الله كأنّه غريب فنحن لن نفهمه أبدًا. وهذا الأمر صحيح بشريًّا إذ لا يمكن أن تفهم إنسانًا أنتَ لا تُتقِن لغته. فالله يقول لليهود من خلال الرّسول أن يحاولوا فهمه إذ أنّه عندما قرّر أن يُخلِّص البشريّة اختارهم ليبدأ معهم مسيرة خلاص البشريّة. اختارهم، هم الذّين كانوا في العبوديّة، معتقدًا بذلك أنّهم سيفهمون معنى الحريّة كونهم اختبروا معنى العبوديّة. فاختارهم ليحرّرهم فتصرّفوا معه كعبيد. وبالتّالي، إن ذهنية العبد مع السيِّد لا ترتكز على الحبّ، بل فيها اغتنام فرصة للانتقام، إذ ليس من السهل أن نجد عبدًا يتمنى الخير لسيِّده، حتّى وإن كان هذا السيِّد صالحًا، إذًا العبد يتعامل مع سيّده انطلاقا من الوضع الذّي يطرحه السيِّد.

فإنّ هذا الله الذّي تعامل معه اليهود على أنّه سيّد قال لهم أنتم أبنائي، أنتم "ابني البكر"، ولكنّهم ما زالوا يتصرّفون معه كسيّد وبالتّالي لا فرق بينه وبين بقيّة الشعوب التّي لا تعرف الله. وبالتّالي اليهود الذّين كانوا ضمن إطار الخلاص وضمن شعب الله أصبحوا الآن خارجًا عن هذا الإطار انطلاقاً من تفكيرهم الخاطئ. وإن أصبح هذا الشعب خارج إطار الخلاص فقد أصبحوا بالتّالي كسائر الأمم. وبالتّالي إن خلَّص الله سائر الأمم، لا يحقّ لليهود الاعتراض على الله لتخليصه بقيّة الشعوب، إذ أصبح لليهود فرصة أخرى للخلاص بأن يخلّصه الله مع سائر الأمم كونه أصبح مثلهم، فعليه أن يشكر الله على ذلك. إنّ الشعب اليهودي قد أَفشَل كلمة الله له. لذلك أيضًا في العالم، ضمن الجمعيّات الكنسيّة، عند دخول عنصر جديد، نحنو عليه كونه ما زال فتيًا في الجماعة لكن عندما يبدأ هذا العنصر بطرح أفكار نيِّرة، محبّة، يتغلغل الحسد والغيرة إلينا. ونتيجة عدم قبولنا لأفكاره الجديدة والتّي تفوقنا بالخدمة في الكنيسة، نبرِّر ذلك لذواتنا بأنّه ما زال فتيًّا في الجماعة ولا يحقّ له التجديد في الجماعة. هذه هي تمامًا مشكلة إسرائيل مع الله، مشكلة اليهود مع الله، إذ اعتقدوا أنّهم أهمّ من سائر الشعوب، وعندما رأوا أن بقيّة الشعوب هي مهمّة في نظر الله، استغربوا الأمر ولم يتقبّلوا ذلك، وبدأوا بلوم الله على ذلك. إنّ يسوع المسيح، في أسبوع الآلام، "الذّي قتلتموه وصلبتموه"، لماذا قُتِل؟ ما هو ذَنبُهُ؟ ذنبه هو أنّه قال لكم أنّكم مثل سائر البشر وأنّه أتى ليحقِّق مشروع أبيه الخلاصي ألاّ وهو خلاص البشر أجمعين. هذا الأمر أزعج اليهود ولم يقبلوا به أبدًا ولاموا يسوع على ما فعله وذلك لأنّ الله قد قال لهم أنّهم شعبه في العهد القديم. ولكن إن سُئِلوا هل حققّوا ما طلبه الله؟ قالوا لا، واعترضوا قائلين أنّه وإن لم ينفِّذوا كلام الله فعلى الله تخليصهم لأنّه وعدهم بذلك. لقد طالبوا يسوع بأن يسير كما يرون هم الله وحسب نظرتهم له، ولأنّه لم يقبل بذلك قتلوه واعتقدوا أنّهم بذلك ألغوه. وبالتّالي أعادوا تكرار قصّة قايين وهابيل مع يسوع، "قبل الله تقدمة يسوع النّاصري ولم يقبل تقدمتهم"، وبالتّالي أخذوا مكان قايين وقتلوا يسوع، هابيل الجديد وهم يدركون أنّه مسيح الله. إنّ اليهود يعلمون أنّ يسوع هو مسيح الله لكنّهم لم يقبلوه لذلك قتلوه. فلو قبلوه، لما عاد هناك شيء، يدعى بالأمّة اليهوديّة. "خيرٌ لواحد أن يموت عن الأمّة اليهوديّة"، هذا ما قاله رئيس الكهنة حينها.

إنّ كلّ واحدٍ منّا يملك ذهنيّة يهوديّة، إليكم مثالاً عن ذلك، عندما يتمّ نقل كاهن من وظيفة معينّة إلى أخرى ووضِع ْكاهن بديل عنه، يتعرّض عندها إلى إحباط وانهيار. عليه أن يُدرك أنَّ مهمته قد انتهت والآن حان دور آخر للقيام بهذه المهمّة. هكذا الأمر بالنسبة لله: يعترض الإنسان قائلاً إنّ الله ظالم، ولكنّك عندما تفهم أنّ مشروع الله هو خلاصك وخلاص من تكرهه أيضًا ستُدرك أنّ الله ليس ظالِمًا. فما يُسّمى ظلمًا بنظر النّاس يسمّى رحمة بحسب تفسير الله. إن الحبّ هو أمرٌ سهلٌ لكن من الصعوبة أن نرحم لأنّ الرّحمة تحتوي على الحبّ والتسامح، والرضى، والخدمة، والحنان والحياة وكلّ شيء. وليس صدفةً أن يتمّ استخدام صفة نسائية لله: الرحمة. إنّ الرحمة تأتي من كلمة الرَحِم. إنّ الرحمة إذًا تلد للحياة. إنّ الولد الذّي يعيش خارج الرحم لا يلبث أن يموت. إنّ الولد لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان داخل رحم والدته. إنّ الجنين يتغذى وهو في الحشا من والدته دون أن يقوم بأي مجهود. فكلّ طعام يأتيك من والدتك، ينمّيك ويغذِّيك. فمن غير المنطقيّ، أن يضعك الله في رحمه وتختار أنت طعامك. فعندما تقرِّر الدّخول إلى رحِم الله، تصبح غير قادر على اتخاذ قرارات في نوعيّة غذائك. فعندما تكون في رحِم الله، هو يغذّيك، فلا تطلب طعامًا من سواه، طالما أنت تغتذي من خير الله عليك. هذا ما كان يفعله اليهود، كانوا يؤمنون بالله لكن حين لا تُمطر كانوا يلجؤون إلى الإله "بعل"، إله الخصب عند الوثنين. وعندما يخوض إسرائيل حروبا كان يقول الله له ألاّ يخاف من خسارة الحرب لأنّ كلمته معهم. لكن عندما كانت أورشليم محاصرة، قال الله للملك آحاز، ألاّ يخاف فهو سينتصر في الحرب شرط عدم التعامل مع الوثنين. إنّ التعامل مع الوثنين ليست مسألة سياسيّة إنّما أمر يُضرّ بالعبادة للإله الواحد. وبالرّغم من كلام الله وتشجيعه لإسرائيل، خاف الملك آحاز من الموآبين الذّين حاصروه، وحاول أن يرضي الله ظاهريًّا عبر تقديم الذبائح ولكنّه تعامل في الخفاء مع الوثنين. وبالتّالي أصبح الله بالنسبة له من الكماليات، وليس ضرورة. وعندما تصل إلى هذه المرحلة أي عندما يصبح الله من الكماليات، فهذا يعني أنّك ما عدتَ تؤمن به وقد أصبحت بالتّالي كبقيّة الأمم. إذًا لا يحقّ لك أن تلوم الله إذا خلّص الآخرين. وبالتّالي أنت في أزمة روحيّة في علاقتك مع الله. لذلك، كي تشعر براحة ضمير، تلجأ إلى الأعمال التّقويّة: صوم، صلاة، نذورات، تمامًا كما فعل اليهود. نحن نعتقد أنّنا بهذه الأعمال نستطيع استرضاء الله، فنحن نملك ذهنيّة يهوديّة إذًا، إذ نقوم برشوة الله ليرضى عنّا لأنّنا قمنا بأعمال لا ترضيه. إنّ الله كان يعلم أنّ شعبه غير قادر على تحمّل مسؤولية في قراره لإتباعه، غير أنّ الله كان طويل الأناة تجاههم وتجاه ضعفهم. فإذا أراد الله أن يُظهر غضبه ويبيّن قوته تجاه تصرّفات شعبه الذّي تركه وقام بأعمال لا تُرضيه، لكنّه ما زال يحتمل تصرّفاتهم. هذا الذكاء الذّي يستخدمه الانسان ليسترضي الله، هو من الشرير إذ يُحاول خداع الله بأعماله الخارجيّة التّقويّة. يقول لنا الله: "أعطني قلبك يا بنيّ"، فالله لم يطلب منّا الاعمال التقويّة الطقسيّة. فالرّبّ لا يريد إلغاء الطقوس، بل يريدها بقوّة أكثر وبتواتر أكبر. ويطلب منّا أن نحافظ على معنى الصّوم الداخليّ، دون أن نُفَرِّغه من معناه. فتصرّفاتنا الخارجيّة ستجعل الله يندم على طلبه الصوّم منّا وذلك لأنّنا أفرغنا الصّوم من معناه الحقيقيّ. ففي أشعيا النبيّ نقرأ عن انزعاج الله من الأعمال التّي نقوم بها لاسترضائه، تلك الأعمال الخارجيّة الفارغة من معناها. فالله لم يطلب منّا الصّوم المرتكز على الأعمال التقويّة الزائفة إنّما طلب صومًا يرتكز على أعمال الرّحمة كأن نكسر مع الجائع خبزنا. صومنا لم يعد ذلك الصّوم الذّي طلبه الله ويرضى عنه، إنّما أصبح صومًا بُوذيًّا يرتكز على تهذيب الجسد وضبط الحواس. فليس المقصود بالصّوم أن نكون قدّيسين خلال فترة الصّوم ومن ثمّ العودة إلى حالتنا الأولى بعد الصّوم. هناك مشكلة في الذهنية لعيش الصّوم، هناك مشكلة في ذهنيّة علاقتنا بالله. فحذارِ أن يصل الله إلى مرحلة يرفض كلّ صلواتكم، وأعمالكم الرّوحيّة إذ تصبح آنذاك زنىً روحيًّا. فالزّنى الروحيّ هو عندما تُشارِك في القدّاس، وتقوم بواجباتك الرّوحيّة، وعند الانتهاء من الصّلاة تتصّرف بطريقة غير متجانسة مع صلاتك. إنّ الله يرفض مثل هذا التصّرف، إذ إنّك خائن، وكاذب. فالله يدعوك إلى أن تحلّ مشكلتك مع ذاتك أوّلاً بكلّ صدقٍ. فعندما يرى الرّبّ تصرّفاتنا، سيُضطر إلى تغيير طريقته معنا، إذ أنّه طويل الأناة، سوف يستبدل الطريقة ولكنّ لن يغيّر مشروعه بخلاص البشر. كان اليهود يعتقدون أنّهم احتكروا الخلاص جرّاء علاقتهم هذه بالله. فمشروع الخلاص لا يرتكز على خلاص اليهود فقط، خلاص الرّبّ هو لكلّ النّاس. إنّ الله سوف يغيّر استراتيجيته في العمل ليجعلنا نفهم مشروعه الخلاصيّ، وذلك خلال عدم رغبته في قبول صلوات المؤمنين في المعابد. وهنا نرى أننا نشعر بالشفقة على الله إذ باعتقادنا لا يمكن أن يكون الله إلهًا دون شعب، فنعرض عليه انضمامنا إلى شعبه. إن الله قادر أن يختار شعبًا جديدًا ليخلّص من خلاله البشريّة.

إنّ الخلاص كما تكلّم عنه بولس في رسالته إلى أهل روميه هو أن الله أخرج الشعب من كنفه، وجعل كلّ الشعوب ذات أهميّة واحدة في الحصول على الخلاص. فشعب الله أصبح من خلال تصرّفاته مثل كافة شعوب الأمم. هذا هو كلّ صراع بولس في موضوع الخلاص، فتكلّم عن الذّين هم بحسب الجسد والذّين هم بحسب الرّوح. فمن هو بحسب الجسد، ليس بالضرورة أن يكون ابناً لله. وقد كَتَب يوحنّا الانجيليّ في السياق نفسه فقال: "الذّين وُلِدوا ليس من مشيئة رجل ولا دَمّ ولكن من الله وُلدوا". هنا نرى مقارنة يقوم بها الانجيليّ بين سارة وهاجر. ولادة إسماعيل كانت نتيجة مشيئتين إنسانتين قد اتفقتا، لكن إسماعيل نتيجة هذا الاتفاق لا يستطيع أن يرث، إنّما يرث من وُلِد نتيجة مشيئة الله أي من إسحق. ولكنّ ليس لا يكفي أن تكون ابن اسحق أي من الشعب اليهوديّ لترث. فالذين يؤمنون بالله أي بيسوع هم أولاد إبراهيم أكانوا يهودًا أم وثنيين. لقد أصبح الشعب اليهوديّ بلا هويّة أي بلا وجود. هذه هي الحقيقة المرّة لكلّ الذّين احتكروا الله ويتصرّفون بطريقة شريرة باسم الله. هذا ما يقوله بولس لليهود أنّهم أصبحوا بلا هويّة. غير أنّ الله طويل الأناة، فهو سيخلّص الشعب اليهوديّ مع الذّين لا هويّة لهم قبل حلول اليوم الأخير لذلك يدعوهم بولس للتّوبة إذ أنّها تُشكِّل فرصة جديدة للشعب اليهوديّ.

ليس كلّ بني إسرائيل هم إسرائيليون حقًا. لذا تكلّم عن بقيّة باقية تُلَخَّص بمريم العذراء، إنّها البقيّة الباقية من شعب إسرائيل. مريم هي البقيّة الباقية من شعب إسرائيل، إنّها إسرائيل التّي بقيت حافظة للإيمان، لذلك حقّق الله مشروعه فيها وأكمله، فجاء يسوع وكان هو إسرائيل البكر، ومن بَعدِهِ كلّ مَن اتخذ يسوع ربًّا وإلهًا له، أصبح من البقيّة الباقيّة لشعب إسرائيل. إذًا إخوتي، الخلاص هو عبارة عن نفقٍ مفتوحٍ من جِهَتين وفقط من هم داخل هذا النفق هم مخلَّصون، فمن هم خارجًا هم الذّين رفضوا الله وهم بالتّالي لم يقبلوا الخلاص، وبالتّالي لا تستطيع أن تلوم الله على عدم خلاصِكَ. فوجودك خارج النّفق هو بسبب عدم إيمانك وعدم حفظك للكلمة من الفساد. مشكلة بولس هي أنّه عندما أعلن نفسه خادمًا لشعب الله، كان يحقّ له أن يعتاش من الهيكل، لكن بولس رفض أن يأكل ممّا يقدّم للمذبح، كي لا تتعطّل كلمة الانجيل وتفشل. فقد ذهب بولس للعمل في صناعة الخيام بعد أن اتُهم مِن قِبَلِ الذّين يبشِّرُهم أن هدفه هو أن يعيش من تقدمات الهيكل دون وجه حقّ. ونتيجة هذا العمل الشاق في الخيم وصناعتها، أصبح بولس شبه أعمى لذا لم يتمكن من كتابة رسائله بنفسه غير أنّه تعبيرًا عن محبّته لهم كان يقول لهم في خاتمة كلّ رسالة إنّه يكتبها هو بيده. أنظروا كم عانى بولس من شعب الله المختار وعبّر عن ذلك قائلاً إنّ له حزنًا عظيمًا وإنّه يوّد أن يكون محرومًا من يسوع المسيح، إذا كان ذلك يؤدي إلى خلاص هذا الشعب. هل هناك أعظم من هذه المحبة المسيحيّة التّي تصل إلى درجة تمنّي الانسان الهلاك لنفسه في سبيل خلاص الشعب! هل هناك محبة غير محبة يسوع المسيح التّي أدّت بالرسول بولس إلى تنويره إذ حرقت له قلبه وعقله. كان للشعب اليهوديّ كلّ شيء: الخلاص، العهود والوعود، والمجد، والتبنيّ، والعبادة ولكنّهم لم يكونوا على قدر المسؤوليّة. لا يكفي أن تكون مولودًا من أُمّ يهوديّة لتكون من أبناء إسحق، فأنت ما زلت ابناً بالجسد ولست ابناً بالرّوح بعد. يقول بولس للشعب أنّه يكفي أن يفكِّروا بما صنعه الله لهم، ليكتشفوا عظمته. ويقول الله للشعب أنّه بالرّغم من كلّ تصرّفاته، لم يستسلم الله بعد ولم يعتكف عن تكرار محاولات لخلاصهم، وإنّه سيكمّل مشروعه. إنّ المسيح يعمل، والله الآب يعمل من أجل خلاصهم. فكلّما ارتكبوا خطيئة، كلّما أفاض الله نعمته، ومحبته، ورحمة عند خيانة الشعب.

إنّ المسيح يغسل عروسته أي الكنيسة بطريقة يوميّة من خلال كلمته ليجعلها نظيفة، هذا هو سّر الزواج. فعلى سّر الزواج أن يكون كالمسيح والكنيسة عروسته. افرحوا بهذا الزوج الذّي هو المسيح، إنّه ساذج بحبّه وما زال يصدِّق الشعب على الرّغم من معرفته به. إنّه يعرفنا أنّنا غير صادقين لكنّه يتصرّف معنا كأنّنا صادقون في توبتنا. أمّا نحن كبشر فلا نتصرّف كذلك مع إخوتنا، فحتّى لو كنّا نعرف أنّ أحدهم هو صادق معنا غير أنّه متّى أخطأ إلينا لا نعود نُصَدِّقه أبدًا وتنكسر الثقة بيننا ونصبح بحاجة إلى براهين. ما أعظم حبّ الرّبّ لنا! إنّ يسوع المسيح الذّي نلومُهُ على محبته لنا ونحن لا نتبنّى معناها، يقول لنا إنّه صدَّق توبتنا إليه. لذلك نفهم ما تطلبه الكنيسة الغربيّة بضرورة الاعتراف قبل كلِّ مناوَلَة، إنّه لأمرٌ جيّد، إذ إنّ الكنيسة تدعوكم إلى التوبة إذ إنّ الله سيصدِّق توبتكم ويجعلكم أبناء من جديد ويدعوكم إلى مشاركته الوليمة، لكن علينا الانتباه أن ينفذ صبر الله لنا، على الرّغم من طُول أناته، ولكن هذا لا يجب أن يجعلنا في حالة خوفٍ. إنّ الرّبّ يريد أن يقيم عهدًا جديدًا مع شعبه الذّي تعرّف عليه ومع الذّي لم يتعرّف على الرّبّ بعد. هذا العهد الجديد ليس كالعهد الذّي قطعه الله مع آبائهم. هذا العهد سيجعله الله في قلوبهم وليس على ألواح من حجر. وهذا العهد هو أنّ الله سيغفر الخطايا للشعب ولن يذكرها من جديد، هذا هو العهد الجديد. فعندما تنامون وتستيقظون صباحًا في كلّ يوم، وعندما تطلبون رحمة الله ستنالونها أصادقين كنتم أم لا. هذا ما يدعونا بولس إليه أن نحبّ أعداءنا ومن يسبب لنا الأذية لأنّه عند ذلك نكون كمن يركم جمرًا على رأس الذّي سببّ لنا الإساءة، فيشعر بجمرة حبّنا. هذا الأمر لا أحد يقوم به إلا يسوع والله الآب أبو يسوع. إيّاكم أن تتكبّروا فتصدِّقوا أنّكم تستطيعون أن تكونوا مثل يسوع. عليكم، كي تكونوا مثل يسوع، أن تقبلوا محبته لكم بصدق، ودون مصلحة، إنّما لكي تفرح وتتعزّى ولتنمو بالوعي واليقظة، إذ إنّ كلمة الله التّي تفرح بها، تنحتك وتجعلك إنسانًا جديدًا، وتفعل فعلها فيك، تجعلك إنسانًا جديدًا وليس صنمًا، إنسانًا جديدًا على صورة يسوع بالرّغم من ضعفك ومن خطاياك. إنّ هذه الكلمة التّي قبلتها بفرح وبصدق وجعلتك إنسانًا جديدًا، ستظهر للآخرين من خلال تصرّفاتك معهم فيصدِّقون كلمة الله ويعرفون أنّ الله محبّ ورحيم وأنّ الله موجود فيؤمنون بالله، فيدخلون في الخلاص، جرّاء ما رأوه فيك من تصرّفات وتغيير في حياتك، وبسبب كلمة الله التّي قبلتها ونحتتك من جديد.

نحن نسير صوب الفصح، ولسنا ذاهبين للمشاركة في دفِن، لا تبكوا لأنّه صُلب بل افرحوا أنّ المسيح صُلِب لأنّه لو لم يُصلب المسيح لما كنّا اليوم حاضرين ههنا. نحن كنّا تحت أسياد الشهوة، أمّا الآن فنحن أبناء الحريّة. وإذا رفصنا أن نحصل على حريّة الأبناء لا نستطيع لوم الله على ما سيفعل. كلّ نقمة الانسان على الله هي أنّه يعيِّر الله الذّي قال أنّ من يقرع الباب سوف يُفتح له ويسألونه لماذا لم يُفتح لهم، صلّيْنا لك ولم تستجب. إنّ كلّ ذلك هو عمليّة ابتزاز لله. إنّ المسيحيّين لبنانيون إذ يحبّون رشوة الله وابتزازه. فلا تعتقد نفسك مميّزًا عن سواك من البشر. إذا أردت أن تكون مميّزًا، عليك المتاجرة بكلمة الله إذ لا أحد من الشعب الأممي يتاجر بكلمة الله. لو أنكر العالم بأسره، ورفض السبع مليارات نسمة الإيمان، وبقيت أنت المؤمن الوحيد على الأرض، تيّقن أنّ لديك القوّة نفسها التّي يملكها السبع المليارات لو آمنوا. كلّ محبة الله ورحمته تفيض عليك وحدك، في حال رفض الجميع الإيمان، وأنت تستطيع ان تعيد الإيمان للعالم بأسره. "ثقوا أنا غلبت العالم"، فإن لم تؤمنوا بهذا، فإن فصحكم طقوس وعادات.

ملاحظة: ألقيتْ المحاضرة في مركزنا الروحي – زوق مكايل، ودوِّنت من قبلنا بتصرّف. تتمة...
23/2/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح الثامن التّعزيات الروحيّة
https://www.youtube.com/watch?v=zdeli83ws3w

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية
الإصحاح الثّامن
الأب إبراهيم سعد

23/2/2016

"إذًا لا شيء من الدّينونة الآن على الّذين هم في المسيح يسوع، السّالكين ليس حسب الجسد بل حسب الرّوح، لأنّ ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيئة والموت، لأنّه ما كان النّاموس عاجزًا عنه، في ما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطيئة، ولأجل الخطيئة، دان الخطيئة في الجسد، لكي يتمّ حكم النّاموس فينا، نحن السّالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، فإنّ الّذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمّون، ولكن الّذين حسب الرّوح فبما للرّوح، لأنّ اهتمام الجسد هو موت، ولكنّ اهتمام الرّوح هو حياة وسلام، لأنّ اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنّه أيضًا لا يستطيع، فالّذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله، وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الرّوح، إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له، وإن كان المسيح فيكم، فالجسد ميت بسبب الخطيئة، وأما الرّوح فحياة بسبب البرّ، وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه السّاكن فيكم، فإذًا أيّها الإخوة نحن مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد، لأنّه إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون، لأنّ كلّ الّذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله، إذ لم تأخذوا روح العبوديّة أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التّبني الّذي به نصرخ: يا أبا الآب، الرّوح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أنّنا أولاد الله. فإن كنّا أولادًا فإنّنا ورثة أيضًا، ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنّا نتألّم معه لكي نتمجّد أيضًا معه، فإنّي أحسب أن آلام الزّمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا، لأنّ انتظار الخليقة يتوقّع استعلان أبناء الله، إذ أخضعت الخليقة للباطل-ليس طوعًا، بل من أجل الّذي أخضعها -على الرّجاء، لأنّ الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله. فإنّنا نعلم أنّ كلّ الخليقة تئنّ وتتمخّض معًا إلى الآن، وليس هكذا فقط، بل نحن الّذين لنا باكورة الرّوح، نحن أنفسنا أيضًا نئنّ في أنفسنا، متوقّعين التّبنّي فداء أجسادنا، لأنّنا بالرّجاء خلّصنا. ولكنّ الرّجاء المنظور ليس رجاءً، لأنّ ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا، ولكن إن كنّا نرجو ما لسنا ننظره فإنّنا نتوقّعه بالصبر، وكذلك الرّوح أيضًا يعين ضعفاتنا، لأنّنا لسنا نعلم ما نصلّي لأجله كما ينبغي. ولكنّ الرّوح نفسه يشفع فينا بأنّاتٍ لا ينطق بها، ولكنّ الّذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الرّوح، لأنّه بحسب مشيئة الله يشفع في القدّيسين، ونحن نعلم أنّ كلّ الأشياء تعمل معًا للخير للّذين يحبّون الله، الّذين هم مدعوّون حسب قصده، لأنّ الّذين سبق فعرّفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين، والّذين سبق فعيّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضًا. والّذين دعاهم، فهؤلاء برّرهم أيضًا. والّذين برّرهم، فهؤلاء مجدّهم أيضًا. فماذا نقول لهذا؟ إن كان الله معنا، فمن علينا؟ الّذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضا معه كل شيء؟ من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الّذي يبرّر، من هو الّذي يدين؟ المسيح هو الّذي مات، بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضا عن يمين الله، الّذي أيضًا يشفع فينا. من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ كما هو مكتوب: إنّنا من أجلك نمات كلّ النهار. قد حسبنا مثل غنم للّذبح، ولكنّنا في هذه جميعها يُعظَّم انتصارنا بالّذي أحبّنا، فإنّي متيقّن أنّه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوّات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علوّ ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله الّتي في المسيح يسوع ربّنا."

إنّ هذا الاصحاح هو أكثر الاصحاحات تعزيةً لنا وتقويةً لنا. في المقطع الأوّل، يضعنا القديس بولس أمام واقعٍ، أمام تحدٍ. أمّا في المقطع الثاني، فهو مليء بالتعزيّات الروحيّة، إنّه يتوّجه للذين قبلوا أن ينقادوا بروح الله، أي أن يسلكوا بحسب الرّوح. كلّ خوف الانسان هو من الدينونة. إنّ بولس يقول للذين يسلكون بحسب الرّوح، إنّه إن كنتم للمسيح، فأنتم لستم تحت دينونة. في النّصّ الاوّل لا يقوم بولس بمقارنةٍ بين جسدكم وروحكم إنّما بين الّذين يسلكون بحسب الروح القدس وطاعته، وبين الّذين يسلكون بحسب الجسد أي بحسب هذا العالم ومشيئته، فمشيئة هذا العالم بعيدةٌ عن طاعة الرّوح. فالمقارنة إذًا ليست بين روحكم وجسدكم، إنّما بين سلوك الانسان الّذي هو وفق نهج هذا العالم ولغته. إليكم مثلاً لغة هذا العالم تقول: "إن لم تكن ذئبًا أكلتكَ الذئابُ"، أمّا بحسب الرّوح، فهي ليست كذلك. بحسب الجسد، "عامل النّاس كما يعاملونك" أمّا بحسب الرّوح ولغته فيقول "عامل النّاس كما تحبّ أن يعاملوك"، والفرق بينهما كبير جدًّا. إذًا لغة الجسد أي لغة العالم هي لغة إلغائية للآخر الّذي لا ينسجم أفكاره مع أفكارك، وتصرّفاته مع تصرّفاتك، وبالتّالي بحسب لغة العالم يجب إلغاءه. نحن نعيش اليوم في عالم يسود فيه منطق الجسد أي منطق الشيطان والشّر. وهذا الشّر، بحسب لغة الانجيل، هو من اختراع الانسان وإبداعه، إنّه نتيجة قرار الانسان بأن يسير حسب لغة الأرض. أمّا الّذين يسيرون بحسب الرّوح فناموسهم هو ناموس الرّوح لا الحرف. ولمّا أصبح النّاموس عاجزًا عن إعطاء الخلاص، قرّر الله أن يرسل ابنه ليصير في شبه جسد الخطيئة أي أنّه شابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة: لقد شاركنا يسوع في كلّ شيء، في اللحم والدّم والعظام ما عدا الخطيئة، ومشاركته لنا هي مشاركة حقيقيّة، لأنّه "ما لم يُتَخَذ، لا يُخَلَّص" أي أنّ أيَّ شيءٍ لم يتّخذه يسوع من بشريتنا، فهو لم يُخَلَّص. فإنّ يسوع، أخذ الجسد البشري وكذلك الرّوح الانسانيّة.

يعطي بولس هذه المقارنة بين الّذين يسلكون بالرّوح والذّين لا يسلكون بالرّوح، والسلوك بحسب الرّوح لا تتمتّع بحالةٍ مزاجيّة، بل هي انضباط، فعليكم أن تسلكوا بحسب الرّوح لتكونوا من أبناء الرّوح. هذا هو السّعي والجهاد، ولا يجب أن يُرافق اليأس والإحباط كلّ هذا، لأنّ رحمة الله ومحبّته تستر خطاياكم وضعفكم ومَيلَكُم للشّرّ. فالمحبّة تستر كمًّا من الخطايا. إذًا أنتم تسلكون بحسب الجسد أي تسمعون بأذنيْكم صوتًا مختلفًا عن صوت اللّه. كلّ صوت لا ينسجم مع صوت الله عليكم بطرده. فالميّت لا يريد سوى رضى الرّوح، وهذا الرّضى سترَونه في اليوم الأخير كاملاً، ولكنّكم ستتعزّون به من هذه اللّحظة، من الآن تشعرون بتعزيات الرّوح ولا تدركونها، تعيشونها ولكنّها لا تتمتّع بقانونٍ معروف، بل هي سرّ. وإن كان روح الله الّذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، سيحيي أجسادكم المائتة.

إذًا أيّها الإخوة، أنتم لم تأخذوا روح العبوديّة للخوف والموت، بل أخذتم روح التّبنّي أي الرّوح القدس الّذي أعلن به الله تبنّيه لكم، وجعلكم أبناءه. لذلك تستطيعون أن تصرخوا بروح التّبنّي "أيّها الآب"، أصبحتم قادرين أن تصرخوا صرخة يسوع للآب بسبب تبنّي الله لكم بروحه. فيشهد الرّوح القدس لأرواحنا أيضًا أنّنا أولاد الله، كما شهد الرّوح القدس على يسوع أنّ صوت الآب الّذي دلّ بإصبعه قائلاً: "هذا ابني الحبيب، به سررتُ"، فالرّوح نفسه يشهد لأرواحنا أنّنا أولاد الله، لا تملكون نموًّا روحيًّا، لأنّكم تحصلون على كلّ شيء فتسقطون وتنهضون مئات المرّات، وتحسبون أنفسكم أنّكم في طور التّطوّر أمّا بالفعل أنتم ما زلتم في مكانكم، عمليًّا لا تجتهدون للحصول على شيء من الله، لأنّكم حاصلون على كلّ شيء، أنتم تجتهدون للحصول على رضى البشر بحجّة رضى الله، وهنا الوهم، لذلك تبقون متخبّطين وحزينين.

إن كنّا أولادًا لله فإنّنا ورثة أيضًا ووارثون مع المسيح. "أنا هو الباب، لا أحدًا يدخل إلّا بي"، لا يمكنكم القيام بعلاقة مع الله دون المسيح. يجعلك هذا تتألّم لتتمجّد معه. وأن تتألّم ليس بمعنى أن تتحمّل عذابات الجسد، فالربّ يسوع لم يتألّم من عذاب الجسد فقط، بل تألّم لأنّ النّاس لم تفهم حبّه. وأنتم أيضًا تتألّمون من عدم فهم الّذين تحبونهم لكم.

إذًا هدف الخليقة هو الانتظار على رجاء ما سيحلّ بها وما وُعِدَت به. كلّ الخليقة تئنّ وتتمخّض معًا حتّى الآن، وعلينا أن نأخذ العطيّة كما هي. الربّ يسوع المسيح هو باكورة القائمين من بين الأموات، لأنّه قام قبلنا لنتذوّق معنى القيامة، هذه القيامة هي من أجلنا وليست عنّا. إنّ عمل المسيح ليس تكفيرًا عن خطاياكم فقط، إنما قيامته من أجلنا، نصرخ معًا "أبّا" أي أيّها الآب، ويحقّ لنا مجانيًّا قولها من الله، هي من دون استحقاق وعليكم أن تستعدّوا لها. الاستعداد لا يعني القيام بأفعالٍ قبل المناولة هو فقط قبولكم المناولة، أي أن أؤمن يا ربّ وأعترف أنّك أنت ابن الله الحيّ الّذي أتيت لأجلي، وأؤمن أنّ هذا هو جسدك الطّاهر ودمك، فبعد المناولة لا يمكنكم أن تتصرّفوا وكأنّكم لم تتناولوا، وهنا المسؤوليّة أكبر. فمشكلتنا الأساسيّة في القدّاس والمناولة هي بعدم فهم الإنسان لما يحصل، وحصل وسيحصل. رفعَكُم الله الآب بالمناولة إلى مستوى أولاده حقيقةً وليس مجازيًّا. يصبح الاستعداد إذًا من باب التّعبير وليس من باب القانون، فالقدّاس هو مائدة الله الّذي عليها نأكل الأكل الّذي لا نستحقّ أن نأكله بسبب خطايانا وشهواتنا.

انتبهوا من وهم الإيمان أو التّقوى أو الاستقواء، فالرّوح القدس يزرع فيكم الرّجاء لأنّكم أبناء الله، وهذا الرّجاء يزرع فيكم الصّبر. فكلّ من يقبل الإيمان بيسوع المسيح صار معينًا منه، فلكلّ منّا مهامه في الكنيسة، لذلك لا تقعوا بفخّ الطّبقيّة في الكنيسة، كما قال يسوع في الإنجيل: "كنتَ أمينًا على القليل فسأجعلك أمينًا على الكثير". فالّذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الرّوح، لأنّه حسب مشيئة الإله يشفع في القدّيسين. فنحن لا نملك سوى شفيعًا واحدًا وهو يسوع المسيح فقط. أمّا القدّيسون فهم شفعاء لنا لأنّهم ساروا في المسيح يسوع، لا يمكنكم طلب شفاعة أي قدّيس إن كان يسوع غائبًا عن قلبكم. فقد صنّف النّاس صورة الشّفاعة كالمسرح حيث يجلس القدّيسون في المقدّمة، لكنّ يسوع المسيح ألغى هذه الصّورة ورسم المسرح بطريقة مختلفة، جعله مستديرًا وهو في وسطها. فالشّفاعة تعني المعاضدة أي المساندة والتّعزية، فهم بجانبنا وليسوا أمامنا، يسوع المسيح هو الباب الوحيد للآب.

إنّكم تطلبون شفاعة القدّيسين لأنّهم اختبروا وعاشوا وسلكوا بحسب رضى الرّوح. فتستحضرونهم بصلواتكم ويكونون مثالاً بإيمانهم أمامكم وحبِّهم ليسوع، لا يوجد وكيلٌ لله بل أنتم أيقونات لله، وهي مسؤولية وليست امتيازًا لكم. أعطى يسوع المسيح هذه المسؤوليّة للرّسل، فمن خلالهم يؤمن الشّعب أم يبكي على خطاياه بأيدٍ مُكبَّلة. هذا الرّوح الّذي يشفع فينا ويعين ضعفنا، لأنّنا نصلّي له كما ينبغي، فالرّوح نفسه يشفع فينا بأنّاة لا ينطق بها. لا تندموا على عمل خيرٍ قمتم به، ستحصل على رضى لنفسك وتحظى برضى الله، لا يمكنك الاستقالة من الأعمال الصّالحة التّي تَبَنَيتها كنهج حياة بسبب ردّة فعل الآخر. إن لم يتغيّر قريبك لا تجعله يغيّرك، من يقدر علينا إن كان الله معنا؟ يحاربكم لكنّه لا يتغلّب عليكم. "ثقوا أنا قد غلبت العالم"، فالله يشفع فينا ولا يديننا. فلا أحد يستطيع أن يفصلكم عن محبّة المسيح الّتي في المسيح يسوع.

ملاحظة: دوّنت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
16/2/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح السابع قوّة النعمة ومفاعيلها
https://youtu.be/kQ_kggiOn9o

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية
الإصحاح السابع
الأب إبراهيم سعد

16/2/2016

"أم تجهلون أيّها الإخوة، لأنّي أُكلِّم العارفين بالنّاموس، أنّ النّاموس يسود على الانسان ما دام حيًّا. فإنّ المرأة التّي تحت رجلٍ هي مرتبطة بالنّاموس بالرّجل الحيّ. ولكن إن مات الرّجل فقد تحرَّرت من ناموس الرّجل. فإذًا ما دام الرّجل حيًّا تُدعى زانية إن صارت لرجلٍ آخر. ولكن إن مات الرّجل فهي حرّة من النّاموس حتّى أنّها ليست زانية إن صارت لرجلٍ آخر. إذًا يا إخوتي، أنتم أيضًا قد مُتُّم للنّاموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر، للّذي قد أُقيمَ من الأموات لنُثمر لله، لأنّه لـمَّا كنّا في الجسد كانت أهواءُ الخطايا التّي بالنّاموس تعمل في أعضائنا لكي نثمِر للموت. وأمَّا الآن، فقد تحرَّرنا من النّاموس إذ مات الّذي كنّا مُمسَكين فيه حتّى نَعبُد بِجِدَّة الروح لا بِعُتقِ الحرف.

فماذا نقول: هل النّاموس خطيئة؟ حاشا، بل لم أعرف الخطيئة إلاّ بالنّاموس. فإنّي لم أعرف الشَّهوة لو لم يَقُل النّاموس لا تشتَهِ. ولكن الخطيئة وهي متَّخذة فرصةً بالوصيّة أنشأت فيَّ كلَّ شهوةٍ، لأنّ بدون النّاموس الخطيئة ميّتة. أمّا أنا فكنتُ بدون النّاموس عائشًا قبلاً. ولكن لـمَّا جاءت الوصيَّة عاشت الخطيئة فمُتُّ أنا. فوجدتُ الوصيَّة الّتي للحياة هي نفسها لي للموت، لأنّ الخطيئة هي متَّخذة فرصةً بالوصيَّة الّتي خدعتني بها وقتلتني. إذًا النّاموس مقدَّسٌ والوصيَّة مقدّسة وعادلة وصالحة. فهل صار لي الصالح موتًا؟ حاشا، بل الخطيئة. لكي تظهر الخطيئة منشئَةً لي بالصالح موتًا لكي تصير الخطيئة خاطئةً جدًّا بالوصيَّة. فإنّنا نعلم أنَّ النّاموس روحيٌّ وأمَّا أنا فجسدي مبيعٌ تحت الخطيئة، لأنّي لست أعرف ما أنا أفعلهُ إذ لست أفعل ما أريده بل ما أُبغِضُهُ فإيَّاهُ أفعل. فإن كنت أفعلُ ما لست أُريدهُ فإنّي أصادق النّاموس أنّه حسنٌ. فالآن لستُ بعدُ أفعل ذلك أنا بل الخطيئة الساكنة فيَّ. فإنّي أعلم أنّه ليس ساكنٌ فيَّ، أي في جسدي، شيءٌ صالح. لأنّ الارادة حاضرةٌ عندي وأمَّا أن أفعل الحُسنى فلستُ أجد. لأنّي لستُ أفعل الصالح الّذي أريده بل الشَّرُ الّذي لستُ أريدهُ فإيَّاهُ أفعل. فإن كنتُ ما لست أريدهُ إيَّاهُ أفعل فلستُ بعدُ أفعلهُ أنا بل الخطيئةُ السَّاكنة فيَّ. إذًا أجد النّاموس لي حينما أريد أن أفعل الحُسنى أنّ الشَّرَ حاضرٌ عندي. فإنّي أُسَّرُ بناموس الله بحسب الانسان الباطن. ولكنّي أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي، ويحي أنا الانسان الشقي. مَن يُنقِذُني من جسد هذا الموت. أشكُرُ الله بيسوع المسيح ربِّنا. إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطيئة."

في هذا الفصل، يفسِّر لنا كاتب الرسالة فكرة واحدة ويدور النقاش حولها وهي مقارنة بين قوّة النّاموس وفعله ونتائجه ومفاعيله-ونحن نتكلّم عن النّاموس اليهوديّ-، وبين قوّة النّعمة وتأثيرها ومفاعيلها. تلك النّعمة أتت بيسوع المسيح. في هذه المقارنة، يقوم الكاتب بوصف واقع الانسان ولا يقوم أبدًا بتحليل عقائدي: إنّه يصف ما يقوم به الانسان وما الّذي لا يقوم به، كيف يعيش وكيف يفكِّر. ولكي تصبح الفكرة أكثر قربًا من السّامعين للرسالة، وضع الكاتب مقدّمة وأعطى مثالاً عن المرأة المرتبطة برجل وقال إنّ المرأة تبقى تحت ناموس الرّجل ما دام حيًّا. فكلمة ناموس الرّجل هنا لا نقصد بها الدونيّة بين المرأة والرّجل إنّما المقصود هنا المعنى القانونيّ لكلمة ناموس أي أنّ المرأة هي تحت رعاية رجل، تحت وصايته، تحت قانونيّة الارتباط. لذلك فإن كانت مرتبطة برجل لا يمكنها أن تكون ملتزمة برجل آخر، إذ إنّ هذا يُسمّى زنى. لكن إن مات الرّجل، أصبحت حرّة من الارتباط بموته، وبالتّالي لا مشكلة بارتباطها برجلٍ آخر. انطلق كاتب الرسالة من هذه المقارنة، الّتي يسهل على الجميع فهمها إذ إنّها مسألة جدًّا طبيعيّة، لينتقل إلى التّكلمّ عن النّاموس ومفاعيله. إنّ ارتباطك بيسوع المسيح يعني أنّ النّاموس قد مات عندك، وبالتّالي فمتى ارتبطت بيسوع لا تستطيع الابقاء على النّاموس وكلّ مفاعيله، وإلّا تكون قد دخلت في فصام أو "شِرك" كما يقول المسلمون. فلا يمكنك أن تدخل في النّعمة وأنتَ ما زلت تبقي على حرفيّة النّاموس وعبوديّته. إنّ كلمة الناموس في اللّغة اليونانيّة، تترجم بكلمة النواميس أي القوانين. هذه القوانين هي القوانين الموجودة في التوراة وقد تمّ إدخالها إلى فكرة الشريعة الّتي ما عدنا مرتبطين بها إذ إن ارتباطنا بيسوع هو الأقوى. فمثلاً لا يمكنك أن تتكلَّم عن المعموديّة الّتي تطرق على ذكرها كاتب الرسالة في الإصحاح السادس، وعن التبنيّ الذّي سيأتي على ذكره في الاصحاح الثامن من الرّسالة، والتّكلّم في الوقت ذاته عن تقدمة الذبائح في النّاموس لأنّها مفروضة عليك. ففكرة التبنيّ والمعمودية تتعارض وفكرة تقديم الذبائح. وبالتّالي ما نفع ما حصل على الصليب إن كنت ما زلت تقدِّم ذبيحة كفّارة عن خطاياك. فالذبيحة في العهد القديم كانت بمثابة فاتورة يجب تسديدها للرّبّ كي يمحو ذنوبنا وخطايانا الكثيرة عبر تقديم خروف إن كنت غنيًّا ويمامة أو حمامة إن كنت فقيرًا، في الهيكل. إذًا، فكرة ارتباطك بيسوع المسيح وإتباعك له، بكلّ أبعاد الإتبّاع، يحرِّرك من قانونيّة التقاليد الموجودة. النّاموس ليس أمرًا سيئًا، بل إنّ النّاموس من الله. لكن قبل أن يكون النّاموس، أنت لم تكن تملك الوعي والفهم الكافي لتعرف ما هو صح وما هو خطأ. لقد أصبحت قادرًا على أن تكتشف أنّ هذا التصرّف الّذي تقوم به لا ينطبق مع النّاموس، بعد وجود النّاموس فأدركت أنّك تخالفه، وأنّ ما تقوم به هو خطأ. إذًا النّاموس ليس هو الخطيئة، إنّما كشف لك أنّك خاطئ.


إذًا صراعك ليس مع النّاموس إنّما مع الخطيئة الّتي كشفها لك النّاموس. وهذه الخطيئة الّتي كشفها النّاموس لك هي أنّك في صراعٍ دائم بين ما تقوم به وما تريده. فصراعك إذًا هو صراعٌ مع نفسك إذ إنّك تفعل ما لا يجب القيام به. ونلاحظ أن بولس في هذا الاصحاح استخدم فعلين: "تعمل" و "تريد"، أي ترغب. إنّ الانسان لديه ثلاثة أمور أساسيّة هي الرغبة أي ما يريد، ثمّ الإرادة وأخيرًا القدرة أي العمل. إذا كان لديك الرغبة، فهناك إمكانيّة لتحقيقها إن كانت إرادتك منسجمة مع رغبتك، وهناك إمكانية لتحقيق هذه الرغبة من خلال العمل انسجامًا مع رغبتك. وتكمن المشكلة في فهمك الصادق لمفهوم الرغبة: عليك تحديد ما الّذي تريده في الحقيقة. فمن الممكن أن تكون مشوشًا في موضوع الرغبة فتكونَ ضائِعًا بين رغبتين: الرغبة الأولى توهمك بحصولك على نتيجة سريعة منها ولكنّها غير مضمونة؛ والرغبة الثانية نتيجتها تتطلب وقتًا وليست بالضرورة سريعة ولكنّها أكيدة، والانسان بطبعه يحبّ الحصول على نتيجة سريعة. فمثلاً إنّ قلت لكم إنّ هناك ورقتي يناصيب: الأولى نتيجتها الاسبوع المقبل والثانية نتيجتها الشهر القادم. إنّ غالبيّة النّاس حتمًا سيشترون ورقة اليانصيب الّتي نتيجتها ستكون الاسبوع القادم وذلك لأنّ الانسان لديه الرغبة في الحصول على الربح الأسرع. قلائل، بل نادرون، هم الأشخاص الّذين سيختارون ورقة اليانصيب الّتي نتيجتها ستكون الشهر القادم. لكن هناك أشخاص سيختارون شراء ورقَتَي اليانصيب وذلك لضمان فرصة ربح أكثر. إنّ غالبية النّاس تميل إلى الحصول على نتيجة سريعة وليست أكيدة، أمّا من يميل صوب الحصول على نتيجة مضمونة وليست بالضرورة سريعة، فهو الّذي لا يحصر تركيزه على فكرة اليانصيب أو الرّهان بل على فكرة الخيار: فهو لا يراهن إنّما يختار. في الرّهان، أنتَ لا تتحمّل إلاّ قسمًا صغيرًا من مسؤولية النتيجة الّتي ستحصل عليها، أمّا في الاختيار، فأنتَ المسؤول الوحيد عن النتيجة. لذلك نرى النّاس تختار الرهانات، وقد اكتشفنا من خلال التاريخ والحياة، أنَّ أكثريّة الرّهانات هي خاطئة. لكن إذا دخلت في مسألة تحقيق الرغبات على أساس الرّهانات، فمن الطبيعيّ أن تعيش في صراع بين العمل والارادة، أي بين أن تفعل ما لا ترغبه وألاّ تفعل ما ترغبه. إنّ ذلك طبيعيّ لأنّك تسعى إلى النتائج السريعة والرّهانات، وهذا على كافة الأصعدة في الحياة. إنّ كلمة رشوة لا تُستعمل في وضع أو حالة قانونيّة فهي تدّل على وجود وضع غير قانونيّ أو استفادة من موقعك في وظيفتك لمصلحة شخصيّة، وبالتّالي هناك أمر غير قانونيّ فيها. أمّا في لبنان، فقد أطلق على الرشوة اسم لطيف وهو "الإكراميّة" أو geste. مهما اختلقت تسمياتها إنّها في الحقيقة رشوة. فإن كنت تملك مقاييس للقيم والاخلاق فلا بدّ أن يدخل فيك الصراع حول قبول الرشوة أو لا، عند قيامك بخدمةٍ ما لأحدهم. ولِتُخفِّف من وطأة عذاب الضمير الّذي تشعر به، تلجأ إلى استخدام فلسفةٍ خاصةٍ بك لتبرير اللحظة، لحظة وقوعك في الخطأ. فتبرِّر خطأك مستندًا على حجتين: الحجة الأولى أنّه إن لم تقم أنتَ بهذا العمل غير المشروع، فسيقوم به أحد غيرك ويستفيد من تلك الرشوة. أمّا الحجة الثانية فهي بأنّك لن تقوم بهذه الخطيئة إلاّ هذه المرّة فقط، ومن ثمّ تعود إلى الانسجام مع أخلاقك المعتادة والمبادئ المتعارف عليها. ولكن التصرّف يصبح عادة والعادة تصبح طبعًا في الانسان، وهنا الخطر.


فإن كان لديك في مخزون ذاكرتك وفي كيانك الرّوحي مبادئ وقِيَم قد أخذتها من الإله الحيّ الّذي أنت مرتبط به، سيكون صراعك أكبر وأقوى بين الصح والخطأ، إذ إنّك تعرف أنّ ما تقوم به هو خطأ لكنّك تقوم به وتبرِّر نفسك بأنّ الانسان ضعيف. فيصبح تبريرك بمثابة لومٍ لخالقك، وتكون بذلك قد هربت من تحمّل مسؤوليتك، وقد خلطت بين الرّهان والخيار، إذ إنّك في بعض المسائل تختار، وفي البعض الآخر منها تراهن. فعندما تقف أمام التجربة تحنّ إلى الرّهان وتنسحب من الخيار. لكن عندما تُقدِم على الخطيئة وترتشي وتكتشف أنّها خطيئة، تقرِّر أن تختار العودة إلى الرّبّ ولكن بذهنية قديمة إذ تطلب من الرّبّ أن يعفو عمّا مضى لتبدأ معه من جديد، وهذا أمر خاطئ. لكن هذا لا يعني أن الله لا يغفر لك وأنّه لا يمكنك أن تتوب وتعود إلى الله، بل على العكس من ذلك. لكن حين ترتكب الخطيئة عن سابق تصوّر وتصميم واعدًا الله بأنّك ستتوب عنها لاحقًا، أنبّهك إلى أمرٍ ما هو أنّك لا تعرف ساعة موتك وقد لا يكون هناك وقت كي تتوب. إليكم هذه القصّة عن أحد الأشخاص الّذي كان يقوم برحلةٍ إلى دير ليشارك بالقدّاس وبيوم خلوة روحيّة. غير أنّ هذا الشاب قام بتناول الطعام ريثما يصل إلى المكان المنشود-ونحن في الطقس الشرقيّ أي في الليتورجيا الأرثوذكسيّة، نحبِّذ عدم تناول أي شيء قبل المشاركة بالذبيحة الإلهيّة-ولكنّه عندما وصل إلى الدير، شعر بوخز الضمير فقرَّر عدم التّقرّب من المناولة لأنّه تناول طعامًا في الصبّاح قبل الذبيحة الإلهيّة. فأقبل إلى سرّ الاعتراف، وقال للأب المعرّف أنّه تناول طعامًا في الصبّاح قبل القدّاس. فسأله الكاهن هل قمت بذلك عن غفلة أم عن سابق تصوّر وتصميم. فكان جواب الشاب أنّه تناول الطعام على الرّغم من علمه بأنّه سيشارك في الذبيحة الإلهيّة، عندئذٍ نَهاهُ الكاهن من التّقرّب من سرّ المناولة لأنّ توبته وموقفه ليس بنيّة صافيّة بل فيها زغل. وهنا لا يجب الدّخول في نقاش حول موقف الكاهن كما حدث مع المرأة الكنعانيّة الّتي قرأنا عنها الأحد الفائت في الكنائس الّتي تتبع التقويم الشّرقيّ، إذ أصبحنا ننتقد كلام يسوع مع الكنعانيّة عندما قال لها أنّه لا يجوز إعطاء خبر البنين لجراء الكلاب، ونصبح عند ذلك في موقف المدافع عن المرأة الكنعانيّة وكأنّنا نحافظ على النّاس أكثر من يسوع. علينا فقط التّوقف عند المغزى من هذه القصّة. والمغزى هو، هل رغبتك كانت مرتبطة برهانات أم بخيارات؟ لذلك نرى أنّنا نقع في صراع. كلّ قصّة آدم ترتكز على هذه النقطة بالذات. فقبل مجيء المسيح، كان دور النّاموس أن يساعدك فيعطيك الخيارات الصحيحة. لذلك أطلق بولس على النّاموس لقب "pedagogos" أي أنّ النّاموس هو المربيّ، لأنّنا نتصرّف كأولاد ونحن لا نحسن الخيارات. وإنّ النّاموس الّذي هو من الله سيساعدنا لنأخذ القرارات الصحيحة، فإنّ الانسان يفضّل أن يسمع فتاوى تقول له ما هو صح وما هو خطأ أكثر ممّا يحبّ أن يُترك له الحقّ في أن يقرِّر ما هو صح وما هو خطأ. وهكذا هي الحال في كلّ الأمور مع الانسان، فمثلاً يأتي أحد الأشخاص إلى الكاهن ليسأله إذا كان يستطيع أكل طعام معين في الصّوم أو هل يجوز أن يصوم إن كان غير قادر على ذلك. فيعطي الكاهن جوابه للمؤمن بأنّه هو من عليه أن يقرِّر ما هو الصحيح بالنسبة له وما هو خاطئ. "كلّ شيء مُباحٌ لي ولكن ليس كلّ شيء يناسبني"، هذا ما يقوله بولس في رسالته إلى أهل قورنتس. إذًا عندما تتحلّى بالحكمة وتصبح قادرًا على القيام بالتّوازن في رغبتك بين ما هو رهان وما هو خيار، عندئذٍ تنسجم رغبتك مع إرادتك وقدرتك على الموضوع.

إنّ بولس في هذا الفصل من رسالته إلى اهل رومة يخبرك عن هذا المأزق الّذي أنت فيه، أي الصراع بين رغبتك وإرادتك وقدرتك، فنرى أنّ الآيات تتشابه وتفسِّر الواحدة الأخرى من أجل الوصول إلى الموضوع، فيقوم بمقارنة بين النّاموس والمسيح يسوع. إنّ النّاموس هو من الله تمامًا كما هو المسيح. لكنّ النّاموس لا يعني تقاليد الآباء، وتصرّفات النّاس بل كلمة الله الّتي أعطيت من الله لمسيرة هذا الشعب. إذًا النّاموس ليس كتاب الشعب اليهوديّ وتاريخ الشعب اليهوديّ. إنّ التوراة هي قصّة كلمة الله في التاريخ والجغرافيا. التوراة هي هذا القوس النّشاب الّذي إذا كانت رؤيتك ضعيفة تصبح إصابتك خاطئة. إذا كانت رؤيتك مشّوشة كانت إصابتك خاطئة. إذًا الموضوع كلّه هو في رؤيتك للأمور، أي في الذّهنيّة. إذًا المسيح لا يعطي فتاوى، بل يزرع فيك فكرًا هو فكره، وتصبح من خلاله رغبتك، فكرك وإرادتك وقدرتك على انسجام. ولا يعود هناك خوف من أن يكون تصرفك خاطئًا أم لا، وهذا ما يجعلك مرتاحًا مع ذاتك. بحسب النّاموس، عندما تقوم بأمر خاطئ يكون بانتظارك العقاب وكي تتجنّبه تقوم بتقديم الذبائح فتنجو منه، فيصبح عقابك أخفّ. إنّ المسيح بمجيئه وموته من أجلك قد نزع كلّ فكرة للعقاب، أو المخالفة، ووَضَعَكَ في جوّ آخر، أخذك من قانون الحرف إلى ناموس الرّوح، من قانون "تفعل ولا تفعل"، إلى قانون الحبّ: "مهما تفعل". في النّاموس، إن فعلت الصّواب فلك أجرٌ، وإن لم تفعل الصوّاب فلك عقاب. أمّا في ناموس المسيح، إن فعلت الصوّاب أم لم تفعل، فلك العطيّة نفسها والحبّ نفسه والخلاص نفسه والتضحيّة نفسها لك. لكنّ الانسان يفعل ما يريد الآن ثمّ يعود ويتوب، وبالتّالي يكون مستمِّرًا بالعيش وفق ذهنية النّاموس ولم يصل بعد إلى فكر المسيح. فإن قام المسيح بإعطائك نعمة مجانيّة بإزالة فكرة الثواب والعقاب، وبالتّالي جعلك ترتاح، فهذا لا يعني أنّ تتصرف أنتَ كأنّك بلا ناموس، أنتَ تحت ناموس لكن لست تحت النّاموس اليهوديّ، بل تحت ناموس الحبّ. وإن كنت لا تريد ذلك النّاموس فأنت حرّ، ولكن حسب ناموس يسوع، ناموس الحبّ، أنتَ تملك الحقّ أن ترفضه أو تقبله. فإن أعطاك الرّبّ يسوع هذا الحقّ بأن ترفضه فهذا يعني أنّك حرّ وأنّك مسؤول. لا تستطيع أن تطلب من الله أن يعطيك حبّه إن كنت ترفضه، وتجبره على إعطائك هذا الحبّ حتّى إن كنت ترفضه، فهذا يُسّمى عطلًا. إذًا الحبّ الإلهيّ يدخلك في حالة الحبّ بعد أن يحرِّرك من النّاموس وإذا دخلت في حالة الحبّ، أنت في حالة الحريّة أي في حالة المسؤوليّة. وإن كنت في حالة المسؤوليّة فهذا يعني أنّك سيِّد، وإن كنت سيِّدًا لا تستطيع أن تتصرّف كعبد. وهنا تكلّم بولس عن موضوع الجسد والخطيئة وبالتّالي أشار بولس إلى أنّ الانسان ما زال في الذهنيّة القديمة، لذلك قال في الآية الأخيرة: "أشكر الله بيسوع المسيح إذ أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله". فكلمة ذهني هنا تعني الفكر. وبالتّالي أنا أخدم بفكري ناموس الله أمّا بجسدي فأخدم ناموس الخطيئة. باللّغة اليونانيّة هناك تعبير sarkikos من كلمة sarx أي الجسد، وهناك كلمة أخرى pneuvmatikos من pneuvma أي الرّوح. إنّ النّاس يعتبرون أنّنا عندما نتكلّم عن الروحانيّة نقصد بها اللّاماديّة، وأنّ علينا ألاّ نفكّر بالأمور الماديّة بل بالروحيّة، وإنّ ذلك هو أمر غير مفهوم. إنّ مار بولس في رسالته عندما كتبها، فَصَلَ بين الرّوح والجسد، فهو لم يتكلّم عن الفصل بين روحك وجسدك، إنّما قام بالفصل بين عالم الرّوح وعالم الجسد. عالم الرّوح يعني حيث الرّوح القدس هو المخيِّم، المسيطر أي عندما تتصرّف بِعِدَّة الله. عالم الجسد، يعني عندما تتصرّف بِعِدَّة العالم أي حسب قواعد العالم وهنا عدنا إلى مفهوم النّاموس. إذًا إنسان جسدي تعني إنسانًا تحت طاعة العالم بسبب الخطيئة وإنسان روحانيّ تعني إنسانًا تحت طاعة الرّوح بسبب الحبّ الإلهيّ. قبل القيام بأي عمل، قبل النّوم، قبل الصلاة وقبل أن تخطئوا، تدخلون في هذا الصراع. لكن لماذا يستمِّر هذا الصراع أو يتوقف فيما يخصّ موضوع التّوبة الصّادقة أو غير الصادقة؟ إنّ السبب يكمن في وضوح أو عدم وضوح مفهومنا لموضوع الرغبة؛ عليك أن تعرف إن كنتَ تحت رهان أو تحت خيار. في علم النّفس، وهنا لا أقصد التحليل النفسيّ، إنّ تصرف الانسان مرتبط بطبعه الّذي يكون قد تكوّن فيه منذ صغره حتّى السنة السابعة من عمره، إذ ما بعد السبع سنوات تكون شخصيّة الانسان قد تكوّنت. إذًا الأمر يتعلّق في مرحلة الطفولة. لِنَعُد إلى الطفولة في علاقتنا مع المسيح، فإذا عدنا إلى الطفولة، علينا الاّ تكون تصرفاتنا كبالغين في حين أنّنا ما زلنا أطفالًا، هذا ما يسمّى بالمراهقة. فالمراهقة هي أن تكون خارجيًّا تبدو كبالغ ولكن تصرّفاتك تدّل على أنّك طفل. فانتبه كي لا تكون في مراهقة روحيّة، وتحاول إخفائها من خلال تصرفات تقويّة، والتحاقك بالطقوس الدينيّة وأشكال الطقوس كي تقنع ذاتك بأنّك تسير في الطريق الصحيح وأنّك تقوم بما هو صواب، وهذا هو النّاموس الّذي كان يتكلّم عنه الانجيل ويريد تغييره. وإليكم مثلاً، كم مرّة وأنتم في غمار الصّوم تنظرون إلى السّاعة لتعرفوا إن حلّت الظهيرة كي تتناولون طعامكم؟ كم من المرّات تحضِّرون الطعام وتجلسون وتنظرون إليه كي يحين موعد الطعام؟ كم من المرّات في فترة الصّوم تقوم بقالب حلوى صياميّ، غير أنّ هذا يُسمّى بشهوة الحلوى. فهذه الشهوة موجودة ولكن خلال الصّيام نمارسها بتقوى مزيّفة. نحن ندخل في موضوع الفتاوى خلال الصّوم لكي نستر وَهْمَ إراحة ضميرنا الرّوحيّ، فنعتبر ذواتنا تحت رضى الرّب. إنّ الانسان الّذي يعاني من الفراغ في مفهوم الوعي الرّوحيّ، يقع في أزمة في موضوع الصيّام قبل حلول السّاعة 12 ظهرًا ويحاول أن يبرِّر نفسه. أمّا الانسان الممتلئ روحيًّا بالفهم، فإن أكل أو صام، لا يجد مشكلة في ذلك. أنا لا أقصد أنّه لا يجب الصيّام. فإن اعتقدتم ذلك، تكونون قد عدتم إلى مرحلة الطفولة.

إنّ الصّوم المسيحيّ اليوم، أصبح صومًا بنمط وبذهنية يهوديّة، بشكل بوذي فارغ من المسيح، إذ إنّ أكثر الصائمين على هذا الشكل، الانسان الآخر غير موجود في حساباتهم. لا يمكنك أن تصوم صومًا له علاقة بقيامة المسيح المنتظرة إن لم يكن هناك إنسانٌ آخر أمامك قد صَلَبَته الدّنيا أمامك وانتَ أدخلته إلى صومك. فقد قال الله إنّ الصّوم الّذي يريده هو أن يكسر الانسان خبزه مع الجائع، وقد قال ذلك في العهد القديم في النّاموس. أمّا النّاس فقد قاموا بتقديم العشور للهيكل وقاموا بتقديم الذبائح، اعتقادًا منهم أنّهم بتلك الطريقة يرضون الله، فإنّهم هكذا فهموا النّاموس. إنّ الأمر ليس بصدفةٍ أنّ يعبِّر الله عن محبته لنا حين جعل ابنه الأزليّ السّاكن في العرش السّماويّ إنسانًا. إنّ ذلك هو نهج الله أي منطق الله، ليُفهِمَنا أنّ ذلك هو المنطق الّذي علينا إتبّاعه لنفهم حبّه لنا. فقد نلنا الأجر منذ البدء، فليس علينا التّكلّم من منطلق عقاب وثواب. فإن أعطاكم أحدهم ثروة، فهذا يعني أنّه وضع كلّ ماله بين يديك، ولن يسألك كيف صرفت وبذرت هذا المال، فإنّه لن ينزع منك الثروة، إذ قد سبق وأعطاك ثروته كلّها وهو بات لا يملك شيئًا. إذًا ليس من باب الصدفة أن يصبح ابن الله إنسانًا ليجعل نهجه نهجك. فعليك أن تماهي بين كلّ علاقة مع الله تريد أن تقيمها وتعبِّر عنها وبين علاقتك بالآخر. إنّ الله بات لا يفهم حبّك له إلاّ من خلال حبّك وتصرفك مع أخيك الانسان. وإذا كان الصّوم، هو تعبير من تعابير علاقتك مع الله، فلكي يفهم الله أنّ صومك هو تعبير من التعابير الجيّدة في علاقتك معه، عليك أن تُدخِل إنسانًا على صومك. والطريقة المثلى لكي تدخل إنسانًا على صومك هي في أن تطعمه. فليس عليك إذًا أن تحاسب الآخر إن صام أو لم يصم، إذ لا يجب أن يؤثِّر صيام جارك أو عدمه على إيمانك بالله، فلا يجب على ذلك الأمر أن يسبِّب لك أزمة إيمانيّة. إذا كانت هذه هي لغة الله الّتي يفهم من خلالها حبّك له، قولوا لي بربِّكم، أيّ ناموس يرسم ويحدِّد علاقة إنسان بإنسان إذا كان الحبّ موجودًا؟ إنّ الحبّ يلغي القانون، والقانون يُخلَق عندما ينقص الحبّ، لا بل القانون يستطيع أن يسير الانسان بحسبه دون حبّ، كما يمكنك أن تسلك بحسب الحبّ دون قانون لأنّ الحبّ يخلق فيك ذهنيّة ومنطقًا خاصًّا به. وهذا المنطق وهذه الذهنيّة تجعلك تختم هذا النّاموس، هذه الشريعة الإلهيّة الّتي هي الحبّ. لذلك مهما فعلت من أعمال فإنّ الله لا يفهمها على أنّها موّجهة إليه إلاّ إذا قمت بها تجاه إنسان. "فلي لم تفعلوه إن لم تفعلوه لإخوتي هؤلاء الصغار"، هذا ما قاله الله في مثل الدينونة. فالمشكلة هي أنّنا ما زلنا يهودًا متمسكين بالنّاموس والحلّ يكمن في معموديّة الفكر، وعند ذلك يصبح فكرك فكر المسيح. وبولس يعطينا الجواب عند سؤالنا عن فكر المسيح، في رسالته إلى أهل فيلبي فيقول: "فليكن فيكم هذا الفكر الّذي في المسيح يسوع أيضًا الّذي كان في صورة الله. لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله. لكنّه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ صائرًا في شبه النّاس. وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كلّ اسمٍ لكي تجثو باسم يسوع كلّ ركبة ممّن في السّماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض". إذًا المشكلة تكمن في فكرك. إنّ رغبتك مرتبطة بخيارك، والخيار يتطلّب تحمّل مسؤولية، إذ يضمن لك نتيجة أكيدة لكن ذلك يتطلّب أن تتحلّى بصبر الانتظار، وجهاد الانتظار، وجهاد مواجهة الاشخاص الّذين يضعهم الله أمامك لكي تترجم له حبّك من خلالهم. هذه هي مشكلة كبيرة لكن لا يوجد طريق آخر: فإن رفضت أنت حرّ لكن إذا قبلت فهناك مسؤوليّة تُلقى على عاتقك. إذًا المشكلة الكبرى هي في أنّ الانسان يريد ولا يريد في الوقت نفسه. هناك نتيجة سريعة لكن غير مضمونة وهناك نتيجة أكيدة وهي مضمونة لكنّها تتطلب الانتظار، هذا ما يُسّمى الرّجاء عند المسيحييّن ويُسمى بالأمل عند غير المسيحييّن. نحن على رجاء، لذلك يقول بولس بما معناه أننّا نحن نعلم أنّ النّاموس روحيّ إذ إنّه من عند الله وأمّا الانسان فهو جسدي وهو معرّض للوقوع الدائم في الخطيئة. ومتى وقع الانسان في الخطيئة خاف من العقاب أي من النّاموس، وبالتّالي أصبح في عداوةٍ معه. إنّ الانسان يصبح على عداوة مع الله عندما يجعل من الله ناموسًا. فمثلاً عندما تضع دولتك قوانين السير، وتريد أن تخالفها، فإنّك تقوم بذلك إن كنت متأكدًا من عدم وجود رادارات وكاميرات مراقبة. أمّا في حال كنت متأكدًا من وجود أجهزة مراقبة، فإنّك لا تخالف القانون. إذًا عداوتك الأساسيّة هي مع الدولة. لكن إذا كنت على مستوى عالٍ من الأخلاق والقيم، فإنّك لا تخالف القانون، أكنت مراقبًا من الدّولة عبر الرادارات أم لم تكن، وبالتّالي سلوكك يكون نفسه في كلتا الحالتين. هناك تغيير للذهنية إذ تحترم القانون لا خوفًا من العقاب بل خوفًا من أن يتضرَّر الآخر نتيجة مخالفتك لقوانين السير، وأنتَ حبًّا بالآخر تحترم القوانين. هذا هو الفرق في كلّ الأمور.

عندما نتكلّم عن مفهوم الصّوم، وحتّى عن كلّ مفهوم في الطقوس والعادات، هناك خطر كبير أنّ نكون يهودًا بتذكرة مسيحيّة أو وثنين بثياب مسيحيّة، وفي داخلنا ما زال جسد الخطيئة يتحكّم بنا، أقمنا بها أم لم نقم بها، بمعنى أنّه علينا أن نزيل الخوف من الله من أن يعاقبنا إن قمنا بها أم لا. جاء المسيح ليقول لنا أن ننزع هذا الخوف من العقاب. فإذا أردنا أن نتبع المسيح فهذا يتطلّب مسؤوليّة والتزامًا، وإن رفضناه فنحن المسؤولون عن ذلك كوننا أحرارًا ولا نستطيع لوم الله على عدم إعطائنا حبّه الّذي رفضناه، وبالتّالي فهو لا يجازينا بتلك الطريقة بل يحترم إرادتنا. وهنا يقول الله لنا: "طبّلنا لكم فلم ترقصوا، ندبنا لكم فلم تبكوا"، وكيف السبيل لحلّ تلك المشكلة؟ نحن نحبّ الاهتمام بالظاهر فقط أي بتقديم العشور والاهتمام بالقبور كي تكون كلّ الأمور جيّدة من الخارج، أمّا الدّاخل فلا نهتّم به. فالرّبّ يقول لنا إنّه يريد رحمة لا ذبيحة، غير أنّنا نحبّ تقديم الذبائح، ونحن نقدّم البخور والذبائح للقدّيسين. نحن نُساهِم في إبقاء ذهنيّة اليهود عند المكرسيّن الّذين يجب عليهم تحريرنا من تلك الذهنيّة عندما نقدّم التقادم إلى القدّيسين، تقادم لا نفع منها. فالمكرّسون يستخدمونها من أجل أمور ماديّة واقتصادية أخرى. ومثالاً آخر، عندما تطلبون من الكاهن خدمة ما، تقومون بتقديم مساهمة ماليّة له إذ إنّ خادم الهيكل، من الهيكل يأكل. ولكن ليس بالضرورة أن يأكل خادم الهيكل حين يقدّم لك خدمة دينيّة فقط. فمثلاً عند معموديّة أحد الأولاد، نقدّم للكاهن مالاً. وهنا تكمن المشكلة فإن قبل المال ننتقده، وإن لم يقبله نلومه. لذا علينا إطعام خادم الهيكل ليس عند تقديم خدمة معيّنة لنا إنّما عندما نراه بحاجةٍ لنا ولمساعدتنا الماديّة. فإنّ الخدمة التّي يقوم بها من أجلك يعبِّر من خلالها عن حبّه لك. إنّها تشكِّل ردّة فعله تجاهك إذ إنّه لا يقوم بالسيمونيّة أي كما فعل سيمون السّاحر الّذي تكلّم عنه أعمال الرّسل. فهذا السّاحر طلب من الرّسول أن يعطيه المقدرة على شفاء النّاس، واعتقد أنّ الأمر هو تجارة. إنّ سيمون السّاحر كان يريد الحصول على هذه المقدرة على الشفاء من أجل ربح المال. ونحن نطلب من الكاهن الأمر نفسه، عندما نعطيه المال من أجل المعموديّة أو لكي يصلّي لنا، نحن نعتقد أنّنا نقدّم له مالًا لقاء الصلاة أو لقاء الحصول على سلطة الله. ونحن بالتّالي نجعل الكاهن لا شعوريًّا يربط أمر المال بأمر تقديم خدمة من السلطة الإلهيّة المعطاة له. فهو عندما أصبح كاهنًا نذر نفسه لله، وليس من أجل الحصول على المال. نحن ندفعه للتفكير بالمال عندما نقدّم له المال فقط لقاء خدماته لنا. غير أنّه يجب علينا الاهتمام بالكاهن من كلّ النّواحي في رعيتنا كي يعيش عيشة لائقة ويدرس فيستطيع أن يشرح وينقل إلينا بشكلٍ صحيح كلمة الله. إذًا المسؤوليّة هي مسؤوليّة الجميع. إنّ المسيح عندما أتى قال إنّ لا فرق بين الخادم والمخدوم، غير أنّنا ما زلنا متعلّقين بفكرة الخادم والمخدوم.

ملاحظة: كتبت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...
2/2/2016 رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل رومية - الإصحاح السادس فما هي النّعمة؟
https://youtu.be/vL6FpMmuu1U

تفسير الكتاب المقدّس
رسالة بولس إلى أهل رومية
الإصحاح السّادس
الأب إبراهيم سعد

2/2/2016

قبل البدء بالإصحاح السّادس، سنكمل القسم الأخير من الإصحاح الخامس، فقد كثُرت الخطيئة بكثرة الأشخاص، وحين تكثُر الخطيئة تكثُر النّعمة، فتصبح بذلك الخطيئة إيجابيّة. فمبدأ النّاموس هو تطبيق القانون عندما تهيمن الخطيئة وينقص الحبّ. إذًا وُجِدَ القانون بسبب النّقص في الحبّ، والقانون يفضح من يخالف النّاموس. ويتدخّل الله في النّعمة ليزيدها، ونتحرّر بذلك من الخطيئة. يرينا النّاموس الخطيئة ولكنّه لا يحرّرنا منها، إنّما الذّي يحرّرنا منها هو حبّ الله لنا بالنّعمة في الإنجيل.

فما هي النّعمة؟ هي إعلان من الله أنّنا مواطنون في الملكوت السّماويّ، وقد أعطانا هويّة يسوع المسيح، أَفَهِمناها أو قبلناها أو آمنّا بها، أم لم نفعل، ولا شيء يُبطِلُها، أو يجعل من الإنسان خارج الملكوت. فإذا تمرّد الابن على أبيه، بقيَ الأب يعترف بابنه رغم تمرّده. فالآب السّماويّ لا يمكنه أن ينكر ابنه بل يقترب منه أكثر فأكثر كلّما أخطأ. فالمحبّة هي الانتباه للآخر وتلبية حاجاته وليس فقط رغباته، فنحن نريد من الله أن يحبّنا بمعنى أن يحقّق لنا رغباتنا، أمّا الله فيحبّنا لكي ينفّذ لنا حاجاتنا، والفرق بين الحاجة والرّغبة كبير جدًّا.

أنبقى في الخطيئة لتكثُر النّعمة؟ حاشا! نحن الّذين متنا عن الخطيئة، كيف نعيش بعد فيها؟ حين نقول متنا عن الخطيئة أي قطعنا العلاقة معها وتبرّرنا بها كما كانت الحال على الصّليب. فموت المسيح كان رفضًا لإقامة أيّة علاقة خارج الله. أن تعتمد إذًا بيسوع المسيح، يعني أنّك تتبنّى مفهوم موته ومنطقه، إذ لا يمكننا أن نبشّر بكلمة الله وبفحواها أي الصّليب من دون التكّلّم عن منطق الصّليب الّذي هو جهالة عند النّاس، لأنّ الحبّ هو الّذي أدّى إلى الصّليب. اقتنع اليهود ورؤساؤهم والكتبة والفرّيسيون أنّ المسيح هو المنتظر، لذلك قتلوه وهو كان مدركاً لذلك، وبالرّغم من ذلك، طلب من الله أن يغفر لهم ما يفعلونه لكي يبرّرَهم. فالمحبّة تستر جمًّا من الخطيئة. هذا هو منطق الصّليب الذّي لا يمكن أن ينصّه ناموس أو قانون أو فتوى. فيجب أن نأخذ موت المسيح كمنطقٍ ونهجٍ لحياتنا.

"فماذا نقول؟ أنبقى في الخطيّة لكي تكثُر النّعمة، حاشا نحن الّذين متنا عن الخطيّة، كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أنّنا كلّ من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته فدفنّا معه بالمعموديّة للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدّة الحياة لأنّه إن كنّا قد صرنا متّحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطيّة، كي لا نعود نُستعبد أيضًا للخطيّة لأنّ الّذي مات قد تبرأ من الخطيّة فإن كنّا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه عالمين أنّ المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضًا. لا يسود عليه الموت بعد لأنّ الموت الّذي ماته قد ماته للخطيّة مرّة واحدة، والحياة الّتي يحياها، فيحياها لله. كذلك أنتم أيضًا، احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربّنا. إذاً لا تملكَنَّ الخطيّة في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدّموا أعضاءكم آلات إثم للخطيّة، بل قدّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات برّ لله فإنّ الخطيّة لن تسودكم، لأنّكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة فماذا إذًا؟ أنخطئ لأنّنا لسنا تحت النّاموس بل تحت النّعمة؟ حاشا ألستم تعلمون أنّ الّذي تقدّمون ذواتكم له عبيدًا للطّاعة، أنتم عبيد للّذي تطيعونه: إمّا للخطيّة للموت أو للطّاعة للبرّ. فشكرًا لله أنّكم كنتم عبيدًا للخطيّة، ولكنّكم أطعتم من القلب صورة التّعليم الّتي تسلمتموها وإذ أعتقتم من الخطية صرتم عبيدًا للبرّ، أتكلّم إنسانيًّا من أجل ضعف جسدكم. لأنّه كما قدّمتم أعضاءكم عبيدًا للنّجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيدّا للبرّ للقداسة لأنّكم لما كنتم عبيد الخطيّة، كنتم أحرارًا من البرّ فأيّ ثمر كان لكم حينئذٍ من الأمور الّتي تستحون بها الآن؟ لأنّ نهاية تلك الأمور هي الموت وأمّا الآن إذ أعتقتم من الخطيّة، وصرتم عبيدًا لله، فلكم ثمركم للقداسة، والنّهاية حياة أبديّة لأنّ أجرة الخطيّة هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبديّة بالمسيح يسوع ربّنا."

في الإصحاح السّادس يفسّر لك بولس أنّ عينيّ الإنسان التُرابيّتين اللّتين كانتا بعيدتين عن المسيح، وتريان كلّ شيء حتّى الله من تراب، ستصبحان بعد المعموديّة عينيْن جديدتيْن.
يقول بولس الرّسول: "حتّى إذا صرنا متّحدين معه بشبه موته"، هذا ليؤكّد لنا أنّنا لا يمكننا أن نتّحد معه بموته، لأنّ هذا المنطق صعب علينا، فقد تبنّى فقط منطق الحبّ الّذي يؤدّي إلى دفع الثّمن، ونصبح حقيقةً بقيامته بسبب موت المسيح على الصّليب ونسلك بهذا المنطق فرح القيامة.

يقول نيتشي (فيلسوف ألمانيّ)، إنّ المسيحيّين لا يفرحون، لأنّ الله مات عندهم ولم يقم، فلو كان بالحقيقة قد قام، لكانوا اليوم فرِحين، فهم يفرحون بما يناسبهم في هذه الدّنيا فقط، حتّى ولو كان هذا الفرح خارج الله. فما هو دور المسيح في حياتي؟ كيف تسلك في حياةٍ جديدةٍ قبل المسيح وبعده؟ ماذا يغيّر المسيح فيك يا إنسان؟
لم يقتنع الإنسان بعد بعمل المسيح على الصّليب، ولم يتبنَّ هذا المنطق، لأنّ المسيح بصلبه، يطلب منك تغيير الإنسان القديم الّذي يسكنك، وهنا يدخل الإنسان بفهمٍ خاطئٍ، ويحسب نفسه في العبوديّة. كما يقول لنا المسيح في إنجيل يوحنا: "أنا لا أدعوكم عبيدًا بل أحبّاء. فهناك ثلاث مراحل للعلاقة مع الله: علاقة العبد – علاقة الأجير– علاقة الابن.
وتبدأ علاقتك به كعبدٍ وهو سيّدك، وهذه العلاقة مبنيّةٌ على الخوف. وسرعان ما تتبدّل لتصبح أجيرًا وهو ربّ العمل، وإطار هذه العلاقة هو المصلحة. ثمّ تنمو بعدها علاقتك بالله لتنتقل إلى علاقة ابنٍ بأبٍ، ويكون إطارها الحبّ. هذه هي درجات علاقة الإنسان بربّه. وتستغرق منّا المرحلة الأولى وقتًا طويلًا، ونعبر المرحلة الثّانية في وقتٍ قليل وصولاً للشّوق إلى المرحلة الثّالثة.

لم يقتنع الإنسان بعد بعمل المسيح على الصّليب، ولم يتبنَّ هذا المنطق، لأنّ المسيح بصلبه، يطلب منك تغيير الإنسان القديم الّذي يسكنك، وهنا يدخل الإنسان بفهمٍ خاطئٍ، ويحسب نفسه في العبوديّة. كما يقول لنا المسيح في إنجيل يوحنا: "أنا لا أدعوكم عبيدًا بل أحبّاء. فهناك ثلاث مراحل للعلاقة مع الله: علاقة العبد – علاقة الأجير– علاقة الابن.
وتبدأ علاقتك به كعبدٍ وهو سيّدك، وهذه العلاقة مبنيّةٌ على الخوف. وسرعان ما تتبدّل لتصبح أجيرًا وهو ربّ العمل، وإطار هذه العلاقة هو المصلحة. ثمّ تنمو بعدها علاقتك بالله لتنتقل إلى علاقة ابنٍ بأبٍ، ويكون إطارها الحبّ. هذه هي درجات علاقة الإنسان بربّه. وتستغرق منّا المرحلة الأولى وقتًا طويلًا، ونعبر المرحلة الثّانية في وقتٍ قليل وصولاً للشّوق إلى المرحلة الثّالثة.

لقد حرّرنا المسيح من الخطيئة على الصّليب. إذًا إنسانُك العتيق صُلب ومات، والآن هناك الإنسان الجديد: يسوع المسيح، وهي صورة الحبّ بين الابن والآب. تجد في كلّ الأديان أنّ الله هو سيّدٌ عليك إلاّ في الدّين المسيحيّ، فالله عبدٌ لك. تصرّف معه كأنّه عبدٌ لك، فهو راضٍ، لكن لا تنسَ أن تتصرّف معه كحبيب، ولا تتصرّف معه كأنّه غير موجود. فإن كنّا مُتنا مع المسيح، آمنّا أنّنا سنحيا معه. وهنا يكمن انتظار الإنسان إذ يخلق الله فيك الرّجاء، والرّجاء يخلق فيك الصّبر، عالماً بأنّ المسيح بعدما أقيم من بين الأموات، لا يموت مجدّدًا ولا يسود عليه الموت من بعد، فلا سلطان للموت بعده، لأنّ الموت الّذي ماته، كان من أجل الخطيئة ومرّةً واحدةً، والحياة الّتي يحياها فللّه يحياها أيضًا. كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيئة ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربّنا. إنّ السِّرّ الدّائم هو الحبّ، وهذا هو منطق المسيح المصلوب الّذي مات من أجلك، وأنت بالمعموديّة تتبنّى هذا المنطق.

إنّ الانضباط بسبب الحبّ هو أقوى من الانضباط بسبب القانون والطّاعة. نحن نشكر الله أنّكم كنتم عبيدًا للخطيئة، وأطعتم من صميم القلب صورة التّعليم الّتي تسلّمتموها، لذلك لا يمكنك أن تكون حرًّا بل محرّرًا، لأنّ من يُحبّ، يعبُد الّذي يحبّه. من هنا لكم ثمر: ثمرة القداسة ونهاية حياة أبديّة، لأنّ أجرة الخطيئة هي الموت، أمّا هبة الله فهي الحياة الأبديّة بالمسيح يسوع. والجواب الوحيد عن الحبّ الإلهي هو التّوبة الصّادقة، ولكن ليس ليحبّك الله، فهو بتوبتك أو بدونها يحبّك ويراك ابنًا له.

انتبهوا للفرح الّذي زرعه فيكم حبّ الله، فلا تضيّعوا سنين حياتكم في الكره متناسين أنّ الله لم يستثنِ أحدًا في حبّه، فالنّاس استثنَتْ نفسها. فأين نذهب وكلمةُ الحياة عندَكَ يا ربّ.

ملاحظة: دُوّنَت المحاضرة من قبلنا بتصرّف. تتمة...